الكتاب: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر المؤلف: عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي (المتوفى: 1335هـ) حققه ونسقه وعلق عليه حفيده: محمد بهجة البيطار - من أعضاء مجمع اللغة العربية الناشر: دار صادر، بيروت الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1993 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة التراجم] ---------- حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر عبد الرزاق البيطار الكتاب: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر المؤلف: عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي (المتوفى: 1335هـ) حققه ونسقه وعلق عليه حفيده: محمد بهجة البيطار - من أعضاء مجمع اللغة العربية الناشر: دار صادر، بيروت الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1993 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة التراجم] الجزء الأول المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله وأسبحه عن كل ما لا يليق بكماله، وأقدسه عما يقصر عن رفيع جلاله وبديع جماله، وأستمنحه وهو المانح لكل مطلوب، وأستفتحه وهو الفاتح لمرتجي نعمه أبواب الغيوب، واشكره شكر عبد لم يشهد في الوجود سواه، وأذكره وهو الذاكر والمذكور لا إله إلا إياه، وأبرأ إليه من كل قوة وحول، وأستجديه وهو المجدي لكل حباء وطول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنفرد بالبقاء، والمتباعد عما حكم به على عباده من الموت والفناء، وأصلي وأسلم مدى الليالي والأيام، أكمل صلاة لائقة وأتم سلام، على من أبدع مبدع الوجود إيجادَه على أعلى كمال، ونظم به عقد الدين بن الغواية والضلال، وهو النبي العربي الذي لم ينطق عن الهوى، ولا ضل من اتبعه عن المنهج الصواب ولا غوى، محمد المبعوث من صفوة العرب المستوين على عرش البلاغة، والمحتوين من بديع المعاني على ما لم يبلغ أحد بلاغه، فجاءهم بما ألجأهم إلى الإقرار بأنه قطب مدار الإنسان، وبحور فلك الفصاحة والبلاغة والمعاني والبيان، فتالله وبالله إنه لهو المفحم والمعجز، الذي أعيا الواصفين سواء المطنب منهم والموجز، لا برحت نوافح الصلوات تحيي مرقده الشريف كل أوان، ما لاح برق أو ناح ورق أو تعاقب الملوان، وأصل ذلك بطلب الرضوان لآله وأصحابه وعلماء أمته، الناهجين منهجه الأسنى، والمعتصمين بحبل شريعته وسنته، وأسأله تعالى أن يعم جميع تابعيه بوافر إحسانه، وأن ينعم عليهم بما يجذبهم لجوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ورضوانه، إنه هو المجيب لكل طالب وسائل، والقريب الذي من دعاه استمسك بأنفع الوسائل. أما بعد فيقول العبد الفقير، والضعيف الحقير، المتبرىء من كل حول وقوة، والمتبوىء نفسه لخدمة ذوي الفضل والفتوة، الأسير الفاني، والكسير الجاني، المفتقر إلى عفو مولاه المحسان الغفار، عبد الرزاق ابن المرحوم حسن بن إبراهيم البيطار أصلح الله خلل حاله، ونشله بمنه وكرمه من نكبة أوحاله، أن أحلى ما يتحلى به جيد الإنسان، وأولى ما يتملى منه الأديب الولهان، علم يكتسي به ويكتسبه، وفضل يتزين به وينتخبه، وفائدة يبيض غابر عمره بتسويدها، وعائدة يصرف نقد أيامه ولياليه بتقييدها، ودرة ساقطة من معدن الإطلاق يلتقطها، أو قلادة من قريحته ينظمها خوف الشرود ويسبطها، أو سيرة لمن سبق يرقمها، أو رقيقة من بدائع البدائه يحررها ويرسمها: من كل معنى ولفظ ... كخمرة في زجاجه يسري النسيم إليه ... يبغي لديه علاجه فإن الكامل هو الذي يشتغل بما يجله، لا بما يسقطه في أودية الهوان ويذله، وقد كنت معروفاً بجمع لآلي أخبار السادة والأعيان، مشغوفاً بالتقاط آثارهم المزرية بعقود الجمان، حتى رقمت من أخبارهم أوراقاً شتى، بيد أنني إذا أردت الوقوع على مراد منها لا أجتمع به حتى وحتى، فعن لي أن أجمعها في كتاب تعذب مطالعته، وتقرب على الطالب مراجعته، وأن أقصر الوطر، على ترجمة أعيان القرن الثالث عشر، لأن الأمين المحبي رحمه الله ترجم أهل القرن الحادي، كما أن القرن الثاني قد ترجمه المرادي، فأردت أن أتطفل عليهما بديوان يكون لكتابيهما ذيلاً، وإن كنت أعلم أني لست لذلك أهيلاً، ولكن من أغرب الغريب، وأعجب العجيب، هو أني رأيت أن بعض الناس قد ضنوا بتراجمهم أن تصاغ في قالب التحوير، كأنما يطلب منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مترجمهم وافر الدراهم والدنانير، مع أني لا أقصد بذلك سوى إحياء أخبارهم، ونشر مطوي أوصافهم وجميل آثارهم، لأنهم وإن كانوا في زمانهم أشهر من نار على علم، إلا أنهم إذا لم تقيد أسماؤهم في دفاتر المآثر نثرتها الأيام في مطوي العدم: إذا ما روى الإنسان أخبار من مضى ... فتحسبه قد عاش من أول الدهر وتحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر فقد عاش كل الدهر من عاش عالماً ... كريماً حليماً فاغتنم أطول العمر فاقتصرت على ذكر من وصلت إليه، وطويت غالباً ذكر من لم أكن أعلم ما له وعليه، وحسب الطالب أن يقتصر على من وصلت إليه قوته وحوله، وأن يعلم أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولم أزل أقدم في هذا العزم رجلاً وأؤخر أخرى، وأتردد في الإقدام والإحجام ولا أدري أيهما أحرى، إلى أن تذكرت ما قيل، من أن بديع الأقاويل، إن المرء ابن وقته وساعته، وكل ينفق على قدر وسعه واستطاعته، ومن كانت بضاعته مزجاة، فهو من الملام بمنجاة، وذيل العفو عليه مسبول، والكف عن زلله مرجو ومأمول، وقد قيل: ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر فحققت ما كنت أردت، وأظهرت من الفكر ما أضمرت، وشرعت في كتابة هذا الكتاب، معتمداً في التسهيل على رب الأرباب، ووسمته وسميته، بعد ما أتممته وأنهيته: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر والأمل ممن نظر فيه، ورأى ركاكة نثره وقوافيه، أن يرحم بحسن التأويل جامعه، وأن يصون عن استماع كلامه مسامعه، والأولى أن يلتمس له عذراً، ويسبل على ما بدا له منه ستراً، خصوصاً والفكرة غير مساعدة، وهي لمكايدة الدهر مكابدة، ومع إبداء ما ذكرت، وإظهار ما به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 اعتذرت، فإني كلفت نفسي الصغيرة شيئاً كبيراً، وأقحمتها في نفس الأمر أمراً عسيراً، محافظة على إحياء ذكر هؤلاء السادة الأفاضل، والقادة الحائزين لأعلا الشمائل والفضائل، وخوفاً من ضياعهم بلا خبر ولا خبر، مع أنه يحق لسيرتهم أن تتلى كما تتلى السور، ورأيت أن أرتبه على حروف المعجم لا على الأعوام، ليكون قريب المراجعة سهل المرام، والله أسأل أن يجعله خالصاً من شوائب الملام، وأن ينعم على جامعه ومطالعه والمسلمين بحسن الختام. حرف الألف الشيخ إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن بن إبراهيم البيطار: الدمشقي الجد الماجد، والد سيدي الوالد، فاضل شافعي المذهب، عالم عامل طراز فضله بالعبادة مذهب، قد احتوى على مكارم الشمائل والأخلاق، واستوى على عرش اللطافة وفاق، له عزة نفس تود النجوم الثوابت نيل علاها، وعلو همة يتمنى البدر الوصول إلى حسن ثنائها وسناها، وكلام كلآلىء الصدف، وآداب كالروض الانف، ولا ريب أنه: مورق عيدان العلا رطبها ... أبلج وجه العرف بسام مع حكم أرق من نسيم السحر، وشيم لو أنها للنجم ما غاب ولا استتر، وأياد روائح غوادي، كنسيم الروض غب الغوادي، ولا ريب أنه من القوم الذين سعوا في مناهج التقوى، ونحوا نحو الصلاح في السر والنجوى، أخذ عن جملة من الأفاضل، وتلقى عن كثير من السادة الأماثل، وكان ملازماً لأستاذه الفاضل، وملاذه العالم العامل، قطب دائرة الأفاضل، والآتي في تحقيقاته ومعارفه بما لم تستطعه الأوائل، مولانا الشيخ محمد بن المرحوم العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري فإنه لازمه على الدوام، وانتفع به فوق المرام، وكان من جملة خاصته وأحبابه، المتأدبين بجميل آدابه، حتى اشتهر بالصلاح والعلم والعبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وألفته القلوب فوق العادة، وكان ذا ثروة ومال من تجارته، غير أن اليد الجزارية قد أساءت في معاملته، فسلبته جل ما كان، وأخرته في الثروة عن الأقران، عامله الله بأعماله، وجازاه على ما كان من قبيح أفعاله، وكان أعلى الله علاه، وجعل الفردوس مقره ومثواه، ذا رأي صائب، وفكر ثاقب، لين الكلام، حسن المعاشرة، رفيع المقام، كثير المواصلة لأرحامه، مع حبائه لهم وإكرامه، ولد رضي الله عنه في منتصف رجب سنة ألف ومائة وإحدى وخمسين، ونشأ في حجر والده إلى أن حظي من القراءة والكتابة على التمام، وحصل له من التفنن في العلوم نصيب وافر واحترام، ولم يزل مكباً على دروس العلم والطاعة وتلاوة القرآن، إلى أن نشبت به أظفار المنية ففارق الدنيا من غير توان، وذلك في غرة ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، صب الله على قبره صبيب الرحمة في كل وقت وحين، وجمعنا به في دار الإحسان، تحت لواء محمد سيد ولد عدنان. الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد الباجوري قدس الله سره: وجعل أعلا الجنان مثواه ومقره، شيخ الوقت والأوان، المستوي في فضائله على عرش كيوان، فهو الذي بهر بإبداعه، وظهر على ذوي الكمال بسعة اطلاعه، وعطل العوالي بيراعه، ومد لتناول المعالي طويل باعه، وأطلع الكلام رائقا، وجاء به متناسقا، فهو العالم العامل، والجهبذ الكامل، الجامع بين شرفي العلم والتقوى، السالك سبيل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 في السر والنجوى، قد افتخرت به الفضائل، حتى قدمته على الأوائل، وكان لسان شمائله، يخطب على منبر فضائله: غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلي وبدت بهيكلها البد ... يع تقول شاهد واجتلي تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلي ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وثمان وتسعين ببلدة بيجور، قرية من قرى مصر المحروسة من الغم والملحوظة بعين السرور، على مسيرة اثنتي عشرة ساعة من غير استعجال، بل بسير الوسط والاعتدال، ونشأ فيها في حجر والده وقرأ عليه القرآن المجيد، بغاية الإتقان والتجويد، ثم قدم إلى الجامع الأزهر، ذي القدر السامي الأظهر، سنة ألف ومائتين واثنتي عشرة هجرية، لأجل تحصيل الآداب والعلوم الشرعية، وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة تماماًن ومكث فيه حتى دخل الفرنساوي سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر عاماً، فخرج وتوجه إلى الجيزه، واقام بها مدة وجيزه، ثم عاد سنة ألف ومائتين وست عشرة، إلى المكان الأنور، والجامع الأزهر، عام خروج الفرنساوي من القطر المصري كما أفاد ذلك بنفسه، أعلى الله تعالى في فراديس الجنان مقامات قدسه، فأخذ في الاشتغال بالتعليم والتحصيل، وقد أدرك الجهابذة الأفاضل ذوي القدر الجليل، كالشيخ محمد الأمير الكبير، صاحب المقام السامي الشهير، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والسيد داود القلعاوي، ومن كان في عصرهم، وتلقى عنهم ما تيسر له من العلوم، إلى أن صار عمدة ذوي المنطوق والمفهوم، ولكن كان أكثر ملازمته وتلقيه، وأخذه للعلم الشريف الذي كان به ترقيه، عن الأستاذ الشيخ محمد الفضالي، والمرحوم الأستاذ الشيخ حسن القويسني ذي القدر العالي، ولازم الأول بالجد والاجتهاد، إلى أن توفي ورحل إلى دار الفضل والإسعاد، وفي مدة قريبة لاحت عليه لوائح النجابة، ولبى السعد نداه بالإقبال وأجابه، فدرس وألف التآليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 العديدة، الجامعة المانعة المفيدة، في كل فن من توحيد وأصول، ومعقول ومنقول، منها حاشيته على متن الشمائل، وحاشيته على رسالة شيخه الفضالي في لا إله إلا الله، وحاشيته على الرسالة المسماة بكفاية العوام، فيما يجب عليهم من علم الكلام، لشيخه المذكور، وكتاب فتح القريب المجيد، شرح بداية المريد، للشيخ السباعي، وحاشيته على مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم للعلامة ابن حجر الهيثمي، وحاشية على مختصر السنوسي في فن الميزان، وحاشية على متن السلم للأخضري في فن الميزان أيضاً وحاشية على متن السمرقندية في فن البيان، وكتاب فتح الخبير اللطيف، شرح نظم الترصيف في فن التصريف، وحاشية على متن السنوسية في التوحيد، وحاشية على مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيخ الدردير، وشرح على منظومة الشيخ العمريطي في النحو، وحاشية على البردة الشريفة، وحاشية على بانت سعاد، وحاشية على متن الجوهرة في التوحيد، وكتاب منح الفتاح، على ضوء الصباح، في أحكام النكاح، وحاشية على الشنشوري في فن الفرائض، وكتاب الدرر الحسان على فتح الرحمن، فيما يحصل به الإسلام والإيمان للزبيدي، ورسالة صغيرة في فن الكلام، وحاشية على شرح ابن قاسم لأبي شجاع في فقه مذهب الإمام الشافعي، قدس الله سره بمجلدين، وله مؤلفات أخر لم تكمل فلذا أضربنا عن ذكرها صفحاً. وكان ديدنه رحمه الله التعلم والاستفادة، والتعليم والإفادة، حتى صار له ذلك سجية وعادة، فكان عمره رضي الله عنه ما بين إفادة واستفادة، وكان لسانه دائماً رطباً بذكر الله، وتلاوة القرآن، وكان متميزاً بذلك على الأمثال والأقران، وله وله عظيم وحب جسيم لآل بيت النبي الكريم، ولذلك كان مواظباً على زياراتهم، ومتردداً على أبوبا حضراتهم، وبالجملة فإنه رضي الله عنه كان صارفاً زمنه في طاعة مولاه، وشاكراً له على ما أولاه، فمن جملة نعمه عليه الانتفاع بتآليفه في حياته في كل ناد، والسعي في طلبها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أقصى البلاد، والاجتهاد في تحصيلها من كل حاضر وباد، والاجتماع بها على كل مرام ومراد، وقد انتهت إليه رئاسة الجامع الأزهر، ومحفل الدين الأبهى الأبهر، وتقلدها في شهر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ولا غرو أنه ابن بجدتها، وأبو عذرتها، وفي أثناتها قرأ كتاب الفخر الرازي في تفسير القرآن، وحضره أفاضل الجامع الأزهر ذوي الملكة والإتقان، ولكنه لم يكمل بسبب ضعف اعتراه. وقد امتدحه مهنئاً حضرته حين آلت الرئاسة إليه حضرة المعروف بكل كمال، السيد محمد شهاب الدين فقال: أترى الغمام بدره المنثور ... وشى رياض الورد والمنثور أم ذي تباشير الصباح تنفست ... وجلت أشعتها دجى الديجور كبلابل الأفراح أبدت طالعاً ... حظي الزمان بحظه الموفور هو كوكب إيضاح بهجة ضوئه ... مغن عن المصباح والتنوير رفعت لواء العز دولة مجده ... وسطت بصارم فضله المشهور أكرم به حبراً هماماً رحلة ... تطوى القفار لعلمه المنشور أبدى الطوالع في مطالع فخره ... ولدى المواقف سار بالتيسير زفت حواشيه ورقت وازدهت ... بمحاسن التحبير والتحرير هو بر إفضال وبحر فضائل ... صاف عدته شوائب التكدير كررت مدح حلاه إذ هو سكر ... تقوى الحلاوة فيه بالتكرير هو روض عرفان تجلى عن جنى ... دان وكم ليس بالمزرور لا غرو إن طاب الزمان بطيبه ... وشذاه عم الكون بالتعطير يا دهر أعط القوس باريها فقد ... أفرطت في التقديم والتأخير هذا مجلي حلبة السبق الذي ... حاز الفخار بسعيه المشكور هو سيد الأبان سعد أوانه ... فخر الزمان ميسر المعسور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فرحت به الدنيا وأصبح وجهها ... فيه تلوح بشاشة المسرور وزهت به العليا وقالت أرخوا ... أبهى إمام شيخٌ الباجوري يا صاح حدث عن مآثره وقل ... قد صح نقل حديثي المأثور طوبى لمن بمقام إبراهيم قد ... أدى فريضة حجه المبرور وسعى وطاف بكعبة الطول الذي ... تمت شعائره بلا تقصير فليهنه الإقبال وليقض الذي ... قد فات من مندوبه المنذور وإليه أهدي بنت فكر تنجلي ... في خجلة من جفنها المكسور غايات ما ترجوه فض ختامها ... حيث انتهت بتكامل التوقير ثم إنه لما قربت وفاته، وكادت أن تتناهى حياته، نزل به مرض الحمام، ولازمه إلى أن استوفى من عمره التمام، توفي يوم الخميس ثامن وعشرين من ذي القعدة سنة ألف ومائتين وست وسبعين ودفن بتربة المجاورين. الشيخ إبراهيم بن محمد بن دهمان الحلبي: الشافعي القادري برهان الدين الفاضل الذي طوي على الفضل أديمه، والعالم العامل الذي انتشر به الكمال حديثه وقديمه، من أشرق في أوج الجمال طالع سعده، وارتقى على كاهل الكمال بنيان مجده، واسطة عقد الأفاضل، وكعبة طواف ذوي الفضائل والفواضل، الفقيه الورع الزاهد، والمحدث الصوفي العابد، ولد بدارة عزة قرية من أعمال حلب سنة خمس وخمسين ومائة وألف، ودخل أيام شبابه حلب، واجتمع بخاله الشيخ العارف أبي بكر بن أحمد الهلالي القادري وأخذ عنه الطريقة واعتنى بشأنه، ثم ارتحل إلى مصر سنة ثمان وسبعين ولازم الشيوخ في الأزهر وقرأ عليهم وحضر دروسهم وأكثر من الأخذ والاستفادة والسماع، فقرأ على أبي داود سليمان بن الجمل وهو أجل من انتفع به، والشيخ أحمد الفالوجي، وسيدي محمد بن علي الصباغ، وسيدي أبي عبد الله محمد الأمير، والشهاب أحمد بن محمد الدردير، وأبي الصلاح أحمد بن موسى العمروسي وأبي الحسن علي بن أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الصعيدي المالكي، وحسن بن غالبي الجداوي، ومحمد بن حسن السمنبودي المنير، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الجوهري، وصفي الدين محمد ابن أحمد البخاري وغيرهم، فأخذ عنهم ولازمهم وانتفع بهم، وأخذ الطريقة الخلوتية عن سيدي الشيخ محمود بن يزيد الكوراني الكردي الشافعي خليفة الأستاذ الحفناوي، وسمع على الكثير وانتفع واشتغل بالعلم والطريقة وتفوق ورأس على أقرانه، وتقدم عليهم بوافر فضله وحسن بيانه، ثم قدم إلى حلب سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فدرس بها ولزمه الناس، وبعد مجيئه مات ابن خاله الشيخ أبو الضياء هلال بن أبي بكر الحلبي القادري في أواخر سنة ثلاث ومائتين وألف، فاستقر مكانه شيخاً في زاويتهم الكائنة بمحلة الجلرم بباب قنسرين، وأقام مجالس التوحيد والأذكار وأوقات المواعيد على العادة، ولزم أبناء الطريق واختلى الخلوات المتعددة، ومع ذلك كان لا ينفك عن الإقراء والتحديث والإفادة ونقل الشيخ الفاضل العلامة خليل أفندي المرادي في بعض تعليقاته أنه دخل حلب سنة خمس ومائتين والف فاجتمع بالمترجم المرقوم وسمع من فوائده وزاره في زاويته وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. ومات رحمه الله بعد ذلك لا بكثير. الشيخ إبراهيم بن الشيخ مصطفى السعدي الجباوي بن الشيخ إبراهيم ابن السيد برهان الدين بن السيد مصطفى بن السيد سعد الدين الأصغر ابن السيد حسين بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد علي الأكحل بن السيد سعد الدين الجباوي قدس الله سره: ولد المترجم المرقوم في دمشق الشام في المحلة المعروفة بالميدان وذلك سنة ألف ومائتين وسبع عشرة ونشأ في حجر والده وحينما بلغ سن التمييز، تعلم القرآن العزيز، ثم اجتهد في طلب العلوم على والدي إلى أن صار له ملكة عظيمة، ومعرفة جسيمة، ثم أخذ الطريق، عن والده ذي المعرفة والتحقيق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ولم يزل يجتهد في السلوك والطاعة، ويحفظ أوقاته عن البطالة والإضاعة، إلى أن انتقل والده إلى الدار الآخرة العلية، فآلت إليه مشيخة السجادة السعدية، وكانت لا تليق إلا إليه، ولا تعول إلا عليه، فرفع منارها، وأقام أذكارها، وأدب طلابها، وأتقن بناها واعرابها، وشيد أركانها، ورفع عنوانها، وكان لي تردد إليه، واعتماد عليه، حيث إنه حميد السيرة، حسن السريرة، واسع الصدر، رفيع القدر، وفي سنة اثنتين وثمانين بعد المائتين والألف تزوجت بكريمته البرة التقية، والصالحة النقية، السيدة رقية، فرزقت منها أولاداً لم يبق لي منهم سوى الولد الصالح، والشهم الفالح، السيد محمد سعد الدين جعله الله من أهل العرفان، وفتح عليه فتوح السادة الأعيان، وحفظه من كل عيب، وصانه من كل شائبة وريب، ولم يزل المترجم ملازماً لعبادته، ناهجاً منهج سيادته وسعادته، إلى أن دعاه داعي المنية، إلى الدار الآخرة العلية، فلبى الداعي من غير تأخير، ومات فجأة وتعجل في المسير، وذلك أواخر رجب الفرد سنة اثنتين وثمانين ومايتين وألف ودفن بمدفن السادة السعدية في تربة باب الله وقبره ظاهر. تتمة: طالما تطلبت ترجمة جده الشهم الهمام، والسيد العارف الإمام، مجمع الفضائل، وقطب الأفاضل، السيد سعد الدين الجباوي فلم أقف لها على خبر، ولم أقع لها على أثر، إلى أن رأيت روضة الناظرين، وخلاصة مناقب الصالحين، للإمام الكبير العلامة، والهمام النحرير الفهامة، العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد الوتري قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه، فإنه قد ترجمها ترجمة لطيفة، مفصحة عن مرتبته المنيفة، فأحببت أن أذكرها بتمامها بدون زيادة ولا نقصان، لندرة وجودها في تراجم السادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الأعيان، فقال ما نصه: ومنهم العارف بالله، المستغرق في محبة مولاه الولي الجليل الشيخ سعد الدين أبو محمد الشيباني الجباوي قدس الله سره، ورضي الله عنه. كان في بدايته مولعاً في حب الكر والفر والفروسية وانتهى إلى قطع الطريق مع جماعة من أهل حوران، وكان جده الشيخ يونس الشيباني الكبير قدس الله روحه بدمشق يدعو الله إذا خلا مع ربه بإصلاح سعد الدين أو بقبضه إليه ففي ليلة من الليالي والشيخ سعد الدين مع رفقائه وإذا بأحد عشر فارساً على خيل بيض على طريقهم فكر عليهم سعد الدين بجماعته فلما قرب من الأول نظره شزراً وقال " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فسقط الشيخ سعد الدين إلى الأرض مغشياً عليه، وجماعته أيضاً كل صعق وغشي عليهم أجمعين. ثم بعد برهة يسيرة أفاق فقال الفارس الأول: يا سعد الدين أنا نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الصحابة العشرة، وأعطاه من يده المباركة تينتين نفخ عليهما فأكلهما فانكشفت له العوالم وثبت في قلبه خوف الله تعالى فصار ببركته عليه الصلاة والسلام من العارفين، ثم إنه ترك ما كان عليه وانحدر إلى دمشق ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني وانتشرت به الخرقة السعدية وعمر رواقاً في قرية جبا من أعمال دمشق وأرشد بها السالكين، وانتفع به أمة وظهر واشتهر وجرت على يديه الخوارق، أخذ الطريقة ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني، وللشيخ مزيد طريقان في الخرقة، الأول عن أبيه الشيخ يونس الكبير الشيباني، وسيأتي ذكر سنده. والثاني عن الشيخ الإمام القطب الشريف السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه أخذ عنه الطريقة وتشرف ببيعته سنة خمس وخمسين وخمسماية، السنة التي مدت بها للسيد المشار إليه يد جده صلى الله عليه وسلم وقد نفخ في فمه وقال يا مزيد لك ما لنا وعليك ما علينا وأنت منا ولنا. وسند السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه في الخرقة شهير في محله، وأما سند الشيخ يونس الشيباني فإنه عن الشيخ أبي مدين عن الشيخ سعيد الأندلسي عن الشيخ أبي اركات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 لب عن الشيخ أبي البقاء عن الشيخ بكر تاج العارفين عن الشيخ أبي بكر الشهير بالمقبول الشيباني قدس الله سره عن الشيخ أبي القاسم الكركاني عن الشيخ أبي عثمان المغربي عن الشيخ أبي علي الكاظمي عن الشيخ علي الكاتب عن الشيخ العارف بالله أبي بكر الشبلي عن شيخ الطائفة العارف بالله جنيد البغدادي عن السري السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الشيخ الحسن البصري عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم. مات الشيخ سعد الدين رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين وستماية ودفن في رواقه بجبا. ومرقده مشهور يزار ويتبرك به وله ذرية بدمشق وحوران معروفون كلهم على حال حسن وسيرة مرضية بارك الله بهم. انتهى كلام الروضة. إبراهيم باشا بن محمد علي باشا خديوي مصر والقاهرة غشوم ظالم، وظلوم غاشم، خليفة الحجاج في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتو على الفساد، منطو على الإنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاظة معدوم من اللطافة والطلاوة، ممتلىء منه البذا، متضلع من الأذى، لم يخلق الله تعالى في قلبه شيئاً من الرحمة فينتزع، ولم يودع الله لسانه لفظاً من الخير فيستمع، سفاك لدماء المسلمين، نباذ لطاعة أمير المؤمنين، كان يعتقد أن ذلك ليس أمراً ذميماً، ولا يهوله قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ". فإن هذا المترجم لما اشتد أزره، وقوي أمره، تولى قيادة العساكر المصرية، وصارت له الإمرة الجندية، ثم بعد ذلك وجهه والده إلى الأراضي الشامية، ليضمها إلى الحكومة المصرية، فلم يزل يسير بعساكره، متقلداً لسيف طغيانه ومناكره، حتى حل حي عكة، وكان الوالي بها عبد الله باشا من طرف الدولة العثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فدكها دكة أي دكة، وسبب ذلك أن عبد الله باشا وقعت بينه وبين محمد علي باشا عداوة كلية، بسبب أنه خابره بتسليمه بلاد الشام فلم يجبه إلى هذه الأمنية، وكانت وقعة الشام مع سليم باشا آنفة الوقوع، والأفكار تحكم بأن الجزاء مقطوع به لا ممنوع، فلما سمع السلطان بعداوة عبد الله باشا مع محمد علي باشا أشفق من اتحاد الشام مع الخديوي المرقوم، فأرسل للعفو عن الشام أجل مرسوم، ووجه والياً يسمى علي باشا إلى الشام، لمداركة الأمر بغاية الاهتمام، فأرسل محمد علي باشا إلى السلطان شكاية على عبد الله باشا تطعن بعظيم شانه لعله يعزله ويجعله في مكانه، فيصل إلى مطلوبه، ويحصل من غير ضرر على مرغوبه، غير أن السلطان لم يجبه إلى مراده، ولم يوصله إلى ما تأمله في اجتهاده، فجمع إبراهيم باشا الجموع الكثيرة، وتغلب على غالب البلاد الشامية الشهيرة التي تحت ولاية عبد الله باشا كغزة والرملة والقدس والخليل ونابلس وبلاد الساحل، وحصن قلعة طرابلس وساعده أمير جبل الدروز الأمير بشير ورؤساء جبل نابلس، لكون عبد الله باشا في العام الماضي حاصر قلعة سينور وهدمها وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في البلاد الشامية، فأرسل حضرة السلطان إلى والي مصر يأمره برفع عساكره عن عكا، فامتنع، فأمر السلطان بجمع العساكر العثمانية وأمر والي حلب بالتوجه إلى مساعدة عبد الله باشا، واستمر العسكر المصري يضارب عكة بحرب لم يسمع بمثله، وقد ورد كتاب من والي عكة إلى بعض أعيان دمشق يقول فيه: إن نارهم بالمدافع والقنابر لا تفتر دقيقة واحدة وإنهم يضربون اثنين وعشرين مدفعاً بفتيل واحد، وإنهم في سادس شوال اقتحموا على عكة ودخلوا من الجهات التي خربوها من السور فخرج إليهم عسكر عكة وضاربوهم بالسيوف ومن فوق السور بالمدافع والقنابر حتى أهلكوا غالب من اقتحم وامتلأ وجه الأرض من قتلاهم فانهزموا خائبين؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وبسبب هذه الفتنة تعطلت الأموال الأميرية المعينة على نابلس وطرابلس وتلك الجهات لأجل ركب الحاج الشريف، فورد الأمر السلطاني في خامس عشر شوال بأن لا يخرج الحاج في ذلك العام وأمر والي الشام بأن يتوافق مع أهل البلد ويحافظ الشام، وفي ثالث وعشرين من شوال سافرت الصرة وأعيان الحج الموظفون إلى الاستانة، وجاء في هذا الشهر عباس باشا بن محمد علي باشا إلى أرض البقاع العزيز وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الواردة لقتالهم، وافترق أهل جبل الدروز وتلك النواحي فرقتين فالنصارى منهم تابعوا الأمير بشير المتوافق مع إبراهيم باشا، وخالفهم الدروز وأظهروا الإطاعة للسلطان، وفي ذي القعدة توجه عثمان باشا الذي ولاه السلطان على طرابلس الشام بكل همة وجمع هناك عساكر كثيرة وحاصر طرابلس، فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فتوجه من عكة بجمع من عساكره المحاصرين عكة إلى طرابلس، فلما سمع به عثمان باشا خرج من طرابلس الشام لاقتضاء المقام ذلك، وتفرقت جموعه، ثم بعد ايام توجه إبراهيم باشا إلى حمص فدخلها في حادي وعشرين من ذي القعدة بلا قتال، وكان في حماه جمع من العساكر العثمانية ومعهم ثلاثة من الباشوات القواد، فلما سمعوا بوصول العسكر المصري إلى حمص ساروا إليهم، فخرج إبراهيم باشا من حمص ولحقه بعض العساكر العثمانية خارج حمص عند البحيرة، فرشقهم بالمدافع فرجعوا عند ذلك إلى حمص وأقاموا بها، ولم يعينوا عبد الله باشا، ولم يحصل منهم في هذه المدة سوى تثبيت البلاد، وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر، وقام بإعانته أهل الجبل من النصارى والدروز وكان قبل ذلك قد قاتل بعض الدروز بعض النصارى، فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه، وخرج حسين باشا سردار من الاستانة بعساكر عظيمة، وولاه حضرة السلطان على مصر وما يليها، وفي هذه المدة كلها يظهر محمد علي باشا الطاعة للسلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولم يصرح السلطان بخروجه عن الطاعة بل وقع التصريح بخروج إبراهيم باشا وعباس باشا طمعاً في رجوعهما عن هذا الأمر، فلما رأت الحضرة الشاهانية أن محمد علي باشا مصرٌ على قتال عكة أرسل إلى البلاد يعلن بأن محمد علي باشا معزول من المناصب، وأمر أهل البلاد بقتاله وورد الأمر إلى دمشق في نصف ذي الحجة بذلك وبتحصين البلد، فحينئذ اشتد حصار إبراهيم باشا لعكة لعلمه بقرب مجيء حسين باشا، فلما كانت ليلة الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام اقتحم العسكر على عكة ودخلوا إلى الأبراج على السلالم واستولوا عليها، وقبض على عبد الله باشا ووقع من القتل والنهب والسلب ما لا يحمد ولا يحصر، ولا يقال ولا يذكر، وذكر بعضهم أن جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفاً ومن عساكر عكة نحو خمسة آلاف، وكان ابتداء حصاره لها في سابع وعشرين من جمادى الثانية فكانت مدة الحصار ستة أشهر، ثم أرسل إبراهيم باشا عبد الله باشا من جهة البحر إلى الإسكندرية فلما علم محمد علي باشا بوصوله أرسل إليه يؤمنه ثم أرسل إليه أنواع الإكرام، وأحسن له المعاملة والإنعام، ووصله بالهدايا السنية، وأنزله منزلة علية، ثم وجهه إلى الاستانة المحمية، فغب وصوله وجهت عليه الدولة رئاسة الحرم الشريف في المدينة المحمدية، وكان عالماً مطيعاً صالحاً محباً لذوي العبادة والصلاح، وفي ثالث محرم الحرام سنة الف ومايتين وثمان وأربعين أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جواباً، ثم طلب ثانياً فأرسلوا إليه أنا لا نمكنك من الدخول أصلاً، وفي ثامن المحرم جاء الخبر أن عسكره وصل إلى جسر بنات يعقوب فاستعد أهل دمشق لقتاله، واجتمع رؤساؤهم وتعاقدوا وتحالفوا على أنهم يد واحدة بعد ما كان بعضهم يميل إلى إبراهيم باشا خوفاً من انتقام الدولة من الشام بسبب قضية سليم باشا الآتية في ترجمته في حرف السين؛ وحصل لأهل البلد والقرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 انزعاج شديد، وشرع أهل القرى والأطراف في نقل الأمتعة لداخل السور، وكتب وزير الشام إلى الباشوات الذين في حمص ومعهم وزير حلب أن يعينوا أهل الشام بعساكر من عندهم، وأرسل إبراهيم باشا إلى بعض أعيان دمشق كتاباً مؤرخاً في تاسع المحرم يهددهم فيه، وفي آخره أن بلاد عربستان قد ملكناها بسيفنا ولا يأخذها أحد منا ما دمنا في قيد الحياة. وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قريب من قرية داريا قرية من قرى الشام بينهما نحو ثلاثة أميال، فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالاً يسيراً، ولم يقصد كل من رؤساء الفريقين إضرار الآخر، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان، ثم رجع أهل الشام مظهرين الانكسار، ولم يبق من أهل الشام رجل خارج البلد، وبات أهل البلد تلك الليلة في كرب شديد وكل أهل محلة يحفظون محلتهم، وفي ليلة الخميس خامس عشر المحرم نصف الليل هرب علي باشا وزير الشام وعسكره والقاضي والمفتي المرادي والنقيب العجلاني ومحمد جوربجي الداراني، وجميع أبناء الترك الموظفين، وغالب وجوه الشام، وأصبحت البلدة نهار الخميس خالية من رؤسائها وأعيانها ولم يبق أحد ممن يعتمد عليه، فأرسل إبراهيم باشا إلى أحمد بيك الدالاتي ربيب يوسف باشا الكنج فأقام متسلماً في البلد، وأمر منادياً ينادي بالأمان، وفي ضحوة النهار دخل العسكر إلى السرايا والمرجة، ثم دخل إبراهيم باشا قبيل الظهر وطلب أن يتسلم القلعة من رئيسها علي آغا عرمان فأجابه بالامتثال وفتح الباب، فأدخل ذخيرته إليها وعسكره وقت العصر، وجاءه في ذلك النهار أمراء الدروز ومعهم خلق كثير من نصارى ودروز، وقد لطف المولى سبحانه وتعالى كما هي عادته برفع القتال وبالإذعان والتسليم من دون ضرب ولا طعن ولا سفك دماء، ثم كتب إلى الهاربين أن يرجعوا إلى أوطانهم فالذين ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية، وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضاً في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلماً رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضاً مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هارباً هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلاً، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفاً، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهراً، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميراً عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيراً، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعاًن ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحاً إبراهيم باشا ومتعرضاً بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل. ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضاً في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلماً رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضاً مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هارباً هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلاً، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفاً، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهراً، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميراً عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيراً، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعاًن ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحاً إبراهيم باشا ومتعرضاً بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل. نحن الأسود الكاسره ... نحن السيوف الباتره من أرض مصر القاهره ... سرنا وقد نلنا المنا بارودنا شراره ... تشوي الوجوه ناره وعزمنا بتاره ... من العدا أمكننا نحن بنو الحرب فلا ... نخشى غباراً إن علا ولم نضق عند البلا ... صدراً إذا الموت دنا بالروح جدنا كي نقيل ... لمصرنا الفخر الجميل ونبتغي الفضل الجزيل ... فعلاً يعز الوطنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عاداتنا أخذ الرجال ... بالبيض والسمر العوال ونارنا بالاشتعال ... لهيبها يبدي السنا جهادنا لا ينكر ... في كل قطر يذكر وسيفنا إذ يشهر ... للنصر يبدي معلنا اما العلا تقديمها ... مستوجباً تعظيمها الشاه إبراهيمها ... أدامه المولى لنا أبو خليل في الحروب ... لا زال كشاف الكروب وحين يدعى للركوب ... بالبيض يغزو والقنا لما غزونا عكة ... بالطوب دكت دكتا وللأعادي بكتا ... هجومنا واخذنا صبحاً علونا سورها ... وقد هدمنا دورها أما ترى قصورها ... قد حلها هدم البنا فزنا بفتح الطائلي ... للقدس والسواحل والشام يا ذا الكاملي ... والله قد أعزنا ويوم حمص لو ترى ... على العداة ما جرى وقد علا فوق الثرى ... صرعى يقاسون الضنا هناك أضحوا هالكين ... وفي دماهم غارقين وانحل عقد الظالمين ... وحل للباغي العنا ولحماة مع حلب ... سرنا وجدينا الطلب ولم نجد ممن هرب ... إلا طريحاً بالضنا وعند بيلان سمت ... وقائع قد عظمت وللبغاز اقتحمت ... فرساننا وأسدنا لما بهم غنى الحمام ... خلوا المهمات الجسام وكل ما تحوي الخيام ... غنيمة أضحت لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 في جفن حاز قد سما ... حر الوغى محتكما وجيشهم قد هزما ... بالويل يشكو الوهنا أمام قونه قد بدا ... حرب مبيد للعدا وحل بالضد الردى ... لما استخفوا بطشنا وقد أطلنا قهرهم ... لما أسرنا صدرهم ومذ ولينا أمرهم ... بالذل مالوا نحونا هذا وهذا كله ... عزيز مصر أصله وليس يخفى فضله ... دوماً على أهل الثنا فنسأل الله المعين ... بحرمة الهادي الأمين يديمه للمسلمين ... مولى مغيثاً محسناً ولما قرئت هذه المنظومة المزدوجة على إبراهيم باشا وأنشدت بين يديه أمر للشيخ أمين ناظمها بمائة دينار، فدفعت له في الحال، ثم إن إبراهيم باشا أراد أن يتجاوز حدوده، وأن يبلغ مراده ومقصوده، وذلك أنه في خامس شعبان صدر الأمر من والي الشام شريف بك بجمع أعيان البلدة وعلمائها ورؤسائها، وغب اجتماعهم أخرج كتابة من محمد علي باشا مضمونها أن السلطان محمود خرج عن طور أسلافه وأنه زاد في الظلم والبغي وأنه أمر بتغيير زي الناس وملبوسهم ومساواة النصارى مع المسلمين في الزي، وأن سبب ذلك سوء رأيه ولذلك تغلب عليه أعداؤه من الفرنج حتى ملكوا معظم بلاد الإسلام، وأنه لم يبق له عند الملوك احترام ولا اعتبار ولا عند رعيته، وأنه بسبب ذلك صارت المصلحة في عزله من السلطنة وتولية ابنه محله لأجل نظام الملك وإقامة أحكام الشريعة، لأنه لو بقي في السلطنة يزيد الضرر على المسلمين، وطلب إخراج فتوى بجواز ذلك وأن يكتب عليها المفتي وعلماء البلدة من جميع المذاهب، فكتبوا له ما أراد، وسايروا هذا الباغي الذي لربوع الطغيان شاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها وأفتوه بأنه يجوز خلع الإمام، إذا جار ونهج منهج اللئام، ولزم من إبقاءه ضرر، ولم يلزم من خلعه فتنة هي أكبر وأضر، وأدهى وأمر، وادعى كذلك هذا الباغي على حضرة المرحوم السلطان محمود، أن الذي وقع من عماله في أيامه لم يسمع بمثله من اختلال نظام البلاد، وأحوال العباد، حتى خربت بلاد الروم والأناضول من أخذ رجالهم للحرب وسلب أموالهم واستيلاء الإفرنج عليهم، وكذا غيرها من البلاد، وما وضع من الأعشار والمكوس والمصادرات وزوال الأمن عن أهل المدن في بيوتهم فضلاً عن البراري، فاستولت الأعراب على القرى وعلى الأغلال وارتفعت الأسعار وانتهبت القوافل، وفي غرة رمضان أمر والي الشام وهو شريف بك بجمع المفتي والنقيب وغيرهما، فاجتمعوا عنده ليلة شهر رمضان، فقال: إن أفندينا محمد علي باشا كتب إلى البلاد من شهرين بأن من أراد الحج فليقدم إلى الشام، فما حضر إلا نادر من الأفراد فلذلك لم يخرج الحاج. ثم إن إبراهيم باشا لما ازداد في سموه وزاد في عتوه منعته الأجانب، وتعصبت الإنكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من انتشار قوة إسلامية شابة ذات سلطة ومركزها مصر، فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح قوة الإنكليز لاسيما إذا عاضدته إحدى الدول الأروباوية مثل فرانسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على تعب شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك فقهروا محمد علي باشا، ولكن لإتمام مقاصد الإنكليز لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضاً، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه استقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي باشا والياً على مصر على شروط معلومة في ترجمته، وجاء خبر الصلح على ذلك إلى الشام تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومايتين وألف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وكان قد تمكن إبراهيم باشا من البلاد الشامية وقهر الناس واستباح الحرام، وفعل جميع الموبقات والآثام، فلم يبق شيء من القبائح في زمنه إلا وقد فعل بدون إنكار ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان قد وضع بعد إحصاء أهل المدن والقرى في دفتر على كل فرد من البالغين منهم مالاً أقله خمسة عشر قرشاً وأكثره خمسماية قرش، تؤخذ منه في كل سنة، كما وضع ذلك من قبل على أهل مصر واستولى العسكر على أكثر المساجد والمدارس والتكايا، ومنعوا المصلين من دخولها وجعلوها لسكناهم ولدوابهم، وذلك سنة تسع وأربعين، فكان ذلك سبباً لضياع أوقافها وخرابها، وقدم العيسوية على المحمدية، وأذل أهل الشرف والعلم وذوي الاحترام، وأعز الأسافل والطغاة على الإسلام، ثم بعد رجوعه من البلاد الرومية، لا زال يدور في البلاد الشامية، حتى وصل في أواخر سنة تسع وأربعين إلى القدس الشريف في أيام الموسم، فوقعت هناك فتنة بين العيسوية تلف منها خلق كثير، وفي سنة ألف ومايتين وخمسين اشتغل بإدخال من وقع في أيديهم من الناس في العسكرية، فهرب الناس وتشتت أمرهم وكثر البكاء والنحيب وتوقفت الأشغال والمصالح، وطلب من جبل نابلس إجراء ذلك عليهم، فخرجوا عن الطاعة وحصروا إبراهيم باشا في القدس، واجتمع منهم خلق كثير ولا زالوا محاصرين له نحو شهرين، وكان رئيسهم الشيخ قاسم الأحمد، فلما ضاق به الحصار وأيقن بالهلاك والدمار أرسل إلى قاسم الأحمد كتابة تلطيف مصحوبة بمال جسيم، ووعده بالالتفات والتقديم، وأنه لا يأخذ منهم عسكراً ولا مالاً، وأنه يوسعهم نعمة ونوالاً، فرضي القاسم الأحمد لقلة عقله، وسوء رأيه وجهله، وفك عقدة الحصار والضيق، وتفرق الناس متمسكين بما جرى من العهود والمواثيق، فخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا فوجد العساكر قد وصلت لنجدته، وتخليصه من نكبته، فنكص على عقبه في الحال، واشتغل بالقتل والنهب والحرق وسلب الأموال، فهرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قاسم الأحمد إلى الخليل، فلحقه إبراهيم باشا بعساكره واشتغل بالنهب والسلب والقتل حتى لم يبق منهم إلا القليل، ثم دار على الساحل، ففعل بأهله هذه الرذائل، ولم يزل يتتبع آثار قاسم الأحمد حتى قبض عليه، وقتله بدمشق هو والبرقاوي ونكث العهد الذي عهد به إليه، وأمر بجمع السلاح من سائر البلدان، التي تحت أمر هذا الشيطان، ولم يزل في ظلم وعناد، وقبح وفساد، وسفك وسلب، وقتل وضرب، إلى أن دخلت سنة ثلاث وخمسين هجرية، فطلب من جبل الدروز الشرقي مائة وثمانين نفراً للعسكرية، فحضر مشايخ الدروز وطلبوا استبدال ذلك بالمال، فلم يرض إلا بإحضار الرجال، فأجابوه بأنهم يبادرون إلى الإحضار، من غير تأخير ولا اعتذار، وقصدهم التخلص من هذا الظالم؛ والعاتي الغاشم، فلما وصلوا إلى الأوطان، أزمعوا على عدم الطاعة والإذعان، وغب وصول الخبر، توجهت إليهم العساكر كالجراد إذا انتشر، وكان أمير الجيوش علي آغا البصيلي وهو كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب من أهل الشام من ميدان الحصى، فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من دفع الأنفار، وقالوا ندفع من المال ما يزيد عن البدلات، فقال البصيلي إني أرسل مراسلة أستشير بها أفندينا وعلى ذلك قر القرار، ففي تلك الليلة كبست الدروز العساكر، وأذاقتهم كؤوس المنية حتى لم يبق منهم إلا النادر، ومن جملة من قتل عبد القادر آغا أبو جيب، وكان المتسلم في جبل حوران والدروز، وآلت جميع أمتعة العساكر وآلات حروبها إلى الدروز، ولم يسلم من القتل سوى علي آغا البصيلي ومعه خمسة عشر نفراًن فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فصعب عليه الأمر، وصار بصره يتوقد كالجمر، وابتدر بجمع العساكر، واستعد فوق العادة من المهمات والذخائر، ووجههم للقتال، وأوصاهم بالاستئصال، فحين علم الدروز جمعوا جميع متاعهم ودخلوا اللجاه، ولا ريب أنه محل الأمن والنجاة، لأنها حصن حصين، وملجأ رصين، فغب وصول المعسكر قامت الحرب على ساق، وكان الفناء على العساكر الإبراهيمية قد ركب جواده وساق، وأول من قتل من رؤساء العساكر العظام، محمد باشا القائد العام، وتبعه يعقوب بك فقتلا اقبح قتلة، وامتد القتل إلى البقية من غير مهلة، فكانت الدروز على هذا الباغي سيف الانتقام والهوان، وبعد مدة تحرك للعصيان جبل الدروز الغربي تحت رئاسة الشيخ شبلي العريان، ولم تزل بعد ذلك يد الصغار تستطيل عليه، وتوجه جيوش التأخير إليه، وفي سنة خمس وخمسين توفي السلطان محمود، وتولى إمارة المؤمنين السلطان عبد المجيد خان، لا زالت دولتهم محفوظة إلى آخر الدوران، وفي تاريخه أمر إبراهيم باشا بأمر والده بقتل علي آغا بن محمد آغا خزنة كاتبي، وبعد مدة أمر السلطان عبد المجيد خان بخروج إبراهيم باشا بعساكره من الأرض الشامية، إلى الأقطار المصرية، فأجاب الأمر بالسمع والطاعة وجمع عساكره وذخائره ومتاعه، وفرق ذلك بالشام، على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، ثم بعد شهرين من مجيء الأمر بخروجه خرج من باب الله بعساكره ونزل بسهل القدم، بعد أن جعل الشام وأهلها من كل نعمة في عدم، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة الحرام، سنة ست وخمسين ومايتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان يوم خروجه يوماً شديد الثلج والبرد، والهواء والشرد، وكان يحث عساكره على العجلة والسرعة، ومن تأخر ولو لتعب كان قبره موضعه، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي، من غير خوف ولا تحاشي، ولما وصل مصر امتدحه مهنئاً له الشاعر الأديب، والماهر الأريب، محمد شهاب الدين صاحب الديوان بقوله، وإن كان مدحه في غير محله: روز الشرقي مائة وثمانين نفراً للعسكرية، فحضر مشايخ الدروز وطلبوا استبدال ذلك بالمال، فلم يرض إلا بإحضار الرجال، فأجابوه بأنهم يبادرون إلى الإحضار، من غير تأخير ولا اعتذار، وقصدهم التخلص من هذا الظالم؛ والعاتي الغاشم، فلما وصلوا إلى الأوطان، أزمعوا على عدم الطاعة والإذعان، وغب وصول الخبر، توجهت إليهم العساكر كالجراد إذا انتشر، وكان أمير الجيوش علي آغا البصيلي وهو كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب من أهل الشام من ميدان الحصى، فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من دفع الأنفار، وقالوا ندفع من المال ما يزيد عن البدلات، فقال البصيلي إني أرسل مراسلة أستشير بها أفندينا وعلى ذلك قر القرار، ففي تلك الليلة كبست الدروز العساكر، وأذاقتهم كؤوس المنية حتى لم يبق منهم إلا النادر، ومن جملة من قتل عبد القادر آغا أبو جيب، وكان المتسلم في جبل حوران والدروز، وآلت جميع أمتعة العساكر وآلات حروبها إلى الدروز، ولم يسلم من القتل سوى علي آغا البصيلي ومعه خمسة عشر نفراًن فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فصعب عليه الأمر، وصار بصره يتوقد كالجمر، وابتدر بجمع العساكر، واستعد فوق العادة من المهمات والذخائر، ووجههم للقتال، وأوصاهم بالاستئصال، فحين علم الدروز جمعوا جميع متاعهم ودخلوا اللجاه، ولا ريب أنه محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأمن والنجاة، لأنها حصن حصين، وملجأ رصين، فغب وصول المعسكر قامت الحرب على ساق، وكان الفناء على العساكر الإبراهيمية قد ركب جواده وساق، وأول من قتل من رؤساء العساكر العظام، محمد باشا القائد العام، وتبعه يعقوب بك فقتلا اقبح قتلة، وامتد القتل إلى البقية من غير مهلة، فكانت الدروز على هذا الباغي سيف الانتقام والهوان، وبعد مدة تحرك للعصيان جبل الدروز الغربي تحت رئاسة الشيخ شبلي العريان، ولم تزل بعد ذلك يد الصغار تستطيل عليه، وتوجه جيوش التأخير إليه، وفي سنة خمس وخمسين توفي السلطان محمود، وتولى إمارة المؤمنين السلطان عبد المجيد خان، لا زالت دولتهم محفوظة إلى آخر الدوران، وفي تاريخه أمر إبراهيم باشا بأمر والده بقتل علي آغا بن محمد آغا خزنة كاتبي، وبعد مدة أمر السلطان عبد المجيد خان بخروج إبراهيم باشا بعساكره من الأرض الشامية، إلى الأقطار المصرية، فأجاب الأمر بالسمع والطاعة وجمع عساكره وذخائره ومتاعه، وفرق ذلك بالشام، على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، ثم بعد شهرين من مجيء الأمر بخروجه خرج من باب الله بعساكره ونزل بسهل القدم، بعد أن جعل الشام وأهلها من كل نعمة في عدم، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة الحرام، سنة ست وخمسين ومايتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان يوم خروجه يوماً شديد الثلج والبرد، والهواء والشرد، وكان يحث عساكره على العجلة والسرعة، ومن تأخر ولو لتعب كان قبره موضعه، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي، من غير خوف ولا تحاشي، ولما وصل مصر امتدحه مهنئاً له الشاعر الأديب، والماهر الأريب، محمد شهاب الدين صاحب الديوان بقوله، وإن كان مدحه في غير محله: سمهري ينثني أم غصن بان ... أم قوام دونه صبري بان صال بالعسال معسول اللما ... وتهادى هادماً ما أنا بان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يا مليك الحسن رفقاً بشج ... كلما حاول كتم الشجو بان مرج البحرين فيضاً دمعه ... إذ رأى جفنيه لا يلتقيان جاء لما جار سلطان الهوى ... طالباً من عادل القد الأمان رب ساق وهو قاس قلبه ... عطفه منذ أدار الكأس لان أهيف إن ماس تيهاً ورنا ... رحت منه بين سيف وسنان كسر القلب وما كان التقى ... فيه من حين هواه ساكنان يا له ثاني عطف قد غدا ... واحداً في الحسن فرداً دون ثان من رآه وهو يسعى بالطلا ... قال ما أسعد ذياك القران هو بدر أشرقت أنواره ... وضياء البدر يبدو حيث كان وهو شمس بسناها احتجبت ... لكليم الطرف قالت لن تران فاسقنيها أيها الساقي على ... عارض الاس وثغر الأقحوان في رياض رقصت أغصانها ... حيت غنتها من الطير قيان حدق النرجس فيها عينه ... إذ رأى المنثور يومي بالبنان إن بكى الطل على أفنانها ... بسم الزهر وعن در ابان بينما الراووق يهمي دمعه ... في رباها قهقهت منه القنان لمدير الكاس في أدواحها ... لم تلح شمس سوى شمس الدنان يا نديمي قم وبادرها وطب ... هذه الجنة والحور الحسان وأدر لي بنت كرم عتقت ... نورها الباهر يحكي البهرمان زوجت بالماء بكراً فأتت ... إذ علاها بذراري من جمان بالنهى قد فعلت كاساتها ... فعل إبراهيم سلطان الزمان أسد الهيجاء ضرغام الوغى ... قاصم الأعداء من قاص ودان فهو كالشمس سمت آفاقها ... وسناها كان في كل مكان فرع أصل قد تسامى في العلا ... وعلا شأناً على رغم لشان سره أن كان سر عسكره ... ورمى القرن فنادى يا رمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 سطوات بأسها حامي الحمى ... واكف كم بها كف افتتان كم له في السلم من مرحمة ... وكأين من حنو وحنان يمم اليم ورد ما تشتهي ... وعلى المورد يا صاح الضمان لم يكن في كل بحر لؤلؤ ... إنما اللؤلؤ في بحر عمان حلمه الروض جناه يجتنى ... ويرجي العفو فيه كل جان همم فوق السموات سمت ... ومعال دونهن الصعب هان وحلى جلت وجلت غاية ... أيجارى من له سبق الرهان يا عزيزاً لا يضاهى أبداً ... عزه يسكو العدا ثوب الهوان كم حروب كشفت عن ساقها ... خاضها طرفك مطواع العنان بجيوش شمرت عن ساعد ... ماله يوم نزال من توان هاك مني بنت فكر تنجلي ... في حلي من بديع وبيان وقد أعيذت بشهاب ثاقب ... صانها عن كل شيطان وجان وبدت من خدرها قائلة ... إن وصلي للحبيب الآن آن وبودي لو ألاقي حظوة ... منه تكسوني جلابيب امتنان فدنوي منه غايات المنى ... وقبولي منتهى كل الأمان وكانت وفاة المترجم المرقوم ختام ذي الحجة الحرام سنة أربع وستين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان ذلك في حياة والده لأن والده توفي أول ليلة من شهر رمضان المبارك سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن في جامعه الذي أنشأه في قلعة الجبل. الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الله الحنبلي الدمشقي كان عالماً بارعاً، وزاهداً عابداً ورعاًن فقيهاً في مذهب سيدنا الإمام أحمد بن حنبل، ولا ريب أنه ذو مقام كامل أكمل ولم أطلع له على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 شيء من الشعر، ولا من السجع والنثر، توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة العارف بالله الشيخ رسلان، قدس الله سره وجعل الفردوس مقره. الشيخ إبراهيم الزهيري الشافعي المصري مفرد لأشتات العلوم جامع، وأديب ضوء أدبه لامع، تقنع بقناع الزهد والكفاف، وارتدى برداء الصون والعفاف، قد نبذ الدنيا وراء ظهره، ورضي منها بكفايته من غير زيادة مدى عمره، توفي رضي الله عنه سنة أربعين ومائتين وألف من الهجرة، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمة الله عليه. الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المصري الأزهري العالم العامل، والعلامة الفاضل، خاتمة الفقهاء الشافعية بالديارين الشامية والمصرية، فلا غرو أنه الشيخ الإمام، والأوحد الهمام، له همة في العلوم عالية، وكمالات سنية سامية، وطلاقة وجه وضي، وطلاوة خلق رضي، وسجايا تزدري بالرياض النواضر، ومزايا تحار فيها الأعين النواظر قد تأهل لمشيخة الإسلام في الأزهر بشهادة العلماء الأعلام، غير أن الحظ بعد موت العلامة الباجوري قدم غيره عليه، وجعل أمر مشيخة الأزهر إلى غيره لا إليه، وله مؤلفات عديدة، وتقريرات مفيدة، وكان خطيب الجامع الأزهر، والمكان الأنور، وله ديوان بديع يخطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فيه من إنشائه، يعرب عن فضله ورفعة قدره بين أمثاله وقرنائه، قد اجتمعت به في الأزهر سنة ثمانين ومائتين وألف فدعا لي وأجازني بما تجوز له روايته عن مشايخه، غير أني لم أجتمع به مرة ثانية، لأنه كان منحرف المزاج، ومشتغلاً في أغلب الأوقات بأخذ العلاج، وكان الأزهر الشريف فارغاً من الناس فلذلك كان خروجه إلى الجامع قليلاً، لأن الطلبة وأكثر العلماء كانوا في مولد السيد البدوي والدروس في الأزهر مرفوعة، وكان الناس يومئذ في كرب شديد وهم عظيم، بسبب وقوع الريح الأصفر عندهمن ومما كتبه المترجم المرقوم إلى السيد عبد الهادي بن السيد رضوان نجا الأبياري من مصر حينما كان المومى إليه مسافراً منها، وغائباً عنها فقال: لقد كمل الرحمن وصفك بالعلا ... وما شين شيء من كمالك بالنقص ومن جمع الآفاق في العين قادر ... على جمع أشتات الفضائل في شخص حلت منا أحرف المحبة محل الزلال من الصادي، وفوضنا الأمر في تمتعنا قريباً بعودة العبد الجليل لربه الهادي، وقد أتحفنا من حضرة أمير الكلام بدر منثور، وأشرقت منه المودة في ليالي السطور، فسبحان من أودعك سراً أنت به العلم المغرد بين الملا، تحدث بأعذب منطق " ما ودعك ربك وما قلى ": ويشهد الله وحسبي به ... أني إلى مجدك مشتاق فلله مزاياك التي لا تبعث إلا على مزيد الاشتياق، ومكارمك التي قضت لك بالتفوق على الأقران بالاتفاق، ولقد شق علينا بعدك مشقة كبرى، وحرماننا من أنسك الذي يقوم مقام الراح للأرواح سكراً، وإني لا أعجب ممن جهل عظيم قدرك فعاداك، ونقل عنك ما لم تتفوه به قط فاك، فإنه حسد ومثلك من يحسد، والحسد لا تهمد ناره ولا تخمد، إنما أعجب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كونه ظلم نفسه وانطوى على البغي الشنيع، وإنه لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة وإن الله لسميع، تحلى وتروج بالكذب والتمويه، وتخلى عن كل ما فيه على كرم النفس دلالة وتنويه، ولكن على جنابك حسن التفويض والتسليم لأمر مولاك، فلا بد إن شاء الله أن يريك بسرعة العود لمصر ما تقر به عيناك، وبالصبر تجتني ثمرات الآمال، والله تعالى يحسن لنا ولكم الحال والمال، آمين. وله رحمه الله كتابات بديعة وإنشاآت رفيعة، ورسائل لا تبارى وعوارف في ميدان البلاغة والفصاحة لا تجارى، توفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين. الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد درويش الشهير بالخلاصي الحلبي الأصل الدمشقي المنشأ والموطن الحاذق الطبيب، والحكيم النجيب، قد انتهت إليه رئاسة الطب في عصره، وكان الخاص والعام معترفاً بعلومه وقدره، ينتهي أمر المشكلات في الطب إليه، ولا يعول في زمنه إلا عليه، وقد انفرد بمعرفة الداء من النبض والقارورة، وللناس عنه حكايات تدل على كماله معروفة مشهورة، وله مشاركة في بعض العلوم، وشعر في سلك اللطافة منظوم، وكان بمجرد القبض على النبض، ورؤية القارورة يعرف حقيقة الداء، ويعالجه بأحسن الدواء، فلا ريب أنه جالينوس الزمان، وبطليموس الوقت والأوان، توفي اليوم السادس من شهر شوال سنة خمس وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير بالقرب من مقام السيدة سكينة. الشيخ إبراهيم أبو إسحق برهان الدين الدمشقي القطب الشهير، والفرد الذي أطبق على ولايته الجم الغفير، صاحب الكشف والكرامات، والإخبارات عن المغيبات، كان بركة الديار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الشامية، ومقصد الدعاء في المدينة الدمشقية، وكراماته ظاهرة، وواقعاته باهرة، وكان عفيفاً زاهداً، وصالحاً عابداً، ذا تقوى وإقبال على مولاه، واعتماد عليه في سره ونجواه، ولد رضي الله عنه سنة ... ومات رحمه الله بعد سنة المائتين والألف ودفن بالمغارة المعروفة بمغارة الشيخ إبراهيم في سفح جبل قاسيون في صالحية دمشق، يزار ويتبرك به، والمشهور أن الدعاء عند قبره مستجاب، ولأهل دمشق اعتقاد بزيارته ومحله بغاية الحسن والنزاهة لأنه مطل على سائر دمشق ونواحيها. الشيخ إبراهيم بن محمد الزمزمي المكي المولد والدار، العلي المنصب والمقدار، علامة الزمان، وفهامة الوقت والأوان، تصدى في أم القرى للإفتاء والتدريس، وكان يقري ويفيد، ويخفض جناحه للمستفيد، ويبذل كل علم نفيس، ويتكلم في سائر العلوم، ويجيد في بيان المنطوق والمفهوم، صفاته في العلوم إن ذكرت ... يغار منها النسيب والغزل تعرف من عينيه حقائقها ... كأنه بالعلوم مكتحل فائدة لإذهاب الصداع ومن فوائده التي أفاد بها سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف أن من حصل له صداع فقال ويده على رأسه لا إله إلا الله مائة وخمساً وستين مرة زال عنه الصداع والحكمة في ذلك أن هذا العدد موافق لعدد الصداع وعدد لا إله إلا الله، فاحرص عليها فإنها من عزيز الفوائد والمجربات العوائد، ومن قال بعد العطاس وبعد أن يحمد الله اللهم ارزقني مالاً يكفيني، وبيتاً طيباً واسعاً يؤويني، واحفظ علي ديني، واكفني شر ما يؤذيني، أعطاه الله ذلك بمحض فضله ومنه وكرمه. ولهذا المترجم شمائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تدل على علو مقامه، وسمو فضله واحترامه، ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله تعالى. الشيخ إبراهيم بن أحمد الزمزمي الإمام العالم الفاضل، والهمام الكامل العامل، نادرة الزمان، ونخبة الوقت والأوان، وهو من أهل بيتٍ لهم فضل ومقام، ورفعة بين ذيو الفضائل واحترام، وإنه من العلماء الذين علمهم لا ينكر، وفضلهم في الأنام على الدوام يذكر، وله مؤلفات كثيرة، وأشعار غزيرة، إلا أنه لم يتيسر لي الوقوع على شيء منها مع أنني أكثرت من السؤال عنها، وكان له ميل إلى العمل بالدليل ولا يعول نحو التقليد ولا يميل، نظم متن الدرر البهية للبدر اليماني العلامة الشوكاني، في فقه الحديث. توفي رحمه الله بمدينة أبي عريش سنة ألف ومائتين وثلاث وستين. الشيخ إبراهيم بن محمد بن الأمير الصنعاني اليمني ثم المكي عالم الحجاز، في الحقيقة والمجاز، فاضل عصره وزمانه، وفريد أهل مصره في أوانه، ذو العلوم البديعة، والمعارف الرفيعة، والزهادة الحقية، والعبادة النقية، المتحلي بالفضائل، والمتخلي عن أنواع الرذائل، ولد سنة ألف ومائة وأربعين تقريباً ونشأ في العلم والصلاح، والتقوى والفلاح، واستفاد وأفاد، ونال من القبول أتم مراد. مات رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة المعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الشيخ إبراهيم بن إسماعيل بن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي هو عالم زمانه، وجهبذ أوانه، ولد سنة ألف ومائة وثمان وثلاثين في شهر رجب ونشأ في حجر والده، وكان شهماً صالحاً، وإماماً في العلوم راجحاًن ورعاً زاهداًن ومتقشفاً عابداً، توفي في شعبان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين ودفن في مقبرة أسلافه. إبراهيم بن الشيخ محمد الدمشقي العمادي من الأعيان الأفاضل، وذوي الشأن والفضائل، تولى إمامة محراب الحنفية، مع الخطبة في جامع بني أمية، وكان فاضلاً صالحاً، عابداً زاهداً ناجحاً، ناسكاً لطيفاً، لين الجانب عفيفاً، مات نهار الأحد في الحادي والعشرين من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. الشيخ إبراهيم بن مصطفى أبو الصلاح الرحيباني ثم الحراني ثم الدمشقي الشافعي الخطيب والمدرس والإمام بجامع الدقاق بميدان الحصى، ولد سنة أربعين ومائة وألف وبعد أن بلغ رشده وملك أشده، وقرأ في دمشق الشام، على بعض العلماء الأعلام، تشوقت نفسه إلى الانقطاع، ليكون له تمام الانتفاع، فسافر إلى الديار المصرية، ليجاور في البقعة الشريفة الأزهرية، فقرأ في الأزهر على السادة الكرام وأخذ عن العلماء الأفاضل الأعلام، وأجازوه بجميع ما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، منهم السيد أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف بن عمر ابن مجير الدين الملوي الشافعي، والسيد محمد الصبان الشافعي، والعلامة محمد بن الأمير المالكي القاهري، والعلامة الشيخ سليمان الجمل، والعلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الشيخ سليمان بن عمر بن محمد البجيري، والعلامة أحمد بن موسى بن داوود العروسي الأزهري، ومحمد ثعيلب بن سالم الفشني الشافعي الأزهري، والعلامة علي بن أحمد الصعيدي المالكي، وأحمد بن عبد المنعم بن صام الشافعي، وشيخ الدماشقة الأخيار، الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر الشافعي الشهير بالعطار، والشيخ محمد الكزبري، والشيخ حسين بن طعمة ابن محمد الشافعي البيتماني الأصل الدمشقي الميداني القادري، والشيخ أبي المواهب الحنبلي، والشيخ محمد الكاملي، والشيخ عثمان الشمعة، وغيرهم من العلماء العاملين والفضلاء الصالحين، وكان هذا المترجم من أهل العزلة والانفراد عن الناس متقشفاً متنبهاً لآخرته، وفي آخر عمره غلب عليه الجذب، مات رحمه الله يوم الجمعة وقت الزوال سادس عشر شوال سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الله قرب قبر والدي وقبر الشيخ تقي الدين الحصني رحمهم الله تعالى. الشيخ إبراهيم بن عبد الله السويدي ولد سنة ألف ومائة وست وأربعين وبلغ من العلم والعمل، فوق ما تعلق به الرجا والأمل، وصار من السادة الأفراد، والقادة العباد، وأخذ عن أبيه وعن غيره، وصار في زمانه ممن نهج مناهج الفضل في سيره، مات سنة ست ومائتين وألف. الشيخ إبراهيم أبو عبد اللطيف بن أخت الشيخ أبي بكر الخلوتي الدرغراني ثم الدمشقي الخلوتي الحلبي الشافعي القادري الإمام الفقيه، النبيه، النحوي اللغوي الصرفي الصوفي المحدث الكبير، والعالم الشهير، البركة القدوة الصالح العابد، المرشد الزاهد، الخاشع الناسك الأوحد المتفنن بقية السلف الصالح. ولد بدمشق سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة عطية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الأجهوري، والعلامة سليمان الجمل، والفاضل الشيخ محمد الصبان، والعلامة الشيخ محمد الجوهري، والعلامة أحمد الفالوجي، والعلامة الشيخ علي الصعيدي، والأوحد الشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد عباده، والشيخ السوسي، والشيخ الدردير، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ محمود الكردي، والشيخ محمد الحفني، والشيخ عبد الكريم السمان، وغيرهم. وأخذ عن العلامة الكزبري الكبير، والشيخ أسعد المنير البعلي، ثم الدمشقي، مات يوم السبت تاسع ربيع الأنور سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. السيد إبراهيم بن أحمد بن يوسف بن مصطفى بن محمد أمين الدين بن علي سعد الدين بن محمد أمين الدين الحسني الشافعي المعروف بقلفه الشهر النجيب الذي أبدع فيما أبدى، وطرز من نسيج فكره للآداب والفضائل حللاً وبرداً، تأبى غير اكتساب المعارف همته، ولا تميل إلا لانتسابه إلى المعالي بغيته، وله فطنة قضت له بالحظ الأوفر الأوفى، وقريحة لم تستق إلا من المنهل العذب الأصفى، وقد اشتهر في زمانه اشتهار الشمس في رائعة النهار، وافتخر به مصره على باقي الأمصار، ومن جملة من ترجمه الإمام الجبرتي بقوله: الجناب الأوحد، والنجيب المفرد، والفصيح اللبيب، والنادرة الأريب، تفقه على شيخ والده السيد عبد الرحمن الشيخوني، إذ كان إمام والده وتدرج في معرفة الأقلام والكتابة، فلما توفي والده تولى مكانه أخوه الأكبر يوسف في كتابة قلم الشهر، فلما شاخ وكبر، سلمه إلى أخيه المترجم فسار فيه أحسن سير واقتنى كتباً نفيسة، وتمهر في غرائب الفنون، وأخذ طريق الشاذلية والأحزاب والأذكار على الشيخ محمد كشك، وكان يبره ويلاحظه بمراعاته، وانتسب إليه وحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الصحيح وغيره على شيخنا السيد المرتضى الزبيدي، وسمع عليه كثيراً من الأجزاء الحديثية في منزله بالركبيين وبالأزبكية في مواسم النيل، وكان مهيباً وجيهاً ذا شهامة ومروءة وكرم مفرط، وتجملٍ فاخرٍ، عمله فوق ماسمته مهمته، سموحاً بالعطاء متوكلاًن توفي صبح يوم الأربعاء غاية شهر شعبان سنة اثنتين ومائتين وألف بعد أن تعال سبعة أيام، وجهز وصلي عليه بمصلى شيخون، ودفن على والده قرب السيدة نفيسة رضي الله عنها. إبراهيم جلبي بن أحمد آغا البارودي الشافعي المصري الفريد الذي أبدى المحاسن وأبدع، والوحيد الذي من سلسال حياض النباهة تضلع، واللبيب الذي سلك مسالك المعارف، والنجيب الذي ملك منها كل تليد وطارف، والكامل الذي انتقى أحسن الخصال، وترقى على درج الجد والاجتهاد إلى أن بلغ رتبة الكمال، وهو من رجال الجبرتي القائل فيه: الصنو الفريد، والعقد النضيد، الذكي النبيه، من ليس له في الفضل شبيه، ولد في مصر ونشأ في حجر والده إلى أن توفي والده المرقوم سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف فعانى المترجم تحصيل الفضائل، وطلب العلم ولازم حضور الدروس في الأزهر في كل يوم، وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيونسي، وفي المعقول على الشيخ محمد الحفني والشيخ علي الطحان، حتى أدرك من ذلك الحظ الأوفر، وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسائل النقلية والعقلية، وترونق بالفضائل، وتحلى بالفواضل، إلى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنيه، وضرب سورٌ بينه وبين الأمنية، وذلك سنة خمس ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمود الحريري الحنفي الأزهري مفتي السادات الحنفية بمصر الماجد الذي ابتهجت به وجوه المعالي، وتبسمت له ثغور المكارم الباسمة باللآلىء، وقد ساعده وقته بالإقبال، وصدره في مصادر الرفعة والإجلال، فأبدى من خزانة فكره عقود الفضائل، وأنشأ من معدن قريحته فرائد الفواضل، واستوى على عرش الرفعة والكمال، واحتوى على ما يثبت له كل فضيلة وإجلال، كيف لا وهو مفتي الأنام، ومرجع الخاص والعام، وقد أحسن الجبرتي الهمام، قائلاً في ترجمة هذا الإمام: العلامة المفيد، والنحرير الفريد، والإمام الفقيه، والهمام النبيه، تفقه على والده الرفيع الشأن، وحضر في المعقولات على أشياخ الوقت كالبيلي والدردير والصبان، وأنجب وتمهر في العلوم العقلية والنقلية، وصارت فيه ملكة جيدة واستحضار للأصول والفروع الفقهية، ولما مات والده في رجب سنة ألف ومائتين وعشرين، تولى منصب والده في الإفتاء وإفادة المسلمين، وكان لها أهلاً مع التحري والمراجعة في المسائل، والعفة والصيانة والديانة والتباعد عن الرذائل، مواظباً على وظائفه ودروسه وما يثبت جميل المآثر، ملازماً لداره إلا عما دعته الضرورة إليه من المواساة وحضور المجالس مع الأكابر، وكان مبتلى بآخرته بضعف البصر، واعتراه داء الباسور فقاسى منه غاية الضرر، وانقطع بسببه عن الخروج من داره، ولم يزل ملازماً له حتى نزل بدار قراره، توفي رحمه الله يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن بمدرسة الشعبانية بحارة الدويداري ظاهر حارة كتامه المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الجامع الأزهر رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الشيخ إبراهيم البيسوني البجيرمي الشافعي الأزهري رحمه الله تعالى الأوحد الذي علمه الله تأويل العلوم، والأمجد الذي ملكه من مختومه خزائن الفهوم، فأضحى في مصر المعارف، قائلاً في ظل وارف، مواظباً على الاعتكاف في محراب الإفادة، والطالبون قد لازموا حرم كعبته للاستفادة، كيف لا وهو العالم الذي يشار إليه بالبنان، والعامل الذي أذعنت لكماله الأفاضل والأعيان، والبحر العذب الطامي، والغيث الهاطل الهامي، ذو التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة، ولد سنة ست وخمسين ومائة وألف تقريباً، ونشأ من أول عمره منشأ غريباً، فكان كل من رآه يعلم بالفراسة أنه سيكون له عز وجاه، وقد ترجمه الجبرتي المفضال رحمه الله فقال: علامة زمانه، وفهامة عصره وأوانه، الفاضل الفقيه، والكامل النبيه، هو ابن أخت الشيخ موسى البجيرمي الشيخ الصالح، والورع الزاهد الفالح حضر على الأشياخ المتقدمين، وهو في عداد الطبقة الأولى من المدرسين وكان متواضعاً لين الجانب ذا أنس وإيناس، وأفاد وانتفع به الطلبة بل غالب الناس، كان ملازماً للتقوى والعبادة، ومحالفاً للقناعة والزهادة، مستحضراً للفروع الفقهية، والمناسبات المعقولة والشواهد النحوية والشعرية، والمحاضرات الأدبية، والمفاكهات العذبة الندية، جيد الحافظة لا تمل مجالسته ولا تعل موانسته، ولم يزل على حالته وإفادته، وزهده وعفته وعبادته، حتى خطبته المنية، ودعته إلى منازلها العلية، توفي يوم السبت نصف المحرم الحرام سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف عن نحو خمس وسبعين سنة. السيد الشيخ إبراهيم بن الشيخ صالح بن الشيخ عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الرحمن الرشيد الأستاذ المحقق الرباني، والملاذ المدقق الصمداني، المرشد الكامل المقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 والمستمد من معارفه ذوو الكشف والشهود، كاشف أستار الحقائق، وراشف كؤوس العرفان من بحر الدقائق، شيخ الطريقة الإدريسية، المستمدة من فيوضات الحقيقة الشاذلية. أصل آبائه وأجداده من البلاد السودانية، ولهم بها قدر ورفعة سنية، ولهم نسبة نبوية، وسلسلة علية، ولد المترجم في نصف شهر المحرم الحرام سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، ومن صغره اشتغل بحفظ القرآن وتعلم الضروريات من العلم وما لا بد منه للإنسان، ومن بداءة أمره لوائح السعادة عليه لائحة، وروائح الطاعة منه نافحة فاتحة. تفقه على حضرة والده، في إقليمه وبلده، ثم أخذ الطريق من سيدي أحمد بن إدريس، واشتغل به متجنباً كل أمر خسيس، لاتباعه للطريق الذي هو أنفس نفيس، ثم بعد وفاة شيخه اتفق الجميع، بأنه لا يليق لغيره أن يجلس في مكان شيخه ذي المقام الرفيع، فرحل بعد ذلك إلى صعيد مصر سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، فنشر بها الطريقة الأحمدية وأقبل عليه الناس من كل فج عميق، وحصل له كرامات ظاهرة، وخوارق باهرة، ثم سافر إلى السودان، ومعه جملة كبرى من المريدين والإخوان، ثم عاد إلى الصعيد ثانياً وأقام بها مدة، ثم سافر إلى الحرمين الشريفين، فاشتد الإنكار عليه، وتوجهت جيوش الملام إليه، ودام أمره على ذلك مدة من الزمان، وتجلد على تحمل الشدائد وصبر على الهوان، إلى أن لاحظته عين العناية؛ فعامله الجميع بالتعظيم والرعاية واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار، وأقبل عليه الكبار والصغار، ثم لازم الرحاب المكية، والبلدة المشتملة على المسجد الحرام والشعائر الدينية، فما زال بها يقيم الأذكار، في الليل والنهار، ويرشد السالكين؛ للوصول إلى مقام التمكين، إلى أن تمكن منه المرض الداعي للرحيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إلى جوار الملك الجليل؛ فأجاب طلبه من غير إمهال، وذلك في يوم الأحد بعد العصر تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين ومائتين والف من هجرة سيد ذوي الكمال، وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في تربة المعلا عليه رحمة الملك السلام، وبنى بعض المحبين مزاراً واسعاً عليه، وهو في أول المعلا على يمين الذاهب إليه. وقد رثاه بعض مريديه بقصيدة أولها: ذروني أبكي بعد شيخي ومرشدي ... لأحدث عهداً في بقية معهدي وما شاقني برق بأبرق رامة ... ولا نغمات من حمام مغرد بلى شاقني وجه الرشيد الذي به ... تشعشع نور الحق في كل مشهد إذا ما رأت عيناك بهجة نوره ... رأت بدر تم في منازل أسعد وإن لثمت يمناك يمناه فالتزم ... بركن سوى ركن من البيت أسود سما بشعار الصالحين وهديهم ... وأعلى منار الدين بعد محمد أمد علينا الله من بركاته ... وأوردنا من بره خير مورد إذا ما ذكرت الأكرمين فإنه ... هو الكوثر الفياض والعارض الندي ومهما مدحنا الصالحين فمدحه ... به نختم الذكر الجميل ونبتدي الشيخ إبراهيم بن الشيخ السيد محمد الميدري البغدادي الشافعي العالم الذي رقى معراج الفضائل، واستقى من بحر معارفه السادة الأفاضل، وجمع من الفنون ما تفرق عند غيره، وسار بسيرة ذوي السر المصون فلم يلحقه أحد من معاصريه في سيره، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، والفكرة القادحة في معرفة الفروع والأصول، وليس من يجاريه في ميدان العلوم الرياضية، ولا من يباريه في الأبحاث الجدلية والعقلية، وله كتاب في المناظرة، قد فاق مزاولة أهل المحاضرة، شرح فيه نظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 رسالة الولدية، وعند تمامه قد قرض له حضرة الجهبذ الذي هو بكل كمال حري، عبد الباقي أفندي العمري، فكتب عليه ما يشهد بفضل مؤلفه، وعلو فهم مصنفه، وقد أحببت أن أذكره بتمامه، وفاء بحق مقامه، وها هو ذا: لا نسلم لمن علمته نفسه غاية الكر ونهاية الإقدام، من أهل الخلاف بدار الخلافة مدينة السلام، ولو كان وهيهات أن يكون نفس عصام، معارضة ما برهن عليه هذا الغلام، الشارح لهذا النظم البديع الانتظام بالبرهان القاطع بالمدية الإسماعيلية، وشفرة الدلائل القطعية الخليلية، جادة الجدال ومادة الخصام، ومناقضة ما دون وبين فيه من آداب البحث في مناظرة أرباب النظراء الأعلام، بالتبيان الساطع بصحة نقله الاستقرائي المؤدي بعد الإلزام، للتضمن والالتزام، فيا له من شب شب من توقد نار قريحته الضرام، فأجج في كانون أفئدة ذوي المعارضة بالقلب فحمة الإفحام، وقدح زند فكرته بمرخ المشاخرة وعقار المكابرة، فأبرزت ناره ترمي بشرر كالقصر فقلنا يا نار كوني برداً وسلام، هذا وقد أوتي الرسالة الولدية قبل أن يدرك الحلم، بل قبل أن يبلغ الفطام، فيا لله دره لقد كاد أن يكيد أساطين الحكماء، والفلاسفة القدماء، بقوة احتجاجه ومنعة سلوك منهاجه، وشدة إحكامه لهذه الأحكام، كما كاد حضرة سميه إبراهيم، عليه الصلاة والتسليم، وفاء بالإقسام؛ أولئك الأصنام؛ وقد غادرهم ابن الأصفياء أفلاذاً، كما جعلهم أبو الأنبياء جذاذاً، وقال " بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون " بكلام، فأبوا الفتح لأبواب آداب البحث لذوي الملكة من الطلاب، طاب ثراه لقد ملأ الوطاب، واستوفى المرام، وإبراهيم الذي وفى بل زاد وأحسن في الإتمام، حيث تمطى للمناضلة، وامتطى غارب المجادلة؛ واقتحم هذا الاقتحام؛ كيف لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقد صح له وثبت لسلفه العظام؛ القبول التام، لدى الخاص والعام، واقتسام الأموال من وقت سام؛ واقتحام الأهوال من وقت حام، على أنه الشبل الذي قد ترعرع في بحبوحة الغابة الحيدرية، ونشأ في أحضان البرأة الصفوية، فربض ربضة الضرغام، وتشعشع كالبدر التمام، وكبت الخصم الألد؛ بما منع وردع ودفع ورد؛ ونقض وأبرم، وقوض وهد؛ وفتق ورتق وحل وشد؛ أحزم حزام، وكتب ما أثبت به حقية مدعاه ببطلان دليل الغاصب، من مخلفات آبائه ذوي الأبوة، وأولي الفتوة، أشرف المناصب، كأنه اتخذ من أظفاره التي لم تقلم لمحابره الأقلام، فملأ الأقاليم السبع بزئيره؛ والجهات الست بهمهمته في الآجام، وأملى فأبلى سرائر سر تثبت الأقانيم الثلاث، من غير لثاث، ذلك اليراع بصريفه وصريره فأسمعت كلمات باريه الصم الدعاء للاستسلام، وغسلت ذئاب المعارضين عن الإقعاء بفناء أجمة هذا الباسل المقدام، وراغت ثعالب المناقضين عن جلسة القرفصاء بباب غاب هذا الغشمشم القمقام، فمتى شاء قال للسعد أو أشار للفخر على ساق العبودية، وقدم الرقية، بساحة أعتابنا الصفوية، الفسيحة المساحة، وباحة أبوابنا الحيدرية الغير مباحة، قم قام، وقانا الله تعالى وإياه هول المطلع ورزقنا وإياه حسن الختام، وكان المترجم على حالة صالحة، وسيلة راجحة، إلى أن خطبته المنية لدار السلام، سنة ألف ومائتين و ... السيد إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله المشهور بحيدري زاده البغدادي عالم عصره، وفريد مصره، ونخبة زمانه، وعمدة أهل وقته وأوانه، الحسيب العلوي، والنسيب النبوي، ذو المقام الفاخر، والاحترام الباهر، والصفات الحميدة، والشمائل المجيدة، والسيرة الحسنة، والسريرة المستحسنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولد سنة ... ونشأ في العلم والعبادة، والطاعة والزهادة إلى أن بلغ مبلغ الكمال، ونبغ في العلم وجال فيه كل مجال، وترقى وساد، واستفاد وأفاد، واشتهر بين الخاص والعام، واعتمد عليه العلماء الأعلام، وقد ألف كتاباً سماه المجد التالد في مناقب الشيخ خالد، فأجاد في تأليفه، وأفاد في ترصيفه، وأخذ الطريقة العلية، عن قادة النقشبندية، ذي القدر الباهي الباهر، والصدر الزاهي الزاهر، مولانا الشيخ خالد صاحب المقام التالد، والمجد الموروث عن جد ووالد، فلازم الذكر والتقوى، في السر والنجوى، وكان صاحب مجاهدة كلية ومشاهدة قلبية، وأحوال عجيبة، وأطوار غريبة، وأخلاق حسنة، وصفات مستحسنة، ومذاكرات أنيقة فيما يتعلق بالشريعة والحقيقة ولم يزل إلى أن آن ارتحاله، وحان انتقاله، سنة ألف وثلاثماية ونيف. الشيخ إبراهيم العراقي البياري الشافعي الأشعري كنز الفضائل وتحفة الأفاضل، من اشتهر علمه وفاق، وسما قدره في الآفاق، كيف لا وهو حلال المشكلات بفكره، ومعطر الدروس بنفثات صدره، ناشر برود التحرير، ومظهر شموس التحبير في التقرير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ومنهاج الإمداد، وإرشاد الإسعاد، تحفة المحتاج، وكعبة المنهاج، فهو الهمام الذي يشم أرج التدقيق من أنفاسه، والإمام الذي يشام برق التحقيق من أدلته وقياسه، وقد أفاد من الفوائد، ما هو على رسوخ قدمه في المعارف شاهد، ونظمه عثمان بن سند في كتابه أصفى الموارد فقال: علم سما للعلم أعلى ذروة ... شمخت على الأعلام والأطواد مغني اللبيب يفيد كل مطول ... تلخيصه في مجمع الإيراد مفتاح إيضاح لمعنى مرتج ... مصباح مفتقر إلى الإمداد من عابه في الدرس قال مقرراً ... يحيي الدروس بذهنه الوقاد هو روضة لكن كمائم روضه ... لم يخلها يوماً من الأوراد ذكر الربيع فقال يا أم اشكري ... مني ربيعاً للبويطي الهادي فأنا الذي أحييت من يحيى الذي ... أبقى من الآثار بالأسناد وجعلت للأحياء تدريسي شذى ... يسري إلى الأرواح والأكباد كابدت أبحاثاً إذا أنصفتني ... أيقنت أني مسك هذا النادي ولقد سلكت من البحوث سباسباً ... وملاجئاً أعيت على الرواد ولم يزل المترجم ينتشر كماله، ويشتهر بين الأنام حاله، إلى أن خطبته المنية، ودعته إلى المقامات السنية، فرحل من هذه الدار إلى دار القرار وذلك في سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين، عليه رحمة رب العالمين. الشيخ إبراهيم بن المرحوم الحاج علي الأحدب الطرابلسي ثم البيروتي العالم الذي طاول الثريا علمه، والناظم الذي سحر الألباب نثره ونظمه، والإمام الذي شاد ربوع الشعر والخطابة، والهمام الذي لزم الأدب جنابه ولثم أعتابه، والفصيح الذي بسقت في ناديه أدواح الفصاحة، والمليح الذي ما زل قدمه يوماً عن مناهج الفلاحة، تقدم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بيروت حتى صار إمام محرابها، وخطيب منبر معارفها وآدابها، ومنحة خزانة نبهائها، ونفحة ريحانة ألبائها، فلا ريب أنه مرجع السادة الأفاضل، ومجمع القادة ذوي المكارم والفضائل، ولد أعلى الله مقامه، وجعل الفردوس مسكنه ومقامه، في طرابلس الشام، ذات اللطف الباهر والثغر البسام، سنة ألف ومائتين وأربعين، من هجرة السيد الأمين، وإنه لعمري من عائلة عرفت بالتقى والصلاح، والعبادة والصيانة والنجاح، وبعد أن قرأ القرآن، وأتقن تجويده أي اتقان، سلك منهج العلم بهمة لا تعرف الملل، واجتهاد دل على أن فضله لابد وأن يستوي على عرش الأمل، فقرأ على جملة من الأفراد، والسادة القادة الأمجاد، منهم الشيخ عرابي أفندي الذي هو بكل كمال حري، والشيخ عبد الغني أفندي الرافعي العمري، ونال من الفضائل والعرفان، ما قدمه على الأمثال والأقران، ثم أخذ بالتدريس ونفع البرية، وبث ما فتح عليه به من المواهب اللدنية، ولقد زار دار السعادة العثمانية، ومقر الخلافة الإسلامية، أيام سلطنة ساكن فراديس الجنان، الإمام الأعظم والخليفة الأفخم السلطان عبد المجيد خان؛ فاجتمع بعظمائها، وانتفع بأكابر علمائها، وبعد عوده من دار السعادة، ورجوعه إلى ما كان عليه من الإفادة والاستفادة، استدعاه سعيد بك جنبلاط حاكم مقاطعة الشوفين وقتئذ إلى المختارة من جبل لبنان، واتخذه مستشاراً في الأمور الشرعية المستنبطة من السنة والقرآن، وذلك سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ولم يزل بإعزاز وإكرام ومقام مكين، إلى أن بدأ الخلاف بين الدروز والنصارى في جبل لبنان، سنة ست وسبعين، فرحل إلى وطنه طرابلس في الوقت والأوان، وفي سنة سبع وسبعين طلب إلى بيروت وعين نائباً في المحكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الشرعية، وحينما حضر النائب الموظف من الدار العلية، جعله باش كاتب في المحكمة المرقومة واستمر بهذه المأمورية، وكان مع ذلك مشتغلاً بنشر العلوم ونثر لآلىء الآداب، متمسكاً للقيام بواجبها بأعظم الأسباب، وفي سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين زار القطر المصري واجتمع بعلمائه الأعلام وأمرائه وأعيانه الفخام، وكان رحمه الله إماماً في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، رفع الله مقامه وأسكنه أعلى فراديس الجنان، وكانت محاكم جبل لبنان تعتمد على فتاويه وقوله، لما عرفته من تدقيقه وصحة نقله، فكان لدى عروض المشكلات مرجعاً، وكل عويصات المسائل مقصداً ومطمعاً، وكان قليل الكلام بما لا يفيد، وبحراً زاخراً لكل مستميح مستزيد، مع طبع هني وأخلاق مرضية، وفكر صائب وأوصاف علية، وذهن متوقد وحاضرة جيدة، فكان ينظم ما ينوف عن سبعين بيتاً بجلسة واحدة بدون تكلف ولا طول مدة، وكثيراً ما تكون المبيضة عين المسودة، وبالإجمال إنه كان رحمه الله فرداً فريداً، وكاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً، وقد تولى رياسة جريدة ثمرات الفنون، ثم أقام على تصحيحها المصون، وله فيها المقالات الأدبية، والفصول الحكمية والطرائف العربية، والنصائح العالية، والمواعظ السامية التي لو جمعت لبلغت عدة أسفار، واشتهر قدرها وطار، وعند تشكيل ولاية بيروت انتخب عضواً في مجلس معارفها، فزاد قدرها به لدى ناعتها وواصفها، وقد نسخ بخطه كتباً كثيرة، وألف مؤلفات عديدة شهيرة، ونال من الرتب العلمية، من ابتداء خارج يحسب الطريق إلى رتبة مدرس السليمانية، وهي من رتب كبار المدرسين، وفي سنة ألف ومائتين وثمان وثمانين، نال النيشان المجيدي من الرتبة الرابعة، وتفرس الناس فيه الأهلية للمراتب الجامعة، وفي سنة تسع وثمانين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وجهت عليه بموجب براءة سلطانية خدمة الفراشة الشريفة في الحرم الحرام على ساكنه أفضل الصلاة وأتم السلام، ومن مؤلفاته رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، فرائد اللآل في مجمع الأمثال وهو عبارة عن الأمثال التي جمعها الميداني وغيره نظمها بنحو ستة آلاف بيت وكتاب مهذب التهذيب في علم المنطق نظماً وعلق عليه شرحاًن ونظم مولدين شريفين مطولاً ومختصراً، وكتاب نفحة الأرواح على مراح الأرواح، في علم التصريف وكتاب كشف الأرب عن سر الأدب وديوان النفح المسكي في الشعر البيروتي. وله ديوان آخر جمعه في بلده طرابلس الشام، وديوان آخر تضمن من القصائد والمقاطيع والرسائل البليغة ما ينوف عن خمسين كراسة وذلك لسنة ألف ومائتين وخمس وتسعين، وما نظمه بعد ذلك محفوظ في مسوداته. وله شرح فرائد اللآل في مجمع الأمثال، شرحه بمجلدين وكتاب إبداع الإبداء، لفتح أبواب البناء، في علم التصريف وكتاب نشوة الصهباء، في صناعة الإنشاء، وكتاب تفضيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان وكتاب فرائد الأطواق، في أجياد محاسن الأخلاق وهو مائة مقالة نثراً ونظماً جاري بها مقالات العلامة جار الله الزمخشري، وكتاب عقود المناظرة في بدائع المغايرة، وهو جزآن يحتويان على خمس وعشرين مغايرة أدبية في المناظرة بين السيف والقلم وما شاكل ذلك، وكتاب ذيل ثمرات الأوراق وكتاب الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية وهي الرسائل التي كانت بين المترجم وبين عبد الهادي أفندي نجا الأبياري في مصر إلا أن جمعها كان للأبياري لا للمترجم، وله مقامات جعلها على لسان أبي عمر الدمشقي وأسند روايتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي وهي عبارة عن تسعين مقامة جاري في إبداعها العلامة الحريري وله كتاب كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان وهو آخر مؤلفاته، وله رحمه الله من الروايات عشرون رواية وكانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة ألف وثلاثماية وثمان. لمسكي في الشعر البيروتي. وله ديوان آخر جمعه في بلده طرابلس الشام، وديوان آخر تضمن من القصائد والمقاطيع والرسائل البليغة ما ينوف عن خمسين كراسة وذلك لسنة ألف ومائتين وخمس وتسعين، وما نظمه بعد ذلك محفوظ في مسوداته. وله شرح فرائد اللآل في مجمع الأمثال، شرحه بمجلدين وكتاب إبداع الإبداء، لفتح أبواب البناء، في علم التصريف وكتاب نشوة الصهباء، في صناعة الإنشاء، وكتاب تفضيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان وكتاب فرائد الأطواق، في أجياد محاسن الأخلاق وهو مائة مقالة نثراً ونظماً جاري بها مقالات العلامة جار الله الزمخشري، وكتاب عقود المناظرة في بدائع المغايرة، وهو جزآن يحتويان على خمس وعشرين مغايرة أدبية في المناظرة بين السيف والقلم وما شاكل ذلك، وكتاب ذيل ثمرات الأوراق وكتاب الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية وهي الرسائل التي كانت بين المترجم وبين عبد الهادي أفندي نجا الأبياري في مصر إلا أن جمعها كان للأبياري لا للمترجم، وله مقامات جعلها على لسان أبي عمر الدمشقي وأسند روايتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي وهي عبارة عن تسعين مقامة جاري في إبداعها العلامة الحريري وله كتاب كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وهو آخر مؤلفاته، وله رحمه الله من الروايات عشرون رواية وكانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة ألف وثلاثماية وثمان. ومن قصائده الأنيقة، وأشعاره الرقيقة، قوله مادحاً حضرة السيد الأمير عبد القادر الجزائري الحسني قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه. عقود ودادي نظمها ليس يفسخ ... وشرح غرامي محكم ليس ينسخ نشأت بخمر الحب نشوان فهو لي ... إذا شئت ترب يا أبا الفضل أو أخ أذل لمن أهوى وكم ذل عاشق ... أشم له أنف إلى المجد أشمخ تمد خدود الغيد قلبي بنارها ... فمهما جرى دمعي فلا يتبوخ ولم تكتحل عيني بميل من الكرى ... وكم بين من أهوى وبيني فرسخ أروح قلبي بالمنى وهي قد قضت ... فهل بوفا بدري بها الروح تنفخ يجر فؤادي للعنا هدب شادن ... ترض به الأحشاء منا وترضخ وأبدى محياه لعيني نسخة ... بها راح ينسى كل حسن وينسخ وأطلع حول الورد ريحان عارض ... به دون وردي جنة الخد برزخ ويسكر دون الرشف خمر رضابه ... لما أنها بالنار للخد تطبخ وبي زائر بالزور قد زار مضجعي ... سرى وجناح الليل أقتم افتخ أطار الكرى من وكر جفني طيفه ... فأمسى به طير السهاد يفرخ فرحت به أنشي المعاني وأنتشي ... بذكراه والأجفان بالدم تنضخ رسخت بأوصاف الجميل وإنني ... بمدح ابن محي الدين ذي المجد أرسخ فتى الفضل عبد القادر السيد الذي ... يجيب ندى من أمه وهو يصرخ وذو النسب السامي الذي نشر طيبه ... هو المسك مع طول المدى ليس ينسخ محط رحال المعدمين وقصدهم ... فنجب الرجا في باب علياه نوخ تضم به العلياء طود مهابة ... بطلعته الغراء تسمو وتشمخ إمام بأفق الشام للحق منشىء ... تلاشى به من كان في البطل يملخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من الغرب وافى الشرق فازدان بهجة ... وأمست به عين المنى تتنضخ وحل به العز الذي ليس ينقضي ... فكان به مبدا المعالي يؤرخ رسا فوق هام النجم سامي مقامه ... فأضحى له بالفضل مرسى ومرسخ من القوم كل المجد يعزى لعزهم ... كرام لمن قد ضل بالسيف دوخوا مناقبه تتلى بها سور الثنا ... وليس لها في محكم المجد منسخ حمى الدين والدنيا بعز شهامة ... تضيق بها الأرض الفضا وهي سربخ شمائل ما للمسك في الشم طيبها ... بأنفاسها برد الشمال مضمخ له الكلم اللاتي بها السمع يزدهي ... وتعنو لها شم العلى وهي شمخ لقد أنطقت بالحق من كان أخرسا ... وأسمع من سمع بها عاد أصلخ أقل نداه دونه كل وابل ... فيرضى المرجى بالغنى حين يرضخ عوادي الحيا تهمي حياء لطله ... وقد أغرقها أعين منه نضخ فطوبى لأرض الشام إذ حل شامة ... بها فهي فوق النجم بالتيه تزمخ درى بعض ما فيه من العلم والتقى ... وحسن الحجا من كان في العلم يرسخ لقد سار مثل البدر في فلك العلا ... بطول دراري الأفق عزاً ويبذخ وأرج أرجاء الممالك بالثنا ... فكل بطيب الفضل منه يضمخ فلا ملك إلا وأصفاه وده ... وإن تجر ذكراه لديهم يبخبخوا صفا باطناً لله مع حسن ظاهر ... به تمدح العلياء والمجد يمدخ فما شأنه وهو النقي من الخنا ... مقالة ذي عرض به يتطلخ فيا من به الدين ارتدى برد عزه ... فعاد بسامي فضله وهو أبلخ تنبه شعري في معاليك للعلا ... وأمسى به صعب المعاني يدوخ فأنشأت أبكاراً تجلت شموسها ... إذا كان يمسي الغير للشعر يسلخ وأبدعت بالأفكار إنشاء صورة ... يشوه بها وجه المعادي ويمسخ وأرسلتها مع رقة اللفظ صخرة ... بها هام من يشنا معاليك يشدخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يهون ابن هاني حين يتلى نظامها ... ويغدو على ما كان منه يوبخ أتت وهي تشدو في معانيك بالوفا ... عقود ودادي نظمها ليس يفسخ وقال رحمه الله بحبة الخال قلبي صاده رشأ ... إذ ضمخت خده بالمسك تضميخا أبان لي غرة من تحت طرته ... كانت لبدء غرامي فيه تاريخا وقال رحمه الله أسر القلب غزال فاتن ... سلب العشاق طيب الوسن وجهه والطبع منه واسمه ... حسن في حسن في حسن وقال رحمه الله وأحسن مقره ومثواه ومهفهف دبت عقارب صدغه ... تحمي رياض شقائق النعمان وعلى كثيب الردف يسعى أرقم ... من شعره قد حار فيه جناني حاولت قربي من حماه فصدني ... وأباحني الخد الشهي القاني فأجبته ما بي مخالفة لما ... قالوه في الأمثال منذ زمان لا تقربن أبداً مواطن عقرب ... وافرش ونم بمواطن الثعبان وقال طيب الله ثراه أبصرت مروحة بكف مهفهف ... تطفي ببرد هوائها نار الجوى قد كنت خلواً قبل ترويح بها ... نحوي فجاءتني بأسباب الهوى وقال بليت بقاسي القلب ما رق للذي ... يؤمل بعد البعد منه وصالا ألان به دمعي الصفا سائلاً له ... وقد ماس عجباً بالدلال ومالان وقال متغزلاً يا غزالاً قد نسجت الغزلا ... بحلى جفن له قد عزلا من منحت القرب حولاً كاملاً ... لست تبغي عن لقاه حولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عدم القوة من بعد النوى ... والجفا منك فلا حول ولا ويح من يصبو لأحداق الظبا ... ويرى دوماً بها مشتغلا أفتدي ألعس لا يمنحني ... من مجاني الثغر منه العسلا قد شوى قلبي على نار الغضا ... إذ قلاه بالتجافي وسلا جفنه والعطف في حرب الهوى ... قد نضا السيف وهز الأسلا خاله المسكي حبات الحشا ... قد غدت للحسن منه خولا مل من قربي إذ أترع لي ... في الهوى كأس صدود وملا لا يرى التسهيل في وصل إذا ... جئت أبدي شرح حالي جملا فصل المشتاق عنه حينما ... أحرق القلب بهجر وصلا خبري بالخد والردف له ... ملأ السهل به والجبلا عامل اللحظ بقلبي فاعل ... فهو مكسور بما قد فعلا من ضمير الصبر قد فرغه ... حينما أظهر فيه عملا إن أتاه الدمع يوماً سائلاً ... رده نهراً بما قد سألا أفلا يسعدني بدري الذي ... نجم سعدي في هواه أفلا وبواو العطف من صدغ له ... يجعل الوصل لهجر بدلا يا خليلاً فاتحاً عذلي به ... إن تجد عيباً فسد الخللا واطرح عذلي فمن أجفانه ... سبق السيف بعشقي العذلا واعذر الصب الذي تيمه ... بعذار فاتن من عذلا لام تعليل بدت في خده ... أثبتت للوجد فيه عللا حجة العشق به واضحة ... للذي في الشعر يبدي جدلا أيها الحاكم فيها حسنه ... جائراً وهو به قد عدلا جانس الحسن بإحسان فما ... كان ملك الحسن إلا دولا وأرى الدنيا كظل زائل ... لا يطيل المرء فيه أملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 من أتى ينقل أخباراً بها ... للذي يأتي كما قد نقلا والبقا الكامل وصف ثابت ... لإله ملكه قد كملا وقال عفي عنه من لي بعطار أراني شامة ... سوداء فوق الوجنة الحمراء أمسى يبيع ويشتري أهل الهوى ... في سوقه بالحبة السوداء وقال رحمه الله يا ظبية في جفنها سحر به ... جنت دموع العين وهي دماء الشمس أنت فليس من عجب إذا ... أمن ازديارك في الدجى الرقباء وقال رحمه الله إني أحمل أنفاس النسيم إلى ... حماكم نفحات نشرها عطر ولا أحملها شوقي لعلمي ما ... فيها من الضعف إن وافى بها السحر لكن بها من ثنائي روضة أنف ... بها تفتح من ذكراكم زهر فإن سرت وعرفتم طيب نفحتها ... فثم نشر الثنا منكم له خبر وذكركم من حديث النفس منية من ... ثناؤكم في لياليه له سمر وقال عفي عنه كلفت بفاتن عذب الثنايا ... فؤادي في محبته تعذب جميع جوارحي تصبو إليه ... لذلك مدمعي فيه تصبب وقال نشرت برقعاً على ورد خد ... منع الصب في الهوى نيل مأرب وهولي مبغض إذا رمت لثما ... إذ غدا قلبه لقلبي عقرب وقال هيفاء قد حجبت بشد عصابة ... عني الجبين وما رثت لنحيبي فاعجب لمحجوب لها في حكمها ... قد ورثوه الحسن بالتعصيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقال ومهاة في جيدها شهب عقدٍ ... رمت أني من خدها أتقرب فأجابت: لنيلك الشهب لمساً ... هو من لثم بدر خدي أقرب وقال عليك للنفس حق أن تطيب بها ... إذا سئمت لطول الجد باللعب وأن تسرح طرفاً في الرياض لدى ... خل براحته ترتاح من تعب وقال زرد العذار حمى الورود فلم يكن ... للطرف أن يدنو من الوجنات وإذا محب مد عيناً نحوها ... يبغي جناها كف باللامات وقال بعيني غزال البان هاروت ماكث ... فلا تعجبوا والجفن بالسحر نافث عجول بقتل العاشقين إذا رنا ... وهيهات لحظ ينفث السحر رائث لأسد الشرى غاب بأهداب جفنه ... لذاك لها في القلب أمسى مضابث من الترك سام قد حمى برد ثغره ... فيا حسن حام قد سما فيه يافث هلال جمال بالمثاني معوذ ... ودون سماع اللفظ منه المثالث رشا لا يرى ثان لمفرد قده ... كما وجهه للبدر والشمس ثالث به في الهوى قلبي الشقي جد جده ... على أنه بالهائم الصب عابث يشق على العاني شقيق نجده ... لحبة قلبي خاله المسك وارث رعيت قديم الورد غضا جناؤه ... ولا عارض فيه يعارض حادث حريري جسم في المقامات قد حكى ... محاسن عنه تسلب اللب حارث لعهدي أمسى ناكثاً بدلاله ... وأي مليحٍ لا يرى وهو ناكث له قد صفا ودي ولا كان عاشق ... بماذق من يهوى وفي الحب غالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تنزهت عما ليس يرضي أخا العلا ... وما عاشق طابت سجاياه رافث حليف صبابات اغوت في الهوى ... وليس سوى غيث من الدمع غائث لقد حاول السلوان عنه مفندي ... وما ذو صبابات عن الحتف باحث تحمل عبءً بالذي في الهوى نوى ... فأصبح ينوي وهو عاو ولاهث دعوا من وشى عني يحدث بالذي ... يشاء فدمعي للصبابة نابث ومن لي بأن استكتم الدمع صبوتي ... وعنها بتلوين المدامع بائث زناد الأسى وارٍ لبعد معذبي ... كما زند أفراخي بلقياه غالث عقدت يمين العهد يوم مددتها ... لتوديعه لا كان في الحب حانث نهار أراني هوله يوم موقفي ... وجفني بقاني الدمع للخد مائث دعينا لتوديع فلما تجمعت ... قلوب بها ناب النوائب ضابث لبثنا بوادي الجزع في موقف النوى ... يبدد منا لؤلؤ الدمع لابث وما فضل جمع جره لوعة الأسى ... وللشهد مر وهو للحتف باعث لئن حل عهداً قد عقدناه ذو هوى ... فإني على عهد الأحبة ماكث وقال موشحاً في سما الأفراح بدر السعد لاح ... فاجل شمس الراح واترك قول لاح قد وفى وصل الصفا فصل الربيع شاكراً فضل الأيادي للربيع وغدا يبدي مقامات البديع عندليب في فروع الدمع صاح ... داعياً سكران حب غير صاح وزهت بالحسن للورد خدود قد حلا فيها لعشاق ورود والحيا قد حاك للروض برود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 نسجها قد كان من غزل الرياح ... فلذا تكسو الفتى ثوب ارتياح وبدا غصن عيون النرجس بقدود في رياض السندس كالعذارى برزت في الأطلس وحلا مبتسماً ثغر الأقاح ... بثنايا الغادة الخود الرداح وجلا الريحان آيات العذار لرشا يحلو به خلع العذار وانجلى عن جل ناري الجلنار حين أبدى وجنة الغيد الصباح ... رمقتها أعين منا وقاح حبذا العيش بأيام الصبا وزمان فيه قلبي قد صبا حيث تروي لي نسيمات الصبا خبر الإسعاد عن ذات الوشاح ... من لها قلبي حماه مستباح غادة تنشىء من غمز الجفون كل عشق إن تقل كن فيكون كم أفاضت من عيون بعيون صافحت أهل التصابي بالصفاح ... وعليهم شرعت سمر الرماح نشرت فرعاً غدا أصل الغرام فوق جيد فكسا الصبح ظلام وغدت ترسل للصب سهام من جفون أثخنت قلبي جراح ... لا ترى في قتل مضناها جناح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 جعل الصب لعينيها النسيب بمعادن دونها يعنو حبيب وأتى يبدع أسلوباً عجيب بلآل جوهريات صحاح ... لزفاف في سما الإقبال لاح وهو طويل قد جعله تهنئة بزفاف لبعض أحبابه رحمه الله. وقال أيضاً هذا الموشح الآتي داخلاً به على أعجاز نونية الوزير ابن زيدون التي كتب بها لولادة بنت المستكفي وقد كتب بها للقاضي الشريف أجرى مآقينا بعد المحبينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا يا طيب أوقاتي ... بسفح نعمان إذ نلت لذاتي ... بوصل نعمان يدري كاساتي ... روحي وريحاني فالآن لما بان يزرى غصون البان ... أضحى التنائي بديلاً من تدانينا يا جيرة البان ... جرتم ودمعي جار هجرت أوطاني ... ولم أنل أوطار والبعد أشجاني ... وطير أنسي طار وما رقت أجفان، بعد الحمى والبان ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا أحبابنا عودوا ... لذلك الحب كي يورق العود ... بالأنس والقرب وباللقا عودوا ... مروع القلب واسقوا غصون الود، بالعطف بعد الصد ... فنحن روض وأيديكم سواقينا يا طالما أبدى ... لي المنى الخل وأسعدت سعدي ... وأجملت جمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وراق لي وردي ... يوم اللقا الوصل حيث الهنا واف، وظله ضاف ... ومورد اللهو صاف من تصافينا أيام عيشي راق ... بقرب ذات الخال وقرطها الخفاق ... يدنو من الخلخال ولي بكشف الساق ... قد ساقت الآمال فبعدها قد كاد، مما لنا قد كاد ... يقضي علينا الأسى لولا تآسينا خود وفت وعدي ... باللطف والإيناس وأسعدت جدي ... بعطفها المياس وخدها الوردي ... ببوسه لاباس أنعم به خداً، لصبه أهدى ... ورداً جناه الصبا غضا ونسرينا قد زاد وسواسي ... بالحلي في الصدر وهمت للكاس ... من ثغرها الدر وليس لي آسي ... سواه من ضر لذا رجا قلبي، من ورده العذب ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا يا بانة الوادي ... هل عائد أنسي وعهد إسعادي ... بالبدر والشمس وأنجم النادي ... يسعون بالكاس ومنية العشاق، أدار وهو الساق ... فينا الشمول وغنانا مغنينا ذكرت أيامي ... بقرب ذي المجد شريف السامي ... بدر العلا رشدي مولى بإلهامي ... يعيد ما يبدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من أن وصفناه، بما مدحناه ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا شهم لنا أولى ... عوائد البر ولم يزل أولى ... بالحمد والشكر وزادني طولى ... برفعة القدر وأغصن المن، أدنى لمن يجني ... قطوفها فجنينا منه ماشينا مع بعده وفى ... عهدي وأولاني والود لي أصفى ... فضلاً ووالاني وزادني عرفاً ... من بعد نكران فإن يكن قد دان، قلبي لذا الإحسان ... فالحر من دان انصافاً كما دينا مولى أياديه ... جيد العلى حلت كما مساعيه ... عقد الأسى حلت ومن يوافيه ... له المنى حلت لقد خطرنا بما أسدى لنا كرماً ... في وشى نعمى سجناً ذيله حينا حيث الصفا حيا ... بما نرجيه وقد غدا حيا ... ميت الرجا فيه وكم دعا هيا ... داعي أمانيه لذاك قد نلنا منه بما منا ... منى ضروباً ولذات أفانينا واشوقي البادي ... لطيب ناديه إذ بالمنى نادي ... لمن يناديه من بعد إبعادي ... عن ورد صافيه بدلت بالبلوى عن جنة المأوى ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا يا من على الشعرى ... به علا شعري وبالوفا أجرى ... لطفاً بلا أجر وللعلى أسرى ... بي مطلقاً أسري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هيهات أن ننسى من بعدكم درساً ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا أوقات شربي صاف ... من وردك الحالي وبدر أنس طاف ... بكأس آمالي وغاظ بالأتحاف ... مرآك عذالي لذا دعوا جهراً بمهجة حرا ... بأن نغص وقال الدهر آمينا فحالت الأحوال ... عن ذلك العهد وقطعت آمال ... معذب الصد وعز لمع الآل ... ظمآن للورد وأوجه القصد عادت من البعد ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا وقال من قصيدة خطرت لأعطاف المحاسن ثانيه ... هيفاء للشمس المنيرة ثانيه ورمت سهاماً عن قسي حواجب ... منعت مراميها بلوغ مراميه وهوت معاطفها تميل مع الهوى ... واحر أحشائي بنار الهاويه السيد الشيخ إبراهيم البرزنجي الكردي بقية أبناء البتول، ونهاية القصد والسول، المحرر لمعاني المعقول، والمحبر لمباني المنقول، من صرف همته فيما تحمد عقباه، وعرف الحق فاتبعه واجتباه، وإن هذا المترجم يكفيه شرفاً أنه على نسق أبيه، وأن أباه معلوم بأنه سيد شريف عالم عامل فاضل نبيه، وأنهما من بيت العز والشرف، الذي ينحط لعلوه البدر وهو في الشرف، فلا ريب أنه توطد في وهاد الفخار، وغرد صادح فضله مهيمناً بما تحلى به من الفضل والمقدار، فحسبه أظهر من عمود الصبح نوراً، ونسبه أشهر من الشمس ظهوراً، وأهله أهل جود وكرم، وأصله ممن نسب إليهم سموا الهمم، كلهم ذوو فصاحة وبراعة وبلاغة وبداعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 من أناس سموا على ذروة النجم ... فخاراً بأحمد وعلي ورثوا المصطفى فخاراً فهل من ... شرف مثل ما سموه علي روى عنه من أبناء العصر الجم وكمل به فن المعقول والمنقول وتم، وما زال مهاباً معظماً موقراً مكرماً، مقصوداً لكل إشكال معدوداً من أعيان ذوي الكمال، في كل يوم يسمو مقامه، وينمو احترامه، إلى أن دعاه داعي السعود، إلى الإجابة لدار الخلود، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين من هجرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. السيد إبراهيم مفتي البصرة بن السيد بدر الدين بن السيد مبارك ابن السيد صالح بن السيد رجب بن السيد شعبان بن السيد محمد درويش ابن السيد صالح بن السيد عبد الله بن السيد عبد الرحمن بن السيد حسن ابن السيد حسين بن السيد يوسف بن السيد رجب بن السيد القطب الجليل شمس الدين محمد سبط الحضرة الرفاعية رضي الله عنهم. إن هذا المترجم من رجال تنوير الأبصار، في طبقات السادة الرفاعية الأخيار. فقال في ترجمته، وإظهار منقبته: ولد بالبصرة ونشأ ببيت أبيه وسيده ومربيه، ورضع ثدي الكمال، وتلقى العلم عن فحول الرجال، وأتقن علوم الشريعة وعده أرباب العرفان من حسنان الزمان، لبس الخرقة الرفاعية من أبيه، السيد بدر الدين الرفاعي وانتشرت على يديه، أخذ عنه الأفاضل، وولي نقابة الأشراف بالبصرة برهة يسيرة ثم وجهت عليه خدمة الإفتاء بها وبقي مفتياً حتى مات بها. وقد كان معتقداً مبجلاً محترماً ذا شأن كبير، وقدر خطير، وله تصانيف وتآليف جليلة أشار إليها المرحوم شاعر العراق السيد عبد الغفار الأخرس في بعض قصائده التي امتدحه بها وقد أكثر من مدائحه، وأشار إلى ما أحسن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إليه به من منائحه، منه ما قاله من قصيدة فيه لا زالت سحب الرحمة توافيه: قريب من رسول الله يدعى ... بأزكى العالمين أباً وأما نماه الأنجبون وكل قرم ... إلى خير الورى يعزى وينمى تخلق من سنا نور مبين ... فكان الجوهر النبوي جسما ومنها تأمل في عظيم من قريش ... تجد أسد الشرى والبدر ثما عليه من رسول الله نور ... به يمحو الظلام المدلهما إذا الأمر المهم دها كفانا ... بدعوته لنا ما قد أهما وله فيه من قصيدة أخرى ولي في البصرة الفيحاء قوم ... أصول بهم على الخطب الجسيم جرى من صدر إبراهيم فيها ... على الدنيا ينابيع العلوم ومنها إذا عدت قروم بني معد ... فأول من يعد من القروم عماد الدين قام اليوم فينا ... بأمر الله والدين القويم وفرع من رسول الله دلت ... أطايبه على طيب الأروم ومنها لقد كرمت له خيم وجلت ... وخيم الأكرمين أجل خيم وهل في السادة الأنجاب إلا ... كريم قد تفرع من كريم ومدايحه كثيرة ومناقبه شهيرة، وقد كان من أكابر القوم أهل الباطن والظاهر، ومن أشراف السادة الأحمدية الذين توارثوا مكارم أبي العلمين كابراً عن كابر، توفي المترجم المرقوم بعد الخمسين والمائتين والألف بالبصرة ودفن بها وقبره معروف. انتهى ولعمري إن فقده مصيبة عظيمة وداهية جسيمة فهو كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 من بعده تلك الدروس تعطلت ... يبكي لها قلبي ويبكي المنبر قد كان فخراً للأنام ومفتياً ... يفتي بحق الله هذا الأنور فالصبر منا قد تمزق ثوبه ... من أين للصب المعنى يصبر غدر الزمان بنا بإبراهيمنا ... هذي على كل المصائب تكبر إبراهيم الداغستاني كان من مشاهير العلماء، وأفاضل السادة الفضلاء، نشأ على العلم والتقوى، والإخلاص في السر وفي النجوى، والعبادة والصلاح، والسير على نهج الاستقامة والنجاح، ولم تزل الأيام تمنحه مطلوبه، وتحبوه مراده ومرغوبه، إلى أن أجلسته يد العناية، واقعدته سواعد الرعاية، على مرتبة التدريس في جامع السلطان محمد الفاتح ذي المقام النفيس، فكان يبذل مجهوده في إبداء اللطائف. ونشر العلوم والمعارف، ثم تولى القضاء في حلب والشام، ثم بعد ذلك تولى قضاء البيت الحرام، ولما طعن في السن وضعف بصره لزم داره، وجعل العبادة مراده ومداره، وفي شهر محرم سنة ألف ومائتين وتسع هجرية، وجهت إليه رتبة صدارة روم ايلي التي هي أعلى رتبة علمية، وفي ثمانية عشر جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وعشر توفي إلى رحمة الله، أعلى الله مقامه وأولاه مناه آمين. السيد إبراهيم بن قاسم بن محمد بن محمد بن علي الحسني الرويدي المكنى بأبي الفتح أديب كامل، قد اشتهر بين الأفاضل بالفضائل، وحسن بين الناس ذكره، وعلا مقامه وقدره، قال الإمام الجبرتي: ولد بمصر كما أخبر هو عن نفسه سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وكان فريداً بالأدب والجمال والكمال والظرف واللطف، حفظ القرآن المجيد، وأتقنه على أتم تجويد، ومهر بحسن الكتابة والخط، حتى كاد أن يقال لا يوجد من يساويه في مصره قط، وكتب بخطه الفائق الحسن الخالي عن المماثل، كثيراً من المصاحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والأحزاب والأدعية والقطع والدلائل، وكان إنساناً حسناً يحفظ كثيراً من نوادر الأشعار، وغرائب الحكايات والأخبار، وعجائب المناسبات على أتم مطلوب، وروايتها على أحسن أسلوب مرغوب، والحاصل أنه كان فريداً، وفي كماله وحيداً، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين وألف. الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمود بن الشهاب أحمد العطار الدمشقي الشافعي عالم جليل، وفاضل نبيل، شهير الذكر، كبير القدر، من بقية المشايخ الأقدمين، الناهجين على طراز كمل الصالحين، له محاضرة لطيفة، ومذاكرة ظريفة، وتواضع بين، وجانب لين، ولد بدمشق عام اثنين وثلاثين ومائتين وألف تقريباً ونشأ بها، وقرأ على مشاهير مشايخها، منهم عمه الشيخ حامد العطار والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الطيبي والعلامة عمر أفندي الآمدي وملا بكر الكردي وغيرهم، وأخبرني رحمه الله أنه قرأ على والدي المرحوم الأربعين حديثاً النواوية دراية في مجالس متعددة واستجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه فأجازه وكتب له بخطه، وكان ناسوته يشهد بكماله، ولا التفات لما نسبه غليه بعض حساده، وأعدائه وأضداده، وقد تصدر للإقراء والإفادة في جامع بني أمية، وعكف عليه من الطلبة كثيرون، وكان ينظم الشعر أحياناً، ويؤثر الإنزواء عن غير محافل الفضلاء، ولم يزل على حالة حسنة وصفة مستحسنة، إلى أن توفي سلخ شعبان سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى. السيد إبراهيم بن السيد محمد بن السيد عبد الله ابن الولي الكبير السيد أحمد الراوي الرفاعي قد ترجمه أحمد عزت باشا بن محمود أفندي بن سليمان أفندي الفاروقي رحمه الله فقال: هو الشاب التقي النقي اللوذعي، ولد براوه بعد السبعين ومائتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وألف، ونشأ في حجر أبيه وتلقى عنه العلوم وتفقه في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ورحل لطلب العلم إلى الموصل وإلى بغداد، وأحرز سهماً من الكمال. إلى آخر ما ترجمه به وقد ذكر له قصيدة مدح بها الشهم الأوحد والقطب الغوث المفرد السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره وأعلى قدره وجعل في الجنان مقره فقال: يا أخا السير إن أردت وصالا ... ووصولاً إلى العلا واتصالا بفسيح الوادي المقدس فاترك ... زمرة الحائرين واخلع نعالا وتذلل واسلك طريق الرفاعي ... من كساه الرسول قالاً وحالا ولديه الوفود كم قد أقالت ... عثرات وخففت أثقالا وهو مأوى القفول في كل عصر ... كم جلا عن قلوبها أقفالا وهو ليث الوغى وغيث البرايا ... منه تسقي قلوبها الآمالا وهو السيل إن أردت علوماً ... وهو السيف إن أردت قتالا وهو باب النبي لاثم يمنا ... هـ جهاراً وقد تجلى تعالى حين أبدى محمد معجزات ... معجزات لأحمد إجلالا كيف لا وهو شبله وكذا الآ ... باء تعلو إن أنجبت أشبالا وكذا الآل بالفضائل تسمو ... هكذا هكذا وإلا فلا لا يا ابن بنت الرسول يا ابن علي ... من بعزم صم القلوب أسالا يوم بدر وخيبر وحنين ... وتبوك كم للضلال أزالا يا رفيع المقام يابن الرفاعي ... طبت نهجاً وبهجة وجمالا رضي الله عنك يا سيد القو ... م الذي جل هيبة وجلالا يا حمى الأولياء يا مقتداهم ... يا مجير الجاني إذا الذنب صالا جد لعان بنظرة وتلطف ... لعبيد ما عنكمو قط مالا بحماكم قد لاذ راوي أحادي ... ث علاكم مفصلات طوالا كم لكم من مآثر وصفات ... قد تجلت للناس سحراً حلالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 لو أردنا إيرادها بمقال ... لرأينا تفصيلها إجمالا آل طه لا زال في الكون منكم ... كل آن يرى الزمان رجالا علماء أئمة أمراء ... أولياء وسادة أبطالا شكر الله سيركم والمساعي ... ومقالاً وسيرة وفعالا الشيخ إبراهيم أبو إسحاق بن عبد القادر الرياحي المغربي التونسي شيخ الإسلام وعمدة العلماء الأعلام بمدينة تونس عالم الغرب ومفتيه، وشاعره المتقدم على المتنبي وابن النبيه، فهو علامة الدهر وفاضله، وفهامته الذي تعالت شمائله، قد شهد بفضله عدول السند وروى عن علمه كل عالم معتقد، ونشرت صحف نداه فطويت صحف حاتم طي، ورفعت رايات علاه فأذكرتنا بمعالي أبي، فلله ما أبدع بيانه، وأرفع قدره في الأنام وشأنه، وأعذب نظامه ونثره وأطرب سجعه وشعره، ومن جملة شعره قصيدته التي قدمها تهنئة لحضرة السلطان عبد الرحمن بن هشام حينما جلس على تخت السلطنة في فاس بوصية من عمه السلطان سليمان فقال: نصر من الرحمن جل لعبده ... أيروم خلق نقض مبرم وعده وعدت به الأقدار وهي نوافذ ... في الشاكرين له سوابغ رفده فليبتسم ثغر الهنا مستبشراً ... فالوقت ينطق عن سعادة جده إن يمض مولانا سليمان الرضي ... وعليه تبكي الباكيات لفقده العلم والتقوى وكل فضيلة ... منشورة طويت به في لحده فلقد أقام لنا أبا زيد هدى ... نوراً مبيناً يستضاء برشده لو لم يكن كفؤاً لما أوصى به ... وبنوه ترفل في ملابس مجده سعدت به الأيام ثم أراد أن ... تبقى السعادة للورى من بعده أعظم به نصراً يدوم سروره ... للخافقين سرى تضوع زنده أهدى إلى الأعداء أقتل غصة ... والأوليا متنعمون بشهده فاستبشروا باليمن من مرضاته ... واستمطروا نيل المنى من وده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ما هو إلا ابن الرسول وهل فتى ... في الناس يعدل عن مكارم جده وتناسقت أسلافه كرماً كما ... راق النواظر لؤلؤ في عقده لا غرو أن جمع المحاسن كلها ... منهم بإرث الجمع حق لفرده لا يأفك الخراص حيث يقول قد ... ذهب الزمان بعمره وبزيده فبسيف ما ننسخ يقد أديمه ... حتى ولو وفى العيان برده فلكم وكم من آخر زمناً له ... فضل عظيم لا يحاط بسرده يا أهل فاس والمغارب كلها ... والشرق من مصر لغاية حده يهنيكم هذا الزمان فإن في ... أيامه للدين مطلع سعده والعلم والتقوى وكل معظم ... عند الشريعة فهو بالغ قصده النور أوقد منهم أتراهم ... يرضون إلا باستدامة وقده الله يبقي نوره متوقداً ... يفنى الزمان ولا فناء لخلده ويخص مولانا الأمير بنعمة ... لا تنقضي وعناية من عنده ويديمه ظلاً ظليلاً كلما ... حمي الورى هرعوا لجنة برده وحسام فتح كلما نهضت به ... عزماته فالنصر شاهد حده وتمام بدر كلما اقتعد السرى ... لم يسر إلا في منازل سعده وعليه تسليم تأرج نده ... لكنه في الفضل عادم نده ثم الصلاة على النبي وآله ... والحمد في بدء الكلام وعوده وللمترجم أشعار كثيرة وآثار غزيرة وتحقيقات شريفة وتدقيقات منيفة، ولم يزل يصعد على سلم السمو ويترقى على معراج العلو إلى أن دعاه داعي المنية إلى الآخرة العلية وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أبو المواهب بن حسين بن سليم بن سلامة الدجاني مفتي يافا عالم قد زان علمه العمل، وناظم قرت بحسن نظمه المقل، حديثه أعذب من الماء الزلال، ونثره ألذ من الوصال بعد الدلال، قد قرأ في الجامع الأزهر إلى أن حصل له الحظ الأوفر، وأجازه شيوخه بما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، من حديث وتفسير وفقه وتوحيد وأصول، وغير ذلك من نحو وصرف ومعقول ومنقول، ثم بعد حصوله على غاية سؤله، رجع إلى بلده وأهله، ونزل في دار العالم الفاضل والمرشد الكامل بغية الأماني الشيخ أبي رباح الدجاني، ولما قصدت زيارة بيت المقدس سنة ألف ومائتين وتسعين نزلنا في دار الشيخ أبي رباح، واجتمعنا بالمترجم المذكور فأدخل علينا غاية البشر والانشراح، وكان يقرط آذاننا بلآلىء كلامه ودرر نثره ونظامه، وأسمعنا قصيدته التي مدح بها حضرة أبي رباح المومى إليه وهي هذه: إلام بربة الخلخال صاح ... فؤادك في المحبة غير صاح وتنثر عقد دمعك ذا انتظام ... أكان الطل أم زهر الأقاح وتخلع في العذارى ثوب نسك ... أليس عليك في ذا من جناح بروحي غادة رشفات فيها ... ودر حديثها نقلي وراحي تميل بعادل الأعطاف تيهاً ... فتهزأ بالغصون وبالرماح كست جسمي السقام وما كفاها ... إلى أن أوسعته من الجراح بطيف خيالها ضنت فجادت ... كرائم أدمعي بعد الشحاح رأت حل الوصال بها حراماً ... وسفك دم المحب من المباح لأسمر قدها هزت وصالت ... ببيض لحاظها المرضي الصحاح فدعني عاذلي واعذر محباً ... وحق الحب لا يصغي للاح يخوض معارك الظلماء فرداً ... يسامر ساهر النجم اللياح ومن عشق الصباح عليه هانت ... مراقبة النجوم إلى الصباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يميناً بالهوى العذري لعذري ... بها بين البرية ذو اتضاح فقد كملت صفات الحسن فيها ... كما كملت صفات أبي رباح إمام قد سما هام الثريا ... ونال من العلا أعلى القداح إلى قصب المكارم حاز سبقاً ... وجارى الغيث في بذل السماح وبحر نهل مورده فرات ... جرت بعبابه سفن النجاح بروض المجد قد غرست يداه ... غصون الفضل بادية الصلاح يراع يمينه في الخطب أمضى ... إذا ما خط من بيض الصفاح وركن الملة البيضاء أعلى ... بنور هداه في كل النواحي حمى بسنان همته حماها ... فليس حريمها بالمستباح وليس لحاسد يبغي مداه ... بمعراج المكارم من طماح لحي حله يمم لتحظى ... بما أملته حسب اقتراح فيا لله من حي تسامى ... ينادي الوفد حي على الفلاح فيا مولى المعارف كل مولى ... تراه لديك مخفوض الجناح إليك الفكر قد أهدى عروساً ... سمت بنطاقها ذات الوشاح لها المهر القبول وليت شعري ... أهل يرجى لذلك من نجاح فمعذرة لمن أمسى غريباً ... يكاد يغص بالماء القراح إذا ابتسمت بروق الشام يوماً ... فيملأ أرض مصر بالنواح مقيم جسمه فيها ولكن ... له قلب بهاتيك البطاح بقيت بأوج مجدك ما تغنت ... بروض الشكر أطيار امتداح وله نظم كثير رقيق ونثر بكل مدح حقيق، وتأليفات لطيفة وتحقيقات شريفة، ومفاكهات حسنة وإدراكات مستحسنة، وبعد موت أخيه الكبير آل الإفتاء منه إليه وإنه لا يليق أن يكون مستنداً في استحقاقه إلا عليه، ولم يزل ذا سيرة حميدة وشهرة بديعة فريدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الشيخ أبو رباح السيد عبد القادر الدجاني اليافي الدردير عالم في علمه لا يجارى، وعامل في عمله لا يبارى، معروف بالفضل والكرم وموصوف بين الأكارم بالوصف الأتم، بيته لكل قاصد معروض وإطعام الوافدين وإكرامهم كأنه عليه مفروض، لا يرد وارداً ولا يمنع من الزائرين قاصداً، كأن أبا تمام قال بحقه هذه الأبيات العظام: هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله جواد إذا ما جئت للجود طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله مع عفة وديانة وعبادة وصيانة وصيام وقيام وطاعة على كمال الانتظام؛ وإذا رأيته رأيت شهماً ذا هيبة ووقار وهيئة حسنة قد جللتها الأنوار، تهابه النفوس قبل أن تعرفه وتصفه بالكمال قبل أن تستوصفه، فلا ريب أنه في زمنه فريد مصره بل فريد أوانه وعصره، وكل من عرفه أقر له بذلك واعترف، وعلمه أنه من خلاصة ذوي المجد والنسب والشرف، وقد جاور في أول أمره في الجامع الأزهر والمحل الأعلى الأنور، وأخذ عن السادة الأفاضل ذوي الشمائل والفضائل كالشيخ الباجوري والشيخ السقا والشيخ الأشموني والشيخ الخضري والشيخ عليش وغيرهم، وقد أخذ عن الشيخ حسين الدجاني مفتي يافا وعن الجسر شيخ سجادة الطريقة الصاوية. وله كرامات عجيبة وخوارق غريبة. وكنت زرته ونزلت في داره حينما توجهت لزيارة بيت المقدس، فرأيت رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا، ذا أوصاف علية وأخلاق نبوية، وكأن لسان حاله يخاطب من حل لديه: ليس للشيخ منة عليك بل منتك عليه، وفي يوم من الأيام بعد صلاة الفجر رأيته يريد الذهاب على خلاف عادته، فسألته عن ذلك فقال إني في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هذه الليلة رأيت القطب عبد القادر الجيلاني فسلم علي ورحب بي، ثم قال استقبل ضيوفي فإنهم في الصباح يردون عليك من صبحه، فأنا خارج لاستقبالهم وانصرف ثم عند الزوال جاء الوابور ومعه جماعة من الهنديين القادرين فجاء بهم جميعاً إلى داره، وقال لي قد وصل بحمد الله ضيوف الأستاذ وكان يقوم بخدمتهم بنفسه ما وكلهم إلى أحد من خدمه، وكان يقدم لكل واحد منهم ما يشتهيه من طعام وشراب ودواء على حسب حاجتهم، وهذا أمر نادر لا يقدر عليه في الناس إلا السادة الأكابر، ومع ذلك هو مقصود للسؤال والجواب، وإقراء الطلاب، ولم يزل مقامه يعلو واحترامه يسمو، إلى أن دعاه داعي المنية، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين. الشريف السيد الأستاذ أبو الهدى بن السيد حسن وادي بن السيد خزام ابن السيد علي الخزام بن السيد حسين برهان الدين الرفاعي الخالدي الصيادي قطب مدار الفضائل، ومجمع أسنى الشمائل، مصباح ذوي العرفان، ومفتاح غيب كعبة الوجدان، الحسيب الذي علا حسبه ذروة العلا، والنسيب الذي اشتهر نسبه بين الملا، من سراة لهم السر الأعلى، وحماة لهم القدر الأجلى، وأفاضل استوى فضلهم على عرش الكمال، وأماثل قد طار ذكرهم في الآفاق وجال كل مجال، وطاول شرفهم الحمل والميزان، وحاول الترقي إلى ذروة اليمن والإيمان، وهو ممن تأثل مجده في بحبوحة ذلك الشرف، وتبوأ من السيادة أسنى الغرف، مرتوية أفياؤه بماء النبوة، متأرجة أرجاؤه بعبير الفتوة، مع مهارة في العلوم، ومحاضرة فاض فيضها من فضل سيبه الموسوم، وأخلاق تألق جمالها الوضاح، وأوصاف تأنق عبير روضها الفواح، وأدب تردى بالبراعة وتوشح، وشعر ترنح للقبول وترشح، وحسن تلاعب بأطراف الكلام، وتناسب فيما تنشره ألسنة الأقلام، وجمال ألبسه الكمال إهابه، وجلال لو رآه الغضنفر الكاسر في غابه هابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فطن له علم يفيض ومنسب ... من ضرعه در النبوة يرشح فرع زكا من دوحة الشرف التي ... من فوقها ورق السيادة تصدح هذا ملخص نسخة السادات من ... يثني عليه كأنما هو يقدح انظر جميع خصاله وفعاله ... فجميعها عبر لمن يتصفح عجباً لقوم يكفرون بها ولو ... عقلوا وما عقلوا الصواب لسبحوا يحق لعصره به الفخار، ولمصره أن يتيه به على سائر الأمصار، فهو إمام الكل في الكل، لو حاول اللسان حصر أوصافه لعجز وكل، كيف لا وهو إمام وابن إمام، وهمام وابن همام، وهلم جراً لا تقف عند حد، حتى تنتهي إلى أشرف جد، فليس في نسبه إلا ذ فضل وحلم، حتى تقف على باب مدينة العلم، وهذا فرع طابق أصله، ومتأخر ولكن فاق من قبله، طلع في جبهة الدهر غرة، فكان للعيون مسرة وقرة، وما قارن هلاله إبداره، حتى أحاطت به العلا داره، فلا غرو إن ألقت إليه الرياسة قيادها، وجعلت إليه السيادة استنادها، فأصبح ومرتبته العليا، وعبده الزمان وأمته الدنيا، ولله دره من عالم بهرت حجته، وبحر زخرت لجته، فقذف لؤلؤاً ودرا، وعم الأنام إحساناً وبرا، وناهيك به من ذي منطق فصل، وفضل قد تأثل في الزيادة والوصل، ولما ضاع أرج ذكره نشرا، وتهلل محيا الوجود بسناه بشرا، وانتشر صيته انتشار الصباح، وتعطرت بعبير ثناه الفيافي والبطاح، وعشقت أوصافه الأسماع، وأسرع إليه طلاب المعالي للأخذ والسماع، دعاه مولانا السلطان، الغازي عبد الحميد خان، إلى حضرته العالية الشريفة، واستبقاه في بحبوحة نعمته المنيفة، ونظر إليه بعين عنايته، وأسبل عليه ستر رعايته، فهناك امتد في الدنيا باعه، وعمرت بكمال الإقبال عليه رباعه، وقصده الغادي والرائح، وخدمته القرائح بالمدائح: هذا الهمام ابن الهمام أبو الهدى ... كنز الندى نجل النبي المجتبى هذا وحيد الدهر قطب أولي العلا ... شمس الملا شرقاً بدت أو مغربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ألف الندى ورأى السخاء فريضة ... فاعتاد بذل المال من زمن الصبا إن تدن آمل بره ونواله ... لاقاك بالوجه البشوش ورحبا ذا البحر إن يممته تظفر بما ... أملته جرب ترى صدق النبا قد قر في عرش الكمال سموه ... فلذا تراه على البرية كوكبا من آل بيت قد علت أركانه ... وله العلا قد قال أهلاً مرحبا أبقاه ربي للأنام مدى المدى ... ما أشرقت شمس وما هبت صبا هذا وإني بحمد الله قد اجتمعت بهذا المترجم الفريد، حينما تشرفت به دمشق الشام وكان قد قصدها على قدم السياحة والتجريد، مريداً بعد زيارة ساداتها زيارة أقربائه بني الصياد، فحصل لي بالاجتماع بحضرته غاية المنى والإسعاد، غير أن الحصة كانت قصيرة، وكانت المذاكرة بيننا يسيرة، فلم تحصل المعرفة المقتضية للتذكار، وعلى كل حال فإني أعدّها من النعم الكبار، وقد وعيت من بديع محاضرته ما أدهش، ورويت من أحاديث شعره ما أطرب وأنعش، وكان كثيراً ما ترد عليه أحوال، دالة على استشرافه على مقام الكمال، وإني لأرجو من واهب العطية، أن يمتع بصري برؤية حضرته على أحسن حال قبل حلول المنية، إنه كريم وهاب، إذا دعاه العبد أجاب، ثم إنني أيام رقمي لهذا التاريخ طلبت من حضرة المترجم ترجمته بالمراسلة، لتكون لكتابي حلية لطيفة ولذاتي من جملة المواصلة، فأرسل لي حفظه الله من تأليفاته الشريفة جملة ومنها كتابه المسمى بقلائد الزبرجد، على حكم مولانا الغوث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الشريف الرفاعي أحمد، مذيلاً هذا الكتاب بترجمة هذا الأستاذ، والعمدة الشهم الملاذ، وهذه الترجمة من إنشاء العالم الفاضل، والجهبذ السميدع الكامل، السيد محمد بن السيد عمر الحريري الرفاعي شيخ السجادة الرفاعية، في مدينة حماة المحمية، فنقلتها بحروفها من غير تغيير ولا تبديل، كما هي مرقومة لتكون نسبتها إلى حضرة منشيها باقية ومعلومة، فقال بعد خطبة دخل بها على المرام، وقد حذفتها لاقتضاء المقام، هو العالم المحقق والفاضل المدقق، شيخ الطريقة، وكشاف كل حقيقة، فرع الزاوية الهاشمية، ويتيمة قلادة السادة الأحمدية، مجدد طريقة جده أبي العلمين، وناشر أعلام فضله في المغربين والمشرقين، المالك زمام الفضائل والمعالي في كل نادي، صاحب السماحة والسيادة السيد الشيخ محمد أبو الهدى أفندي ابن شيخ المقام العالي الصيادي، العارف الكبير، الهمام الشهير السيد الشيخ حسن وادي، بن السيد علي بن السيد خزام، بن السيد الشيخ علي الخزام، دفين حيش الولي المقدام، ابن الولي العارف العالم المرشد الكامل السيد الشيخ حسين برهان الدين، بن السيد عبد العلام، بن السيد عبد الله شهاب الدين المبارك الزبيدي البصري الرفاعي، بن السيد محمد الصوفي، ابن السيد محمد برهان، بن السيد حسن الغواص، بن السيد الحاج محمد شاه، بن السيد محمد خزام دفين الموصل، بن السيد نور الدين، بن السيد عبد الواحد، بن السيد محمود الأسمر، بن السيد حسين العراقي، ابن السيد إبراهيم العربي، بن السيد محمود، بن السيد عبد الرحمن شمس الدين ابن السيد عبد الله قاسم نجم الدين المبارك، بن السيد محمد خزام السليم، ابن السيد شمس الدين عبد الكريم، بن السيد صالح عبد الرزاق، بن السيد شمس الدين محمد، بن السيد صدر الدين علي، بن القطب الجواد السيد عز الدين أحمد الصياد، بن السيد ممهد الدولة والدين عبد الرحيم الرفاعي، بن الإمام ولي الرحمن السيد عثمان، بن السيد حسن، بن السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عسله، بن السيد الحازم، بن السيد أحمد، بن السيد علي مكي، بن السيد رفاعه، ويقال له الحسن نزيل المغرب، بن السيد المهدي، بن السيد أبي القاسم محمد، بن السيد الحسن، بن السيد الحسين، بن السيد أحمد، بن السيد موسى الثاني، بن السيد إبراهيم المرتضى، بن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد الباقر، بن الإمام زين العابدين علي الأصغر السجاد، بن الإمام الهمام علم الإسلام عين أئمة الأعلام، سبط الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي امتحن بأناع البلاء أمير المؤمنين مولانا أبي عبد الله الحسين الشهيد بكربلا، ابن إمام الأئمة وأمير نحل هذه الأمة سيد الأولياء، وقائد أزمة الأصفياء، أمير المؤمنين مولانا الإمام علي رزقه من زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين بنت سيد المخلوقين عليه أفضل صلوات رب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. ولد حفظه الله وحماه سنة ألف ومائتين وست وستين لثلاثة أيام خلت من شهر رمضان المبارك بشيخون من أعمال معرة النعمان، وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم شرع في الكتاب فمهر، وأخذ يتلقى العلوم العقلية والنقلية عن أفاضل الرجال الأعيان فأتقن وأحسن، ثم تشرف بلبس الخرقة والخلافة الرفاعية من يد والده المتقدم ذكره صاحب الأنفاس الزكية، وله إجازتان أيضاً بطريقتهم العلية الرفاعية الصيادية، الأولى من شيخه وابن عمه أحد مشاهير أولياء الله السيد الشيخ علي خير الله الرفاعي الصيادي شيخ المشايخ بحلب الشهباء، لبس منه الخرقة الرفاعية بإذن والده، وأقام عنده بحلب مدة ولا زال بعدها يتردد لزيارته في أغلب أوقاته، مستمداً فيوضات نفحاته، وصالح دعواته، حتى حاز بحمد الله منه على تمام رضاه، وآذنه بما لديه ففاز به محفوظاً بعناية الله، والثانية من حضرة شيخه الأجل الولي الأكمل، غوث زمانه وشيخ أهل عصره وأوانه، طاهر الأنفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 المستأنس بربه المستوحش من الناس، مولانا السيد الشيخ محمد بهاء الدين مهدي الشيوخي الصيادي الرواس، لبس منه الخرقة عام تشريفه بغداد دار السلام، وتمم السلوك على يديه، وأخذ عنه العلوم الشرعية والتصوفية، وحفظ جميع كلامه المنظوم بعد الوقوف على كنوز حقائقه الدرية، ورموز معاني دقائقه الخفية، ولما استوفى سلوكه في الطريقة، وملك زمام الكشف عن مضرات كل حقيقة، آذنه بالرجوع لوطنه ودياره لنشر الطريق المبارك وقال له يوم وداعه: دخلت لحاننا فاشطح وغني ... فأنت وحقنا عنا تنوب فعاد مصحوباً بالسلامة للديار الحلبية، وعمتها بسببه بركة الحضرة الرفاعية وبعد رجوعه ببرهة يسيرة، خطر دار السعادة مركز الخلافة الإسلامية، فنشر بها علم الطريقة العلية، وانتسب له أفاضل الناس، لعلمهم أن طريقه المبارك قام على أساس من العرفان والشرع وأي أساس، وعاد منها بنقابة أشراف جسر الشغور من أعمال حلب، فانعطفت له الأنظار والقلوب بحسن الطلب، ثم بعد برهة يسيرة ولي نقابة الأشراف بحلب الشهباء، وأقبل على تعظيمه واحترامه بها الفقهاء والفقراء، وفي هذه الأثناء لا زال يخطر اسلامبول المحروسة، ذات الأطلال المأنوسة، ويترقى في المراتب العلمية، ويعظم اشتهاره لدى رجال الدولة العلية، حتى بلغ أمره الخليفة المعظم ظل الله في العالم، وارث سرير خلافة سيد المخلوقين نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ناصر الشريعة الغراء، وناشر ألوية الطريقة السمحاء، خادم الحرمين الشريفين إمام المشرقين والمغربين، السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان، خلد الله خلافته بالتوفيق إلى آخر الدوران، آمين. فأحضره لديه، وعطف بكليته عليه، وقلده مشيخة المشايخ في دار الخلافة العلية، وألحقه إلى رتبة قضاء العسكر التي هي منتهى المراتب العلمية، ومع كل هذا ما برح منعكفاً على خدمة الطريق الشريف، مشتغلاً بفضل الله بإعلاء منار الشرع العالي بالتصنيف والتأليف، حتى ألف الكتب الجليلة الكثيرة، والرسائل الظريفة الوفيرة، وقد حرر أكثرها الطبع، بأحسن شكل وأجمل وضع، وها هي بحمد الله بأيدي المسلمين ينتفع بها العوام والخواص من الموحدين، لأنها مشحونة بالأصل الديني المتين، محفوظة مصونة من شبه أرباب الغلو في الدين، مرفوعة القواعد على أساس الكتاب والسنة السنية، رافعة أعلام المجد والمفخرة لعامة الملة الإسلامية، ولخاصة الفرقة الزكية الرفاعية، منها كتاب ضوء الشمس في قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وقلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، وسلسلة الإسعاد في تاريخ بني الصياد، وداعي الرشاد إلى سبيل الاتحاد، وهداية الساعي في سلوك طريقة الغوث الرفاعي، ورسالة في التواتر والفجر المنير في ورد شيخ الأولياء السيد أحمد الرفاعي الكبير، وديوانه الفيض المحمدي والمدد الأحمدي، وكتاب الصراط المستقيم في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم، والحقيقة المحمدية في شأن سيد البرية، والمدد النبوي في بيان حكم العهد العلوي، وروح الحكمة فيما يجب من الأخلاق على هذه الأمة، والمدنية الإسلامية في الحكمة الشرعية، وتطبيق حكم الطريقة العلية على أحكام الشريعة النبوية، وسياحة القلم في الحكم، والواعظ المعرب عن حقيقة المسلم المتأدب، والسهم الصائب لكبد من آذى أبا طالب، وتاريخ الخلفا وراث النبي المصطفى، والكوكب الزاهر في مناقب الغوث عبد القادر، والعناية الربانية في ملخص الطريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الرفاعية، وديوانه الثاني الجامع لأشتات درر غرر المعاني، وحضرة الإطلاق في مكارم الأخلاق، وقرة العين في مدح الإمام أبي العلمين، وطريق الصواب في الصلاة على النبي الأواب، وغير ذلك من المآثر التي سارت بها الركبان، وملأ شعاع فضلها النواحي والبلدان. وقد امتدحه البلغاء وأثنى عليه فضلاء الشعراء لما من الله به عليه من الأخلاق، الشاهدة له بصحة النسب المحمدي وطهارة الأعراق، منها: يا ساري البرق بل يا سائق السحب ... حي المنازل بين البان فالكثب أنخ هناك مطايا الغيث مثقلة ... من كل منهمر بالقطر منسكب وقف على الدار وسط الحي منتسباً ... لثغر ساكنها وافخر بذا النسب قرب لها خبري يا برق محتسباً ... فذاك والله عندي أفضل القرب واستعمل الرفق في التبليغ إن لها ... بقصتي طرباً ناهيك من طرب ما الدار يا برق في المعنى سوى صدف ... ودرة الخدر فيها منتهى أربي موهت بالدار والمعني ربتها ... كذكرنا الكأس والقصد ابنة العنب فاذكر لها عجباً من أمر مدنفها ... دان على البعد لم يحضر ولم يغب زفيره من أواز الوجد في صعد ... ودمعه من مجاري الخد في صبب عدمت من عذلوني في الهوى سفهاً ... وحاربوني أو ناديت واحربي ولو رأوا ما رأت عيني وكان لهم ... قلبي ولاموا لكان اللوم أجدر بي لكن أخالهم خشباً مسندة ... وهل يؤثر داعي الحب بالخشب عاشوا خليين من عشق يؤرقهم ... فطاب عيشهم وهماً ولم يطب يا عاذلي خل عذلي مشفقاً فلقد ... أخطأت والله في عذلي ولم تصب جسمي بدار اغترابي لا يفيق ولي ... قلب شجٍ عن دياري غير منقلب يا لهف قلبي على تلك الديار ويا ... شوقي إليها ويا وجدي ويا وصبي علمت أني إن لازمت تربتها ... لم أبرح الدهر في هم وفي ترب فاخترت فرقتها لا عن كراهتها ... ولا غراماً بسير الأينق النجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لكنما الهمم العليا روت خبراً ... العز مرتبط بالوجد والخبب فكان ذاك علينا موجباً سفراً ... لولا الأماني لم يندب ولم يجب لم أنس ما وجدت بالبيد أينقنا ... من الوجى ونفاد الماء والعشب والركب في سكرة هزته سورتها ... لا سكرة الراح لكن سكرة التعب في مهمه طامس الأعلام مشتبه ... سهل خلي من الحصباء والحصب يرى الدليل به حرباً لناظره ... لا يستغيث بغير الويل والحرب والليل ملقٍ خياماً من غياهبه ... قامت بلا عمد فيها ولا طنب حتى إذا احتبكت في الأرض ظلمته ... وأنجم الأفق في حجب من السحب حرنا فلما هتفنا باسم سيدنا ... أبي الهدى ضاء نور السبعة الشهب محمد خلف الصياد صفوته ... الهاشمي الرفاعي الفتى العربي أبو السراج أخو النورين حيدرة ... أجل عصبة طه وابنه العصبي الطاهر النسب ابن الطاهر النسب ... ابن الطاهر النسبين الطاهر النسب هادي الخليقة مهدي الطريقة ... كشاف الحقيقة جالي ظلمة الريب مجدد لربوع الفضل حين حكت ... نهى أعاديه من واه ومن خرب أنى ومن كل علمٍ حزن ثاكلة ... فما استراح إلى أن قال واطربي ذو فكرة فعلت بالمشكلات على ... جهابذ الدهر فعل النار بالحطب آراؤه أنجم في الخطب مشرقة ... وعقله لرحى التدبير كالقطب ترى بصيرته الأزمان حاضرة ... ما كان مقترباً أو غير مقترب وتشهد الكرة الأرضية اجتمعت ... كأنها وضعت للهو واللعب يا دولة اتخذت منه لها ولداً ... يهنيك خير أخ يهنيك خير أب يهنيك ذو الحزم والتدبير والأدب ... المطبوع والنسب المرفوع والحسب يهنيك مولى على الأعداء فكرته ... أشد من حملات الجحفل اللجب عقل ينوب عن الكشف الجلي وندى ... لله ما فعلت جدواه بالنوب أحرزت يا دولة الإسلام منه فتى ... ساد الورى وهو حاشاه الصغار صبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إن المقادير قد خطت يراعتها ... على محياه هذا سيد العرب من معشر أرفع الأشياخ منزلة ... إمام طفلهم يجثو على الركب صيد صناديد أشراف جهابذة ... نجب جحاجحة من سادة نجب آل الرسول خيار الناس قاطبة ... خلاصة الخلق طراً نخبة النخب لو نبأ الله بعد المصطفى أحداً ... لكان منهم لعمر الله ألف نبي شرف وعظم ومجد ما استطعت ولا ... تطلب لبكر القوافي غير مطلبي وإن حظيت بحبر من أئمتهم ... فامدحه محتسباً أو غير محتسب وخص منهم فتى الفتيان سيدهم ... شيخ المشايخ كهل الفضل والأدب أبا الهدى من إذا يممت ساحته ... أتاك معروفه عفواً بلا سبب هذي الأقاليم فاطلب من يماثله ... فيها ندى واحتكم إن فزت بالطلب شبه به البحر إن البحر يشبهه ... لكنه العذب مأمون من العطب وانسب إليه جميع المكرمات ولا ... تنسب إليه ادخار المال والنشب يرى رؤوس اليتامى إذ يقبلها ... أشهى له من خدود الخرد العرب أما العفاة فلو شاهدت قربهم ... منه لحققتهم من أقرب النسب أرضاه أن جيوش الحمد هاجمة ... عليه والمال من كفيه في هرب للجمع بين الدجا والصبح في قرن ... أدنى من الجمع بين الحمد والذهب شكراً لما نلته من صفو نعمته ... الحب والقرب والترتيب والرتب كم كربة أثقلت ظهري ففرجها ... بهمة سميت فراجة الكرب وكم أيادٍ له عندي مؤيدة ... لها دليلان من لحمي ومن عصبي مدحته عاجزاً عن درك غايته ... مع انتخابي القوافي خير منتخب وليس في العجز عن إدراكها عجب ... صفاته حصرتها من أعجب العجب يجوز صدقي وكذبي في سواه وإن ... أمدحه يوماً فمعصوم من الكذب أبا السراج وأنت المصقع اللسن ... الشهم البليغ إمام النظم والخطب خذ مدحة من لباب الشعر لو تليت ... في منتهى الشرق كان الغرب في طرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أقسمت لهي على الأعداء لو فهموا ... أشد وقعاً من الهندية القضب ودونك العيد فاستبشر بزورته ... أنالك الله فيه منتهى الأرب ومنها: إن شيخي أبا الهدى لحسام ... سله الله والرسول الإمام فهو بالله واثق خصام ... رجل لا تريعه الأيام وله عند كرها إقدام طود حلم من الزلازل ما ارتج ... وصبور على البلا قط ما لج ببيت عز كل الكمال له حج ... وإمام قامت به دولة المج د بطور به تباهى الإمام قرشي مهذب علوي ... هاشمي مقرب أريحي علم مفرد تقي نقي ... ونسيب وسيد أحمدي خالدي شهم كريم همام مرشد العصر بالجلال توشح ... وعن الرشد والهداية أوضح عارف عرب العلوم فأفصح ... كم له في الورى لعمرك من أح وال فضل حارت بها الأفهام ومعال فوق السهى ثابتات ... وجياد تحت النهى صافنات كم أرتنا في السبق من آيات ... ولكم من مكارم بينات شهدت في علوها الأيام وأياد جزيلة وهبات ... تتوالى كأبحر زاخرات وسمات عن أصله باسمات ... ولكم من عزائم صارمات عقدها لا يحله الإبرام ولكم من مآثر طيبات ... وصلات منه لنا واصلات وفعال عن حكمة صادرات ... ولكم من مناقب باهرات دون مرقى سنامها الأوهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ماجد حاز همة إن تزنها ... بعظيم الجبال ينحط عنها كم فقير نال الغنى من لدنها ... ولكم من مواهب رد منها عارض المزن وانقضى الانسجام بهداه أحيا القلوب وأنعش ... وبساط المنى لراجيه يفرش وهو في دولة إذا الخطب أدهش ... أسد من عصابة كللتها الش هب في ضوئها وصح النظام جل بين الأنام أمراً ونهياً ... وبفعل الخيرات أحسن سعيا ألمعي به الفضائل تحيا ... وفتى من عشيرة عرش عليا هم رفيع وعبدهم لا يضام ضيفه يستقر في خير منزل ... وصروف الزمان عنه بمعزل سيد ملجأ لكل مؤمل ... وكريم به تفاخر في سل ك التدلي أهل كرام عظام عارف قد أتى بأوثق حزم ... كان من بعضه علوم ابن حزم ضيغم لم يزل بصحة جزم ... يقرع الحادث المبهم بعزم حيدري في طيه إقدام وهو ما زال للبرية غوثا ... من يديه يستمطر الجود غيثا وذراع دعا الأعادي حوثا ... وتراه في حومة الحرب ليثا بارزاً ما التوت له أقدام لعروس الكمال أصبح بعلا ... ولها دون غيره كان أهلا فيصل لا يزال قولاً وفعلا ... بالغاً من مراتب العز أعلى رتبة في أساسها الأحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ذكرها يطرب النفوس ويرقص ... فعليها يا دهر حافظ أو احرص يا لها رتبة إلى خير مخلص ... نظمتها من الشريعة أيدي الص دق واستحكمت بها الأحكام صبح هدي عن الهداية أسفر ... وبه باطن المريد تنور علم عيلم همام غضنفر ... كيف لا وهو صاحب القدم الفر د الرفاعي أبو الهدى المقدام كم بنشر العلوم أحسن صنعا ... وأفاد العموم خيراً ونفعا هاشمي قد طاب أصلاً وفرعا ... من حسين بقية النسب العا لي المباني وعضبه الصمصام ذو يراع جواده ليس يسقط ... في مداه ولا بعشواء يخبط وبما شاء لا يريد التوسط ... وارث المرتضى وقرة عين الط هر والغوث إن عدا الأخصام تاج هام العلا وجوهر نصل ... أحمدي نضته أشرف أهل عين آل الصياد أطيب نسل ... شبل أهل العبا ذوآبة أصل بعلاهم تشيد الإسلام بحلى رفده العفاة تحلوا ... وبوجه السرور منه تملوا حاتمي ما قال ليت ولا لو ... وابن آل فيهم أضاء سما الكو ن بهدي وزاح عنه الظلام كوكب في ذرى العلا يتوقد ... وعلى فضله الخناصر تعقد وهو للسالكين أعظم فرقد ... وسليل الغوث الرفاعي من قد رفعت عزة له الأعلام لذ بأعتابه الشريفة وادخل ... لحماه وارو المحامد وانقل وبأفعاله وأقواله قل ... أعظم الأولياء قدراً وشيخ ال كل إن شد في الخطوب حزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 من يساويه سؤدداً وفخاراً ... وعلواً ورفعة واقتدارا أي غوث سواه كان نهاراً ... لائماً راحة الرسول جهارا بعد عصر والأربعون قيام فبروحي دون الورى أفديه ... من ولي بنى جدار بنيه فهو في الأوليا وحق أبيه ... كنز سر تطلسم البأس فيه وثوى في وحيده الضرغام ما سواه يوم الشدائد يرجى ... بعد طه الرسول حصناً وملجا كم وقعنا بالمهلكات فأنجى ... ولنا بابنه أبي الهدى للجا هل ذاك الدليل والالزام حجة القوم شيخهم في الأنام ... مرشد الوقت بهجة الأيام قطبه الهاشمي شبل ضرام ... فرخه حافظ الوراثة حامي ركنها أن تجز حماه اللئام للمريدين في الحقيقة منجد ... ولهم في منازل القرب مسعد ومن الكشف حين فاز بمقصد ... أخمرته من السراج سراج الد ين كأس مدامه الإلهام فتراءى في عالم النشر والطي ... فجر صدق يمحو الضلالة والغي وتبدى في هيكل مفرد الزي ... وعليه من مجد سيدنا الصي ياد درع طرازه الاحترام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بشذا رشده الزمان تعطر ... فروى للأنام عنه وأخبر وبدا ينجلي بأحسن مظهر ... وله نسبة حسينية الطر ز جلاها شيخ العراق خزام آل بيت مقدس قد كساهم ... خلع المجد ربهم واصطفاهم وهداهم بفضله واجتباهم ... رضي الله عنهم وحباهم صولة ينجلي عليها الدوام ومقاماً من الكواكب أعلى ... واحتراماً بين الأنام وفضلا وحماهم من كل ماساء فعلا ... وعليهم أزكى التحيات من الل هـ تعالى مدى المدى والسلام ومن نظم صاحب الترجمة الذي فاق نظم الدرر قصيدته التي تخلص بها لمدح جده النبي المفتخر وهي: هل منقذ لأخي النوى مما به ... قطعته أيدي الحظ عن أحبابه كالظل أضحى قائماً شبحاً بلا ... جرم يلجلج في رسيس ثيابه ما فيه إلا الروح تخبر أنه ... حي ولا رسم بطي نقابه كمد تلهب ناره ودموعه ... كالغيث لا ينفك وبل سحابه فالوجد هد وجوده بزفيره ... والصد حارب قلبه بحرابه يا للرجال لحائر أسبابه ... قطعت وأين الوصل من أسبابه أوزاره قد أثقلته وعرقت ... أسفاره الآثام عن آرابه وطغت عليه الحادثات وما له ... إلا الذي لاذ الورى بجنابه محبوب رب العالمين نبيه ... ورسوله وأمين سر كتابه سيف الرسالة صاحب الحكم الذي ... أحيا رسوم العدل فصل خطابه مصباح فرقان المثاني من بدت ... حكم الكتاب تضيء في محرابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فلك المعاني الخافيات بمشهد ... ما الرسل إلا من نجوم قبابه سير الهلال سرى بليل عروجه ... وسرت ملائكة العلا بركابه وطوائف النور المضيء تحفه ... شرفاً له بذهابه وإيابه حتى دنا بعد التدلي صاعداً ... بهبوطه السامي لبرج رحابه فتمثل الأملاك بين يديه في ... مغناه يستسقون من ميزابه والدين أشرق وجهه متهللاً ... في أفق وادي يثرب وشعابه فلذاك رصع أرضه شهب السما ... والمسك غلغل في غبار ترابه والبدر قلب وجهه متململاً ... يرجو القبول على أريكة بابه لله ركن عز من ذاك الحمى ... أضحى أمين الوحي من حجابه خضعت ملوك العالمين لمجده ... وتمثلوا رهباً لدى أعتابه ومن انتمى لرفيع سدة جاهه ... لم يفترسه زمانه بمصابه وعبيده مهما تدنس بالخطا ... هو في أمان الله يوم حسابه وتحفه من ذيله نفحاته ... في هينات زمانه وصعابه هو روح هذا الكون قرة عينه ... ومدار رمز سؤاله وجوابه هو كنز علم الله صاحب أمره ... هو سيفه والكون نوع قرابه هو مظهر السر الخفي عن السوى ... والمحضر المطوي في جلبابه هو حجة الرسل الكرام أمامهم ... هو شيخهم بمشيبه وشبابه ما الأولياء العارفون بربهم ... إلا الذين حسوا لذيذ شرابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ما الكون إلا نقطة هو أصلها ... أو طلسم هو شكل حرف صوابه ما الحلم إلا ما إليه رجوعه ... والعلم إلا مذهب من دابه والجود إلا نسمة من طبعه ... والمجد إلا من سنا آدابه لمعت براهين الهدى بظهوره ... ودجى الضلال محاه نور شهابه والحق أقبل والفتوح أمامه ... والغي ولى مدغماً بضبابه أدعوه للكرب الملح وأين من ... عزماته ليث الثرى في غابه فلكم حللت به وعزة قدره ... عقد الزمان ولان صلد صلابه ولكم لجأت له بقلب خاشع ... فحماه بالإحسان من أتعابه أنا عبده والعبد مهما زل عن ... طرق الرضا ساداته أولى به صلى عليه الله ما لمع الضحى ... ولآله يهدي الثنا وصحابه ومن نظم هذا الهمام في مدح سيد الأنام اعجز المنقبض المنبسط ... بمعان شط منها الخطط وبدا من جامع الشأنين في ... طالع الكونين طور وسط وانجلى في الأفق البحت سنا ... صحف صفت عليها النقط وبدوح الغيب قامت حكم ... صحة ما قام فيها الغلط وبآيات المثاني جوهر ... بأكف الوهم لا يلتقط فوقها منك حبيبي أسدلت ... حجب للحشر لا تنكشط أنت سر الكل والكل له ... منك حبل عاصم مرتبط حار في درك معانيك الورى ... والمدى المقصود عنهم شطط شأنك السيار فيه درر ... لمعانيها البرايا سفط جل من جلل مجلاك ضيا ... بحواشيه البها يختبط جمع هذا الفرق فرق جمعه ... منه قد دل عليك النمط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ومنه قوله يمدح سلطان الرجال وكعبة أهل الوجد والحال جده الإمام الرفاعي الكبير لا زال رمسه الأعطر مهبط مدد الخالق القدير. قلب المحب بحبه مشغول ... وله عليه تلهف وعويل لا زال يطويه الهيام على لظى ... وجد وينشره ضنى وذبول يا لائمي واللوم ليس بنافع ... أيصد عن طلب الحبيب عذول دع لوم أهل العشق واطرح عذلهم ... إن العذول بشأنه مخجول ولقد تزيا بالغرام وأهله ... ذو ريبة في زيه مخذول ردته بينة المحبة خاسئاً ... وشهود أحكام الغرام عدول ذو الصدق في سوح المحبة ثابت ... وأخو الرياء من الظلال يميل يلهو إذا خشع المحب وإنما ... مجلى الخشوع على الفؤاد دليل متن الهوى تحت الضلوع وشرحه ... بشروط حال العارفين طويل قد يدعي الحب الملح كواذب ... والعاشقون الصادقون قليل ولكم تباكى المدعون وما بكوا ... ودموع أصحاب الولوع سيول ولربما سكت المحب لفكرة ... فيمن يحب وعقله مذهول يا من ولعت بهم وطبت لذكرهم ... رفقاً فقلبي للصدود عليل لو زال رضوى وانتحى عن أرضه ... حاشاي عنكم يا كرام أحول ما قلت أصحو من سلافة حبكم ... إلا اعتراني سكرة وخبول لكم التحكم في القلوب ولم تزل ... تسري إليكم أنفس وعقول قد حرت في تعريفكم لجلالكم ... لم أدر يال الحي كيف أقول أيطول فهمي سر رفعة قدركم ... ومقامكم هام الفخار يطول ولكم بصف العاشقين مشاهد ... غرر لها بين الورى وحجول وغداة كل قبيلة بإمامها ... تدعى ويبدو المضمر المجهول ويرى هناك الحق والدعوى ويظهر ... للعيان فضيلة وفضول فأمامكم يا أهل أم عبيدة ... علم الرجال السيد المقبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 شمس الحمى الغوث الرفاعي الذي ... في الفضل صح حديثه المنقول سلطان أقطاب الرجال وشيخهم ... وشجاعهم حيث القلوب تزول ذو السيرة النبوية العليا التي ... فيها انطوى المنقول والمعقول شبل الحسين سليل أصحاب العبا ... سيف الرسول الصارم المسلول كم مرة نصر الضعيف بنظرة ... وعلا وعز برمشتيه ذليل غوث إذا لجأ الكسير لبابه ... طرف الزمان يراه وهو كليل توراة عنوان الزبور نصوصه ... وبسره الفرقان والإنجيل ناب النبي فعلمه من علمه ... وطريقه بطريقه موصول ذو همة برهانها متواتر ... كالفجر لكن ما اعتراه أفول وكفاه أن مد النبي يمينه ... لجنابه والحي فيه قفول خرجت من القبر الشريف كأنها ... عضب من النور الجلي صقيل سارت بها الركبان تنقل نصها ... مسكاً بأقطار الوجود يجول هذا أبو العلمين ذو الكف الذي ... من راحه بحر الفيوض يسيل أخذ الخضوع كشأن طه مذهباً ... فطريقه للمكرمات سبيل إن قال عن دعوى قؤول شاطح ... سكراً فهذا بالخشوع فعول لله خارقة بطي وجوده ... معها كثير الخارقات قليل خشعت لديه الأولياء وكلهم ... سامي المهابة عارف وجليل وكأنه دون الجميع لعقله ... طود من العلم الصحيح ثقيل لا يستفز بوارد عن شأنه ... وبربه عن غيره مشغول يجري له الإحسان بحر الامتنا ... ن وذيله من دمعه مبلول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 هذا هو الفحل المكين بطوره ... الله ما كل الرجال فحول وقفت رجال الله تحت لوائه ... ونواله لصروفهم مبذول وسرى على أثر الرسول وما له ... في السائرين مماثل وعديل شيخ بتولي المقام وسيد ... حمل الضعاف ببابه محمول مأوى صنوف العاجزين رحابه ... ما خاب في ذاك الرحاب نزيل هو كعبة يحمي الطريح بركنها العالي ... ويأمن خائف ودخيل نفحات فضل الله في ذاك الحمى ... فياضها متواصل وهطول ولشيخ ذياك الرحاب عوارف ... حزب العفاة بمنحها مشمول من لاذ فيه بصدق قلب خالص ... ما فاته المسؤول والمأمول لا زال أصحاب القبول ببابه ... ولهم تدق من الفتوح طبول فعليه لا برحت ميازيب السلا ... م تسح ما ذكر الخليل خليل أو قام منه على سرير صفاته ... ملك عليه من الرضا اكليل أو ثبت القلب الخفوق بحبه ... صبر من الود القديم جميل ومنه قوله يمدح شيخه القطب الأعظم السيد محمد مهدي الصيادي الرفاعي الرواس قدس الله سره ونفعنا به آمين لربي مني الشكر شيخي ومرشدي ... إمام الزمان الغوث قطب رحى المجد غدا وحده ركن المعالي وإنني ... عرفت به ما بين أهل الحمى وحدي ومن شعره في النسيب والغزل لا زال محط رحال أهل الأهل تندب الأطلال روحي كلما ... هب في الأرجاء ريح السحر ويفيض الدمع من عيني دماً ... ركب قوم سار سير القمر واختباط البرق من نحو الحمى ... يخطف القلب لجيران التلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فعلام كل هذا ولما ... هاهم مروا كلمح البصر يا رعى الله أويقات غضاض ... قنع البشر بها هام السرور مع خلان مضت بين الرياض ... وبنا دنيا رحى الوصل تدور راح هذا وكأن الدهر ما ... أغمض العين ولا نلنا الوصال فاقض يا دهر بنا ما أنت قاض ... قد رضينا باختيار القدر آه لو عادت ليالينا القدام دور ... لشفينا غلة تحت الضلوع وروينا من أحاديث الغرام ... مرسلات من أساطير الدموع ووصلنا في الهوى ما انصرما ... ورأينا ما تعاناه الخيال لكن الأمر خيال والسلام ... خطرات من قبيل السمر قسماً بالعهد والود القديم دور ... كل آن وجدهم عندي جديد هم سروا والوجد في سري مقيم ... يفعل الله تعالى ما يريد ما زهى الروض أو الودق همى ... غدوة غلا ومني الدمع سال وعلى نهج الصراط المستقيم ... ثابت في الحب طول العمر كلما العتم انجلى قلبي يطير دور ... وإلى أنوارهم آهي يطول وإذا ما الشمس جدت بالمسير ... ذكرت نفسي لهم تلك القفول وإذا موج الظلام التطما ... خلته من شعرهم بعض الحبال وعلى كل قليل وكثير ... شكلهم منطبع في نظري يا نسيم الصبح خذ قلبي لمن دور ... أقلقوه يوم بانوا بالفراق وإذا ما عدت بالذكر الحسن ... هات ما عندك من طيب التلاق وأعد روحاً بها البين رمى ... لجج الحين وألقاها وشال وارحمنها فهي خنساء الحزن ... وافتقاد الإلف طبع البشر ليت خلاني بذياك اللوى دور ... ذكروا خلاً لهم خلوه ليت ذا حنين من تباريح النوى ... صار لا در النوى حيا كميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 نظم الشعر لهم إذ نظما ... وطوى أحشاءه ضمن المقال وعلى عرش الإشارات استوى ... فكره ثم أتى بالدرر هذه يا حسرتي قصة من دور ... مسه الضر وأفناه الجزع دنف مذ أزمع القوم وهن ... واصل الحزن وللحزن انقطع كم يناجي الطيف فيهم كلما ... رام أن يبدي لهم قصة حال قائلاً بالله يا طيف الوسن ... عطفوا أم قلبهم من حجر وعبير فاح من تلك الخيام دور ... يوم زمت عيسهم قبل الصباح أنا مفتون بهم حتى القيام ... ولهذا طال ندبي والصياح أسأل البرق إذا ما اضطرما ... عنهم يا لهف قلبي والغزال فعلى أرجائهم مسك الختام ... ينشر الدهر فتيت العنبر وقال أطال بقاه وأعلى مرتقاه أي غصين الياسيمن انتبه ... واتركن بالله ما أنت به هزك الريح فقلدت لذا ... خصر ريم ما له من شبه حدك القطع لهذا فاعتذر ... عل أن تدرأه بالشبه وقال لي بالأبيرق فتية خلفتهم ... وطرحت بين خيامهم أحشائي منهم لظى ناري وماء مدامعي ... يا لوعتي من نارهم والماء وقال لي في العراق أحبة ملكتهم ... قلباً عليهم يوم بانوا ذابا ذاق العذيب بقربهم لكنه ... لما أطالوا البعد ذاق عذابا وقال والذاريات من الدموع تلهفاً ... يوم النوى والمرسلات سيولا ما كنت أعلم أن غزلان الحمى ... يصلتن من ريش الجفون نصولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال أيها البرق الذي تلوى به ... قادحات من زناد الولع ما رأيت العيس لما أزمعت ... وتوارت عن زوايا لعلع عجباً تلويك أخبار اللوى ... لظبا روض النقا والأجرع إنني المضنى الذي فارقتهم ... كيف يا بارق لو كنت معي أنت حيناً تتلوى وأنا ... زفرتي ما عشت لم تنقطع ومن لطائف شعره قوله ألا فرج من حضرة الله محكم ... يؤيد إيماناً تحكم في السر فيا نفحة البشرى من الله سرعة ... ويا غارة الجبار من حيث لا ندري وهذه النبذة من ترجمة هذا الإمام مغنية عن الإكثار توفي رحمه الله تعالى في الآستانة في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين والحمد لله والصلاة على رسوله في البدء والختام. الشيخ أبو السعود بن الشيخ محمد جلال بن الشيخ محمد أفندي المكنى بأبي المكارم بن السيد عبد المنعم بن السيد محمد أبي السرور البكري الصديقي المصري بقية السلف الصالح، ونخبة الخلف الناجح، تولى خلافة السجادة البكرية في سنة سبع عشرة ومائتين وألف عندما عزل ابن عمه السيد خليل البكري، ولم تكن الخلافة في فرعهم، بل كانت في أولاد الشيخ أحمد بن عبد المنعم وآخرهم السيد خليل المذكور، فلما حضرت الدولة العثمانية إلى مصر واستقر في ولايتها محمد باشا خسرو، سعى في السيد خليل الكارهون له ورموه بالقبائح، ومنها تداخله في الفرنسيس وامتزاجه بهم، وعزلوه من نقابة الأشراف، وردت للسيد عمر مكرم، ولم يكتفوا بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 بل ذكروا أنه لا يصلح لخلافة البكرية، فقال الباشا: وهل موجود في أولادهم خلافه، قالوا نعم وذكروا المترجم فيمن ذكروه، وأنه قد طعن في السن ولكنه فقير من المال، فقال الباشا الفقر لا ينفي النسب، وأمر له بفرس وسرج وعباءة كعادة مركوبهم، ولبس التاج والفرجية والفروة السمور خلعة من الباشا، وأنعم عليه بخمسة أكياس، وجعل له مرتباً معلوماً، فراج أمره واشتهر ذكره، وسار بسيرة حسنة مقرونة بكل كمال، وكانت تتحاكم لديه أرباب الطرائق فيقضي بينهم بلا ميل لأحد بل بما يظهر له من الحق والصواب، ولم يزل على حالته وطريقته مع خضوعه ولين جانبه وحكمه على نفسه إلى أن ضعفت قواه ولازمه المرض وأقعده في الفراش، فعند ذلك طلب سادات مشايخ الأزهر نزوله عن خلافته لولده السيد محمد الكامل الرشيد، فعرضوا القصة على الوالي فحولها لولده المرقوم في حياة والده وطلبه لذلك، وتوفي المترجم في أواخر شهر شوال سنة سبع وعشرين بعد المائتين والألف وصلي عليه في الأزهر ودفن في القرافة بمشهد أسلافه رضي الله عنهم أجمعين. الشيخ أبو الفتح ابن الشيخ عبد الستار أفندي ابن الشيخ إبراهيم أفندي الأتاسي الحمصي عالم مصره ونخبة أهل أوانه وعصره، ولد سنة ست عشرة بعد المائتين والألف، وأخذ العلوم عن والده المومى إليه، وكان جل اعتماده في الأخذ عليه، وكان رحمه الله له خلق جميل، وقلب عن الكمالات لا يزيغ ولا يميل، ولطافة مشهورة، وملاحظة لعواقب الأمور مأخوذة عنه ومأثوره، تولى منصب الإفتاء بحمص بعد عزل أخيه الأكبر الشيخ محمد سعيد أفندي وكان له وظيفة التدريس في جامع سيدنا خالد بن الوليد الصحابي الجليل، مع كونه غزير العلم جيد الفهم، يغلب عليه الصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 في السؤال والجواب، توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثمائة وألف ودفن في مقبرة حمص وقبره معلوم مشهور يزار ويتبرك به. الشيخ أبو الفتح ابن الشيخ عبد القادر ابن الشيخ صالح الخطيب الشافعي الدمشقي ولد بدمشق ونشأ بها وتخرج بأبيه وأقرأ في رسائل نحوية وفقهية في مدرسة الخياطين، وله حلقة تدريس بجامع بني أمية بين العشائين، وتولى خطابة الأحمدية، وإمامة مسجد برأس سوق الخياطين ومحافظة المكتبة بالمدرسة الظاهرية، وكان فقيراً قانعاً شرح الأجرومية والعوامل، واختصر بعض أجزاء من تاريخ ابن عساكر من النسخة الموجودة في المكتبة الظاهرية على تحريفها وكانت وفاته في تاسع المحرم سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف. أبو عبد الله محمد بن إدريس وزير السلطان عبد الرحمن بن هشام سلطان فاس وكانت توليته في ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين الوزير الوحيد، والشاعر المجيد، والعالم الفاضل، والعامل الكامل، من انتهت إليه الفضائل، وانتظمت به عقود الشمائل، لقد أدى الوزارة وعالمها وكاملها، ومن نظمه مهنئاً السلطان عبد الرحمن حينما جلس على تخت السلطنة بفاس سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين كما تقدم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مولاي بشراك بالتأييد بشراكا ... قد أكمل الله بالتوفيق مسراكا الفتح والنصر قد وافاك جيشهما ... والسعد واليمن قد حيا محياكا الله ألبسك الإقبال تكرمة ... وبالتقى والنهى والعلم حلاكا فراسة الملك المرحوم قد صدقت ... لما تفرس فيك حين ولاكا أعدت للدين والدنيا جمالهما ... فأصبحا في حلى من حسن معناكا وزادك الغيث غوثاً في سحائبه ... فجاد بالقطر قطراً فيه مأواكا وله قصائد كثيرة، ومدائح شهيرة، ومناقب سنية، ومفاخر علية، ولم يزل على حاله بالغاً من الترقي جل آماله، إلى أن توفي هذا الوزير المذكور والفرد العلم المشهور سنة ألف ومائتين وأربع وستين رحمه الله تعالى. أبو الأنوار شمس الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن عارفين سبط بني الوفا، وخليفة السادات الحنفا، وشيخ سجادتها ومحط رحال سيادتها الأستاذ الشهير، والجهبذ النحرير، والرئيس المفضل، والفريد المبجل، نادرة عصره، ووحيد دهره، من شهرته غنية عن مزيد الإفصاح، ومناقبه أظهر من أن يتعلق بها البيان والإيضاح، وأمه السيدة صفية بنت الأستاذ جمال الدين يوسف أبي الإرشاد بن وفاء. ولد المترجم وتربى في حجر السيادة والصيانة، والحشمة والديانة، وقرأ القرآن، والتفت بجده واجتهاده لطلب العلم على ذوي الشان، وتلقى طريقة أسلافه وأورادهم وأحزابهم عن خاله الأستاذ شمس الدين محمد أبي الإشراق بن وفا، عن عمه الشيخ عبد الخالق، عن أبيه الشيخ يوسف أبي الإرشاد، عن والده أبي التخصيص عبد الوهاب، إلى آخر السند المنتهي إلى الأستاذ أبي الحسن الشاذلي، ولازم العلامة القدوة الشيخ موسى البجيرمي فحضر عليه عدة من الكتب في فنون متعددة، وهو أول أشياخه، ثم لازم الشيخ خليل المغربي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والشيخ أحمد الميجري الملوي شيخ الشيوخ في وقته، وأجازه بمروياته ومؤلفاته الإجازة العامة، وكذلك الشيخ أحمد الجوهري الشافعي إجازة عامة، وإجازة خاصة بطريقة المولى عبد الله الشريف، وحضر دروس الأستاذ الحفني، والشيخ عمر الطحلاوي المالكي، والشيخ مصطفى السندوبي الشافعي، والشيخ محمد الناري، والشيخ أحمد القوصي، وسمع المسلسل بالأولية من عالم أهل المغرب الشيخ محمد بن سودة التاودي الفاسي المالكي عند وروده مصر في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف بقصد الحج، وكتب له إجازة بخطه مع سنده أيضاً، وإجازة بدلائل الخيرات وأحزاب الشاذلي، وكذلك تلقى الإجازة من الأستاذ المسلك عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المرزوقي، وكذلك من إمام الحرم المكي الشيخ إبراهيم بن الرئيس محمد الزمزمي، وإجازة بالمسبعات وبما لأسلافه من الأحزاب، وكناه بأبي الفوز، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بمكة سنة حجة المترجم. وتوفي يوم الأحد ثامن عشر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن بالقرافة في مشهد أسلافه في التربة التي أعدها لنفسه. أبو السعود بن ضيف الله مراد الشاب الأديب، والناجح الأريب، من صاغ من فرائد درره عقداًن وجدد للأدب بعد الاندراس عهداًن فهو الإمام الذي يقتدى في النظام به، والهمام الذي أثمرت رياض الجمال بآدابه، تتطاول له أعناق السرور حينما يمد لها سماط المنظوم والمنثور، ومن شعره البديع المتحلي بأنواع المعاني والبديع قصيدته وهي: أبدور مشرقات أم غرر ... في ليال داجيات أم طرر وغصون تنثني يا عجباً ... أم قوام ماس عجباً وخطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وعيون ناعسات دعج ... ترشق العشاق نبلاً أم وتر وبروق أومضت في الأفق أم ... ثغر حبي افتر عن عقد درر بدر حسن حرق القلب هوا ... هـ وقد قرح جفني بالسهر سحر الألباب لما حسر الحجب ... عن حسن محياه سحر أسر العشاق في عضب لوا ... حظه عمداً وجهراً ما أسر صبت الروح إليه ولقد ... صبت الأجفان دمعاً كالمطر أهيف إن بان يثني عطفه ... يزدري بالبان والقلب حجر في اللمى والثغر والطرف لقد ... حل شهد ولآل وحور قده مع وجنتيه ومحياه ... رمح وشقيق وقمر بت ولهان به في خطر ... هائماً في حبه لما خطر وهن العظم به واشتعل الرأس ... شيباً مذ تناءى وهجر اسمح ابخل صد واصل منيتي ... وبما تهوى تحكم يغتفر عاذلي مال عن الإنصاف مذ ... لام في عذل به عين الضرر قال ذره قلت كلا إنني ... عبده أفعل دوماً ما أمر وهو ريم يوسفي حسنه ... لو رأى البدر سناه لاستتر وهي قصيدة طويلة، وله من الشعر قصائد جميلة. الشيخ أبو السعود الشهير بالسباعي الدردير الحفني العدوي مالك أعنة المحاسن وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، والراقم لبرودها، المجيد لإرهافها، والعالم بجلائها وزفافها، تصرف في فنون الإبداع كيف شاء، وأبلغ دلوه من الإجادة الرشاء، فطاب نشره، وطار في الأقطار ذكره، شمائله تتضاءل لها قطع الرياض، ويبادر به الظن إلى شريف الأغراض. قد التفت إلى طلب العلوم التفات المشغوف، وسقط على تطلبه سقوط المشوق الملهوف، إلى أن بلغ منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 مبلغ الكمال، ونبغ به ونال منه أعلى منال، وحضر دروس شيوخ عصره، إلى أن صار مرجعاً في مصره، وأقبل الناس عليه من كل جانب، للاستفادة والحصول على الرغائب. توفي رحمه الله في حدود الألف والمائتين وسبع وثلاثين. أبو السعود بن أحمد أفندي بن علي المعروف بالحسيبي الدمشقي من ذوات الشام وكبرائها، وأفاخمها وعظمائها، له تولع بجمع نوادر الكتب النفيسة، وله مذاكرة لطيفة أنيسة، وإقبال على قاصديه جميل، ولطف بوارديه جزيل، وفي سنة ألف وثلاثماية وخمس عشرة توفي أحمد أفندي بن أمين أفندي منجك نقيب دمشق الشام، فكتب مفتي الشام محمد أفندي المنيني سلسلة موصلة للمترجم المرقوم للذات الطاهرة، وختمها له ذوات الشام وشيوخها، ثم أرسلت إلى النقابة في الدار العلية، وبعد مدة توجهت النقابة على المترجم المرقوم وقام بها بسيرة حيسنة، وصفات مستحسنة، مع عفة عالية وشهامة وافية، وبيت مفتوح، وطعام ممنوح وغنىً وافر، وجاء موروث كابراً عن كابر، أحسن الله إليه آمين. الشيخ أبو النصر بن المرحوم الشيخ عبد القادر بن الشيخ صالح بن الشيخ عبد الرحيم الخطيب طلب العلم على أبيه، وعلى غيره من كل عالم نبيه، إلى أن سما مقامه، وفشا في الناس احترامه، وقد انتقل بعياله إلى حرستا قرية تبعد عن الشام مقدار ساعتين، وسار بأهلها سيرة حسنة، يصلي بهم ويخطب لهم ويعظهم ويعلمهم ما يحتاجون إليه، ثم بعد ذلك أخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ علي اليشرطي المستقيم بعكه ثم ذهب إلى الآستانة المعمورة ودخل في سلك النيابات ولا زال ينتقل من مكان إلى مكان في النيابات إلى عام ألف وثلاثمائة وستة عشر. حضر إلى الشام وصادف أنه بعد حضوره بمدة توفي في شهر رجب مفتي دمشق الشام محمد أفندي المنيني فتعرض لها المترجم، وكتب عرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فحضر وختم له كثير من الناس، وكذلك غيره تعرض لها ولكن صادف القدر، وتوجهت الإرادة الأزلية للشيخ صالح أفندي قطنا، فتوجه الإفتاء عليه من شيخ الإسلام جمال الدين أفندي. وعلى كل حال فهو شهم شجاع جميل المعاشرة، يغلب عليه الميل إلى الطاعة والمروءة والحماسة والتباعد عن الرذائل، ولم يشتهر عنه أنه في مدة نياباته ارتشى من أحد أحسن الله حالنا وحاله. ثم في ثالث ربيع الثاني خطب يوم الجمعة في جامع بني أمية وقرأ فيه الدرس العام بعد العصر، وخرج إلى قرية تل منين لحضور عرس دعي إليه، وكان يوم السبت، وبعد صلاة العشاء أصابه وجع قلب ولم يمض عليه ساعة حتى مات، فأحضروه في الصباح إلى الشام وجهزوه وصلوا عليه في جامع بني أمية ثم دفنوه في مدفن أسلافه في مقبرة الدحداح، وذلك رابع ربيع الثاني سنة ألف وثلاثماية وأربع وعشرين. الشيخ العلامة المتفنن الباحث المتقن أبو العباس المغربي المالكي صاحب العلم الباهر، والفضل السامي الظاهر، والشهرة العامة، والشمائل الكاملة التامة، وهو من رجال الجبرتي، أخبر رضي الله عنه أن أصله من الصحراء من عمالة الجزائر، دخل مصر صغيراً فحضر دروس الشيخ علي الصعيدي وتفقه عليه ولازمه، ومهر في الآلات والفنون، وأذن له في التدريس فصار يقرىء الطلبة في رواقهم، وراج أمره لفصاحته وجودة حفظه، وتميز في الفضائل، وحج سنة اثنتين وثمانين ومائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وألف وجاور بالحرمين سنة واجتمع بالشيخ أبي الحسن السندي ولازمه في دروسه وباحثه، وعاد إلى مصر، وكان يحسن الثناء على المشار إليه واشتهر أمره وصارت له في الرواق كلمة، واحترمه علماء مذهبه لفضله وسلاطة لسانه، وبعد موت شيخه عظم أمره حتى أشير له بالمشيخة في الرواق، وتعصب له جماعة فلم يتم له الأمر، ونزل له السيد عمر أفندي الأسيوطي عن نظر الجوهرية، فقطع معاليم المستحقين، وكان حجاجاً سلط اللسان يتقى شره. توفي ليلة الأربعاء حادي عشرين شعبان سنة ألف ومائتين وسنتين غفر الله لنا وله، وجعل في دار النعيم مستقره. الشيخ ابو بكر بن علي البطاح الأهدل العلم الأمثل، والطود الأفضل، إمام المحققين، ونخبة المدققين، سراج افسلام، وكعبة الأئمة الأعلام، قد ساد بفنون العلوم، وتدقيق المنطوق والمفهوم، فهو غرة في جبين الدهر زاهرة، وشامة في صفحة العصر ظاهرة، يحق له أن يقال فيه، وأن يصفه الدهر بملء فيه. وأرى الخلق مجمعين على فضلك ... من كل سيد ومسود عرف العارفون فضلك بالعلم ... وقال الجهال بالتقليد جد واجتهد في المعالي، إلى أن صار حسنة الأيام والليالي، أخذ العلوم من عدة مشايخ منهم السيد سليمان الأهدل، وتميز بالكمال في الملكات الثلاث ملكة الاستحصال، وملكة الحصول، وملكة الاستنباط، وكان عمدة في التفسير والحديث والفقه والتصوف والآلات والأصول. وخلاصة الكلام، إنه من السادة الأعلام، ومما كان ينشده: إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق هذا لميزان العقول مقوم ... والنحو تقويم اللسان المنطق مات رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الشيخ الملا أبو بكر الكردي الشافعي الدمشقي أحد العلماء الأعلام، المتقدمين في العلوم بدمشق الشام، كان مجاوراً في جامع الورد في سوق صاروجا، وكان ملازماً للإفادة العلمية، والآداب العملية، مع التقوى والعبادة، والعفة والزهادة، كثير السكوت عن فضول الكلام، لا يتكلم إلا في ذكر أو قرآن أو إقراء درس أو إفادة حكم من الأحكام، قرأ عليه الأجلاء من العلماء، والكثير من الفضلاء، وكان له مشاركة قوية، في العلوم العقلية والنقلية، وقد أخذ عن المرشد الكامل أوحد الزمان، وقطب العصر والأوان، مولانا خالد النقشبندي مجدد القرن الثالث عشر، وعن غيره ممن عرف بالفضل واشتهر، وله تأليفات كثيرة، ورسائل شهيرة، وله تفسير على القرآن المجيد اخترمته المنية قبل إتمامه، قد أجاد فيه وأفاد، واعتنى به فوق المراد، وكان معدوداً من ذوي النهاية، معروفاً بالكشوفات والولاية، وقد حضرت بعض مجالسه، واستفدت من بعض نفائسه، وكان كثيراً ما يذاكرني مع صغر سني في المسائل العلمية، والنوادر الأدبية، مات رضي الله عنه سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن بتربة سوق صاروجا. الشيخ أبو بكر الكردي الجزاري الدمشقي العالم الإمام، والأوحد الهمام، نزيل دمشق الشام، أخذ العلوم عن أفاضلها، وارتفعت رتبته في المعارف بين ذوي فضائلها، حتى صار عمدة مقبولا، معروفاً في الكمال لا مجهولا، مرفوع المقام، يتبرك به الخاص والعام، مات يوم الإثنين عاشر ذي الحجة الحرام الذي هو من شهور سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أبو بكر باشا الطرابلسي والي مصر من طرف الدولة العثمانية وكانت ولايته من سنة إحدى عشرة ومائتين وألف كان وزيراً عاقلاً إلا أنه لم تساعده يد الإقبال، ولم تلاحظه عين العناية في تسديد الأقوال والأفعال، وذلك لاستطالة المماليك على الأراضي المصرية، ونفوذ كلمتهم بها على كلمة الوزارة العثمانية، فكان ما كان من خروجه ودخول الأجانب، وتسلطها على بلاد مصر وإيقاعها في المعاطب، وبيان ذلك مع التفصيل، المقتضي عدم التطويل، قال في الفتوحات الإسلامية، المنسوبة للحضرة الأحمدية الدحلانية: كانت مصر قبل أن تتملكها الدولة العثمانية بيد ملوك الجراكسة، وكان لهم كثير من المماليك الذين هم أيضاً من الجراكسة ومن غيرهم من الترك، فلما تملكت الدولة العثمانية مصر لم تزل المماليك باقين وفي كل وقت يزدادون حتى بلغوا غاية الكثرة، وكان منهم أمراء ورؤساء، فصارت لهم عصبية قوية، فتغلبوا على الأملاك والأراضي والأطيان والمحصولات والخراجات والجمارك، وكانوا إذا جاء الباشا المتولي على مصر من الدولة العلية ينقادون له في الظاهر وفي الباطن هم متغلبون، فكانوا يبقونه إذا أرادوا ويعزلونه إذا أرادوا، ولا يصل إلى الدولة من محصولات مصر إلا القليل والباقي بأيديهم، وكان لهم رؤساء، وعلى الجميع أمير كبير تحت أمر الوزير المتولي من السلطنة صورة وظاهراً فقط، فلما تغلبوا هذا التغلب كثر منهم الظلم والعدوان على المسلمين وغيرهم من طوائف النصارى واليهود، فيتعدون كثيراً عليهم لاسيما على تجارهم، وكانت الدولة العلية مشتغلة عنهم بكثرة الحرب مع النصارى، فطمع الفرنسيس في تملك مصر وإبعاد هؤلاء المماليك المتغلبين، وأوهموا على المسلمين أنهم إنما يريدون تخليص مصر منهم وبقاء الحكم فيها للدولة العلية، فجهز الفرنسيس عليها جيوشه بالسر والكتمان من غير اطلاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أحد على ذلك وجاءوهم بغتة فتملكها على الوجه الآتي ذكره، وكان ذلك في شهر المحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وكان الوزير المتولي على مصر من السلطنة العلية في تلك السنة هو المترجم المرقوم أبو بكر باشا الطرابلسي، وكانت ولايته من سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، وكان للماليك المتغلبين على مصر أميران رئيسان على جميعهم وهما إبراهيم بك ومراد بك، كان تحت طوعهما جميع الصناجق والعساكر، فلما شاعت الأخبار بقدوم الفرنسيس للاستيلاء على مصر خرج الوزير المتولي من السلطنة العلية وهو أبو بكر باشا المتقدم ذكره من مصر وتوجه إلى غزة، ثم منها إلى دار السلطنة، وكان توجهه من مصر يوم السبت سابع شهر صفر من السنة المذكورة، وبقيت مصر بيد غبراهيم بك ومراد بك وصناجقهما والأمراء والعساكر التي تحت أيديهما، وكان أهل مصر عند خروج أبي بكر باشا من مصر وقبل خروجه بأيام يسمعون إشاعات عن مسير الفرنسيس إلى تملك مصر، ولم يقفوا على حقيقتها، فلما كان العشرون من المحرم من سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف وصلت مراكب الفرنسيس مشحونة بالعساكر وآلات الحرب، فتقاتل من كان فيها من العساكر مع أهل الاسكندرية، ولم يكن أهل الاسكندرية مستعدين لقتالهم فلم يقدروا على دفعهم، لاسيما وقد جاءوهم بغتة فقاتلوهم قليلاً ثم طلبوا الأمان منهم، فأمنوهم ودخلوا الاسكندرية وملكوها، فلما جاء الخبر إلى مصر أخذ إبراهيم بك ومراد بك بالاستعداد لهم، وأبرزا جيشاً من العسكر إلى موضع يقال له الجسر الأسود، وأخرجوا المدافع وآلات الحرب واضطربت الناس في مصر، وكثر الهرج والمرج، وتقطعت الطرق وارتفع السعر وكثر السراق، ثم جاءهم مكتوب من الفرنسيس فيه بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، وبعد ذلك كلام كثير من جملته: إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أعبد الله وأحترم نبيه والقرآن العظيم وأنهم مسلمون يعنون أنفسهم مخلصون، وإثبات ذلك أنهم نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة أهل الإسلام، ثم قصدوا مدينة مالطة وطردوا منها الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة أهل الإسلام، وكل ذلك من الكلام الذي يوهمون به على أهل الإسلام أنهم موحدون لله تعالى، وأنهم يحبون أهل الإسلام ويحبون سلطانهم، وأنهم إنما جاءوا لنصرة سلطان الإسلام، وإبعاد المماليك المتغلبين على ممالكه، ودفع ظلمهم عن الرعية، ومن جملة ما في ذلك الكتاب خطاباً للمسلمين: وما جئتكم لإزالة دينكم، وإنما قدمت إليكم لأخلص حقكم من يد الظالمين الصناجق المماليك الذين يتسلطون في البلاد المصرية، ويعاملون الملة الفرنساوية بالذل والصغار، ويظلمون تجارهم ويؤذونهم بأنواع الإيذاء والتعدي، ويأخذون أموالهم ويفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثله، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم بانقضاء دولتهم، وإني أعبد الله سبحانه أكثر من المماليك، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله تعالى، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بأحسن ما فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العلية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء منهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك. يتسلطون في البلاد المصرية، ويعاملون الملة الفرنساوية بالذل والصغار، ويظلمون تجارهم ويؤذونهم بأنواع الإيذاء والتعدي، ويأخذون أموالهم ويفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثله، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم بانقضاء دولتهم، وإني أعبد الله سبحانه أكثر من المماليك، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله تعالى، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بأحسن ما فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العلية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء منهم سيديرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك. أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد، قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، ومع ذلك فالفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلاً إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير ماثلين لأحد الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقاً إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر، وإن جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وأكحل وأحمر، وأن كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار، وأن كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضاً تنصب صناجق السلطان العثمان محبنا دام بقاؤه، والواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئناً، وتكون الصلاة تامة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله تعالى على انقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عال أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله جلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية، وعلى المشايخ في كل بلد يختموا حالاً على جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي للمماليك، وعليهم الاجتهاد التام أن لا يضيعوا أدنى شيء منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وفي التاسع والعشرين من المحرم قدموا إلى مصر فاستقبلهم عسكر مصر عند الرحمانية وهزموا إلى الجيزة، والتقوا عند بشقيل وحصلت مقتلة عظيمة، وقدر الله أن المسلمين هزموا ففر مراد بك ومن معه إلى الصعيد، وفر إبراهيم بك ومن معه في البر الشرقي إلى الشام، وقيل لم يقع قتال كثير وإنما هي مناوشة من طلائع العسكر بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين، وكانت مراكب في البحر لمراد بك فاحترقت بما فيها من الجبخانه والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية، واحترق من فيها من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك دخله الرعب وولى منهزماً، وترك الأثقال والمدافع التي في البر، وتبعته العساكر، وركب إبراهيم بك إلى ساحل بولاق طرف البر الشرقي، ورجع الناس منهزمين طالبين مصر، فاجتمع الباشا والعلماء ورؤوس الناس يتشاورون في هذا الحادث العظيم، فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق إلى شبرا، ويتولى افقامة ببولاق إبراهيم بك وكشافه ومماليكه، وقد كانت العلماء عند ابتداء هذا الحادث تجتمع بالأزهر كل يوم ويقرؤون البخاي وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ الطرائق وأتباعهم، وكذا أطفال المكاتب، ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء. ويوم الاثنين حضر مراد بك إلى بر امبابه وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشقيل، وتولى ذلك هو وصناجقه وأمراؤه، وكان معه في ذلك علي باشا الطرابلسي ونصوح باشا، وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشأها بالجيزة وأوقفها على ساحل أمبابه، وشحنها بالعساكر والمدافع والمتاريس والخيالة والمشاة، ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك، فإنهم من وصول الخبر الأول لهمم من الاسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة، إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضاً في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأسباب الارتحال، فلما رأى أهل البلد منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع، واستعد الأغنياء وأهل المقدرة للهرب، ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك لما بقي بمصر منهم أحد، وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياماً ويجلسون في مكان خراب أو مسجد، ويرتبون أمرهم فيمن يصرف لهم ما يحتاجون غليه من الدراهم التي جمعوها، ويجعلون عليهم قيماً يباشر ذلك، وبعض الناس يتطوع على بعض في الإنفاق، ومن الناس من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث أن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يشح أحد في ذلك الوقت بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزمر والأعلام والكاسات، وهم يضجون ويصيحون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر مكرم نقيب الأشراف إلى القلعة فأخرج بيرقاً كبيراً سمته العامة بيرق النبي صلى الله عليه وسلم، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور، وغير ذلك وأما مصر فإنها صارت خالية الطرق لا تجد بها سوى النساء في البيوت، وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، وغلا سعر البارود والرصاص جداً بحيث بيع الرطل البارود بستين نصفاً، والرصاص بتسعين نصفاً، وغلا جنس أنواع السلاح وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمسارق، وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بيك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله تعالى بالنصر، وأقام غيرهم من الرعايا بالبيوت والزوايا والخيام. ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وأقام بها من حين نصب إبراهيم بيك العرضي هناك إلى وقت الهزيمة، سوى القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مكاناً ولا مأوى فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصبحون إلى بولاق، وأرسل إبراهيم بيك إلى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا من المقدمة بنواحي شبرا وما والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بيك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقبعان وأولاد علي والقناوبة وغيرهم، وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول، ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوماً فيوماً لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد، وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم، وكذلك العرب أغارت على الأطراف والنواحي، وقامت الأرياف على ساق يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمراء مصر تجار الإفرنج الذين بمصر وحبوهم في القلعة، وفي بعض أماكن غير القلعة من بيوت الأمراء، وصاروا يفتشون في الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت هذه الفتنة، ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، وتختلف الناس في الجهة التي يجيئون منها، فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وليس لأحد من الأمراء همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم القتال قبل قربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بيك ومراد بيك جمع عساكره ومكث في مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس هناك قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو. لقناوبة وغيرهم، وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول، ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوماً فيوماً لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد، وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم، وكذلك العرب أغارت على الأطراف والنواحي، وقامت الأرياف على ساق يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى، وطلب أمراء مصر تجار الإفرنج الذين بمصر وحبوهم في القلعة، وفي بعض أماكن غير القلعة من بيوت الأمراء، وصاروا يفتشون في الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت هذه الفتنة، ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، وتختلف الناس في الجهة التي يجيئون منها، فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وليس لأحد من الأمراء همة أن يبعث جاسوساً أو طليعة تناوشهم القتال قبل قربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بيك ومراد بيك جمع عساكره ومكث في مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس هناك قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولما كان يوم الجمعة سادس شهر صفر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود، وأصبح يوم السبت فوصل أم دينار، فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين والمجاورة بلادهم، ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم. وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع ذلك، فلم يأتوا إلا من البر الغربي، ولما كان وقت القيلولة ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي، وتقدموا إلى ناحية بشقيل بلد مجاروة لأنبابه، فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول، فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي وأبلى الفريقان، وقتل أيوب بيك الدفتر دار وكثير من كشاف محمد بيك الألفي ومماليكهم، تبعهم طابور من الإفرنج نحو الستة آلاف، وكان رئيسهم الكبير بونابارته لكنه لم يشهد الوقعة، بل حضر بعد الهزيمة، وكان بعيداً عن هؤلاء بكثير، ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بيك ترامى الفريقان بالمدافع، وكذلك العسكر المحاربون البحرية، وحضر عدة وافرة من عساكر الأرناؤوط من دمياط، وطلعوا إلى أنبابه وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس، فلما عاين وسمع عسكر البر الشرقي في القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح، ورفعوا الأصوات بقولهم يا رب يا لطيف، ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم، فكان العقلاء من الناس يأمرونهم بترك ذلك، ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب، لا برفع الصوت والصراخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرأ ومن يسمع؟ وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرضي الشرقي ومعهم إبراهيم بيك الوالي، وشرعوا في التعدية إلى البر الغربي في المراكب، فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد والمراكب قليلة جداً، فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة على المحاربين، هذا والريح العاصفة قد اشتد هبوبها وأمواج البحر في قوة اضطرابها والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين، فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه مع شدة الغبار وكون الريح من ناحية العدو، وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه. ثم إن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على تراتيب معلومة عندهم في الحرب وتقارب من المتاريس، بحيث صار محيطاً بالعسكر من خلفه وأمامه، ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتابعة والمدافع ترمي، واشتد هبوب الريح وانعقد الغبار، وأظلمت الدنيا من دخان البارود وغبار الريح، وصمت الأسماع من توالي الضرب، بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزت والسماء عليها سقطت، واستمر الحرب والقتال نحو ثلثي ساعة ثم كانت الهزيمة على العسكر الغربي، فغرق الكثير من الخيالة في البحر لإحاطة العدو بهم وظلام الدنيا، والبعض وقع أسيراً في يد الفرنسيس وملكوا المتاريس، وفر مراد بك ومن معه إلى الجيزة فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة، ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية، وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والأسلحة والفرش ملقاة على الأرض ببر أنبابه، وألقى كثير نفسه في البحر، ولما انهزم العسكر الغربي تحول الفرنسيس بالمدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة، فقامت فيهم ضجة عظيمة، وركب في الحال إبراهيم بك والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فأما إبراهيم بك والأمراء فساروا إلى جهة العادلية، وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين جهة المدينة ودخلوها أفواجاً أفواجاً، وهم جميعاً في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك، وهم يضجون بالعويل والنحيب، ويبتهلون إلى الله تعالى من شر هذا اليوم الوصيب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت، وقد كان ذلك قبل الغروب، فلما استقر إبراهيم بيك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه، وكذلك من معه من الأمراء، فأركبوا النساء على الخيول والبغال والحمير والجمال، والبعض ماش كالجواري والخدم، واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر، البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد، بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة ممتثلاً للقضاء متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور، والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الافرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة، وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء، وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض عسكر مراد بيك الذين كانوا في الغليون لمرسى أنبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه، وكذلك مراد بيك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى الجهة القبلية، فمشوا به قليلاً فوقف في الطين لقلة الماء وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجيخانه فأمر بحرقه أيضاً، فلما صعد لهيب النار من جهة الجيزة وبولاق ظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهرب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون، وبيع الحمار الأعرج والبغل الضعيف بأضعاف ثمنه، وخرج أكثرهم ماشياً أو حاملاً متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من باب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتكروا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئاً كثيراً يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التي خرجت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك، لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم، وقد أخذوه صحبتهم، وغالب مساتير الناس وأهل المقدرة أخرجوا أيضاً ما عندهم، والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعجز عليه حمله من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين، فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا على قتله أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع عن قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين، ومنهم من جاز متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، قال الشاهد فما راء كمن سمع. أقعده العجز وكان عنده ما يعجز عليه حمله من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين، فذهب ذلك جميعه، وربما قتلوا من قدروا على قتله أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان، فمنهم من رجع عن قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين، ومنهم من جاز متكلاً على كثرته وعزوته وخفارته فسلم أو عطب، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، قال الشاهد فما راء كمن سمع. ولما أصبح يوم الأحد المذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الإفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي وإن الحريق كان في المواكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الإفرنج وينتظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك، وأرسلوا صحبة شخص مغربي لا يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظاؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور لدينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبش في وجوههم. فقالا: نريد أماناً منكم، فقال: قد أرسلنا لكم سابقاً، يعنون الكتاب المذكور فيما تقدم، فقالا: وأيضاً نريد أماناً لأجل اطمئنان الناس، فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها أننا أرسلنا لكم في السابق كتاباً فيه الكفاية، وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق منهم أحد بالقطر المصري، وأما العلماء والمشايخ وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين ونحو ذلك من الكلام، ثم قال لهم لابد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديواناً ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقاهم وضحك لهم، وقال أنتم المشايخ الكبار، فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فكتبوا لهم عدة مكاتيب بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا إلى مصر، واطمأن برجوعهم الناس، وكانوا في وجل وخوف على غيابهم، وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ، فحضر شيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية، وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر، وكذلك الروزنامجي والأفندية. وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بيك ومراد بيك وحرقوهما، ونهبوا أيضاً عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان. وفي يوم الثلاثاء دخلت الفرنساوية إلى مصر وسكن بونابارتة بيت محمد بيك الألفي بالأزبكية الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية، وزخرفه وصرف عليه أموالاً عظيمة وفرشه بالفرش الفاخرة، وعند تمامه وسكناه حصلت هذه الحادثة، فما دخلوه بل تركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس، وكذلك حصل في بيت حسن كاشف بالناصرية. ولما دخل كبيرهم وسكن بالأزبكية كما ذكر استمر غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم، ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعد، بل صاروا أيضاً يحاكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن، فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريالاً فرانسي، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياساً على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا لهم، وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات، وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان واللبن، وصاروا يبيعون إليهم بما أحبوا من الأسعار، وفتح غالب السوقة الحوانيت والقهاوي، واطمأن الناس لذلك وهدأت الخواطر وطابت الأفكار، وغلب الأمان على الخوف وراج أمر البيع والشراء. وفي يوم الخميس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ثالث عشر شهر صفر أرسلوا يطلبون المشايخ والوجاقلية عند قائم مقام سر عسكر، فلما حضروا تشاور معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات، فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي والشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبرخيتي والشيخ محمد الدواخلي، وحضر ذلك المجلس أيضاً مصطفى كتخدا والقاضي، وقلدوا محمد آغا السلماني اغاة مستحفظات، وعلي آغا الشعراوي والي الشرط وحسن آغا أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا بيك كتخدا بونابارته، وسأل أربا الديوان المذكورين عما وقع من النهب للبيوت، فقالوا هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا هذا أمر لا قدرة لنا على منعه، وإنما ذلك وظيفة الحكام، ثم أمروا بالنداء بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يسمعوا ولم ينتهوا واستمر غالب الأسواق والدكاكين معطلة، والناس غير مطمئنين. وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلقة التي للأمراء ودخلوها، وأخذوا منها أشياء وخرجوا منها وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية يستأصلون ما فيها، ثم إن معسكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات، وسكنوا في البيوت ولم يشوشوا على الناس، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، وبعد أيام طلبوا سلفة خمسماية ألف ريال من التجار، فأخذوا في تحصيلها بعد مراجعتهم في تخفيفها فلم يفعلوا ونادوا بالأمان لنساء الأمراء، وأمروا كل من عندها شيء من متاع زوجها تأتي به، وصالحت زوجة مراد بيك عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء بماية وعشرين ألف ريال، واستخرجوا من الخبايا شيئاً كثيراً، ثم طلبوا من أهل الحرف والأسواق مبلغاً من المال يعجزون عنه، فاستغاثوا بالمشايخ فتشفعوا عندهم فلطفوها لهم. ولما جاء وقت مولد النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بصنعه على المعتاد وأعطوا من عندهم إعانة على ذلك ثلاثمائة ريال، وصنعوا شنكاً ليلة المولد، وجاءت مراكب الإنكليز وحاربت مراكب الفرنسيس، وأحرقوا لهم مركباً كبيراً، واستمر أياماً ثم ذهبوا، وأما إبراهيم بك ومراد بيك فذهبوا إلى غزة ثم رجعوا إلى جهة الفيوم. وفي شهر ربيع الثاني طلبوا من الناس حجج أملاكهم وقيدوها عندهم، ووضعوا عليها قدراً معلوماً من الدراهم، وأمروا المشايخ أن يكتبوا للسلطان كتاباً مضمونه الثناء عليهم وحسن سيرتهم، وأنهم من المحبين للسلطان، وأنهم محترمون للقرآن والإسلام ففعلوا، وفي عاشر جمادى الأولى جمعوا الناس وقرروا على الأملاك أموالاً زيادة عما كان قبل ذلك، وهاج عامة الناس ونادوا بالجهاد، ووقع قتال قتل فيه خلق كثير، ثم صار النداء بالأمان، ثم تتبعوا كثيراً ممن كان قائماً في تلك الفتنة فقتلوه. وأما كيفية مجالسهم وبقية الترتيب في نظامات دولتهم فهو طويل لا حاجة لذكره، وكذا ما كان يجري من الحوادث. ولما جاءت أخبار دخول الفرنسيس مصر إلى الحجاز قام شيخ عالم مغربي بمكة يقال له محمد الجيلاني واستنفر الناس للجهاد، فاجتمع معه خلق كثير ووصلوا إلى الصعيد وقاتلوا من وجدوه من الفرنسيس، ولم يقدروا على استخلاص الأقطار المصرية منهم، فقاتلوا حتى قتل أكثرهم ورجع القليل منهم. د الدواخلي، وحضر ذلك المجلس أيضاً مصطفى كتخدا والقاضي، وقلدوا محمد آغا السلماني اغاة مستحفظات، وعلي آغا الشعراوي والي الشرط وحسن آغا أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا بيك كتخدا بونابارته، وسأل أربا الديوان المذكورين عما وقع من النهب للبيوت، فقالوا هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا هذا أمر لا قدرة لنا على منعه، وإنما ذلك وظيفة الحكام، ثم أمروا بالنداء بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، فلم يسمعوا ولم ينتهوا واستمر غالب الأسواق والدكاكين معطلة، والناس غير مطمئنين. وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلقة التي للأمراء ودخلوها، وأخذوا منها أشياء وخرجوا منها وتركوها مفتوحة، فعندما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية يستأصلون ما فيها، ثم إن معسكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات، وسكنوا في البيوت ولم يشوشوا على الناس، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، وبعد أيام طلبوا سلفة خمسماية ألف ريال من التجار، فأخذوا في تحصيلها بعد مراجعتهم في تخفيفها فلم يفعلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ونادوا بالأمان لنساء الأمراء، وأمروا كل من عندها شيء من متاع زوجها تأتي به، وصالحت زوجة مراد بيك عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء بماية وعشرين ألف ريال، واستخرجوا من الخبايا شيئاً كثيراً، ثم طلبوا من أهل الحرف والأسواق مبلغاً من المال يعجزون عنه، فاستغاثوا بالمشايخ فتشفعوا عندهم فلطفوها لهم. ولما جاء وقت مولد النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بصنعه على المعتاد وأعطوا من عندهم إعانة على ذلك ثلاثمائة ريال، وصنعوا شنكاً ليلة المولد، وجاءت مراكب الإنكليز وحاربت مراكب الفرنسيس، وأحرقوا لهم مركباً كبيراً، واستمر أياماً ثم ذهبوا، وأما إبراهيم بك ومراد بيك فذهبوا إلى غزة ثم رجعوا إلى جهة الفيوم. وفي شهر ربيع الثاني طلبوا من الناس حجج أملاكهم وقيدوها عندهم، ووضعوا عليها قدراً معلوماً من الدراهم، وأمروا المشايخ أن يكتبوا للسلطان كتاباً مضمونه الثناء عليهم وحسن سيرتهم، وأنهم من المحبين للسلطان، وأنهم محترمون للقرآن والإسلام ففعلوا، وفي عاشر جمادى الأولى جمعوا الناس وقرروا على الأملاك أموالاً زيادة عما كان قبل ذلك، وهاج عامة الناس ونادوا بالجهاد، ووقع قتال قتل فيه خلق كثير، ثم صار النداء بالأمان، ثم تتبعوا كثيراً ممن كان قائماً في تلك الفتنة فقتلوه. وأما كيفية مجالسهم وبقية الترتيب في نظامات دولتهم فهو طويل لا حاجة لذكره، وكذا ما كان يجري من الحوادث. ولما جاءت أخبار دخول الفرنسيس مصر إلى الحجاز قام شيخ عالم مغربي بمكة يقال له محمد الجيلاني واستنفر الناس للجهاد، فاجتمع معه خلق كثير ووصلوا إلى الصعيد وقاتلوا من وجدوه من الفرنسيس، ولم يقدروا على استخلاص الأقطار المصرية منهم، فقاتلوا حتى قتل أكثرهم ورجع القليل منهم. ثم جهز الفرنسيس جيشاً لمحاربة أحمد باشا الجزار في عكا، فملكوا كثيراً من قرى الشام وحاصروا أحمد باشا في عكا ثم عجزوا عن أخذها، فارتحلوا عنها. وأجروا ما يعتاده أهل مصر من مولد السيد أحمد البدوي وغيره على حسب المعتاد، وكذا إخراج المحمل والحج، وحصل بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وبين أهل الأرياف محاربات كثية حتى ملكوهم كلهم، وصاروا يتبعون الأمراء من المماليك ويقتلون من ظفروا به، وحضرت مراكب إلى السويس فيها أموال وبضائع للشريف غالب، فمسحوا عن عشورها وحصل بينه وبينهم مكاتبات ومهاداة بهدايا عندهم، ووضعوا الشيخ العريشي قاضياً للمسلمين يحكم بالشرع، وتوجه بانوبارته إلى بلاد الفرنسيس سنة أربع عشرة وجعل ساري عسكرهم نائباً عنه بمصر، ثم ترقى بونابارته حتى صار ملكاً على كافة الفرنسيس. وفي شهر رجب من سنة أربع عشرة جاء جيش من السلطان سليم يقوده يوسف باشا ومعه نصوح باشا جعلوه والياً على مصر، وهو الذي يقال له أيضاً ناصف باشا، وسار من جهة الشام حتى وصلوا إلى العريش، فاستعد الفرنسيس لقتالهم وخرج بجنوده إلى الصالحية، ثم توسط الإنكليز بالصلح على شروط كثيرة، منها أن الفرنسيس يتنحى عن الديار المصرية بعد ثلاثة أشهر، ففي تلك المدة صار الناس يحتقرونهم يسخرون بهم، ويقول بعضهم لبعض سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة، كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس وهم يحقدون ذلك عليهم، وكشف همج الناس نقاب الحياء معهم بالكلية، وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور، حتى إن فقهاء الأطفال كانوا يجمعون الأطفال ويمشون فرقاً وطوائف وهم يجهرون ويقولون كلاماً مقفى بأعلى أصواتهم يلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم، كقولهم ينصر الله السلطان ويهلك فرط الرمان. ولم يملكوا لأنفسهم صبراً، حتى تنقضي الأيام المشروطة، على أن ذلك لم يثمر إلا الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس، وأخذ الفرنساوية في أهبة الرحيل، وشرعوا في بيع أمتعتهم وما فضل من سلاحهم ودوابهم، وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس. ثم إن العثمانيين تدرجوا في دخول مصر وصار كل يوم يدخل منهم جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بعد جماعة، ووصل الوزير يوسف باشا إلى بلبيس والتقى بالأمراء المصريين وأخلى الفرنساوية قلعة الجبل وباقي القلاع التي أحدثوها ونزلوا منها، فلم يطلع إليها أحد من العثمانيين، وطلع كثير من العلماء والتجار للسلام على الوزير في مدينة بلبيس في رمضان، فقابلوه وقابلوا والي مصر نصوح باشا وخلع عليهم خلعاً وانصرفوا. ثم في شهر شوال وقعت حادثة كانت سبباً للنقض، وذلك أن جماعة من عسكر العثمانيين تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنسيس فقتل بينهم شخص فرنساوي، فثار من ذلك فتنة، ثم قتلوا ستة أنفار كانوا سبب الفتنة فسكنت، لكن لم تطب نفوس الفرنسيس، ثم إن الفرنساوية طلبوا ثمانية أيام مهلة زيادة على المهلة السابقة لما قرب تمامها، فأعطوهم الثمانية أيام ونصبوا وجاق عسكرهم وخيامهم بساحل البحر متصلاً بأطراف مصر ممتداً إلى شبرا وترددوا إلى القلاع وهي لم يكن بها أحد، وشرعوا باجتهاد في رد الجبخانة والذخيرة وآلات الحرب والبارود والقلل والمدافع، واجتهدوا في ذلك ليلاً ونهاراً والناس يتعجبون من ذلك، وأشيع أن الوزير اتفق مع الانكليز على الإحاطة بالفرنساوية إذا صاروا بظاهر البحر، وكان الفرنساوية عندما تراسلوا وترددوا إلى جهة العرضي تفرسوا في عرضي العثمانيين وعسكرهم وأوضاعهم، وتحققوا حالهم فعلموا ضعفهم عن مقاومتهم، فلما حصل ما ذكر تأهبوا للمقاومة ونقض الصلح والمحاربة، وردوا آلاتهم إلى القلاع، فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه بها من عساكرهم، خرجوا بأجمعهم إلى ظاهر المدينة جهة قبة النصر، وانتشروا في النواحي ولم يبق في المدينة إلا من كان داخل القلاع. فلما كان اليوم الثالث والعشرون من شوال ركب السر عسكر الفرنساوي بعدده وعدده صباحاً ومال على العساكر المصرية من كل جانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فشتت شملهم وفرق جمعهم، ولم تزل العساكر المصرية فارة من عدوها حتى دخلت مصر، مع وقت العصر، ولما دخل نصوح باشا صار يقول للعامة اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم فعج الناس وهاجوا، وخرجوا من عقولهم وماجوا، ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشام وساروا إلى حارات النصارى يقتلون وينهبون ويأسرون فتحزبت النصارى ولا يزالون يتقاتلون إلى آخر النهار، وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس، فلما أظلم الليل أطلق الفرنساوية المدافع والكرات على البلد من القلاع، ووقع الناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والخوف ما لا يوصف، وأحاط الفرنساويون بالبلد إحاطة السوار بالمعصم، وأكثروا من الرمي بالمدافع على البيوت من القلاع، وعدمت الأقوات، وانسدت عن الجلب الطرقات، وهلكت البهائم، وليس للناس من مجير ولا راحم، ثم هجموا في ليلة شاتية على البلد من كل ناحية، فقتلوا الرجال، وسبوا الحريم ونهبوا الأموال، وأحرقوا البلاد، وأذاقوا الناس كؤوس الإهانة فوق المراد، ووضعوا أيديهم على البيوت والحوانيت وسائر الأموال، وملكوا النساء والصبيان والرجال. وفي أوائل ذي الحجة سنة خمس عشرة ومائتين وألف خرج العثمانيون من مصر، واستولى الفرنساويون على سائر آلاتهم ومدافعهم وعددهم وتم لهم أمر الاستيلاء على مصر، وأمنوا الناس، ثم إنه قرر على أهل مصر يدفعون عاجلاً تأديباً لهم زيادة على ما وقع منه عشرة آلاف ألف ألف فرنك، وسافر السر عكسر وأقام مكانه يعقوب القبطي يفعل بالمسلمين ما يشاء، ودارت العساكر للتحصيل، فباعت الناس أمتعتها الجليل منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 والقليل، إلى أن انفقد المشتري ولو بأبخس الثمان، وذل في ذلك الوقت كل عزيز وهان، ولم يزل ذلك الظلم يتفاقم ويزكو ويتعاظم، والناس يتمنون المنية، في كل بكرة وعشية، إلى آخر شوال سنة خمس عشرة ومائتين وألف برز الأمر من مولانا السلطان سليم بالتجهيز إلى مصر براً وبحراً، فعساكر البر بمعية يوسف باشا وعساكر البحر بمعية الإنكليز، وفي أوائل ذي القعدة وردت مراكب الإنكليز إلى ثغر الإسكندرية، وجاءت الأخبار إلى الفرنساويين بأن يوسف باشا وعساكره وصلوا إلى العريش، ثم وقع الحرب بين الإنكليز والفرنساوي براً في الإسكندرية، وكانت الهزيمة على الفرنساويين، وقتل منهم كثير، ثم وقع قتال آخر بينهما فقتل من الفرنسيس خمسة عشر الفاً. وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون مات فيه خلق كثير، وفي خامس المحرم عام ستة عشر ومائتين وألف تحصن الفرنساويون وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إلى القلعة بمصر، وكذلك البارود والكبريت والقلل والقنابر وغير ذلك، ووضعوا المتاريس خارج البلد وحفروا الخنادق، وشاعت الأخبار بأن العثمانيين والإنكليز تقدموا وتملكوا رشيد ودمياط. وفي ثالث صفر وقع الحرب بين العثمانيين والفرنساويين وكان النصر للعثمانيين، ثم انعقد الصلح على خروج الفرنسيس من مصر، وتسليمها للدولة العثمانية، فخرجوا في أواخر صفر، ودخل الوزير يوسف باشا مصر في التاسع والعشرين من شهر صفر بموكب حافل، وكانت مدة تملك الفرنساويين مصر ثلاث سنين وشهراً. وهذا مجمل ذلك ولو فصلناه لطال المسير على السالك. الشيخ أبو بكر بن عمر بن عبد الواحد الحلبي الشافعي الفقيه المقرىء أحد القراء والمشايخ بحلب ولد بها سنة أربع وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على حيدر بن محمد المقري، وأخذ القراءات عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المتقن الكبير أبي محمد عمر بن شاهين، ومحمد بن مصطفى البصري الحلبي، وأتقن الحفظ والتجويد والترتيل ورغب فيه الناس، وقرأ الفقه على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي الحلبي، ومصلح الدين مصطفى بن إبراهيم الحموي العلواني لما قدم حلب، وما زال معتنى به مقصوداً للتلقي عنه والأخذ منه، إلى أن توفي سنة ألف ومايتين وبضع عشرة رحمه الله تعالى. الشيخ الملا أبو بكر البغدادي إمام حضرة شيخ الحضرة مولانا خالد قدس سره العالم العامل، صاحب الآثار والشمائل، والمعارف والفضائل، والبراهين والدلائل، إمام حضرة العمدة الأستاذ، والصفو الملاذ، مولانا المجد التالد، سيدنا الشيخ خالد، قدس الله سره فإنه إمامه في الحضر والسفر، مع تجرده عن العوائق القاطعة الموقعة له في الخطر، المتحلي بمحاسن الأفعال، وجميل الأحوال، المتخلي عن كل ما يطعن في المقام، وينافي الاحترام، الفقيه العابد، والورع الزاهد، السياح في قفار التوحيد والتجريد، حافظ كلام الله تعالى المجيد، الصادح في المحراب بالسبع المثاني والكارع من كؤوس العرفان زلال الأماني، إذا سمعته حينما يجود القرآن في إقباله على المعبود، قلت هذا ملك أعطي مزماراً من مزامير آل داود، صاحب المقام الصفي الأنيس، ذو التسبيح والتقديس، قد لازم حضرة مرشد الزمان مولانا خالد واستجلب رضاه وفاز بأنظاره الإكسيرية وكان خليفة عنه في إعطاء الطريق، وإرشاد الناس إلى العهد الوثيق، ولم ينفك عنه إلى أن توفي في دمشق الشام، ودفن في جنب حضرة مولانا خالد في جبل قاسيون من جهة حارة الأكراد مع الشيخ إسماعيل والشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 عبد الله الهراتي وصي الشيخ وكانت وفاة المترجم المرقوم سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين رحمه الله تعالى. السيد الكامل أبو بكر الصيادي الزيتاوي بن السيد محمد بن السيد سليمان بن السيد محمد بن السيد علي بن السيد محمد بن السيد خير الله الثقاني بن السيد محمد بن السيد خير الله بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد عبد السميع بن السيد المطيع بن السيد شريف بن السيد عبد السميع بن السيد شمس الدين أحمد الأصغر بن السيد القطب صدر الدين علي بن الغوث الأكبر السيد عز الدين أحمد الصياد سبط النفس النفيسة الرفاعية رضي الله عنهم. قال صاحب تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار: كان كآبائه بكفرزيتا، وكان من أهل العلم والكمال، وتزوج وأعقب السيد حسين، والسيد حسين أعقب السيد محمد الزيتاوي نزيل حماه الشيخ العابد الصالح الورع والمترجم، وذريته كلهم بحمد الله ذوو تقوى وعبادة، وصلاح وزهادة، توفي المترجم في حدود الأربعين ومايتين وألف. السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله بن عيدروس بن علي بن محمد بن شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرموتي إمام فاضل، وزاهد عابد عالم عامل، من بيت علت أركانه، وسما قدره وشأنه، ولد بحضرموت، ونشأ ببيت السيادة والأدب، وتربى بربوع الرفعة على مهاد الرتب، وقرأ العلم على أفاضل بلاده، وطاف الأقطار إلى أن قدم الحجاز، واجتمع بالأفاضل ذوي القدر والامتياز، وذهب إلى الهند واجتمع بعلمائها وأذعن له أفراد فضلائها، ثم ذهب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 دار السعادة اسلانبول المحمية، وكان قدومه إليها سنة اثنتين وثلاثمائة وألف هجرية، فاجتمع بساداتها الأفاضل، وتحلى بها مما رامه من أنواع الفضائل، ثم رحل إلى مصر، ومنها إلى حضرموت؛ ولبيته في تلك الناحية شهرة جليلة، وله تآليف مفيدة، منها كتاب رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبي الهادي، وله شعر عذب رشيق، يتنوع برياض أساليبه كل معنى أنيق، وكانت ولادته في حدود الخمسين والمائتين والألف تقريباً، أحياه الله الحياة الطيبة، وأحسن إليه بكل طاعة من جنابه الشريف مقربة، ومن نظمه مشطراً قصيدة الأستاذ ابن بنت الميلق الشاذلي مادحاً حضرة الغوث الرفاعي قدس سره، وهي قصيدة صوفية طويلة جداً، أولها: من ذاق طعم شراب القوم يدريه ... ولم يروق رحيقاً غير صافيه ومنها: إن المريد مراد والمحب هو ... المبدو بالحب من ذي العرش هاديه فهو المراد المهنى في الحقيقة والمحبوب ... فاستمل هذا من أماليه إن كان يرضاك عبداً أنت تعبده ... ملاحظاً نفي تمثيل وتشبيه وإن أقامك في حال فقف أدباً ... وإن دعاك مع التمكين تأتيه فيفتح الباب إكراماً على عجل ... باب المواهب بشرى من يوافيه تضحي وتمسي عزيزاً في ضيافته ... ويرفع الحجب كشفاً عن تنائيه وثم تعرف ما قد كنت تجهله ... ويصطفيك لأمر لا ترجيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 يوليك ما ليس يدري الفهم غايته ... ويعجز الحصر قد جلت معانيه وترتوي من شراب الأنس صافية ... في مقعد الصدق والمحبوب ساقيه من ذاقها لم يخف من بعدها ضرراً ... يا سعد من بات مملواً بصافيه وصل يا رب ما غنت مطوقة ... يسلو الخلي بها والصب تشجيه وما تمايلت الأغصان من طرب ... على النبي صلاة منك ترضيه والآل والصحب والأتباع ما تليت ... من ذاق طعم شراب القوم يدريه وله قصائد كثيرة وموشحات شهيرة أطال الله بقاءه وأعلى مرتقاه السيد أبو الخير الخطيب بن المرحوم الشيخ عبد القادربن الشيخ صالح بن عبد الرحيم فاضل لم يطلق في غير الفضائل لسانه، ولم يتخذ غير مأثور الشمائل عنوانه، حاز معالي الآداب بحسن الهمة، وترقى على درج الكمال إلى أن لحق العلماء الأئمة، وهو الثاني من أكبر إخوته، والمنتخب من بينهم من حين نشأته، وأنهم أربعة وكل منهم قد نشأ على العلم والكمال، والتحلي بالمعارف والتخلي من الأوحال، غير أن المترجم قد تقلد بأعلى الفرائد، وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد، تخرج على يديه الكثير من ذوي الطلب، ونالوا من بيانه بديع المرام والأرب، مع ورع وزهادة، وتقوى وعبادة، نشأ في حجر والده وعليه تكمل، وبه قد حاز على ما رجا وأمل، وكان مواظباً على تدريس العلوم، للخاص والعام، في جامع بني أمية في دمشق الشام، وكان يقرأ بعض دروسه في مدرسته أمام سوق الحرير، وكان هو الساعي بعمارتها وإرجاعها من المملوكية إلى التحرير، وكان له نوبة خطابة في جامع بني أمية المومى إليه، وهو قد سعى بها لنفسه إلى أن وجهت عليه، وكان محبوباً بين الناس، لم تسمع يوماً من يذكره بباس، توفي مساء الخميس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ثالث ربيع الأول سنة ثمان وثلاثمائة وألف من هجرة النبي الأمين وقد ناهز من العمر نيفاً وستين، ودفن بجبانة الدحداح شمالي دمشق ختم الله لنا وله بخاتمة أهل السنة، وحشره في زمرة سيد المرسلين واسكنه الفردوس في الجنة. أحمد باشا الجزار البشناقي والي عكا ولد في بوسنة سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، ولما بلغ من العمر ست عشرة سنة، خان أخاه بامرأته، فما أقبحه وما ألعنه، وذلك لما كان مطبوعاً عليه من فساد الطبيعة، ومخالفة الملة والشريعة، فاضطره الأمر إلى الهرب من بلاده إلى القسطنطينية، فقضى بها مدة بالذل والشقاء والفاقة القوية، فأوجبت عليه ضرورة الهوان والتنكيد، إلى أن باع نفسه لأحد تجار العبيد، فآل به الأمر إلى أن بيع بمصر، فدخل في سلك المماليك المصرية، وجعل الزمان يساعده على المرام والأمنية، فارتقى من منصب إلى أعلى، حتى صار والي البحرية في مصر السفلى، وتولى قيادة جيش محاربة العرب الخارجين على الدولة، فظفر بهم وغدر برؤسائهم وصال عليهم أي صولة، ومن ثم لقب بالجزار، عليه ما يستحقه من المنتقم الجبار، وكان قاتله الله مجبولاً على الفظاظة، والقسوة والغلاظة، قليل الرحمة عديم الإسلام، مطبوعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 على الفسوق والآثام، قد اتخذ هواه من دون الله هادياً ونصيرا، واستكبر في نفسه وعتا عتواً كبيراً، وكان سفاكاً للدماء، لا يتقيد بشرع بل كان يفعل ما يشاء، فأكرمه على قتل العرب حضرة علي بيك حاكم مصر، ولقبه بلقب بيك جزاء ذلك النصر، غير أنه بعد ذلك ساءت سيرته فركن إلى الفرار، ومكث في قسطنطينية أياماً ثم هرب إلى سورية بقصد الاستتار، فدخل دير القمر ملتجئاً إلى الأمير يوسف الشهابي الوالي حينئذ على جبل لبنان، سنة خمس وثمانين ومائة وألف من هجرة سيد ولد عدنان، فرحب به الأمير وأكرمه، وأبقاه عنده واحترمه، ثم بعد أيام أرسله إلى بيروت، وعامله معاملة الأكارم من ذوي البيوت، ورتب له شيئاً من الرسومات وافياً بالمرام، فأقام اياماً ثم سار إلى دمشق وخدم عند عثمان باشا والي الشام، وفي سنة سبع وثمانين ومائة وألف جعله الأمير يوسف متسلماً من قبله على بيروت وجعل معه طائفة من المغاربة، ثم إنها لم تطل المدة حتى خان ورام أن يبلغ مآربه، فصمم على مبارزة الأمير وشرع في ترميم الأسوار، وجعل يهيىء الميرة وآلات الحرب للحصار، ويمنع أهل البلاد من الدخول إلى المدينة، ولا يدع شيئاً يخرج منها بهمة مكينة، ثم لما دخل بيروت ثانية وفعل ما فعل، استغاث الأمير يوسف بحسن باشا وأخبره بما حصل، وكان قد سافر إلى قبرص قاصداً القسطنطينية، فعاد حسن باشا من قبرص بهمة قوية، وأخرج الجزار من بيروت، وهو مقهور ممقوت، ووعد الأمير أنه سيعزله وعاد إلى القسطنطينية، وسار الجزار بعسكره براً إلى صيدا وعساكره ستمائة من الشجعان اللاوندية، فأرسل الأمير النكدية يكمنون لهم في الطريق، ولما التقى العسكران قتل أصحاب الجزار أكثر النكدية وضيقوا عليهم أشد التضييق، وقبض على بعض أعيانهم، وجعل الموت نصب عيانهم، فجعل الأمير يعتذر للجزار، ويستشفع في إطلاق جماعته على مائة ألف قرش وتخليصهم من الدمار، ولما طلب الأمير المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من الجبل أبي الأمراء الدفع، فطلب الأمير من قائد عسكر الجزار أن يتلف أشجار بيروت وأن يستأصلها بالقطع، ففعل وقتل جماعة من رجالهم معتصماً بحبل الظلم والعدوان، ثم دهم الشويفات فرجع عنها بالخزي والخسران، ثم سار إلى صيدا ثم إلى بعلبك وعظم أمره في تلك الأقطار، وحيئذ خرجت بيروت من يد الأمير يوسف ودخلت في حكومة الجزار، فأمر الجزار قائده أن يضبط ما للأمير واللبنانيين في البقاع، عوضاً عما أتلفه من الرجال والأشجار والمتاع، فلما بلغ الأمير ذلك اصطلح مع أمراء الجبل وجمع عسكراً لمقاتلة الجزار المذكور، فانهزم في عدة مواقع وهو مكسور، ثم بعد ذلك وقع الصلح بين الأمير يوسف والجزار، فصار يساعده ويواده وهو عنده بمنزلة المستشار، ثم إن الجزار بعد أن أنعم عليه الأمير ظاهر العمر وقلده قيادة جيشه وعدده ومدده، جحد معروفه وخانه وقتله بيده، وحيث كان ظاهر العمر عدواً للدولة أنعمت على الجزار مكافأة على ذلك بولاية عكا وصيدا معاً، فبقي عليهما إلى حين أن أوقعته المنية في أودية المهالك، ثم بعد تلقيب السلطان له بالوزارة ولاه على دمشق زيادة على توليته، وذلك عام ألف ومائتين وثمانية عشر فزاد في الطغيان على عادته، من قتل الأنفس وسلب الأموال، حتى قتل من أعيان دمشق خلقاً كثيراً من ذوي الكمال، من أجلهم وأفضلهم السيد عبد الرحمن أفندي المرادي مفتي الحنفية وأسعد أفندي المحاسني مفتي الحنفية أيضاًن واصطنع للناس أنواع العذاب بآلات اخترعها له طائفة من الأكراد، وأعانوه على ظلمه للعباد، حتى أكثروا في البلاد الفساد، وأقروه على دعواه أنه مجدد الوقت، بل باء هو وإياهم بالطرد والمقت، وكان رئيسهم رجلاً يدعي التصوف، ويقول إن الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية أخبر عنه، وادعوا أن قتل الأنفس وسلب الأموال، وجميع ما يفعله ليس حراماً عليه بل حلال، هكذا شاع عنهم حتى أكفروا علماء العصر بإنكارهم عليهم، وألف بعض المتهورين ممن أضله الله على علم في ذلك كتاباً وادعى فيه أنه المجدد، وكان من أعوانه، وكان من جملة أعوانه أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب، له اطلاع في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق مع طائفة من المعذبين والعساكر وكان رئيسهم وإليه المشورة في أمورهم، فما زال يتغالى في قباحته، ويتعالى في مضرته وإساءته، ويتلذذ بقتل الرجال، وسلب الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، وترتج لسطوته الجبال، وكان قد اجتمع هذا الضال يوماً مع الفاضل العلامة السيد شاكر العقاد في دار المولى حمزة أفندي العجلاني مفتي السادة الحنفية، فشرع الخبيث يطنب في مدح الجزار، وأقسم بالله العظيم أنه ليس بظالم وأنه عادل وكرر ذلك مراراً. ثم أقسم أنه على الكتاب والسنة، ثم التفت مخاطباً السيد شاكر المرقوم وقال له يا شيخنا أما تقول أنه عادل؟ فحاوله الشيخ المرقوم رحمه الله تعالى وقال له إن له على الناس فضلاً عظيماً حيث دفع عنهم شر الفرنج لما حاصروه في عكا وبذل جهده في ذلك، فقال له لا أسألك عن هذا، فقال له أنا أقول أن ذنوبنا كثيرة والله تعالى أرسله إلينا لينتقم منا به. فعرض بذلك إلى أن الظالم ينتقم الله تعالى به ثم ينتقم منه. قال السيد شاكر رضي الله عنه وفهم الخبيث مني ذلك حتى رأيت شعر شاربيه كالمسلات واقفاً من شدة الغيظ، ثم قام الشيخ وانقضى المجلس على ذلك، فرحم الله تعالى روحه ونور مرقده وضريحه، ما أصلبه في دينه، حيث لم يور في كلامه بأنه عادل عن الحق ويرضيه بذلك الخوف ضرره، وقد كفاه الله تعالى شر هذا الخبيث. خترعها له طائفة من الأكراد، وأعانوه على ظلمه للعباد، حتى أكثروا في البلاد الفساد، وأقروه على دعواه أنه مجدد الوقت، بل باء هو وإياهم بالطرد والمقت، وكان رئيسهم رجلاً يدعي التصوف، ويقول إن الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية أخبر عنه، وادعوا أن قتل الأنفس وسلب الأموال، وجميع ما يفعله ليس حراماً عليه بل حلال، هكذا شاع عنهم حتى أكفروا علماء العصر بإنكارهم عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وألف بعض المتهورين ممن أضله الله على علم في ذلك كتاباً وادعى فيه أنه المجدد، وكان من أعوانه، وكان من جملة أعوانه أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب، له اطلاع في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق مع طائفة من المعذبين والعساكر وكان رئيسهم وإليه المشورة في أمورهم، فما زال يتغالى في قباحته، ويتعالى في مضرته وإساءته، ويتلذذ بقتل الرجال، وسلب الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، وترتج لسطوته الجبال، وكان قد اجتمع هذا الضال يوماً مع الفاضل العلامة السيد شاكر العقاد في دار المولى حمزة أفندي العجلاني مفتي السادة الحنفية، فشرع الخبيث يطنب في مدح الجزار، وأقسم بالله العظيم أنه ليس بظالم وأنه عادل وكرر ذلك مراراً. ثم أقسم أنه على الكتاب والسنة، ثم التفت مخاطباً السيد شاكر المرقوم وقال له يا شيخنا أما تقول أنه عادل؟ فحاوله الشيخ المرقوم رحمه الله تعالى وقال له إن له على الناس فضلاً عظيماً حيث دفع عنهم شر الفرنج لما حاصروه في عكا وبذل جهده في ذلك، فقال له لا أسألك عن هذا، فقال له أنا أقول أن ذنوبنا كثيرة والله تعالى أرسله إلينا لينتقم منا به. فعرض بذلك إلى أن الظالم ينتقم الله تعالى به ثم ينتقم منه. قال السيد شاكر رضي الله عنه وفهم الخبيث مني ذلك حتى رأيت شعر شاربيه كالمسلات واقفاً من شدة الغيظ، ثم قام الشيخ وانقضى المجلس على ذلك، فرحم الله تعالى روحه ونور مرقده وضريحه، ما أصلبه في دينه، حيث لم يور في كلامه بأنه عادل عن الحق ويرضيه بذلك الخوف ضرره، وقد كفاه الله تعالى شر هذا الخبيث. ثم إنه لا زال هذا الضال يتغالى في الظلم في البلاد الشامية، إلى أن قدمت الناس على مجاورته الموت وشراب كؤوس المنية، فتحركت الدولة الفرنساوية على الإتيان إليها لإنقاذها من يد هذا الظالم المجبول على الضرر، وذلك عام ألف ومائتين وأربعة عشر، فحاصر عكا وضيق عليها المسالك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فالتمس الجزار من الأمير بشير الوالي حينئذ المساعدة، فاعتذر بأن الأهالي لا توافقه على ذلك. ثم قدمت مراكب الإنكليز لعكا لرد الفرنساويين، فلم تطل المدة حتى رجع بونابرت بعساكره، وصفا الوقت للجزار عمدة الظالمين، فاشتغل بتعذيب الناس وظلمهم بالقطع والقتل، والجدع والسمل، إلى غير ذلك من الأفعال الفظيعة، والأحوال الشنيعة، حتى صار جوره وعدوانه مثلاً سائراً، ولم يزل إلى أن هلك قبحه الله في عكا سنة ألف ومائتين وتسع عشرة ودفن بها في الجامع المنسوب غليه، وقد أرخه بعضهم بقوله: هلك الجزار ولا عجب ... ومضى بالخزي وبالإثم وبميتته الباري عنا ... أرخ قد كف يد الظم وعند موت الجزار كان في سجنه إسماعيل باشا فأخرجه الشيخ طه الكردي الظالم وأجلسه عوضاً عن الجزار مدعياً بأن الجزار بايعه بالولاية قبل موته، وكتب إسماعيل باشا للولايات يبشرهم بولايته، أما نائب الجزار في دمشق فلم يقبل أن يعترف بإسماعيل باشا والياً، فكتب للأمير بشير يطلب منه محافظة الطرقات وأن يمده برأيه، فأجابه الأمير أني فعلت كل شيء قبل ورود رسالتك، وأما إسماعيل باشا فلا يكون لأن الدولة لم تجعله في هذا المنصب، وبعد برهة أتى إبراهيم باشا والياً على دمشق فسار مع عساكر الأمير بشير وقتل إسماعيل باشا والي عكا، ووضع عوضاً عنه سليمان باشا، فرجعت دمشق إيالة على حدتها وكان ذلك سنة ألف ومائتين وعشرين. وبعد موت أحمد باشا الجزار، تسلط الناس على عزوته، وذوي شوكته، فأذاقوهم كؤوس العذاب، وفتحوا عليهم للهون والذل كل باب، وقرؤوا كلام من الأمر منه وإليه، " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه "، خصوصاً وقد كانوا يعتقدون في الجزار وجماعته ما أخرجهم ظاهراً من الدين، وأدخلهم في عداد الطاغين المعتدين، فمال الناس عليهم ميلة الاستئصال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأذاقوهم كؤوس العذاب والنكال، إلى أن أبادوهم أجمعين، وسيوقفهم الله بين يديه فالحمد لله رب العالمين. الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الدسوقي الأصل الدمشقي المنشأ والولادة الشافعي كان رضي الله عنه في دمشق الشام. من أفراد ذوي الفضل التام، يعتمد في الصواب عليه، ويشار لدى تحقيق الجواب إليه، ومع ذلك كان عالماً عاملاًن وأديباً في السنة كاملاً، ذا شمائل حسنة، وفضائل مستحسنة، له دأب على العبادة، والقناعة والزهادة، ذا كمال وأدب، ومجد يدعوه للترقي على أوج الرتب، إذا حل بناد تهلل بالبشر والسرور، وتحلى بأنواع الجمال والحبور، وترنمت بوسيم شمائله أطياره، وتفتحت بنسيم خلقه أنواره، توفي رضي الله عنه بالمدينة المنورة، والبلدة المقدسة المطهرة، سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في البقيع، تحت ظل السيد الشفيع، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه. الشيخ أحمد بن السيد عبد الغني الأصبحي المشهور بكشوره الدمشقي الميداني الشافعي القادري علم العلماء الأعلام، وتاج الفضلاء الفخام، عمدة الأفاضل، وبحر الفواضل والفضائل، علامة عصره، ونخبة أوانه وفريد دهره، صاحب الصفات العالية، والشمائل السامية، قرأ رحمه الله على والدي مدة حياته، ولم يزل دائباً على الطلب من تمييزه إلى مماته، وكان له مشاركة وإلمام في الفنون العربية، وقدم راسخة في العلوم الشرعية، رحل رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الله عنه سنة ثلاث وستين ومائتين وألف إلى القدس الشريف بقصد الزيارة والعبادة، التي هي في ذلك المحل تضاعف فوق العادة، فتوفي هناك في سبعة وعشرين خلت من شهر رمضان في السنة المرقومة، وكان له هناك شهرة عالية موسومة، فأمر الوالي الذي كان هناك وهو الحاج حسن بيك ابن موسى باشا الشهير بالكحالة بتجهيزه، مع توقيره وتعظيمه وتمييزه، وكانت له جنازة حافلة، وأثنية عالية ممن شيعه وغيرهم هي بحسن حاله ضامنة وكافلة. الشيخ أحمد بن الشيخ إسماعيل العجلوني بيبرس الدمشقي الشافعي العالم النحرير، والشافعي الصغير، له آثار مرفوعة على أكف الثنا، وسيرة محمودة محمولة على هام المرام والمنى، أحيا دروس العلم بعد الاندراس، وفصل مجملها غب وقوعها في مهاوي الالتباس، واتخذ الفضل عنوانه، وقصر على رغائب السنة لسانه، وقد اقر له الخاص والعام، بأنه فرد الأفاضل الأعلام، وكنز الأرب وأسس مبناه، ومحط رحال العرفان والتقدم والجاه، تسامت في زمن شيوخه رتبتهن وعمت في قلوب الناس طراً محبته، برع في المعقول والمنقول، وتبحر في معرفة الفروع والأصول، وكانت له اليد العلية، ودرس في أول أمره في المدرسة الفتحية، في محلة القيمرية، ثم بعد وفاة الشيخ ياسين العجلوني إمام جامع منجك الكائن في ميدان الحصى تواقع عبد الغني آغا الشمري، على الشيخ المرقوم بأن يشرف إلى الميدان، وأن يجعلها محلاً لإقامة ذاته العلية الشأن، ويتعاطى وظائف الجامع المذكور وألح عليه، فأجابه بعد الاستخارة الواردة إلى ما دعاه إليه، وكان بينه وبين والدي محبة فوق المأمول، وكان كل منهما ملازماً للآخر ملازمة الصلة للموصول، ولم يكن لهما اجتماع إلا على المذاكرة والمطالعة من كل ما يفيد، من فقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وحديث وتفسير وتوحيد، ولهما في كل جمعة أوقات، يتذاكران بها بعض الفنون والآلات. ولم يزل في الجامع المذكور إلى أن دعاه داعي المنون، إلى الدار العالية والمقام المصون. توفي رضي الله عنه ليلة السبت قبيل أذان المغرب خامس عشر شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الله خلف ضريح الأستاذ العارف بالله تقي الدين الحصني، وكان لجنازته مشهد حافل، وجمع برفعة القدر والشأن كافل. أحمد حمدي باشا الي ولاية سورية بن يحيى بك ابن الوزير ملك أحمد باشا كان والده من الممتازين بين رجال أمير المؤمنين السلطان محمود العثماني، وأما جده فكان الوزير الأعظم عند السلطان الأعظم محمد المشهور بلقب أوجي. ولد في القسطنطينية في العشر الأخير من ذي الحجة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين، وقرأ على بعض المشايخ ما يلزمه من العلوم الدينية والدنيوية كالصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والعلوم الرياضية ولمعا من الحكمة الطبيعية، وأتقن فن الإنشاء علماً وعملاً، ونبغ في التركية والعربية والفارسية، ثم انتظم في سمط كتبة النظارة الداخلية في الباب العالي، ثم انتقل إلى ديوان كتاب الصدارة العظمى متمماً ما تعلمه على مشايخه من الإنشاء. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وستين للهجرة تفرس فيه رؤساء الكتبة النجابة فأعطيت له الرتبة الرابعة، ونقل إلى باب سر عسكر فكان مأمور الكتابة في شورى الأمور العسكرية، ثم رقي إلى الرتبة الثالثة وجعل معاوناً للكاتب الأول في الشورى المذكورة، ثم رقي إلى الرتبة الثانية في ديوان رئيس الجيوش السر عسكرية. وفي سنة الف ومائتين وخمس وسبعين رقي إلى رئاسة كتاب شورى العسكرية، وبعد قليل جعل عضواً في الشورى المذكورة فضلاً عن رئاسة الكتاب المنوه عنها ثم أنعم عليه المغفور له السلطان عبد المجيد بالرتبة المتمايزة، ثم الرتبة الأولى من الصنف الثاني، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الأولى من الصنف الأول، وأدار أعمال هذا المنصب سبع سنين، وأحسن إليه بالوسام المجيدي من الطبقة الثالثة. ولما كانت سنة ألف ومائتين وأربع وثمانين للهجرة فوضت إليه رئاسة وكالة دائرة الحقوق من ديوان الأحكام العدلية نحواً من شهرين، ثم صار من الوزراء وكلاء السلطنة بتوجيه نظارة الأوقاف عموماً إليه، وبعد ثمانية أشهر عين مستشاراً للسر عسكرية الجليلة مع ضم المخصصات لعهدته، وعلى أثر ذلك أحرز الوسام العثماني من الطبقة الثانية، وفي ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وثمان وثمانين رقي إلى درجة الوزارة السامية وعين ناظراً للمالية، وبعد ذلك بمائة يوم أحيلت إليه ولاية آيدين على أثر التبديلات العظيمة التي طرأت على الوكلاء بعد وفاة المرحوم عالي باشا الوزير الأعظم، وفي أثناء ولايته هذه وقع بين روم أزمير وإسرائيلها نزاع أزعج العالم المتمدن وخيف من تغير السياسة العامة فتوفق بدرايته وعلو همته إلى تسكين جأش القوم، وقطع دابر المفسدين فلم يدع لتغييرها سبيلاً، فأحسن إليه السلطان عبد العزيز مكافأة بالوسام المجيدي من الرتبة الأولى، ونال من الدول الأجنبية وساماً من الرتبة الأولى. وسنة ألف ومائتين وتسع وثمانين وجهت إليه ولاية الطونة، فلبث بها أحد عشر شهراً يسدد أحكامها ويوطد دعائم العدل والأمن، ونال حينئذ من الدولة الروسية وسام القديسة حنة من الطبقة الأولى، وفي صفر سنة ألف ومائتين وتسعين تبوأ ثانية منصب نظارة ألمانيا، وأحسن إليه بالوسام العثماني الأول، وأحرز وسام مشير خرشيد الإيراني من الرتبة نفسها، وفي محرم سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين أنيطت به مرة ثانية ولاية آيدين فأدارها نحواً من أحد عشر شهراً، بسياسة جمعت بين الرضا العالي والمنفعة العامة، ثم وجتت إليه ولاية سورية في إحدى وعشرين ذي الحجة سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين، فقام بما يستغنى عن بيانه، ولكن انحراف صحته جعله يستقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وذهب بقلوب الناس إلى قاعدة السلطنة، وصار فيها رئيساً للجنة القوائم، وبعد أقل من عشرين يوماً صار رئيساً للدائرة الملكية في شورى الدولة، وكان ذلك في ثلاثة وعشرين من شهر رجب سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين، ثم بعد ثلاثة عشر يوماً عين ناظراً للخزينة الخاصة، وبعد ستة عشر شهراً صار ناظراً للداخلية، وفي خمسة من المحرم سنة الف ومائتين وخمس وتسعين رقي إلى الصدارة العظمى، فبلغ ما بلغه جده المشار إليه، وفي ثاني صفر من السنة المذكورة عين مرة ثالثة والياً على آيدين، وبعد سنة أي في محرم سنة ألف ومائتين وست وتسعين وجهت غليه ولاية بغداد، ولكن بعد ثلاثة أيام صدرت إرادة سنية ببقائه في مركزه إجابة لالتماس الأهلين أجمع في ولاية آيدين، فأقام فيها ثلاثين شهراً ونال الوسام الألماني المعروف بالتاج من الصنف الأول، وفي شهر رمضان سنة الف ومائتين وسبعٍ وتسعين أنيطت به ثانية ولاية سورية، ومكافأة لخدمته المبرورة وآثاره المشكورة في هذه الولاية نال من عواطف الحضرة الشاهانية الوسام العثماني مرصعاًن بعد أن أهداه امبراطور النمسا نيشان ليوبولد الأول، مما يثبت ما له من استقامة المسلك وحسن التدبير وصدق الخدمة. هانية الوسام العثماني مرصعاًن بعد أن أهداه امبراطور النمسا نيشان ليوبولد الأول، مما يثبت ما له من استقامة المسلك وحسن التدبير وصدق الخدمة. والحاصل أنه منذ انتظامه في سلك كتبة الباب العالي حتى الآن أي منذ اثنتين وأربعين سنة لم يبق بلا منصب سوى ثلاثين يوماً على أثر استقالته المرة الأولى من ولاية سورية، وتسنى له مع اختلاف الأطوار، وتضارب الأوطار، وتقلب الأحوال وتغاير السياسات، أن يكتسب في جميع المناصب الخطيرة رضي الدولة وثقتها، وثنا الأمة ومحبتها، في عصر تعدد فيه السلاطين العظام، الذين كانوا بجملتهم يرمقونه بعين العناية والالتفاف جزاء لمآثره المشهورة وصداقته، وهو مع سكونه بعيد الهمة نبيل القصد عفيف معتدل الرأي خالي الغرض، يتغلب على المصاعب بالثبات والصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 والحلم، والاجتهاد في الإصلاح بالحمية والغيرة لنفع الوطن وتشييد عماده، وثناء أهل الدين عليه دليل أعماله الخطيرة، ومساعيه المشكورة، في سبيل عمران تلك الولاية وإنماء ثروتها وتوطيد راحتها، واستئصال اللصوص من أنحائها وضواحيها. ولما كانت ولايته الحالية مشمولة بعناية خصوصية من لدن حضرة صاحب الشوكة والاقتدار مولانا السلطان عبد الحميد خان المعظم وكان حضرة المترجم المشار إليه منصباً على تنفيذ نواياه الخيرية، لإسعاد التبعة والرعية، جاء بآثار جليلة، وأعمال جميلة، أكثرت في الولاية السورية أسباب العمران والنجاح، وفي الولاية السورية عدد ليس بقليل ما برح سائباً في فيافي البدوية مغلولاً بأصفاد اليبوسة لسلب الراحة مكدراً لصفاء الأمن بالاعتداء على أبناء السبيل متعوداً التمرد مكابراً للإصلاح، وطالما كان هذا الفريق موضوعاً لاهتمام أسلاف أبهته من الولاة العظام، دون أن يترتب على ذلك الأثر المطلوب لأن بعضهم كان يأخذه بالعنف ويقابل خشونته بالقسوة والجفا فيعاقبه تارة بالضرب وطوراً بالتنكيل، وآونة بالحرب والتدمير، فكان يزداد تمادياً في البغي وتطاولاً في العتو، لأن ذلك كان عبارة عن مقابلة الخشونة بما يشاكلها، فكان أولئك القوم كالنقطة السوداء في صفحة محيا سورية البيضاء، وأما المترجم المومى إليه فأخذ يلين قسوتهم بالحلم والرفق والحكمة، داخلاً البيوت من أبوابها، فتسنى له المطلوب دون أن يريق قطرة من الدم أو يسلب لأحد مقدار ذرة، فإن السواد الأعظم منهم دخل ربقة الطاعة، وذاق حلاوة السكون والتمتع بتركات الوطن تحت ظلال الأمن والراحة، وأوشك أن يعرف فضل العلم فتمسك بأسبابه، وتعلق بأهدابه، فترى المدارس تنشأ في أعالي الجبال وأعماق الأودية لتثقيف العقول وتهذيب الأخلاق، والأراضي المهملة تصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وتفلح بأيد لم تتعود إلا هز السيوف وتشريع العوامل، وطرقات تمهد وتسلك بعد أن كانت وعوراً لا يكاد يسمع منها سوى عويل المسلوبين وأنين الجرحى من أبناء السبيل، ومعاقل تبنى وتشاد لقيام قوات من الجند يتكفل وجودها بإرهاب العتاة وإخافتهم، وغل أيديهم عن السلب والنهب. ومن تأمل في حالة النصيرية ودروز حوران وأهلها وعرب البادية واللجاه من قبل، ورآها الآن، يرى الفرق بينهما، وأعظم التدابير التي تمت بهذه النتيجة الحسنة إنشاء المنازل العسكرية في جبل الدروز، ثلاثة حصون متينة أولها في قرية عرى، والثاني في المزرعة، والثالث على مقربة من بصر الحريري، ثم أنشأ حصناً آخر في حاصبيا، ومثله في قرية ضمير، وهي تبعد ست ساعات شرقاً عن دمشق، حيثما يأتي إليها أهل البادية للاستقاء منها وهذا خير رادع للبغاة أعداء الأمن، لأنه ما من عات متمرد إلا ويضطر إلى المرور بتلك البقعة، فإذا أتاها أوقعت عليه حامية الحصن ما يكفه عن طغيانه، وردته عن عدوانه، وبنى معقلاً عظيماً في منتصف جبال النصيرية، قرب قرية تعرف بدير شميل، لا تبعد عن مصياف نقطة قوة النصيرية ومنتدى جمهورهم أكثر من نصف فرسخ، فكان مجموع هذه المعاقل ستة، واحد منها كاف لثلاث فرق طوابير، وثلاثة يكفي كل منها لفرقة، واثنان لنصف فرقة، ومن الأبنية التي شادها دون أن يثفل على الخزينة السلطانية دائرة حكومة حاصبيا، وموقف حراس كبير في ضمير، وموقفان للحراسة في بيروت، ومحل لطابور العساكر، ودائرة في جبال النصيرية، ودائرة حكومة في مرج عيون، وأخرى في جنين، وغيرها في بانياس وفي النبطية وفي طرابلس وفي بيروت، ومدرستان للصبيان في حوران، ودائرة للعدلية في الشام. ومن آثاره النافعة إصلاح طريق عجلات من طرابلس إلى حماه، وتأليف شركة وطنية لإدارتها، ثم إكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الطريق الواقعة بين الشتورا وبعلبك، وجعل العجلات تسير عليها دفعتين في الأسبوع، والسعي بتمهيد طريق حوران وقد مهد نصفها ويتم النصف الآخر بعد برهة وجيزة إن شاء الله، والحصول على امتياز لإنشاء طريق حديدية من عكا إلى جسر المجامع، واتخاذ التدابير لإيصالها بدمشق مارة بحوران، ومن المقرر أن هذا المشروع عبارة عن فتح باب لإخصاب أراضي سورية وإغزارها محصولاً. هذا المذكور بقطع النظر عن طرق كثيرة مهدت بمساعي دولته، دون أن تحمل الخزينة نفقاتها، ومنها مد الأسلاك البرقية إلى جميع الأقضية التي لم يكن فيها سلك برقي، كراشيا والقنيطرة والناصرة وطبرية وصفد وغيرها، وإنشاء كثير من المكاتب الابتدائية للذكور والإناث في دمشق وبيروت وطرابلس واللاذقية وحماه وحوران والبلقا وسائر أنحاء سورية وفلسطين، وإيجاد أموال مستقلة تضارع نفقاتها، وتشييد المدرسة الداخلية في بيروت على نسق المدارس العالية المنتظمة في السلطنة، وتجديد دائرة للحكومة في بيروت، وأخرى في طرابلس كافية لمأموري الحكومة والمحاكم العدلية، وقد بنيت على الأصول الهندسية المختارة حديثاً في الممالك المتمدنة، هذا فضلاً عن عدة دوائر للحكومة، ومراكز للتلغراف أنشأها في كثير من الأقضية والنواحي، وعدد ليس بقليل من الجسور والمعابر أقامها على الأنهار الكبيرة خارج دمشق، وذلك دون أن تحمل الخزينة شيئاًن ولا يزال يبذل قصارى الجهد لاستحصال امتيازات بإنشاء المرافىء لدفع نوائب النو في بيروت وغيرها من الثغور، مثل عكا واللاذقية وطرابلس، وهو سائر على تأليف القلوب، وبث العدل واجتهاده ما استطاع بإزالة شائبتي الظلم والاستبداد، وتخويله كل فرد من أفراد الأمة حقه المشروع، إلى غير ذلك مما يضيق المقام دون تبيينه، وتم له ذلك أجمع في مدة لا تزيد عن ثلاث سنين، ولا زال يتوالى إحسانه، ويتواصل امتنانه، الذي من جملته فرش البلاط من السنانية إلى باب الله في دمشق المحمية، إلى أن جرعته المنية كأس الحمام، وفجعت به على الخصوص قطر الشام سنة ألف وثلاثمائة وثلاث في مدينة بيروت، ودفن بها في حي الباشورة، وقد أمرت الذات الشاهانية جلالة السلطان عبد الحميد خان، بتعمير زاوية لمدفنه يصرف عليها من مال السلطان المرقوم أربعة وستون الفاً صاغاً. في السلطنة، وتجديد دائرة للحكومة في بيروت، وأخرى في طرابلس كافية لمأموري الحكومة والمحاكم العدلية، وقد بنيت على الأصول الهندسية المختارة حديثاً في الممالك المتمدنة، هذا فضلاً عن عدة دوائر للحكومة، ومراكز للتلغراف أنشأها في كثير من الأقضية والنواحي، وعدد ليس بقليل من الجسور والمعابر أقامها على الأنهار الكبيرة خارج دمشق، وذلك دون أن تحمل الخزينة شيئاًن ولا يزال يبذل قصارى الجهد لاستحصال امتيازات بإنشاء المرافىء لدفع نوائب النو في بيروت وغيرها من الثغور، مثل عكا واللاذقية وطرابلس، وهو سائر على تأليف القلوب، وبث العدل واجتهاده ما استطاع بإزالة شائبتي الظلم والاستبداد، وتخويله كل فرد من أفراد الأمة حقه المشروع، إلى غير ذلك مما يضيق المقام دون تبيينه، وتم له ذلك أجمع في مدة لا تزيد عن ثلاث سنين، ولا زال يتوالى إحسانه، ويتواصل امتنانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الذي من جملته فرش البلاط من السنانية إلى باب الله في دمشق المحمية، إلى أن جرعته المنية كأس الحمام، وفجعت به على الخصوص قطر الشام سنة ألف وثلاثمائة وثلاث في مدينة بيروت، ودفن بها في حي الباشورة، وقد أمرت الذات الشاهانية جلالة السلطان عبد الحميد خان، بتعمير زاوية لمدفنه يصرف عليها من مال السلطان المرقوم أربعة وستون الفاً صاغاً. الشيخ أحمد بن حسن بن علي رحمه الله تعالى المعروف بالعرشي العلامة الأديب النحوي، الأصولي الفقيه المناظر المعروف بالعرشي، قال صاحب التاج: نشأ في موطنه وقرأ وروى وحدث وبرع في الفنون كلها جملة وتفصيلاً، وكان يتوقد ذكاء وفطنة وشجاعة وسيادة وفخامة، طاف البلاد ولقي العلماء، وصحب المشايخ وأخذ عنهم العلوم، وألف في رد التقليد رسائل ومسائل باللسان العربي المبين، وأتى فيها بالعجب العجاب، وأفحم المقلدين وأدخل عليهم العجز من كل باب. جاهد في الله جهاداً، وارتحل في آخر عمره إلى الحرمين الشريفين فتوفي رحمه الله في الطريق في بلدة برودة من أضلاع كجرات، وقبره هناك، قال تعالى " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " موت الغربة شهادة " وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين. له اليد الطولى في الشعر العربي والفارسي، وكان ينظم في ساعة قصيدة طويلة نحو مائة بيت فصيحة المبنى، بليغة المعنى، قل من يقدر على إنشاء مثلها في أسبوع بل في شهر كامل، كتب إلى علماء عصره، وأدباء مصره كتباً ورسائل لم يجمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولقد كان والله عديم النظير، وفقيد المثيل في أقرانه وأمثاله، بارعاً متقناً في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، بل كان تاجاً على رأس الزمن، وكاسمه أحمد وحسن، لم يلتفت إلى كتب الفروع والرأي وأهلها قط، ولم يعمل في خاصة نفسه إلا بالدليل من الكتاب والسنة، وكان له همة سامية في ذلك، وحمية نامية فيما هنالك، رحمه الله رحمة واسعة. أقول إن الاجتهاد ليس له زمن ينقضي بانقضائه بل الزمن كله زمن له على خلاف في ذلك، وإن هذه المسألة محلها كتب الأصول والفروع فلا حاجة لذكرها هنا، غير أن الاجتهاد له شروط لا يجوز بدونها فمن وصل إليها اجتهد، والله يعلم الصادق وغيره والله أعلم. شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بك بن السيد إبراهيم عصمت بك بن إسماعيل رائف باشا الحسيني الحنفي. بدر أشرقت به سماء عروج العلماء، وأضاءت به أفلاك بروج الفضلاء، رضع ثدي المعالي منذ كان طفلاً، وبرع في تحصيل الأمالي فكان في المكان الأرقى الأعلى، واشتهر بين أهل الفضل بأنه آية الإعجاز، وبهر في جمع العلوم فكان المشار إليه ببنان الحقيقة والمجاز، فهو الفرد الذي لا يبارى، ولا يلحق في ميدان التقدم ولا يجارى. ولد في ليلة الأحد الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام عام ألف ومائتين وواحد، وكانت يد الإسعاد تحوطه من كل ماكر وحاسد، وغب تمييزه قرأ القرآن واشتغل في الطلب على العلماء ذوي الإتقان، وفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة دخل التدريس، وفي غرة رمضان سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين دخل في سلك موالي قضاء القدس، وفي سنة ألف ومائتين وست وثلاثين أحرز مولوية مصر القاهرة، وفي ألف ومائتين وتسع وثلاثين نال مولوية طيبة الطاهرة، وفي اثنتين وأربعين حاز باية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 استانبول، وفي خمس وأربعين تعين من جانب السلطنة السنية مأموراً لتحرير النفوس الروملي، وبعد رجوعه من المأمورية المذكورة أي في سنة ست وأربعين تشرف بمنصب نقابة السادة الكرام، ومن حين وفاة والده الماجد إلى مضي نحو خمس وعشرين سنة كانت إقامته في البيت المنتقل إليه من جده الأمجد مع كمال الاعتدال والراحة، وكان محله هذا مورداً لأصحاب الفضل، ومقصداً لذوي المروءة والعدل، وبعده انتقل لبيته الكائن بأسكدار الواقع بجدار حمام العتيق، فجعله محل انقطاعه وخلوته، فما لبث أن صار لقضاء حاجات الواردين على بحر حضرته، ومورداً لذوي الرشد والهدى، ومقصداً لطلاب الجود والندى، وفي رأس ألف ومائتين وتسع وأربعين أحرز رتبة باية الأناطولي، وفي خلال ألف ومائتين وخمسين استعفى من مسند النقابة الآنفة الذكر، وفي سنة اثنتين وخمسين وجهت لعهدته باية الروملي الجليلة، وفي سنة خمس وخمسين يعني أوائل عصر السلطان عبد المجيد خان أرسل لجانب الروملي بكمال الإعزاز والإكرام لأجل تفتيش أحوال البلاد والعباد مع مأمورية رئاسة مجلس أحكام العدلية، وبعد العود جعل عضواً لدائرة الشورى العسكرية، وقد أبرز من المساعي المشكورة ما يخلد له الذكر الجميل، والثناء الجليل، واشتغل بفصل المواد المهمة الجسيمة المتعلقة بالسلطنة السنية، فاجتهد بما قدمه على سواه، وقضى برفعته وارتقاه، إلى أن نال مسند مشيخة الإسلام العالي في يوم السبت الواقع في اثنين من شهر ذي الحجة عام ألف ومائتين واثنين وستين، وبعد أن استمر في هذا المسند لحل مشكلات المسائل سبع سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً جرى انفصاله يوم الثلاثاء الواقع في حادي وعشرين جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وسبعين، وبعدها سكن في بيت الشرف الذي تملكه من إحسان الذات الشاهانية بوقت مشيخته الكائن بحصار الروملي، واشتغل بالعبادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والطاعات، وتتبع الكتب والمجلات، في دائم الأوقات، وخصص الأوقاف الجسيمة من المسقفات والمستغلات، وبعدها أنشأ مكان مكتبة في المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام، ورتب لها حفظة وخدمة ووقف بها سائر كتبه المتجاوزة خمسة آلاف كتاب من الكتب النفيسة، وأرسلها إلى ذلك المكان، وبعد إكمال ذلك عزم هو أيضاً على أن يهاجر إلى خير البقاع، وفي نيته أن يختم بقية عمره بتلك البقعة المباركة نظراً لشدة محبته لخير الأنام، ورسول الملك السلام، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكن المرء يسعى والمنية تضحك حيث أن أنفاس الحياة المعدودة وصلت إلى النهاية فتوفي رحمه الله تعالى ليلة الأحد لست عشرة خلت من شهر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وخمس وسبعين ودفن في قبره المخصوص الكائن في أسكدار عند محل بئر نوح. هذا وإن المترجم الكبير، والناقد البصير، قد حضر مجالس العلم، بالاستحقاق والفهم، على سادات عظام، وجهابذة قادة أعلام، من أجلهم الفرد الكامل، والعالم العامل، والقطب الشهير السيد محمد الأمير الكبير، وقد كانت له الشهرة الكافية، والمعارف الوافية. وفي سنة ثلاث وستين حينما توجه والدي للدار العثمانية، والدعوة السامية السلطانية، في أيام أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد، لختان ولديه السلطان مراد والسلطان عبد الحميد، قد كثر بين والدي وبين المترجم الوداد، ولم يكن لواحد منهما في غير مذاكرة الآخر مراد، وقد استجاز كل منهما صاحبه، وعامله لمعرفة قدره بالمعاملة الواجبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وبالجملة والتفصيل، إن هذا المترجم كاد أن يقال ليس له مثيل، له ذهن يكشف الغامض الذي يخفى، وفكر لحل المشكلات أروق من الزلال وأصفى، يبصر الخفيات بفهمه، ويقصر فكها على خاطره ووهمه، فجاء بالنادر الذي أعجز، مع تبديل التطويل بالمختصر الموجز، ونظم عقود اللآلي في لبة القريض، ونثر درر المعالي على هام مادحيه فكانوا يفدون عليه وفود البحر الطويل العريض، وكان بعاصمة الروم سراً للإحسان وحاكياً جود زياد وشعر حسان، وقد نظم ونثر، ما يزدرى رقة بنسيم السحر، فمن ذلك قوله رحمه الله وجعل الجنة مأواه ومثواه. إلهي قد فرضت صيام شهر ... علينا محسناً أوفى الجزاء فنلنا فرحة في وقت فطر ... ونرجو مثلها عند اللقاء وقال إن الزمان يعادي من له شرف ... قواه عند أولي الأنظار برهان فللشموس زوال حيثما ارتفعت ... وللبدور إذا يكملن نقصان وقال ألا أن أهنا العيش باكورة الصبا ... وإن الفتى في روضه يانع الغصن وأصعبه ما جاور الشيب حينما ... حكى البدن المنفوش من ناعم العهن ومن جملة توسلاته: يا من إليه الملتجا ... فيما يخاف ويرتجى أنت المجيب لكل من ... يدعوك في غسق الدجى ولكم كشفت غياهباً ... من بعد ما انقطع الرجا أنت المغيث لكل ملهوف ... حشاه تأججا قد أقلق المهج الضعا ... ف أذى الزمان وأزعجا يتلجلج النطق الفصيح ... لدى الرجاء تلجلجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولقد أضاق علي من ... كل الجهات المخرجا بين الجوانح والحشا ... حر الهموم تأججا بحياة خيرتك الذي ... للخير أوضح منهجا أزكى الصلاة مع السلا ... م عليه ما داعٍ نجا ومنها: إصبر إذا باب المنى ... سدت عليك يد الحرج تمنح فتوح مهيمن ... فالصبر مفتاح الفرج ومن جملة تقريظاته ما كتبه على الأحكام المرعية: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وضع الأرض للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فسبحانه من متفضل جزيل الإحسان، والصلاة والسلام على من طابت ببركته الثمار، واخضرت من بقية وضوئه الأشجار، وعلى آله وصحبه الذين أحيوا أموات قلوبنا بهواطل الروايات، فنلنا من مزارع فضائلهم حصائد الخيرات والبركات وبعد فإن خليفتنا الأعظم وسلطاننا الأفخم، ولي نعمة العالم، المتحمل أعباء الخلافة من نوع بني آدم، خاقان البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله سبحانه في أرضه، مالك الربع المعمور في طوله وعرضه، المتخلق بخلق الراحمون يرحمهم الرحمن، المتمثل لقوله سبحانه " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " السلطان ابن السلطان ابن السلطان، السلطان عبد المجيد خان بن السلطان الغازي محمود خان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان، خلد الله ملكه، وجعل الدنيا بأسرها ملكه، ولا زالت أيام دولته كالشمس وضحاها، ولا برحت ليالي سلطنته كالقمر إذا تلاها، وعساكره منصورة في غدوها ومسراها، ومواهبه شاملة للبرية أقصاها وأدناها، ما تبرج ظهر الأرض رافلاً بالخلع الخضراء من وشي الربيع، وتبسمت ثغور الروض من محاسن الصنع البديع، لما اقتعد غارب سرير الخلافة، بسط بساط الإنصاف فائقاً أسلافه الكرام وأخلافه، وتيقظ في إزالة ظلم المظالم حتى إن أنام الأنام في أمان، وبهرت أيامه كالشامة في غرة وجه الزمان، وبالغ في الأمر وأمره مطاع، بقلع شقة الجور والاعتساف من البلاد والضياع، ومد على البرايا جناح الرأفة والشفقة، وعمهم بجزيل الإحسان والصدقة، فمن بدائع عواطفه البهية، وصنائع عوارفه السنية، صدور أمره الشريف بتوسيع الحقوق في الأراضي، وكان ذلك قاصراً في القانون الماضي، كما يطلع عليه من يطالع الصور المكللة المكملة، في بطون هذه المجلة المجلة المجملة، رحمة للضعفاء وفقراء رعيته، ورغبة للثواب الجزيل ومضاعفته، فأيد اللهم هذا السلطان الرحيم الحليم الأفخم، والملك الكريم السليم الأكرم، بالفتح المبين، والنصر على الأعداء والمشركين، بجاه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، عليه وعلى آله وصحبه أفضل صلاة وأكمل تسليم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. كتبه الفقير، المستمنح آلاء ربه القدير، أحمد عارف حكمت بن إبراهيم عصمت الحسيني عوملا بعفو مولاهما الغني آمين. الشيخ أحمد مسلم بن الشيخ عبد الرحمن الكزبري الشافعي الدمشقي من أهل بيت قد عمر بالعلم ربوعه، وزين بالفضل أصوله وفروعه، ورفعت العبادة مقامه، ونشرت على هام السيادة أعلامه، ولقد زاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 هذا البيت كمالاً وقدراً، وعلا منقبة وذكراً، ولا ريب أن هذا المترجم كان على طريقة آبائه الكرام، وأصوله السادة العلماء الأعلام، ولد سنة الف ومايتين وست وثلاثين، وحضر دروس والده وغيره من العلماء الأفاضل، وقرأ على والدي الشيخ حسن البيطار مدة في الحديث وغيره من الوسائل، واستجازه به وببقية العلوم فأجازه إجازة عامة، وكان له من والدي المحبة والرعاية التامة، حيث أنه تلميذه وابن أستاذه، ونجل شيخه وعمدته وملاذه، وكان للمترجم عز وجاه، وصولة قد رفعت بين الناس رتبته وعلاه، إلى أن صار مقصوداً في الحوائج، معدوداً للمهمات من أعظم المناهج، قد أحبه الولاة والحكام، ورفعوا قدره على كاهل الاحترام، وأقبل الناس من كل جانب عليه، حتى كادوا لا يجنحون إلا إليه، ولذلك كان جاهه لعلمه ساتراً، ولتقدمه على أضداده ناصراً، لأن دائرة اشتهاره كانت أوسع من دائرة علمه، ودائرة قاصديه وأنصاره قد زادت على دائرة فهمه، وبعد موت أخيه الشيخ عبد الله سنة خمس وستين ومائتين وألف جلس مكان أخيه تحت قبة النسر، لقراءة صحيح البخاري كل يوم بعد العصر، واستمرت فيه هذه العادة إلى الآن في شهر رجب وشعبان ورمضان. ذكر المحبي في خلال ترجمة الإمام المحاسني أحد مدرسي هذه البقعة أن هذا الدرس وظيفة حادثة بعد الخمسين وألف رتبها بهرام آغا كتخدا والدة السلطان إبراهيم؛ وبنى السوق الجديد والخان قرب باب الجابية لأجلها، وعين للمدرس ستين قرشاً وللمعيد ثلاثين، ولقارىء العشر عشرة قروش اه. اقول لعل هذا الخان هو الخان المسمى بالمرادانية، الذي خرقه الوزير مدحت باشا من جانبيه الشرقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والغربي وخرق أيضاً بجانبه حماماً يقال له حمام المرادنية، ووصلهما بالسوق الجديد الذي بناه إمام جامع السباهية، وأحكمه بأن يكون على خريطة متناسبة من باب الجابية إلى مأذنة الشحم، وهكذا إلى حارة النصارى، وذلك سنة سبع وتسعين ومائتين وألف. والآن تغيرت معالم الخان والحمام وانمحت آثارهما أصلاً لأنهما صارا دكاكين، ولم يبق من الخان إلا بابه، حتى إن الحادث الذي لا يعرفهما لا يظهر له إلا أنه سوق لا غير، والله أعلم. ولا يتوهم أن ابتداء الدرس في هذا المحل من حين الوظيفة لأن الشمس الميداني الآتي ذكره درس قبل ترتيب الكنخدا بنيف وأربعين سنة كما سنذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى. وقد اشتهر بين الخاص والعام أن وظيفة هذا الدرس مشروطة لأعلم علماء الشام. ذكر أول من جلس للتحديث تحت قبة النسر بعد العصر في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أولهم هو العالم العلامة، والحبر الفهامة الشمس محمد الميداني أناله الله في جنته الأماني، قال المحبي في أثناء ترجمته: لما مات الشمس الداودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أي سنة ست وألف فقد الناس مجلسه للحديث فقامت الطلبة على الشمس الميداني بعقد مجلس في الحديث بعد موته بسنتين أو أكثر، فأقرأ في صحيح البخاري بعد صلاة العصر، واختار أن يكون جلوسه تحت قبة النسر، وكان الداودي يجلس تجاه المحراب الذي للشافعية بعد وفاة البدر الغزي واستمر الميداني إلى أن توفي بالقولنج في وقت الضحى يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وألف وصلي عليه قبل صلاة العصر، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبر والده، ولما أنزل في قبره عمل المؤذنون ببدعته التي ابتدعها مدة سنوات بدمشق من إفادته إياهم أن الأذان عند دفن الميت سنة وهو قول ضعيف ذهب إليه بعض المتأخرين ورده ابن حجر في العباب وغيره فأذنوا على قبره اه. ومدة تدريسه على ما ذكر إما أربع أو خمس وعشرون سنة لا سبع وعشرون كما وهم. ثم تولاه بعده العلامة الإمام، والحبر الهمام الشيخ نجم الدين محمد الغزي واستمر إلى أن توفي يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وألف عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام، ودفن بمقبرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الشيخ رسلان رضي الله عنه، ومن غريب ما اتفق له في درسه تحت القبة أن الشمس الداودي كان وصل في قراءة البخاري إلى باب كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يكف شعراً ولا ثوباً، ودرس بعده الشمس الميداني من ذلك الباب إلى باب مناقب عمار بن ياسر وتوفي، ودرس من بعده النجم الغزي إلى أن أكمله في ثلاث سنوات، ثم افتتحه وختمه وأعاد قراءته إلى أن وصل البكاء على الميت، وكانت مدة تدريسه سبعاً وعشرين سنة اه. والظاهر أن الكتخدا المقدم ذكره رتبة في مدة النجم كما يعلم مما سلف والله أعلم. ثم تولاه بعده ولده الفاضل الكامل الشيخ سعودي الغزي وابتدأ من محل انتهى إليه درس والده في صحيح البخاري، واستمر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أن توفي في أوسط ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بمقبرة آبائه تربة الشيخ رسلان قدس الله سره العزيز، وكانت مدة قراءته عشر سنوات ثم طلب التدريس العالم الجليل الشيخ محمد الاسطواني من قاضي القضاة واجتمع هو والشيخ محمد تاج الدين المحاسني في مجلس القاضي وكان الآخر طالباً لها، فوقع بينهما مقاولة ومخاصمة وقيل إنهما تشاتما بألفاظ قبيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ثم وجهت البقعة للمحاسني ومرض الاسطواني من يومه وبعد أسبوعين توفي قبل الظهر من يوم الأربعاء سادس وعشرين المحرم عام اثنين وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الفراديس، قال المحبي: ولم تطل مدة المحاسني أي لأنه درس شهراً واحداً ثم مات في غرة شعبان عشية الأربعاء عام اثنين وسبعين وألف ودفن بمقبرة باب الفراديس بالقرب من جده الأمير الحسن البوريني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ثم وجهت البقعة للأستاذ الكبير محمد بن يحيى الخباز البصير المعروف بالبطنيني ودرس إلى أن توفي في سنة خمس وسبعين وألف، وكان مدة تدريسه ثلاث سنين. ثم وجهت البقعة للإمام الجليل الحنفي الشيخ علاء الدين الحصفكي ودرس مدة، ثم سعى بعض حساده في عزله، وأرسلوا في ذلك كتباً إلى جانب الدولة، فاستقر ذلك في عقول أصحاب الحل والعقد فعزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثم وجهت البقعة للشمس محمد بن محمد العيثاوي قال المحبي: وبقي العلاء على هذا نحو سنة ثم سافر إلى الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 واجتمع بشيخ الإسلام يحيى المنقاري وشكا إليه حاله فأعاد عليه بقعة التحديث، وبقي إلى أن توفي يوم الإثنين عاشر شوال سنة ثمان وثمانين وألف عن ثلاث وستين سنة، ودفن بمقبرة باب الصغير، وأما العيثاوي فإنه توفي ليلة الخميس رابع يوم شهر ربيع الأول سنة ثمانين وألف بداء الاستسقاء ودفن بتربة باب الصغير اه وانظر هل أعيدت للحصفكي بعد وفاة العيثاوي أو قبله؟ والظاهر الأول، لأن المحبي لما ترجم العيثاوي قال وولي آخر أمره تدريس البخاري في الأشهر الثلاثة تحت قبة النسر بجامع بني أمية ثم ذكر وفاته ولم يذكر أنه عزل عن الدرس والله أعلم. ثم وجهت البقعة عن الشيخ علاء الدين الحصفكي المفتي إلى العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ يونس المصري سنة تسع وثمانين فدرس بها إلى حين وفاته، وسافر في هذه المدة مرتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 إلى الديار الرومية، وكان يونب عنه في غيبته في التدريس المرقوم الشمس محمد بن علي الكاملي وكانت وفاة الشيخ يونس في ذي الحجة سنة عشرين ومائة وألف، وكانت مدة تدريسه ثلاثاً وثلاثين سنة ما عدا سنتين درس بهما الكاملي، وأما الكاملي فإنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف كما في تاريخ المرادي. ثم وجهت البقعة للعلامة الشهير الشيخ إسماعيل العجلوني قال المرادي: وذلك أنه ارتحل إلى الروم سنة تسع عشرة ومائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وألف، فلما كان بها انحل تدريس البقعة عن شيخه الشيخ يونس المصري بموته فأخذه هو، وجاء به إلى دمشق، وكان والي دمشق إذ ذاك الوزير يوسف باشا القبطان عارضاً به إلى شيخه الشيخ محمد الكاملي شيخ الشيخ إسماعيل المذكور، وألزم القاضي بعرض على موجب عرضه، وأنه يعطي ما صرفه شيخه الشيخ أحمد الغزي مفتي الشافعية بن الشيخ عبد الكريم بن الشيخ سعودي المقدم ذكره للقاضي، وكان مراد الغزي أولاً التدريس، فحين وصول العرض إلى دار الخلافة قسطنطينية للدولة العلية، ما وجهوا التدريس لشيخه الكاملي، بل وجهوه للشيخ إسماعيل العجلوني، واستقام بهذا التدريس إلى أن مات، ومدة إقامته من سنة ابتداء إحدى وعشرين إلى أن مات إحدى وأربعون سنة، وكانت وفاته بدمشق في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 محرم الحرام افتتاح سنة اثنتين وستين ومائة وألف، ودفن بتربة الشيخ أرسلان رضي الله عنه. وغلط من قال إن مدة درسه ثلاث وأربعون سنة، وأما الشيخ أحمد الغزي فكانت وفاته في يوم الجمعة ثاني شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف. ثم وجه تدريس البقعة للعلامة الشيخ صالح الجينيني الحنفي فدرس إلى أن مات، وذلك يوم الأحد بعد العصر سادس عشر شهر ذي القعدة سنة سبعين ومائة وألف، ودفن في باب الصغير وكان مدة تدريسه تسع سنين. ثم وجه تدريس البقعة للإمام الكبير والجهبذ الشهير الشهاب أحمد المنيني واستمر إلى أن توفي يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، وكانت مدة تدريسه سنة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثم وجه التدريس للعلامة والحبر الفهامة علي أفندي الداغستاني فدرس إلى أن أصابه داء الفالج في صفر سنة ست وتسعين، فأناب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الجهبذ النحرير الشمس محمد الكزبري فدرس بالنيابة عنه أربع سنوات، إلى أن توفي الداغستاني ليلة الخميس ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائة وألف ودفن بسفح قاسيون. ثم وجه التدريس إلى السيد محمد العطار ولم يدرس بل أناب الشيخ الشمس الكزبري فبقي مدرساً إلى أن توفي السيد محمد العطار سنة تسع بعد المائتين وألف. ثم تولاه العالم العلامة، والمحدث الفهامة، الشمس محمد الكزبري من غير تعرض له واستمر إلى أن توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وألف ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن في باب الصغير، وكانت مدة تدريسه إحدى عشرة سنة. ثم تولاه بعده ولده العالم العامل، والقدوة الكامل، ذو الوجه الأنوري الشيخ عبد الرحمن الكزبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فدرس إلى أن توفي في البلد الحرام ختام عام اثنين وستين ومائتين وألف وكانت مدة تدريسه اثنتين وأربعين سنة. ثم تولاه بعده ولده العالم الفاضل، والنحرير الكامل، الشيخ عبد الله الكزبري فدرس إلى أن توفي، سادس وعشرين شهر ربيع الثاني سنة خمس وستين ومائتين والف، وكانت مدة تدريسه سنتين. ثم تولاه بعده أخوه العالم الجليل والفاضل النبيل الشيخ أحمد المترجم المذكور، ذو المقام المشهور، فجلس مكان أخيه تحت قبة النسر في جامع بني أمية المصون، وابتدأ من محل ما وصل إليه أخوه من الصحيح الشريف ذي الشأن، وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف وجهت عليه نقابة أشراف الشام، وفي سنة خمس وثمانين فصلت عنه ووجهت إلى أحمد أفندي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المرحوم أمين أفندي منجك الصالح الهمام، وفي السنة المذكورة وجهت عليه مشيخة الصمادية القادرية الكائنة في محلة الشاغور، في قرب دار المترجم المذكور، ولم يزل مواظباً على الدروس والأذكار، مع تردد الناس إليه آناء الليل وأطراف النهار، إلى أن جذبته يد المنية، إلى الدار الباقية العلية، ليلة الحادي والعشرين من المحرم الحرام، سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين وصلى عليه أكثر أهل دمشق الشام، في جامع بني أمية، ثم دفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد بن محمد أبو الفتح بن محمد العجلوني الأزهري ابن خليل بن عبد الغني العجلوني الجعفري الشاذلي العالم الشهير، والشهم اللوذعي الخطير، المولى المفضال، المتسربل برداء السيادة والكمال، صاحب الفضائل والأدب، والسامي بمعارفه ذروة الرتب، فلله دره من إمام، حاز كل مرتبة ومقام، تليت آيات أحاديثه في طروس ذوي الفضائل والإمداد، فسما في سماء السيادة والإرشاد. وقد أخذ عن الشيخ أحمد بن عبيد العطار، وعن الشيخ علي السليمي وعن الشيخ خليل الكاملي، وله تأليفات شهيرة، وكتابات كثيرة، تدل على فضله وعلمه، وغزير ذكائه وفهمه. وأخذ الطريقة الشاذلية عن والده، ولقد أقرأ وأفاد، وعظم قدره وساد، وكان حسن الشمائل، بديع الفضائل، بريء الذمة، عالي الهمة، جميل السيرة، صافي السريرة، ولد بدمشق سنة سبعين ومائة وألف ولم يزل مواظباً على الإفادة والاستفادة في العلوم، مع إتقان المنطوق منها والمفهوم، والعمل بالتقوى، في السر والنجوى، إلى أن جاءه الطلب، إلى الفوز بالأرب، فمات سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير، رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الشيخ أحمد أفندي بن سعيد بن حمزة بن علي الدمشقي الحنفي الحسيني الشهير بابن عجلان نقيب السادة الأشراف في دمشق الشام وابن نقيبها، وأديب القادة ذوي الإنصاف وابن أديبها، فهو أحد صدور الشام، وقمر سماء أولي المجد والاحترام، وشمس أفق الكمال، وبدر فلك الجمال، إكليل الأدب الزاهر، وزهرة غصن الفضل الناضر، من سما في سماء المعارف والأدب، ورقي بمحاسن كمالاته أسنى الرتب، ولما توفي والده أحيلت نقابة الأشراف إليه، والقت الرئاسة زمامها لديه، وكان له في الكرم كف، لا تعرف القبض والكف، ولا زال يتقلب على فرش الهنا، محفوظاً من كل كرب وعنا، إلى أن وقعت حادثة النصارى نهار الاثنين سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة ست وسبعين ومائتين وألف، فاختل أمر البلد، وأحس ذوو العقل بالشرور والنكد، فما مضى برهة أيام، إلا وقد حضر الوزير المعظم حضرة فؤاد باشا إلى الشام، مرخصاً بما يريد مما عز وهان، من غير مراجعة ولا استئذان، فبعد أيام جمع الأعيان والصدور، وقر قراره بنفي المترجم المذكور، ومعه الشيخ عبد الله الحلبي، وطاهر أفندي مفتي دمشق الشام، وعمر أفندي الغزي مفتي السادة الشافعية بدمشق، وأحمد أفندي الحسيني، وعبد الله بك بن العظم وولده علي بك، وعبد الله بك بن نصوح باشا، ومحمد بك العظمة، وهؤلاء هم أهل مجلس دمشق الشام وأعضاؤه، فنفاهم جميعاً إلى قبرص، ووضعوا جميعاً في قلعة الماغوصة، وكانت وفاة المترجم المذكور في شهر رمضان المبارك سنة سبع وسبعين ومائتين وألف ودفن هناك في تكة الأستاذ مراد ومات عقيماً، غريباً مظلوماً، وإن آل البيت أكثر الناس ابتلاء رضي الله عنه وأرضاه. أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكنى بأبي العز العالم المحسوب من أفراد علماء ذلك الزمان، والمنسوب لمن دامت مآثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ذكرهم وإن غابوا عن العيان، فلا ريب أن شمائله في جبهة الليالي غرة، وفضائله في جيد الأيام درة، مع ما له من حسن الخط وجودة الإنشاء، وجميل السيرة بين الأفاضل والعلماء، أخذ عن الشهابين الملوي والجوهري، وعن الشمس الحفني، والشيخ حسن المدابغي، ومحمد بن النعمان الطائي، وحضر على السيد مرتضى صحيح الإمام البخاري بطرفيه وصحيح الإمام مسلم بطرفيه وسنن أبي داود إلى نحو ثلثيه، وغالب الشمائل للترمذذي، وثلاثيات البخاري، وثلاثيات الدارمي، والحلية لأبي نعيم من أوله إلى مناقب العشرة، وأجزاء كثيرة بحدودها في ضمن إجازته بأسانيدها. قال الشيخ الجبرتي: كان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظاً للنوادر من الأشعار والحكايات، فمن ذلك ما سمعته من لفظه، قال أنشدني رجل من المغاربة بمكة وقد نسيت اسمه، للتقي السبكي يمدح الإمام الغزالي وكتابه الإحياء: لمحمد بن محمد بن محمد ... فضل على العلماء بالتمكين أحيا علوم الدين بعد مماتها ... بكتابه إحيا علوم الدين وأنشدني أيضاً للإمام الغزالي يمدح الإمام الشافعي رضي الله عنهما: إن المذاهب خيرها وأجلها ... ما قاله الحبر الإمام الشافعي فاخترت مذهبه وقلت بقوله ... ورجوته يوم القيامة شافعي وأصيب المترجم في آخر عمره بكريمتيه عوضه الله عنهما الجنة ونعيمها. توفي سابع وعشرين من جمادى الأولى سنة سبع ومائتين وألف. الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله بن محمد الختاني المالكي البرهاني الإمام العلامة، والوجيه الفهامة، يعرف بأبي شوشة، قال العلامة الجبرتي: وله مقام يزار بأم ختان بالجيزة، نشأ في طلب العلم، وحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أشياخ الوقت، ولازم السيد البليدي، وصار معيداً لدروسه بالأزهر والأشرفية، وانتفع بملازمته له انتفاعاً كلياًن وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه، ونوه بشأنه، فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقراء الحديث مكانه بالمشهد الحسيني، واجتمع عليه الناس وحضر من كان ملازماً لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم، واعتقدوا صلاحه، وتحبب إليهم وواسوه بالصلات والزكوات والنذور، وواظب الإقراء بالأزهر أيضاً، وزيارة مشاهد الأولياء وإحياء لياليها بقراءة القرآن والذكر، ويقوم دائماً من الثلث الأخير من الليل ويذهب إلى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة، وزاد اعتقاد الناس فيه واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وإمساكها، وبآخره اشترى داراً عظيمة بحارة كتامة، المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر، وانتقل إليها وسكنها. وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس، فقصدته العرب قطاع الطريق، فأراد الهروب وكان جسيماً فسقط من على بغلته فانكسر زره وحمل إلى داره وعالج نفسه شهوراً، حتى عوفي قليلاً ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله تعالى سنة سبع ومائتين وألف. الشيخ أحمد بن سالم النفراوي المالكي المصري الإمام المفضل، والهمام المبجل، نشأ في حجر والده في رفاهية، ونعمة وافية، ورياسة وكمال، ورفعة وجمال، حافظاً أوقاته بالاجتهاد في الطلب، متمسكاً للوصول إلى المعالي بأقوى سبب، إلى أن جاءته الأماني ملقية إليه مقاليدها، ومنيلة له طريقها وتليدها، ولما مات ولده المرقوم تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوي حتى وجه عليه سائر وظائف والده وتعلقاته، وأجلسه للدرس في مكان أبيه وأمر جماعة أبيه بالحضور عليه، وكان الشيخ علي الصعيدي من أكبر طلبة أبيه فتطلع للجلوس في محله، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أهلاً لذلك فعارضه الشيخ الشبراوي وأقصاه، وصدر المترجم المذكور مع قلة بضاعته بالنسبة للشيخ علي المرقوم ولثغة في لسانه، فحقد الشيخ الصعيدي في نفسه عليه سنين، وكان المترجم ذا دهاء ومكر فتصدى للقضايا والدعاوى واتخذ له أعواناًن واشتهر ذكره، وعلا قدره، وعد من الكبار وترددت عليه الأمراء والأعيان. ولم يزل الصعيدي ينتهز فرصة لتأخير حاله، والقائه في أوحاله، إلى أن أمكنته الفرصة من ذلك، فألقاه في أودية المهالك، ولا زال قرين الذل والهوان، وزمانه يعاكسه فيما جل وهان، إلى أن توفي سنة سبع ومائتين وألف، نسأله تعالى الحفظ واللطف، إنه رؤوف رحيم، وقد ذكر الإمام الجبرتي بعض ذلك. الشيخ أحمد بن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي المصري الأزهري علامة العلوم والمعارف، وروضة الآداب الوريقة وظلها الوارف، جامع المزايا والمناقب، شهاب الفضل الثاقب، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين، وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية، وعلى الشمس الحفني الصحيح مع شرحه للقسطلاني، ومختصر ابن أبي جمرة، والشمائل، وابن حجر على الأربعين، والجامع الصغير، وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الأطفيحي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري، وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة، وكان معيداً لدروسه، وسمع عليه الصحيح بجامع مرزة ببولاق، وسمع من الشيخ أبي طالب الشمائل لما ورد مصر متوجهاً إلى الروم، وحضر دروس الشيخ يوسف الحفني والشيخ إبراهيم الحلبي وإبراهيم بن محمد الدلجي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ولازم الشيخ حسن الجبرتي وأخذ عنه وقرأ عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقايق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زاده وغير ذلك، وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيراً، واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العريان، فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر، فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري، واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه، واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه واختاروه لهذه الخطة العظيمة فكان كذلك، واستمر شيخ الجامع على الإدلاق، ورئيسهم بالاتفاق، يدرس ويعيد، ويملي ويفيد، وقال الجبرتي: وكان يرعى حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة، وسمعت من فوائده كثيراً، ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه، وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي والمطول وعصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك، وكان رقيق الطباع، مليح الأوضاع، لطيفاً مهذباً إذا تحدث نفث الدر، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر، وقد مدحه شعراء عصره بقصائد طنانة. ومن كلامه ما كتبه مقرظاً على رياض الصفا لشيخنا السيد العيدروس هذان البيتان: أخي طالعن في رياض الصفا ... وكن وارداً في مياه الوفا وقل يا إلهي سلم لنا ... وجيهاً حباه كمال اصطفا وكتب على تنميق السفر له مضمناً ما نصه: كتاب على السحر البيان قد انطوى ... وحكمة شعر منه تبدو فضائله وتنسيق أسفار لحضرة سيد ... هو البحر علماً وافر العقل كامله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إذا رمت أسرار البلاغة فهو في ... قصائده الحسنى التي لا تماثله عرائس أفراح وعقد جمانها ... بمختصر المدح المطول قائله وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه أوائله وكتب على النفحة ما نصه: نفحة المولى الوجيه العيدروس ... نشرها يحيا به موت النفوس عطرها باهي وذاك عرفه ... ذكر الأرواح عهداً قد تنوسي جمعت من غرر العرفان ما ... فاق أبهى درر العقد النفيس وله أيضاً وقد كتب على تنميق الأسفار له: ألاح ضوء المنى عن برق أسفار ... أم أشرق الكون من تنميق أسفار أم اليواقيت قد جاءت منظمة ... في عقد در بدا في بعض أسفار؟ إني لأقسم بالرحمن مدحي عبده ... الذي سره بين الورى ساري العيدروسي ذو الفضل الجليل وذو ... المجد العلي وسر الخالق الباري إن الذي صاغه من نور تكرمة ... من جوهر عزلاً من نظم أشعار وله أيضاً عليه: أسر لائح ساري ... سرى في نوره الساري ونور باهر باه ... به زند الهوى واري وبدر سره زاه ... بدا في حسن أسفار وعقد الجوهر المكنو ... ن أم تنميق أسفار كتاب بل عباب فيه ... فلك للهوى جاري ومن كلامه يمدح الأستاذ عبد الخالق بن وفا: شموس لها أفق السعادة مطلع ... أبت في سوى برج السعادة تطلع معارج فضل ليس يرقى سنامها ... سوى مفرد في عزه ليس يشفع سما أفقها السامي أولو المجد والوفا ... وصد سواهم عن سناها وصدعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كواكب هدي قد أضاء بنورهم ... سبيل لمن يبغي الرشاد ومهيع هم السادة الأمجاد والقادة الألى ... بكل كمال جلببوا وتدرعوا هم الشاربو راح التقرب والصفا ... وكأسهم الأصفى مدى الدهر مترع وهي طويلة، ولم تزل كؤوس فضله على الطلبة مجلوة، حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوه، وأي صفاه لا يكدره الدهر، ولم يرشقه بسهام فصم العمر، فدعاه الله تعالى إلى الجنان، وتلقاه جيش الرحمة والرضوان، وذلك في حادي وعشرين من شعبان سنة ثمان ومائتين وألف ودفن بمدفن عمه الشيخ العريان، تغمدهما الله بالرحمة والرضوان. ومن تآليفه شرح على نظم التنوير، في إسقاط التدبير للشيخ الملوي، وحاشية علي الملوي على السمرقندية وغير ذلك. ورثاء الشيخ إسماعيل الخشاب بقوله: تغير وجه الدهر وازور جانبه ... وجاءت بأشراط المعاد عجائبه وكدر صفو العيش وقع خطوبه ... وقد كان ورداً صافيات مشاربه فما لي لا أذري المدامع حسرة ... وافق سماء المجد تهوي كواكبه وما لي لا أبكي على فقد ذاهب ... موصلة لله كانت مذاهبه إمام هدى للهدى كان انتدابه ... فلا كان يوم فيه قامت نوادبه أغرسني شمس الضحى دون وجهه ... وفوق مناط الفرقدين مراتبه حليف ندى كالسيل سيب يمينه ... وكالبحر تجري للعفاة مواهبه أخو ثقة بالله في كل موطن ... على أنه ما انفك خوفاً يراقبه له عفو ذي حلم ورأي أخي نهى ... يضيء لدى محلولك الخطب ثاقبه على نهج أهل الرشد عاش وقد مضى ... مطهرة أردانه وجلاببه فمن ذا الذي ندعو لكل ملمة ... ونرجو إذا ما الأمر خيف عواقبه ومن ذا لإيضاح المسائل بعده ... وحل عرى ما قبل أعيت مطالبه لقد هد ركن الدين حادث فقده ... وشابت له من كل طفل ذوائبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وصدع أركان العلا وتقوضت ... لذاك عروش الغير ثم جوانبه وغادر ضوء الصبح أسود حالكاً ... كأن الدجى ليست تزول غياهبه ألم تر أن الأرض مادت بأهلها ... وإن الفرات العذب قد غص شاربه سطت نوب الأيام بالعلم الذي ... تزال به عن كل شخص نوائبه عجبت لهم أنى أقلوا سريره ... وقد ضم طوداً أي طود يقاربه وكيف ثوى البحر الخضم بحفرة ... وضاق بجدواه الفضا وسباسبه خليلي قوما فابكيا لمصابهبمتهل مع ليس ترقا سواكبه لقد آد إذ أودى وأعقب مذ مضى ... أسى يجعل الأحشا جذاذاً تعاقبه وأي شهاب ليس يخبو ضياؤه ... وأي حسام لا تفل مضاربه وأي فتى أيدي المنية أفلتت ... وأي فتى وافته يوماً مآربه وماذا عسى تبغي من الدهر بعدما ... أصمت وأصمت كل قلب مصائبه يعز علينا أن نراه ببرزخ ... تمازج ترب الأرض فيه ترائبه سقى قبره الغيث الملث وأمطرت ... عليه من الرضوان سحاً سحائبه وحل بفردوس الجنان منعماً ... ولاقته فيه حوره وكواعبه الشيخ أحمد شهاب الدين بن محمد بن عبد الوهاب السمنودي المحلي الشافعي الإمام العلامة، والرحلة الفهامة، بقية المحققين، وعمدة المدققين، من بيت أهل العلم والصلاح، والرشد والفلاح، وأصلهم من سمنود. ولد هو بالمحلة وقدم الجامع الأزهر، وحضر على الشمس السجيني والعزيزي والملوي والشبراوي وتكمل في الفنون العربية، وتلقى عن السيد علي الضرير والشيخ محمد الغلاني الكشناوي مشاركاً للشيخ حسن الجبرتي وللشيخ إبراهيم الحلبي، وعاد إلى المحلة فدرس في الجامع الكبير مدة ثم أتى إلى مصر بأهله وعياله ومكث بها وأقرأ بالجامع الأزهر درساً وتردد إلى الأكابر والأمراء وأجلوه، وقرأ في المحمدية بعد موت الشنويهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 في المنهج، وانضم إلى الشيخ أبي الأنوار السادات، ويأتي إليه في كل يوم، وكان إنساناً حسناً بهي الشكل لطيف الطباع، عليه رونق وجلالة، جميل المحادثة حسن الهيئة، توفي بعد أن تمرض دون شهر عن مائة وست عشرة سنة مع كونه كامل الحواس، إذا نهض نهض نهوض الشباب، وكانت وفاته سنة تسع ومائتين وألف ودفن ببستان المجاورين. وكان يتكتم مدة عمره كما نقل ذلك الجبرتي. الشيخ أحمد بن يونس الحليفي الشافعي الأزهري المصري الإمام العلامة، واللوذعي الفهامة، رئيس المحققين، وعمدة المدققين، النحوي المنطقي الجدلي الأصولي، قال العلامة الجبرتي: ولد المترجم سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف كما سمع من لفظه، وقرأ القرآن وحفظ المتون وحضر على كل من الشبراوي والحفني وأخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ محمد الدفري والدمنهوري وسالم النفراوي والطحلاوي والصعيدي، وسمع الحديث على الشهابين الملوي والجوهري، ودرس وأفاد بالجامع الأزهر، وتقلد وظيفة الإفتاء بالمحمدية عندما انحرف يوسف بك على الشيخ حسن الكفراوي، فاتخذ الشيخ أحمد أبا سلامة أميناً على فتاويه لجودة استحضاره في الفروع الفقهية، وله مؤلفات، منها حاشية على شرح شيخ الإسلام على متن السمرقندية في آداب البحث، وأخرى على شرح الملوي في الاستعارات، وأخرى على شرح المذكور على السلم في المنطق، وأخرى على شرح شيخ الإسلام على آداب البحث، وأخرى على شرح الشمسية في المنطق، وأخرى على متن الياسمينية في الجبر والمقابلة، وشرح على أسماء التراجم، ورسالة في قولهم واحد لا من قلة، وموجود لا من علة، ورسالة متعلقة بالأبحاث الخمسة التي ردها الشيخ الدمنهوري، ولازم الشيخ حسن الجبرتي مدة وتلقى عنه بعض العلوم الغريبة، وكملها بعد وفاته على تلميذه محمود أفندي اثنيشي، وكان جيد التقرير ويميل بطبعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لذوي الوسامة والوجوه الحسان من الأولاد والشبان، فإذا رجع من درسه خلع زي العلماء ولبس زي العامة وجلس بالأسواق، وخالط الرفاق، ويمشي كثيراً بين المغرب والعشاء بالتخفيفة. مات في أوائل رجب سنة تسع ومائتين وألف. الشيخ أحمد بن أحمد السماليجي الشافعي الأحمدي المدرس بالمقام الأحمدي بطندتا الفقيه العلامة الصالح الصوفي، قال الشيخ الجبرتي: ولد ببلدة سماليج بالمنوفية، وحفظ القرآن، ثم جاء إلى مصر وحضر على الشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الخشني والشيخ أحمد الدردير، ورجع إلى طندتا فاتخذها سكناً وأقام بها يقرىء دروساً ويفيد الطلبة ويفتي على مذهبه، ويقضي بين المتنازعين من البلاد، فراج أمره واشتهر ذكره بتلك النواحي، ووثقوا بفتياه. وقوله، وأتوه أفواجاً بمكانه المسمى بالصف فوق باب المسجد المواجه لبيت الخليفة، وتزوج بامرأة جميلة الصورة من بلد الفرعونية وولد له منها ولد سماه أحمد كأنما أفرغ في قالب الجمال، وأودع بعينيه السحر الحلال، فلما ترعرع حفظ القرآن، والمتون، وحضر على أبيه في الفقه والفنون، وكان نجيباً جيد الحافظة يحفظ كل شيء سمعه من مرة واحدة، ونظم الشعر من غير قراءة شيء في علم العروض. أول ما رأيته في سنة تسع وثمانين ومائة وألف في أيام زيارة سيدي أحمد البدوي فحضر إلي وسلم علي وآنسني بحفظ ألفاظه، وجذبني بسحر ألحاظه، وطلب مني تمية فوعدته بإرسالها وأبطأت عليه فكتب إلي أبياتاً في ضمن مكتوب وهي: يا أيها المولى الهما ... م ومن رقى رتب العلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يا مفرداً في عصره ... ومفضلاً بين الملا يا يوسف العصر الذي ... عنه فوآدي ما سلا يا عبد رحمن الورى ... يا ذا المحاسن والحلا يا ابن الجبرتي الذي ... أعطيت ذكراً أجملا مني إليك تحية ... ما حن مشتاق إلى جمالك الفرد الذي ... به المعنى اشتغلا أو لاح نجم في الدجى ... أو سار ركب في الفلا هذا وقد واعدتني ... بتميمة تسمو على حرز الأماني التي ... ما مثلها حرز حلا فاسمح وجد يا سيدي ... وانعم بها وتفضلا ولا تطع في صبك ... المضنى الشجي العذلا وامنن برد جواً به ... فالجسم منه انتحلا والطرف أمسى ساهراً ... والصبر عنه ارتحلا والبعد قد أورثه ... سقماً فلا حول ولا ولما بلغ، زوجه والده بزوجتين في سنة واحدة، ولم يزل يجتهد ويشتغل حتى مهر وأنجب ودرس لجماعة من الطلبة، وحضر إلى مصر مع والده مراراً. وفي أيام شبابه نشبت به أظفار المنية، وحالت بينه وبين الأمنية، وذلك في سنة ثلاث ومائتين وألف، وخلف ولداً صغيراً استأنس به جده المترجم، وصبر على فقد ابنه وترحم، وتوفي هو أيضاً سنة تسع ومائتين وألف رحمهم الله تعالى آمين. الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي الأزهري الإمام العمدة الفقيه، والهمام الصفوة النبيه، المتقن العلامة، المتفنن الفهامة، عين أعيان الفضلاء، ونخبة أفراد العلماء، ولد ببني عدي كما ذكره الإمام الجبرتي سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن، وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى مهر في العلوم، وبهر فضله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الخصوص والعموم، وكان له قريحة جيدة، وحافظة غريبة، يملي في تقريره خلاصة ما ذكر أرباب الحواشي، مع حسن سبك، والطلبة يكتبون ذلك بين يديه. وقد جمع من تقاريره على عدة كتب كان يقرؤها حتى صارت مجلدات، وانتفع بها الطلبة انتفاعاً عاماً؛ ودرس في حياة شيخه سنين عديدة، واشتهر بالفتوح، وكان الشيخ علي الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته، وكان فيه انصاف زائد وتؤدة ومروءة، وتوجه إلى الحق، ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المثيني العددي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك، ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولي مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام، وغير ذلك. ولم يزل على حالته وإفادته وملازمته دروسه ومحافظته على الجماعة حتى توفي سنة أربع عشرة ومائتين وألف ودفن في تربة المجاورين رحمه الله. الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري العلامة الفاضل، والشيخ العمدة الكامل، قرأ على والده وتفقه وأنجب، ولم يزل ملازماً لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله واجتمعت عليه طلبة أبيه وغيرهم، ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيرة بلادهم بقضاياهم وخصوماتهم وأنكحتهم فيقضي بينهم ويكتب لهم الفتاوي في الدعاوي التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي، وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه، ويستمعون لقوله ويمثلون لأحكامه، وربما أتوه بهدايا ودراهم؛ واشتهر ذكره. وكان جسيماً عظيم اللحية فصيح اللسان ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة في ترجمة أبي بكر باشا الطرابلسي، ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة، ولم يعلم له قبر، وكان ذلك سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الشيخ أحمد بن رمضان بن مسعود الطرابلسي المقرىء الأزهري المعروف بالشيخ شامل العمدة الفاضل، والنبيه الكامل، والوجيه العالم العامل، حضر من بلده طرابلس الغرب إلى مصر في سنة إحدى وتسعين وجاور في الأزهر وكان فيه استعداد، وحضر دروس الشيخ أحمد الدردير والبيلي والشيخ أبي الحسن الغلقي وسمع على شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالأولية وغير المسلسل أيضاً، وأخذ منه الإجازة في سنة اثنتين وتسعين، ولما مات الخواجا حسن البناني من تجار المغاربة، فتوصل إلى أن تزوج بزوجته بنت الغرباني وسكن بدارها الواسعة بالكعكيين، وتجمل بالملابس وتودد للناس بحسن المعاشرة ومكارم الأخلاق، وكان سموح النفس جداً دمث الطباع والأخلاق جميل العشرة، ولما عزل السيد عبد الرحمن السفاقسي الضرير من مشيخة رواقهم كان المترجم هو المتعين لذلك دون غيره، فتولى مشيخة الرواق بشهامة وكرم، ونوه بذكره وزادت شهرته. وكان وجيهاً طويل القامة بهي الطلعة بشوشاً، ولما تولى مشيخة الرواق امتدحه الشيخ حسن العطار بقصيدة أشار في مطلعها إشارة خفية لحالته مع المترجم المتولي والسيد عبد الرحمن المعزول، لصداقة بينه وبين المتولي بخلاف المعزول، وأول القصيدة: انهض فقد ولت جيوش الظلام ... وأقبل الصبح سفير اللثام وغنت الورق على أيكها ... تنبه الشرب لشرب المدام والزهر أضحى في الربا باسماً ... لما بكت بالطل عين الغمام والغصن قد ماس بأزهاره ... لما غدت كالدر في الانتظام وعطر الروض مرور الصبا ... على الرياحين فأبرا السقام كأنما الورد على غصنه ... تيجان ابريز على حسن هام كأنما الغدران خلجان ... أغصان النقا والنهر مثل الجسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 كأن منظوم الزراجين يا ... قوت غدا من نظمه في انسجام كأنما الآس عذار على ... وجنته وقد علاها ضرام كأنما الورقاء لما شدت ... تتلو علينا فضل هذا الإمام ثم استمر في مدحه وهي طويلة مسطرة في ديوان الناظم المذكور يقول في آخرها. بشراك مولانا على منصب ... كان له فيك مزيد الهيام وافاك اقبال به دائماً ... وعشت مسعوداً بطول الدوام فقد رأينا فيك ما نرتجي ... لا زلت فينا سالماً والسلام ولما حصلت واقعة الفرنسيس خرج تلك الليلة مع الفارين وذهب إلى بيت المقدس وتوفي هناك سنة أربع عشرة ومائتين وألف. السيد أحمد بن أحمد الشهير بالمحروقي الحريري كان من صدور مصر وأعيانها وأمرائها وكانت له يد طولى وكلمة نافذة وشهرة وافية، وسطوة كافية، وكان رجلاً صالحاً نير الطلعة معروفاً بصدق اللهجة، وافر الأمانة، حسن الديانة، وكان والده ملازماً للدعاء له في صلاته، وسائر حركاته وسكناته، فاستجاب الله دعاءه فيه فتقدم على أقرانه، وانفرد في عصره وأوانه، فكان الحكام لا يشيرون إلا إليه، ولم يزل يعلو مكانه ويسمو مقامه إلى أن تعلقت به أظفار المنية سنة تسع عشرة ومائتين وألف. السيد أحمد بن السيد زيني دحلان المكي مفتي الشافعية بمكة المحمية فريد العصر والأوان، علي الهمة عظيم الشان، علم العلماء الأعلام، وملجأ السادة الكرام، عمدة الأفاضل، ونخبة ذوي الشمائل، من طار ذكره في الأقطار، واشتهر فضله وقدره في النواحي والأمصار، واعترف له ذوو الإجلال، بأنه قد استوى على ذروة الكمال، ولي إفتاء الشافعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بمكة عاصمة البلاد الحجازية، فازداد حبه لدى الخاص والعام، وعظمته قلوب الأهالي والحكام، وكان لطيف المعاشرة، حسن المسايرة، سار في منهج العلم والأدب من صغره، واعتاد قطف ثمرات الرفعة من ابتداء عمره، وحضر دروس الأفاضل، إلى أن جلس معهم على مائدة الفضائل ثم لا زال يترقى مقامه، ويخضع له مطلوبه ومرامه، إلى أن انفرد في جلالته، وانجلبت القلوب على مهابته، وله كنايات حسنة، وتأليفات مستحسنة، من جملتها الفتوحات الإسلامية، بعد مضي الفتوحات النبوية، وهو كتاب مفيد، لكل طالب ومستفيد، ولما تم بدر إشراق جمعه وعم الأنام حسن طبعه، أرخه الهمام المحفوظ من حاسد وشاني، عبد الحميد ابن محمد فردوس المكي الأفغاني، فقال: قف بي على تلك الربا ثم سل ... عن ربع سعدى والجناب الرحيب وانشر حديث الوجد في حيهم ... كي يرحموا الصب المعنى الكثيب واذكر لهم عهداً مضى بالهنا ... في غفلة الواشي وقرب الحبيب واشرح لهم حال معنى بهم ... ما مال عنهم طرفة للرقيب أحبابنا إن واصلوا أو نأوا ... لا حول لي عنهم ولا لي مجيب حتى م هذا العذل يا عاذلي ... كم ذا يقاسي القلب عذل المريب رفقاً بمن أضناه سقم الجوى ... والدمع فوق الخد يبدو صبيب أضحى مقيماً بين أهل وصحب ... لم يداروه وغاب الطبيب والنفع لم يحصل له سوى ... فيض كتاب نافع للأديب حاوي المغازي والفتوحات قد ... فاق التواريخ بوضع عجيب تأليف مولانا إمام الهدى ... الكامل الفرد الحسيب النسيب أعني رئيس العلم في مكة ... مفتي الأنام اللوذعي الأريب يا رب فاحفظه لنا دائماً ... مرتقياً في رغد عيش خصيب فالطبع لما تم تاريخه ... نصر من الله وفتح قريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وكان رئيس علماء الحجاز، ومقدمهم في الحقيقة والمجاز، وكانت الإمارة الحجازية تنظر إليه بعين الرعاية، وتضمه إليها ضم العناية، ولم يزل مقامه يعلو، وقدره يسمو، إلى أن اختارته الآخرة، للمراتب الفاخرة، توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة أربع وثلاثمائة وألف ودفن في البلد الحرام، في مقبرة المعلى ذات المقام أعلى الله مقامه، وبلغه مرامه. الشيخ أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن محمد الاعزازي الحنفي المكتبي وكنيته أبو العباس الفقيه البركة الصالح الفالح الناجح. مولده بعزاز قصبة قرب كليس سنة خمس وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوده وتفقه على أبي محمد عبد الغني المفتي وعلى أبي عبد الله محمد المؤذن وأخذ عنهم، وقرأ على غيرهم واستقام بحلب مدة عمره، وكان يقرىء الأطفال القرآن العظيم مستقيماً على وظائف العبادة والطاعات قائماً بها، كثير الديانة والتقوى، واعتقده الناس وأحبوه، واشتهر صلاحه وورعه بين العموم، وأخذ عنه محمد خليل أفندي المرادي واستجازه. وما زال على تقواه واستقامته إلى أن توفي عام ألف ومائتين وخمسة عشر تقريباً. الشيخ أحمد بن عبد الله بن منصور الحلبي البابلي الشافعي الأشعري الفقيه الصوفي العالم العامل؛ الورع الزاهد العابد الفاضل الكامل، ولد سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ونشأ في طلب العلم، وكان جيد القريحة سريع الفهم، أخذ الفضائل عن جملة من الأفاضل، منهم أبو محمد عبد القادر المخلي ومحمد بن حسين الزمار والبدر حسن السرميني والنور علي الآلتونجي وصالح بن رجب المواهبي وولده محمد وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني وقاسم بن محمد البكرجي وأبو اليمن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 العقاد وعلي بن إبراهيم العطار وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وابن الطيب المغربي المالكي وقاسم بن محمد النجار وابو محمد عبد الكريم بن احمد الشراباتي ومصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه إحدى عشرة سنة وانتفع به. وسمع على الجميع وحضر مجالس التحديث والاستماع، ولازم دروسهم ووعظهم وأذكارهم وأحسن في معاملتهم وتباعد عن مخالفتهم إلى أن ألفته الطباع، وانعقد على فضله الإجماع، وكان حسن الأخلاق، متحملاً في أمور الناس من تلطيفهم وحسن معاشرتهم ما لا يطاق، مرضي الأفعال، كثير التودد مع البشر والكمال، وقد انتقل إلى قريته بابلي، فيزورونه مع قيامه بإكرامهم وتقديم ما يحتاجونه من واجب المعروف إليهم. وما زال على حاله، مع ازدياد في كماله وجماله، ينتفع الناس بعلومه ودعائه، ويقصدونه لمشاورته في الحوادث وأخذ آرائه، إلى أن دعته المنية إلى الدار الأخروية فلبى وأجاب، متزوداً لآخرته من كل ما لذ وطاب، وذلك سنة ألف ومائتين ودون العشرين. الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله الخاني الخالدي النقشبندي الحنفي الدمشقي أحمد العلماء الأعلام، وأوحد الجهابذة الفخام، الفاضل التقي، والكامل النقي، مولده في دمشق سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين. نشأ في حجر والده المرقوم وقرأ القرآن وأتقنه، واجتهد في الطلب على والده، وكان يحضر معنا في غالب دروس شيخنا العلامة الشيخ محمد الطنطاوي، وطلب على أخيه الشيخ محمد أفندي فحضر الصحيحين وبعض كتب التصوف، وأخذ عن والده الطريق النقشي واشتغل به كثيراً حتى حصل له روحانية عظيمة، مع تواضع وحسن خلق ورقة طبع ومعاشرة لطيفة وجود وكرم. وكان شافعي المذهب، إلا أنه لما تولى القضاء في بعض الأمكنة للضرورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الداعية لذلك ألزمته ظروف الأحوال للانتقال لمذهب سيدنا الإمام أبي حنيفة النعمان قدس الله تعالى سره، وبقي مدة في النيابة تارة في بعض المحاكم الشرعية الدمشقية، وتارة في بعض البلاد وخارج الشام مع عفة وصيانة وديانة، وحكم بالحق، مع التروي والوقوف على حدود الشرع، مستنداً إلى النقل والتثبت في الأحكام، ثم ترك القضاء تعففاً وجنح إلى التكسب بالفلاحة والزراعة، ومالت نفسه إلى العزلة والتباعد عن الاختلاط إلا فيما فيه أمر شرعي كزيارة صديق وعيادة مريض وتشييع جنازة وإصلاح بين خصمين وحضور مجلس علم وأمثال ذلك، وله حسن هيئة ومحبة في قلوب الناس وهيبة وجاه وقبول كلام لإخلاصه وعدم غايته في شيء، غير أن الدنيا لم يكن بينها وبينه امتزاج فكانت تعاكسه كما هو عادتها مع كل من لا يصونها عن الصرف، فإنها تألف من يضن بها حتى على نفسه وهو على خلاف ذلك، فإنه يهوى الجود والكرم وإطعام الطعام، وبذل الموجود والإكرام، مع إظهار أن المنة لغيره عليه، ولذلك عاد إلى تولي النيابات عن إحتياج، وداء الاحتياج ليس له من علاج، فهو الداعي إلى تعاطي ما لا يراد، وليس للعبد خروج فيما قضى الله وأراد، وبالجملة فهو فرد نادر، ويحق له أن يذكر بأنواع المفاخر، أحسن الله إلينا وإليه، ومن بالإحسان علينا وعليه آمين. توفي رحمه الله تعالى غب داء أعيا الأطباء يوم الأحد صباحاً في الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسبع عشرة ودفن في مقبرة شيخ الحضرة في جبل قاسيون رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير العالم العلامة أوحد وقته في الفنون العقلية والنقلية، شيخ أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الإسلام، وبركة الأنام، له كلمات حسنة العبارة، وبديعة الحقيقة والاستعارة، كأنما هي بواكير الأثمار، أو يانع الأزهار، تدل على أنه قطب الفضائل، وفرد الأفاضل، وهو من رجال تاريخ الإمام المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المسمى عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فقال في ترجمته، أسبغ الله علينا وعليهما سجال رحمته، ولد ببني عدي كما أخبر عن نفسه سنة سبع وعشرين ومائة وألف؛ وحفظ القرآن وجوده وحبب إليه طلب العلم فورد الجامع الأزهر وحضر دروس العلماء وسمع دروس الشيخ محمد الدفري، والحديث على كل من الشيخ أحمد الصباغ وشمس الدين الحفني وبه تخرج في طريق القوم، وتفقه على الشيخ علي الصعيدي ولازمه في جل دروسه حتى أنجب، وتلقن الذكر وطريق الخلوتية من الشيخ الحفني وصار من أكبر خلفائه كما تقدم، وأفتى في حياة شيوخه مع كمال الصيانة، والزهد والعفة والديانة، وحضر بعض دروس الشيخين الملوي والجوهري وغيرهما ولكن جل اعتماده وانتسابه على الشيخين الحفني والصعيدي، وكان سليم الباطن مهذب النفس كريم الأخلاق، وذكر لنا عن لقبه أن قبيلة من العرب نزلت ببلده وكبيرهم يدعى بهذا اللقب فولده جده عند ذلك فلقب بلقبه تفاؤلاً لشهرته، وله مؤلفات، منها شرح مختصر خليل أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني واقتصر فيه على الراجح من الأقوال، ومتن في فقه المذهب، سماء أقرب المسالك لمذهب مالك، ورسالة في متشابهات القرآن، ونظم الخريدة السنية في التوحيد وشرحها، وتحفة الإخوان في آداب أهل العرفان في التصوف، وله شرح على ورد الشيخ كريم الدين الخلوتي، وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال الدين البكري، ورسالة في المعاني والبيان، ورسالة أفرد فيها طريقة حفص، ورسالة في المولد الشريف، ورسالة في شرح قول الوفائية يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يا علي يا حكم، وشرح على مسائل كل صلاة بطلت على الإمام والأصل للشيخ البيلي، وشرح على رسالة في التوحيد من كلام دمرداش، ورسالة في الاستعارات الثلاث، وشرح على آداب البحث، ورسالة في شرح صلاة السيد أحمد البدوي، وشرح على الشمائل لم يكمل، ورسالة في صلوات شريفة اسمها المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق، والتوجه الأسنى بنظم الأسماء الحسنى، ومجموع ذكر فيه أسانيد الشيوخ، ورسالة جعلها شرحاً على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك " الآية. وله غير ذلك، ومما سمعت من إنشاده: من عاشر الأنام فليلتزم ... سماحة النفس وذكر اللجاج وليحفظ المعوج من خلقهم ... أي طريق ليس فيها اعوجاج ولما توفي الشيخ علي الصعيدي تعين المترجم شيخاً على المالكية، ومفتياً ناظراً على وقف الصعايدة، وشيخاً على طائفة الرواق، بل شيخاً على أهل مصر بأسرها في وقته حساً ومعنى، فإنه كان رحمه الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم، وله في السعي على الخير يد بيضاء. تعلل أياماً ولزم الفراش مدة، حتى توفي في سادس شهر ربيع الأول من سنة إحدى ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم حافل، ودفن بزاويته التي أنشأها بخط الكعكيين بجوار ضريح سيدي يحيى بن عقب، وعندما أسسها ارسل إلي وطلب مني أن أحرر له حائط المحراب على القبلة، فكان كذلك، وسبب إنشائه للزاوية أن مولاي محمد سلطان المغرب كان له صلات يرسلها لعلماء الأزهر، وخدمة الأضرحة، وأهل الحرمين في بعض السنين، وتكرر منه ذلك، فأرسل على عادته في سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ثمان وتسعين مبلغاً، وللشيخ المترجم قدراً معيناً له صورة، وكان لمولاي محمد ولد تخلف بعد الحج وأقام بمصر مدة، حتى نفد ما عنده من النفقة، فلما وصلت تلك الصلة أراد أخذها ممن هي في يده، فامتنع عليه وشاع خبر ذلك في الناس وأرباب الصلات، وذهبوا إلى الشيخ بحصته فسأل عن قضية ابن السلطان فأخبروه عنها وعن قصده وأنه لم يتمكن من ذلك، فقال والله هذا لا يجوز وكيف أننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب، وولده يتلظى من العدم؟ هو أولى مني وأحق، أعطوه قسمي فأعطاه ذلك، ولما رجع رسول أبيه أخبر السلطان والده بما فعل الشيخ الدردير فشكره على فعله وأثنى عليه واعتقد صلاحه، وأرسل له في ثاني عام عشرة أمثال الصلة المتقدمة مجازاة للحسنة، فقبلها الأستاذ وحج منها، ولما رجع من الحج بنى هذه الزاوية بما بقي ودفن بها رحمه الله ولم يخلف بعده مثله. الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد السحيمي الحفني القلعاوي المصري الإمام العلامة، والفاضل الفهامة، صفوة النبلاء، ونتيجة الفضلاء، وكعبة الفقهاء، ونخبة الكرماء، من طلعت محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت الأيام والليالي بآداب علومه المعجبة البواهر، فهو الوحيد في إلقاء رغائبه، والفريد بكثرة عجائبه وغرائبه، تستوعب محفوظاته المقروء والمسموع، وتجمع معلوماته ما هو في الحقيقة منتهى الجموع، لقد برع في جميع العلوم خصوصاً في التوحيد، فكان له فيه اليد الطولى والفهم السديد، وهو من رجال عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فترجمه بقوله، منبهاً على بعض فضله: تفقه على والده وعلى الشيخ أحمد الحماقي وحضر على الشيخ مصطفى الطائي الهداية وأنجب، ودرس في فقه المذهب، وحضر عليه أيضاً المعقول وعلى غيره إلى أن صار عمدة في الفروع والأصول، وسما قدره، ونما ذكره، كل ذلك مع الحشمة والديانة، ومكارم الأخلاق والصيانة، توفي سادس عشر شوال سنة ألف ومائتين وسنة، ودفن عند والده بباب الوزير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الشيخ أحمد بن عبد القادر بن بكري العجيلي الحجازي عالم الحجاز، على الحقيقة لا المجاز، سارت الركبان بمحاسن ذكره، وطابت الأقطار بعبير نشره، لم يزل مجتهداً في نيل المعالي، وكم سهر في طلبها الليالي، حتى فاز من ذلك بالقدح المعلى، وتجمل بملابس الفنون وتكمل بالعمل المصون وتحلى، ولد قريباً من الألف ومائة وثلاثين وأخذ العلوم عن آبائه الكرام، وعن غيرهم من السادات العظام، ومن أجل مشايخه الشيخ عبد الخالق المزجاجي وقد أجازه بالإجازة العامة وألبسه خرقة الطريق، وأخذ أيضاً عن السيد إبراهيم بن محمد امير والسيد سليمان بن يحيى، وله مؤلفات كثيرة، هي بالقبول حقيقة وجديرة، خصوصاً في التصوف والتوحيد والقصائد الإلهية، والمعارف المتعلقة بالذات المحمدية ولقد شاع طيب شعره وذاع، وأطرب وشنف الأسماع، ومن قصائده القصيدة المشهورة المسماة بعقد الجواهر اللآل، في مدح الآل، وقد شرحها شرحاً عظيماً وقرظ عليه عدة من العلماء منهم السيد الجليل علي ابن محمد المكي شيخ الشيوخ في مكة المشرفة وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث ولم يزل مثابراً على الترقي في العلوم، والتوقي في كل مذموم، إلى أن اختار الآخرة ونعمتها الباقية، على الدنيا ولذتها الفانية، وكان ذلك في شهر المحرم سنة ألف ومائتين وواحدة. الشيخ أحمد بن حسن الموقوي الهندي الشيخ الولي الكبير، والعالم المدقق النحرير، كان من العلماء العاملين والفضلاء السالكين، إلى طريق رب العالمين، لا يراه أحد متكلماً بمباح إلا لضرورة أو حاجة، وكان يغلب عليه الحال مع اللطف وعدم السماجة: توجه للإله بلا التفات ... وأبقى الغير في شغل الخيال وكان أليف المسجد حليف المنزل، وعن جميع الأنام بمعزل، ومن نظمه الشريف رحمه الله تعالى قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 هل لي إليك وسيلة ... ألقى بها كشف الغطا ما لي إليك وسيلة ... إلا نوالك والعطا لما نظرت حقيقتي ... فإذا أنا عين الخطا توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وسنة واحدة. الشيخ أحمد بن ناصر الكبسي كان من أئمة العلم والعمل، بعيداً عن التقصير والقصور والكسل، عالماً بما ينفعه متبعاً له، متباعداً عما يضره كاسياً ثوب الوله، ولد سنة ألف ومائتين وتسع، كان من أكبر تلامذة البدر العلامة الشوكاني. قال صاحب الديباج الخسرواني: قد أطلت في ترجمته في حدائق الزهر وتوفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وإحدى وسبعين وفي هذه السنة كانت وفاة السيد العلامة عبد الله بن عبد الباري الأهدل في قرية مراوعة، وكان فيه إنصاف في المراجعة لا يتعصب ولا يكابر، وفيها وفاة القاضي عبد الرحمن بن محمد بمدينة زبيد ومولده سنة ألف ومائة واثنتي عشرة ببلد صمدا رحمهم الله تعالى. الشيخ أحمد اللحام اليونسي المعروف بالعريشي الحنفي الفقيه العلامة، والنحرير الفهامة، وهو من رجال عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، فقال في ترجمته، منوها بفضله ورفعته: حضر من بلدته خان يونس في سنة ثمان وسبعين ومائة وألف وحضر أشياخ الوقت وأكب على حضور الدروس وأخذ المعقول على مثل الشيخ أحمد البيلي والشيخ محمد الجناحي والصبان والفرماوي وغيرهم، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن العريشي ولازمه وبه تخرج وحضر على الشيخ الوالد في الدر المختار من أول كتاب البيوع إلى كتاب الإجارة بقراءته وذلك سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، ولم يزل ملازماً للشيخ عبد الرحمن العريشي ملازمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كلية، وسافر صحبته إلى إسلامنبول في سنة تسعين لبعض المقتضيات، وقرأ هناك الشفاء والحكم بقراءة المترجم عليه، وعاد صحبته إلى مصر ولم يزل ملازماً له حتى حصل للعريشي ما حصل ودنت وفاته، فأوصى إليه بجميع كتبه، واستقر عوضه في مشيخة رواق الشوام، وقرأ الدروس في محله، وكان فصيحاً مستحضراً متضلعاً من المعقولات والمنقولات، وقصدته الناس في الإفتاء واعتمدوا أجوبته، وتداخل في القضايا والدعاوي واشتهر ذكره، واشترى داراً واسعة بسوق الزلط بحارة المقس خارج باب الشعرية، وتجمل بالملابس وركب البغال وصار له أتباع وخدم، وهرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم إليه، وتقلد نيابة القضاء لبعض قضاة العساكر أشهراً. ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر وهرب القاضي الرومي بصحبة كتخدا الباشا كما تقدم تعين المترجم للقضاء بالمحكمة الكبيرة، وألبسه كلهبر ساري عسكر الفرنساوية خلعة مثمنة وركب بصحبته قائمقام في موكب إلى المحكمة وفوضوا إليه أمر النواب بالأقاليم، ولما قتل كلهبر انحرف عليه الفرنساوية لكون القاتل ظهر من رواق الشوام وعزلوه ثم تبينت براءته بعد ذلك، إلى أن رتبوا الديوان في آخر مدتهم، ورسم عبد الله جاك منو بأن يتخيروا عدة أشخاص كلهم لائقون للقضاء ومنهم المترجم ثم يعملوا قرعة، فعملوها كما أمرهم فلم تقم إلا على المترجم فتولاه أيضاً وخلعوا عليه وركب مثل الأول إلى المحكمة، واستمر بها إلى أن حضرت العثمانيون وقاضيهم فانفصل عن ذلك ولازم بيته مع مخالطة فصل الخصومات والحكومات والإفتاء، ثم قصد الحج في هذه السنة سنة ألف ومائتين وثماني عشرة فخرج مع الركب وتمرض في حال رجوعه وتوفي ودفن بنبط رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الشيخ أحمد أفندي بن عمر بن أحمد الدمشقي الحنفي الشهير بالاسلامبولي ولد بدمشق ونشأ بها، وكان من أعظم نبهائها وطلابها، وقرأ على فضلائها، إلى أن صار معدوداً من علمائها، فكان عالماً فاضلاً، صالحاً عابداً عاملاً، غير أنه كان فيه حدة وقساوة في الأمور وشدة، إذا قال قولاً يصعب رجوعه عنه، وإذا فهم أمراً يعسر الانتصاف منه، وله مؤلفات منها شرح الهداية، ومن جملة خيرياته التي تعاطاها بنفسه أنه لما توفي السلطان عبد المجيد خان سنة سبع وسبعين ومائتين وألف وتولى الخلافة بعده أخوه السلطان عبد العزيز ذهب المترجم إلى الآستانة دار الخلافة واستحصل على نيف وسبعين براءة لخطابة بقية الجوامع في دمشق التي لم يكن لها براءات وفرقها على الخطباء بدون أن يتكلف أحد لشيء من الدراهم. مات رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف وسبعين. الشيخ أحمد بن محمد شمس الدين بن حسن بن يوسف الدمشقي الحنفي الخلوتي المعروف بالطباخ الشيخ الصالح الزاهد العابد الصوفي الخلوتي المتأصل في الطريقة عن آبائه وأجداده الكرام، والسادة العظام، وكان شيخ الطريقة الخلوتية بعد والده. مات رحمه الله في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن عند قبر والده في مرج الدحداح. الشيخ أحمد المخللاتي الدمشقي الفرضي أحد أقاربنا العظام، وأسلافنا السادة الكرام، لقد برع وفاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وملأت شهرته في العوم الآفاق، وشهدت له السادة الأفاضل، وذوو الكمال والفضائل، بأنه الألمعي الوحيد بقوة إدراكه، والفريد المخصوص ببعض العلوم مع اشتراكه، بلسان أقطع من السيف إذا تجرد من القراب، وفكر إذا حكاه البحر في غوره وقع في الاضطراب، ولد بدمشق في جمادى الأولى سنة ست وسبعين ومائة وألف، وكان شيخ أهل زمانه، وإمام عصره وأوانه، قرأ على المشايخ إلى أن برع، وطلع بدره في أفق المعارف ولمع، وسار على صراط التقوى والعبادة، وتزود من الطاعة فوق العادة، وكان مع مشاركته في العلوم، وتحقيقه في طرفي المنطوق والمفهوم، قد انفرد في علمي الفرائض والحساب، وصار عمدة السادة الأنجاب، مات رحمه الله سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ أحمد البقاعي الدمشقي الشافعي أخذ عن سيدي الوالد وعن العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعن الشيخ حامد العطار، واشتهر صيته وطار، وملأ النواحي والأقطار، وكان كثير الورع زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة، معتزلاً عن الناس راضياً بالقليل، ليس له كلام إلا بما يتعلق بالوعظ والترغيب في التقوى والعبادة، وكان كلامه خفيفاً على النفوس مقبولاً. توفي بدمشق سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ الإمام العالم الأديب أحمد بن علي اليافي فاضل لا يبارى، وعالم في ميدان الفضائل لا يجارى، قد عكف من صغره على العلم والعمل، وحاز منهما على البغية والأمل، وله من النثر والنظام، ما تستعذب الأسماع تلاوته على مرور الليالي والأيام، ومن ذلك ما قدمه للتهنية لخليل أفندي المرادي حين ولي إفتاء دمشق الشام فقال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه مقامة يافوية، لمن حفه الله بكل فضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ومزية، حكى عبد الله بن مسلم فقال ما زلت مذ نيط علي الإزار، وبلغت خمسة أشبار، مقبلاً على الأعلام والعلوم، وراغباً في تحصيلها بالحدود والرسوم، راغباً عن الأعلام والرسوم، فسايرت العلماء، وسامرت الأدباء، حتى صار لي ذلك شنشنه، وذكرت به في جميع الألسنة، فبينما أنا راتع في تلك الرياض، ووارد عذب تلك الحياض، أجتني من تلك الأثمار، وأقطف من هاتيك الأزهار، إذ هتف بي هاتف، وأنا في خلال أشجارها طائف، فراعني كمال الارتياع، وقرع مني صماخ الأسماع، وقال لي أين أنت عما نقل من الإجماع، قلت يا ذا وعلى ماذا الإجماع، قال على وجوب معرفة الله، عز وتعالى عن الأشباه، وعلى معرفة صفات الإكرام والجمال، ومعرفة صفات التنزيه والجلال، فتأملت الهاتف بحقيقة النظر، فإذا هو علامة البشر، والعقل الحادي عشر، فقلت أرشدني إلى من يفهمني ذلك، ويخرجني من ربقة المهالك، فقال اقصد علامة الأنام، ومفتي الخاص والعام، القاطن بمحمية دمشق الشام، فلعمر الله إنه فاضل مجيد، يرشدك إلى معرفة التوحيد، ففوضت عنان السفر، ورحلت لأنظر حقيقة الأمر، فما زلت كأني تائه، أجوب الربا والمهامه، وأجد السير والسرى، وأتصفح وجوه البلاد والقرى، أسمع الثغام والبغام، وأقد ظهران النعام، حتى توسمت ربى مدينته، ولاحت لي أنوار طلعته، بعثت رائدي وسفيري، كما هو دأبي في مسيري ليتحقق لي الخبر، وأميط عني وعثاء السفر، فمكثت هنيهة، وأنا على أحسن هيئة، فحضر وقال أنا لك البشير، فقد استشرفت على العالم النحرير، هذا سيبويه النحو والرضي، وابن هاني في شعره وبيانه المضي، إلى أن قال: فلما رأيته تبسم، وكان قد تلثم، تأمله ناظرين وتوسمه خاطري، فإذا هو البحر الغطمطم الزخار، والحبر الذي لا يشق له غبار، سلالة الأطهار، ونتيجة الأخيار، غصن الدوحة النبوية، وفرع العترة الهاشمية، منجا كل صادي، وملجا كل حاضر وبادي، العلامة الفهامة، سيدي وأستاذي، وقدوتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وملاذي، محمد خليل المرادي، فقلت له يا مولى الخلق على العموم، عهدي بك في بلاد الروم، ولقد بلغنا المنى والمرام، لما رجعت لمحمية الشام. جزاك الله عن المسلمين جزيل المرام. وبلغك والمؤمنين حسن الختام. ثم ذكر هذه القصيدة: بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر ... لإعلاء أمر الله ذي الطي بالنشر وكاد حنيف الدين يجنح للخفا ... بغيبة هذا البدر بالعجب والكبر فأشرق في افق المرادي مؤيداً ... بتقرير أحكام من النقل والفكر فهاك من الشطرين خدمة قاصر ... إليك بتاريخين من بعد ذا السطر فأحيا حياء الأكرمين خليلنا ... بمنصب إفتاء وقد حاز للنصر فلا زال والمجد المؤثل مجده ... لإعلاء دين الله بالنهي والأمر ليهنك قد وافى المرادي دمشقنا ... بيوم منى إذ كان في جمعة النحر فخير قدوم سر قلب أولي التقى ... وعمهم إذ طاب باليمن والشكر أيا ابن الذين استأثروا صهوة العلا ... ودانت لهم أهل الفضائل بالقسر سلالة آل البيت من نسل ماجد ... فمن ذا يباهي قدركم من ذوي القدر لك العذر يا من لج في كنه وصفه ... ويا من تسامى الشام فيك على مصر وشرق وغرب والجنوب وشمأل ... لعمرك فضل الكل فيك بلا فخر فبالشمس والليل البهيم وبالضحى ... وبالبلد المأمون أقسم والفجر وياسين والأحزاب فاطر مع سبا ... وبالكهف والإسرا والنحل والحجر وبالنجم والأنعام رحمن واقعه ... وأولي حديد ثم خاتمة الحشر بأنك هادينا إلى الله بالتقى ... وتنفيذ حكم الله رغم أولي النكر وأنت الذي نرجوك فينا مجدداً ... لأحكام دين الله في غابر الدهر أياديك بيض في الندى موسوية ... ولكنها تسعى على قدم الخضر فلا زلت للوراد كعبة قصدهم ... تطوف وتسعى فيك بالبيض والصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بجاه النبي المختار والآل ذي التقى ... عليهم صلاة الله ما غرد القمري وما أحمد اليافي يهني مؤرخاً ... بدا بدر شام بالمحيا أبي البشر توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف. الشيخ أحمد ن محمد بن سلامة الشافعي الأزهري المعروف بأبي سلامة الإمام العلامة، الثقة الهمام الفهامة، المحقق النحرير، الذي ليس له في فضله نظير، قال صاحب عجائب الآثار في التراجم والأخبار: اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية وتفقه على كثير من علماء الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم، وتبحر في الأصول والفروع وكان مستحضراً للفروع الفقهية والمسائل الغامضة في المذاهب الأربعة، ويغوص بذهنه وقياسه في الأصول الغريبة، ومطالعة كتب الأصول القديمة التي أهملها المتأخرون. وكان الفضلاء يرجعون في ذلك إليه، ويعتمدون قوله، ويعولون في الدقائق عليه، إلا أن الدهر لم يصافه على عادته وعاش في خمول وضيق عيش وخشونة ملبس وفقد رفاهية بحيث أن من يراه لا يعرفه لرثاثة ثيابه كأنما الدهر يناديه على لسان شانيه ومعاديه: ذو العلم يشقى في النعيم بعلمه ... وأخو الجهالة في الشقاء منعم لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يتكلم وكان مهذباً حسن المعاشرة، جميل الخلق والنادرة، مطبوعاً فيه الصلاح والتواضع. ونزل مؤقتاً في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشأه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية أنصاف يتعيش بها مع ما يرد عليه من بعض الفقهاء والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسائل والفتاوى، فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عليه ذلك المعلوم، وكان ذا عائلة، ومع ذلك لا يسأل شيئاً ولا يظهر فاقة. توفي يوم الأحد حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمس عشرة ومائتين وألف عن خمس وسبعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الشيخ أحمد الطظقلي الحنفي النقشبندي الخالدي نزيل حمص البهية شيخ الطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة، مرشد السالكين، ومربي المريدين، ذو الكمال والعرفان، والذوق والوجدان، من حاز على القبول التام، وشاع حسن حاله بين الخاص والعام، واشتهر بصدق الانكباب على العبادة والتقوى، والتمسك بالطريق الأقوى في السر والنجوى، أخذ الطريقة النقشبندية عن خاتمة الأفاضل، وصفوة ذوي الفضائل، الشيخ خالد شيخ الحضرة العثماني، أنالنا الله وإياه الآمال والأماني، وصحبه برحلته إلى بيت المقدس، وكان رحمه الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كثير الصلاة والصيام والذكر في خلواته وجلواته، عالماً عاملاً زاهداً عابداً، وقد أذن له في إعطاء الطريق والإرشاد شيخه الشيخ محمد الحافظ الأورفلي أحد خلفاء الشيخ خالد المذكور أعلاه. ولد المترجم سنة خمس وتسعين بعد المائة والألف وتوفي سنة الأربع والثمانين بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى ونفعنا جميعاً في الدنيا والآخرة آمين. الشيخ أحمد بن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن علاء الدين البرماوي الشافعي الذهبي الأزهري الشيخ العلامة، والفاضل الفهامة، بقية العلماء، ونخبة الفضلاء، وزبدة الصالحين، وصفوة الأفراد الناجحين، محرر المذهب، ومقرر ما يؤلف ويرغب، ذو التصانيف المحبوبة، والتآليف المرغوبة، والآثار الحسنة، والشمائل المستحسنة، ولد ببلدة برما بالمنوفية سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، ونشأ بها وحفظ القرآن والمتون على الشيخ المعاصري، ثم انتقل إلى مصر فجاور في المدرسة الشيخونية بالصليبة وتخرج في الحديث على الشيخ أحمد البرماوي وحضر دروس مشايخ الأزهر كالشيخ محمد فارس والشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والشيخ سليمان الزيات والشيخ الملوي والشيخ المدابغي والشيخ الغنيمي والشيخ محمد الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ عبد الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الزيات والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عمر الشنواني والشيخ أحمد رزه والشيخ سليمان البسوسي والشيخ علي الصعيدي وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة ولازم الإقراء. وكان منجمعاً عن الناس قانعاً راضياً بما قسم له، لا يزاحم على الدنيا ولا يتداخل في أمورها، وأخبر ولده العلامة الفاضل الشيخ مصطفى أن والده المترجم ولد بصيراً فأصابه الجدري فطمس بصره في صغره فأخذه عم أبيه الشيخ صالح الذهبي ودعا له فقال في دعائه: اللهم كما أعميت بصره نور بصيرته فاستجاب الله دعاءه. وكان قوي الإدراك ويمشي وحده من غير قائد؛ ويركب من غير خادم، ويذهب في حوائجه المسافة البعيدة، ويأتي إلى الأزهر ولا يخطىء الطريق، ويتنحى عما عساه يصيبه من راكب أو جمل أو حمار مقبل عليه أو شيء معترض في طريقه، أقوى من ذي بصر، فكان يضرب به المثل في ذلك مع شدة التعجب كما قال القائل: ما عمى العيون مثل عمى القلب ... فهذا هو العمى والبلاء فعماء العيون تغميض عين ... وعماء القلوب فهو الشقاء ولم يزل ملازماً على حالته من الانجماع والاشتغال بالعلم والعمل به وتلاوة القرآن وقيام الليل، فكان يقرأ كل ليلة نصف القرآن. إلى أن توفي يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه بجامع ابن طولون ودفن بجوار المشهد المعلوم بالسيدة سكينة رضي الله عنها بجانب الشيخ البرماوي. أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن سالم ابن إدريس الشاري المالكي المتقن البارع، والمقبل على الله والمسارع، وحيد دهره، وفريد عصره، ولد بعد الستين والمائة والألف ببلدة سناد أكبر بلاد الفنج والتكرور، وقرأ بها مقدمات العربية والفقه على جماعة من أهلها كأبي عبد الله محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 نوري صبر والشهاب أحمد بن عيسى الأنصاري وعبد الكريم الغلاني وأبي الحسن علي بقادي، ثم رحل إلى سواكن واستقام بها مدة، ثم انتقل منها إلى صنعاء اليمن واجتمع بالشيخ العلامة أبي محمد عبد الله الجوهري وقرأ عليه شرح السلم في المنطق والأربعين النووية وسمع منه وأجاز له بخطه، ثم ارتحل إلى مكة المكرمة وقرأ بها على أبي مروان عبد الملك بن عبد المنعم بن محمد تاج الدين القلعي مفتي الحنفية وأبي محمد عبد الغني بن سنبل مفتي الشافعية ومحب الله الهندي الحنفي وأبي محمد عبد اللطيف بن عبد الغفور المكي وأبي محمد عبد الرحمن الفاسي المغربي المعروف بالسمان المالكي وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن التلمساني وغيرهم، واستقام بها ست سنوات، وسمع الكثير من الأحاديث والمسلسلات وأجازه مشايخه المذكورون بحظوظهم. ثم عزم على زيارة النبي الأكرم، والبقيع المعظم، بطيبة الطيبة، فدخلها ولازم الاشتغال بها والتحصيل، وقرأ على زين العابدين مصطفى بن محمد بن رحمة الله الدمشقي الحنفي الأيوبي الأنصاري وفخر الدين عثمان بن محمد المصري الشهير بالشامي وأبي إسحق إبراهيم بن عبد الله السندي وأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الفاسي نزيل المدينة المنورة، واستقام بها سنتين، وسمع أيضاً الكثير من الأشياخ وتوجه منها إلى مصر ولازم أبا عبد الله محمد بن الشهاب أحمد بن الحسن الجوهري وأبا الصلاح الشهاب أحمد بن موسى العروسي وأبا عبد الله محمد الأمير والنور علي الخياط ومحب الدين محمد المرتضى بن محمد الزبيدي وأجازوه وأباحوا له مروياتهم، ودخل قسطنطينية واجتمع بأكثر علمائها وقرأ على البعض منهم واستقام بها مدة وتكرر دخوله إليها، ودخل حلب في أوائل ذي القعدة سنة خمس ومائتين وألف وقرأ رسالة أبي حامد محمد بن محمد البديري الدمياطي المسماة بالجواهر الغوالي، في الأسانيد العوالي، على أبي جعفر منصور بن مصطفى بن منصور السرميني الحلبي وأجازه بها وبما تجوز له روايته بروايته لها، وقرأ بها على شيخه ومرشده أبي المكارم محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 نجم الدين بن سالم بن أحمد الحفناوي الشافعي المصري بسماعه لها وروايتها عن أبي حامد البديري، وحضر مجلس السيد محمد خليل أفندي المرادي بحلب، وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعه من لفظه بشرطه وأجازه به وبما تجوز له روايته عن شيوخه، وذلك سنة خمس ومائتين وألف ولم أقف على تاريخ موته رحمه الله. الشيخ أحمد بن أسعد بن عبد القادر الحلبي الحنفي الشهير بالضحاك العالم الفقيه، والإمام النبيه، الدين التقي والصالح النقي، مولده أواخر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف. قرأ القرآن العظيم وحفظه وقرأ القراءات وحفظ الشاطبية وانتفع بشيخ القراء أبي عبد اللطيف محمد ابن مصطفى البصيري التلحاصدي الحلبي ولازمه مدة أربعين سنة وجل أخذه عنه، وقرأ بعض العلوم على البدر حسن بن شعبان السرميني ولازمه وحضر دروسه وسمع عليه، وقرأ على أبي عبد الفتاح محمد بن الحسين الزخار وسمع عليه صحيح الإمام البخاري بطرفيه وأجاز له مروياته وكتب له بخطه على مشيخته بعد أن قرأها عليه، وسمع على أبي عبد الله محمد بن أحمد عقيلة المكي مع والده وحضره في مجالس تسميعه وإلقائه الحديث لما قدم حلب عام أربعة وأربعين ومائة وألف، وأخذ الفقه عن أبي العدل قاسم بن محمد النجار وسمع عليه صحيح البخاري بطرفيه، ولما قدم حلب أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب الفاسي المغربي المالكي سمع عليه البخاري وغيره من الكتب الصحاح والآثار، ورافقه لما حج تلك السنة سنة سبع وستين ومائة وألف من حلب إلى مكة، ودخل دمشق واجتمع بعلمائها، وبالشيخ أبي سليمان صالح بن إبراهيم بن سليمان الجينيني الحنفي، والشيخ أبي إسحق إبراهيم بن عباس شيخ القراء، وبالشيخ أبي البركات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ديب بن خليل بن المعلا المقري، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الحلبي المقري نزيل دمشق وآخرين. وأخذ عن البعض، ولما قدم حلب سنة أربع وثمانين ومائة وألف غرس الدين خليل بن عبد القادر الكدك المدني نزل داره وعقد بها مجلس التحديث والسماع، وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية جماعة من العلماء، وأقرأ صحيح الإمام البخاري بطرفيه، وحضروه من الابتداء إلى الانتهاء وأجاز لهم روايته، ورواية ما تجوز له روايته، وأحال أسانيده وذكر شيوخه وكان من جملتهم صاحب الدار المترجم السراج أحمد الضحاك فإنه شابكه وصافحه وأسمعه حديث المصافحة والمشابكة ومسلسل سورة الصف والمسلسل بسورة الفاتحة وغيرهما من المسلسلات وأجاز له الباقي، وكتب له إجازة بخطه حافلة أطنب عليه بها وأسهب، وذكر البعض من أسانيده بها منها سماعه للأولية وأنه سمعه من جمع وهم من أبي سالم عبد الله بن سالم البصري المكي، ومنها روايته للقراءات وغيرها عن أبي عبد الله شمس الدين المصري نزيل المدينة المنورة عن أبي السماح أحمد البقري وأبي عبد الله محمد بن قاسم البقري الكبير وعن أبي عبد الله محمد القلعي عن أحمد البنا الدمياطي وأحمد الإسقاطي والأول معلوم، والثاني عن أبي النور الدمياطي عن سيف الدين الدمياطي عن سلطان بن أحمد المزاحي المصري. وأكب المترجم على قراءة القرآن العظيم والإقراء والإفادة والاستفادة، وكان صالحاً ديناً تقياً نقياً متعبداً قليل الاختلاط بالناس. وقد أخذ عنه وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية خليل أفندي المرادي مفتي دمشق كما رأيته بخطه سنة خمس ومائتين وألف ومات في حدود الألف ومائتين وعشرة. السيد الشيخ أحمد الحياتي الحنفي الماتريدي قاضي بغداد دار السلام العالم الذي تولى القضاء فأحسنه، وتطابقت على محبته القلوب وعلى الثناء عليه الألسنة، والفاضل الذي يفزع في حل المشكلات إليه، ويعتمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 في التحسين والتصحيح عليه، والفاطمي الذي فطم النفس، والعلوي الذي هو في عصره الشمس، عمدة التدريس، وتحفة الأنيس، قال الشيخ عثمان سند لما أتى المترجم إلى بغداد قاضياً من اسلانبول: أحيا فيها علم المعقول والمنقول، ودرس الحديث في جامع العادلية، وأبان من التقارير اللائق بطلعته السنية، وحضر درسه أجلة من العلماء، وجملة من الفضلاء، وذلك في أواخر سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين. وعند دخول الثامنة عزل فزاد منه الحنين وعاد إلى دار السلطنة إسلانبول، ليبلغ بالوصول إليها نهاية المسؤل، وكتب له الشيخ عثمان المرقوم رسالة معربة عن فضله فقال: فاسألوا عنه غامضات المعاني ... هل لها غير ذهنه من كناس واسألوا عنه كل فن غريب ... هل لإيضاح فكره من دماس كاتب ضمن السطور شطوراً ... من قوافيه زينت بالجناس ووجوه في حلقة الدرس أبدى ... مسفرات الصباح والنبراس وبفن التدريس وشى كتاباً ... لحياة العلوم مثل الأساس ذا بحوث قد أسفرت فأرتنا ... أوجه الحق دون مرط التباس يا حياتي أنت لي كحياتي ... لست أسلوك أو تزول الرواسي ما ترى في تنائف أبعدتني ... وحظوظ قضين لي بانعكاسي أتراني أسلوك ابن أناس ... صوروا في عيون الدهر الأناسي هاشميين أنجبتهم ظهور ... من بطون عودن طيب الغراس يوردون الرقاق ترعش حتى ... يصدر وهن قائنات اللباس ورماح قد أوردوها نجيعاً ... من كلى كل بهنس عباس وقد مدحه بقصائد متعددة أرسلها من السليمانية إليه فلم تصله حيث إنه بعد عزله بقليل توجه إلى إسلانبول ولم يطل الأمر حتى جاء خبر موته وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، وقد رثاه الشيخ عثمان المرقوم بقصيدة أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 القلب والطرف خفاق ومنهمر ... لما هوى للثرى من برجه القمر إلى أن قال: مولاي أحمد ذو الفضل الذي ابتسمت ... به الليالي وصفى عرقه مضر قاضي القضاة طويل الباع في حكم ... في ذهن أقرانه عن فهمها قصر لما قضى قدموه للرضى وإلى ... حور كواعب عرب زانها الخفر سقى ثراه من الرضوان سارية ... ما لاح للمرء في أيامه عبر السيد أحمد الراوي بن السيد رجب بن السيد حسن بن السيد حسان بن السيد يحيى بن السيد حسون بن السيد محمد بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد نجم الدين بن السيد علي أبي الفتح بن السيد قطب الدين محمد بن السيد محي الدين إبراهيم بن السيد نجم الدين أحمد رضي الله عنه سبط الحضرة الجليلة الرفاعية ترجمه السيد أبو الهدى أفندي في كتابه تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار فقال: نشأ السيد أحمد المترجم براوة بلدة من أعمال بغداد، واشتهر وظهر وتربى بتربية والده ولبس عنه الخرقة، ووالده لبس الخرقة الرفاعية من السيد مهدي الرفاعي نقيب البصرة، ثم بعد وفاة والده التحق بخدمة الشيخ العارف الكبير القطب الأعظم السيد نور الدين حبيب الله الحديثي الرفاعي وسلك على يديه وانتفع بصحبته، وهو أحد أصحاب الإمام السيد حسين برهان الدين الصيادي آل خزام وقد أظهر الله شأن السيد أحمد، وأعلى قدره، وجرت على يديه الخوارق التي لا تعد ولا تحد، وانتشرت به الطريقة الرفاعية، مر ببلدة الكبيسة بالشرقية فشكا إليه أهلها قلة الماء العذب وإن ماء أرضهم كله مالح وأنهم في ضنك، فخرج بهم خارج البلدة وأمرهم أن يحفروا بمحل هناك، ونام وقال لا توقظوني حتى يظهر الماء ويجري إن شاء الله تعالى، فلما باشروا الحفر ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 غير يسير حتى ظهر لهم الماء كالسيل أعذب ما يكون من الماء، ففرحوا به وما صبروا فأيقظوا السيد أحمد وذكروا له الحال، فقال بارك الله بكم لو صبرتم لجرى على وجه الأرض كما قلت لكم ولكن هذا قسم في الأزل، وهذا البئر المذكور باق إلى الآن في الكبيسة ولا نظير له بين مياه تلك الديار، ولو صرفنا عنان القلم لتعداد خوارق صاحب الترجمة لطال المجال، إذا مر منها مفخر جاء مفخر، بيته معمور، وذكر منشور، وشأنه مشهور، والولاية تتسلسل بذريته إلى آننا هذا انتهى. توفي صاحب الترجمة سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، ودفن بزاويته بعانة، وقبته مزار الخواص والعوام وذريته المباركة براوة وعانة وكلهم أعلام أفاضل وكراماتهم شهيرة وسيرتهم الحسنة في بلادهم وغيرها معروفة قدس الله أسرارهم أجمعين. الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الجواد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياني يتصل نسبه بسيدنا أبي هريرة رضي الله عنه دوحة فضل ثمرها يانع، وسماء مجد كوكب عنقها لامع، وحديقة جمال قد احتفت بالجداول، وحقيقة كمال قام لإثباتها واضحات الدلائل، من بمدحه تحلى أجياد الطروس العاطلة، وبنتائج فضله تدحض الحجج الباطلة، كيف لا وهو من صدور الأعيان الأعاظم، الحائزين قصب السبق بشهادة كل ناثر وناظم، ولد في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين بعد المائتين والألف ونشأ في حجر والده إلى أن حفظ القرآن وبعض المتون، ثم أرسله والده إلى الأزهر للطلب وإتقان الفنون، وأوصى به تلميذ أبيه الشيخ خليفة السفطي فأنزله منزلة الولد وكان له في سائر أموره سنداً وأي سند، إلى أن علا ذكره وفاق، وانعقد على تقدمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الاتفاق، ولما توفي الشيخ خليفة السفطي وضع في مكانه شيخ رواق السادة الفشنية لما ناله من الكمال، وبلغ به مبلغ القادة من الرجال، وذلك في شهر محرم الحرام سنة ثلاث وتسعين بعد المائتين والألف، وذلك بعد أن أجازه شيخ الإسلام الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، وأجازه بقية العلماء بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم ذوي المقام الأبهر، وقد نظم رسالة اليونسي في البيان، وشرح منظومة الحميدي، وله منظومة في النحو على نسق منظومة الشبراوي وله رسائل كثيرة، وتقريرات شهيرة، ولما حصلت الوقعة العرابية، مع الدولة الإنكليزية، واستولى الإنكليز على مصر، ووقع بأعيانها وعلمائها كل ضيق وعسر، كان من جملة من انتفى منها المترجم وأخوه الشيخ محمد إلى بيروت ومدة نفيهما أربع سنوات، وفي سنة ثلاث وثلاثمائة وألف حضرا إلى الشام وزارهما الشاعر الأديب الشيخ محمد الهلالي فخاطبه المترجم في الحال، على طريق الارتجال بقوله: في آخر الشهر جئنا ... دمشق ذات الجمال فكان أمر عجيب ... وذاك رؤيا الهلال وفي هذه السنة بعينها اجتمعت بهما في مدينة بيروت وانعقدت بيننا محبة عظيمة، ومودة جسيمة، وكان درسهما في الصباح يشهد لهما بعلو المقام، وسمو المعرفة، إلا أن الأخ الكبير الشيخ محمد كان يغلب عليه حال الطريق مع كماله في العلم، وأما المترجم فإنه يغلب عليه العلم وإن كان متمكناً في الطريق، وبالجملة فإنهما فرع شجرة زكية، وصفوة لسادة أهل رتبة علية، ما منهم إلا كامل وأكمل، وفاضل وأفضل، وللناس بهم اعتقاد كامل، فيجعلونهم لحل مشكلاتهم من أعظم الوسائل، توفي رحمه الله وأعلى في دار الرضواه مرتقاه، في شهر جمادى سنة الف وثلاثمائة وثمانية ودفن في بلد أبيه وجده في القايات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الشيخ أحمد بن بكري البغال الشافعي الدمشقي العالم الصالح، والعامل الناجح، والورع الزاهد، والناسك العابد، ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وتسعين ونشأ بها وأخذ عن علمائها منهم المحدث الكبير الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومنهم الشيخ صالح الفلاني والشيخ عبد الله الكردي وعن كثير من السادات الكرام والأكابر العظام، وقد أذن له شيخه الشيخ عبد الرحمن المذكور بالتدريس في جامع سنان باشا وأخذ فيه يفيد الخواص والعوام، إلى أن شرب كاس الحمام، في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير قرب مقام الصحابي الجليل سيدنا بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه. السيد الشيخ الإمام أحمد بن إدريس المغربي الحسني نسباً الإدريسي من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله، قال العلامة السيد حسن بن أحمد البهكلي في الديباج الخسرواني: هو شيخنا إمام المفسرين، ومقدام المحدثين، جعل الكتاب والسنة إماميه، وجعلهما الدليل الذي لا يعتمد في عبادته إلا عليه، فليس له مذهب يقلده، أو منهج يقويه ويشيده، سوى السنة والكتاب، فيعمل بهما بلا شك ولا ارتياب، وكان يكافح أهل التقليد، بالملام والإنكار الشديد، ويعلن لهم بأن قصر الحق على هذه المذاهب المعروفة من البدع، وأن الجزم بتعذر الحكم من دليله لا مستند له، وأنه من باب تضييق الواسع لأن فضل الله غير مقصور على شخص دون شخص، والفهم الذي هو شرط التكليف قد منحه الله تعالى كل أحد ولو كان مختصاً به أحد دون أحد أو زمان دون زمان، لما قامت الحجة على العباد بكتاب الله العزيز والسنة البيضاء، وهذا لا يرتضيه أحد، وهذا الصنيع من كفران النعمة، وقد تكلم في هذه المسألة جماعة من أهل العلم وأفردها الشيخ صالح الفلاني بمؤلف، وأجاد في الكلام على هذه المسألة الإمام الحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 محمد بن إبراهيم الوزير في عواصمه، نعم انحرف عنه علماء مكة لهذا السبب ولله در القائل: ألا قل لمن بات لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب ومع هذا فهم إذا أشكلت عليهم مسألة دسوا إليه من يسأله فيجليها لهم؛ وقد نشر الله تعالى له من الصيت وحسن الذكر ما ملأ الآفاق، وما ضره حسدهم ولا تمالؤهم على غمط فضائله والاتفاق، على أنه طاهر السريرة صافي القلب من داء الحسد، والحقد وكان عند ملوك مكة هو العين الناظرة، منزولاً عندهم في أرفع المنازل، ملحوظاً بعين الإجلال في جميع المحافل، وفي آخر مدته خرج من مكة إلى اليمن وكان وصوله إلى زبيد سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين، وتلقاه شيخنا الحافظ السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل وجعل نفسه له مقام التلميذ وأجله غاية الإجلال، ثم ترجح له المسير نحو الشام وأنشد لسان حالهم قول بعض الأنام: أيها السائر عنا عجلا ... إنما سرت فما عنك خلف إنما أنت سحاب هاطل ... حيثما صرفه الله انصرف ليت شعري أي قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من بعد التلف وكانت ولادة المترجم سنة عشر ومائتين وألف. وقد ذكر صاحب النفس اليماني لصاحب الترجمة، ترجمة حافلة قد ذكرت حاصلها وهو: شيخنا السيد العلامة الإمام ذو المعارف الربانية، والمواهب الرحمانية، صفي الإسلام أحمد المغربي الحسيني، وفد إلى مدينة زبيد سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين ناشراً فيها ما منحه الله من علوم أسرار الكتاب والسنة، وكاشفاً عن إشارتهما الباهرة، ولطائفهما الزاهرة، بعبارته الجلية المشرق عليها نور الاذن الرباني، واللائح عليها أثر القبول الرحماني، كما قال ابن عطا: من أذن له في التعبير، فهمت في مسامع الخلق عبارته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وجليت إليهم إشارته، ولقد أملى من تلك الدقائق والحقائق ما استنارت به قلوب سليمة، وتداوت من جراحات غفلاتها أفئدة أليمة، وازدحم الخاص والعام على الاستفادة من تلك العلوم، والاقتباس من نور مشكاة تلك الفهوم. جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال وتلقى كل أحد من تلك المعاني واللطائف على قدر الاستعداد، وعلى ما قدره الله من مسوق فيض الإمداد. على قدرك الصهباء تعطيك نشوة ... ولست على قدر السلاف تصاب قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في شرح منازل السائرين: القوم يسمون أخبارهم عن المعارف والمطلوب إشارة، لأن المعروف والمطلوب أجل من أن يفصح عنه بعبارة تطابقه وشأنه فوق ذلك، فالكامل إشارته إلى الغاية، ولا يكون ذلك إلا لمن فني عن اسمه وهواه وحظه، وبقي بربه، وكل أحد فإشارته بحسب معرفته وهمته، ومعارف القوم وهمهم تؤخذ بإشاراتهم انتهى وهذا السيد الجليل طريقته السالك بها والداعي إليها الإقبال بالكلية على تدبر معاني كتاب الله، وإطالة التفكر في استجلاب أسرار معانيه، ولقد ذكر لي أنه مكث عدة سنين لا شغل له إلا تلاوة كتاب الله والتعرض لنفحات أسرار علومه، ولطائف رقائقه وفهومه، حتى منح الله بما منح وفتح بما فتح، وهذه الطريقة هي التي أشار إليها الإمام ابن القيم في شرح منازل السائرين حيث قال ما نصه: والطريقة المختصرة القريبة السهلة الموصلة إلى الرفيق الأعلى التي لا يلحق سالكها خوف ولا عطب، ولا فيها آفة من آفات سائر الطرق البتة، وعليه من الله حارس وحافظ يحرسه ويحفظه ويحميه، ويدفع عنه كل أذى، هي أن تنقل قلبك من وطن الدنيا إلى وطن الآخرة، ثم وأنت بهذا الموطن لا تجعل له التفاتاً إلا إلى معاني القرآن واستجلائها وتدبرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وفهم ما يراد به وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته وتنزيلها على أدواء قلبك، ولا يعرف قدر هذه الطريقة إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وقطاعها والله المستعان انتهى كلامه قال ونزل السيد المذكور على العبد الحقير، وكان نزوله كنزول العافية على السقيم والشفاء للجرح الأليم، والحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق لدوام الشكر على ما هنالك. ثم بدا له التوجه إلى جهة بندر المخا ثم جهة موزع، فلما وصل إلى تلك الجهات ازدحم عليه الخاص والعام وانتفعوا به في أمر دينهم انتفاعاً عظيماً، لأن السيد هديه في عباداته وعاداته الهدي النبوي لاسيما الصلاة فإنه نفع الله به يقيمها ويحسنها على الوجه التام، الذي وردت به الأحاديث الصحاح والحسان، عن معلم الشريعة صلى الله عليه وسلم، لا يلتزم في إقامتها ولا إقامة غيرها مذهباً من المذاهب، بل مذهبه ما صح به الحديث كما هي طريقة خلائق من العلماء الأعلام. ومذهبي كل ما صح الحديث به ... ولا أبالي بلاح فيه أوزاري وله كلام منظوم رائق عذب. ثم عاد بعد إقامته في تلك الجهات إلى زبيد، والعود كما يقال في المثل السائر أحمد، ولم تزل الأيام والليالي زاهرة رياضها بلطائف علومه، ورقائق فهومه، معمورة أوقاتها بعباداته، والأقلام تكتب من إملاء السيد من الفوائد العوائد، النوادر والشوارد، ما ملئت منه الدفاتر وفي هذه المدة وقعت إجازات منه لكل من طلب ذلك، بل إجاز أهل زبيد خصوصاً وأهل اليمن عموماً، كما وقع نظير ذلك للحافظ ابن حجر العسقلاني عند قدومه زبيد فإني رأيت بخط الفقيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الولي الكبير العلامة المحدث عبد النور بن عبد الواحد الهائلي ما نصه: رأيت بخط غير خط الإمام شهاب الدين بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: أجزت لأهل زبيد خصوصاً ولأهل اليمن كافة عموماً أن يرووا عني هذه الكتب صحيح البخاري وصحيح مسلم والجمع بين الصحيحين للحميدي، وكتاب السنن لأبي داوود، وكتاب السنن للحافظ النسائي وهو المختار من السنن الكبرى، وكتاب الجامع للإمام أبي عيسى الترمذي وكتاب العلل له أيضاً، وكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي، وكتاب التجريد للقاضي عبد الرحمن البارزي بأسانيدي التي ذكرتها إجازة معين لمعين، وكذلك ما يصح عندهم من مر ويأتي من الأجزاء الحديثية والكتب المسندة، وما لي من قول ونظم ونثر على اختلاف جميع ذلك وتباين أنواعه وأجنايسه، إجازة تامة بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، قاله وكتبه أحمد ابن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر انتهى قال: وهو باق إلى هذا العام سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين يذكر الله ويذكر بآلائه، ويملي من علوم السنة والكتاب ما يفيد ذوي العقول والألباب انتهى أقول: وقد توفي المترجم المرقوم نفعنا الله ببركاته وأعاد علينا وعلى المسلمين من صالح دعواته سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين هجرية. الشريف السيد أحمد أسعد المدني الحسيني ابن السيد محمد أسعد ابن السيد أحمد الحنفي الماتريدي مفتي المدينة المنورة النبوية المحمدية بدر كمال بدا من أفق النبوة والرسالة، وروض جمال غدا مثمراً يانع الفتوة والبسالة، وتاج فضل قد ارتفع علاه على هام النسب، ومنهاج سؤل قد ارتضع من لبان المجد والحسب، وكوكب علم قد ارتقى مداره على أوج العلو، ومطلب حلم قد انتقى ذروة الرفعة والسمو، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحصن نجاة ما طاف به طائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إلا وقد علا وسما، قد انتسب لأشرف ذات وألطف إنسان، واقترب ممن انتخب لأعلى ملة وأولى لسان: فهو من دوحة العلا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز قد تسامى انتسابه لنبي ... حار فيه الأنام حيرة عجز فأما نسبة الشريف الأجل الأعلى، الذي هو من أعلى الأنساب المذكورة في الأنام وأولى، فهو السيد أحمد أسعد بن السيد محمد أسعد بن السيد أحمد أسعد بن السيد محمد أسعد بن السيد عبد الله أسعد بن السيد أسعد مفتي السادة الحنفية، في مدينة الذات النبوية، وهو أول من جلس في هذه العائلة على مهاد الإفتاء، وكان من أعلم العلماء وأفضل الفضلاء، وهو ابن السيد أبي بكر، ابن السيد عبد الرحمن، ابن السيد أحمد، ابن السيد أيوب، ابن السيد زين العابدين القيسراني، ابن السيد أحمد بن السيد محمد، ابن السيد عبد الرحمن، ابن السيد عبد الكبير، ابن السيد محمود، ابن السيد صدر الدين علي، ابن السيد هاشم الأحمدي، ابن السيد أبي السعود سعد، ابن السيد سلامة، ابن السيد أحمد عبيد، ابن السيد عبد الله المدني الإشبيلي، ابن السيد حازم الإشبيلي، ابن السيد أحمد، ابن السيد علي، ابن السيد الكبير رفاعة الحسن المكي ثم الإشبيلي، ابن السيد المهدي، ابن السيد أبي القاسم محمد، ابن السيد الحسن، ابن السيد الحسين، ابن السيد أحمد الأكبر، ابن السيد موسى الثاني، ابن الأمير إبراهيم المرتضى، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام زين العابدين علي، ابن الإمام الشهيد السعيد السبط سيدنا الحسين، ابن الإمام أمير المؤمنين صهر النبي الأمين، أسد الله الغالب، سيدنا علي بن أبي طالب من زوجته السيدة فاطمة البتول الطاهرة الزهراء، كريمة أشرف المرسلين وسيد الأنبياء، صلى الله تعالى وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن ينتمي إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هذا وإن بحر الشعر قد صفا من أكداره وغينه، لكي يحمل هذا النسب الشريف على أجفانه وعينه، فنظمه نظم العقد الثمين، وتلاه علينا تلاوة الأمين الذي لا يمين. فقال متوسلاً بهذه السلسلة الشريفة وقد أجاد، ووفى بالمرام والمراد: من عودكم باللطف كان تعودي ... إن أستغيث بكم لنجح المقصد وتعوذي بملاذ كعبة عزكم ... أجلو به خطب الزمان المعتدي يا جيرة العلمين تهيامي بكم ... روحي وريحاني وجنة موردي وحياتكم ما زال رق هواكم ... رقي وإن رغمت أنوف الحسد لي في الفؤاد تشوف وتشوق ... نيرانه بسوى اللقا لم تبرد وإذا ذكرتكم أميس ترنماً ... من ذكركم مثل الغصون الميد قلبي المحير أمه ركب النوى ... بحصاره يال الحسين المنجد فصبا بنجد والحجاز وبات من ... وجد مع العشاق صب ترصد يا من بأوج العز قر قرارهم ... هل من جواب العطف للمستنجد يا سادتي منوا بجبر متيم ... خلع السوى وفنى بذاك المشهد يروي العقيق حيا عقيق جفونه ... حتى يرى منه لباس زمرد ماذا على من هام في آل العبا ... أو من سبى شغفاً بآل محمد لله نجب ما أعدت ثناءهم ... إلا ولذ لمهجتي أن ابتدي يا آل طه من يزغ عن حبكم ... لا ذاق من طيب الهناء الأرغد يا سادتي وسعادتي دنيا وفي ... دار المقر وعدتي في الموعد أنتم كما صح الحديث أماننا ... وبفضلكم كم من صحيح مسند قدستم بطهارة ونزاهة ... عن كل رجس بالكمال الأحمدي فودادكم فرض على كل الملا ... وبذا أتى القرآن للمسترشد ما إن رجا راج عواطف سركم ... إلا نجا وعن الحمى لم يردد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 انهلتم هذا الوجود بجودكم ... فبمدحكم حمداً يروح ويغتدي أكرم بباب مدينة العلم الذي ... هو منبع العرفان صنو محمد لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى ... إلا علي قاهر المتمرد صهر النبي خزينة النسب الذي ... في صلبه عقد الكمال المفرد لله أصل هاشمي أزهرت ... منه فروع أثمرت بالسيد عين الحياة ومجمع البحرين إذ ... من صدره بحر وبحر من يد فرع الكرام الطاهرين أولي الرضى ... السيد المدعو بأحمد أسعد وهو ابن مولانا محمد أسعد ... نجل الهني المفضال أحمد أسعد وهو ابن مولانا محمد أسعد ... وهو ابن عبد الله أسعد من هدي وهو ابن مولانا المكرم أسعد ... هامي اليدين فديته من أسعد وهو ابن مولانا أبي بكر الذي ... للعبد للرحمن أبهى مولد وهو ابن أحمد نجل أيوب الذي ... هو نجل زين العابدين السجد القيسراني السليل لأحمد ... حياه نجلاً للهمام محمد وهو ابن مولانا البهي عبد إلى الر ... حمان مصباح البيان المهتدي وهو ابن مولانا الأجل المجتبى ... عبد الكبير الألمعي الأزهد وهو ابن محمود لحسن شمائل ... نجل لصدر الدين قدوة مقتد هذا علي وهو بضعة هاشم ... السيد الشهم النبيل الأحمدي وهو ابن سعد من كني بأبي السعو ... د ابن النضير سلامة المتعبد وهو ابن أحمد ذا عبيد زاهر ... نجل لعبد الله أبهى أمجد لا غرو بالمدني والإشبيلي انتمى ... وهو ابن الإشبيلي الإمام الأوحد ذا حازم وهو ابن أحمد من غدا ... بسوى عبادة ربه لم يجهد وهو ابن مولانا علي نجل من ... دان الإله بطاعة وتهجد نجل الكبير السيد الحسن الذي ... برفاعة يدعى لرفعة مجتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 مكي أصل ثم إشبيلي غدا ... نجلاً إلى المهدي جميل تودد وهو ابن مولانا أبي القاسم ... البحر الخضم اللوذعي محمد نجل إلى الحسن الذي هو نجل من ... يدعى الحسين وذا سلالة أحمد الأكبر المولود للثاني الذي ... يدعى بموسى ذي المقام الأجود نجل الأمير المرتضى المدعو بإب ... راهيم أحظى من حظي بتأيد وهو ابن موسى الكاظم الغيظ الذي ... قد ضم شمل الفضل بعد تبدد وهو ابن جعفر صادق بوعده ... ذي العلم والعرفان والجود الندي نجل الإمام الباقر الغوث الهمي ... السيد الأسد الكمي محمد هذا ابن زين العابدين عليهم ... نجل الحسين السبط روح الأكبد وهو ابن سيدنا الذي لكماله ... قد فاز بالزهراء بضعة أحمد هو والد الحسنين صهر المصطفى ... أعلى عليٍ ساد أعظم سؤدد أكرم به نسباً تألق عقده ... بالمصطفى لا بالحلي والعسجد نظم البهاء فروعه بأصوله ... نظماً يريك حلاوة بتردد كل من الأنساب مقطوع سوى ... نسب النبي فوصله لم ينفد فالدهر منه متوج بمفاخر ... تزهو بحسن سنائها المتوقد يا خاتم الرسل الكرام ومن سما ... بعروجه أسمى سماء الفرقد يا عين أعيان الوجود ومن هو ... الأصل الممد لكل فرد موجد هذا الفقير بباب جودك سائل ... يرجوك سائل جودك المتجدد فانظر له نظر القبول تكرماً ... واعطف وجد واشمل وصل بتعهد صلى عليك الله يا كنز الحيا ... أوفى صلاة مع صلات تسرمد وحباك يا روح الكيان تحية ... من حضرة الإطلاق دون تقيد والآل والأصحاب والأتباع ما ... فاحت بمسك ختامها للمنشد واسر من تاريخ نسبة أحمد ... أنس يروح أريجه الندي الندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ولد في المدينة المشرفة المنورة، والبلدة التي هي بسور العناية مسورة، سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين من هجرة جده سيد المرسلين، وفي ثاني سنة من ولادته رحل والده المرحوم لدار آخرته، ثم قام بتربيته أخوه الأوحد، وشقيقه الماهر الأمجد الشريف السيد أسعد، فأفرغ جهده في تأديبه، وحسن تربيته وتدريبه، فقرأ القرآن وأتقنه، ثم حفظه وجوده حتى أتم تجويده وأحسنه، فعندها أخذ في طلب العلم على السادة الأفاضل حتى صار معدوداً من ذوي الفضائل، منهم الشيخ يوسف الصاوي والشيخ عبد الغني الدمياطي والشيخ أحمد الطنطاوي والشيخ حبيب المغربي وغيرهم ممن رقى في العلم مقامه، وخفقت راياته وأعلامه، ولم يزل يترقى على معراج السمو، ويتدرج في الفضل على مدارج العلو، إلى أن تحلى من كل جميل بما هو أجمل، وتولى على خزانة الكمال والأكمل، وهو من آل بيت في المدينة أهل فضل وتقوى، وعلم وعبادة وفتوى، وقد دام فيهم إفتاء المدينة المنورة تسعين سنة، وهم على أكمل الصفات العالية والنعوت المستحسنة، وفي سنة أربع وثمانين تشرف بخدمة وكالة الفراشة عن مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد العزيز خان أسكن الله روحه فراديس الجنان، وغب انتقاله إلى الآخرة، والدار الباقية الفاخرة، تشرف بوكالة الفراشة عن مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، أدام الله حياته على مدى الأزمان، وفي سنة تسع وتسعين وجه عليه باية استنبول، وبعد أيام قليلة أحسن إليه بباية أناطول، مع النيشان البرنجي المجيدي وبعده بالوسام البرنجي العثماني، ثم بنيشان الصداقة، ثم بباية قاضي عسكر روميلي التي هي نهاية المراتب، ولم يزل يسمو مقامه فوق الواجب، وقدره يتعالى، ونعيمه يتجدد ويتوالى، إلى أن حصل له في آخر أمره جذبة إلاهية، أذهلته عن إدراك أموره العادية، وفي سابع رمضان عام ألف وثلاثماية وأربعة عشر اخترمته المنية في الآستانة العلية رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الشيخ أحمد أفندي بن المرحوم الشيخ عقيل أفندي الزويتيني مفتي حلب الشهباء وعالمها، وحامل لواء الشريعة بها وخادمها، قد صرف نقد عمره من صغره في العلم والعمل، وعكف على ما يرفع شريف قدره إلى أوج برج الحمل، ولم يزل يرضع لبان المعارف، ويتحلى بحلية العوارف، لدى كل عالم وعارف، إلى أن أضحى ببراعته برد البلاغة موشى، وبفصاحته ثوب النباغة مطرزاً ومغشى، فلا ريب أنه جنة ثمرات الفنون، ولا عيب فيه سوى أنه عن نسبة العيب إليه مصون، فيا له من جهبذ قد لبس سوار الفضائل في معصم الكمال، واقتبس من مشكاة الدلائل نور الوقوف على أصح الأقوال وأرجح الأفعال. ولد تقريباً من سنة ألف ومائتين وأربعين، ومن حين تمييزه جلس من حدائق الطلب على مهاد التمكن والتمكين، ولم يزل يفيد ويستفيد، ويزيد في الاجتهاد لكي يزداد مما يريد، إلى أن خطبه الإفتاء الشريف لهامته تاجاً، ولترقيه إلى سماء الفضائل معراجا، ولم ينقل عنه ميل عن جادة الصواب، ولا فعل يوجب له نسبة شك في كماله أو ارتياب، بل حالته الخوف من الله والتقوى، والاستقامة في السر والنجوى، إلى أن فارق دنياه، وأجاب دعوة من إليه دعاه، ليلة السبت من أواخر شعبان المكرم سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة واحتفل بتشييعه الكبير والصغير، والغني والفقير، ودفنوه في مقبرة الصالحين أسكن الله روحه في عليين. الشيخ أحمد أفندي بن الشيخ عبد الكريم أفندي الترمنيني الحلبي عالم حلب وإمامها، وقدوتها في كل فضيلة وهمامها، بدر الهداية لكل رشاد وصلاح، وفجر العناية الموصلة لكل رفعة وفلاح، صاحب المكارم التي أشرق بدرها في سماء الإسعاد، والعزائم التي أبرق نورها فأرشد إلى نوال كل مراد، فلا ريب أنه البحر الذي لم يعرف الواردون ساحله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والحبر الذي جعل الكتاب والسنة وسائطه إلى الله ووسائله، دأب على تحصيل العلوم منذ كان طفلاً، واعتصم بحبل التقوى والعبادة قولاً وفعلا، وزهد في الدنيا فكانت تأباه ويأباها، وأقبل بجده واجتهاده على أعمال الآخرة إلى أن صارت تهواه ويهواها، واعتزل عن الناس وألف الانفراد، وواصل السهاد وطلق الرقاد، واعتكف في حجرته ليله ونهاره، وقصر على العمل والعلم أطواره وأوطاره، وكان إذا جلس في حجرته قفل بابه، وإذا أراد أحد منه مسألة وقف أمام شباك حجرته فإذا سأله أجابه، ثم رجع إلى ما كان عليه في الحال، واشتغل بما ينفعه من غير إمهال، وللناس به اعتقاد قد بلغ ذروة الكمال، واعتماد يتأملون به الوصول من المرغوب إلى نقطة الاعتدال، وقد رحل في أيام طلبه إلى مصر القاهرة، وجاور في أزهرها ذي المنقبة الفاخرة، وحضر دروس السادة الأفاضل، إلى أن صار معدوداً من الأوائل، ثم رجع إلى بلده بعد بلوغ آماله، ونجاح مقاصده وأعماله، ولم يزل مستقيماً على حالته، مستزيداً من طاعته وعبادته، إلى أن دعاه داعي الآخرة، إلى الجنة العالية الفاخرة، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وثمانين. الشيخ أحمد أبو العباس شهاب الدين البربير الشامي البيروتي سهم الأغراض والأماني، وكنانة البيان والمعاني، ذو الأدب الباهي الباهر، والأرب الزاهي الزاهر، والنفس الزكية والأخلاق المرضية، من تستعذب النفوس نثره، وتستطيب نطمه وشعره، فلا ريب أنه العمدة الإمام، والنخبة القطب الهمام، الذي ما رأى أحد مثله في مصر وشام، وكان مولده رحمه الله في ثغر دمياط سنة ستين ومائة وألف حيث كان والده بها يتعاطى التجارة، ولما بلغ رشده، وملك أشده، قرأ على أفاضرض العال ل عصره العلوم النقلية، والعقلية، غب أن حفظ القرآن المجيد وجملة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الأحاديث النبوية، ونظم الشعر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وحضر إلى بيروت وطنه الأصلي في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف، ثم توجه إلى دمشق الشام، ثم عاد إلى بيروت، فأكرهه الأمير يوسف الشهابي على تولية القضاء بها، فقام بأعبائه، ثم استعفى منه لورعه وتقواه، ثم عاد إلى دمشق سنة خمس وتسعين ومائة وألف وسكن في الصالحية، وأقبل على الترقي بهمة قوية، إلى أن صار فرداً يشار إليه، وعمدة في المشكلات يعتمد عليه، وشهد له مشايخه بالفضل، وإنه لما يثنى عليه به مستحق وأهل، وقد أخذ عن العلامة الشيخ مصطفى الصلاحي، وشرح له شيخه المرقوم بديعيته المشهورة، وله كتب في كل فن ورسائل، هي لوصول مطالعها إلى المقصود طرق ووسائل، منها الشرح الجلي على بيتي الموصلي، ومنها كتاب في اقتباس آي القرآن، ومنها مؤلف باسم سليمان، وشرح قصيدة سيدي الشيخ محي الدين العربي، وله مقامة تشهد بعلاه، وتقضي لمطالعها بأن يعترف لمنشئها بأنه قد جمع ما تفرق من الفضل وحواه، وقد أحببت أن أثبتها في هذا المكان، لتكون للواقف على تلاوتها جالبة للسرور ومذهبة للأحزان، وليعلم الإنسان فضل منشئها وفضل ممدوحه عبد الرحمن أفندي العمادي المرادي العلامة الإمام، والفهامة الهمام، فأقول ذاكراً لها بتمامها، بنثرها ونظامها. بسم الله الرحمن الرحيم حمداً لمن خلق العناصر، وجعل لكل منها فضلاً تعقد عليه الخناصر، وصلاة وسلاماً على الجوهر الفرد الذي منه عرض العالم، ومن هو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الدارين سيد بني آدم. وعلى آله وصحبه. ومن تعلق بحبه. ما اكتحلت عيون الطروس بمراود الأقلام. وقلدت نحور الدروس بعقود ألفاظ العلماء الأعلام. وبعد فإن الفكر والخيال. دخلا بي إلى رياض ضاع زهرها فنم عليه النسيم ودار عليه الماء الزلال. أكلها دائم وظلها. كأنما قابلت مرآتها جنة النعيم فانطبع فيها مثالها وشكلها. فتلقتنا عوديات طيورها بالصدح. ومجامر كمائم ورودها بالنفح. وزهرها بثغر باسم ونهرها بقلب صافي. وأدواحها ببسط بساط البسط من ظلها الضافي. وقامت لنا الأشجار على سوقها. وسفرت لنا عرائس الورود على لثام غبوقها. وأدارت علينا سلاف طلها كؤوس الزهور. قبل أن ترشفه شمس البكور. وحيتنا راحة الراحة والسرور. بأصابع المنثور. وغنت لنا مطوقات شواديها على العيدان. وأعربت وهي عجماء بفنون تمايلت لها قدود الأفنان. حتى لو سمعها ركب العشاق. على النوى لنسي الحجاز والعراق. وتمنى الدخول لذلك البستان. ورقصت بين أيدينا جواري الماء. وظهرت مع وجود شمولنا وبدورنا نجوم النبات حتى ظنناها نجوم السماء. ولاح لنا عارض الغيث وشارب الآس فاذكر العيش السالف. وطاف النسيم بكعبة صفانا طواف القدوم فما كان ألطف ذلك الطائف. غير أننا كنا نسمع محاورة. ضمنها منافرة ومحاضرة. فسألنا الرياض عن جلية الأثر. فقالت سلوا النسيم فقد أصبح عند النسيم الخبر. فوجهنا وجه السؤال الوسيم. إلى قبلة النسيم. فتدلى وتدلل. وما ألطف النسيم إذا تعلل، ثم مر بنا مقبلاً ومقبلا، وكلما مر حلا، وقال يا أهل الفراسة والسياسة، والفتوة والمروءة والحماسة، إنها منافسة بين الماء والهواء أوجبها حب انفراد كل منهما عن صاحبه بالرياسة، فهل تنعمون بحضورهما لديكم، ومثولهما بين يديكم، ليعرض كل ماله من حسن الأوصاف، وتحكموا بينهما بالعدل والإنصاف، فقلنا لا نكره ذلك ولا نأباه، فهلم بهما إلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لنرفع ما بينهما من الاشتباه، فشمس الحق لا يحجبها حجاب الباطل، وهيهات تكتم في الظلام مشاعل، فلم يزل الحق أبلج، والباطل لجلج، وحسبك قول خالق الخلائق، " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق "، فعند ذلك سرى النسيم إليهما مسرى النوم في الأجفان، والروح في الأبدان، والراح في الندمان، فأتى بهما وهو يتبسم ويتنسم ويتسنم، فحيا كل منهما وبيا وسلم، فقلنا: وأنتما حييتما ما عطس الفجر ودب الظلام، فإنكما أعظم دعائم الجماد والنبات والحيوان والإنسان، وأنتما الشقيقان اللذان لم يوجد لهما ثالث في عالم الإمكان، فهل ولج بينكما ذو نفاق، حتى صدر منكما هذا الشقاق، أو ذلك من دسائس النفس الأمارة، ووساوس تلك العدوة الغدارة الغرارة، التي لا تأمر إلا بالشر ولا تصبو إلا إلى الضر، كيف لا وهي عروس إبليس، ومصدر أفعال التدليس والتلبيس، أعدى العدى، وسبب الردى، قال لها الحق أقبلي فأدبرت، وأعرضت عن جانبه واستكبرت، حتى ألقاها في الجوع، وألجأها به إلى الذل والخضوع، فالشر في إهمالها، والخير في إعمالها وإذلالها، فمن أطاعها ندم، ومن عصاها سلم، ومن قهرها بالجهاد فهو بطل، ومن ملكها من مدينة جسمه خرب نظام إنسانيته وبطل، فالرأي للعاقل أن يحذر مكرهاً، ويخالف أمرها، لاسيما إن أمرته بقطع رحم القرابة والأرب، أو رحم الصحبة أو الحرفة التي كل منها لحمة كلحمة النسب. والمرء قليل بنفسه كثير بالإخوان، والرحم مشتقة من الرحمن، ولهذا يصل من وصلها، ويفصل من فصلها، وخير الناس من جنح إلى الصلح، ولم يداو جرحاً بجرح، كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 داوي جوى بجري وليس بحازم ... من يستكف النار بالحلفاء وقال آخر: من يشف من داء بآخر مثله ... أشرت جوانحه من الأدواء وقال آخر: وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما والجزم فيما قاله الشاعر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي على أن الدنيا دار زوال، ومنزل ارتحال، ولا يليق بالعاقل أن ينافس فيما يزول، ويوجه وجه آماله ما للفناء يؤول، كما قيل: منافسة الفتى فيما يزول ... على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل ولا يغتر الفتى بقول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان بل يتأمل قول الآخر: قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما استطعتما فسيرمى ... بين شخصيكما بسهم فراق ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة، إشارة إلى أن جار الدنيا يتحول عنك أو تتحول عنه، وإنه لا يليق الضجر منه ولا السآمة، ومن المعلوم أن الدنيا إن بقيت لها لم تبق لك، فطوبى لمن جعلها قنطرة لآخرته فمر بها على هذا القصد وسلك، وويل لمن اغتر بسكونها وهي تمر مع السكون كالظل مر السحاب، وظنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 شراباً ولو اختبرها لم يجدها غير آل وسراب، ويا سعادة من أقصر، عندما أبصر، واعتبر لما اختبر، فالدهر أفصح مؤذن بالزوال، وأنصح مؤذن بالارتحال، فلما سمع الماء ما قلناه من الكلام، وتأمل ما فيه من منثور النثر وقلائد النظام، تموج وتأود، ورغا وأزبد، وجرى واضطرب، وعبس بعد القهقهة وقطب، وقال يا معشر الأكابر، أما بلغكم قول الشاعر: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها وقول الآخر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند وقول السفاح وهو أول من وطد الخلافة العباسية حين قتل بنو عمه بني أمية نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وإن كانوا أعق والأما أما عرفتم أن الأخ المعاند، كالعضو الزائد، يشين الذات، ويمنع اللذات، فقطعه من الرشد، وإن آلم الجسد، هذا ولا يغر الهواء صفائي فكم تكدرت، ولا يثق بسلاستي فكم انعقدت واستحجرت، والذي جمعت في صفاتي الأضداد، كما قال الشاعر وأجاد: أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام وحسبك ما قاله الشاعر: كالماء فيه الحياة والغرق، فإن زعم الهواء إن له علي فضيلة، فليعرضها على أسماعكم غير متعلل بعلة ولا متحيل بحيلة، فقلنا نعوذ بالله من اجتماع النفس والهوا، فمن رام منكما أن يتكلم فليجعل منبر الفخر له مستوى، فعند ذلك ثار الهواء وله غبار، وصعد منبر الفخار، وقال الحمد لله الذي رفع فلك الهواء، على عنصر التراب والماء، ونفخ في آدم من روحه وعلمه جميع الأسماء، أما بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فمن عرفني فقد اكتفى، ومن جهلني فسأبدو له بعد الخفا، أنا الهواء الذي أؤلف بين السحاب، وأنقل ريح الأحباب، وأهب تارة بالرحمة وأخرى بالعذاب، نصر الله بي محمداً وصحبه الأمجاد، وأهلك الله بي قوم عاد، وأنا الذي تم بي ملك سليمان، وأجرى الماء في خدمتي بكل مكان، وسير بي الفلك في البحر كما تسير العيس في البطاح، وأطار بي في الجو كل ذات جناح، وأنا الذي ألعب بالطرر فوق الغرر، كما العب بلحى الجبابرة من البشر، وأنا الذي يضطرب مني الماء اضطراب الأنابيب في القناة والثعبان في الشعبان، وأنا الذي أميل قامات الأغصان، وأدني عارض الغيث وعذار الآس من خد الشقيق وشارب الريحان، إذا صفوت صفا العالم وكان له نضرة وزهو، وإذا تكدرت انكدرت النجوم وتكدر الجو، لا أتلون مثل الماء، المتلون بلون الإناء، لولاي لما عاش كل ذي نفس، ولولاي لما طلب الجو من بخار الأرض الخارج منها ما احتبس، ولولاي لما تكلم آدمي ولا صوت حيوان، ولا غرد طائر على غصن بان، ولولاي ما سمع قرآن ولا حديث، ولا عرف طيب المسموع والمشموم من الخبيث، فكيف يفاخر بي الماء الذي يشبه الله به الدنيا البغيضة، التي لا تعدل عنده جناح بعوضة، وأنا الذي أطير بلا جناح إلى جميع الجهات، وهو الذي يخر على وجهه ويمشي على بطنه كالحيات، وحسبي وحسبه هذا التفاوت العظيم " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم "، وحسب الاء ذماً خلوه من الحرارة المشتقة منها الحرية، وكون الرطوبة فيه طبيعية غريزية، وأنا الذي سلم قلبي من القلب وإن كان من أحرف العلة، وهو الذي قلب الله قلبه، لتحركه وانفتاح ما قبله، وأنا الذي جعلني الله نشراً بين يدي رحمته، وجعل مني طوفاناً استأصل به ما تركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 آدم من ذريته، هذا وما خصني الله به من المزايا يعجز عنه فم الدواة ولسان القلم وصدر الرقيم، وفوق كل ذي علم عليم، وأما أنت فحسبك عيباً قول بعض الأدباء، فلان كالقابض على الماء، وبالله قل لي أي فخر لمن يعز مفقوداً، ويهون موجوداً، ومن إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه، ومن نبع من الصخور، ومر مذاقه في البحور، وشرق به شاربه، وغرق فيه مجاوره ومصاحبه، وعلت فوقه الجيف، وانحطت عنده اللآلىء في الصدف، وقد بان الصحيح من السقيم، والمنتج من العقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. ثم انحدر من منبره، ووعينا ما سرده من مفخره، وقال للماء، هات يا أبا الدأماء، فعلا الماء بموجه، حتى صعد إلى ما انحط عنه الهواء من أوجه، ولولا الأرض تملكه لسال، لكنه تجلد وأقبل علينا وقال، الحمد لله الذي خلق كل شيء، وجعل من الماء كل شيء حي، أما بعد فقد سمعت جعجعة ووعوعة ظننتها صرير باب، أو طنين ذباب، باطل في صورة حق، وسراب إذا تأملته زال وانمحق، فاسمع أيها الهواء ما أتلوه من آيات فخري الشامل، وما أجلوه عليك من عقد فضلي الذي أنت منه عاطل، " وقل جاء الحق وزهق الباطل "، اعلم أولاً أن الدعوى قبيحة، وإن كانت صحيحة، كما قيل: وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد فكيف إذا كانت بالزخارف مموهه، فهي أقبح من الخلقة المشوهة، ولعمري لا يروج الدرهم المغشوش، وإن أحكموا فيه أنواع النقوش، لاسيما إذا كان الناقد بصير، ولا ينبؤك مثل خبير، هذا وقد سردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ما زعمته فيك من الخصوصيات على سبيل المفاخرة والمباهاة، وأنا أقول ما من الله به علي على سبيل التحدث بنعمة الله، فأقول أنا مخلوق ولا فخر، وأنا لذة الدنيا والآخرة ويوم الحشر، وأنا الجوهر الشفاف، المشبه بالسيف إذا سل من الغلاف، وقد خلق الله مني جميع الجواهر حتى اللآليء في الأصداف، أحيي الأرض بعد مماتها، وأخرج منها للعالم جميع أقواتها، واكسو عرائس الرياض أنواع الحلل، وانثر عليها لآلىء الوبل والطل، حتى يضرب بها في الحسن المثل، كما قيل: إن السماء إذا لم تبك مقلتها ... لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر وأنا الذي أقتل العجوز، وأذهب حرارة آب وتموز، وقد أفتاني الأفاضل، أن من دخل علي من باب المفاخرة أنه لا يجوز، فكيف ينكر فضلي من دب أو درج، وأنا البحر فرعي وفي المثل حدث ولا حرج، وأما أنت أيها الهواء فكم ذهبت فيك نصائح النصاح، كما قال ابن هرمة: وبعض القول يذهب في الرياح ولعمري أنه لا يفي قبولك بدبورك، ولا تقوم جنتك بسعيرك، ولطالما أهلكت أمماً بسمومك وزمهريرك، فكم تواتر عنك حديث تشمئز منه النفس وتمجه الأذن، وحسبك من العناد أنك تجري بما لا تشتهي السفن، وأنت المولع برقص الجواري كفعل الفساق، وأنت الذي تهيج التراب وتغري النار بالإحراق، كما قال فيك ابن الرومي: لا تطفين جوى بيوم إنه ... كالريح يغري النار بالإحراق ومن عيوبك أنك لا تسكن ولا يقر لك قرار، ولم تفهم الإشارة في قوله تعالى " وله ما سكن في الليل والنهار "، وقد ضربت للعرب بعدم استقامتك الأمثال، كما نقله عنهم أصحاب القصص فمن ذلك قولهم: إن ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وأما قولك لولاي لما عاش إنسان، ولا بقي على أرض حيوان، فجوابه لو شاء الله لعاش العالم بلا هواء، كما عاش عالم الماء في الماء، ولم لا قلت أن غالب هلاك كل ذي روح من الوباء، وأنه لولا الرطوبة التي اكتسبتها أنت مني بالمجاورة، لاحترقت أنت فضلاً عن العالم لمجاورتك لطبيعة النار الحارة، فعلم بهذا أن حرارتك عرضية، لا أنها فيك طبيعية، ولو شئت لافتخرت عليك بالحرارة التي تعرض لي من النار والارتماض، ولكن لا يليق بالعاقل أن يفتخر بالإعراض، لأن العرض لا يبقى زمانين، كما برهن على أنه لا ينتقل إلى مكانين، وما الافتخار بشيء سريع الزوال، أو بعرض ليس لطبيعة الشخص عليه انجبال، قال الشاعر: واحق من نكسته ... بالذل من درجاته من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته ولذلك قيل: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وأما قولك إن طبيعتي الرطوبة فذلك أعظم فخري، لأن الرطوبة مادة الحياة التي في الأجسام تسري، إذ الحرارة بمنزلة النار في الأبدان، والرطوبة لها بمنزلة الأدهان، فإذا خلص الدهن انطفأ السراج، وزال ما فيه من النور الوهاج، وأما تعييرك لي بأني متلون، فالتلون صفة عارف الزمان، المتخلق بقوله تعالى " كل يوم هو في شأن "، وأما قولك قلبي قد انقلب، فالحمد لله الذي قلبه لأعلى الرتب، لأنه كان آخر الحروف فصار أولها، وكان مفضولها فصار أفضلها، إذ الألف تدل على الذات الأحدية، والباء تشير للحقيقة المحمدية، فكل الأحرف من الباء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 والباء إذا فنيت صورتها، وتعينها ونقطتها، كانت عين الألف بلا مراء، وأما قولك إن في حرف علة، وإنني منسوب بوجوده في إلى الذلة، فلا يليق أن تعيبني في شيء أوجد الله فيك مثله، وهب أنك خلوت منه فهل تخلو من قول الأطباء فيك أنك أساس كل علة. وأما قولك إن الله شبه بي الدنيا فقد شبه فيك أفئدة الكفار، وجعل زمهريرك سعيراً في النار، فأنت المذموم مقصوراً وممدوداً، إن مددت كنت جباراً عنيداً، وإن قصرت كنت إلهاً معبوداً، وأنا الذي لا أتغير بالمد ولا بالجزر، وكيف يتغير من هو مادة البحر، وأما افتخارك برفعة المنازل، وعدك ذلك من أعظم الفضائل، فلا فضيلة للشخص بالمكان ولا بالزمان كما قال الشاعر الملسان: ولو كان المكان له علو ... لطار الجيش وانحط القتام وقال الطغرائي: وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل هذا وأنشدك الله أينا كان عليه عرش الرحمن قبل خلق العالمين، وأينا الذي جعل منه كل شيء حي وذكره بذلك في كتابه المبين، وأينا الذي بعث فيه ابن عباس إلى ملك الروم في قارورة كان أرسلها إليه مع بعض الجنود، وطلب منه أن يضع له فيها كل شيء والشيء عندنا هو الموجود، أما كفاك شهادة الله لي بالطهورية في قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً "، أما بلغك شهادة الله ببركتي وحسبي بها فخراً في طول البلاد والعرض، حيث قال في كتابه العزيز: " وأنزلنا من السماء ماء مباركاً فأسكناه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الأرض "، أما رأيت ما حباني الله به من عظيم المنة، حيث جعلني الله نهراً من أنهار الجنة، أما علمت أن مني حوض من كان إذا مشى في الشمس تظله الغمامة، أما تيقنت أنني نبعت من بين أصابعه فكنت له معجزة كما أكون لوارثي مقامه الرفيع كرامة، أما عرفت أني أرفع الأحداث، وأطهر الأخباث، وأجلو النظر، وأكون للمؤمنين في الآخرة نوراً في محل التحجيل والغرر، أما رأيت الناس إذا غبت عنهم يتضرعون إلى الله بالصوم والصلاة والصدقة والدعاء، ويسألونه تعالى إرسالي من قبل السماء، واعلم أنني ما نلت هذا المقام الذي ارتفعت به على أبناء جنسي، إلا بانحطاطي الذي عيرتني به وتواضعي وهضم نفسي، وأنا لا أحب المعالي، وأنا سلم للمحل المنخفض، وحرب للمحل العالي، لا أتجاوز حد العبيد، ولا أنازع فيما أختص به من الصفات التي لا تغني ولا تبيد، بل أخشى دائماً بطشه، وأستحضر قوله تعالى: " إن بطش ربك لشديد "، فلذلك باعدني الله من النار، وجعلك حجاباً بيني وبينها أتقي بك ما تطاير منها من الشرار، وقد علم كل عالم أن فضائلي تجل عن الحصر، وأني سيد العناصر ولا فخر، أقول قولي هذا وأستغفر الله من لغو الكلام، وأسأله لي ولأحبابي حسن الختام. ثم نزل والتمس منا أن نحكم له بالفضل على الفور، وأن نجانب في حكمنا الميل والجور، فقلنا له بأن كلاً منكما أدلى إلى الفضل بحجة، وسلك من الدلائل العقلية والنقلية أوضح محجة، غير أن تكافؤ الأدلة، غدر منا الأفكار مضمحلة، وقد عجزت عن ترجيح فضلكما الأفكار، كما عجز القاضي الأفعى عن الحكم لأبناء نزار، وليس لهذه المعضلة، والحادثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 العظيمة المشكلة، إلا الكبار لا الهمج الرعاع، كما قيل: إن الكبار أطب للأوجاع، قال بعضهم: إن العظيم يحمل العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما ولعمري ليس لها غير إمام عصرنا، وعزة شامنا ومصرنا، المجتهد الذي قلد ببره أعناقنا تقليدا، وأخجل لطفه غض الزهر فلنستر بأكمامه حتى رأينا في خدوده توريدا، أعظم الموالي قدرا، وأعلاهم نجرا، وأرحبهم صدرا، وأكثرهم برا، وأنقذهم نهياً وأمرا، وأعد لهم نحيزة، وألينهم شنشنة وغيرزة، ذو اليدين، الذي كأنه ذو الخلال أو ذو النورين، من لو رآه ذو الجناحين لطار فضله، أو ذو البطين لمال لبذله، أو ذو الأذنين لروى أحاديث شمائله الملاح، أو ذو الهلالين لقال إنه الشمس وغرة الصباح، صاحب الطالع السعيد، الجاري سبب كفه على الصعيد جري السعيد، الجواد المذهب غلة الجواد، من برز في ميدان الفضل وأبرز، وحوى قصبات الرهان وأحرز، وزركش تاج المجد وطرز، المحسود، المحشود، رشيد الموالي وعين أمينها، وأبو عذرة المروءة وابن مدينها، والمتقلد من فرائد المحامد بثمينها، خلاصة العباد من العباد، وثمرة دوحة روض الحقائق من آل مراد، من فضله الجوهر الفرد عند كل منصف وعندي، جناب مولانا وسيدنا عين أعيان الموالي الكرام السيد عبد الرحمن أفندي، لا زال وهو البر بحر الجود، ونجم الهدى والسعود، موطىء العقب والأكناف، حامي الذمار والأطراف، منيفاً على آل عبد مناف، ملحوظاً بعين العناية والألطاف، فإنه عذيق الشام المرجب، وروضها المشذب المهذب، ومعشوقها المحبب، وروحها الذي بها قوامها، وسلكها الذي لا يتم إلا به نظامها، فكل من لم يثن إلى قصده العنان كان أشد ندماً من الكسعي، وأخسر صفقة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أبي غبشان، لأنه لا يصرف الهمة، لدني الهمة، ولا تبصر منه إلا رؤبا كالنجم في الدآدىء المدلهمة عنه الحجنة، أعظم هجنة، وخلف الوعد، خلق الوغد، وعدم الجود بالموجود، من سوء الظن بالمعبود، له توكل الطير، وعنده لا سرف في الخير، يحب المحاسنة، ويكره المخاشنة، ويحاشي مجلسه من المحاشنة، فيا له من جواد واسع المجسة، لا يرتاع من المحسة، ونجيب لا يقعقع له بالشنان ولا ينبه بطرق الحصى وهل ينبه اليقظان، وإن تأملت عزمه ولحظه، تحققت أنه أسد بيشة ولحظه فمن باراه فقد ماقس حوتا وصارع ضرعاماً، وقاوم بالهراوة عضباً حساماً، ونضح بقرنه المقطم، ورام أن يحكي بسرابه البحر الغطمطم، ولم يعلم أن بيت القدس، غير بين الغدس، وأن بقيع الغرقد، غير رقيع الفرقد، وأن شجر المرخ، غير شجر الورخ، وأن الزنبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 غير البازي وإن شاركه في الخفق والطيران، وأن ورد السلم غير ورد البستان، ولله در من قال: قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إن السماء شبيه البحر في الزرق ومن قال: وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدان فإن يفق الأنام وذاك منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال كما قلت فيه: لا غرو لابن المرادي ... وذاك شمس المواكب إن فاق كل الموالي ... فالشمس بعض الكواكب فهلم للوفود عليه، والمثول بين يديه، فهو الذي يستنبط المسائل ويرضى بفضله وبذله كل مسائل، وإن لم يكن غير مكارمه إليه وسائل. فلما سمع الماء والهواء بمعروف ذلك الحبيب السري، والإمام الهمام العبقري، تعشقاه على السماع، وطلبا منا المبادرة إلى جنابه ليبلغا منه حظ الاجتماع، فسرنا بهما إلى جنابه، حتى بلغنا فسيح رحابه، وكحلنا الجفون بإثمد أعتابه، فصادف دخولنا خروج كعبة ذاته من حرم الحرم فكأنما خرج الورد من الأكمام والليث من الأجم، فنهضنا له على الأقدام، وحيانا بألطف سلام، وتسلم سلم قصره الفريد، وأشار إلينا أن نتبعه في الصعود إلى ذلك القصر المشيد، فرأينا قصراً ينسب الخورنق للقصور، ويغمد غمدان كما تغمد في أجفانها الذكور، وما بالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بقصر شهدت فضلاء الأكياس، بأنه جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبه محاسن الناس، فكنا كما قال القاضي الفاضل: فتمتعت آمالي بمولى هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر ثم أمر لنا بالجلوس، هذا وعطف كل منا من الطرب ينوس، فأقبلت علينا ذات الدولة وبنت الوجاق، التي كلما مرت حلت، وكلما ثقلت خفت، على كل من رشف منها وذاق، السمراء المعشوقة، المقبولة مشروبة ومرثية ومنشوقة، بنت اليمن واليمن، ذات الجمال والحسن، كسواد العيون تظهر للنا ... س سواداً وفي الحقيقة نور التي أرخصت الغالية وكانت ندها، وملكت عنبر الطيب فأصبح يقول لا تدعني إلا يباعدها، وغارت بكر السلاف حتى اصفرت من غيرتها، وأصبحت عجوزاً شمطاء ما رآها راء إلا وقد طاب وجهه من قباحة صفرتها، وأين بنت الحرام من بنت الحلال، وأين جونة المسك من قوارير الأبوال، فأخذنا تلك البنية بالنية الصافية، وشربناها فقامت بها دعائم العافية، ولم نزل نرشف منها ذوب المسك ومحلول السبج، حتى جاءتنا قصبات السبق للسرور تنادي ما على من أحرز قصبات السبق وتاه من حرج، فيا لها قصبات تدهش الأبصار، كأنها أغصان بان في طرف كل غصن زهرة من جلنار، وقد اشتمل مجلسنا على كل نديم له صورة الدمية ونفحة الريحانة، ونشوة السلافة ولطافة الدرة اليتيمة والجمانة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أديب ألمعي، كأنه الأصمعي تراه الكامل في الأدب، والعمدة في كل مطلب، يأتيك من البديع بما يخجل ربيع الزهر وزهر الربيع، يثمر المسامرة ويحضر المحاضرة، ويتقن المحاورة، ويحسن المجاورة، يبادهك بما رق وراق، ويجلب لك الغصن من أزهار الأفكار وثمرات الأوراق، يجود على السمع بما يطلب القلب من الاقتراح، ويجلو عليك من راح ملحه ما يوجب لك الراحة والارتياح، كما قيل في أمثالهم: لنا جلساء لا يمل حديثهم ... الباء مأمونون غيباً ومشهداً إذا ما خلونا كان حسن حديثهم ... معيناً على نفي الهموم ومسعداً يفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلاً وتهذيباً ورأياً مسدداً ولا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً وما زلنا نقتطف منهم زهور الآداب، ونخترف ثمار الألباب، وهم يمزجون جدهم بالمفاكهة والمداعبة والمباسطة، ويزهو كالعقد وصاحب المنزل لهم كالواسطة، ومجلسه يحتفل بالوافدين، ويغص بالواردين، وهو يخاطب كلاً على حسب قدره وعقله، ويتحف كل من له وطر بقضاء وطره، ولا يتعلل كغيره بشغله، حتى أقبل ملك الليل بسواده الأعظم، ونثر على الأفلاك جواهر النجوم التي كأنها العقد المنظم. هذا ونحن في فلك السعود، كواكبنا وسماؤنا دخان العنبر والعود، وقد أشرق بدر تلك المنازل بالنور والكمال، وأشرف علينا بجبين لطيف رأينا عليه الهلال، وشنف بدر منطقه منا الأسماع، حتى خيل لكل منا أنه جليس القعقاع، وما زلنا في ليلنا نجمع عقود السرور كأنها فذلك، ونتمتع بنعيم لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 سئلنا عن أنفس أعمارنا فذلك، حتى نبذ الله الكرى في هامة منا وراس، فأسكرتنا سنة النوم والنعاس، وهجم علينا ملك الكرى، وقد كاد أن يشيب عارض الليل مما سال من دمع الشمع وجرى، وعند ذلك طوينا من المنادمة بساطها، وتفرقنا تطلب كل نفس منا راحتها وانبساطها، ثم اضطجعنا على الوساد للرقاد، وأعطينا الجفون حقها من الإغفاء بعد السهاد، ولم نزل في ضيافة المنام، تقربنا أياديه السرور في الأحلام، حتى لفظ الشرق من لهواته ياقوتة سهيل، ودب مشيب الفجر في عارض الليل، فنهضنا للصلاة، وجلس كل منا بعدها في مصلاه، حتى طلعت شمس صاحبنا الفائق، على الصاحب ابن عباد، فنفذ شعاعها من ظواهرنا إلى كل قلب منا وفؤاد، ثم دخلنا عليه وسلمنا ودعونا له بطول البقاء، فأجاب وأجاد وأجاز وتلقانا أحسن اللقاء، ثم جاءت القهوة التي طابت منظرا، ومخبراً وذوقاً وشما، ثم جيء بقصبات التبغ فارتضعنا منها كل ثدي يلذ دره ريحاً ولونه وطعما، فلما استوفينا أوفر حظ، وخلا مجلسنا من كل بارد ثقيل فظ، وشرب ذلك البحر المحيط بالفضل غليونه، وأراد أن يلقي علي لكوني من الساحل بعض درره الثمينة، بادرته بالدعاء، وعرضت عليه مفاخرة الماء والهواء، وسألته فصل الخطاب، والإنعام بالجواب، فالتفت عند ذلك للماء وأخيه، وقال: إن كلاً منكما محق فيما يدعيه، فما أشبهكما بالسماء بالفرقدين، وفي الأرض بالعينين، ففضلكما معجز، لا يكاد يميز أحدكما عن أخيه مميز. وقد نفع الله بكما العالم على تباين أنواعه وأشكاله. وقد ورد أن الخلق عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر هذه النعمة، واعلما أن حب الفخار أهبط إبليس إلى حضيض اللعنة من أوج شرف الرحمة، فلا تجعلاه لكما إماماً، فمن يفعل ذلك يلق أثاماً، واعلما أن الفخر في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال، وأحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الافتخار الافتقار، وظهور الذل والانكسار، فقد قال من سال بين أصابعه الماء المنهمر، الفقر فخري وبه أفتخر، فمن كان عبداً لله كان له به الافتخار، لا من كان النفس أو الهوى أو الدرهم أو الدينار، فمن مناجاة علي كرم الله وجهه وزاده منه قرباً: سيدي كفانا شرفاً أن نكون لك عبيداً، وكفانا عزاً أن تكون لنا رباً، وللقاضي عياض ومما زادني شرفاً وتيهاً ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا على أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء أخاك الهواء، وحققت لي أنكما لستما في الفضل سواء، وهي أن الله خلق آدم من الماء وخلق منك إبليس، فاعترف لأخيك بالفضل عليك، ودع عنك زخارف التلبيس، فأكبر من الحق من قبله، وأصغر من الباطل من عمله، والتذلل للحق أقرب من التعزز بالباطل، وأعظم الزلات زلة العاقل، فعند ذلك عدل الهواء عن هوجه واعوجاجه، ومخاصمته وعلاجه، وأقبل يقبل ذيل الماء ويعتذر إليه، من استطالته عليه، وأقبل كل منهما على صاحب المنزل يؤدي بالدعاء له حقوقه، حيث سلك بكل منهما مجاز الطريقة والحقيقة، وسألاني أن أمدح جنابه عنهما بطريق النيابة ففتح الله لي من النظم بابه، فأنشأت أقول: عارضت قوماً عن ودادك أعرضوا ... وتركتهم إن صرحوا أو أعرضوا من كل ذي ملق له إن جئته ... نفس مذبذبة ورأس منغض يلقاك منه عند أول رؤبة ... جسم صحيح فيه قلب ممرض يحكي ثعالة وهو في روغانه ... والحية الرقطاء حين تنضنض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قد طنب الأندال في ساحاته ... بل أطنبوا وبنو المكارم فوضوا ويقيم منه على ودادك حجة ... ويظن جهلاً أنها لا تنقض يا أيها الراجي لخلب برقه ... خذ بالأصول ودع عوارض تعرض فلقد رجوت من التيوس حلوبة ... ومخضت ماء مثله لا يمخض تالله لو أني فرغت لثلبهم ... بالفكر واستنهضت ما يستنهض لسللت سيف الهجر حتى أنني ... لم يبق في كفي إلا المقبض لكن أبى طبعي الطهور لأنه ... يوماً برجس صفاتهم يتمضمض وشغلت من هجوي بمدحة سيد ... لمديحه يلغى المهم ويرفض من بات للرحمن عبداً كله ... وسواه عبد في العبيد مبغض نجم أدارته السعود على ذرى ... قطب تراه عن العلا لا يقرض شيخ الحقائق بل مراد الهنا ... من خلقه الناهض المستنهض فلأمدحن جنابه بجوارحي ... وجوانحي سخط الحواسد أو رضوا وبظاهري وبباطني وبكل من ... بت شعرة وبكل عرق ينبض فالمدح يكره للفتى في كل ذي ... بخل وأما في علاء فيفرض فهو المحبب للقلوب وغيره ... أبداً وإن راق العيون مبغض شهم إذا أبطأت عنه جاءني ... من فيض راحته نوال مفوض من لم يرش بالجود منه جناحه ... كرماً فذاك إلى العلا لا ينهض ما ساءني دهري بوجه أسود ... إلا بدا لي منه وجه أبيض بر يريك خضم بحر زاخر ... فالحلم منه كالندى يتفضفض إن ليم زاد على الملام كأنما ... هو بالملام على النوال يحرض عجباً لقوم أبصروه شمسهم ... فتطاولوا لمناله وتعرضوا ورأوه ملء صدورهم وعيونهم ... كالليث في صدر المجالس يربض فتحوا لأقوال الوشاة عيونهم ... جهلاً وعن بادي المزايا غمضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فليكفهم ذلاً وخزياً إنه ... بحر وإن هم في نداه خوضوا ندب فأما عرضه فموقر ... أبداً وأما ماله فمعوض لله فوض أمر دنياه وهل ... يلقى العنا عبد إليه مفوض يا وابلاً كل الأنام رياضه ... فمذهب هذا وذاك مفضض أصبحت نفعاً للأنام وبعضهم ... لأذى البرية والبري مقيض فلغير ذاتك لا تتم فضيلة ... ولغير مدحك لا يشد المغرض لا زلت في العز الذي لا ينقضي ... ومشيد المجد الذي لا ينقض ما أحمد البربير عاش بمدحكم ... طرباً ومات به العدو المبغض ثم رجعت بعد إنشادي من عالم الخيال إلى عالم الإحساس، فلم أر أحداً ممن رأيته من تلك الأنواع والأجناس، فعلمت أن الدنيا كلها خيال، وبرق خلب وآل، والناس كلهم نيام، وما يرونه في الدنيا أضغاث أحلام، فسألت الله أن ينبهني وأحبابي من نوم الغفلة قبل هجوم الحمام، وأن يمتعنا بوجهه الكريم في دار النعيم والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله على التمام. وله تأليفات كثيرة، عديدة شهيرة، وله ديوان شعر، رفيع القدر، توفي بدمشق عقيماً ليلة الخميس لثماني عشرة ليلة من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائتين وألف ودفن بسفح قاسيون في مدفن بني الزكي في جوار الشيخ الأكبر. ومن قوله أيضاً: سلبت فؤادي بالبها حبشية ... أبهى من الدينار عند الرائي إن غبت من وجدي أقول لصاحبي ... غلبت علي حرارة الصفراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وقال: لنا طبيب جاهل ... تحكي القرود سحنته إذا رأى قارورة لل ... مريض هز لحيته وقال: زرقة النيل في يدي من سباني ... بقوام يفوق سمر الرماح مثل فيروزج السماء تبدى ... بسنا الفجر في عمود الصباح وقال وقد أجاد: ما لاح ريحان العذا ... ر وآسه من فوق ورده بل ذاك مخضر السما ... ء يلوح في مرآة خده الشيخ أحمد بن إسماعيل بن الشهاب أحمد المنيني بن علي ابن عمر بن صالح بن أحمد بن محد بن سليمان ابن إدريس بن إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم الطرابلسي الحنفي الدمشقي الشهير بالمنيني. اللوذعي الإمام، والألمعي الهمام، المحقق الفاضل، والمدقق العالم العامل، ولد في النصف الثاني من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائة وألف، واشتغل في طلب العلوم، على فضلاء دمشق، حتى برع في منطوقها والمفهوم، ومن جملة من قرأ عليه، وحصل له مطلوبه لديه، الشيخ نجيب القلعي المعروف بأبي حنيفة الصغير، والشيخ محمد بن عمر المنيني، وغيرهم من السادات العظام، والفضلاء الكرام، وكان ذا همة علية، وسخاوة حاتمية، فصيح المقال، مستقيم الأحوال، قد تبسم في دمشق ثغر إقباله، وانقشع ديجور الإدبار عن مشرق سعده وإجلاله، وخطبته المناصب، وأجلسته على منصة المراتب، ولما توفي ابن عمه الشيخ محمد المنيني وانحلت عنه وظيفة التدريس تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قبة النسر في جامع بني أمية في شهر رجب وشعبان ورمضان كل يوم جمعة بعد صلاة الجمعة، وجهت على صاحب الترجمة الأهلية لتلك الوظيفة، فباشرها بنفسه مرة واحدة، ثم وكل عنه علامة الزمان الشيخ سعيد الحلبي لعدم اقتداره على القيام بها من مرض أصابه في معدته منعه من ذلك. ولما مات الشيخ سعيد الحلبي جلس في مكانه الشيخ عبد الله بن الشيخ سعيد الحلبي المذكور، ولا زال قائماً بها إلى أن نفي الشيخ عبد الله المذكور إلى المغوصة سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين، بسبب حادثة النصارى في الشام، فرجعت الوظيفة إلى ولد المترجم الشيخ محمد أفندي بن أحمد أفندي المنيني مفتي دمشق الشام، فقام بها في نفسه. مات صاحب الترجمة في الحادي والعشرين من شهر المحرم الحرام سنة ست وخمسين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف مشهور. الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي المولد الشافعي الشهير بالعطار الإمام الصالح العابد، والهمام الجهبذ الزاهد، بقية السلف، ونخبة الخلف، بركة أهل الشام، وعمدة العلماء الأعلام، محدث العصر وفقيهه، وفطن الدهر ونبيهه، الذي شاع صيته في القرى والأمصار، واشتهر قدره كالشمس في رابعة النهار، إمام الشافعية في جامع بني أمية. ولد بدمشق سنة ألف ومائة وثمان وثلاثين، وقرأ القرآن، قراءة إتقان، وتجويد وإحسان، على مقري الديار الشامية الشريف السيد ديب بن خليل تلميذ سيدي أبي المواهب الحنبلي. وقرأه أيضاً وتلقاه بالأوجه السبعة إلى أثناء سورة الأحزاب على الشيخ العلامة علي بن أحمد الكزبري، وتفقه عليه وعلى الإمام السند الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني، والعلامة الشيخ عبد الرحمن الصناديقي، والمولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الإمام الملا عباس الكردي، والشيخ محمد الديري، والعلامة أحمد البعلي الحنبلي، والشيخ عواد الكردي، والشيخ محمد التدمري، والشيخ محمد سعيد الجعفري، والشيخ محمد بن سليمان الكردي، والعلامة التافلاني مفتي القدس، والعلامة جعفر البرزنجي المدني، والعلامة عبد الرحمن الطائفي المكي، والشيخ الجوهري والملوي والحفني، والشيخ عطية الأجهوري، والسيد مرتضى الزبيدي، والشيخ صالح الجينيني الحنفي، والعلامة الشهاب أحمد بن علي المنيني وغيرهم كالشيخ موسى المحاسني، وجعفر البرزنجي، والشيخ عبد الرحمن الكردي، وأبي المعالي الغزي، وعبد الله البصروي. فأدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من حاضرته. فاق في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه: كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويرتوون من بحر علمه العذب النير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، وقرأ بين العشاءين في الجامع الأموي كتباً عديدة، منها الجامع الصغير للأسيوطي والجامع الصحيح للإمام البخاري وإحياء العلوم للغزالي مرتين، وشرع في الثالثة، وقرأ الدر المنثور للسيوطي بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الظهر في محراب الشافعية، وغير ذلك، ووجهت عليه وظيفة تدريس السليمانية، وقرأ فيها في صحيح البخاري، وكان مثابراً على أنواع الطاعات والعبادات، وأفعال البر والخيرات، وحج أربع مرات، وارتحل إلى بلاد الروم ومصر، وكان غالب جلوسه في الجامع الأموي، وقل ما رئي إلا وهو يدرس أو يقرأ القرآن أو يصلي أو يسبح، وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، صواماً قواماً قضاء لحوائج الناس، ولما تغلب الفرنج على مصر ومشوا على الساحل ووصلوا إلى صفد وبلاد نابلس عام ألف ومائتين وأربعة عشر شمر عن ساق الاجتهاد، ودعا الناس إلى الجهاد، وحرضهم عليه وخرج مع عسكر من دمشق مجاهداً بنفسه وماله وأولاده حتى التقى الجمعان، وكان هو في الصفوف مقابلاً للعدو وهو يحرض الناس على القتال ويبين ما لهم من الثواب والأجر، ولم يزل على طاعته، وحسن عبادته، إلى أن توفي في اليوم التاسع من ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين وألف وعاش ثمانين سنة ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين ابن عبد الكريم الدمشقي الشافعي الشهير بالكزبري، الإمام الشهير، والهمام النحرير، ولد سنة ألف ومائة وثمانٍ وتسعين، ونشأ بها يتيماً، وكفله عمه شقيق والده العلامة الشيخ محمد الكزبري، وأخذ عنه وعن الشهاب أحمد العطار، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. أحمد أفندي بن علي الدمشقي الحنفي المعروف بالحسيبي أحد أعيان الشام، وأوحد الأماجد الأشراف العظام، نبعة المفاخر، وعمدة الأكابر، ونخبة ذوي المآثر، وحاوي المجد والتقدم كابراً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 كابر، ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وست ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، ثم ترقى في المناصب، ورقي درج المراتب، إلى أن صار عضواً في مجلس شورى الشام، وكان مهابا، مطاعاً مجابا، وفي ثمان وسبعين ومائتين وألف قد نفي بسبب حادثة النصارى إلى قلعة الماغوصة مع من نفي من علماء الشام وأعيانها، وفي يوم ذهابهم اشتد كرب الناس، وقوي الهم والباس، ونادى لسان الحال بفصيح المقال: خطب كما شاء الإله جليل ... ذهلت لديه بصائر وعقول ومصيبة كسفت لها شمس الضحى ... وهفا ببدر المكرمات أفول وكبا زناد المجد وانفصمت عرى ... العلياء واغتال الفضائل غول وتنكرت سبل المعارف واغتدت ... غفلاً وأقفل ربعها المأهول ومضت بشاشة كل شيء وانقضت ... فالوقت قبض والزمان عليل وعلا ملاحات الوجوه سماجة ... وخفيف تلك الكائنات ثقيل والروض غبر والمياه أواجن ... ومعاطف الأغصان ليس تميل والشمع والألحان لا نور ولا ... طرب وليس على الشمول قبول خطب ألم بكل قطر نعيه ... كادت له شم الجبال تزول فعلى المعالي والعلوم كآبة ... وعلى الحقائق ذلة وخمول والسالكون سطت عليهم حيرة ... وغوى لهم نهج وضل سبيل والعارفون تنكرت أحوالهم ... فحجاب عين قلوبهم مسدول ودنان خمر الحب قد ختمت وبا ... ب الحان مهجور الفنا مملول ما كنت أعلم والحوادث جمة ... والناس فيهم عالم وجهول إن الدجى لبس الحداد توقعاً ... لمصابه قدماً وذاك قليل أو إن صوب المزن حين هما على ... عفر الثرى دمع عليه يسيل أو إن صوت الرعد حنة فاقد ... فقد العلا فله عليه عويل أو إن قلب الرعد يخفق روعة ... لسماع ناع دمعه مسبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ثم إنه بعد مدة رجع المترجم إلى الشام، وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف توجه إلى الحجاز، فتوفي في الذهاب حين وصوله إلى المدائن في السنة المذكورة، ودفن عند القلعة وقبره ظاهر مشهور، وقد كتب على قبره ما نظمه له أمين أفندي الجندي مفتي دمشق الشام: حل في ذا الضريح عبد تقي ... وحسيب من آل بيت محمد عاش دهراً ومات قاصد حج ... فعلى الله أجره قد تأكد هاتف الغيب قال بالبشر أرخ ... قدست روح ساكن الرمس أحمد وكتب على الوجه الآخر من بلاطه القبر ما نظمه عبد المجيد أفندي الخاني: أيا ركب الحجاز إذا نزلتم ... على ماء المدائن للورود قفوا عند الطلول بنا قليلاً ... نحيي أهل هاتيك العهود هنالك أحمد الشهم الحسيبي ... سليل المصطفى فخر الوجود أهل ملبياً بالحج لكن ... أتته دعوة الرب الودود فقال له البشير اليوم أرخ ... لعمرك قد كتبت مع الوفود أحمد أفندي بن سليمان بن يوسف بن محمد بن شمس الدين محمد ابن يحيى بن أحمد الدمشقي الحنفي المشهور كأسلافه بالمالكي المغربي الأصل، الدمشقي المولد صدر الشام، وعين أعيانها الفخام، ولد بدمشق سنة عشر ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده، واشتغل في طلب العلم مدة ثم دخل في جملة الكتاب في محكمة الباب، ثم ولي بعض النيابات في بقية المحاكم الدمشقية، ثم ترقى وتولى نظارة أوقاف الشام، ونظارة النفوس وغير ذلك، ثم عين عضواً في مجلس شورى الشام الكبير، وتصدر به على غيره. وكان له عند الولاة القبول الزائد، ومهر في أمور المجلس وبرع، وكلما مرت عليه الأيام، يزداد في القدر والاحترام، وكثر ماله وازدادت أملاكه، ثم سنة حضور الوزير إبراهيم باشا المصري إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الشام واستيلائه عليها صار مقبول الكلمة لديه، يعتمد في مهماته عليه، وقربه وأولاه، ومنحه التفاته وأعلى علاه، وكان المترجم صاحب مروءة يحب قضاء حوائج الناس وكان مرعي الحرمة مقبول الرجاء، يعرف كيف سلك سبيل مراده، توفي في اليوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن في الذهبية من مرج الدحداح. شهاب الدين أحمد بن محمد نجيب الأيوبي الأنصاري الحنفي الدمشقي هو للدهر حسنة تكفر ما جنى، وللزهر خميلة فيها طل وجنى، توقد في العلوم ذهنه، وتوحد في الآداب وانفرد بين الأنام حسنه، وعلا مقامه وارتفع، وأخذ عنه العام والخاص وبه انتفع، إلى أن طلع في سماء السيادة بدراً، وعرف الناس له جلالة وقدراً، ولد في سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، وأخذ عن الشيخ إسماعيل العجلوني، والأستاذ الشيخ إسماعيل النابلسي، والشيخ محمد الغزي، والشيخ عبد الله البصروي، والفاضل محمد أفندي قولاقز، والعلامة الشهاب أحمد المنيني، والشيخ محمد الديري، والشيخ الداودي، والشيخ أسعد المجلد، والشيخ أبي المواهب الحنبلي، والشيخ عبد القادر التغلبي المجلد، والشيخ محمد التافلاتي مفتي القدس الشريف، والشيخ عبد الرحمن الكفرسوسي، والشيخ علي الكزبري، والشيخ سعيد الخليلي، والشيخ أحمد الحنبلي، والشيخ أحمد البقاعي، والشيخ موسى المحاسني خطيب جامع بني أمية، وعن حامد أفندي العمادي مفتي دمشق الشام، وعن الملا علي التركماني أمين الفتوى، والشيخ محمد التدمري، والشيخ صالح الجبينيني، وأعاد له الدرس، وغيرهم من السادات العظام والمشايخ الكرام. مات رحمه الله سنة أربع عشرة ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أحمد بن محمد هلال بن أسعد الشيباني الدمشقي إمام الحنابلة في دمشق فرد السادة الحنابلة في دمشق الشام، وأوحد العلماء العظام، الإمام المحقق، والهمام المدقق، أعجوبة الرفاق، ونادرة الوقت والأوان المتضلع في العلوم، والمترفع عن كل قبيح ومذموم، صاحب الاستحضار العجيب، والذكاء الغريب، والفضل الذي لا يملك عنانه، والذهن الذي لا يشق ميدانه، وهو أحد فضلاء دمشق وإمام الحديث بها وبدر سمائها المشرق على أفق مشارقها ومغاربها، ولد بدمشق سنة أربع وستين ومائة وألف، وتوفي ليلة الجمعة مع طلوع الفجر ثالث ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، وهو عن الشيخ أحمد البعلي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة ثمان ومائة وألف وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة وألف عن علامة الوجود أبي المواهب الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق ولد سنة أربع وأربعين وألف وتوفي سنة ست وعشرين ومائة وألف، عن والده إمام العلماء الشيخ عبد الباقي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق. ولد سنة خمس وألف وتوفي سنة اثنتين وسبعين وألف، عن الشهاب أحمد بن علي الوفائي الحنبلي، ولد سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة، وتوفي سنة اثنتين وسبعين وألف، عن القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي، ولد سنة ثلاث وتسعمائة، وتوفي سنة تسع وستين وتسعمائة، عن والده نجم الدين بن ملفح، ولد سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، وتوفي سنة تسع عشرة وتسعمائة، عن جده القاضي برهان الدين صاحب الفروع، ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وتوفي سنة ثلاث وستين وسبعمائة عن ابن تيمية الحنبلي، ولد سنة إحدى وستين وستمائة، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ودفن في مقبرة الصوفية في البرامكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 عن الفخر علي بن البخاري ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة تسعين وستمائة، عن حنبل بن عبد اله الرصافي، ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة، وعاش تسعين سنة وتوفي سنة أربع وستمائة، عن أبي علي الحسن بن علي بن محمد التميمي المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، عن أحمد بن جعفر ابن حمدان بن مالك بن شبيب بن عبد الله القطيعي، ولد سنة أربع وسبعين ومائتين وتوفي سنة سبع وستين وثلاثمائة، عن عبد الله بن الإمام أحمد، ولد سنة ثلاث ومائتين وتوفي سنة تسعين ومائتين، عن الإمام الجليل أحمد بن حنبل، ولد سنة أربع وستين ومائة، وتوفي في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودفن في بغداد دار السلام، عن سفيان ابن عيينة، ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، عن عمرو بن دينار، ولد سنة ثلاث وأربعين وتوفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، عن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفي سنة ست وثمانين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي المترجم المرقوم في ربيع الأول سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ سعيد الحلبي ثم الدمشقي الحنفي عالم صالح زاهد، وإمام فالح عابد، ولد سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، وتربى في حجر والده وتفقه عليه وتفنن، وقرأ على غيره حتى برع وفاق وتمكن، ومن مشايخه الشيخ محمد الطنطاوي، والشيخ محمد الجوخدار، والشيخ محمد السكري، ووالدي المرحوم الشيخ حسن البيطار، وغيرهم من العلماء الأعلام، وكان جلوسه في حجرة والده في الرواق الشمالي من جامع بني أمية، يقرىء دروس العلم للطالبين من فنون متعددة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وكان محبوباً بين الناس مقصوداً في فصل الخصومات، عالي الهمة، حسن العبارة والمعاملة، شريف النفس. وقد ولي بعد فصل إسماعيل أفندي الغزي نظارة جامع بني أمية فانتفع به الجامع غاية النفع، وفي زمنه غير بلاط الجامع والبسيط الذي في منارة العروس بحساب ورسم شيخنا الشيخ محمد الطنطاوي على نسق بسيطة ابن الشاطر التي كانت في موضع البسيطة الآن، وكان تبديلها لاختلالها بمرور الزمان عليها، ولم يزل المترجم ينمو قدره ويحسن ذكره، ويتزايد نفع الجامع به، إلى أن قصد البيت الحرام للنسك في شهر ذي القعدة الحرام سنة أربع وثلاثمائة وألف، من طريق البحر، فغب إتمام حجه ونزوله إلى مكة تمرض وتوفي في مكة سابع عشر ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة، ودفن في تربة المعلى بجوار قبر الشيخ عبد الرحمن الكزبري بعد أن صلى عليه في الحرم ألوف من الناس رحمه الله تعالى. الحافظ أحمد أفندي مدرس السليمانية عالم فاضل، وهمام كامل، قد ارتقى في العلوم، وفاق من فاق من ذوي المنطوق والمفهوم، وأخذ عن الأفاضل، إلى أن صار من ذوي الفضائل والفواضل، وكان عابداً ناسكاًن وزاهداً في الدنيا ولحطامها تاركاً، مواظباً على التقوى في السر والنجوى، قد أخذ عنه أهل عصره، واقر له بالفضل علماء مصره، ومن جملة من أخذ عنه داود باشا والي بغداد. ولم يزل على حاله، مرتدياً برداء كماله إلى أن خطبته المنية سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين رحمة الله تعالى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الشيخ أحمد الأكربوزي النقشبندي الخالدي العالم الفاضل العامل، والمرشد الناصح الكامل، ذو الأنفاس القدسية، والمعاني الأنسية، والبوارق اللامعة، واللوامع البارقة، طلب العلم من صباه، ولم يزل مواظباً عليه إلى أن بلغ أوج مرتقاه، ثم لازم خدمة حضرة مولانا خالد النقشبندي، فسلكه وأحسن تربيته، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وأقام في بغداد مدة طويلة، ثم رحل إلى بلاد الروم، وأقام في إزمير، وأحسن الإرشاد، وكانت له الهمة العلية، والأنفاس الأنسية، وله مقام التمكين، والوصول إلى عين اليقين، وكان من المقربين في خدمة حضرة الأستاذ، والعمدة الملاذ، ومن الفائزين بحسن أنظاره، وله كثير من المريدين والخلفاء. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين. السيد أحمد السركلوي البرزنجي النقشبندي الخالدي الفاضل العابد، والمرشد الشريف الزاهد، الولي النبوي، كان من الأولياء الكاملين. نشأ من صغره في التقوى والعبادة، والعلم والزهادة، والاستفادة والإفادة، والإقبال على الله فوق العادة، ثم أخذ عن المرشد الكامل، والمسلك الفاضل حضرة مولانا خالد، فاجتهد في خدمته وبذل نفسه في طاعته، وتوجه بكليته لقبول تربيته، ثم لما حصلت الإشارة الربانية بتخليفه، خلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد، وكان من أكابر الخلفاء المقدمين المقربين. وله أحوال عجيبة. وكان حضرة الأستاذ مولانا خالد يعبر عنه بأخينا أحمد لما له عنده من الفضل والقدر والجلالة، وانتفع على يده جماعة كثيرون من الناس، وأقبل عليه المريدون من كل جانب، وكان يحصل لهم منه التأشيرات العجيبة، والمشاهدات الغريبة، والأحوال العالية، والأطوار السامية. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وزيادة على الخمسين رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الشيخ أحمد الخطيب الأربيلي النقشبندي الخالدي عالم قد علا قدره، وإمام قد سما ذكره، خطيب قدر في منبر الكمال، بعد أن تحلى بأثواب الجمال، قد نفع الناس بعلومه، وأفادهم من تحرير منطوقه ومفهومه، ثم أخذ الطريقة النقشبندية، عن صاحب الرتبة العلية، مولانا خالد شيخ الحضرة، ثم بعد كماله جعله خليفة، فأرشد وأفاد، وتعدى نفعه إلى البلاد، وخدم الطريق بالصدق والجد والاجتهاد، وكان سلوكه سلوك الصواب والسداد. ولم يزل يسعى في أشرف مسعى إلى أن تم الأجل، وإلى مولاه ارتحل، سنة ألف ومائتين وزائد على الخمسين. الشيخ أحمد الكاملي المغربي المراكي المالكي البصير أبو العلا زمانه، وابن جلا عصره وأوانه، هو في ميدان البيان أوحد في بيانه، وكأنما حشر عالم الفصاحة بين فكره ولسانه، فلا ريب أنه إنسان طرف الأدب ومقلة مآقيه، وفارع هضبة الأرب وراقي مراقيه، زرت على المعارف أطواقه، وما اهتاجت إلا للعوارف أشواقه، وهو من لطف الطبع أرق من الصهباء في رونق الصبا، ما ذاق إنسان طعم مفاكهته إلا مال إليه وصبا، ذو مذاكرة يتسلى بها المهموم، ومحادثة يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم، وشعر يشعر بأنه ابن النظم والنثر، ونثر يزدري بنثر اللآلي والدر، غير أنه مكفوف البصر، دميم الخلقة لا يحسن إليه النظر، أنقر الوجه كثير السمن، قصير القامة تارك للفريضة والسنن. حضر إلى الشام في سنة تسعين، ورؤيته تحكم بأنه لم يتجاوز من العمر الخمسة والثلاثين، فقصده للزيارة الصدور والأعيان، وكان لا يدخل عليه أحد قبل الاستئذان، وكان مظهراً للعظمة والإجلال، والانفراد بالأدب والعلم والمال، فكثرت في الناس شهرته، ودارت بين الأهلين سيرته، ونظر إليه العموم بعين الإجلال، واختلفت فيه آراء أولي الكمال، وتمنعت عنهم معرفة حقيقته، لعدم تمكنهم من الاجتماع به إلا بعد إرادته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فكان يكلم كل إنسان، بما كلمه به بأفصح بيان، فكل من ذاكره بفن من الفنون، يظن أنه فرد ذلك الفن المصون، وكان يحفظ من القصص والحديث، ما يوهم أنه لم يترك شيئاً من قديم وحديث، وكان كثيراً ما يتكلم بلسان العرفان، ويتمايل عند كلامه تمايل النشوان، ويذكر بديع عباراتهم، ورفيع إشاراتهم، فيخاله من له بهذا الفن بعض إلمام، أنه الشيخ الأكبر أو شيخ بسطام، وكنت أنا وبعض أحباب لي من الأدباء نجتمع به في غالب الأيام، ولم نقصده مرة إلا وقيل لنا ادخلوا بسلام، فيحدثنا ببديع الغرائب، وأعجب العجائب، وبما اتفق له في رحلته، من حين خروجه من بلدته، مما يدهش العقول، ولم يوقف له على تأييد منقول، فيقول بأنه رحل إلى الهند والصين، وبلاد الترك والعجم والممالك الأوربية، ومكث مدة سنين حتى تعلم ألسنة الجميع، ونظم في كل لسان ونثر من كل بديع، وكان يسرد لنا من قصائده بكل لسان لا نفهمه، ولا ندريه ولا نعلمه، ويحكي لنا ما اتفق له في هذه الممالك من غريب الخبر، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. غير أن لوائح المين عليه لائحة، ونوافح الوضع عليه نافحة، ثم إنه من أعجب العجاب، أنه له قوة وفصاحة تدعو السامع إلى الإصغاء له كالإصغاء إلى الصواب، وكلنا يقول عند الخروج أنه ليس له عن الباطل خروج. لي حيلة فيمن ينم ... م وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة لكنه بين العموم مستور، وحقيق أمره عند غيرنا ليس بمشهور، وكان يصرف من المال صرف الأعيان، وكل منا في معرفة ذلك مدهوش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وحيران، ثم بعد أن ارتفع بيننا الحجاب، وصارت حالتنا معه حالة الإخوان والأحباب، جعل في بعض الأحيان يتحدث بالغلمان والشراب، ويتواجد لهم تواجداً موقعاً في الارتياب، فدلنا صريح مقاله، على حقيقة حاله، ولم نقدر على ترك مجالسته، لما عنده من ذكائه وحفظه وفصاحته، ثم إنه استخدم غلاماً يزري بالقمر، في ليلة أربعة عشر، فأكثر الناس عليه القيل والقال، وأخرجوه عن دائرة الاعتدال، وعرفوا ما أكنه وأسره، وسلبوه ما كان عنده من الفرح والمسرة، وأسمعوه ما كدر صفوه، وأخرجوه من دائرة المروءة والنخوة، وعلموا حاله، واستقذروا أوحاله، فلما عرف ذلك أخذ غلامه وسافر إلى سنوس، وهو من تزكية الناس له مأيوس، فغاب مدة طويلة ثم حضر، فلم يجد من الإقبال الذي كان له من أثر، فمكث مدة ثم ذهب بغلامه إلى الاسكندرية، فلم تمض مدة طويلة إلا وقد بلغنا عنه أخبار دنية، وهو أنه كان من أهالي الاسكندرية رجل يقال له الأحمدين، وقد اشتهر في التجارة والغنى اشتهار الفرقدين، فاجتمع بالمترجم المذكور، وسمع من كلامه المزدري بعقود النحور، من وعظ ورغائب، ودعوى وصول إلى أعلى المراتب، وكان الرجل من أهل الصلاح، والطاعة والنجاح، فتعلق به تعلق الأرواح بالأشباح، ولازمه ملازمة النور للمصباح، ولم يزل يسحره ببديع كلامه، ويعده بالوصول إلى مرغوبه ومرامه، وأنه سيرى سيد الأنام، في اليقظة لا في المنام، فيسأل له المطلوب، ويوصله لكل مرغوب، فصدق الرجل قوله، وأضاف إليه قوته وحوله، وانقاد إليه أشد الانقياد، وقدمه على الأهل والمال والأولاد، فلما عرف المترجم منه زيادة حبه، وأنه استولى على عرش لبه وقلبه، صار يقول له إن رسول الله صلى الله عليه يريد أن يريك ذاته الشريفة غير بعيد، ولكن يأمرك أن تعطيني من المال كذا وكذا لأعطيه لمن أريد، ولا زال يأخذ منه من المال، ويعده ببلوغ الآمال، إلى أن قال له إن قصدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أن أزور الشام وآتيك بعد مدة من الأيام، فكتب الرجل لبعض أحبابه أن يتلقوه بالإكرام ويبذلوا الهمة في إكرام جنابه، فكان يصرف من مال الأحمدين، والناس يستغربون ولا يعلمون هذا المال من أين، إلى أن ذهب هذه المرة إلى الاسكندرية، وصارت أكاذيبه على الأحمدين غير خفية، تعلق به تعلق الدائن بالمديون، وقال له لقد أخذت مالي بالأكاذيب والمجون، واشتكى عليه لحاكم البلد، فأحضره وسأله فانكسر ذلك وجحد، فأثبت ذلك عليه، وحجز على ثيابه ومتاعه، فلم يجد شيئاً من المال لديه، فلما عرف الحاكم بذلك. أضمر له الإيقاع في المهالك، فأعلم بذلك أمير مصر القاهرة، وأرسل إليه تفصيل هذه القضية الباهرة، فأمر بنفيه إلى فاس، ونفي غلامه إلى طنجة، بعد ذاك البهاء والبهجة، وبعد ذلك لم نقع لهما على خبر، ولم نقف لهم على نقل أثر، ومن كلامه وبديع نظامه: قدس الله عالماً جئت منه ... وسقته سحائب الأنوار طالما جبت فيه بين أملا ... ك كرام ضحاضح الأسرار ثم أهبطك المليك كما أه ... بطني لمنازل الأغيار ليتم مراده فله الحكم ... علينا سبحانه من باري فاصبري وتجلدي واحمدي الل ... هولا تجزعي من الأكدار واعلمي أن كلنا قاسا ما سو ... ف تقاسين من خطوب ضواري في وعاء من التراب كثيف ... ذي ظلام مضيق من هار كل ما نحن فيه يسهل لولا ... أن نار الحجاب ذات استعار غيرت بهجتي فانطبخت الط ... ين فصار الجميع كالأحجار وإلى الله أشتكي من حجاب ... عاقني عن مناهل الأبرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ومن كلامه: يا كريم لقد فعلت كما تع ... لم كل صغيرة وكبيرة عالماً أنها ذنوب وأني ... مستحق من العذاب سعيره غير أن الكريم بشر قلبي ... بنعيم فلا عدمت بشيره توفي حدود الألف والثلاثمائة. الشيخ السيد أحمد بن السيد علي بن السيد محمد الشهير بالحلواني هو الشيخ الإمام، والحبر الهمام، معتقد الخاص والعام، وشيخ القراء في دمشق الشام، ورأيت في ترجمته لبعض تلامذته ناقلاً عنه بأنه يتصل نسبه بالسيد سليمان السبسبي المنسوب لسيدنا العارف بالله السيد أحمد الرفاعي. ولد المترجم في دمشق سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين ونشأ في حجر والده، وغب تمييزه حفظ القرآن الشريف عن ظهر قلب من طريق حفص على الشيخ راضي، ثم أقبل على طلب العلم فأخذ في دمشق الشام، عن أفاضلها الكرام، وأكابرها السادة الأعلام، كالشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الكزبري، فإنه حضره في البخاري مراراً، وكذا في صحيح مسلم وسمع منه الأربعين العجلونية وكتب له بها إجازة بخطه وختمه، ومنهم الشيخ حامد العطار، فقد حضره أيضاً في الحديث وغيره ومنهم الشيخ سعيد الحلبي، فقد حضره في كتب النحو إلى أن قرأ المغني، ومنهم الشيخ عبد الرحمن الطيبي فقد حضره في عدة كتب من فقه سيدنا الإمام الشافعي، ومنهم الشيخ عبد اللطيف مفتي بيروت فقد حضر عليه جملة من الصرف والبيان، ثم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف ذهب إلى مكة المشرفة، فأخذ عن شيخ القراء بها الشيخ أحمد المصري المرزوقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 البصير المكي الدار والوفاة، فقرأ عليه ختمة مجودة من طريق حفص، ثم حفظ عليه الشاطبية، وقرأ القراءات السبع من طريقها، ثم حفظ الدرة، وأتم القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة، ثم حفظ الطيبة لشيخ هذا الفن الشيخ محمد بن الجزري، وقرأ عليه ختمة من طريقها للقراء العشرة، ثم أجازه الشيخ بالقراءات العشر وما تجوز له روايته، وأقام هناك أربع سنوات، ثم رجع إلى وطنه دمشق الشام سنة سبع وخمسين، فأقبل الناس عليه بالقراءة جمعاً وغيره، واشتهر أمره، وارتفع ذكره، وعم نفعه الخاص والعام، وانفرد بهذا العلم في جميع الشام، ثم هاجر إلى مكة سنة خمس وستين بعد المائتين والألف، وأقام بها ثلاث عشرة سنة، مشتغلاً بالإفادة والتعليم، وانتفع به هناك خلق كثير ثم رجع إلى وطنه سنة سبع وسبعين بعد المائتين والألف، ولم يزل على ما كان عليه من إفادة الناس وتعليمهم، مع حسن المفاكهة وجميل المحاضرة وتأنيس الجليس بكل أمر نفيس، ويغلب عليه الخضوع والسكينة والخشوع وتلاوة القرآن، في غالب الأحيان، وله رسالة في التجويد سماه اللطائف البهية، وله نظم في بعض قواعد من فن القراءات. وبالجملة فهو فريد دهره، ووحيد عصره، أنجب تلامذة فضلاء، لهم في فن التجويد والقراءات اليد البيضاء، بعد أن كاد هذا الفن يعدم من الشام، فكثر القارئون في زمنه على أتم مرام، غير أنه كان يغلب عليه في بعض الأيام السوداء فلا يحب الاجتماع بالناس، وأما في وقت سروره فإنه خدن جليسٌ كأن خلق من إيناس، وقد حفظت عليه ولله الحمد شريف القرآن، ثم أخذت تجويده عنه بتمام الإتقان، توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة وسبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وتأسف عليه الخاص والعام، جمعنا الله وإياه في الفردوس بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. أحمد عزت باشا الفاروقي بن محمود أفندي بن سليمان أفندي ابن أحمد أفندي بن علي أفندي المفتي الملقب بأبي الفضائل ابن مراد أفندي بن الشيخ عثمان الخطيب بن الحاج علي بن الحاج قاسم وهو الذي ورد من الشام إلى الموصل في حدود سنة التسعمائة وسبعين وعمر بها الجامع الوجود اليوم المشهور بجامع العمرية وقبره وقبر ولده في قبة مخصوصة بهما، (وكان تاريخ الجامع لفظه خاشع) ، ابن علي بن الحسن بن الحسين بن أبي بكر بن موسى بن عمر بن عثمان بن حسين بن نبي ابن عبد القادر بن عبد الوهاب بن عبد الله بن منصور بن شمس الدين بن يحيى ابن يعقوب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن محمود بن دياب بن يوسف بن سعيد بن ناصر الدين بن عبد الهادي بن عاصم بن عبد الله بن عاصم بن حضرة أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه وذلك حسبما هو مضبوط ومقيد في شجرة الأنساب الفاروقية. وأما والدته فينتهي نسبها الشريف إلى السادة الأعوجية الفخرية إلى حضرة قطب الأقطاب السيد أحمد الرفاعي الكبير رضي الله تعالى عنه. أقول: إن هذا الأديب الفاضل، المتحلي بأنواع العلوم والفضائل، قد ذكر هذا النسب الشريف في كتابه المسمى بالعقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، وتمم ترجمته فقال: وأما ولادتي فكانت في الموصل أواخر سنة الأربع والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل التحية، ولما بلغت من العمر أربع سنين باشرت بقراءة القرآن الكريم، وسنة سبع من عمري ختمته، وحفظت طرفاً منه، ورويت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قراءة حفص على أستاذي بالنحو المرحوم ملا عبد الرزاق أفندي الجبوري وفي سنة أربع وخمسين طلبني المرحوم عمي المشهور بالفضل العميم عبد الباقي أفندي الفاروقي، وكان إذ ذاك ساكناً في بغداد، وبقيت في خدمته مقدار ستة أشهر، بعد أن أكملت قراءة الأسيوطي على المرحوم ملا أسعد أفندي الموصلي مدرس جامع الآصفية، ثم عدت إلى الموصل فقرأت أصول الفقه وعلم الحساب وطرفاً من علم الوضع على العالم الفاضل المرحوم عبد الرحمن أفندي الكلاك، وجمعت جمع الصغير وجمع الكبير في القراءات السبع على مخدومه عبد اللطيف أفندي، وقرأت الإيساغوجي على العالم الزاهد والفاضل العابد المرحوم ملا محمد أمين أفندي بن ملا عبيده، وقرأت علم البديع وطرفاً من المعاني والبيان على رئيس العلماء المشهود له بالعلم والورع المرحوم عبد الله أفندي الفاروقي، ثم في أوائل سنة إحدى وستين طلبني من أبي ثانياً عمي المرحوم لأجل البقاء بخدمته، فتوجهت إلى بغداد، وكانت إذ ذاك غاصة بالفضلاء والعلماء والأدباء، فتخرجت عليه في فنون الشعر وعلم الأدب، وطرت بجناح فضله، واستسقيت من هطال وبله، وفي غضون ذلك قرأت على سبيل التبرك شرح الشمسية، وابن عقيل على خاتمة المفسرين وعلامة العلماء المحققين المرحوم أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي مفتي الزوراء ومرجع الفضلاء، وقرأت أيضاً كتاب تشريح الأفلاك على المرحوم الفاضل الشيخ أحمد أفندي السنة لي، وأتقنت اللغة الفارسية على مخدومه العالم الأكمل الشيخ طه أفندي، وبقيت في خدمة المرحوم العم ببغداد إلى السنة التاسعة والستين فانسلكت بخدمة الدولة العلية العثمانية متقلباً في البلاد وأولها شهر زور، ولا زلت من أفضال تلك الدولة أتنقل في أنواع مأمورياتها من داخلية وخارجية ورسومية ومالية، وارتقى إلى درجات رتبها بالتدريج، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أصعدني من حسن أنظاره أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين حضرة السلطان عبد الحميد خان أدامه الرحمن، إلى رتبة المير ميران، وها أنذا اليوم بالآستانة ضيف حضرته، ونزيل سدته، داعياً لحضرته بمزيد الدوام على مدى الأيام، انتهى كلامه. ومن نظمه الحسن وكلامه المستحسن قوله: عنبر الليل وكافور الصباح ... أشغلاني باغتباق واصطباح يا نديمي قم فقد هب النسيم وبدا من عرفه مسك الشميم وانبرت في الكاس نيران الكليم فامزج الخمرة بالماء القراح ... واسقنيها بغدو ورواح عاطنيها قبل نور الفلق بغناء الورق بين الورق كاحمرار الشمس عند الشفق نسج المزج عليها بارتياح ... أدرع الدر ومفتر الأقاح وغزال سامني بالملق ويرى جسمي وأذكى حرقي أهيف مذ سل سيف الحدق قصرت عنه أنابيب الرماح ... بابلي اللحظ مهضوم الوشاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ذاب بالوجد فؤادي كلفا حيث شاب الوصل منه بالجفا كلما قلت جوى الحب انطفى أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح يا خليلي أنت نور المقل جد بوصل منك لي يا أملي كم أغنيك إذا ما لحت لي مرحباً بالشمس من غير صباح ... زرتني والليل ممدود الجناح هذه الخمرة من عصر قديم تنعت الروح إلى العظم الرميم تتهادى بين راحات النديم لمريد عنده الصفو مباح ... فهي روح وهي ريحان وراح خمرة الإرشاد من عهد الأزل تنقذ الشارب من كل العلل فهي مثل النوم ما بين المقل تسري في الأفكار من غير جماح ... وتذود الهم من دون كفاح زوجوا الماء على بنت الدنان واستطابوا شربها قبل الأوان فشذا تذكارها في كل حان مثل نشر المسك في الأرجاء فاح ... حملته للورى كف الرياح إنما الأقطاب في هذي الدنا نقطة فيها نزيل المنحنى والرفاعي بينهم بادي السنا فهو بدر التم ليلاً حين لاح ... فيه للظلماء والغي افتضاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 هو غوث للورى غيث الندى معدن العرفان بل قطب الهدى لست تلقى من سواه رشداً لائق عرفانه بالامتداح ... زنده بالكون واري الاقتداح خصه الله بعلم وعمل فغدا يزهو به روض الأمل وكساه بالسنا أسنى الحلل وحباه فوق أثواب الصلاح ... رفعة المسند من دون اقتراح حبه قد حل مني بالفؤاد أينما كنت مقيماً في البلاد فهو في حلم وعلم وسداد ملأ الأقطار ذكراً والبطاح ... وعلى أعدائه شاكي السلاح إنما أشباله بين الورى معدن الفضل وآساد الشرى فيهم غصن الهدى قد أثمرا كل فرد منهمو بادي الفلاح ... كفه يقرع أبواب النجاح هو باز في الورى قد حلقا وعلا فوق المعالي وارتقى فهو للقدح المعلى مذ رقى نال أغنى الكل عن ضرب القداح ... ما علينا في ولاه من جناح مدحه شرف حزب الشعرا فزها المدح به بل نورا وسماء النظم لما أقمرا قد مدحناه بألفاظ فصاح ... ونعمنا باختتام وافتتاح توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة ونيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أحمد باشا الشمعة بن سليم بن علي بن عثمان بن محمد طلعته البدر إلا أنه مشرق، ونفحته الروض إلا أنه مورق، وهو بمكان من النباهة مكين، ما نهج من الكلام منهجاً إلا وطلع له من جيش البلاغة كمين. ولد في دمشق الشام سنة ألف ومائتين وستين تقريباً من هجرة سيد الأنام، وتربى في حجر والده وما دخل في سن التمييز إلا وقد شمر لتحصيل المعالي عن ساعده، وقرأ من الفنون وأقبل على كتب الأدب، وعلا على معارج الوصول إلى كمال الرتب، واكتسى حلة اللطافة وارتدى كل جمال وظرافة، إلى أن صار يشار إليه بالانفراد، ويعتمد عليه في كل مراد، ويستشار في المهمات، ويستنهض لدفع الملمات، ووصل في الترقيات الشاهانية إلى رتبة بكلربكي التي هي من أقرب المراتب إلى الوزارة، ثم إلى رتبة بالا، وحصل له كمال القبول لدى الولاة والمشيرين وذوي الإمارة، هذا ومع وقاره الذي به يعرف وقدره المستوي على المقام الأشرف أطال الله بقاه. أحمد باشا والي ومشير دمشق الشام الوزير الكبير، والوالي المشير، من بهر بحسن تدبيره واهتمامه، وظهر في الناس ظهور البدر ليلة تمامه، ونهج أوج مناهج التقوى والعبادة، وكان على مرور أيامه من الكمال على زيادة، مع أدب باهر، ومذهب مستقيم طاهر، ونفس زكية، وفكرة علية، دخل دمشق سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، وكان والياً على القطعة السورية، ومشيراً على الفرقة العسكرية، فكانت له السيرة الحسنة والأوصاف المستحسنة، وأخذ الطريقة الخلوتية، عن الشيخ المهدي المغربي القاطن في الخضيرية، فسلك سلوك أهل الوصول، وتمسك من السنة بالفروع والأصول، وذلك بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أن كان لا يصرف عمره إلا بين ريحان وراح، وأخدان تسعى له بجلب المسرات والأفراح، وقد ركب في فعاله وأقواله هواه، وأعطى نفسه ما تحبه وتهواه، فأضرب عن جميع ما كان عليه صفحاً، ومحا بحسناته سيآته وازداد فلاحاً وربحاً، فصار لا يصرف نقد عمره في غير أنفس الأعمال، ولا يحرك لسانه إلا بذكر أو صلاة على سيد ذوي الكمال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر بأحسن خطاب، أو حكم بحق على مرتكب خلاف الحق والصواب، ولم يزل يترقى أمره، ويعظم ويسمو قدره، إلى أن سلبته حلاوة الطاعة الإقبال على دنياه، وأفاضت عليه معرفة أن الإنسان هو الذي يعمل لما ينفعه في أخراه، فأهمل النظر في أمور السياسة، وتنبهت عيون ذوي الشقاوة والخساسة، ولم يزل يتفاقم هذا الحال، ويعظم أمر الجهال، إلى أن وقعت فتنة بين الدروز والنصارى في جبل لبنان واشتد بسببها الضرب والطعان، وعاثت طائفة الدروز وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهل الذمة السنات، وأخذوا البنين والبنات من حجور الأمهات، وخربوا القرايا والبلدان، وسفكوا الدماء وحرقوا العمران، ونهبوا الأموال ومالوا عليهم كل الميل، وبادرت لمساعدتهم والغنيمة معهم دروز الجبل الشرقي تجري على خيولها جري السيل، ولم يروا في ذلك معارضاً ولا منازعاً، ولا مدافعاً ولا ممانعاً، والنصارى بين أيديهم كغنم الذبح، هم وأموالهم وأولادهم وبلادهم غنيمة وربح، ودام هذا الأمر واستقام، إلى ابتداء ذي الحجة الحرام، سنة ست وسبعين بعد الألف والمائتين، وقد هرب كثير من النصارى إلى الشام، ظانين أن الحكومة تحميهم من الدروز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 اللئام، فصارت الدروز تدخل إلى الشام بأنواع السلاح، ويخاطبون الأشقياء بقولهم كنا نظن بكم الفلاح، لقد أخلينا البر من النصارى، وأنتم عنهم كأنكم سكارى، فاذبحوهم ذبح الأغنام، وأذيقوهم كأس الحمام، واغنموا ما عندهم من الأموال والأمتعة الكلية، وأن الحكومة بذلك راضية مرضية، ولو لم يكن لها مراد بذلك، ما مكنتنا من إذاقتهم كؤوس المهالك، والوالي ساكت عن هذا الأمر كأنه لم يكن عنده خبر، حتى ظن أكثر القاصرين أن هذا الواقع عن أمر شاهاني صدر: يمضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن وما زالت الأشقياء تتطاول أعناقها، وتتزايد لهذه الأفعال أشواقها، والدروز في كل وقت يجددون لهم همة، ويتواردون عليهم أمة بعد أمة، وقد قامت لديهم الأفراح، وزالت عنهم برفع القيد الهموم والأتراح: أمور تضحك السفهاء منها ... ويخشى من عواقبها اللبيب وصاروا يتكلمون بكلام، لا يليق إلا بالأشقياء اللئام، كقولهم حنا يقول لنخلة، إسماعيل الأطرش حرق زحلة، وأمثال ذلك خصوصاً مما يدل على التخويف والتهديد، وصارت الأولاد تقوله على طريقة الأناشيد، فذهب بعض النصارى إلى والي البلد، لينقذهم من هذا الهم والنكد، وكان ذلك يوم الاثنين من ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وسبعين من هجرة سيد الأنام، فأمر الوالي بالقبض على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بعض الأولاد، فمسكوا منهم جملة وقيدوهم بالحديد وأمروهم بالكنس والرش تأديباً لهم عن هذا الفساد، فقامت عصبة جاهلية في باب البريد من الجهال الطغام، ونادوا بأعلى صوتهم يا غيرة الله ويا دين الإسلام، وكان الوقت قبيل العصر من ذلك اليوم المرقوم، وتلاحقت الأشقياء إلى حارة النصارى كأنه لم يكن عليهم بعد ذلك عتب ولا أحد منهم على فعله مذموم، وأقبلت عليهم الدروز أفواجاً أفواجا، واشتغلوا بالحرق والقتل والسلب والنهب أفراداً وأزواجا، فأنشأت في الحال خطبة وخطبتها في جامع كريم الدين في الميدان بحرمة هذه الأفعال، وأنها موقعة لأربابها في أودية النكال، وأنهم محترمون لا يجوز لهم التعرض بحال، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن تعرض لهم بسوء فقد باء بالخزي والنكال، فانكف أهل الميدان عن سفك الدماء، واجتلبوا ما قدروا على اجتلابه من الرجال والنساء، لحمايتهم من الأشقياء. لنصرة الحق قد قاموا بأسرهم ... وربهم باليد العليا لهم نصرا صانوا الحريم مع الأطفال واحتسبوا ... على الغريم برب للورى فطرا لما استقلوا بميدان الوغى كملا ... من كل قرم يفوق الليث لو زأرا فالله بالمدد العلوي أيدهم ... من كل سوء ومن عاداهم خسرا هم الكرام لهم في كل حادثة ... غوث الصريخ وبذل وافر وقرى جزاهم الله خيراً عن جميع بني ... دمشق والأجر عند الله لن يترا والوالي ما زال على إهماله، وسكوته وعدم سؤاله، غير أنه عين للمحافظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أربعة من الأعيان، اثنين من المدينة واثنين من الميدان، فقام من كان من الميدان حق الحماية، وقصر من عداهما في البداية والنهاية، غير أن سعادة الأمير المعظم، والكبير المفخم، حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل كامل همته في ذلك، وبذل أمواله ورجاله في خلاص من قدر عليه من المهالك، واستقامت النار تضطرم في حارة النصارى سبعة أيام، والناس فوضى كأنه لم يكن لهم إمام، فلما أحضروا من أحضروه من النصارى إلى الميدان، وقد امتلأت البيوت أخذنا نطوف عليهم نهنيهم بالسلامة ونطيب قلوبهم بالأمن والأمان، وكنا ما نرى منهم غير دمع سائل، وبصر جائل، وقلب واجف، ورجاء قليل وبال كاسف، وهذه تقول أين ولدي؟ وهذه تقول قد انفلق كبدي، وهذه تقول مالي، وهذه تقول كيف احتيالي؟ والرجال منهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وقد ذهب عنهم البهاء والجمال، وأوقعهم المقدور في الضيق والنكال، فلم نستطع الصبر عن البكاء والنحيب، وكدنا مما رأينا أن نذهل عن نفوسنا ونغيب، فيا لها من مصيبة ما أعظمها، ونكبة ما أجسمها، قد أبكت ذوي الرحمة بدل الدمع دما، وكادت أن تثبت لهم بعد الإبصار العمى، ثم ذهبنا جملة كبرى من الميدان لعلنا نجد حياً نخلصه ونقيه، وننقذه من أيدي من يريد قتله ولا يبقيه، فلم نجد غير من أمضى عليه حد الحسام حكمه، وأنفذ فيه جور الأيام ظلمه، فمنهم من استولى القضاء المحتوم، ومنهم من قد بلغت الروح الحلقوم، وما ترى في محلتهم من مغيث سوى كلب عقور أو شقي خبيث، والأرض رويت من دمائهم، وتعطلت الأماكن من أسمائهم، وعاد صبح جمالهم عاتماً، وأقامت محلاتهم عليهم مآتماً، فخروا على الوجوه والأفواه، وصعقوا على الصدور والجباه، وغدوا صرعى تسفى عليهم الشمال والجنوب، بعد أن وقعوا في أسنة المكاره والخطوب، صرعى على وجه الأرض، معفرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 كأنه يوم النشور والعرض، قد افترشوا التراب بدلاً من الأرائك الحسان، وتضرجوا بالدماء بعد التضمخ بالمسك والزعفران، وغدا مصرعهم من نجيعهم مشوباً بالحمرة والسواد، ولبست نساؤهم لأجلهم ثياب الحزن والحداد، وصارت لحومهم للوحوش ولائم، والطيور عليها ما بين هابط وحائم، والنار تلعب ألسنتها في تلك القصور، وقد جعلتها رماداً بعد زينتها بالولدان والحور: النار في ضرم والدمع منهمل ... لعظم خطب له الأحزان تتصل لا الدمع يطفىء نار الحزن من كبد ... ولا لحر لظاها ينشف البلل مصيبة عظمت حتى لقد صدعت ... قلب اللبيب فأضحى وهو منذهل ولما علم دروز الجبل الشرقي أن أهل الميدان، قد أدخلوا النصارى في حصن الأمان، ووضوهم في أماكنهم مع عيالهم، واجتلبوا لهم سرورهم بقدر الإمكان وراحة بالهم، تجمعوا وتحزبوا وتوجهوا إلى الشام، إلى أن وصلوا إلى أرض القدم بالكبرياء والعظمة والاحترام، ثم أرسلوا خبراً إلى الميدان إما أن تسلمونا النصارى لنذيقهم كؤوس المنية، ونبيدهم بالكلية، وإما أن ننشر بيننا راية القتال، ونطوي بساط السلم واستقامة الحال، فبرز أهل الميدان إليهم بروز الأسد، وقالوا لهم بلسان واحد ليس لكم على قتالنا من جلد، أظننتم أنكم تصلون إليهم، وتحكمون بما تريدون عليهم، إن ذلك أمر محال، إياكم أن تتوهموه بحال، إننا وحق من أحيا الأشباح بالأروح، لا نسمح لكم منهم بقلامة ظفر وليس لكم في مطلوبكم من نجاح، وكثر القيل والقال، وكانت البيداء قد امتلأت من الفرسان والأبطال، وتجمع الصفان، وتقابل الصنفان، وارتفع العجيج وعلا العجاج، وكثر الضجيج من كل الفجاج، وأشهر كل سلاحه، واعتقد أن في قتل عدوه فلاحه، وأن شرر الموت ينقدح من ألحاظه، ويفصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بصريح ألفاظه، فلما رأى الدروز ما كان، من المشاة والركبان من أهل الميدان، علاهم الوجل، وقد خاب منهم الأمل، وضاق بهم من الأرض فضاؤها، وتضعضعت من أركانهم أعضاؤها، فتنازلوا عن العناد إلى الوداد، وقالوا نحن العين وأنتم لها بمنزلة السواد، وليس لنا عنكم غنى، وأنتم لنا غاية المنى، ونزيلكم عندنا مصون، ومن كل ما يضره مأمون، والذي وقع منا كان هفوة مغفورة، وسقطة هي بعفوكم مستورة، فقابلوها بالسماحة والغفران، ونحن وإياكم أحباب وإخوان، ثم تفرقوا بعد الوداع، وانقاد كل منهما للسلم وأطاع، وتفضل الله وأنعم، وحسم مادة الشر وتكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولا زال أهل الميدان في الليل والنهار، يحرسون النصارى من الأشقياء والأشرار، إلى السادس والعشرين من محرم الحرام، دخل الشام محمد معمر باشا ومعه أربعة آلاف جندي من عسكر النظام، وفي غرة محرم سن سبع وسبعين، دخل خالد باشا المصري للنظر في أمر هذه الخيانة، وكان قبل دخوله بيوم قد سافر أحمد باشا المذكور أولاً إلى بيروت متوجهاً إلى الآستانة، وفي حادي عشر المحرم الحرام، دخل ناظر الخارجية فؤاد باشا إلى الشام، مرخصاً من قبل الدولة وباقي الدول، مهما شاء أجرى ومهما أراد فعل، ومعه عوضاً عن أحمد باشا المترجم المذكور عبد الحليم باشا المشير المشهور، واجتمع بالشام من العساكر السابقة واللاحقة نحو ثلاثين ألفاً، ثم بعد ثلاثة أيام، أمر بعقد مجلس عام، وطلب فيه مأخوذات النصارى ومسلوباتهم، ومغصوباتهم ومنهوباتهم، وذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم، وشدد غاية التشديد، وأكد أعظم تأكيد، ولما أصبح صباح الجمعة سادس عشر المحرم، وجد الناس أثمان الشام قد امتلأت من العساكر، وقد أغلقوا أبواب البلد ولم يعرف أحد ما الأمر إليه صائر، فدخل على الناس من الهم والكدر، ما هو عبرة لمن اعتبر، وهذا أول الامتحان على ما سلف من القباحة والعصيان، حمانا الله من شر الفساد والطغيان، ووقانا من حيف الزمان، ثم إن الحكومة أرسلت لكل ثمن مأموراً لتحصيل المسلوبات، وجمع المنهوبات، وقد حصل التنبيه بأن من عنده شيء فليأت به ولا يخفيه، فبادر الناس بالإحضار، وصار من عنده شيء كأنه قد اشتعلت به النار، ودخل على الناس من الوجل ما يستصغر عنده حضور الأجل، وصار بعض الناس يلقون ما عندهم في الطريق ليلاً للتستر والكتم، وذهب شعورهم لما اعتراهم من الخوف والوهم، وصاروا يقبضون على بعض الناس ويحبسونهم في التكية، ولا يعلمون ما يجري عليهم من البلية، واستدام جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المسلوبات إلى ثاني وعشرين محرم، ثم صارت النصارى تتشكى للحكومة على بعض الناس، وتفاقم الأمر واشتد الالتباس، فهذا يقول هذا قتل ولدي، ويقول الآخر قتل والدي، ويقول الآخر أخذ مالي، ويقول الآخر تعرض لأطفالي، وزال الائتلاف وزاد الاختلاف، والعساكر تقبض على من يتهم سواء كان من الأصناف أو من الأشراف، حتى اجتمع في التكية نحو ثلاثة آلاف، ثم إنه في غرة صفر أعيد أحمد باشا السر عسكر من الآستانة إلى الشام، معزولاً من منصبه ومفوضاً أمره إلى فؤاد باشا يحكم عليه بما رام، فصار إلى الحبس صاغرا، وقد تحول إلى الذل بعد أن كان ناهياً آمرا، عضته أنياب الاعتقال، ورضته تلك النوب الثقال، وعوض بخشونة العيش من اللين، وكابد قسوة خطب لا تلين، تذكره عهد عيشه الرقيق، ومراحه بين النعمان والشقيق، وحن إلى سعد زرت عليه جيوبه، واستهدى نسيم عيش طاب له هيوبه، وتأسى بمن باتت له النوائب بمرصاد، ورمته بسهام ذات اقصاد، وضيم ليس له خلاص، وقد أعلمه الحال بأنه حان حينه ولات حين مناص، وعظمت عليه القضية، وأترعت له كؤوس المنية، واسودت بعد البياض أيامه، وقوضت من عراص الحياة خيامه، فوضع في الحبس كغيره، ولم يدر عاقبة أمره أينتهي إلى شره أم إلى خيره، وفي ثاني صفر يوم الأحد عمل فؤاد باشا مجلساً خصوصياً خفياً لم تمسه يد الإعلان، وقد اجتمع فيه العلماء والصدور والأعيان، لم يطلع أحد على ما حصل من المذاكرة فيه، ولا علموا بظواهره ولا خوافيه، غير أنهم علموا بأن فؤاد باشا قد قسم ذوي الجنايات إلى ثلاثة أقسام سالب ومهيج وقاتل مرتكب للإعدام، ولم يعلموا غير ذلك، والله أعلم بما هنالك، فلما أصبح الناس يوم الاثنين ثالث صفر وجدوا سبعين رجلاً قد صلبوا مفرقين في البلد، من أهل الشام الذين كان أكثرهم عليه في الوجاهة يعتمد، وفي خامس صفر تعاظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الشر، وتفاقم الضر وطم الغم، وانتشر وعم، حيث حبس عالم الشام وفاضل الأنام الشيخ عبد الله الحلبي في دار البلطجية، وعمر أفندي الغزي في التكية، ومفتي دمشق طاهر أفندي، وأحمد أفندي الحسيبي، وعبد الله بك العظم، وسعيد بك بن شمدين آغا، وعبد الهادي أفندي العمري وأحمد أفندي العجلاني نقيب الأشراف، وصالح آغا المهايني وغيرهم من الصدور، كل واحد بمحل بمفرده لا يدخل عليه أحد غير خدمة ولاة الأمور، وكانوا يستنطقونهم في كل يوم، لينظروا ماذا يترتب عليهم من اللوم، وفي سابع صفر أمر فؤاد باشا بتفريغ بعض البيوت لسكنى النصارى المصابين، ففرغوا من بيوت القيمرية والقنوات وباب توما والسماكة والشاغور، وبعض بيوت باب المصلى بمقدار ما يكفيهم أجمعين. وفي تاسع صفر عادت العساكر إلى الأثمان طالبين من الناس أربع نمر، لإدخالها في العسكرية الشاهانية ذات القدر والخطر، فجمعوا من الناس عدة وافية، وفي خامس عشر صفر كتبوا على مشايخ الحارات سندات بتقديم الأنفار الباقية، وفي حادي وعشرين من صفر فرق على بعض الناس أوراق رسمية، إما بتقديم أولادهم للعسكرية أو بدفع بدل مائتي ليرة عثمانية، وشددوا عليهم في الطلب، وما نجا إلا القليل من العاجزين عن الدفع واستجاروا بالهرب، وفي ثاني وعشرين من شهر صفر حكم فؤاد باشا على أحمد باشا بالإعدام، وعلى جملة من أمراء عساكر النظام، فأخذوهم إلى القشلة القريبة من المولوية، وأعلموهم بما حصل من الأمر عليهم بالقتل فاستسلم أحمد باشا لهذه القضية، وكان صائماً وفي يده دلائل الخيرات فصلى ركعتين ثم سلم نفسه للممات، فعرضوا عليه الماء قبل إزهاق نفسه المطمئنة، فقال لا أفعل لا أفطر إلا في الجنة، فصفوهم وجعلوهم هدفاً للرصاص، وكانوا متأملين إن حسن اعتذارهم ينتج لهم الخلاص، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا راد لما حكم به وقضاه، وفي ثالث وعشرين من صفر فر فؤاد باشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إلى بيروت لمراد، وصحبته جملة من المحبوسين، فمنهم من نفاه ومنهم من أدخله للخدمة العسكرية ذات الإسعاد، وفي رابع ربيع الأول صلبوا اثني عشر رجلاً من دروز وإسلام، وفي سادس ربيع الأول قبضوا على أبي يوسف الكحال الدرزي من الحقلة ونفوه بعد أن حبسوه مدة أيام، وفي عاشر ربيع الأول قبضوا على سعيد بك جنبلاط في بيروت وصحبته بعض دروز الجبل الغربي، وفي ثاني وعشرين من ربيع الأول فرضوا على أهالي الشام خمسة آلاف فراش وخمسة آلاف لحاف وخمسة آلاف وسادة، وفي رابع وعشرين من ربيع الأول رجع فؤاد باشا إلى الشام، وفي سادس وعشرين منه أمر على ترجمانه إبراهيم بك كرامة بالحبس ثم نفاه بعد أن أذله الإذلال التام، وحينما انتقل النصارى إلى البيوت التي فرغها لهم ذلك الوزير الكبير، عين لكل فرد منهم خرجاً يكفيه من كبير وصغير، وسافر كثير من النصارى إلى بيروت واسكندرية، ليتسلوا عن مصيبتهم القوية، وفي غرة ربيع الثاني أنزلوا ورقة بدل العسكرية من مائتي عثمانية إلى مائة عثمانية، وفي رابع ربيع الثاني أحضروا علي بك العظم ومحمد صالح أفندي بن الشيخ عبد الله الحلبي ووضعوهما في الدائرة الحبسية، وفي خامس ربيع الثاني نهار السبت عند طلوع الشمس نفوا الذوات المرقومين جميعاً إلى الماغوصة ذات الغم الشديد، وفي ثاني يوم سافر فؤاد باشا وصحبته جميع العسكر الجديد، وفي يوم الثلاثاء من ربيع الثاني وضعوا في كل ثمن مجلساً مخصوصاً لجمع السلاح من أهل الشام، وبعد تمام جمعه نقلوه إلى القلعة ووضعوه تحت الحرس بكل اهتمام، وفي يوم الأحد ثالث عشر ربيع الثاني أخذوا محمد سعيد بك بن شمدين آغا الكردي وكيخية السر عسكر وهو أحمد باشا الشهيد وتفكجي باشي والشيخ عبد الرزاق القوادري وديوان أفندي وشيخ قرية دوما وغيرهم إلى بيروت تحت الحفظ، وفي سابع عشر ربيع الثاني انفصل معمر باشا والي الشام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وولى مكانه رشدي أفندي الشرواني مفتي مجلس فؤاد باشا قائمقام لا بالأصالة، وبهذا التاريخ حضر فرمان سامي من الدولة مضمونه أن فؤاد باشا مفوض الرأي في عرب ستان لا يحتاج إلى مخابرة الدولة، وفي حادي وعشرين من ربيع الثاني طرحت الحكومة المال القديم المكسور وقسطوه على ثلاث دفعات، في كل مدة ثلاثة أشهر قسط، وكل قسط بمقدار كامل الترابية، وفي خامس وعشرين من ربيع الثاني يوم الجمعة وجهت رتبة إفتاء دمشق الشام على محمد أمين أفندي الجندي، عوضاً عن طاهر أفندي المنفي إلى الماغوصة، وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني سافر والي الشام الأسبق معمر باشا إلى الآستانة لفصله من منصبه، وفي يوم سادس وعشرين من ربيع الثاني أغلق فؤاد باشا المحاكمة والتفتيش على التهمة، بحيث لو اشتك واحد من النصارى بأن فلاناً قتل ولدي أو والدي أو أخذ مالي لا يقبل منه، لأن القضية من وقتئذ انتقلت إلى البدل بالمال، وقد ألقى الباشا المرقوم خطابه على العموم بقوله قد عرف الناس أجمعون أن الحادثة المؤلمة التي حصلت في مدينة دمشق كانت جناية عظيمة مخالفة للشرع الشريف، وللقانون المنيف، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى.، وقد أورثت تأثراً عميقاً وكدراً بليغاً في قلوب أهل الإسلام قاطبة. ولما كان منوطاً بذمة همة السلطنة السنية إيفاء مقتضيات عدالة الشريعة، فقد أجريت مجازاة الذين تحققت مشاركتهم في الجناية المذكورة على درجات مختلفة، وكما أن تلك الواقعة كانت من أخص الأشياء المستهجنة والمكروهة جداً لدى ذوي العرض من أهل دمشق وضواحيها، كذلك الذين أفلتوا من محال المجازاة الدنيوية سيعيشون بالخوف والرعدة تحت طائلة ترهيب الجزاء الذي جوزي به رفقاؤهم منتظرين المجازاة العادلة، من لدن الله العزيز ذي العدل والانتقام وإن في ذلك لعبرة مؤثرة للجميع، لأننا نرى واضحاً لوائح الأسف والندم ظاهرة عليهم. ولما كان أهالي المحلات الذين كانوا سبباً لهذه الواقعة قد نالوا جزاءهم بتحملهم أضرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الأهالي المصابين بواسطة الضريبة التي قر القرار الآن على تحصيلها منهم، وكان استحصال الأسباب التي من شأنها إيجاد الائتلاف المطلوب دوامه واستقراره بين عموم صنوف التبعة السلطانية من أهم الأمور وأقصى المرغوبات، فقد أغلق من الآن فصاعداً بالكلية باب المحاكمة والتفتيش على التهمة نظراً إلى الواقعة السابقة، بشرط أن تدوم باقية الأحكام الجزائية التي جرت حتى الآن، وبما أن هذا القرار هو أثر المرحمة السنية، والشفقة الملوكية، وبما أن التبعة السلطانية المصابين وإن كانوا مجروحي الأفئدة والقلوب، ما برحوا يظهرون خلو أفكارهم من التفتيش على الانتقام الشخصي، بناء على أن أولئك الذين أوصلوا لهم المضرة بأيدي التعدي قد استتروا، مستظلين فيما بين أهل العرض إخوتهم في الوطن، فيجب والحالة هذه على كل إنسان أن يثابر على وظائف ذمة التبعية والإنسانية بتمامها، مجتنباً ومتوقياً كل التوقي الحركات المخالفة للرضا العالي، وليعلم الجميع أنه من الآن فصاعداً كل من وقع منه أدنى معاملة رديئة وسوء قصد بحق غيره بأية صورة كانت جليلة أو حقيرة، فبحسب المنحة السنية المعطاة لنا من طرف الحضرة السلطانية، لا يحصل أدنى تأخر عن مجازاته القانونية، وبناء عليه أصدرنا هذا الإعلان لإصلاح أحوال سورية، ليحيط الناس به علماً انتهى. وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى حضر إلى الشام معتمدون من طرف الدول الأجانب الأروباوية، لينظروا بما حصل على النصارى وبما حصل من المجازاة على الأشقياء ذوي التعدي، ثم إنه في هذا التاريخ أرسل فؤاد باشا إعلانات لسائر الأثمان ليقرأ على العموم، بحيث لا يجهله أحد، ونصها حرفياً: هو معلوم لدى الجميع أن الواقعة المؤلمة التي حصلت في دمشق لم يسبق لها مثال، ولا ذكر لها نظير في التواريخ القديمة ولا الحديثة، وهي مادة فاضحة منافية لأحكام الشريعة المحمدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 العادلة، ومخالفة للإنسانية والمدنية، وبما أن الله سبحانه قد كلف عباده العدل والإحسان، وأمرهم أن يتجنبوا الجور والغدر، وبما أنه فرض على ذمة ولي الأمر إنفاذ الأوامر الإلهية على الدوام، فقد تعلقت الإرادة السنية بأن تجري على الفور المعاملات التي يقتضيها الحال في هذا الباب، فأصحاب الجنايات قد لقوا تأديبهم وتربيتهم جزاء لقبائحهم وذنوبهم التي ثبتت لدى التحقيق بالبراهين الكافية، والذين أفلتوا من المجازاة الدنيوية فإنهم ينتظرون بالندم عقاب الآخرة على ارتكاباتهم، ثم لا يخفى أنه من آثار تلك الواقعة، هو أن المظلومين المصابين هم محرومون أموالهم وبيوتهم وأشياءهم، وأن كثيراً من التبعية السلطانية لا محل لهم ولا مأوى يتعيشون من الإعانة المعطاة لهم من طرف الدولة العلية، ولما كان استحصال الأسباب لإصلاح أحوال هؤلاء المصابين ورفع اضطرابهم من أخص مرغوبات الدولة العلية كان يجب على أهالي دمشق وأهالي الإيالة قاطبة صرف الهمة والجهد في هذا الباب، لأجل تطهير وطنهم من هذه النقيصة التي عرضت له، وبناء عليه ينبغي أن يعطى هؤلاء المصابون المسيحيون مبلغاً كافياً من الدراهم لأجل تعمير بيوتهم وترميمها، ولأجل سد احتياجاتهم الضرورية، وتيسير لوازمهم، ومع أن أمر تحقيق متلفاتهم هو مباشر فيه الآن، ومعلوم أن إيفاء جميع تضميناتهم دفعة واحدة من الأهالي هو خارج عن دائرة الإمكان، وأن أمر تسوية ذلك من طرف الخزينة هو مما لا يساعد عليه الوقت ولا الحال، ومن ثم قد حصل القرار على طرح ضريبة فوق العادة على أهالي مدينة دمشق نفسها، وأهالي النواحي الأربع التي في جوارها، والقضاوات التابعة لها، وعلى طلب إعانة من بعض المحلات، وقد أعلنت صورة طرح ذلك وطريقة استيفائه في قرار مخصوص، فالدراهم المطلوبة الآن ضريبة فوق العادة، ربما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ظهرت في أول الأمر كثيرة، إلا أنها تظهر لا محالة قليلة، إذا قيست بالجناية الواقعة، وحسبت القسامة الشرعية عن المقتولين الذين لا يعرف قاتلوهم، لأنه في دمشق لم يتلف المال فقط، بل أريق دماء كثيرين أيضاً كما لا يخفى، وبما أن أمر التعمير وتضمين الضرر الذي لحق بمسيحي دمشق هو من مقتضيات معدلة الشرع والقانون، تكون الدراهم التي تعطى لذلك إيقاء وظيفة وخدمة عائدة إلى المعدلة، وتكون المساعي التي تصرف وجوباً لإصلاح أحوال المصابين واسطة لتطهير ذلك القطر من وصمة الدم المظلوم الذي التطخ به، ووسيلة لزوال عارض الكساء الذي اعترى صنائعه وتجارتهن وبما أن باب الدعاوى والمحاكمات من جهة الوقوعات السابقة قد أضحى من الآن فصاعداً مغلقاً كما تبين في إعلان آخر، فمهما بذل طمعاً في استحصال كذا نتيجة لا يكون شيئاً كثيراً، وإذا كان ما طرح على كل إنسان مطابقاً لقاعدتي العدل والحقانية، لا ينبغي لأحد أن يستصعب أداء ما يلحقه من ذلك، بل يليق بكل إنسان أن يسمح بخسارة شيء من فخره وراحته بواسطة الحصة التي يؤديها حباً بدفع هكذا بلية، فإنه لا يخل برفعة واعتبار من كانت عادته ركوب جواد مسوم مثلاً إذا ركب برذوناً، ولا باعتبار من اعتاد تناول الأطعمة النفيسة المتفننة أن يقتات بالطعام البسيط، والإنسان العاقل يجب عليه أن ينظر إلى المصيبة التي أصيب بها جاره، ولا يلتفت منعكفاً على خسارته المالية، وليعلم أن تأدية ما توزع من هذه التضمينات في المدة المعينة هو فرض لابد منه، وعلى موجبه يكون إجراء العمل، ومن أظهر أدنى رخاوة أو تهاون في ذلك لا يمضي أدنى وقت عن إجراء تربيته وتأديبه، ولكي يكون ذلك معلوماً لدى الجميع قد نشر هذا الإعلان، لإصلاح أحوال سوريا فأعلموه واعتمدوه كل الاعتماد. انتهى، ثم إن فؤاد باشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 تاسع جمادى الأولى عين في كل ثمن من أثمان دمشق مجلساً مؤلفاً من أعضاء ورئيس، لكي يطلبوا أنفاراً ودواب لتعزيل حارة النصارى من التراب، لتيسير عمارتها وإعادتها، ونظير ذلك في القرى المجاورة لدمشق من مسافة عشرة أميال إلى سور البلد من النواحي الأربع، وأرسلوا كذلك مأموراً بأن يقطع الأخشاب اللائقة للعمارة، ويحضرها إلى محلة النصارى، وفي غرة جمادى الثانية حصل الأمر بعد الأنفس، وقد تمت دفاتره في غاية رمضان، فانتهى في مدة أربعة أشهر، وفي سابع عشر من جمادى الثانية أرسلوا جملة من العساكر إلى أربع قرايا حول الشام سكانها من الدروز، وهي صحنايا والأشرفية وجرمانة والدرخبية، فقبضوا منهم على نحو مائة شخص، وحرقوا جرمانه، ووضعوا الأشخاص في الحبس، وفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الثانية دخل الشام واليها أمين باشا، وفي يوم الأربعاء ثاني رمضان توفي عمر أفندي الغزي في قلعة الماغوصة، وفي عشرين من رمضان وجهت النقابة إلى الشيخ أحمد الكزبري، وفي ختام رمضان توفي جناب أحمد أفندي النقيب في رودس، وفي عاشر شول فرض على الشام ألفان وثمانمائة كفية منضا بولاد للعساكر الشاهانية، وفي سادس وعشرين من شوال جمع فؤاد باشا جملة من أهل البلد وتلا عليهم ما قر قراره عليه من فرض أموال العمارة حارة النصارى، وأنه سينشر لها قانوناً مخصوصاً مفصلاً، وفي غاية شوال سافر فؤاد باشا ومعه حرمه إلى بيروت، وفي عشرين من ذي القعدة الحرام أرسل فؤاد باشا القانون الموعود بذكره وسماه قرار الضريبة، وإعانة فوق العادة المطروحة الآن على أهالي ولاية الشام، فأرسلوه إلى مجالس الأثمان ورؤساء النواحي ليعملوا بمقتضاه مع التشديد ببذل الهمة، وهذا القانون مؤلف من إحدى وعشرين مادة مفصلة، وأنا أذكرها لك مجمله، لطول تفصيلها المخرج لنا عن نهج الاختصار المطلوب. ونص مقدمته: بما أن أناساً كثيرين من التبعة السلطانية المسيحيين قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 نهبت أموالهم واحترقت بيوتهم في خلال المصيبة التي ألمت بهم، في الوقعة المؤلمة المعلومة التي نشبت في دمشق، فكان من مقتضى المعدلة السنية النظر في تضمين أضرارهم، وإصلاح أحوالهم، فلهذا حصلت المبادرة لتخمين كمية هذه التضمينات وتعيينها، على وجه الحقانية، وسيظهر مقدارها، وكيفما كان لابد أن يتبين أن ذلك مبالغ جسيمة، وكما أن هذه الوقعة نشأت في البلدة المذكورة بالمشاركة مع القرى الواقعة بأطرافها، فكذلك أهالي بعض القضاوات كانوا مشتركين في الوقعة المرقومة، وفي الوقوعات التي حدثت في سائر جهات الولاية، ولهذا أضحى يلزمهم أيضاً أن يتحملوا جميع هذه التضمينات، التي لو أخذت بتمامها من دمشق ونواحيها والقضاوات التابعة لها لما كان شيئاً مغايراً للعدل، نظراً للجناية الواقعة، لكن بما أن هذا موجب لخراب الأهالي بالكلية الذي لا يمكن تجويزه، فالسلطنة السنية مع ما هي فيه من أنواع المصارف والمشكلات صارت مضطرة أن تعطي خزينتها الجليلة، من أصل هذه الدراهم، المقدار الخارج عن درجة تحمل الأهالي، وهكذا من كون تحصيل المبلغ المقتضى أخذه من الأهالي في دفعة واحدة موجبة لزيادة التضييق عليهم، رئي أن يتحصل منهم جانب في دفعة واحدة، والباقي يعطى من خزينة الدولة على شرط أن يتحصل فيما بعد من الأهالي بالتدريج، في الأوقات المناسبة المعتدلة، على أن تلك الدراهم التي ينبغي أخذها منهم دفعة واحدة تتحصل في أقرب وقت، لكي يعطى لكل من مصابي المسيحيين المتعيشين من الإعانة مقدار على الحساب من أصل تضميناتهم، ويحصل التشبث حالاً في مقدمة أسباب إصلاح أحوالهم وإعادتها، ويغلق مع هذا باب كبير دعاوي الجناية، ويستحصل أمر حسن الائتلاف المهم المطلوب دوامه بين الأهالي، وكما أن أهالي تلك المحلات المشتركين في هذه الوقوعات، والمتداخلين بها يجب عليهم أن يؤدوا إتاوة فوق العادة لأجل التضمينات، والسلطنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 السنية قد اختارت من الفداية أنواعاً كثيرة في سبيل إصلاح هذه المصيبة ومحو آثارها، فهكذا يجب على سائر أهالي المملكة بحسب حميتهم المجبولين عليها أن يعطوا على غير معنى المجازاة، إعانة على مقدار درجة تحملهم لأجل دفع هذه البلية التي عرضت على وطنهم العمومي، وبما أن الملكية التي يقتضي إعطاؤها من طرف خزينة الدولة لأجل عموم التضمينات، والحصة التي يجب على الأهالي إيفاؤها مع المبالغ المقتضي أخذها بالتدريج، سوف تعرف مقاديرها في ختام تخمين التضمينات، فقد نفذ الحكم الفصل من لدن مأمورية فوق العادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة. لعادة، المخصوصة لإصلاح أحوال سورية، محتوياً على تبيين مقدار ضريبة فوق العادة التي تخصصت الآن على أهالي المحلات المتداخلين في الوقوعات، مع المقدار الذي ينبغي أن يفرض على أهالي المحلات الغير المتداخلين بذلك، أن يعطوه على سبيل الإعانة دفعة واحدة. المادة الأولى إن المبلغ الذي تعين أخذه دفعة واحدة من إيالة الشام، على حساب عموم تضمينات الوقوعات السابقة، بشرط أن يستثنى من ذلك الأهالي المسيحيون، وأولئك الأشخاص المعلومون الذين شوهدت منهم الخدمة في الوقوعات المذكورة، بلغ لدى الحساب تسعين ألف كيس، فمن ذلك مبلغ خمسة وثمانون ألفاً وسبعمائة وسبعة وستون كيساً ينبغي طرحها على المحلات المتداخلة في الوقوعات المعلومة، التي هي أولاً نفس مدينة دمشق، ثانياً قرى النواحي الأربع، ثالثاً قضاوات بعلبك والبقاع وحوران وجيدور وجبل الدروز الشرقي وحاصبيا وراشيا، ويكون تحصيلها منهم جزاءً نقدياً وضريبة فوق العادة، وأربعة آلاف ومائتين وثلاثة وثلاثون كيساً تتمة المبلغ، ينبغي تحصيلها على صورة الإعانة من قضاوات حمص وحماة وحصن الأكراد ومعرة النعمان وعجلون والقنيطرة وايكى قيولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 المادة الثانية محصلها تسهيل تأدية مبلغ التسعين ألف كيس بأن يحسب منها ثمن الأخشاب وأجرة إزالة التراب من حارة النصارى، وكيفية جمع الأموال، وهكذا بقية المواد إلى آخرها كلها متعلقة بالبيان والتفصيل والتخصيص بمقادير مخصوصة على المحلات القريبة والبعيدة مما لا حاجة إلى ذكره، بعد معرفة إجمال المقصود وبيانه مما ذكرته. فلما علم الناس هذا الحال ضاق أمرهم لذلك، وصاروا يبيعون متاعهم وأثاث بيوتهم في هذه المصيبة التي كانت سماً قاتلاً على النصارى والمسلمين، فكأنه انتقام على أمر عظيم أصاب الناس جميعاً صالحهم وطالحهم، نسأل الله العافية وأن يلهم الجميع صبراً، وأن يعوضهم خيراً وأجراً. ثم بعد تمام هذه الأحوال، وترتيبها على هذا المنوال، وجهت الصدارة العظمى لفؤاد باشا وطلب إلى دار السلطنة المحمية فخاطب أهل سورية عموماً وخصوصاً بهذا الإعلان، وهو قوله: يا أهل سورية إنني سأفارقكم نظراً لتوجيه خدمة الصدارة علي من إحسان حضرة ولي نعمتنا مولانا السلطان المعظم، وبما أن الوقائع المؤلمة التي نشبت أظفارها في العام الماضي بهذه الجهات، وكانت موجبة لنفور أهل العرض قد زالت ولله الحمد آثارها الرديئة، بظل ظليل التوفيقات السلطانية، واستقرت راحة المملكة وأمنيتها، وحصل التشبث باستحصال الأسباب الموجبة إصلاح أحوال الأهالي المصابين، ترونني الآن راجعاً إلى دار السعادة مصحوباً بالتسلية الوحيدة، وهي أنني أشاهدكم إن شاء الله تعالى في وقت قريب بحالة سعيدة، تنسيكم الحالة التعيسة التي أصابتكم قبلاً، وبما أن المأمورية المحولة لعهدتي، هي بدون استثناء خدمة لحصول آثار النية السلطانية الشفوقة تماماً نحو كافة التبعة الملوكية، وحال اجتهادي بذلك سأعتني بالأخص في أشغال هذه الجهات، لكوني من بعد الآن أعتبر ذاتي سورياً قلبياً، وعلى وفاق الأمر الواجب الإذعان الملوكاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قد أحيلت محافظة صيانة المملكة واستودع إصلاح تأمين أحوال الرعية لعهدة مشير المعسكر السوري السلطاني، حضرة صاحب الدولة عبد الحليم باشا، وصفات المشار إليه وغيرته واستقامته الثابتة، تمنح الكفالة اللازمة للجميع، وكافة المأمورين الكرام أيضاً هم ومن بدوائرهم من كونهم سيصرفون الإقدام التام بهذه الخصوصات، لا ريب بأن الجميع يكونون مستريحي البال في ظليل الاقتدار السلطاني، إذ لا يحصل أدنى نقصان في آثار المراحم الملوكية التي صرفت حتى الآن نحو الأهالي المصابين، فيجب في مقابلة ذلك أن جميع الأهالي تكون حركاتها موافقة لآثار أفكار الحضرة السلطانية الخيرية، ويكون كل صنف من التبعة متمسكاً بقاعدة الاتحاد وحب الوطن وخدمته، والقيام بإيفاء أوامر الدولة والوظائف السلطانية بالتمام، كما هو المأمول بحميتهم، وبما أن حضرة المشير المشار إليه مأذون بإجراء التأديبات السريعة الشديدة بحق الذين يتجاسرون سواء كان شخصاً أو جمعية على وقوع أدنى حركة مغايرة للرضى العالي، اقتضى إشهار هذا الإعلان من مقام الصدارة العظمى، ليحيط الجميع علماً بما فيه ويتجنبوا مخالفته انتهى. ثم إنه بعد ذلك استقامت الأحوال، وأخذ الكرب الشديد يميل نحو الاضمحلال، وابتدأت المحبة تعود بين عموم أهل الوطن، وزالت عن الجميع تواترات المحن، وتألفت القلوب، وتنحت الكروب، وكاد أن يعود الوداد إلى أصله، واضربت الظواهر صفحاً عما كان ذلك الكرب والغم من أجله، إلى أن أعاد الله المحبة القديمة، والراحة العميمة، وحقت كلمة العذاب على أهل الشقاء، ودارت عليهم والعياذ بالله دوائر البلاء. فالحمد لله على راحة العباد، وعود المحبة بين العموم والوداد، وقد تم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الكلام على هذه الحادثة بالاختصار الغير المخل، ولو أردت ذكرها بتفاصيلها وتفاريعها لأدى ذلك إلى الإسهاب الممل. والله أعلم. الأمير أحمد أفندي الروزنامجي المعروف بالصفاتي الشافعي المصري الجناب العالي، واللوذعي الغالي، قال الجبرتي في ترجمته: ذو الرياستين والمزيتين والفضيلتين، تقلد وظيفة الروزنامة بديوان مصر عندما كف بصر إسماعيل أفندي فكان لها أهلاً، وسار فيها سيراً حسناً، بشهامة وصرامة ورياسة، وكان يحفظ القرآن حفظاً جيداً، وحضر في الفقه والمعقول على أشياخ الوقت قبل ذلك، وكان يحفظ متن الألفية لابن مالك، ويعرف معانيها ويحفظ كثيراً من المتون، ويباحث ويناضل من غير إدعاء للمعرفة والعالمية، فتراه أميراً مع الأمراء، ورئيساً مع الرؤساء، وعالماً مع العلماء، وكاتباً مع الكتاب، توفي المترجم في عشرين من ربيع الثاني سنة اثنيتن ومائتين وألف. الشيخ أحمد الشهير ببرغوث المالكي الأزهري الورع العالم، والكامل الذي كاد أن يقال إنه من كل عيب سالم، ذو المناقب العديدة، والمآثر الحميدة، والفضائل الباهرة، والنفس الرشيدة الطاهرة، ولد بالبلدة المعروفة باليهودية بالبحيرة وتفقه على أشياخ العصر، ومهر في المعقول والمنقول، وأقرأ الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر ذكره بينهمن وشهد الكل بفضله، وكان على حالة حسنة معتزلاً عن الناس، راضياً بما قسمه له مولاه، منكسر النفس متواضعاً ولم يتزي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بزي الفقهاء، ولم يظهر بمظاهر العلماء، يمشي في حوائجه لنفسه، وتمرض بالزمانة مدة سنين يتعكز بعصاه، ولم يقطع درسه ولا اجتهاده، إلى أن توفي يوم الأربعاء خامس شهر صفر سنة أربع وعشرين ومائتين وألف ودفن بتربة المجاورين رحمه الله تعالى آمين. السيد أحمد بن محمد بن إسماعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي العالم المشهور، والفاضل الذي هو بكل فضيلة مذكور، كان والده رومياً، فحضر إلى أرض مصر متقلداً القضاء بطهطا، بلدة بالقرب من أسيوط بالصعيد الأدنى، فتزوج بامرأة شريفة، فولد له منها المترجم وأخوه السيد إسماعيل، ولم يزل مستوطناً بها إلى أن مات عن المذكورين وأخت لهما، فحضر المترجم إلى مصر سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وكان قد بدا نبات لحيته بعد ما حفظ القرآن ببلده، وقرأ شيئاً من النحو، فدخل الأزهر، ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحمامي والمقدسي والحريري والشيخ مصطفى الطائي والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع، وتمم حضوره على الشيخ حسن الجبرتي مع الجماعة، لتوجه الشيخ عبد الرحمن المذكور لدار السلطنة لبعض المقتضيات سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الشيخ حسن المذكور، فأجابهم لذلك والمترجم معهم، وفي أثناء ذلك قرأ المترجم مع ولد الشيخ حسن على الشيخ عبد الرحمن نور الإيضاح، بعد انصراف الجماعة عن الدرس، وذلك لعلو السند، فإن الشيخ المذكور تلقاه عن ابن المؤلف، وهو عن جد الشيخ حسن عن المؤلف، ولم يزل المترجم يدأب في الاشتغال والطلب مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه، وتلقى الحديث سماعاً وإجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الحليم الفيومي، ثلاثتهم عن الشيخ علي العدوي عن الشيخ محمد عقيله بسنده المشهور، ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية، فتقلدها على امتناع منه، فاستمر إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفياًن وكتبوا في شأنه إلى الدولة ونسبوا إليه ما لم يحصل منه، وطلبوا الشهادة من المترجم، فامتنع فعزلوه من المشيخة، وقلدوها الشيخ حسيناً المنصوري، فلما مات أعيدت إلى المترجم، وذلك في غرة صفر سنة ألف ومائتين وثلاثين، وفي هذه السنة بنى لنفسه مقبرة يدفن فيها بعد موته بجوار الشيخ أبي جعفر الطحاوي، بالقرافة، بجانب مقام الأستاذ المرقوم، وغب ذلك تمرض وتوفي ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في أربع مجلدات، جمع فيها المواد التي على الكتاب وضم إليها غيرها رحمه الله تعالى. الخطيب أحمد البساطي المدني هو من رجال اللآلىء، الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، قال مؤلفها في ترجمته: جليل قدر نبتت في عراص مجده نبعات المحامد، وفسيح مفاخر لها الوصف الكريم حامد، ولطيف شمائل تزري بلطف الشمول، وظريف خصال تهب كنسيم القبول، ظهر في الأدب باعه، وحسن فيه انطباعه، وبدت له فيه مزايا، كمنت في زوايا خبايا، كم له من قصائد باللطائف معمورة، وأزاهر كلام بقطر البداعة ممطورة، تملأ المسامع سروراً وجذلاً، وتهدي إلى القلوب طرباً متصلاً، فمنه قوله مادحاً لي: أهدي السلام لعزيز القدر ... من ساد بالفضل أهالي العصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أعني ابن عبد السلام من سما ... بالعلم أسمى رتبة في الفخر سراجنا الفاضل ذا شمس الهنا ... باهي الحيا مخجلاً للبدر مترجم الأعيان أهل طيبة ... في تحفة الدهر ونفح الزهر شهماً أديباً راقياً أوج العلا ... ونظمه فاق عقود الدهر ونثره اللؤلؤ ضاء نوره ... إذا بدا كلامه في السطر يظهر سره ومعناه لمن ... ينظر في ألفاظه بالفكر إذا تأملت ترى في نظمه ... قولاً بديعاً وكذا في النثر له معان واستعارات كذا ... علم بيان باهر كالسحر وقد أجابه صاحب اللآلىء الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، وهو الفاضل العلامة عمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني بقوله: بدر الدجى بان لنا في الخمر ... أم وجه من رضا به كالخمر وهذه لآلىء قد نظمت ... أم أنها أسنان ذاك الثغر وما أرى هل هو ورد ناضر ... أم حسن خد بالحيا محمر وهل فتور في الجفون قد بدا ... أو الخمار أو دبيب السحر وهي قصيدة طويلة ومن لطائف المترجم أيضاً قوله: القلب من ألم الفراق مفرط ... والروح مني اليوم كادت تظهر والجسم ملتهب بنيران اللظى ... والدمع من عيني دماً يتقطر أبكي على ما حل بي من فقدكم ... والقلب مني عنكم لا يصبر تعس الفراق وفعله يا سادتي ... قد أحرم الأعيان فيكم تنظر لو تبصروا حالي وما قاسيته ... أو تسمعوا من بالحقيقة يخبر لبكيتم حزناً على ما حل بي ... هذا المقدر في الجبين مسطر يا هل ترى الرحمن يجمع شملنا ... بعد الفراق وكسر قلبي يجبر ومن نظمه أيضاً قوله: ناديت خلي كي يشرف موضعي ... فأجابني فوراً بغير تمنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وافى بقد أهيف ولي انثنى ... شبه القنا من تحت ذاك المقنع لما أتاني زائراً قبلته ... في ثغره الحالي فزاد تولعي وله شرعت أقول أهلاً يا رشا ... آنست صبك يا غزال الأجرع قد كان يوماً أزهراً بوصاله ... فهو الحبيب يسمو على الحور الحسان بطلعة ... كالشمس تطلع في سماء البرقع فلقده يزري الغصون إذا مشى ... بتمايل ورشاقة وتصنع أودعته للواحد الأحد الذي ... أنشاه كالبدر المنير الأسطع طعن القلوب بسهم قوس لحاظه ... طعناً قوياً نافذاً من أضلعي ما شاهدت عيني مليحاً مثله ... رشقاً خفيف الروح ريماً أتلعي هام الفؤاد به ومزق مهجتي ... هم الغرام صبابة بتوجعي لما توجه رائحاً من منزلي ... ومضى لمنزله كظبي مسرع أصبحت محزوناً لفقد جماله ... حيران في أمري أكفكف أدمعي سر يا رسولي للذي سكن الحشا ... أخبره أني منكو بتلعلع رح قل له ارحم يا معنى مغرماً ... مضنى سقيماً لا يضيق ولا يعي أعد الزيارة سيدي فلعله ... يشفى بقربك من أليم المضجع فعساه يسمح لي بوصل عاجل ... يحيي به قلب الحزين المولع انتهى باختصار توفي المترجم في القرن الثالث عشر. السيد أحمد باعلوي جمل الليل المدني السيد المفضال، المتحلي بملابس الحسن والجمال، فلا ريب أنه غيث رياض الجود، وغوث الملتجىء المنجود، والحبر المسكي الأرج، فحدث عن البحر ولا حرج، قرأ في المدينة المنورة وأخذ عن علمائها، وحضر دروس أعيانها وفضلائها، ومن أجلتهم عملاً وعلماً، وأكملهم جاهاً وقدراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ومعرفة وفهماً، الكبير الفاضل، والخطير الكامل، محمد بن عبد الله المغربي السجلماسي الفاسي، والعلامة الشيخ عبد الله الجوهري، والشهاب أحمد الدردير، وتصدر في المدينة المنورة لإفادة العلوم الشرعية، والفنون العقلية والنقلية، وهو من رجال اللآلىء الثمينة في أعيان شعراء المدينة، لعمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني، وقد ترجمه فقال: سيد شريف ذو قدر منيف، ومجد ظله وريف، وفخر غيثه وكيف، وفضل كالبدر سناء، والثريا علاء، ونبل وبديهة، وفكرة عن الخلل نزيهة، فمثله من يمدح ذكاؤه، ويرقش ثناؤه، فإنه الجامع أنواع المعالي، والقاطف أزهار أغصان العوالي، والمشتغل من ابتداء الشباب، بالاستفادة والاكتساب، حتى ملك من مسائل الفقه صعابها، وكشف له الجد عن عرائس مخبآته نقابها، فأصبح بسبب تحصيله، في سائر الفنون فريد جيله، ولكم أبدى من النثار عقائل أفكار، وفرائد بدائع ما لهن ثواني، أحسن من المثالث والمثاني، ومن سماع شوادي الغواني، برقيق الأغاني، كأنها الروض المريع، والزهر البديع، وله من النظم لمع أبهى من لوامع النجوم، وأزهى من الدر المنظوم، وأسلس من الرحيق المختوم، منها قوله: هذا العقيق وذي ربا أزهاره ... فانشق عبير خزامه وعراره وأنخ مطيك في حماه فإنه ... حمد السرى يهنيك طيب قراره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فاخلع ردا الترحال صاح وحل من ... عزم السفار وثيق شد إزاره وانزل بساحة ذا الكريم ومن يزف ... بنزيله فيداره في داره غوث الوجود وغيثه وملاذه ... إن تبد من غاب الخطوب صواره مولى الأنام الهاشمي المصطفى ... والمعقل الأحمى لحومة جاره والعوذ من ظمأ الزحام إذا همى ... هول الجحيم وكر كرب أواره فاسكب دموعك في ثرى أعتابه ... وامسح خدودك في ثرى آثاره واقصده في كل المقاصد راجياً ... وحذار أن ترجو سواه حذاره وإذا خشيت من الحوادث ريبها ... أو خفت بث صروفه وضراره فاجنح لناديه الرحيب وناده ... واخلص دعاك وقل تجاه مزاره يا من له الجاه العظيم وربه ... لاشك يسعد منتمٍ لجواره يا من إله العرش جل جلاله ... خلق الوجود ليؤذنن بفخاره إن الكرام ومنك كل نوالهم ... يرتاح فيضهم إلى استدراره كم جيد سؤل قد أتاك معطلاً ... حلاه جودك من عقود بحاره نرجو بجاهك من إلهك نظرة ... في موقف العقبى وزفرة ناره ورضا يعم الكل سيب سحابه ... والبرء من مرضى الفؤاد وعاره انتهى مات رحمه الله ثالث ربيع الأول سنة ست عشرة ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الشيخ أحمد الجامي المدني هو من رجال اللآلىء الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، قال منشئها في ترجمته رحمه الله وأحسن مثواه: الشهاب الثاقب، المبدي من قمطر قريحته للكلام أطايب، فاضل ذو فكاهة أنست ابن هاني، ونكات ثمرها الجني للمقتطف داني، وفصاحة ألانت له عصي الكلام، وبلاغة طوعت له أبي النظام، فهو من العلم والأدب في الذروة العليا، ومن طلاقة اللسان في الرتبة الأولى، حلى من كلامه أجياد الأدب بتمائم، وطوقها من إحسانه بأطواق أبهى من أطواق الحمائم، فمن نظمه الذي هو كالتبر المسبوك، والزبرجد المحكوك، قوله من ابتداء قصيدة أرسلها من الروم: ما لذ لي بعدكم يا عرب ذي سلم ... ربع ومن بعدكم جفني القريح دمي وما جرى ذكر ذياك العقيق وما ... والاه إلا جرى مني عقيق دمي ولا جرت نسمات من دياركم ... إلا أهاجت بقلبي لاعج الألم أستودع الله أحباباً ألفت بهم ... حيا الحيا وسقا سفحاً بسلعهم أبناء فضل وآداب وليس سوى ... رضيع ثدي العلا والحلم والحكم لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... بالروح يفدونه والمال والحشم يا ليت شعري هل الأقدار تسعفني ... يوماً وأحظى برؤياهم ووصلهم لا در در الصفا لا ذر شارقه ... ولا همى برباه سافح الديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إن لم يكن معهم والشمل منتظم ... بقاع تلك البقاع الفيح والأكم يا حادي العيس قم عني بواجبهم ... إذا نزلت بواديهم وربعهم وقل لهم بعد إبلاغ التحية من ... مملوكهم وفدا أعتاب نعلهم قربان قربانكم والمنحنى وقبا ... وجرفكم والنقا والبان والعلم لهفي على نسمة من جزع عالية ... وظل ذاك الظليل البارد الشبم لفي على أطفي بها لهبي ... من عين زرقائكم في الدورق الحرمي مع ما حوته النخيل الباسقات وما ... من النعيم بذاك الجمع والنعم لهفي على الروضة الفيحا ومنبرها ... ووقفة بمصلى سيد الأمم لهفي على تلكم الآثار قاطبة ... وما حوته من الأوصاف والشيم لهفي عليكم وناديكم وتربكمو ... وحادي الظعن والألحان والنغم ما آن أن تنشلوا هذا الغريق أما ... آن التواصل يا جيران ذي سلم ما آن باسادتي أن تشفقوا كرماً ... على الغريب الذي عنه الزمان عمي الله في مهجة من فقدكم تلفت ... تداركوا رمقي يا ساكني أضم فإنني مذ توارت شمس طلعتكم ... في الحجب أمسيت ذا لحم على وضم وله وكتب بها على سفينة أشعار لصاحب اللآلىء الثمينة: لما نظرت إلى سفينتك النفي ... سة يا سراج وذقت حلو جناها ورأيت فيها كل معنى يشتهي ... والفكر في بلهاتها قد تاها حوطت خردها الحسان بما أتى ... بتبارك الفرقان ثم بطه لاسيما لما طلبت بفاقة ... ماء العذيب ولاح لي بلماها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وجبرن خاطري الكسير وقلن لي ... لنولينك قبلة ترضاها ثم انثنيت وقلت سبحان الذي ... في نيل مصر الحسن قد أجراها لا زلت يا سحبان وائل عصرنا ... بك بين أبناء العلا نتباهى وله مخمساً بيتي مجير الدين الخياط قل للذي فتكت أسنة هدبه ... في قلب عاشقه ومهجة صبه كم ذا تروع آمناً في سربه ... يا محرقاً بالنار خد محبه مهلاً فإن مدامعي تطفيه فبمن حباك سهام لحظ جارح ... لا توقدن النار بين جوانحي فإذا أبيت وكنت غير مسامحي ... أحرق بها جسدي وكل جوارحي واحذر على قلبي لإنك فيه توفي المترجم بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى. أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني إمام فضل قد استوى على كرة الفضائل، وهمام قول وفعل قد احتوى على نخبة الشمائل، وفريد علم قد تحلى بالمجد والمكارم، وحبر فهم قد اعترف له السادة الأكارم، طلع في أفق الكمال بدره، وسما في سماء الجمال قدره، له نباهة تود النجوم الثوابت نيل علاها، وطلعة محيا يتمنى البدر الوصول إلى سناها، وأوصاف قد ترقت إلى أوج الشرف، وكلمات كاللآلىء متجردة عن الصدف، نثره كأنه الزهر اليانع، ونظمه كأنه أقراط المسامع، فمن قوله مكاتباً الشيخ الأديب العلامة عبد الله بن عثمان بن جامع الحنبلي رحمهما الله تعالى: أعندك ما عندي من الشوق والوجد ... وهل أنت باق في المحبة والعهد كابد أشجاناً توقد نارها ... بقلبي المعنى من بعادك والصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وصدك عن مضناك داء دواؤه ... تدنيك من بعد القطيعة والبعد فحتام تجفو من إليك اشتياقه ... تضاعف يا نجم المحاسن والسعد وحقك لولا أن مأواك في الحشا ... لأحرقه الشوق المبرح بالوقد وإني وإن أخفيت ما بي من الأسى ... عن الناس لا يخفاك يا منتهى القصد أيخفى غرامي وارتماضي بذا الهوى ... عليك وأشعاري تبين ما عندي فعطفاً لمن لا يستلذ بعيشه ... لبعدك وارحم من تضعضع للود وها أنا ذاك اللوذعي ومن له ... مكارم أخلاق تفوق عن الحد وعمدة أرباب البلاغة والحجا ... وواحد هذا العصر أكرم بذا الفرد وقدوة أعيان الحديدة من زها ... به اليمن الميمون فخر بني المجد فإني هجرت الذ عرفت مكانه ... الرفيع وعنه ملت يا عاذل العد دع الصد واسلك في المودة والوفا ... سلوك ابن ذي النورين ذي الفضل والرشد هو الشهم عبد الله نخبة قادة ... بهم عرف المعروف حجتنا المهدي خلاصة أهل الجود لله دره ... فمن مثله في العلم والحلم والرفد كريم إذا استمطرت يوماً أكفه ... همت باللهى من دون برق ولا رعد عليه رضى الرحمن ما قال شيق ... أعندك ما عندي من الشوق والوجد وقال مكاتباً السيد الفاضل والعالم العامل يوسف بن إبراهيم الأمير الكوكباني: تذكرت من حالت عن الود والعهد ... ففاضت دموع العين شوقاً على خدي خليلي مرا بالتي من بعادها ... أقضي الليالي بالتفكر والسهد وقولا لها طال اجتنابك عن فتى ... غدا بك صبا لا يعيد ولا يبدي فجودي بما يشفيه من ألم الهوى ... وينجو به من قادح الشوق والوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 عسى ترحمي الصب المعنى بزورة ... يفوز بها بعد القطيعة والبعد رعى الله أياماً تقضت بقربها ... وليلات أفراح مضت في ربا نجد بها كنت في روض الرفاهة مارحاً ... فولت وآلت لا تعود إلى عهدي نعم هكذا الأيام تمضي وعودها ... محال فما لي لا أميل إلى الزهد وحسبك يا قلبي حبيب موافق ... أمين وفي لا يخونك في الود كمثل أخي المجد المؤثل يوسف ... أمير المعالي كوكب الفضل والرشد شريف عفيف كامل ومهذب ... مناقبه جلت عن الحصر والحد به أشرقت شمس المعارف والهدى ... على فلك العلياء مذ كان في المهد جدير بأن يسمو على كل فاضل ... حري بذا المدح المنظم كالعقد فلا زلت بالعلم المكرم هادياً ... لأهل التقى والفضل يا خير من يهدي بحرمة خير الخلق طه وآله ... وأصحابه أهل المكارم والمجد وقال مجاوباً عبد الله بن عثمان بن جامع أيضاً بقوله: أيا من قد حوى كرم الطباع ... ومن هو للطائف خير واعي وكنز جواهر الآداب حقاً ... وجامعها المفيد بلا نزاع أتاني منك مرقوم عزيز ... بديع النظم يقصر عنه باعي يذكرني به ما منه أضحى ... فؤادي في اشتعال والتياع أتحسب يابن ذي النورين أني ... هممت بفرقة بعد اجتماع فلا وعظيم جاهك لم يكن لي ... مرام في نوى أو في انقطاع ولكني ابتليت بمعضلات ... غدا في حلها يجري يراعي ومنها كنت مضطرباً لأني ... رأيت بها الفؤاد على ارتياع فذلل لي المهيمن كل صعب ... بها والله راحم كل داعي ولولاها أجل بني المعاني ... وأحمدهم لما كان اندفاعي ومثلك لا يمل وأنت مغني اللبيب ... ومؤنسي في ذي البقاع فظن بذي الوداد المحض خيراً ... ودم واسلم بعز وارتفاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وقال رحمه الله مادحاً العلامة المولوي إله داد الساكن في كلكته: ذكر الحمى ومرابع الأخدان ... أجرى دموع مكابد الأحزان وغدا به قلقاً شميط الدار لا ... ينفك من شوق إلى الأوطان طوراً يئن وتارة يبكي على ... زمن الصبا الماضي على نعان يهتز من طرب إذا ما غردت ... قمرية سحراً على الأغصان وينوح شوقاً للذين فراقهم ... جلب الهموم لقلبه الولهان ما واصلت في البعد عيناه الكرى ... إلا السهاد وأدمع الأشجان روحي فداكم فاسمحوا يا سادتي ... بوصالكم للهائم الحيران حتام هذا الهجر منكم والجفا ... وإلى متى أبكي بدمع قان وحياتكم لولاكم ما شفني ... وجد ولا حل الهوى بجناني بلغ نسيم الصبح إن جئت الحمى ... عني سلاماً عصبة الإيمان واشرح لهم حال الكئيب وقل لهم ... منوا عليه بنظرة وتدان أين المسيح لكي يعالج قلبه ... ذاك الكليم بصارم الهجران ووصالكم هو في الحقيقة مرهم ... لفؤاده ومسرة للعاني فعسى تلين قلوبهم لمتيم ... صرفته قسوتها عن الخلان ويفوز بعد البعد من ألطافهم ... بدنوهم في أجمل الأحيان مالي سواكم يا كرام وأنتم ... من كل خوف معقلي وأماني أولاكم الرحمن عزاً مثلما ... أولى العلا للعالم الرباني اللوذعي إله دادا المقتدى ... نجل الكرام ونخبة الأعيان لقمان هذا الدهر أفلاطونه ... في كل علم فائق الأقران بحر الفضائل والندى من فخره ... ضاهى السها قدراً عظيم الشان ريحانة الآداب هذا طيبه ... يغنيك عن روح وعن ريحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قد حزت يا كنز العلوم جواهر المعقول ... والمنقول والقرآن طوبى لشخص يقتني منك الهنا ... فليفخرن على ذوي العرفان لولاك ما عرف البديع ولا بدت ... شمس المعاني في سماء بيان جل الذي أولاك فضلاً شائعاً ... في هذه الأصقاع والبلدان فاسلم وعش ما هز مضنى هائماً ... ذكر الحمى ومرابع الأخدان وقال رحمه الله: أخا اللوم لا يقضي بلومك لي أمر ... فدع لائمي ما عنه في مسمعي وقر ودعني وما ألقى من الحب فالهوى ... أرى فيه عسراً يرتجي بعده اليسر وإني وإن شحت سعاد بوصلها ... صبور ولي فيما أكابده أجر فما الصب إلا من يعاني شدايد المحب ... ة لا من قال أسقمني الهجر وما الحر إلا من يرى الكرب راحة ... إذا ما رمي بالذل أو خانه الدهر تغربت عن قوم إذا ما ذكرتهم ... أسلت دموعاً لا يماثلها القطر ولكنني أخفي الصبابة والأسى ... وأبدي ابتساماً حيث يجري لهم ذكر وهم سادتي لا فرق الله جمعهم ... ومن نحوهم تعزى المكارم والفخر متى تنطفي نار بقلبي من الجوى ... وترجع أيام بها يشرح الصدر ألا لا أرى في البعد للعيش لذة ... وكيف يلذ العيش من شفه الفكر رضيتم بهجري وارتماضي بحبكم ... وسركم ما منه مسني الضر سلام عليكم ما رضيتم به هو ال ... مرام ومثلي لا يخون به الصبر وإني لصبار على كل شدة ... رضاكم بها والصبر يتبعه النصر وعهدكم عندي مصون وشيمتي الوف ... اء وحبي لا يخالطه العذر على كل حال أنتم القصد والمنى ... وأنتم ملاذ العبد والغوث والذخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وله رحمه الله: أراك صددت عن الصب ظلماً ... أيا عادل القد رفقاً ورحما تركت فؤادي يذوب اشتياقاً ... وصيرتني أسهر الليل هما أما منك لي رحمة والتفات ... فقد عيل صبري لما بي ألما ولولاك ما سلسل الشوق دمعي ... ولا قلت في الحب نثراً ونظما أيا عاذلي أقصر اللوم إني ... أراك ارتكبت بذا اللوم جرما فما نال من لام في الحب مضنى ... كمثلي من رحمة الله قسما وماذا دليلك في اللوم قل لي ... فإن الهوى مذهب لن يذما أراك تبالغ في لوم صب ... أحاط بفن الهوى المحض علما عدمتك إني راض بما قد ... براني فدعني إما وإما خليلي ما لي وللدهر أضحى ... يروم انخفاضاً لقدري وهضما ألم يدر أني شهاب المعالي ... لعمري منكر ذا القول أعمى خليلي هل يسعد الدهر يوماً ... على ما به يهلك الضد غما وإني لذاك الهزبر الجسور ... الهمام الذي قد سما الشمس عظما فما للأعادي يرومون ذل ... العزيز المبجل جاهاً واسما أغرهم مني الحلم تباً ... لآرائهم لم يكن ذاك حلما ولكنه يا خليلي مني ... دهاء به رمت كشف المعمى أنا ابن الكمال ورب الفخار ... فلا غرو إن فقت عرباً وعجما مقامي جليل ومجدي أثيل ... وفرعي إلى محتد الجود ينمى وله عفي عنه: أيحسن منك هجر الصب ظلماً ... وإعراض يزيد القلب سقما وفيك نثرت من دمعي جماناً ... بقرطاس الخدود فصار نظما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أمحبوبي دع الهجران إني ... أكابد فيه آلاماً وهما وجد بالوصل بعد الفصل يا من ... سلومت بحبه دعداً وسلمى بطلعتك المضيئة خل هجري ... جعلت فداك موج الشوق طما وفي قلبي من الأشواق نار ... فكيف خمود نار الشوق مهما أعيذك بالمهيمن من عذابي ... ومن مقت بها قد حرت وهما ترفق بي مليك الحسن وانظر ... بعين اللطف نحو العبد رحما فقد زاد الغرام اللذ براني ... وقل الصبر مما بي ألما أراك وأنت ذو خلق كريم ... جفوت فتى إلى الأنصار ينمى أنا ابن محمد من فاق فخراً ... على الأقران بل عرباً وعجما وها أنا ذا كسبت الفخر منه ... وفقت نظائري رأياً وفهما وإني اليوم أشعر من زهير ... وفي الآداب أكثر منه علما فدع ما قيل في اليمني جهلاً ... أينظر لمعة المصباح أعمى وفي كلكتة جهلوا مقامي ... مجاهيل فهل حقرت إسما أضاعوني ولكن لا أبالي ... بذي جهل ولا قد خفت مما تنح عن العذول ضياء عيني ... فقربك منه يوجب فيك ذما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وعجل بالوصال فإن وجدي ... تضاعف والجوى يزداد حدما معاني ما تضمنه بياني ... لها شرح لطيف فاحتفظ ما ودم في نعمة ونعيم عيش ... ومنزلة تضاهي الشمس عظما وله غفر الله ذنوبه: جفا من لست أذكره براني ... وهيج لي غراماً في جناني وحال عن الوداد ولم أحل عن ... مودته وظلماً قد جفاني أيحسن منك يا مولاي هجري ... بلا ذنب وتعلم ما أعاني دع الإعراض وارحم حال صب ... لبانته الزيارة والتداني ورشف رضاب ثغرك واعتناق ... أنال به المسرة والأماني وحسبك ما بليت به فإني ... وعزك ذي المحاسن في هواني أراك نسيتني وسلوت ودي ... وأوجبت التجافي عن مكاني فأين العهد والود المصفى ... وذاك الوصل في ذاك الزمان أعد نظراً إلي فإن قلبي ... لعمرك إن أطلت الهجر فاني سألتك بالهوى العذري أن لا ... تضن بما يسر به جناني فها وجدي تضاعف منه كربي ... وصيرني حديثاً في المغاني جعلت فداك فاسمح بالتلاقي ... ولا تجعل جوابي لن تراني وعش في نعمة وعلو جاه ... بطه الطهر والسبع المثاني وله لطف الله به: النفس كادت أن تذوب من الجوى ... فإلى متى هذا التفرق والنوى يا متلفي بالبعد عنه وقاتلي ... بالصد رفقاً بي فقد آن التوى عجل بوصل موصل لي صحة ... أشفي بها سقم الفؤاد من الهوى وارحم فما للصب صبر ممرضي ... من بعد هذا اليوم يا نعم الدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وله عفي عنه: قلم الولاء جرى بنور سوادي ... لذوي الفخار السادة الأمجاد فبدت به كلمات مقول شاعر ... يسمو بها شعراء كل بلاد أهل الكسا ما رمت غير جنابكم ... وودادكم فارعوا عظيم ودادي أهل الكسا ما حلت عن منهاجكم ... وبكم أنال الفوز يوم معادي أهل الكسا إني أسير هواكم ... وبه وجاهكم حصول مرادي أهل الكسا أنا لا أميل وحقكم ... عنكم بلوم ذوي قلى وفساد أهل الكسا من لامني في حبكم ... يصلى غداً ناراً مع ابن زياد هو ذاك من آذى النبي بسوء ما ... أبداه بغضاً في أبي السجاد ومع الذين لهم فضائح جمة ... وقلوبهم ملئت من الأحقاد أهل الكسا إني ابتليت بعصبة ... كرهت سماع حديثكم في نادي وإذا ذكرت مناقباً ظهرت لكم ... في محفل أعزى إلى الإلحاد أهل الكسا طوبى لمن والاكم ... يا سادتي تعساً لكل معادي أهل الكسا زعم الروافض أنني ... منهم وأني تابع الأوغاد كذبوا فما أنا سالك بطريقهم ... ومحبة الأصحاب عين رشاد ومحبة الأصحاب لا تنفي الولا ... لكم ورافضها حليف عناد أهل الكسا جحد النواصب فضلكم ... والفضل كالشمس المنيرة بادي ومرامهم أني أوافقهم على ... لمز لهم جلت عن التعداد إني أحول عن الصلاح وأبتغي ... طرق الفساد ومسلك الأضداد والله لست براغب عما به ... يرضى الإله وسيد الأمجاد وله لطف الله به: إن أردت الفوز بالأمل ... لذ بطه سيد الرسل وبقوم صاح ودهم ... جاء فيه النص وهو جلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أهل فضل خاب منكرهم ... دع ولاة الجهل والخطل والتزم بالصحب من نصروا ... دين أصفى الأصفيا فسل هم نجوم للهدى ولهم ... خير مدحٍ في الكتاب ملي أفضل الأصحاب أولهم ... خدنه في الغار خير ولي بعده الفاروق صاحبه ... من سما بالعلم والعمل ثم ذو النورين ثالثهم ... جامع القرآن ثم علي فارس الهيجا أبو حسن ... نجل عم المصطفى البطل حبهم فرض وبغضهم ... موجب الإيقاع في الزلل ضل من بالرفض ملتزماً ... داحضاً للحق بالجدل كيف من ذم الصحاب يرى ... أنه في أقوم السبل ذر حبيبي عصبة رفضت ... سنة المختار لا تمل هم طغاة لا خلاق لهم ... قبحوا في سائر الملل رب فارحم من نجا وحمى ... من شرور الغي والخبل بالبشير الطهر سيدنا ... خير هادٍ خاتم الرسل وله رحمه الله تعالى: أثار هواك ناراً في فؤادي ... وحرك لي غراماً غير بادي فها أنا يا صبيح الوجه مضنى ... وجفني قد جفا طيب الرقاد وبي ما لا أطيق له اصطبارا ... من الشوق العظيم ومن ودادي فجد بالله للصب المعنى ... بوصل منك فضلاً يا مرادي وعجل بالجواب لمستهام ... ودم في لطف رزاق العباد ذكر المترجم المرقوم في كتابه نفحة اليمن أنه كان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين في الهند في كلكته ولم أقف على سنة وفاته رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الشيخ أحمد سعيد بن الشاه أبي سعيد بن الشيخ صفي القدر ابن الشيخ عزيز القدر بن الشيخ محمد عيسى بن الشيخ معصوم بن الإمام الرباني مجدد الألف الثاني الشيخ أحمد الفاروقي السهرندي درة إكليل الأولياء، وغرة جبين الأصفياء، وجامع فرقان المحامد، ومرشد المسامع إلى قبول المقاصد، فهو القائم بكل مطلوب، والرائم لكل مرغوب، والناهج نهج أصله، والمقتدى به بقوله وفعله، من تشرف العصر بوجوده، وابتسم ثغر الدهر لطالع سعوده، فكان من أكمل أهل الدلالة إلى مقاصد السعادة، ومن أرشد ذوي الارتقا إلى مراتب السيادة، فهو القطب المفرد، والعلم الأوحد. ولد هذا الهمام الأكمل، في غرة ربيع الأول سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وكان مرموقاً بعين العنياة واللطف، وكانت ولادته في بلدة ريبور، ذات الأمر المشهور، وتربى من أول يوم في مهد والده المعلوم، وارتضع منه ثدي المعارف والعلوم، وتخرج على يد العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، فهامة زمانه، وعلامة أوانه، المولوي فضل الإمام عليه رحمة الملك السلام، والعلامة الشيخ سراج الدين المفتي إمام المعقول والمنقول، وعمدة ذوي المعارف في القواعد والأصول، وعلى يد غيرهما من السادة الأفاضل، والقادة ذوي الفضائل، وتلقى فن الحديث الشريف، ذي القدر المصون المنيف، بفروعه وأصوله، ومعقوله ومنقوله، مع سماع الكتب الستة وغيرها، عن عمدة علماء تلك البلاد وذوي قدرها، من أجلهم مشايخ والده بروايتهم لها عن والدهم الشيخ ولي الله عن الشيخ العلامة، والبحر الفهامة، الشيخ أبي طاهر محمد المدني، عن والده عين الأفاضل، وكنز الفضائل، الشيخ إبراهيم الكردي، عن الشيخ علم الأعلام، ونخبة السادة العظام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أحمد القشاشي، عن الشيخ المشهور، من هو بكل فضيلة مذكور، أحمد الشناوي، عن شمس الدين وشيخ الإسلام والمسلمين، السيد الكبير، والشافعي الصغير، العلامة الإمام الهمام الرملي، بسنده المذكور في ثبته المشهور، ثم أخذ علم التصوف عن قطب الإرشاد، ومنهج الصواب والسداد، من ساد به عصره، وافتخر به على سائر الأمصار مصره، السيد الأستاذ والعمدة النخبة الملاذ، الشيخ عبد الله الدهلوي، قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه. وتلقن عن والده ذي الشمائل العلية، والفضائل السنية، الطريقة النقشبندية، وذلك في حضور المرشد الكامل الشيخ عبد الله الدهلوي المذكور، فالتفت إليه وألقى أكبر نظره العالي عليه، وجعل يقربه ويجلسه في حلقة الذكر منذ كان سنة عشر سنين، ويقول هو بمنزلة ولدي، ولم يزل يلحظه بأنفاسه الرحمانية، ويحفظه بهمته المحمدية، حتى بلغ مبلغ الكمال ونال درجة الفحول من الرجال، فأذن له بالإرشاد، وخلفه خلافة عامة وأثنى عليه وأدرجه في زمرة كبار أصحابه الأمجاد، فقال قدس الله سره في حقه: أحمد بن سعيد قد قارب والده بحفظ القرآن المجيد وتحصيل العلوم العقلية والنقلية وتحصيل النسبة المجددية العلية. وقال في شأنه: أبو سعيد أسعده الله، وأحمد سعيد جعله الله محموداً، ورؤوف أحمد رأف الله به، وبشارة الله بشره الله بقبوله سلم الله هؤلاء الأربعة الأكابر، المرتبطين بالمودة التي هي أحسن من ارتباط الغرابعة وبارك فيهم وجعلهم سبباً لترويج الطريقة وكثر أمثالهم. ثم لما أن دعا حضرة الشيخ عبد الله المذكور والد المترجم إلى دهلي أمر المترجم أن يخلفه مكانه في رامبور فلما توفي والده قدس الله سره قام مقام الحضرتين وأرشد الله به عدداً لا يحصى من الفريقين، لاسيما في اضلاع الهند وغزنين، وكل منهم حصل من حضرته بقدر استعداده، وله خلفاء كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 نفع الله بهم العباد، وأحيا ببركتهم أكثر البلاد، ولما ظهر في بلاد الهند ما ظهر من الفساد، خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ومعه أخوه الشيخ عبد الغني والشيخ عبد المغني واستوطنوا المدينة المنورة، وذلك سنة أربع وسبعين ومائتين وألف واشتغل بالطريقة العلية كل الاشتغال، ونال أعلى مقامات القبول والإقبال، ثم توفي في تلك الأماكن الطيبة ثاني ربيع الأول عام سبعة وسبعين ومائتين وألف، ودفن في البقيع عند ضريح أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه في مشهد عظيم كاد أنه لم يتخلف عنه أحد، وقد قيل في تاريخه عاش سعيداً مات شهيداً وممن أراخ وفاته العالم الجليل الإفادة الشيخ عبد الجليل برادة: فقال: قضى قطب الأقطاب الشهير بأحمد ... سعيد إمام العلم والحلم والهدى منار الطريق النقشبندية التي ... لها جده في الألف أضحى مجددا ومذ حل في ذا القبر ناديت أرخوا ... سعيداً شهيداً في جنان مخلدا وقال غيره: هو البدر فاغبر وجه الوجود ... وأينع بالزهر روض اللحود وقطب الهدى مذ قضى أرخوا ... لأحمد تهدى جنان الخلود أحمد أبو العباس بن محمد التجاني المغربي شيخ الطريقة التجانية لقد ترجمه سيدي محمد العربي العمري في كتابه المسمى ببغية المستفيد لشرح منية المريد فقال: وإن ممن أحله الله تعالى من المقامات أعالي ذراها، وحلاه من هذه الكرامات بواضح سناها، شيخنا وأستاذنا العارف الرباني والوارث المحقق الفرداني، والقطب الجامع الصمداني، أبا العباس مولانا أحمد بن مولانا محمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه ومتعنا وسائر الأحبة برضاه، فلقد صار رضي الله عنه في ذلك كله العلم المفرد بين الأكابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 واستحق النداء بالرفع في سائر الحضرات والمظاهر، وانتهت إليه دون العصابة رياسة هذا الشان، وخفقت عليه أمام الجماعة ألوية النصر في هذا الميدان، وأظهر من كنوز الشريعة المطهرة إبريزها الخالص، وأبرز من بحار الحقيقة خصائص الفرائد وفرائد الخصائص، وجاء في أساليب الدلالة على الله تعالى بما لم يسبق إليه، وأتى في مسالك التربية والترقية بما لم يعرج أحد عليه، لبلوغه رضي الله عنه أقصى درجات الكمال في الجمع بين العلم والحال والهمة والمقال، فأسست طريقته على تقوى من الله ورضوان، وشيدت من العلمين الظاهر والباطن على أقوم القواعد وأقوى الأركان، وأيدت من أنوار الهمة وأسرار العناية بأوضح دليل وبرهان، فعم النفع بها في سائر الأقطار وشاسع الأصقاع والبلدان، واختص وروده المحمدي اللفظ والترتيب، الأحمدي السر والتركيب، بتحقيق السير في مقامات الدين الثلاثة وسائر منازلها على الأسلوب الغريب والمنهج العجيب، كما يتبينه المنصف الذي كحلت عينه بإثمد الأنوار الإيمانية، بالوقوف عليه مبسوطاً في كتاب ميزاب الرحمة الربانية، ويتحققه السالك المحافظ على هذا العهد في السر والعلانية، من طريق الذوق التام بالمشاهدة العيانية، فلا جرم أن الله تعالى أحيا به مراسم السنة بعد اندثارها، وأوضح معالم الطريقة بعد خفاء آثارها، وأطلع به شمس الحقيقة بعد أفولها، واستتارها، ولله در العلامة المحقق شيخ مشايخ العلوم النقليات والعقليات المبرز على أهل زمانه في تحقيق الكليات منها والجزئيات، أبي زيد سيدي عبد الرحمن بن أحمد الشنجيطي المتوفى بفاس العليا في شوال سنة أربع وعشرين ومائتين وألف حيث قال فيما نسجه في مدح سيدنا رضي الله عنه على أبدع منوال وأعجب مثال: أحيا طريقة أهل الله فهي به ... مؤلف شملها والكسر مجبور شيخ المشايخ من في طي بردته ... جيب على النور والإسرار مزرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 من داره جنة الفردوس وهو بها ... رضوان خازنها أذكارها الحور يفيض من سلسبيل الذكر كوثرها ... فاشرب مفجرها فأنت مأجور أوراده عن رسول الله قد رويت ... كذاك أفعاله والسر ماثور فانقل فديتك في آثاره قدماً ... فإن فعلت فذاك النقل مدخور واحرص بأن تنتمي يوماً لجانبه ... فحظ من ينتمي إليه موفور أقول ولفظ التجاني بكسر المثناة مشددة وبالجيم المشددة أيضاً وقد تخفف كذا ضبطه بعضهم ولد المترجم رضي الله عنه عام خمسين ومائة وألف ومات رضي الله عنه عام ثلاثين ومائتين وألف فيكون قد عاش ثمانين سنة. وكانت وفاته صبيحة يوم الخميس السابع عشر من شوال بعد أن أدى فريضة الصبح على حالة الكمال ثم اضطجع على جنبه الأيمن رضي الله عنه، ودعا بماءٍ فشرب منه ثم عاد إلى اضطجاعه على حالته فطلعت روحه الكريمة من ساعته وصعدت إلى مقرها الأقدس، ولحقت بسربها من محضرها الأنفس، وحضر جنازته المباركة ما لا يكاد يحصى من علماء فاس وصلحائها وفضلائها وأعيانها وأمرائها، وصلى عليه إماماً علامتها الأوحد ومفتيها الماهر الخريت الأمجد، الفقيه النحرير المشهود له بالتحقيق والتحرير، أبو عبد الله سيدي محمد بن إبراهيم الدكالي نسبة إلى الإمام التونسي الشهير وازدحم الناس على حمل نعشه المبارك الميمون، وكسروه بإثر دفنه أعواداً صغاراً ادخروها للتبرك بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 حمل فيه من السر والمصون! ودفن بزاويته التي بفاس وعلى قبره الشريف هيبة وجلالة وجمال وإيناس. رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد أبو العباس الطواش المغربي المالكي نزيل تازه الولي الصالح والمرشد الناجح، عمدة الكمال ونخبة ذوي النوال، من خصه الله بالقبول، ونهج به مناهج أهل الوصول، وتسلك عليه الجم الغفير ومنهم الهمام الشيخ أحمد التجاني الشهير، فحصل به النفع العام، واشتهر اشتهار البدر بين الأنام، وقصده الناس من كل جانب، ولهج الناس بذكره في المشارق والمغارب، وكان ذا علم وعمل، لا يعرف في عبادته السآمة ولا الملل، بل في كل يوم يزداد سمواً ورفعة في المقامات وعلواًن وكانت وفاة هذا السيد بتازه ليلة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة أربع ومائتين وألف، وقبره هناك ظاهر مشهور عليه هيبة وجلالة ونور. السيد أحمد بن السيد محي الدين بن السيد مصطفى ابن السيد محمد المغربي الجزائري همام تردد من شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وإمام تروى من أيام تربيته بلطائف الطرائف وطرائف اللطائف، وكلف بالعلوم من صغره حتى صارت منهج لسانه، واعترف له المنطوق والمفهوم بأنه روضة بيانه، من أسرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ذات حسب ونسب وفضل وارتقاء، مع لسن وفصاحة وكرم نفس وسماحة، ونظم يزري بالدر النظيم، ونثر تسمو رقته على رقة النسيم، وإنشاءات أحلى من المن وأعذب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومحاضرات أولى من صباح الصباح وأطرب، ولد في شعبان سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين في إقليم الجزائر، ثم حفظ القرآن العظيم وجوده على أحد القراء الأكابر، ثم حفظ المتون من عدة علوم وفنون، ثم حضر دروس الأفاضل ذوي المعارف والفضائل، فقرأ ما كفاه من توحيد وفقه وحديث وتفسير، ثم اشتغل بعد ذلك في الإفادة مع التدقيق والتحرير وكانت لا ترضى نفسه المطمئنة أن يعرج في عباداته على غير الكتاب والسنة فهما إمامه في أحكامه، ورأس ماله في مجاوبته وكلامه، وله رسالة على قول الإمام علي العلم نقطة كثرها الجاهلون ورسالة في السماع سماها الجنى المستطاب، وهي في الرد على من ادعى أن سماع المعازف يحرك القلب لرب الأرباب، وله شرح على الأبيات التي أولها: فأثبت في مستنقع الموت رجله وله تاريخ جميل أرخ فيه إمارة أخيه الأمير عبد القادر على إقليم الجزائر، وله كتابات من نظم ونثر يصعب وضعها في قالب الحصر، توفي رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة وعشرين في بيته في باب السريجة في دمشق الشام. الشيخ أحمد الدمهوجي الأزهري الشافعي الأشعري الفاضل الجهبذ الهمام، والعاقل العالم الإمام، من استوى على عرش العلوم، وثوى على مهاد المنطوق منها والمفهوم، فهو الفرد الكامل المستجمع لفرائد الفضائل، قد حضر دروس علماء عصره، وفاق حتى انفرد في مصره، وشهد له العموم بأنه بكمال الفضل موسوم، وأذن له شيوخه ذوو المقام المنيف بالتدريس والإفتاء والتأليف، وانتشر في الأقطار ذكره وسما في الأمصار قدره، ولم تزل سيرته حسنى إلى أن دعي إلى المحل الأسنى، وذلك في رمضان سنة ألف ومائتين وست وأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الشيخ أحمد السباعي الأزهري المالكي الدردير العلامة الوحيد والفهامة الفريد، عمدة الأكابر ونخبة الأفاضل كابراً عن كابر، قد حضر في الأزهر الشريف مجالس الأعاظم، وفاق في الأدب كل ناثر وناظم، واعترف له كل عارف بأنه مورد المعارف والعوارف، ولا ريب أنه جمع بين المعقول والمنقول، وبرع في تحقيق الفروع والأصول، وتمسك لدينه بالسبب الأقوى، وأحسن بالله ظنه في السر والنجوى، وأقبل الناس عليه أفواجاً، واتخذوه لوصولهم سبيلاً ومنهاجاً، واعترف الجل بل الكل له بكمال فضله، وسمو حسبه وأصله، ولما دعاه مولاه إليه لبى دعوته وأقبل عليه، وذلك في حدود سنة ألف ومائتين وأربعين. أحمد بن محسن المكين الزبيدي همام فضله مشهور، وإمام تجرد مقامه عن القصور، قد اشتهر بالفضل والعلم، وعرف بدقة الإدراك والفهم، وكان له يد في الأدب تسمو به أعلى الرتب، قال أحمد بن محمد الشهير بالشرواني في كتابه نفحة اليمن: دخلت زبيد عام أربع وعشرين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية، فحللت بدار الصاحب الأريب عبد الكريم بن الحسين العتمي، وأقمت عنده يوماً في منزله ثم خرجت بعد صلاة المغرب متوجهاً إلى الحديدة، فورد إلي كتاب بعد وصولي إليها بيومين من السيد المترجم أحمد بن محسن المكين الزبيدي، يتضمن عتاباً لعدولي عن الحلول بمنزله إلى منزل الشيخ عبد الكريم العتمي، فمن جملة ما ذكر في كتابه هذه الأبيات وهي مرقومة في ديوانه: كيف لم ترضني لودك أهلا ... ولغيري رضيت أهلاً ونزلا أجرى من أسير ودك ذنب ... موجب للعدول عني مهلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أم توخيت أن غيري أولى ... لقديم الوداد حاشا وكلا كنت أرضى بأن تشرف قدري ... بعبور بقدر أهلاً وسهلا فقليل منكم كثير ولكن ... فات ما فات وانقضى وتولى فمن الفضل أن تعود وإن ... تجير ما كان يا أعز الأخلا ومن لطائفه رحمه الله ما كتبه إلى القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله تعالى مضى الدهر والشوق المبرح لم يزل ... يحث ولم أبلغ مناي ولا قصدي ومرت دهور في لعل وفي عسى ... ولم تنتج الأقدار من ذاك ما يجدي فهل حيلة للوصل يا غاية المنى ... تبلغ ما أهوى وتنجز لي وعدي فإن تعلموا من ذاك شيئاً فأرشدوا ... فإني مستفت لعلمك مستهدي عليكم سلام من أخي لوعة له ... إلى وجهك الوضاح شوق بلا حد ودم في نعيم لا يشاب بنقمة ... وصار لك الدهر المعاند كالعبد إسحاق بن يوسف اليماني سيد إمام عصره وفريد قطره ومصره، لم يكن له في وقته مماثل ولا في فضائله معادل، فهو بغية المستفيد ورب الكمال الباهر والرأي السديد، قد شهد له الفضل بأنه خير أربابه، وأقر البلغاء بقصورهم عن درجة علمه وآدابه، نثره عزيز ونظمه أعز من الذهب الإبريز، فمن لطائفه وجميل طرائفه قوله: جسدي واه ودمعي مرسل ... كاللآلي راوياً عن شنبك أنت نصب العين مني دائماً ... لم تزل في لحظة عن منصبك طمعي عيشي هيامي كلفي ... فيك في وصلك من أجلك بك لو رأى يا ليل بدري لاختفى ... بدرك الباهي السنا في حجبك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أو رأته الشمس في مطلعها ... لتوارت حسداً في مغربك أو رأت أنجمك الزهر حلى ... جيده لاستترت في غيهبك يا عذولي في الهوى لي مذهب ... فانفصل عني وخذ في مذهبك وله رحمه الله تعالى وقد نلت أنواع الشدائد كلها ... ومارست أهوال الخطوب الكوارب وذقت حلاوات الزمان ومره ... وعلمني حكماً دوام التجارب وأشرعت الأيام نحوي رماحها ... كأني عدو للزمان المحارب وجربت كل النائبات فلم أجد ... أشد وأنكى من جفاء الأقارب وإن كنت في سن الشباب فإنني ... أعلم أعلام الشيوخ الأشايب فلم أر في أبناء آدم من له ... صفاء وداد خالصاً عن شوائب وأبعد من ترجو المودة عنده ... قريبك فارج الود عند الأجانب توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين الشيخ أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم بن حيدر الحيدري الماوراني العالم الذي ورث آباءه وأجداده، والفاضل الذي جدد الفضل وأعاده، والكامل الذي ملأ من الكمال قلبه وفؤاده، والمحقق الذي أعطى من كل بحث زمامه، والمدقق الذي لم يبق بحراً من التدقيق إلا وعامه، ولم يذر معضلاً إلا شفى بعقاقير فكره سقامه؛ علامة المنقول والمعقول، والحافظ الذي بعض محفوظاته المحصول، والمقرر الذي في تقريره نهاية السول، والأصولي الذي أبرز لباب الأبحاث، وجاد روضها بأنظاره وأغاث، والكشاف الذي أزاح عن وجوه المعاني النقاب، والفقيه الذي هو الإمداد والعباب، والمحدث الذي أحاديثه بالصحة تعاب، والمناظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الذي سند مقدماته السنة والكتاب، والبياني الذي هو دلائل الإعجاز والبديعي الذي أسكت البديع بالإيجاز. عني بالعلم إحياء لمآثر أسلافه، فاستخرج درره من شغاف أصدافه، روى عن والده وبه تخرج، واقتفى آثاره ولديها عرج، وكمل طلبه على أبيه واستحق التصدير والتنويه، وانتهت إليه الرياسة في العلوم وانفرد في علمي المنطوق والمفهوم، دعي في دار السلام الصدر، وسما إلى سؤدد وعلو قدر، وجاء إلى الشام ولقي أجلاءها الأعلام، ولم يزل في الشام إلى أن آن للحاج ارتحاله، ودعه من ذلك القطر أترابه وأمثاله، وسألوه إتحاف دعواته والإسعاف بفيض نفحاته، فسار والألطاف به حافة وطيور الأماني عليه رافة، وله إجازات من جم غفير ذوي علوم وإتقان وتحرير، من أجلهم شارح القاموس السيد مرتضى الزبيدي. وكانت وفاته رحمه الله تعالى بعد الألف والمائتين وثلاث وثلاثين كما ذكره عثمان أفندي سند. الشيخ أسعد بن سعيد بن محمد المحاسني الحنفي الدمشقي مفتي دمشق الشام وخطيب جامعها المشهور بجامع الأموي المنسوب لبني أمية المولى العالم المفضال، والأولى بنسبة السيادة والكمال، والمتردي برداء السيادة، والمتصدي لإفادة ذوي الاستفادة، والمتحلي بفضائل الأدب، والسامي بمعارفه إلى ذروة الرتب، حتى صار يشار بكل فضل إليه، ويعول بحل صعاب المشكلات عليه، ولد بدمشق الشام، ونشأ بها منشأ العلماء الأعلام، وتولى منصب الإفتاء بها مدة وفي جامعها خطيباً، وكان إماماً فاضلاً شهماً نجيباً، ثم تعلقت به أظفار المنية، فأوردت الدار الأخروية، سنة ألف ومائتين وثماني عشرة وكانت وفاته بعكة، لأن الحكومة نفته إلى عكة فمات بها رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السيد أسعد صدر الدين البغدادي الحيدري مفتي الحنفية بدار السلام حبر الأئمة الأفاضل، وبحر اغتراف الفضائل، إمداد الفتاح لكل طالب، ونور الإيضاح لكل راغب، ورد المحتار على الدر المختار، ولسان الحكام وعمدة الأخيار، وسلالة الحسب والنسب، وكنز أولي العرفان والأدب، أقبل بعد تمييزه على الكمال، إلى أن بلغ رشده من بغية الآمال، وأخذ عن سادات الأعيان وأعيان السادة، ونصب نفسه لمساعدة العباد والقيام بالعبادة، وأجازه شيوخه بما تجوز لهم روايته، وتنسب إليهم درايته، ثم خطبه إفتاء بغداد، فسلك فيه مسلك الحق والسداد، ونهج فيه منهج الإنصاف، لا منهج الغلط والاعتساف، ولم يوجد في زمنه من يساويه في علمه، ولا من يباريه في ذكائه وفهمه، مع زهد وعبادة، وإقبال على الإرشاد والإفادة، وكان في الفروع والأصول، والمعقول والمنقول، عمدة العلماء، ومرجع السادة الفضلاء، وكان يقصد لحل المشكلات، وفك المسائل المعضلات، ولا زال على استقامته وتقواه، إلى أن دعته المنية إلى مرجعه ومثواه، وذلك سنة ألف ومائتين و ... السيد أسعد أفندي بن نسيب أفندي حمزة الدمشقي رحمه الله ذو جاه ومقام، ورفعة بين الخاص والعام، نشأ على الترفه والترفع وكان يهوى مجالس النزاهة والخلاعة من غير تمنع، وحضر دروس الشيوخ مع الطلاب، وكان له في العلوم نصيب غير أنه برع في الفرائض وعلم الحساب، وكان رفيع المقام، نافذ الكلمة لدى الولاة والحكام، وكان ينتقل في مجالس الحكومة من مجلس إلى آخر عضواً من الأعضاء، وإن الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تقصده لجلب نفعهم ودفع البلاء، ويقدمون له جانباً من الدراهم والدنانير. ليساعدهم فيقبلها على طريق الهدية من غير تأخير، ويساعد الإنسان مساعدة موصلة إلى مطلوبه وافية بمرامه ومرغوبه، وكان له مخالطة كثيرة مع الأهالي، مع عدم الترفع عما لا يليق بمقامه العالي، من حضوره محلات الاجتماع، للنزهة والسماع، فكان الناس يعيب عليه ذلك لشرفه وسيادته وهو لا يلتفت إلى تأنيب ولا إلى ملام تقديماً لجانب سروره على جلالته. ولما توفي أخوه محمود أفندي مفتي الشام، تحزب له الأعيان والوجوه في وضعه مكانه للإفتاء العام. ولم يقدر الله ذلك له بل كان لمحمد أفندي المنيني العالم الهمام، وحصل بينهما منافرة، ومقاطعة ومدابرة، بعد الاتصال التام ودامت المنافرة باطناً بينهما إلى أن مرض المترجم مدة جزئية وتوفي في شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسبع ودفن في مرج الدحداح رحمه الله. الشيخ أسعد بن عبد الرحيم بن أسعد بن إسحاق بن محمد بن علي الشافعي الدمشقي الشهير بالمنير العالم الأوحد، والكامل المفرد، والهمام الفاضل، والإمام ذو الفضائل، ولد بدمشق سنة ست وسبعين ومائة وألف في ربيع الأول وكان أوحد أهل عصره، ومطمح نظر أهل مصره، في الفنون العقلية، والعلوم النقلية، مع مهابة وزهادة، وتقوى وعبادة، وتمسك بالسنة النبوية، والملة المحمدية، مات في الثاني عشر من رجب سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 إسماعيل أفندي بن خليل بن علي بن عبد الله الشهير بالطهوري المصري الحنفي النبيه الأريب، والفاضل النجيب، الناظم الناثر، والأديب اللبيب البارع الشاعر، قال العلامة الجبرتي كان إنساناً حسناً قانعاً بحاله، يتكسب بالكتابة وحسن الخط، وقد كان جوده وأتقنه علي أحمد أفندي الشكري وكتب بخطه الحسن كثيراً من الكتب والسبع المنجيات ودلائل الخيرات والمصاحف، وكان له حاصل يبيع به بن القهوة بوكالة البقل بقرب خان الخليلي، وله معرفة جيدة بعلم الموسيقى والألحان وضرب العود، وينظم الشعر وله مدائح وقصائد وموشحات، فمن ذلك قوله تهنئة للأمير حسن بك رضوان بقدومه إلى مصر من نفيه بالمحلة الكبرى قوله: تهنا بعود الملك والجاه والنصر ... وبالفوز والعلياء والعز والفخر ومس ميس تيه في ملابس عزة ... بعودك للأوطان منشرح الصدر لئن ساء فعل الدهر قدماً فطالما ... أسر بأخرى من قبول ومن جبر وأعطى بلا من وأخلف ما مضى ... وأسعف بالحسنى وأذهب للضر لقد ضحكت مصر إذا ما حللتها ... وأضحت بها الأرجاء باسمة الثغر وغنت بها الأطيار من فرح بها ... وقهقه قمريها على ساحة النهر وغضت عيون النرجس الغض من حيا ... وضرج فيها الورد خداً من التبر وجر نسيم الروض ذيلاً مبللاً ... نفاح عبير من شذاه الذي يسري لك الله مولى لا نظير لمثله ... تعلمني أوصافه النظم كالدر أمير على كل الأنام بأسرهم ... همام كريم مفرد الدهر والعصر له عزمات في السماكين قدرها ... تسير بها الركبان في المهمه القفر وشدة عزم زللت كل شامخ ... وأدنت له ما يشتهي صحة الفكر وأصبحت الأيام من جود كفه ... مرنحة الأعطاف في الحلل الخضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لقد كنت أبكي قبل هذا فراقه ... كما بكت الخنساء يوماً على صخر فلما أتى بين الأنام بشيره ... وأذهب من بشراه لي غلة الصدر جعلت مرامي نعته ومديحه ... وكررته في النظم عندي وفي النثر إليك عروساً بالبديع تتوجت ... وجاءتك تسعى في ملابسها الزهر ممنعة إلا إليك فإنها ... أتت دون كل الناس بالحمد والشكر فدم حسناً في منزل العز راقياً ... مدى العمر ما غنى على العود من قمري فقد جاء تاريخاً بمدحك كاملاً ... هنيئاً بإقبال السرور من الدهر وكان بعض أدباء مصر ألف مجموعاً في الألغاز فطلب من المترجم أن يقرظ عليه فكتب على حواشيه، ليصون طلعته من عاذله وواشيه: لله درك من بليغ ماهر ... جمع المعاني في بديع كتابه سحر العقول بلفظه وبلطفه ... وأبان في معناه عن أنسابه كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه أعددت للبلغاء تأليفاً غدا ... في فنه يسمو على أترابه واراك نلت من الحجا حظاً غدا ... لا يستطاع وصوله من بابه أوفت بك الهمم العلية منزلاً ... مستصعباً صعباً على خطابه والله يرعى شرح كل فضيلة ... حتى يروجه على أربابه ألبست عصرك من بيانك حلة ... فمشى اختيالاً في بها أثوابه يا من له قلم جرى من ثغره الش ... هد الشهي سوى سواء لعابه تربي على تلك المعاني أنها ... أشفت فؤاداً ذاب من أوصابه عرفت بلاغتك العميدة عندما اس ... تذللت صعب القول من أهضابه وظلمت لغزك إذ أبحت رياضه ... رجلاً تعطل من حلي آدابه فلذا أجاب مقصراً عن شأوه ... إذ كان يعجز عن بلوغ ثوابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فأجاب ذلك الشاعر بقصيدة وأطال فيها ومطلعها لله ثغر شفني برضابه ... كيما أفوز بنشق عرف رضابه فكتب إليه المترجم ثانياً معرضاً له بقصيدته قوله: هذا الأديب اللوذعي ترى به ... جمل الفضائل وهي من أترابه وله المقال المستجاد بأسره ... وسواه نحثو وجهه بترابه ولقد رشفت زلال معنى لفظه ... والغير يقنعه لموع سرابه فاعجب له من شاعر متقادر ... سل المنام بلطفه وسرى به أنسى البدائع من بديع نكاته ... فسمت بلاغته على أعرابه وأتى بكل غريبة في نظمه ... منسوبة المعنى إلى أعرابه لله أبيات أتت من نحوه ... أشفت فؤاداً ذاب من أوصابه قد كان أفناه النوى وأباده ... مما يلاقي من مرارة صابه وأتى بتجنيس يرق لطافة ... وروى المعالي وهي من ألقابه فاعجب لسحر كلامه كيف اغتدى ... مستعذباً عندي لما ألقى به يا من إذا عد الورى قلنا لهم ... لا نرتضي أنا نرى ألفاً به كيف الفداء وقد طربت عشية ... من قربه لما بدا ألفى به يا فاضلاً بعدت مرامي عزمه ... وغدا تغزله ببدء خطابه وبدأته بالماهر الندب الذكي ... وأجابني ثغر شفى برضابه إني أعيذك أن تعود لمثلها ... إذ ذاك خلق لست من أصحابه وإذا أتتك من القريظ مقالة ... وأبيت عنها فلتكن من بابه ولك الإله يديم حظاً شامخاً ... ما حن مشتاق إلى أحبابه وله موشحة على وزن موشحة الأديب العلامة ابن خطيب داريا الأندلسي وهي: ليت شعري يا أخلاء الهوى ... هل أرى بدري بحاني مؤنسي أم أقاسي من زمان قد قسا ... ورى أحشاي سهماً عن قسي دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يا سقى الله زماناً قد مضى ... في مغاني مصر في عيش خصيب حيث بدري قد قضى لي ما قضى ... بالتداني إذ غفت عين الرقيب شب من تذكارها نار الغضا ... في فؤادي وتلافاً في النحيب واعترتني دهشة حين جرى ... من دموعي سابلاً في الغلس وغدا قلبي كليماً مذ سرى ... بارق في نحو ذاك المكنس دور يا رياضاً حسنها زاه يشيق ... جاد في مثواك منهل السحاب كم مضى لي فيك من معنى أنيق ... حين كان اللهو مزهي الجناب هل ترى عيني محياك الشريق ... لابساً برد التهاني والشباب وأرى بدري يناجيني على ... ذلك البسط الشهي السندس وأحلي صبر دهري بالمنى ... من معان زاهيات الملبس دور قد شربنا الصد كأساً مترعاً ... حين صد الظبي عنا ونفر غصن بان غصنه قد أينعا ... مثمر بالدل حيناً والخفر وجهه الفتان أمسى مبدعاً ... كل معنى رائق يسبي الفكر ينثني ما إن تبدى معجباً ... بالعيون الفاتكات النعس ينهب الأرواح منا لاهياً ... لم يراقب في ضعاف الأنفس دور كيف لي صبر إذا اللاحي لحا ... في حبيب حسنه فاق الهلال بدر تم مخجل شمس الضحى ... جؤذري اللحظ معشوق الدلال ما سقى الصب هواه فصحا ... من غرام قد عراه وخبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 يوسفي العصر معسول اللمى ... كاحل الطرف شهي اللعس ترك الصب كليماً عندما ... جال في النفس مجال النفس وقال سامحه الله: هل العيش إلا في اكتساب مآثم ... أو العمر إلا في اقتناء محارم أو الغنم إلا في ارتكاب كبيرة ... أو السكر إلا في ارتشاف مباسم سقى الله أيام البطالة أدمعاً ... من العين تجري كالغيوث السواجم زمان به كان السرور بخنصري ... ختاماً وكان الظبي فيه منادمي إذ العيش طلق والرياض بواسم ... عن النور لكن من شفاه الكمائم وسيري إلى تلك الدساكر سحرة ... وغنمي بها من طيبات مواسمي وجر ذيول التيه في عرصاتها ... جهاراً وضمي للقدود النواعم خليلي لو وافيتموا حق صحبتي ... لكنتم رفاقي بين تلك المعالم فحيا الحيا دار الأحبة ما شدا ... على الدوح مطراب الأصائل هائم لقد طال ما نازعت فيه زجاجة ... تضمنت الأفراح من عهد آدم معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل من در كدور دراهم إذا ما جلاها مخطف الخصر في الدجى ... وغنى عليها مثل شدو الحمائم أبحت طريفي في هواه وتالدي ... وصيرته مولى علي وحاكمي وله مشطراً بيتي الشيخ محمد الكراني الشاعر وهما مع التشطير: خبراني عن قهقهات القناني ... وابتهاج الربى بصوب الغمام واهتزاز الغصون في الروض ليناً ... أنا منها في غاية الإيهام أترى ضحكها لبسط الندامى ... أم سروراً لجمع شمل الكرام أم خطاباً لبلبل الدوح غنى ... أم بكاء على فراق المدام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وله مشطراً بيتين لبعض القدماء وهما مع التشطير: بالله يا قبر هل زللت محاسنه ... أم كيف رونقه والحسن والحور وحسن طرته ما شأن حالتها ... وهل تغير ذاك المنظر النضر يا قبر لا أنت لا روض ولا فلك ... يشوقنا منك ما نرجو وننتظر ولست في الحسن معشوقاً إلى أحد ... حتى تجمع فيك الغصن والقمر وله غير ذلك كثير لا تحسن الإطالة به هنا للخروج عن المقصود، توفي المترجم سنة إحدى عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ إسماعيل بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري الأجل الأعظم، والعمدة الأفخم، ذو القدر الأعلى، والفضل الأجلى، وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر. قرأ على والده وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ المشهورين وكان جسوراً كثير الحركة له تردد على مجالس الكبراء والعظماء ولم يزل كذلك إلى أن توفي والده المرقوم الشيخ أحمد البراوي، فتصدر بعده في مكانه وساعده الحظ على نوال مراده وإعلاء شأنه، وكان قليل البضاعة، لاشتغاله أيام الطلب بأسباب الإضاعة، إلا أنه كانت تغلب عليه النباهة والذكاء والحذق واللسانة، والسلاطة والتداخل، والتفاخم والتعاظم، ولم يزل يتعالى في أموره، ويصعد على سلم ظهوره، ويحافظ على قدره واعتباره، وتعاظمه وافتخاره، وكأنه لم يلتفت إلى قول من قال، وأحسن في المقال: من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجر إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر فلما دخل الفرنسيس مصر أدخلوه في عداد ذوي الفتنة فقتلوه مع من قتلوه من الشهداء سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ولم يعلم له قبر نظير غيره من المقتولين، رحمهم الله أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 إسماعيل بن يحيى بن حسن الصديق الصعدي ثم الذماري قال في التاج: ولد سنة ألف ومائة وثلاثين وكان صدراً من الصدور عظيم الهمة شريف النفس كبير القدر نافذ الكلمة، له دنيا واسعة وأملاك جليلة، وكان محدثاً من المحدثين، ومجتهداً من المجتهدين، يعمل بالأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية، مات رحمه الله تاسع صفر سنة ألف ومائتين وتسع. السيد إسماعيل بن السيد حمزة بن السيد يحيى بن السيد حسن ابن السيد عبد الكريم الشهير بابن حمزة، العالم الحسيب، والكامل النسيب، فخر العلماء، وصدر الفضلاء، أحد السادة الأعيان، ذوي الفضل والشان، من لاحت من بروج فضله شموس سعادته المشرقة، وصحت سماء عرفانه من سحاب الغيوم المطبقة، فلا غرو إن طلع مجده بدراً في غرة الصلاح، ونادى مؤذن إقباله حي على الفلاح، ولد بدمشق سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف واشتغل في طلب الفنون، على علماء عصره ذوي القدر المصون، ثم وجهت إليه أمانة الفتوى أيام حسين أفندي المرادي، وكان عارفاً بتخريج المسائل، مقبلاً بكليته على السائل، خوف الغلط في الجواب، والذهول في موافقة الصواب، مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، ودفن عند أسلافه في مرج الدحداح رحمه الله. الشيخ إسماعيل بن أحمد بن علي المنيني الدمشقي الحنفي مفتي دمشق الشام الشيخ الإمام، مفتي الأنام، عمدة الحكام، وقطب مدار الأحكام، نادرة العصر، ويتيمة الدهر، ولد بدمشق الشام ونشأ بها سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، وأخذ عن الأفاضل منهم الشهاب المنيني وعلي أفندي الداغستاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 والعلامة حسن البرزنجي والشيخ صالح الجينيني والشيخ عبد الرحمن الكفرسوسي، وفي سنة ثمان وثمانين ومائة وألف ولي وظيفة إفتاء دمشق الشام وكان قد ولي خطابة الجامع الأموي، مات سنة خمس عشرة ومائتين والف ودفن في مرج الدحداح. السيد إسماعيل بن أسعد الشهير بالخشاب الأزهري البليغ النجيب، والنبيه الفصيح الأديب، نادرة الزمان، وفرد الأوان، نشأ في حجر والده بيد أنه لم يمل قلبه إلى صنعته لأنه كان نجاراً، بل تولع في العلوم والمعارف فحفظ القرآن ثم جد بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، وأنجب في فقه الشافعية والمعقول وبقية العلوم، ثم تنزل في حرفة الشهادة في المحكمة الكبرى لضرورة المعاش، وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ، وتولع بذلك، وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية، وما تكلموا فيه من الحقائق، حتى صار نادرة عصره في المحاورات والمحاضرات واستحضار المناسبات، ونظم الشعر الرائق، ونثر النثر الفائق، وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السجايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيراً من أرباب المظاهر، والرؤساء والأمراء والتجار، وتنافسوا في صحبته؛ وتفاخروا بمجالسته، وارتاحوا لمنادمته، وتنقلوا على طيب مفاكهته، وحسن مخاطبته، ولطف عباراته، ورقيق إشاراته، وكان الوقت إذ ذاك غاصاً بالأكابر، وذوي الفضائل والمفاخر، والناس في أرغد عيش، وأمن من المخاوف والطيش، وللمترجم قوة استحضار مؤنس، بحسب ما يقتضيه حال المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور في الخطاب، ويجذب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب، ولما وردت الفرنساوية إلى مصر تعلق بغلام من رؤساء كتابهم وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بارع الجمال، حسن التيه والدلال، عالماً ببعض العلوم العربية، مائلاً إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح اللسان، مليح البيان، يحفظ كثيراً من الأشعار التي بها يتفاخر، فلهذا مال كل منهما للآخر، فعند ذلك قال المترجم الشعر الرائق، ونظم الغزل الفائق، فمما قاله فيه، من بديع نظمه وقوافيه، قوله رحمه الله تعالى: ملكته الروح طوعاً ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك فجاءني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك في حلة من أديم الليل رصعها ... بمثل أنجمه في قبة الفلك فخلت بدراً به ضاءت نجوم دجى ... في أسود من ظلام الليل محتبك وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك وله في آخر يسمى ريج: أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر وهات على نغم المثاني فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنى الراح بالتبر وهاك عقوداً من لآلي حبابها ... فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر ومزق رداء الليل وامح بنورها ... دجاه وطف بالشمس فينا إلى الفجر وأصل بنار الخد قلبي وأطفه ... ببرد ثناياك الشهية والثغر أريج ذكي المسك أنفاسك التي ... أريج شذاها قد تبسم عن عطر معنبرة يسري النسيم بطيبها ... فتغدو رياض الزهر طيبة النشر وبي ذابل الأجفان كالبيض طرفه ... مكحلة أجفانه السود بالسحر رشا فاتك الألحاظ عيناه غادرت ... فؤادي في دمعي دماً سائلاً يجري طويل نجاد السيف ألمى محجب ... شقيق المها زاهي البها ناحل الخصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 رقيق حواشي الطبع يغني حديثه ... عن اللؤلؤ المنظوم والنظم والنثر يعير الرماح اللين عادل قده ... ويزري الدراري ضوء مبسمه الدر وتحكيه أغصان الربا في تمايل ... فيرفل في أثواب أوراقها الخضر وفوق سنى ذا الجبين غياهب ... من الشعر تبدو دونها طلعة البدر ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي يوم جد النوى يسري تباكى لتوديع فأبدى شقائقاً ... مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر ولما نظم الشيخ حسن العطار موشحته التي يقول فيها شعراً: أما فؤادي فعنك ما انتقلا ... فلم تخيرت في الهوى بدلا فاعجب يا معرضاً عن محبة الدنف ... ومغرماً بالجمال والصلف ومن به زاد في الهوى شغفي ... أما كفى يا ظلوم ما حصلا حتى جعلت الصدود ... والمللا مذهب فتش فؤادي فليس فيه سوى ... شخصك أيها المليح ثوى قد ضل قلبي لسكنه وغوى ... وهكذا من يحب معتدلا لم يلق إلا تأسفاً ... وقلى مشرب وهي طويلة مذكورة في ديوانه عارضه المترجم المذكور بقوله في معشوقه الذي ذكرناه: يهتز كالغصن مال معتدلا ... أطلع بدراً عليه قد سدلا غيهب يزري بسمر الرماح إن خطرا ... ساحر جفن أمهجتي سحرا علم عيني البكاء والسهرا ... فكيف أبيغ بحبه بدلا وليس لي عنه جار ... أو عدلا مهرب وضاح نور الجبين أبلجه ... أغيد عذب الرضاب أفلجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وجه غرامي عليه متجه ... فلست أصغي لعاذل عذلا كلا وعنه فلا ... أحول ولا أرغب وبقيتها في ديوانه، وقال فيه أيضاً وهو مما يعتني به: أدرها على زهر الكواكب والزهر ... وإشراق نور البدر في صفحة النهر إلى آخرها ولم يزل المترجم على حالته، ورقته ولطافته، مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور، والتكسب وكثرة الإنفاق والحزم في الأمور، إلى أن ابتلي بحصر البول مع الحرقة والتألم واستدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أياماً. وتوفي في يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن في الحسينية. وما أحسن ما قال القائل: فلا سرور سوى نفع بعافية ... وحسن ختم وما يأتي من الشغب وأمن نكر نكير القبر ثمة ما ... يكون بعد من الأهوال والتعب حافظ إسماعيل بن محمد بن محمد القسطنطيني الحنفي الشهير بكاتب زاده العالم الذي هو في سلك الأفراد منظوم، والفاضل الذي دار عليه فلك المنطوق والمفهوم، الإمام المحقق، والهمام المدقق، الألمعي الفقيه، واللوذعي النبيه، ولد سنة ألف ومائة وثلاثين في مدينة أماسية، فاجتهد بعد بلوغه في تحصيل العلوم الشرعية والعقلية، ثم انتقل إلى اسلامبول، وقد أخذ عن كثير من العلماء، والسادة الفضلاء، من أجلهم الشيخ محمد ابن حسن بن همات الحنفي الشامي مولداً الاسلامبولي موطناً والشيخ عمر بن أحمد باعلوي السقاف. ولي قضاء دمشق عام ألف ومائة وثمانية وتسعين، وكانت تغلب عليه الديانة، والزهادة والصيانة، ولم ير له نظير في قضاة زمانه، وعصره وأوانه، وأخذ عنه الكثير من أهل الشام الأمجاد، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أجلهم السيد شاكر العمري الشهير بالعقاد، ثم بعد الشام ولي قضاء المدينة المنورة، سنة ألف ومائتين وسنة، فارتحل إليها بالراحة والسرور، والفرح والحبور، إلى أن وصلها ولم يطل أمره حتى مرض وتوفي هناك سنة ألف ومائتين وسنة، وصلي عليه في الحرم الشريف، ودفن في البقيع رحمة الله تعالى علينا وعليه. الشيخ إسماعيل أبو المواهب بن محمد بن صالح بن رجب بن يوسف الحلبي الحنفي الشهير بالمواهبي العالم الفقيه الفاضل، المحدث الواعظ الأديب الكامل، حجة العلماء، وكعبة الفضلاء، وبقية السلف، ونخبة الخلف، ولد ثالث عشر ذي الحجة الحرام سنة ستين ومائة وألف ونشأ بكنف والده وقرأ عليه العلوم وانتفع به ولازمه، وسمع منه الأحاديث الكثيرة وتأدب بآدابه وأجاز له غير مرة، وقرأ بقية الفنون وأخذها ببحث وإتقان عن أبي محمد عبد الكريم ابن أحمد الشراباتي الحلبي الشافعي، وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطبرسي الحنفي وغيرهم، وانتفع بهم ولازمهم وأخذ عنهم وسمع عليهم واستجازهم فأجازوه إجازة عامة. ولما قدم حلب المحدث الكبير، والعالم الشهير، أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي نزيل المدينة المنورة، عقد مجلس حديث في الجامع الأموي بحلب، وسمع منه المترجم ولازمه وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية مع والده، وأجازه غير مرة، وسمع الحديث المذكور من أبي محمد عبد القادر بن خليل الكدك المدني لما قدم حلب وأجازه برواياته بعد أن قرأ عليه أوائل الكتب وبعض المسانيد، وسمع حديث الأولية أيضاً من أبي عبد الله الحسين بن علي بن عبد الله الشكور الطائفي المكي وأجازه بخطه، وكذلك الشهاب أحمد بن الحسن الخالدي الجوهري، وأحمد بن عبد الفتاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 اللدي وغيرهم، ومهر ونبل وتفوق، وأخذ عن والده الطريقة القادرية، وجلس بعد موته على سجادة المشيخة وأقام الأذكار وأجاد في الإرشاد، وانتفع به الحاضر والباد، وكان يختلي في الصالحية كل سنة أربعين يوماً ومعه جماعة كثيرون. وكان كثير الإفادة والوعظ والتدريس في الجامع الأموي بحلب، مكان والده وجده على الكرسي الموضوع تجاه مقام سيدنا زكريا، وسمع منه الجم الغفير وحضره كثير من الناس، وأفاد واشتغل عليه الناس بالأخذ في داره، وأخذ عنه الطريق كثير من الناس من حلب وأطرافها وانتفعوا، وعلا قدره عند الحكام والأعيان، وأظهروا له الانقياد والإذعان، ونفذت كلمته، وقبلت شفاعته، وفاق فضله على أبيه وجده، وكان لطيفاً مهاباً لين العشرة حسن المذاكرة، قوي الحافظة في الآثار والسنن، وافر العبادة والتنقل والذكر، ومن جملة من أخذ عنه محمد خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام، وأجازه إجازة عامة في حلب سنة ألف ومائتين وخمس، وفي سنتها خرج المترجم إلى الحجاز ورجع إلى بلده، ولم يزل على ما كان عليه من الدأب على العلم والعبادة والذكر والمذاكرة والإرشاد، إلى أن توفي خامس شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ إسماعيل بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن محمد بن محمد بن محمد الأريحاوي الشافعي الشهير بالعاري أبو الفدا صلاح الدين الكاتب الصالح الدين، البركة الفقيه النبيه. ولد بأريحا ليلة الجمعة السابع والعشرين من ربيع الثاني سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على والده وجده البرهان المشهور المفتي وانتفع بهما، وأخذ الخط عن جده، وقرأ على عواد بن حسين العبسي السرجاوي وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية وبقية مسلسلات ابن عقيلة المكي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بروايته لهم عنه، وأجازوه الإجازة العامة، وأخذ الطريقة الرفاعية عن الشهاب أحمد بن إسماعيل القصيري الرفاعي، ودخل حلب وحضر بها دروس أبي الفتوح علي بن مصطفى الدباغ الميقاتي، وأبي عبد الفتاح محمد بن حسين وغيرهم وسمع عليهم، وأكثر من كتابة الكتب وكتب الكثير من المصاحف الشريفة والتفاسير وكتب الحديث والفقه وبقية الفنون، وكان سريع الكتابة حسن الضبط والخط أديباً صالحاً تقياً عابداً زاهداً من أحاسن الناس وخيارهم وصلحائهم، والملازمين على وتيرة السلف، والقائمين بأعباء العبادة من تهجد وذكر وصلاة وصيام، واجتناب ما يجب اجتنابه وفعل ما يجب فعله. راضياً بما يحصل له من غلال بعض أراضيه وثمرات أشجاره وزيتونه وأجرة كتابته التي يكتبها، وأفاد واستفاد واشتهر ذكره بالعلم والإرشاد، توفي سنة ألف ومائتين ودون العشرة. الشيخ إسماعيل بن عبد الجواد بن أحمد الكيالي السرميني الأصل الحلبي الشافعي العالم الفاضل الصوفي المتقن، الولي البركة الصالح التقي النقي المتفنن. ولد سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم ونشأ بكنف والده وتخرج به وعليه، واشتغل بالأخذ والتحصيل فقرأ على أبي اليمن محمد تاج الدين بن طه بن أحمد العقاد، وأبي العدل قاسم بن علي التونسي المالكي المغربي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي وغيرهم. وحصل ونبل وفاق في مدة يسيرة على الكثير من العلماء حتى شهد له بالتقديم شيوخه، وأقر له بذلك الجم الغفير، وكان والده يثني عليه ويحبه ويقدمه على إخوته، وأخذ عنه وأجازه بمروياته. وبعد وفاته درس وشرع بالإفادة والتسليك وقام مقامه، حتى قدر الله تعالى أنه في سنة المائتين والألف حصل له جذبة فخلع ثيابه وصار يدور في الأسواق على هذه الحالة، ويتكلم بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 لا يعني من الكلام، ومال إلى الخمول والذهول وتغيرت أحواله، ومع هذه الحالة شوهدت له كرامات كلية، وخوارق وأحوال وأخبارات غيبية، وكانت الناس تحترمه وتهابه وتخشى من بطشه، ويرجون دعواته، وينظرون إليه بعين المهابة والتعظيم، ويذكرون الله عند رؤيته كما هو علامة أهل الله الذين إذا رؤوا ذكر الله عند رؤيتهم. ولم يزل كذلك إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين ظناً. الشيخ إسماعيل الشيرواني الخالدي النقشبندي قال في المجد التالد: الولي النحرير العلامة، والبحر الفهامة، صاحب الأنفاس القدسية، والنفحات الأنسية، العارف بالله، والغارف من بحر نداه، أكب على العلم والعمل من صغره، ودأب على الإفادة في كبره، ثم لما عاد حضرة مولانا خالد إلى السليمانية من الهند، فإنه لازم خدمته، والتزم طاعته، وسلك على يديه طريق السداد، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، ونشر العلوم، فانتفع به الناس طريقة وعلما، وله خوارق عجيبة وهو من أجل الأفاضل، وأفضل ذوي الفضائل، توفي سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين. الشيخ السيد إسماعيل البرزنجي الخالدي النقشبندي العالم الفاضل، النسيب الشريف الفقيه العامل، الحافظ التقي الأديب، الحسيب اللبيب الأريب، نشأ في العلم والصلاح، ونهج منهاج الطاعة والنجاح، وكان من أخص جماعة حضرة مولانا خالد شيخ الحضرة، وكان يخدمه ويقرأ عليه، ويكتب له الكتب، لما كان له من جودة الخط، وكان حضرة الشيخ يحبه محبة عظيمة ولا يعبر عنه إلا بأخينا الشيخ إسماعيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وكان هذا المترجم من العلوم الفقهية والعربية والأدبية على حظ عظيم، وكان مع حفظه للقرآن وبعض الكتب التوحيدية والفقهية حافظاً لمقامات الحريري، وله شعر ونثر رائق في العربية والفارسية، قرأ على مولانا خالد قدس سره منذ نشأ ولم يقرأ على غيره، وخلفه خلافة مطلقة، إلا أنه لم يسمع أنه أرشد أحداً، وكان كثير الأسفار لحج بيت الله الحرام، وزيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وإلى الشام لزيارة قبر حضرة شيخه مولانا خالد، وتوفي في بغداد وهو على زيادة ترقية وتوقيه، سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين تقريباً. الشيخ إسماعيل البصري النقشبندي الخالدي خلاصة الأفاضل، وصفوة ذوي الشمائل، العالم العامل، والإمام المهذب الكامل، ذو السيادة والعبادة، والخضوع والزهادة، رحمة المريدين، وتحفة السالكين والمترددين، أخذ في العلم والعمل، ولم ينله ملل ولا كسل، وكان في الزهد والتقوى، في السر والنجوى، والتذلل والخضوع، والتواضع والخشوع، والجود والكرم، وتحريك الهمم، إلى الإقبال على بارىء أمشاج الأمم، في درجة عالية، ورتبة سامية، ثم تحلى بأخذ الطريق، عن سيد ذوي التدقيق، شيخ الحضرة مولانا خالد، ثم خلفه وأتحفه بالالتفات الزائد، فاشتهر في البلاد، وانتفع به العباد، وورد عليه الواردون من كل ناد، ولاحظته عين الإسعاد، ولم يزل ينمو أمره في الرفعة ويزداد، إلى أن تم أجله، وانقطع أمله، وذلك سنة الف ومائتين وفوق الأربعين. الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد الغني بن طالب بن حماده ابن إبراهيم بن سليمان الميداني حليف أدب وأرب، وأليف لطف وطرب، قد طالت في الفضل باعه، وشربت حب المعارف طباعه، فذهب في مجال التقدم عرضاً وطولاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأصبح في معالي الترقي وله اليد الطولى، وقد كانت ولادته في النصف الثاني من ذي الحجة الحرام الذي هو في سنة الألف والمائتين والأربع والخمسين، ونشأ في حجر والده نخبة المتقين، وبعد أن بلغ سن التمييز قرأ القرآن العزيز، ثم حضر على والده الفقه النعماني، إلى أن بلغ منه جل الأماني، وأخذ جملة من علوم الآلات عن شيخنا العلامة الفاضل، والفهامة الكامل، نادرة الزمان، وأوحد العصر والأوان، الشيخ محمد أفندي الطنطاوي، أعلى الله في درجات القرب مقامه، وأعطاه في حديقة الرضوان مرغوبه ومرامه، وحضر مجالس كثيرين من أهل الفضل، ممن يعتمد عليهم في القول والنقل، منهم بل أعلاهم وأعلمهم علم الأعلام، وعمدة الحكام، أخي وشقيقي الهمام، الشيخ محمد أفندي أمين فتوى الشام، وكثيراً ما كان يضمني وإياه مجلس المطالعة في كل علم رفيع، من تفسير وحديث وتوحيد وغير ذلك من معان وبديع، وكان ينقاد إلي، ويعتمد في حل المشكلات علي، وله جمال وصفا، ووداد ووفا، توفي في رمضان سنة اثنان وثلاثون وثلاثمائة وألف، أعلى الله في مدارج السيادة مرتقاه، وجعل الجنة مثواه ومأواه. إسماعيل بن محمد بن مصطفى بن أمين سفر المدني نجيب نشأ في بيت النجابة، ونبت في مغرس اللبابة، ومن كان أباه البحر الزاخر، فلا غرو أنه صدف در المفاخر، فإنه كامل عليه أنوار الكمال زاهرة، ودلائل الفضل منه ظاهرة، ليس إلا بالتحصيل اشتغاله، وإلى الاستفادة حركاته وانتقاله، فحسبه رفيع، وأدبه كالزهر المريع، وله ذهن تحمد آثاره، وفكر تمدح أشعاره، فمن محاسن كلماته، وغرر نظمه وأبياته، قوله باعثاً بهذه القصيدة لأهله من مصر المحروسة: يصل الكتاب إليكم يا سادتي ... فتعطفوا بجوابه وتأهبوا للعبد إسماعيل نجل محمد ... عبد ذليل عاجز متغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قد صار يجري الدمع من أجفانه ... من حبكم إذ حبكم لا يذهب من قلبه المضنى السقيم لبعدكم ... والبعد هام للأنام يهذب أعني الرسول الهاشمي المصطفى ... من ربنا أدناه فهو محبب وكذا ارتضاه الخلة ولغيرها ... فهو الحبيب الهاشمي الطيب فقفوا جميعاً تحت باب أكرم ... وسلوه في كل الأمور وجربوا وأقروا التحية والسلام عليه ما ... هب الجنوب لنا كذاك الأريب وكذاك سيدنا أبو بكر العلى ... وسراجنا من للعين يهرب ثم ابن عفان الحيي وحيدر ... من للوغى أضحى هناك يجرب ولبضعة المختار سيدة النسا ... وبناته الأطهار وكذاك حمزة عمه البطل الذي ... أضحى لكل الكافرين يؤدب ولعمه العباس ثم صحابه ... في غرقد أضحى بهم يتطيب أيضاً وزوجات النبي المصطفى ... والتابعين ومن إليهم ينسب فسلوا جنابهم العلي مقامه ... يدعو الإله لعبدهم بل يطلبوا عودا له في حسن أحسن حالة ... ووفاء دين صار منه يعذب وفصاحة وبلاغة في قوله ... حتى يكون إذا تكلم يعجب ودخوله في دار فردوس علت ... ورضاء رب حب هذا المطلب وسلامة من حر نار جهنم ... نار العدا من حرها تتلهب وسعادة الدارين ثم حياته ... في حالة يرضى بها ويقرب ثم الصلاة مع السلام على الذي ... بضريحه مسك سحيق طيب وكذاك كل الآل والأصحاب ما ... قد لاذ بالأعتاب عبد مذنب الشيخ أمين بن محمد الجندي الحمصي الشافعي ابن خالد بن عبد الرزاق الشاعر اللبيب، والماهر الأديب، والكامل الأريب، والفاضل النجيب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 من اشتهر برقة المعاني كلامه الفائق، ورقى فوق ذروة الفصاحة حسن انسجامه الرائق، قد حضر دروس العلماء الدمشقيين، وشهدوا له بالفضل والقدر المكين، وابتهج به ذوو المعارف، وأقروا له بالفضائل والعوارف، وكان حسن النظم والنثر، قد فاق أهل زمانه بما ألقاه من بديع الشعر، وله المقطعات العجيبة المباني، التي لم يسبق لها مثيل في جزالة الألفاظ ولطافة المعاني، استعمل فيها الكلمات المألوفة في هذا الزمان، التي تطرب لسماعها القلوب والآذان، ولا بدع فناظمها هو العالم النحرير، والشاعر الشهير، لبيب عصره، وأديب قطره فضلاً عن مصره، منور الأفكار ببلاغته، ومزين الألفاظ ببراعته، قد خلع عليه الصفي صفاه، وتبعه المتنبي ورجع عن مدعاه، ولد بمدينة حمص الشهيرة، ونشأ بها في طلب العلوم، وتحقيق المنطوق والمفهوم، ثم صار يتردد إلى دمشق الشام، ويقرأ على علمائها الأعلام، وأخذ وتلقى وقرأ على قطب زمانه، ومرشد أقرانه، السيد الشيخ عمر اليافي، قدس الله سره الوافي، فحل عليه نظره التام، حتى قال له اذهب فأنت أشعر أهل الغرام، فصار الشعر فيه سجيه، والبلاغة له عطية، ينظم القصائد المفيدة، والقدود الفريدة، والموشحات النضيدة، والمقاطيع السديدة، والمواليات العديدة، فسارت الركبان بكلامه، وتزينت المجالس بنظامه، فيا له من ماهر ألبس الدهر أحسن أثوابه، وأنفق الدر الثمين على أقرانه وأحبابه، فصار مفرداً في نظامه، معدولاً إلى بديع كلامه. وفي سنة ست وأربعين ومائتين وألف أتى إلى حمص عامل من قبل السلطان محمود خان، وما لبث أن وشى إليه بصاحب الترجمة بعض أعوانه أنه هجاه، وقال عليه ما لا يرضاه، فأمر بنفيه وإخراجه من حمص بحال الذل والقهر، وبلغ الشيخ أمين خبر هذا الأمر، ففر هارباً إلى مدينة حماه، وظن أنها تكون مكان حفظه وحماه، وعلم العامل بفراره، فأرسل في طلبه جماعة من أنصاره، فقبضوا عليه في الطريق، وأرسلوا الخبر إلى العامل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فأمر بأن يضيق عليه أشد التضييق، وأن يحبس في اسطبل الدواب، ويسد عليه الباب، وأن يعطى له في اليوم والليلة قرص شعير، وشربة ماء مع غاية التكدير، ففعلوا به ذلك، وأوردوه موارد المهالك، فاشتغل بنظم قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في خلاصه. ففي اليوم الرابع من حبسه دخل سليم بن باكير الدنادشة حمص قهراً، ومعه مايتا فارس فقتلوا العامل المرقوم شر قتلة، وخرج المترجم من الحبس وفرج الله عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة: توسلت بالمختار أرجى الوسائل ... نبي لمثلي خير كاف وكافل هو الرحمة العظمى هو النعمة التي ... غدا شكرها فرضاً على كل عاقل هو المصطفى المقصود بالذات ظاهراً ... من الخلق فانظر هل ترى من مماثل نجي إله العرش بل وحبيبه ... وخيرته من خير أزكى القبائل شمائله تنبيك عن حسن خلقه ... فقل ما تشا في وصف تلك الشمائل وأخلاقه فاه الكتاب بمدحها ... ولاسيما الإعراض عن كل جاهل نبي هدى سن التواضع عن علا ... فحل من العليا بأعلى المنازل تقي تردى الجود والحلم حلة ... تجسم فيها المجد بعد التكامل وفي الحرب والمحراب نور جبينه ... يريك شعاع الشمس من غير حائل له النسب الوضاح والسؤدد الذي ... تسامى على هام السهى بالتطاول يقولون لي هلا ابتهجت بمدحه ... فإنك ذو فهم كفهم الأوائل فقلت لهم هل بعد مدحة ربنا ... وخدمة جبريل مجال لقائل وأين الثنا ممن رأى الله يقظة ... وقام يناجي ربه غير ذاهل ولكنه بحر البحور تواصلت ... لأفضاله بالمدح كل الأفاضل دعوتك يا الله مستشفعاً به ... فكن منجدي يا منتهى كل آمل سألتك كشف الضر عني بجاهه ... وحاشاك أن لا تستجيب لسائل إلهي قد اشتدت كروبي وليس لي ... سواك مغيث في الخطوب الغوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 إلهي تدارك ضعف حالي برحمة ... ولطف خفي عاجل غير آجل وفي علتي حار الطبيب فكدت أن ... أجاوز حد اليأس من ذي العواضل وبالسقم أعضائي اضمحلت جميعها ... فلم يبق مني مفصل غير ناحل ومن فرط ما بي من نحول ولوعة ... بكت رحمة لي حسدي وعواذلي فمن لا سير الذنب من ورطة البلا ... بفك قيود أو بقد سلاسل كأني غريب بين قومي وما لهم ... شعور بأشعاري ولا في رسائلي أنادي فلا ألقى مجيباً سوى الصدى ... فأحسب أن الحي ليس بآهل وإني إذا ما رمت خلاً موافياً ... فقد رمت شيئاً عز عن كل نائل وهل مشفق ألقاه أرحم من لظى ... حشائي ومن قاني دموعي الهوامل ألا ليت شعري هل تفردت في الورى ... بكسب الخطايا وارتكاب الرذائل ومن دون كل الخلق عولجت بالأسى ... قصاصاً وحسبي زلتي ونصائلي فإن كان هذا بالذنوب وليس لي ... شفاء وجسمي داؤه غير ناصلي فإني بطه مستغيث وراغب ... إلى الله فهو الغوث في كل هائل وإخوانه الرسل الكرام جميعهم ... وباقي النبيين البدور الكوامل وبالخلفاء الراشدين وآله ... وأصحابه الغر الثقات الأماثل خصوصاً رفيق الغار ذي الرأي والحجى ... أبي بكر الصديق صدر المحافل إمام فدى خير الأنام بنفسه ... وفي ماله ما كان قد بباخل وفي درء تلك الفتنة اختص وحده ... ولولاه لارتدت جميع القبائل كذاك أمير المؤمنين وعزهم ... أبو حفص الفاروق محيي النوافل فتى أيد الإسلام فيه وأقمعت ... به البدعة السوداء رغماً لناكل بعثمان ذي النورين من جمعت به ... بجمع كتاب الله كل الفضائل ومن لزم المحراب طول حياته ... ومات شهيداً صابراً غير صائل بقالع باب الخيبري الذي اغتدى ... لراية نصر الجيش أعظم حامل علي أبي السبطين في صدرة الوغى ... مبيد العدى ليث الحروب المداحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بطلحتهم ثم الزبير وسعدهم ... كذاك سعيد من سما بالفضائل بصدق أبي عوف بذي الهمة التي ... يدك لها في البأس صم الجنادل يفاتح قطر الشام سيدنا أبي ... عبيدة كشاف الحروب العواضل بحمزة بالعباس عمي نبينا ... بسبطيه بالزهراء عين الأماثل بمن شهدوا بدراً وقد أثخنوا العدى ... ببيض حداد أو بسمر ذوابل بسطوة سيف الله ذي البأس خالد ... فتى الحزم ماضي العزم زاكي الخصائل أمير بني مخزوم الشهم من غدا ... ببر يمين المصطفى خير حافل ومن ثم يوم الفتح سبعون سيداً ... سقاها كؤوس الحتف بين الجحافل وعاد كأكباد البخاتي دم العدا ... على درعه لاسي فوق الكواهل وما كان هذا منه إلا برؤية ... بأمر إلهي بعيد التناول بسائر حفاظ الحديث بمن غدا ... بتفسيره للحبر أو لمقاتل بأحمد بالنعمان ثم بمالك ... وبالشافعي بحر الندى والمسائل وبالعلماء العاملين ذوي الهدى ... وأتباعه من كل حبر وفاضل وبالأولياء العارفين وبازهم ... أبي صالح من قال ما في المناهل بمن لزموا بر الشريعة فانجلى ... لهم بحر قدس الذات من غير ساحل أجرني وأنقذني من الهم والعنا ... فغيرك مالي ملجأ في النوازل وهذا ختام الصوم تصطنع الجدى ... به الأسخيا مع كل سام وسافل وفي العيد عادات الكرام لقد جرت ... ببر اليتامى وافتقاد الأرامل وها أنا محتاج فلا تك قاطعاً ... حبال رجائي منك يا خير واصل فإنك أولى بالمكارم منهم ... وأجدر بالإحسان من كل باذل فحاشا ظنوني أن ترد بخيبة ... وفي بابك المأمول حطت رواحلي فإن كان في العمر انفساح فشافني ... من السقم وارحم يا رحيم تناحلي وإن تك قد حانت وفاتي فآوني ... لدار نعيم عزها غير زائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وثبت على التوحيد قلبي ومن لي ... بخاتمة الإيمان من غير فاضل وكن لي رحيماً في البلاء وفي البلا ... بدنيا وأخرى يا رجا كل سائل ودم راضياً عني كذاك ومرضياً ... خصومي ويوم العرض لا تك خاذلي فإني أرى الدنيا سراباً وأهلها ... أحاديث يرويها الزمان لناقل وما الكون إلا كالهباء لناظر ... أو الحظ في مستبحر ذي جداول وإني لراض بالقضا وبما تشا ... وعندي يقين أن لطفك شاملي ولكنني أشكو البلالك لا القضا ... لأنك أنت الحق أعدل عادل وللغير لا أشكو وإن سامني الردى ... وفصل فصال المنايا مفاصلي وعن رتبة التسليم في كل حالة ... فؤادي وإن ناجاك ليس بنازل وحبة قلبي في معانيك أنبتت ... بقدس سواد الليل سبع سنابل تعرفت لي من قد ألست بزرعها ... فلم أسقها غير الدموع الهواطل وبالكتم من بعد الحصاد درستها ... بلب خلا عن فكرة وتخايل ولا برحت قوتي مع الفقر والغنى ... وقوت عيالي في الضحى والأصائل ألا ما ألذ القرب بعد النوى وما ... أمر الجفا والهجر بعد التواصل تبرأت من حولي إليك وقوتي ... ومن عملي والعلم ثم التفاضل لتقطعني بالقرب عن كل قاطع ... وتشغلني في الحب عن كل شاغل أشاع الورى عني عداتي وأظهروا ... الشماتة فيما بينهم بالتداول وبالموت لم يشمت بمثلي تشفياً ... من الناس إلا كل باغ وباسل أليس الوجود الحق ذاتي بلا مرا ... وهذي البرايا كلها محض باطل فلا يحسب المغرور أني مضيع ... زماني سدىً ما بين هاز وهازل فدع عصبة البهتان تفعل ما تشا ... فما الله عما يفعلون بغافل فمن أين للخفاش أن يبصر الضيا ... وهل يألف الجعلان ورد الخمائل ومني على روحي الصلاة مسلماً ... وأصحابه والآل مع كل كامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 مدى الدهر ما الجندي أنشد قائلاً ... توسلت بالمختار أرجى الوسائل وله أيضاً مخمساً أرى قلبي بليلى زاد ميلاً ... وما جرت بربعي قط ذيلا فقلت لبعلها إذ زار ليلاً ... بحقك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاها فعني أن تسل فأنا فتاها ... تملك حبها قلبي فتاها فقل لي هل دنت لك وجنتاها ... وهل رفت عليك ذؤابتاها رفيف الأقحوانة في نداها وقال أيضاً مخمسا أفدي التي لو رآها الغصن مال لها ... شوقاً وإن قتلت صبا لحل لها حورية لو رآها عابد للها ... مرت بحارس بستان فقال لها سرقت رمانتي نهديك من شجري قالت وقد بهتت من قوله خجلاً ... فتش قميصي لكي أن تذهب الوجلا فهم أن يقبض النهدين ما مهلا ... فصاح من وجنتيها الجلنار على قضيب قامتها لا بل هما ثمري وقال أيضاً مخمسا أهيم إذا أثنى الأنام بشكركم ... وأكتم أمري لا أبوح بسركم أحبتنا من طيب نشأة خمركم ... إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم أنوح كما ناح الحمام المطوق عسى ولعل الدهر يأتي بهم عسى ... أشاهدهم عند الصباح وفي المسا وقلبي من فقد الأحبة قد قسا ... وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى وتحتي بحار بالجوى تتدفق إذا ترب غيد فاح منها عبيرها ... وفيهن خود ليس يلفى نظيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بأحشاء صب زاد فيها سعيرها ... سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها تفك الأسارى دونه وهو موثق أسير سبته أعين وملاحة ... لمدمعه فوق الخدود سباحة جريح له في كل عضو جراحة ... فلا هو مقتول ففي القتل راحة ولا هو ممنون عليه فيطلق وقال مشطراً مازال يرشف من كأس الطلا قمر ... يبدو لنا من سحاب الشعر في غسق أمنه في الثغر شمس الراح قد غربت ... حتى بدت شفتاه اللعس كالشفق وقام يخطر والأرداف تقعده ... نشوان لم يبق فيه السكر من رمق فقلت ذا ملك للشهب يحمل أم ... غزال أنس يحاكي البدر في الأفق ضممته لعناق فانثنى خجلاً ... وفاح من خاله مسك لمنتشق وعندما بالحيا صينت محاسنه ... وكللت وجنتاه الحمر بالعرق أشار لي برموز من لواحظه ... منها عن القدح استغنيت بالحدق وقال إنسانها لي وهو مبتسم ... إن العناق حرام قل في عنقي وقال أيضاً مشطراً يا ناقل المصباح لا تمرر على ... ربع به صبح المحاسن أسفرا واحذر بأن تغشى أشعة نوره ... وجه الحبيب وقد تكحل بالكرى أخشى خيال الهدب بجرح خده ... فيبث مسك الخال منه العنبرا أو أن يدب لفيه نمل عذاره ... فيقوم من سنة الكرى متذعرا وقال يا در ثغر حبيبي ... دم بالعذيب مقيما ويا جمال الثنايا ... كن بالعقيق رحيما ولا تشق عليه ... فتتركنه هشيما وكن له خير جار ... ألم يجدك يتيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقال مشطراً سألت أحبتي ما كان ذنبي ... وهل لي عندهم حدثت عيوب وكررت السؤال لهم إلى أن ... أجابوني وأحشائي تذوب إذا كان المحب قليل حظ ... ونجم السعد يعلوه الغروب ومن يرمي الزمان لقوم سوء ... فما حسناته إلا ذنوب وقال يقول لي العذول وقد رآني ... كئيت الجسم منتحباً عليلا أتسلو يا معنى قلت أسلو ... عن الدنيا ولكن عن علي لا وقال وحمام رأيت به غزالاً ... كبدر التم في غصن قويم فقلت تعجبوا من صنع ربي ... رأيت الحور في وسط الجحيم وقال في قصاب يا واضع السكين بعد ذبيحه ... في فيه يسقيها رحيق لهاته عدها على المذبوح ثاني مرة ... وأنا الضمين له برد حياته وقال مهفهف لو أماط السجف لاختلجت ... شمس الضحى وبضوء السحب تحتجب كأنما أوجد الرحمن صورته ... من مغنطيس لها الأبصار تنجذب وقال مخمساً جبينك كالهلال أضا لدينا ... وجيدك كالصباح كسي لجينا وخدك روضة منها رأينا ... نجوم الورد قد وردت علينا ونحن من المدام على ورود أرى الندمان تسفر عن بدور ... وتبرز كالعرائس من خدور ونجم الكاس يطلع في سرور ... وشمس الراح تغرب في ثغور وتشرق بعد ذلك بالخدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وساقينا رشا باهي المحيا ... إذا ما عاد ميتاً عاد حيا فما أحلاه إذ بالكأس حيا ... فقد عقد الحباب على الحميا فهل لك أن تكون من الشهود وقال أيضاً مخمساً ما للهموم أخا الصفاء وحزنها ... إلا ثلاث ويح من لم يجنها صهباء تجلى كالعروس بدنها ... وبديعة تسبي العقول بحسنها ومهفهف يزري الغصون بقده خودخبت شمس النهار ببردها ... واستطلعت نجم السهى من نهدها ومذ استفز الحب كامل وجدها ... غنت فأطربت الغلام بنشدها ولنشدها لعب الغلام ببنده أفدي التي لما استهام حبيبها ... في قبلة كالمسك يعبق طيبها قالت له ادنو عساك تصيبها ... فدنا يقبلها فمر رقيبها خافت عليه فأسرعت في رده وغدت تقول له بحسن كناية ... لا صادفت عيناك عين عناية من خوفها سوء اتهام زناية ... لطمت عوارضه بغير جناية منها فأثر نقشها في خده حتى إذا عطفت عليه بعطفها ... وأضاء وجه من مهند طرفها مسحت مدامعه براحة لطفها ... فاخضر آس عذاره من كفها واحمر باطن كفها من خده وله قصائد كثيرة، وموشحات وقدود شهيرة، قد رقمت في عدة دفاتر، واشتهرت اشتهار البدر السافر وقد توفي في حمص سنة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وخمسين ومائتين وألف ودفن في خارج المدينة قريباً من جامع سيف الله سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وقد أرخ وفاته الأديب الفاضل السيد عمر المعري بأبيات وبيت التاريخ: دعيت لساحة الإحسان أرخ ... أمين الحب في عدن تقرر الشيخ أمين مفتي الحلة الشافعي العراقي خاتمة المحققين في عصره، ونادرة المدققين في مصره، طلب العلوم وهو شاب، والتف هو والكمال في برد والقذال ما شاب، بحث وحقق وناظر ودقق، وتولى إفتاء الحلة سنيناً، وسل من الحق على من حال عنه سيفاً سنيناً، ورق طبعاً وصلب ديناً، حسنت سيرته في إفتائه طمعاً في ثواب الله وإرضائه، وتولى تدريس المدرسة العلوية، فأقر عيون العلوم النقلية والعقلية، ولقي الإجلاء من علماء العراقين، وألف في النحو وغيره ما هو قرة عين، وتناهت إليه رياسة التدريس في بلده، مع زكاء عرقه وأصالة محتده، ولقد قال فيه الشيخ عثمان بن سند: يا فاضلاً عشق النسيم طباعه ... والفضل لف عليه منه إهابه كنت امرأً ألف العلوم وما نعي ... بمشيبه المبيض منه شبابه صفت الشباب عن اقتراف جريمة ... كالسيف صين عن الفلول غرابه وبالجملة فهو من الذين نزلوا من الإتقان مكاناً علياً، ومن الأتقياء الذين عاد بهم الفضل صبياً، والأسخياء الذين سقوا رياض الآمال بالمكارم والحاملين حوزة الدين بسيوف من السنة صوارم، والأئمة الذين صيروا الصمت حلية، ونزهوا المسامع عن غيبة وفرية، توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف ولقد رثاه الشيخ عثمان سند بقوله: سقى قبره للرحمة السحب الوطف ... فما هو إلا الكهف خر به كهف فيا قلب لا تبرح من الرزء قد قضى ... هزبر هو الإكليل للمجد والطرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 قضى غير أني ما قضيت من الأسى ... وأودى فأودى السؤدد العود والعرف كريم الأيادي لا يغيب عطاؤه ... سقام المعادي لا يطاق له عسف به أنشبت قوس المنايا سهامها ... وما هو إلا الشمس غيبها الكسف وكيف وأنوار الأمين محمد ... وما هو عن توصيفها يقصر الوصف علوماً له أبقى تلوح كأنها ... هي التاج للأيام والقلب والشنف غدت تحف الرضوان تقدم روحه ... لينشق ريحان الجنان له الأنف فيا قبره واريت أفضل وارد ... إليك بأعمال هي الخالص الصرف نعوه فكان العلم أعظم نادب ... معارف منه زانها البحث والكشف فإن غيبوه في الثرى لم تغب له ... فضائل تزهو من تلألئها الصحف فيا دافنيه قد دفنتم مرزءاً ... له ترزأ الأموال في الكربة الكف ويا نعشه أمسيت للبدر داره ... ولو أن نور الشمس من فوقك السجف ويا حاملي نعش به القطب طالع ... لروح وريحان وحور به زفوا فتى كان يحيي بالتلاوة ليله ... إذا جن ليل قال للطرف لا تقف نعوه إلى التدريس فاحتقب الأسى ... وقال انقضى لما قضى معه الظرف تسامى إلى التدريس والشيب ما بكى ... شباباً له التقوى عن الذائم الزعف إذا سابق النظار يوماً لغاية ... من العلم لم يسبقه في حلبةٍ طرف ولولا تعزينا بمن مات قبله ... لما كف عن نثر الدموع لنا طرف وإن الليالي مودعات قسيها ... سهاماً لها الرامي النوائب والحنف على أن في أبنائه الغر إذ قضى ... غناء إذا ما البحث عز له كشف سقى قبره مزن الرضى أنه مضى ... وما كف عن بذل الجميل له كف أمين أفندي بن حسين بن عمر المنجكي العجلاني الشافعي شيخ المشايخ في دمشق كان رجلاً صالحاً شهماً تقياً نقياً حافظاً لكتاب الله كثير التلاوة، وله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 من الخشوع والتدبر والخضوع ما يشهد له بكمال الصلاح والفلاحة والنجاح، وكان قليل الاختلاط مع الناس، دائم الجلوس غالباً في جامع بني أمية ليس له بغير الطاعة والعبادة استئناس، وقد انتقلت إليه بعد موت والده مشيخة الحرف والصنائع وأهل الطرق. وكان شهماً مهاباً جميل الصورة لين الجانب حسن المعاشرة سامي القدر مقبولاً عند الناس. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ودفن في مدفنهم المعلوم. الشيخ أمين بن الشيخ عبد الستار بن الشيخ إبراهيم الأتاسي الحمصي عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فهو خص كله كرم وجود، وما من فضل إلا لديه ثابت موجود، موارد معارفه سائغة، وملابس عوارفه سابغة، مع شيمة لو أنها في الماء للطافتها ما تغير، وهمة لو تمسكت بها يد النجم ما تغور، وأيادٍ روائح غوادي، كنسيم الروض غب الغوادي، ولد رحمه الله سنة السبع والعشرين بعد المائتين والألف، ونشأ في حجر والده، وقرأ عليه في المعقول والمنقول، إلى أن صار من خلاصة الفحول؛ وكان ذا شفعة ومروءة وهمة، وإسعاف للفقراء والمساكين. كثير البشاشة والإقبال على القاصدين والواردين. وبعد وفاة والده حضر إلى دمشق الشام، وأخذ عن السادة الأعلام، كالشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي، والسيد محمد عابدين، والشيخ عبد اللطيف مفتي بيروت. ثم ذهب إلى وطنه الشهير، وتولى وظيفة التدريس بعد والده في الجامع النوري الكبير، في كل يوم جمعة بعد الصلاة، وفي شهر رمضان من ابتدائه إلى قرب منتهاه. ولم يزل على حالته السنية، إلى أن وافته المنية، غرة ذي القعدة الحرام سنة ثمان وثمانين بعد المائتين والألف من هجرته عليه الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الشيخ أمين أفندي بن المرحوم العلامة محمد سعيد أفندي الأسطواني الدمشقي نخبة السادة الأكابر، وعمدة القادة ذوي المفاخر، من ورث المجد كابراً عن كابر، وتسلسل في العلم واغترف من تياره إلى أن قيل كم ترك الأول للآخر، فلا ريب أنه العالم الأوحد، والفاضل الهمام الأمجد، توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح بالقرب من ضريح أبي شامة. الشيخ أمين بن عبد الغني بن محمد بن إبراهيم البيطار الحنفي الدمشقي إمام جامع السنانية في دمشق المحمية العالم الزاهد، والفاضل الورع العابد، ذو الأخلاق العالية، والشمائل السامية، ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف في جمادى الثانية ونشأ في حجر الكمال ناهجاً منهج السادة من الرجال، وقد حضر مجالس الشيوخ الأفاضل، وأخذ عنهم من العلوم ما أثبت له التحلي بالفضائل، منهم الهمام الذي هو بكل قدر حري، الإمام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومنهم علامة الأمصار، والدي الشيخ حسن البيطار، ومنهم الفاضل الشيخ عبد الله الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي، وولده الشيخ عبد الله الحلبي، والعلامة الشيخ حامد العطار، والشيخ هاشم التاجي، والسيد مصطفى قزيها، والشيخ محمد الحلواني مفتي بيروت، والشيخ محمد سكر، والشيخ محمد تلو، والشيخ عبد اللطيف أفندي مفتي بيروت وحضر دروس مشايخ آخرين، وأخذ الطريقة النقشية على الشيخ محمد بن عبد الله الخاني مقدم هذه الطريقة في جامع السويقة، وأخذ الطريقة الرشيدية في مكة المكرمة على المرحوم الشيخ إبراهيم الرشيد وأخذ بالإجازة العامة عن كثير من المصريين حينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 رجع من الحجاز إلى مصر من طريق مصر، ومن حين كماله وهو مشتغل بالعلوم الشرعية والالية، في داره وفي جامع السنانية، مع خضوع وكمال ولطف وجمال، وفي كل ليلة على الدوام يقرأ في كتب فقه أبي حنيفة الشهم الإمام، بين العشائين في جامع السنانية، ويحضره الجم الغفير من الناس ويعترفون له بكمال اللطف والإيناس، ولم يزل يترقى مقامه، ويسمو احترامه، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وست وعشرين رحمه الله تعالى. أمين أفندي بن محمد بن عبد الوهاب بن إسحق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد الجندي المعري مفتي دمشق الشام رحمه الله تعالى إمام أديب، وهمام أريب، وعالم فاضل، وملازم للقيام بالفضائل من بيت له تقوى وعبادة، وتقدم ورفعة وسيادة، وأصل ونسب، ووصل بأشرف حسب، وله همة قد استوت على محور العلو، ومروءة قد احتوت على مظهر السمو، وذكاء قد تعالى على ذكاء، ورأي لم ير أحسن منه راء، ومعاشرة أجمل من وضأة المحيا، وملاطفة ألذ من نشوة الحميا، وله نسبة شريفة للسيد العباس، عم السيد الأعظم سيد الناس، وقد نظم المترجم نسبه، وأوضح به أصله وحسبه، فقال: الحمد لله القديم الأحد ... من غير والد له أو ولد أوجد آدماً من التراب ... لحكمة تدرك بالألباب ومنه حوا زوجه قد خلقا ... وبث منهما أناساً فرقا وأرسل الرسل إليهم منهم ... فأفضل الناس حقيقة هم وخير كل الأنبياء يا فتى ... والرسل من في ختمهم لقد أتى محمد المختار أشرف الملا ... من كان خلقه عليهم أولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فهو رسول الأنبياء والرسل ... وبدره بين الأنام قد كمل وشرعه قد نسخ الشرائعا ... وعم بعثة به المشارعا أمته قد جاء خير أمة ... وقومه في الناس خير عترة من آل إسماعيل أهل النسب ... طراز كل فدفد وسبسب القرشي الهاشمي المكي ... محا بسيفه ظلام الشرك فهو خلاصة الأنام طراً ... وسيد الآفاق براً بحراً صلى عليه ربنا تعالى ... وعم صحبه بها والآلا وبعد فالبحث عن الأنساب ... قال به جمع من الأنجاب مستأنساً بقول طه الهادي ... في خير موقف وخير نادي أنا النبي الهاشمي لا كذب ... أنا محمد بن عبد المطلب وبعضهم قال بمنعه وذا ... من محكم التنزيل أيضاً أخذا وكلهم جاء بما قد أوسعا ... وليس للإنسان إلا ما سعى وحاصل الأمر بأن الرجلا ... يلزمه في ذاته أن يكملا من غير أن يعتبر الأنسابا ... ومن رأى أفعاله أعابا إذ الأنام كلهم من طين ... والشرف الأعظم حفظ الدين وبعده فالعلم والآداب ... من غير أن يدخلها إعجاب وإن يكن ذا نسب عريق ... فهو أجل ذلك الفريق وقد يغطى الشخص بالمعارف ... نسبه في أكثر المواقف والعلم حقاً فضله يزيد ... فذاك سلمان وذا يزيد والغبن كل الغبن للإنسان ... خسارة العلوم والإيمان فنسأل الله تمام النعمة ... ومنناً تشملنا ورحمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقد أردت أن أعد نسبي ... للحفظ لا للفخر يا ذا الأدب وإنني أحقر من أن أذكرا ... أو أن أكون في الورى موقرا لكن بقدر طاقتي أقول ... والعفو من ذي همة مأمول ونبتدي الآن بما قصدنا ... وما بذا الإرجاز قد أردنا فأشرف الأنساب ما كان إلى ... خير النبيين الكرام أوصلا وإنني بحمده تعالى ... بلقبي واسمي وجدت فالا محمد اسمي الأمين لقبي ... كذا أتى محمد اسم أبي ومولدي أرخ غلام مفلح ... في وقته حكاه حبر صالح مسكننا معرة النعمان ... ومعدن السخاء والإيمان ووالدي المذكور مفتيها ومن ... غدا على شرع النبي مؤتمن كم نشر العلم بها وعلما ... وقام بالإصلاح لما سلما إليه في محفلها يشار ... وهو بها للكل مستشار ينصح للدين وللولاة ... وللرعايا سائر الأوقات وكان بالصلاح غير متهم ... وفي جميع القطربدراً وعلم مدرس في الدولة العلية ... خليفة للسادة الصوفية يخدم سبعة من الطرائق ... في رتبة الإرشاد والحقائق عليه جزؤ من فراشة الحرم ... وروضة المختار أشرف الأمم والده كان إماماً صالحا ... خطيب قومه وفيهم فاصحا يعرف بالعابد للوهاب ... أبوه إسحق بلا ارتياب كذا أبوه عابد الرحمن ... وحسن أبوه بالإعلان والده محمد الجندي ... وذكرنا الآن بذا محكي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وهو ابن أحمد بن إبراهيما ... أبوه ياسين غدا كريما قطب لقد شرف بكفالونا ... إذ كان في أرجائها مدفونا بقرب إدلب وفيها قوم ... ما في انتسابهم إليه لوم شهرتهم بالجوهري تعرف ... وهم بأثواب الصلاح شرفوا همو بنو أعمامنا بلا خفا ... وكلنا غدا بذا معترفا ثم أبو ياسين إبراهيم ... وهو ابن عبد الله يا فهيم والده عبد الكريم الزيني ... أبوه أحمد شهاب الدين يعرف بالمكي والسواح ... وهو الذي جاء لذي النواحي ابن الأمير وهو عبد الله ... ابن الأمير يوسف ذي الجاه والده عبد العزيز السامي ... وهو ابن منصور الأمير النامي وهو أبو جعفر الخليفة ... منتصر بالله دون خيفة ابن محمد الأمير الظاهر ... وهو ابن أحمد الأمير الناصر ابن الأمير حسن الخليفة ... أبي محمد جمال الكوفة ابن الأمير يوسف المستنجد ... بالله وهو ابن الفتى محمد خليفة يقفو لأمر الله ... ابن الأمير أحمد المباهي وهو ابن عبد الله والمقتدر ... لقبه وفضله لا يحصر خليفة أبوه بالذخيرة ... محمد يعرف بين الخيرة وهو ابن عبد الله أعني القائما ... لله بالأمر وكان راحما ابن الأمير أحمد الخليفة ... شهرته بقادر معروفة وهو ابن جعفر بن جعفر وذا ... أبوه أحمد وعنه أخذا ابن الأمير طلحة بن جعفر ... ابن محمد سراج الأعصر يعرف بالمعتصم الكرار ... والأسد الغضنفر المغوار وهو ابن هارون الرشيد من غدا ... بنوره في الخافقين يهتدى خليفة قام لهذا الدين ... بالنصر والتأييد والتمكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وهو ابن من لقب بالمهدي ... محمد ذي المشهد السني وهو ابن عبد الله والمنصور ... لقبه وهو به مشهور عمر بغداد كما قد أرخا ... أيامه كانت على الناس رخا ابن محمد وذا بالكامل ... ملقب في سائر القبائل ابن علي وهو ذو النفتات ... لقبه السجاد أيضاً آتي وهو ابن عبد الله بحر الامة ... سراجها في كل مدلهمة وهو ابن عم مصطفى العباس ... من كان شمساً في خلال الناس وكان يستسقى به الغمام ... ولحماه يلجأ الأنام ومدحه قد جاء في القرآن ... وكم حديث صح في ذا الشان وهو من أصحاب العباء مره ... وكم تحامى المصطفى وسره مسكه بيده الشريفه ... في ملأ صفاته منيفه وقال هذا دون شك عمي ... صنو أبي وهو دمي ولحمي فمن يواليه فقد والاني ... ومن يعاديه فقد عاداني وحفظ حرمتي بحفظ حرمته ... وأشهد الله على مقالته ولو أردت ذكر ما قد وردا ... في مدحه لطال ذلك المدى لكنني اختصرت واختصاري ... لاشك فيه بلغة للقاري ولنرجع الآن إلى ذكر النسب ... وعد هاتيك الجدود والعرب وإن يكن ذلك أمر مشتهر ... لكن على السالك أن يقفو الأثر فاسمع هديت سبل الرشاد ... ومن هنا أشرع بالمراد فوالد العباس عبد المطلب ... وهو ابن هاشم إليه قد نسب والده عبد مناف بن قصي ... ابن كلاب مرة له أبي وهو ابن كعب بن لؤي يا فتى ... أبوه غالب بن فهر ثبتا وقيل إن ذا قريش وعلى ... أصح الأقوال بنوه الأصلا وهو ابن مالك أبوه النضر ... ابن كنانة كرام طهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ابن خزيمة الذي أبوه ... مدركة كذاك حرروه والده الياس جده مضر ... ابن نزار بن معد الغرر وهو ابن عدنان وهذا آخر ... ما صح في الأنساب وهو ظاهر وبعده فاترك مقالاً زورا ... وكن على ما قلته مقصورا وفي الحديث كذب النساب ... ما فوق عدنان وما أصابوا لكنني أذكره استطرادا ... ليستفيد منه من أرادا وليس مقطوعاً به لما سبق ... وإنما عليه جمع اتفق وجاء في أكثره اختلاف ... وسرده في مثل ذا إنصاف وإنني أذكر باختصار ... كيلا يطول فيمل القاري أقول عدنان أبوه أد ... وأدد يتلوه إذ يعد وأدد بن اليسع المحترم ... ابن الهميسع الكريم العلم ابن سلامان بن بنت بن حمل ... وهو ابن قيذار بلا بسط جمل وهو ابن إسماعيل نخبة العرب ... وقطب محراب المعالي والرتب ابن الخليل وهو إبراهيم ... صلى عليه ربنا الرحيم أبوه ناراح وقيل آزر ... كلاهما شخص ولا تغاير وهو ابن نامو ربن ساروغ كما ... رأيته بخط بعض العلما فرغو بن قالغ بن شالح ... ألحق به أرفخشذ في الراجح وهو ابن سام بن نوح النبي ... وهو بن لامح كما في الكتب ولامك ولمك أسماء ذا ... فإن تجد أحدها لا تنبذا واسم أبيه متوشلح إلى ... أنوش أعني نجل شيث وصلا وشيث ابن آدم أبي البشر ... وزوجه حوا كما قد اشتهر وإن ذا أقرب ما رأيته ... وعن ذوي التاريخ قد رويته فاحفظه غير جازم بصحته ... واقصر إذا سئلت عن تلاوته وإنني أستغفر الله فلا ... يبعد أن في مقالي زللا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ثم الصلاة والسلام الأبدي ... على النبي الهاشمي محمد أفضل أهل الأرض والسماء ... وأشرف الجدود والآباء وآله وصحبه الكرام ... والحمد في المبدأ والختام فقد علم من النظم أن المترجم قد ولد في مدينة معرة النعمان سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين وتربى في حجر والده، ثم إنه في سنة مائتين وأربعين سافر مع والده إلى حمص، وأقام معه بها إلى سنة ثمان وأربعين، وكان قد حفظ تلك المدة في الإقبال على الطلب في فنون متعددة على والده وغيره، ثم عاد مع أبيه إلى الوطن، ولم يزل على طلبه وترقيه إلى عام ثلاثة وخمسين، فتقلد القضاء في المدينة المرقومة، وكان يظن أن ذلك يكون له منحة عظيمة، فكان له محنة وبلية جسيمة، فتعارك مع الأقران، وتخاصم مع نواب ذلك الزمان، وتعاقبت عليه الغوائل، فألقته في بحر عميق بلا ساحل، فلم يكن له ملجأ سوى صاحب الرسالة، وحاشاه أن يهمل أقاربه وآله، فخلصه الله من كروبه، وأوصله من خذلانهم إلى مطلوبه، ولذلك كان كثير التوسل بجنابه، دائم الصلاة عليه وعلى آله وأصحابه. وقد اجتمع بكثير من الأدباء، وعددٍ غزير من العلماء، من أكابر سادة عصره، الكائنين في مصره وفي غير مصره، كالعالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، السيد الشيخ وفا أفندي الحلبي المتوفى في أواخر شهر ربيع الأول سنة ألف ومائتين وأربع وستين، وكالعالم الأديب الأريب الشيخ أمين أفندي الجدندي الشاعر الماهر المشهور، وغيرهما ممن طاب في الأنام ذكره، وطلع في أوج الرفعة بدره، وفي يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة الحرام، سنة إحدى وستين حضر إلى الشام، مطلوباً من واليها هو وأبوه لأمر سياسي اقتضى ذلك، وفي نصف صفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الخير سنة اثنتين وستين حضر فرمان مرسوم سلطاني بإقامتهما في الشام، وداما في هذه الغربة إلى غاية شهر المحرم الحرام، سنة ثلاث وستين ومائتين وألف فحضر الفرمان العالي بإطلاقهما بهمة محمد نامق باشا مشير الأوردي الهمايوني الخامس، فخرج مع أبيه من دمشق يوم الاثنين رابع وعشري صفر من السنة المرقومة، ودخلا إلى المعرة يوم الاثنين غرة شهر ربيع الأول، وتوجه على أبيه منصب الفتوى وعليه منصب القضاء، بعد عزلهما من هذين المنصبين من حين طلبهما إلى الشام، وفي سنة ألف ومائتين وأربع وستين رابع عشر شوال يوم الاثنين توفي والده، واسترحم عموم الأهالي بوضع المترجم مكانه مفتياً، وكان إذ ذاك شيخ الإسلام أحمد حكمت عارف بك فتوجه عليه الإفتاء من غير مهلة، ولم يزل مفتياً إلى أوائل المحرم سنة ست وستين، وفي هذا التاريخ حضر له رسالة من صاحب الدولة محمد أمين باشا مشير الأوردي الهمايوني الخامس الجيش السلطاني يأمر المترجم بحضوره إلى الشام، ليكون كاتب عربي الأوردي المرقوم، فبعد الاستعفاء المقابل بعدم القبول، حضر إلى الشام في غرة جمادى الأولى من السنة المرقومة، وحصل له جاه وقبول عند المشير المومأ إليه لما حاز عليه من الأوصاف المرغوبة، والألطاف المطلوبة، والمعارف الكاملة، والعوارف الشاملة، ولم يزل عنده معظما منظما، إلى أن توفي المشير المومأ إليه رحمه الله وذلك في اليوم الثالث عشر من شهر ذي القعدة الحرام الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ودفن في تربة الشيخ الأكبر في صالحية دمشق الشام ونظم المترجم له أبياتاً كتبت على بلاطة قبره وهي: بشرى دواماً للمشير أمين ... نال المنى بجوار ذي التمكين بحر العلوم العارف الغوث الذي ... هو قطب مركز عالم التكوين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 شمس أضاء الكون نور سنائها ... ويتيمة ما ثنيت بقرين ختم الولاية للبداية وارث ... كنز على الأسرار غير ضنين قد كان يعشقه المشير بطبعه ... عشقاً تخلص من ربا تلوين والفضل يعرفه ذووه بلا مرا ... وكفى بهذا القدر من تحسين والمرء يحشر مع محبيه أتى ... في سنة الهادي البشير أمين ولذا أشرت إلى الضريح مؤرخاً ... هذا حبيب الشهم محيي الدين وبقي في مصلحته وكتابته لدى كل مشير بعد موت المشير المرقوم إلى أن حضر عبد الكريم باشا في سنة ثلاث وسبعين ومكث مدة قليلة ثم عزل عن الأوردي الخامس وتوجه لعهدته ارد والأناطولي فاستصحبه معه بوظيفتي الكتخداية وكالة الشؤون الخاصة وكتابة ديوانه إلى مركز الارد والهمايوني الجيش السلطاني وهو بلدة الأرزنجان، فأقام هناك دون أربعة أشهر ثم توجه بالإذن إلى طرابزون ومنها في البحر الأسود إلى دار السلطنة العظمى وكان دخوله يوم عاشر المحرم سنة أربع وسبعين فأقام خمسة أشهر، ثم حضر إلى الشام إلى مصلحته الأولى وهي كتابة العربي في أردو وعرب ستان، ثم في سنة ست وسبعين في نصف شهر جمادى الأولى عاد لدار السعادة حيث أن الصدارة العظمى أحيلت لعهدة قبريسلي زاده محمد باشا لوعد كان وعده به، وبعد وصوله بأيام قلائل عزل الباشا المشار إليه، فأقام المترجم أربعة أشهر وعاد لمأموريته بدمشق، وكان المشير إذ ذاك في الشام أحمد باشا الشهيد. وفي أثناء تلك السنة حصلت وقعة النصارى في جبل لبنان ثم في الشام، فعينت الدولة لإصلاح سوريا حضرة ناظر الخارجية فؤاد باشا مأموراً مستقلاً فوق العادة، وعند حضوره إلى دمشق استخدم المترجم بمعيته ثم بإعضائية مجلس فوق العادة، وبعد ذلك انتخبه إلى فتوى الشام، وورد له المنشور العالي في نصف شهر جمادى الأولى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 لما تولى ولاية الشام محمد راشد باشا وقع بينه وبين المترجم اغبرار، فأنهى الوالي المذكور بعزل المترجم من الإفتاء وإحالته لعهدة محمود أفندي الحمزاوي، فحضر له المنشور في نصف شهر رمضان المبارك سنة أربع وثمانين ومائتين وألف، وأقام المترجم المذكور في بيته إلى أن صدرت الإرادة السنية بتشكيل مجلس كبير في دار السعادة يكون مرجعاً لكافة المجالس الداخلية والخارجية، وسمي بشورى الدولة ورئيسه صاحب الدولة مدحت باشا، وقسم هذا المجلس إلى خمس دوائر العدلية والملكية والمالية والنافعة والمعارف، ولكل دائرة رئيس يسمى معاوناً للرئيس الأول وهو مدحت باشا المشار إليه، فوظفت الدولة العلية المترجم المذكور في شورى الدولة، فخرج من الشام في يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومائتين وألف وكانت عضويته في دائرة الملكية، ثم توجهت عليه باية مولوية مكة المكرمة مع النيشان الوسام المجيدي من الرتبة الثالثة، وذلك في السابع والعشرين من شوال المكرم سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، وفي غرة ذي القعدة من السنة المذكورة توفي ولده محمد زكي افندي، فأخذ المترجم رخصة أنه يتوجه إلى الشام، ويبقى نحو أربعة أشهر لتنظيم أمر بيته، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة ست وثمانين، وبعد مضي المدة المذكورة توجه إلى الآستانة بجميع عياله، وفي رمضان سنة سبع وثمانين عصى على الدولة أمير جبل عسير المجاور لليمن المسمى محمد باشا بن عائض، وجمع كثيراً من قبائل العربان، وحاصر بلدة الحديدة التي هي مركز المتصرفية، وصدرت الإرادة السلطانية بسوق فرقة من العساكر النظامية من دار السعادة تحت رياسة رديف باشا الفريق، وتوجيه المترجم قوميسيراً مفوضاً وقاضياً مع الفرقة المرقومة، وقد حصل للمترجم تأخر بسبب مرض أصابه، ثم جاءت أخبار بظفر العساكر بالأمير المرقوم وإعدامه وتشتيت أعوانه وجنوده، وبسوء حال علي باشا شريف متصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 اليمن، فأمر الدولة العلية بإرسال مأمور لتحقيق أحوال الباشا المشار إليه وغيره، فانتخب مجلس الوكلاء المترجم لذلك، وصدرت الإرادة السلطانية بتوجيهه، وعين له خرج طريق خمسة وسبعون ألف قرش ما عدا المعاش، ثم ضم إلى ذلك مأمورية رياسة مجلس تشكيل ولاية اليمن، بمعاش عشرة آلاف قرش، فذهب إلى هناك في ذي القعدة سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين، وبقي هناك مدة موفقاً محترماً، ثم إنه استعفى بعد مدة لعدم موافقة المحل لمزاجه وصحته، وحضر إلى الشام معدوداً من أفاضلها وذوي فضائلها، إلى أن دعته المنية، للمراتب العلية. وذلك في أواخر محرم الحرام الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين، ودفن في جبانة مرج الدحداح رحمه الله تعالى. ومن قصائده التي هي في كعبة الحسن معلقة، وأشعاره التي تفوق على السلافة المعتقة، قوله مادحاً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيدنا الإمام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: إذا ما رماك الدهر بالبؤس والضر ... فكن مستجيراً بالإمام أبي بكر خلاصة أصحاب النبي بلا مرا ... وأولاهم من بعده صاح بالأمر وأفضل أهل الأرض بعد محمد ... وبعد النبيين الكرام بلا نكر صديق صدوق في المحبة كيف لا ... وما افنك عنه في الحياة وفي القبر ولم يتلعثم بالإجابة عند ما ... دعاه إلى الإسلام خير الورى الطهر وأخبره عما رأى في منامه ... قديماً وما قصته كاهنة العصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فقال نعم والله إنك صادق ... وإنك أنت المصطفى من بني فهر وأنت رسول الله للناس كلهم ... وخاتم كل الأنبياء إلى الحشر وفي ليلة الإسرا بتصديقه به ... غدا أمة والناس في غفلة الكفر وبالنفس والأموال جاد ولم يزل ... مطيعاً لما يقضيه كالولد البر وفي الغار ثاني اثنين والله ثالث ... بنص كلام الله في محكم الذكر بصحبته رب البرية شاهد ... وذلك عند الله من أعظم القدر وفي يوم بدر في العريش رفيقه ... وحاجبه حرصاً عليه من الغدر مساعيه في الإسلام جلت فلم تكن ... تقدر أو تحصى بعد ولا حصر هزبر له في همة الدين نصرة ... وعزم شديد يجعل السر كالجهر وفي مدحه كم من حديث مصحح ... رواه لنا حبر يحدث عن حبر فمنها أبو بكر أياديه لم تزل ... علي وما كافأته آخر العمر ولو كان بعدي مرسل لم يكن سوى ... أبي بكر الصديق في غاية الفخر ويوم وفاة المصطفى حين أخطأت ... من الناس آراء لدى كل ذي فكر فمن قائل لا تخبروا بوفاته ... مخافة أن يرتد قوم على الاثر فما هو إلا أن دعا الناس مسرعاً ... وقام خطيباً بالمحامد والشكر وقال ألا من كان يعبد أحمداً ... فقد مات إعلاماً لمن كان لا يدري ومن كان منكم يعبد الله مخلصاً ... له الدين بالإيمان من عالم الذر يحقق أن الله حي منزه ... عن الموت قيوم على كل ذي أمر وقد قال في التنزيل أن محمداً ... رسول خلت من قبله الرسل في الدهر ولما أتم الآية استرجع الورى ... كأنهم لم يسمعوها من الذكر وقوى قلوب المؤمنين بوعظه ... وأذهب عنهم غصة الخوف والقهر فبايعه أهل التكلم بعد ذا ... وخابت ظنون المشركين من المكر وقام بتجهيز الرسول ودفنه ... فكم طفقت عين على فقده تجري وأمضى غزاة باشر المصطفى بها ... فكانت بحمد الله فاتحة النصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وجاهد أهل البغي بالسيف عندما ... تعدوا إلى نقض الشريعة بالكبر وأجرى له الباري عوائد فضله ... وأيده بالنصر والفتك والأسر خلافته كانت على الناس رحمة ... وأحكامه أحلى من الشهد والقطر وباغضه لاشك يقتل كافراً ... وإن صام أو صلى إلى البيت والحجر فنساله سبحانه أن يعيذنا ... من الشك والإشراك والبغض والإصر ويحشرنا في زمرة المصطفى غداً ... ويجعلنا من قومه السادة الغر عليه صلاة الله ثم سلامه ... وسحب الرضا تنهل بالعز والبشر على الآل والأصحاب ما أهدت الصبا ... إلينا أحاديث الأحبة إذ تسري وما غربت شمس وما ذر شارق ... وما دامت الدنيا إلى آخر الدهر وقال رحمه الله يمدح السلطان عبد المجيد خان بن المرحوم السلطان محمود خان العثماني ويذكر فيه أجلاء المصريين الذين هم تحت رياسة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من البلاد الشامية والساحلية وكان ذلك في شهر رمضان المبارك عام ستة وخمسين ومائتين وألف فقال هجم السرور على الأنام مبسملاً ... والنصر جاء مكبراً ومهللا ضحكت ثغور المسلمين وطالما ... بكت العيون دماً عبيطاً مشكلا غارت ينابيع الفجور وفجرت ... أنهار عدل ورد مشربها حلا وذيول أرجاء الممالك طهرت ... من لوث بغي الخارجين عن الولا والله أيد دينه بخليفة ... نشر المراحم في البسيط على الملا ملك به افتخر السرير وأخمدت ... بجلوسه فتن بها الكون امتلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 من آل عثمان الأكارم من بنوا ... في المجد بيتاً لا يزال مؤثلا قوم بهم قامت دعائم ديننا ... ولجيشهم فتح البلاد مسهلا والأرض ميراث لهم من ربها ... نص عليهم في الكتاب تأولا خلفوا بني العباس في إخلاصهم ... فغلا بهم قدر الشريعة بل علا قاموا بأعباء الخلافة حسبما ... يرضى المهيمن مجملاً ومفصلا لا غرو إذ هم من سلالة هاشم ... نسباً وأفعالاً فدع من سولا فولاؤهم حفظ لأهل الأرض من ... خلف كما جاء الحديث مسلسلا فالحمد لله الذي قد خصنا ... بخليفة منهم به الكرب انجلى وهو الإمام الماجد الشهم الذي ... فاق الملوك مهابة وتفضلا بحر إذا سعت العفاة لبابه ... وغضنفر تخشاه آساد الفلا وسع الأنام مراحماً وبعدله ... أضحى الزمان مجملاً ومجللا مولى رفيع القدر قد نسخت به ... آي الخلاف واثبتت آي الولا سبحان من جعل التقى جلبابه ... والحلم والبأس الشديد له حلى ذو همة بالحق عالية الذرا ... لو قابلت أعلى الجبال تزلزلا نعم الإله به علينا جمة ... عن شكرها قصرت عبارات الملا وصف الخلافة مذ تشرف باسمه ... عنا جلا خطباً جسيماً معضلا عبد المجيد بمجده شهدت لنا ... أفعاله لا زال بدراً أكملا لاشك يا مولاي أنت مؤيد ... والنصر فأل قد أتاك مهرولا أنا قد خدمتك بالمديح مقدماً ... في مدة يخشى بها أن يقولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأبحت نفسي في سبيلك حسبة ... لله لا أبغي بذلك معدلا والآن قد آن المديح وإنني ... سأجيد مدحاً لن يتمثلا فاقبل لعبدك مدحة جاءت على ... عجل ولا تقطع رجا من أملا والحمد لله العظيم وشكره ... فرض علينا حيث أحيانا إلى يا رب بالذات العلية ثم بالمختار ... أفضل من دعا وتوسلا وبآله والصحب طرا سيما ... من قام منهم بالخلافة أولا وبتاليبه وبالوصي وزوجه ... وابنيه ثم بني بنيه على الولا بالتابعين وبالأئمة كلهم ... وبكل حبر في العلوم تغولا بالقطب عبد القادر الأسد الذي ... عنت الرقاب له وحل المشكلا وبكل قطب نال منك كرامة ... وكسوته بالقرب ثوباً مسدلا بالأولياء جميعهم وبمن غدا ... وجه الزمان بنورهم متهللا وبكل عبد قد أجبت دعاءه ... وبمن تجيب إذا دعيت به الملا أيد أمير المؤمنين وحزبه ... وأدم له منك السعادة والعلا وانصره نصراً يا قدير مؤزراً ... واجعل له فتح البلاد مسهلا وأطل بقاه مدى الزمان وعمره ... لنرى منار الدين مرتفعاً على ألهمه في حق العباد مراحماً ... واسلك به سبل التقى كي يعدلا واقمع بسيف القهر كل معاند ... واهدم بناء المشركين وعجلا واجبر بأنظار الخليفة كسرنا ... والطف بنا لطفاً عميماً مسبلا ثم الصلاة مع السلام على الذي ... بمديحه جاء الكتاب مرتلا والآل والأصحاب والأتباع ما ... وقف الحجيج معرفاً وتحللا أو ما الأمين غدا يؤرخ مرجعاً ... هجم السرور على الأنام مبسملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقال رحمه الله متغزلاً في واقعة حال ولكنه زاد ما لم يقع تونيقاً على عادة الشعراء، وهذه القصيدة ألطف ما قاله: بدا وجهها في ظلمة الليل كالبدر ... ونم عليها عابق الطيب والعطر وبشرنا بالوصل عند ابتسامها ... بريق ثناياها الشبيهة بالدر نهضت إليها فانثنت بلطافة ... تقبلني والدمع من شوقها يجري وقالت عسى عصر الصدود قد انقضى ... فقلت وقلبي بالغرام على جمر فديتك ما للعتب يدخل بيننا ... فقد كان ما قد كان في سالف الدهر فإن أويقات الوصال قصيرة ... فلا تشغليها بالتذكر والفكر فإن كان قطع الود منك فإنني ... عفوت ومني إن يكن فاقبلي عذري فما لذ للعشاق وصل ممحض ... من الصد والتعنيف والبعد والهجر ألم تدر أن الدر عز لأنه ... على خطر من يبتغيه من البحر وما ضرنا ما قد لقينا وأننا ... بلغنا ذرى الآمال في آخر الأمر فهيا بنا نقضي من البسط حظنا ... ودع ما جرى في الكون من بعدها يجري وعانقتها فانضم ثغري لجيدها ... وألصقت النهدين منها إلى صدري وعاد لها طوقا ذراعي وتارة ... وشاحاً وآناً كالنطاق على الخصر وظلنا ندير الراح اشرب سؤرها ... وتشرب سؤري ثم تجلس في حجري ونقلي لماها والمثاني حديثها ... ومصباحنا عقد يضيء على النحر نميل نشاوى كالقضيب يهزه ... نسيم ونحصو ثم نغرق بالسكر أوسدها يمناي ثم تضمها ... يساري كما انضم الكمام على الزهر إلى أن أراد الصبح أن يستفزنا ... وقامت جيوش الليل من غيظها تسري أفاقت وقالت حان وقت افتراقنا ... ونم علينا للرقيب سنا الفجر فقم نتزود للوداع فما عسى ... يعود لنا هذا التواصل في العمر فما راعني إلا بكاها وقولها ... فراقك في قلبي أمر من الصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فودعتها والدمع مني مسلسل ... على صفحات الخد كالوبل والقطر وقلت بحقي يا مليكة مهجتي ... وبالغنج من عينيك والكحل والسحر وبالخال والثغر المنضد واللما ... وعقد حباب فيه أبهى من الدر بحق الدجا من شعرك الفاحم الذي ... به ضل رأيي واستقام به شعري بفرقك ذي الإشراق والنور والبها ... وما قد تلا من آية الفتح والنصر بألماس جيد ثم لين معاطف ... ومياس قد فاق عسالة السمر بساعة أنس منك نلت بها المنى ... ودارت علينا أكؤس الراح والخمر بعزك يا أخت الشموس وذلتي ... لديك غراماً تم بالشفع والوتر دعي الهجر بعد الآن واستعملي الوفا ... وعودي بوصل واغنمي وافر الأجر فقالت منائي قر عيناً فإنني ... بحبك في قيد المهانة والأسر ولا برحت خدي لنعلك موطئاً ... إلى أن يليني رائد الموت للقبر فودعتها بالضم ثم لثمتها ... ثلاثاً وسبعاً ثم عشراً على الاثر وجرت رداها ثم سارت وأودعت ... فؤادي غراماً لا يقدر بالحصر فيا ليلة ما مر في العمر مثلها ... ترى هل تعودي عن قريب ولا أدري سلامي على ربع الأحبة كلما ... ترنم شاد حين هيجه قمري وكتب مراسلاً بعض أحبابه ولما بان من أهواه عني ... فقد تصبري وعدمت رشدي وواصلت السهاد لفرط شوقي ... وأجريت الدموع لعظم وجدي وعللت الفؤاد فقال دعني ... فما التعليل والتسويف مجدي ومالي من دواء غير قربي ... لمن أهواه في فرح وسعد وإن طال المطال عدمت روحي ... وعز عليك يا مولاي فقدي وإن وافيتني من غير مطل ... غنمت الأجر واستبقيت ودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ومن نثره في خطبة ديوانه رحمه الله تعالى قوله: لما كان لكل إنسان عين من الشعر إن حركها فارت، وإن تركها غارت، وكنت قد حركت عين شعري، فبضت بقطرات قليلة، رجوت أن تكون لتذكاري فيما يأتي وسيلة، وإن كان الشعر ليس بمزية يحق بها الافتخار، فليس هو في حد ذاته منقصة توجب الاحتقار، حيث جاء بنص الكتاب مدح بعض الشعراء وذم البعض، وقد تدور عليه الأحكام الأربعة بحسب الإبرام والنقض، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مدح فأجاز، وأمر بهجو قوم هجوه بضرب من الأرجاز، فقال اهج بإحسان، نصرك الله يا حسان، وقد ورد في مدح الشعر والشعراء، من الأحاديث والأخبار ما يفوت درجة الاستقصاء، وقد قال بعضهم الشعر ديوان العرب وبه عرفت الأنساب. وقال سيدي عمر بن الوردي المعري رحمه الله تعالى: انظم الشعر ولازم مذهبي ... فاطراح الرفد في الدنيا أقل وكان في هذا الزمان قد كسد سوقه، ويبست عروقه، ونضب ماؤه، وسكن هواؤه، وانفقدت دواعيه، وخسر بائعه وشاريه، حتى حق لأهله أن يتمثلوا بقول ابن المعتز رحمه الله: قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب أنه لا يشترى ... ومع الكساد يخان فيه ويسرق هذا وإن الشعر لا يخلو من تشحيذ الأذهان، وترقيق الطباع وتسلية الأخدان، ولم يزل صاحبه منتصفاً من الزمان، مستعيناً على طوارق الحدثان، وكنت منذ ميزت، وجدت والدي حفظه الله تعالى أوحد هذا العصر، في صنعة القريض والشعر، لكنه غير مكثار منه لشغله بالفتوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والتعليم، إذ هو فيهما مرجع أهل الإقليم، فصرت في حالة التعلم أخبط في ذلك، وأقتحم تلك المفاوز والمسالك، إلى أن نظمت ما يقرأ في سن اثني عشر، وقفوت في ذلك من أهل هذه الصناعة الأثر، وإن كان شعري لا يحق له أن يكتب ولا أن يقرأ، لكني أردت أن يكون لي جمعه في هذه الوريقات فيما يأتي ذكرا، والمرجو من الناظر إليه من الإخوان والسادات، أن يغض طرفاً عما يجده فيه من الهفوات، وأن يصلح منه ما هو قابل للإصلاح، فالحر لا يزال صفاح، وإلا فمن أين للإنسان أن يستكمل جميع الأوصاف، وقد يتلافى المرء قصوره بالاعتراف، ورتبت ديواني هذا على مقدمة وأربعة أبواب، إلى آخر ما قال ديوان لطيف، يشهد لمنشئه بالمقام العالي المنيف. ومن كلامه هذا الموشح الذي مدح به السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم شادن تاه على بدر السما ... وتحلى برداء سندس وببيض اللحظ والسمر حمى ... خمر ريق في ثغير ألعس دور يا لقومي من مجيري من رشا ... مستطيل الحكم في أهل الغرام لم يدع فيهم صحيحاً مذ نشا ... غير مطعون بخيزور القوام وله الألباب حقاً والحشا ... عشقاً من قبل أن يخلق سام ووجودي فيه أضحى عدماً ... مذ بأنواع الكمالات كسى وغدا الخد شقيقاً عندما ... عندما سل سيوف النرجس لذ لي خلع عذاري في هوى ... من سبا الألباب في سود الحدق مسدلاً ليلاً طويلاً قد هوى ... وله الفرق تراءى كالفلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وعلى وجنته خالاً حوى ... أمن المسك له الباري خلق بهرمان الخد حاذى عنما ... طاب هذا محتداً في مغرس ما لعمري ذاك من طين وما ... هو نور جاءنا في ملبس دور إن قلبي لحبيبي قد صبا ... وعلى مائدة الحب طفل لم أزل مستنشقاً ريح الصبا ... حيث من دار اللوالي قد وصل أنا إن مت بحبي وصبا ... لم أحل عن عشقه مهما حصل كيف أسلو من إلى العرش سما ... وتدلى للجناب الأقدس في حديث صححته العلما ... ورواه مالك عن أنس دور عين أعيان البرايا والملا ... سيد الرسل ومصباح الهدى من أقام الدين حتى أن علا ... وسقى السم من السيف العدى وأتى بالحق مذ عنا جلا ... ظلمة الشك وأوثاق الردى من عليه الضب حقاً سلما ... وله الظبي شكا فعل المسي كم وكم أبرأ عيناً من عمى ... فاجتنب أفعال أهل الهجس دور أيها العاصي الذي قد غرقا ... في بحار الذنب أسرع مقبلا وتيمم كعبة لن ترتقى ... وهزبراً أسداً لن يبسلا خير من صام وصلى واتقى ... ورقى الذروة من عهد بلى لم يفه قط بلا، لا، أو بما ... لفقير جاءه أو مفلس من يوافيه يلاقي حرماً ... فيه أملاك السما كالحرس دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يا رسولاً للبرايا بعثا ... رحمة أنعم بها من رحمة كل مجد وكمال ورثا ... حسن الخلق عظيم الخلقة طاب لي فيه مديحي والرثا ... تارة خنسا وكالنابغة فتراني في هواه كلما ... قصر الركب حداهم جرسي وإذا أنشدت بيتاً قيل ما ... وضع الرخ مكان الفرس دور لي ذنوب وخطايا حملها ... أنحل الجسم وأعيا البدنا وفؤاد ليس من أهل النهى ... قط عن فعل المعاصي ما دنا فإذا أبصر أوقات اللها ... من وراء الشام يأتي عدنا وعن التقوى تراه نائماً ... مثل ميت في قرار الجدس إن يقل لم ذا يقل كن كيفما ... شئت إلا الشرك لا تأت تسي دور وتمسك بجناب المصطفى ... أحمد الهادي رسول الواحد سيد الكونين حقاً لا خفا ... ماجد من ماجد من ماجد حسبي المختار جدي وكفى ... فهو باب الله كهف الشارد شافع الأمة في يوم الظما ... حين يجثو آدم مع يونس وتراه ضاحكاً مبتسما ... ما به من خيفة أو وجس دور وعليه الله صلى سرمدا ... مع سلام متناه أكمل ما سرى الركب مجداً وحدا ... نحو سلع موجزاً بالرمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 أو محب من غرام عربدا ... كنديم بمدام ثمل وعلى آل وأصحاب نما ... فضلهم مثل شهاب القبس في غدٍ يسقون كأساً ختما ... بختام المسك طيب الأنفس وقال وقد اقترح عليه بعض الأعيان بحماة مدح خال ملاصق لشفة المحبوب: من الزنج خال في رياض خدوده ... أقام زماناً في النعيم المكمل رأى وردة فاقت فرام اغتيالها ... فصادفه وشي العذار المسلسل فقيده في جانب الثغر حارساً ... فوا عجباً لص على الدر قد ولي وفضله شهير ومن أراد معرفة بيانه فليبادر إلى مطالعة ديوانه. أنيس أفندي قصاب حسن الدمشقي عمدة النبلاء، ونخبة النخباء، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده بالنعمة والرفاهية، والراحة والنزهة السامية، وهو من بيت ذي ثروة وغنى، وشهرة موصلة لإدرا المنى، غير أن المترجم المرقوم، قد عاكسه الحظ المشؤوم، فحاربه أوانه وما صفا له زمانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 بل حالفه على العناد، وخالفه في كل مراد، فكان يخدم الحكومة السنية، في الأمور الجزئية، ومن قوله متوسلاً: غافر الذنب وعلام الغيوب ... قابل التوب وستار العيوب راحم الخلق وغوث المذنبين ... ارتجي من عفوه غفر الذنوب ومن قوله مخمساً: خذ نشأة الأفراح قبل ندامة ... والزم أويقات الصفا بسلامة ودع العذول يطيل شرح ملامة ... جمرات همك فاطفها بمدامة وادي العقيق بلونها موصوف شمس محياها الهلال بلا خفا ... راح ثرياها مكللة الشفا البدر ساقٍ والصباح على الوفا ... والكأس زمزم والمقام لنا صفا والحب يسعى والحباب تطوف وقال أيضاً بخد قد حكى ورداً ودرا ... وفا خال بروضته تدرا أقاد لأمرهه مهما تجرا ... ولو أمسى على تلفي مصرا لقلت معذبي بالله زدني وصل شغفي بهجرك بالتأني ... وللعذال فاحذر أن تؤني ولا تسمع ندا ندبي وأني ... ولا تسمح بوصلك لي فإني أغار عليك منك فكيف مني وقال ظبي أنس تم وصفا ... قام يجلو الراح لطفا من بقايا اللثم رشفا ... صبها بالكأس صرفا غلبت ضوء السراج من سناها الحي نارا ... والشجى منها استنارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 مذ رآها الحب حارا ... ظنها بالكأس نارا فطفاها بالمزاج وقال قلوب العالمين صبت إليه ... وقلبي في الهوى رهن لديه وإني من ألست به ولوع ... فيا عشاقه صلوا عليه وقال يا كثير الصد والهجران جد ... لقتيل في هواك اليوم جد بدر تم سلب العقل وقد ... أسر القلب وللقلب وقد ملك الروح عياناً وادعى ... بالذي أبقاه سقمي بالجسد فتش القلب سوى حبي له ... في سويداه حبيبي ما وجد إن تبدى ركع البدر له ... وإذا ماس له الغصن سجد وحد الخال على وجنته ... ولنار الخد رغماً قد عبد سبحت أملاك جفنيه رضا ... وهلال الفرق لله حمد ثغره دراً وطيباً قد حوى ... واللمى ماء الحيا فيه ورد جل من قد صور الحسن به ... وأذاب الجسم في مطل الوعد بعده قد حرم الجفن الكرى ... وادعى لي آية الليل رصد وله ديوان طويل عريض قد نظم فيه أنواع القريض. توفي رحمه الله وأحسن مثواه سنة ألف وثلاثمائة وثمان تقريباً. الشيخ أنيس الحمصي الواعظ رئيس المؤذنين في جامع بني أمية ولد بدمشق الشام، وقرأ على السادة الأجلاء الأعلام، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي وغيرهم وكان تقياً نقياً صالحاً، زاهداً عابداً ناجحاًن كثير البكاء، والخشوع والتضرع في الدعاء، وكان كثيراً ما يقرأ من كتب الوعظ في جامع بني أمية في التركية والعربية. غير أنه كان يغلب عليه الخفة والطيش فلذلك لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 له ثبات على حالة واحدة، فلو مدح إنساناً في وقت بغاية المدح لم يكن وقت مذمته بعيداًن وربما يرتكب هذه الحالة في دروسه العامة فيمضي درسه بين مدح وذم ولم يزل على ذلك، إلى أن أوردته المنية مورد المهالك، توفي يوم ثالث وعشرين من شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 حرف الباء الشيخ بلبل أفندي بن عاشر أفندي الواعظ في جامع بني أمية في دمشق المحمية عالم عامل، وزاهد فاضل، كثير البكاء والخشوع، كأنه على العبادة والتقوى مجبول ومطبوع، وكان له في الوعظ أسلوب حسن، وإلقاء مستحسن، تتأثر منه القلوب، تكاد من تأثرها أن تذوب. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين وألف في اليوم الخامس عشر من المحرم الحرام. الشيخ بهرام بن أحمد العارفي القسطنطيني الأصل الحلبي المولد والمنشأ مقدم الحنفي أحد الأعيان الكتاب في الدولة العثمانية، مولده خامس عشر ربيع الثاني سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، وكان والده من وزراء الدولة والفضلاء المشهورين، وبعد أن قتل تقلبت بالمترجم الأحوال حتى استقر بدار السلطنة القسطنطينية، وتولى بعض المناصب التي تتعلق بأعيان الكتاب، وكان من نبلاء الكتاب وأدبائهم، وله حسن ترسل وإنشاء، ويحب العزلة والإنزواء، ولا يختلط بالناس إلا قليلاً، ولا يتردد إلى أحد من أعيان الدولة ولا من رؤسائها. توفي بعد الألف والمائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 بنية بن قرينس الجربا الطائي من بني طي قوم حاتم الطائي الجواد المشهور، والكريم الذي هو بأنواع الكرم مذكور، الذي يضرب به المثل، وكان لقاصده فوق ما يتعلق به الأمل، نقل الشيخ عثمان بن سند البصري بأن بنية بضم الموحدة وفتح النون وتشديد الياء التحتية وهاء التأنيث وهو من رجال العرب وكرمائها، وله كعمه فارس عند الوزير علي باشا أبهة عظيمة، وصدارة وتقديم. وأما شجاعته فكان يحاكي بها فارس النعامة، وأما كرمه فكان يحاكي به البحر الخضم، وأما منع الجار وحمايته من كل مكروه، ومساعدته على كل مطلوب، ورعاية جانبه بكل مرام، فهو في الذروة العليا منه والناس يحذون حذوه، كأنه قال فيه الشاعر، يصفه ببعض ما فيه من المفاخر: لقد علمت نسوان همدان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول وأما غض الطرف عن جاراته فكأنه فيه البنت العذراء من الحياء، وكان لسان حاله لدى كل داهية دهماء، أو واقعة عظيمة، ينشد قول السموأل بن عادياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل وما قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا يزال طويل وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا ضل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل ونحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول بما قال الكرام فعول وما خمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر مشهورة وحجول وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول فإنا بني الريان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول ونسب هذا المترجم من أشراف قبيلة طي قبيلة حاتم بن عبد الله الطائي، وليعلم أن المترجم عبر من الجزيرة لغرب الفرات عندما تولى وزارة بغداد سعيد باشا، لما بين عمه فارس وآل عبيد الحميريين من الضغائن، لاسيما أميرهم قاسم بن محمد بن عبد الله بن شاوي الحميري، وكان سعيد باشا ولى زمام أموره إليه، فلأجل ما بينن فارس وقاسم المذكورين من الضغائن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 لم يستقر المترجم في الجزيرة، فنزل بعشيرته على خزاعة في تلك السنة ليكتال، وكان بين الدريعي العنزي الرويلي وبينه ضغائن، فاقتفى الدريعي أثر بنية ونزل قريباً منه، وأرسل إلى حمود بن ثامر، فاستنفره لأنه صديق الدريعي، فنفر بفرسان عشيرته لمساعدة الدريعي، وخرج عسكر الوزير سعيد باشا وكبيرهم قاسم بن شاوي، ومعه عفاريت عقيل النجديون، وهم من عسكر الوزير إذ ذاك، لمساعدة من يحارب بنية، فقامت الحرب على ساق، وبنية يكر على الفرسان كأنه الأسد، فبينما هو يطرد بفرسه إذ جاءته رصاصة كانت فيها منيته فحز رأسه وأتي به إلى وزير بغداد سعيد باشا بن سليمان باشا، وذلك سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف. الشيخ بكري بن الشيخ حامد ابن الشيخ أحمد بن عبيد العطار الدمشقي العالم العامل الذي أشرق ضوء شهابه، والفاضل الذي تقتطف البلاغة من إيجازه وأطنابه، والجهبذ الذي أوتي الحكمة وهو شاب، واختار له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 عرفانه سلوك منهج الصواب، فلا ريب أنه مظهر شموس التحبير في التقرير، وخزانة آداب التدقيق والتحرير، ومنهاج من أراد الوصول إلى المعالي، ومعراج من رام الحصول على فرائد اللآلي، حلال المشكلات بثاقب فكره، ومعطر دروس العلوم بنفثات صدره، كيف لا وهو الذي افاد من بدائع الفوائد، ما هو على رسوخ قدمه في بديع البيان شاهد، فلقد تفجرت ينابيع حكمه في كل واد، وأزهرت رياض تقريراته في كل فؤاد، لم يدع من الفنون فناً إلا دخل حصونه، وقرأ شروحه وحفظ متونه، وأما ديانته وعبادته فقد شهد له بها محرابه، وصيانته أقر له بها أترابه وأضرابه، فهو الفريد الآن في عوالي الشمائل، والوحيد لمن رام وقوعه على أنفع الوسائل. ولد سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً، ومن سن تمييزه امتاز على أمثاله، بحفظه وإدراكه وأقواله وأحاله، حفظ القرآن الشريف وهو غلام، وأقبل على طلب العلم بكل اهتمام، فقرأ على علماء عصره الأكابر، وأجازوه بما تجوز لهم روايته عن شيوخهم كابراً عن كابر ومن أجلهم سيدي الوالد، فقد قرأ عليه المترجم جزءاً في الحديث واستجازه، فأجابه لما طلبه منه وأجازه، ولزمه الطلبة للأخذ والاستفادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ولم يكن له سوى الإفادة والعبادة، شغل ولا عادة، مع جمال سيرة، وحسن سريرة، ووفور قدر وسلامة صدر، وسماحة وكرم، وهمة في قضاء مصالح الخلق فاقت الهمم، وبشاشة وإظهار سرور، وغقبال على الناس بغاية الحبور، وفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة سبع وثلاثمائة وألف، توفي ابن أخيه الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الشيخ حامد العطار، وقد انحلت وظيفة تدريس التكية السليمانية التي وظفها السلطان سليمان خان، وهذه التكية هي المعروفة في المرجة، فلقد أمر هذا السلطان المومأ إليه أن يقرأ قارىءٌ درس وعظٍ في كل جمعة مرة واحدة، وله على كل درس ثلاثون بارة، وأن التكية التي بجانب السليمية ويقال لها السليمانية، قد شرط المرحوم السلطان سليمان أن واعظاً يعظ بها في كل جمعة ثلاثة أيام، وله عن كل يوم عشرة دراهم فضة، عبارة عن كل سنة أربعة آلاف قرش تقريباً، قد دام هذا الحال إلى أن وجه هذا الدرس على العالم المفضال جناب المرحوم الشيخ حامد العطار، فجعل الدرسين درساً واحداًن والمعاشين معاشاً واحداً، وجعل قراءة الدرس في السليمية، وقصره على سبعة دروس في رجب وشعبان في كل يوم خميس منهما، ونقله من الوعظ إلى صحيح البخاري الشريف، فحينما توفي الشيخ حامد المومأ إليه، كان ولده المترجم صغيراً فتولاها ابن أخيه الشيخ سليم، ولم يزل قائماً بها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 حين وفاته، وكان قبل موته قد فرغها على أولاده، فادعاها بعد وفاته المترجم المومأ إليه، وادعاها أولاد الشيخ سليم ولكن لدعوى عدم كمال أهليتهم في العلم وجهت إلى ابن الشيخ سليم الشيخ أحمد الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ووضعوا المترجم نائباً عنه إلى حين استعداده وقابليته للقراءة، وحيث أنهم فعلوا الآن كذلك، كان قياس الأمر أن يفعلوا حين توفي الشيخ حامد رحمه الله كذلك، بأن يوجهوها على المترجم المرقوم ويضعوا عنه نائباً إلى حين استعداده، ولكن الله يفعل ما يريد، هو المولى وما عداه عبيد، وفي رابع شوال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف مرض المترجم المرقوم صباحاً ولم يزل يزداد مرضه في ذلك النهار، إلى أن توفي مساء. وكان تشييع جنازته خامس شوال قبيل الظهر، ودفن في تربة الدحداح، وكانت جنازته غاصة بأهلها وتأسف عليه العموم لأنه لم يخلف نظيره رحمه الله تعالى. الشيخ بدر الدين بن الشيخ يوسف بن عبد الرحمن ابن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المراكشي السبتي المالكي المغربي أصلاً الدمشقي مولداً عالم إلا أنه عامل، وفاضل غير أنه كامل، قد اعتصم بحبل السنة والكتاب، وانتظم في سلك المتمسكين بأقوال الصحاب، واختار مذهب السلف الأعلى، ورأى سلوكه أروح لنفسه وأولى، لاتفاق الكل عليه بأنه أسلم، وحيث كان كذلك فهو أولى من غيره وأقوم، لا يخالف صحيح النص وإن خالفته نصوص المتون، وكيف يتبع الرأي ويترك قول الصادق المأمون، فلله دره من عالم عابد، ناسك متصف لا معاند، قد جمع الفصاحة في برود كلماته، والنباهة في مطاوي مبدعاته، إذا أخذ في إلقاء الأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وجدته بحراً عجاجا، وإن تكلم في أنواع العلوم أبدع تقريراً وإنتاجاً، كأنما الأحكام في صدره مرقومة، وعوارف المعارف في خياله مصورة وفي لسانة منظومة، وله حافظة تحصي له كل ما يسمع، وإدراك هو أخف من مر النسيم وأسرع. يقرأ في كل يوم جمعة بعد الصلاة صحيح البخاري في جامع بني أمية، ويزدحم الناس على درسه ازدحام الطالبين على العطية، غير أنه يسرد ما علقه في ذهنه ولا سؤال من أحد ولا جواب، ومن رام إبداء إشكال فلا يجد لدخول حله من باب. وله حجرة في مدرسة دار الحديث قريبة من مقام ابن أبي عصرون، لا تكاد تجدها في وقت خالية من درس في فن من الفنون، وهو لا ينفك في يومه عن صيامه، ولا في ليله عن قيامه، كثير الذكر قليل الكلام، دائم الصلاة على النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. وقد عينت له الدولة في كل شهر ألفاً ومائتي قرش صاغاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الشيخ بكري بن عبد الغني بن أحمد البغال الدمشقي الشافعي نشأ على الصلاح والتقوى، وتمسك من العبادة بالسبب الأقوى، وحفظ القرآن العظيم وجوده، ثم هداه الله لطلب العلم وأرشده. ولد في الشام سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً. وحضر غب كماله، وصلاح أمره وحاله، على شيوخ عصره، في بلدته ومصره، فحضر دروس الفاضل الشيخ قاسم الشهير بالحلاق، والشيخ محمد بن عبد الله الخاني، ثم أخذ الطريقة الخلوتية على المرشد الكامل الشيخ المهدي، واشتغل بالطريق مدة طويلة واعتزل الناس وقل كلامه، وبعد وفاة الشيخ المهدي صحب خليفته الشيخ المبارك، وأكثر من الصيام والقيام والخلوة في مدرسة التعديل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ثم بعد موت المبارك لازم دروس الشيخ الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي، فما قرأنا على حضرة الشيخ كتاباً ولا فناً إلا وحضره معنا، ثم إنه ما مضى عليه مدة إلا وانتقل من حالته الجلالية، إلى حالته الجمالية، فصار فيه دعابة ومجون، وحالة لا تدخل تحت دائرة الظنون، مع لطافة تذهب الكدر والبؤس، وتضحك الجامد العبوس، وألفه الأكابر من الناس، وعده الكثير من الأكياس، لا يتقيد بجلالة ولا تعظيم، ولا يلوم من لا يعامله بالتوقير والتكريم، وكان موظفاً بإمامة جامع عز الدين وتدريسه وخطابته. وفي سنة ألف وثلاثمائة وعشر ذهب إلى الحجاز، وحضر إلى الشام مريضاً، ولم يزل تزداد آلامه، ويختل نظامه، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة ودفن في تربة باب الصغير. الشيخ بدر الدين محمود المرعشي الحنفي أشرق بدره في العلوم واستنار، واشتهر صيته في العالم وطار، مع تقوى تثبت له حسن الطوية، وعبادة لا يقدر عليها إلا ذو همة في الدين قوية، وحضر مجالس السادة، ولازمهم إلى أن بلغ من العلم مراده. وكان له شهرة بمحامد الخصال، وفرائد الشمائل العوال، وكانت ولادته في الشام سنة ألف ومائة وخمس وسبعين، وظهرت عليه مخايل السعادة من صغره، ولم يزل ناهجاً منهج السيادة إلى كبره، وكان قدومه إلى الآخرة، والدار الفاخرة، سنة أربعين ومائتين وألف رحمه الله. بهجت أفندي بن عبد الله أفندي الحلبي القاضي بدمشق الشام أحد العلماء الأعلام، وأوحد القضاة المشهورين في الأحكام، ولد في حلب سنة ألف ومائتين وست وأربعين وسار به والده إلى الآستانة سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 سبع وأربعين، وكان والده أحد قضاة العساكر، فلما بلغ المترجم سن التمييز، قرأ القرآن الشريف وجوده وأتقنه، وأقبل على طلب العلم بهمة قوية. ثم في سنة ستين توجه بمعية والده إلى خربوط، فقرأ بها النحو والصرف والفقه، وأحسن اللغة الفارسية. وفي سنة ثلاث وسبعين توفي والده بمصر وهو متوجه إلى الحجاز، ودفن في جوار السيدة زينب، وذهب المترجم إلى حلب وتولى نقابة أشرافها. وفي سنة ثمانين رجع إلى الآستانة. وفي سنة إحدى وثمانين تعين قاضياً في كرسول، وفي اثنين وثمانين تعين قاضياً في طربزون، وفي ثلاث وثمانين تعين قاضياً في كوزلي حصار، وفي أربع وثمانين تعين قاضياً في مدينة بيروت. وبقي بها أربع سنين ونصف، وفي تسع وثمانين تعين قاضياً إلى طرابلس الغرب، وبقي بها سنتين ونصفاً، وفي سنة إحدى وتسعين تعين قاضياً إلى مدينة ازمير، وحيث لم يوافقه الهواء طلب نقله إلى محل آخر، فعين رئيس ديوان التمييز بولاية قسطموني، وبعد عشرة أشهر نقل إلى رئاسة ديوان التمييز في مدينة حلب، وفي سنة أربع وتسعين تعين قاضياً في ولاية حلب، وفي سنة ست وتسعين رجع إلى الآستانة، وفي رجب منها تعين مفتش عدلية بغداد، ثم بعد سنتين ونصف عزل، فرجع إلى الآستانة، ثم تعين مفتش عدلية طربزون، وبقي بها سنتين، ثم منها إلى مفتشية عدلية أزمير، وبقي بها نحواً من سنتين ثم ألغيت تلك الوظيفة فرجع إلى الآستانة، وبقي بها أربعة أشهر، ثم تولى قضاء جزائر بحر سفيد. وفي سنة ثلاثمائة وسبع تعين بقضاء الشام وبعد سنتين رحل إلى الآستانة ولم يمض قليلاً حتى اخترمته المنية ومات بها في حدود ألف وثلاثمائة وعشرة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الشيخ بهاء الدين بن أخي الشيخ عبد الغني ابن حسن بن إبراهيم البيطار الشافعي الصوفي ألمعي مشهود له بقوة إدراكه، لوذعي سرى في مناهج العلوم مسير القمر في أفلاكه، له نثر كالروض تفتقت أزهاره، وشعر كالصبح تألقت أنواره، لقد أبدع من المعاني الغرائب، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب، ورضع من در العلوم منذ كان وليداً، وحوى من أنواع الفنون طارفاً وتليداً. ولد في خامس عشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وخمس وستين. حفظ القرآن على والده وجوده، ثم قرأ على والده الشاطبية وشرحها لابن القاصح، وجملة من كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والقوافي وغير ذلك من بقية الفنون. ثم قرأ في الفقه والتوحيد والتفسير والحديث ما أثبت له الفضل والكمال، وقرأ على الشيخ الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي علم الجبر والمقابلة والحساب والميقات والفلك حتى برع، وقرأ على عمه الشيخ محمد البيطار جملة من كتب مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، وقرأ علي بعض رسائل الربع المجيب والمقنطر، وله مطالعة وفهم جيد في علم الرمل، ثم أخذ طريق الشاذلية عن الإمام المرشد الشيخ محمد الفاسي، فاشتغل في الطريق ومطالعة كتب السادة الصوفية كالفتوحات للشيخ الأكبر وغيرها حتى صار له ملكة عظيمة وكان إذا أشكل عليه شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يراجع فيه حضرة المرشد الكامل والأستاذ الملاذ الفاضل، الأمير السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 عبد القادر الجزائري. وله من النظم والنثر، ما يزري بعقود اللؤلؤ والدر، ومن كلماته الرقيقة، التي هي الخمر الحلال على الحقيقة، مقامته التي أنشأها في المفاخرة بين الشمس والقمر، ولله درها من مقامة هي أرق من نسيم الصبا في السحر ونصها: حدثنا يسار بن حازم، عن فتح الله أبي المكارم، قال: رويت عن الورقاء بسندها عن العنقاء، قالت نشرت جناح الهمة، وطرت في فضاء الحكمة، ثم عرجت على الرفارف، إلى عالم اللطائف، فلم أزل أخترق حجاباً بعد حجاب، وأستفتح باباً بعد باب، إلى أن وصلت مواطىء الأنوار، وحصلت بمواطن الأسرار، فلما مرحت في مغانيها، وانشرحت بمعانيها، جلت بأعلى مجالي، في وجوه تلك المجالي، فرأيت في مرايا العجائب، ومزايا الغرائب، مجلساً من مجالس السمر، جمع الشمس والقمر، وهما متقابلان في النظر، في ليلة أربعة عشر، فألفت منهما الحديث والنظرة، ودلفت لتلك الحضرة، ثم بادرت بالتسليم، وحييت بالتعظيم، فقالا مرحباً وأهلاً فلقد صادف الغريب أهلاً، ثم أجلساني على موائد الفوائد، وآنساني بفرائد العوائد، ثم شرعا يتناجيان، وقد برعا بسحر البيان، فعاينت ما أخذ بمجامع قلبي، واستولى على عقلي ولبي، من طرائف ألفاظ، أسحر من الألحاظ، وظرائف معاني، هي نزهة كل معاني، فما أحلى ثمر تلك الفكاهة، وما أجلى ذاك السحر والنباهة، وما أرشق هاتيك الفقر، المزرية باللآلىء والدرر، وما آنق تلك الأسجاع، الممتزجة بالطباع والأسماع، لقد رقت وراقت، ودقت وفاقت: كأن سامعها مذ مال من طرب ... بين الرياض وبين الكأس والوتر ثم إنهما لم يزالا في منافثة أطيب من العناق للمشتاق، ومحادثة أطرب من الصبا والبياتي للعشاق. إلى أن جرت بهما سوابح المحاورة، وجرتهما سوانح المحاضرة، فألقتهما من مسالك تلك المسامرة، في مهاوي المهالك ومساوىء المفاخرة، فصعد القمر على المنبر الأزهر، وقال الحمد لله والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 أكبر، هذا جمالي قد زهر، وجلالي قد بهر، لمن شاهد ونظر، وحقق واعتبر، أنا السر الأكبر، والكبريت الأحمر، ذو السناء الزاهي، والضياء الباهي، جليت في أحسن الصور، وانشققت لسيد البشر، وكان يناغيني في الصغر، ويناجيني كما في الخبر، فأنا سلطان الكواكب، وزينة المواكب، أزور غباً، لأزداد في القلوب حباً، فسبحان من حلاني بحلل النضار، وولاني ملك المجد والفخار، وهدى بي في ظلمات البر والبحر، فأنا سيد النيرات ولا فخر، ثم أنشأ وارتجل، وأنشد بغير وجل: أنا قمر المحاسن والسناء ... ولي بين الملا أبهى لواء فوجهي مشرق في الأرض يبدي ... من الأضوا صباحاً في المساء أروق بطلعتي الأبصار أنسا ... وأبهج بالمسرة كل راء يرى شبه الحبيب بي المعنى ... ويشكو ما عراه من العناء وينتظر الملا مجلى طلوعي ... هلالاً بالمسرة والهناء فإن لم يلمحوا مرأى هلالي ... تراهم شاخصين إلى السماء فبي صوم الأنام بكل قطر ... كذاك العيد يبدو من لقائي فالحمد لله الذي قدرني منازل، وصدرني في ميدان السباق وقدمني على كل منازل، وصورني بأكمل صورة وأجمل إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم ختم إنشاء كلامه، بصلاته على النبي وسلامه. فلما سمعت الشمس نثره ونظامه، ووعت قوله وكلامه، زفرت زفرة القيظ، وكادت تتميز من الغيظ، فارتقت عرش اليراعة والجمال، وانتقت فرش البراعة والكمال، ثم قالت بعد أن تجلت ببرود السناء، وتحلت بعقود الحمد والثناء: أنا العروس الناضرة، والعين الناظرة، بي تحلو ثمار لواعب الأدواح، وتبدو محاسن الكواعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الملاح، ويأمن لعمري الخائف، طارق الليل الحائف، وتنسخ بي آية الليل الحالك، وتستنير المسالك لكل سالك، ويمتاز اليقين من الحدس، واليوم من الأمس، ولولاي لم تتحرر مواقيت الصلاة، ولم يتيسر نيل يواقيت الصلات، فتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وأجراني لمستقري بها نزولاً وعروجاً، وجعلني فيها سراجاً وهاجاً، وأوضح لي منها مسلكاً ومنهاجاً، وجل من رفعني مكاناً علياً، وحباني من فضله نوراً جلياً، وأسكنني أوسط الأفلاك، والوسط خير الأمور، ونظمني في سلك العالين من الأملاك، فسائر الأنوار علي تدور، وأحل بفلكي نبي الله إدريس، قطب الوجود في كل زمان، وغيره في هذا المقام النفيس، نائب عنه في هذا الشان، وأقسم بي وبضحاي، وفضلني وأكرم مثواي، فلي القطبية العظمى بين الأنوار، وبطلوعي وغروبي مناط الليل والنهار، ومن مشكاتي أشرق كل نور في العالمين " فتبارك الله أحسن الخالقين " ثم رنت القمر بعين محمرة، ووجنة مصفرة، وقالت عجيب للمملوك يجاري في مسراه الملوك، وللدرهم المصكوك، يباري الذهب المسبوك، أيها القمر القاضي بحدسه، المتغاضي عن معرفة نفسه، كأنك تقول لي بلسان الإشارة إياك أعني فاسمعي يا جارة: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار أما علمت أيها المتغالي في الحد، والمتعالي بما ليس في اليد، أن دعواك في النور محض مين وزور، حيث كنت ليلة الميلاد، مرتدياً برداء السواد، فلم أزل أربك بسنائي وليدا، وألبسك من ضيائي ثوباً جديدا، إلى أن اشتد ظهورك وامتد في الآفاق نورك، فإذا كان ليلة الرابعة عشرة من الشهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أقابلك بكمالي فتكون كامل القدر، فعند ما تم لك مني السنا، جهلتني ولم تدر من أنا، أما علمت أن نورك مني وإلي، وحكمك في الإضاءة عائد علي، فكيف تفتخر علينا بنا، وتسوي في المقام بينك وبيننا، وأما زهوك بالانشقاق للسيد الحبيب، فليس بأعجب من ردى له بعد المغيب. ثم أنشدت بلسان صادع، وأرشدت ببيان بارع: لي رتبة في العلا تسمو بها الرتب ... وأوج مجد له العلياء تنتسب وآية الحسن بالإشراق تشهد لي ... بأن مني جميع النور يكتسب إذا بزغت فلي ملك الضياء وإن ... أغب فعني ينوب البدر والشهب لولاي لم يستقم للناس عيشهم ... ولا بدت لهم الأيام والحقب ولا حلا ثمر ولا نما شجر ... ولا بدا قمر ولا همت سحب عيني أنارت وجود الكون أجمعه ... ومن هداي اهتدى الإعجام والعرب ومن ظلالي مواقيت الصلاة ومن ... غروبي الفطر للصوام يرتقب فلي الكمال الذي حزت الفخار به ... وإن علاني من دوني فلا عجب فلما سمع القمر ما هاله، قال لا دارت لي هالة، إن لم أبرز لك في ميدان السبق، وأبدي شرفي عليك لسائر الخلق، أما سمعت أيتها الشمس، قول بارىء الجن والإنس، " وللرجال عليهن درجة " فأنت بي في الفضل مندرجة: على أنك وسمت بالعين، وقد شاهدت بالعينين " وللذكر مثل حظ الأنثيين " وأعدل شاهد بسبقي لمن اعتبر، " لا الشمس ينبغي لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أن تدرك القمر " وأما ما تعاليت به علي، قائلة أن نورك مني وإلي فالفرع قد يشرف أباه، أحب ذلك أو أباه: إنما الورد من الشوك وما ... يخرج النرجس إلا من بصل فلا غرو أني القمر المنير، ذو الشأن الخطير، بسنائي تطيب القلوب، وعلى ضيائي يجتمع المحب والمحبوب، فالأفراح لا يتم سرورها إلا بحضرتي، والراح لا يكمل حبورها إلا لدى طلعتي، وكم من ذي جفن ساهر، وذهن حائر، وطرف جائل، ودمع سائل، وقلب ذائب، وكرب دائب، يبث لي شكواه، وينث لي بلواه، وكم من كلف يحن إلي، لما يرى من شبهي بالحبيب، ودنف يئن لدي كأني لدائه طبيب، فأنا الشقيق لأهل الحسن والجمال، والشفيق على من صبا عشقاً ومال، إن أنكر المحبوب وجد الحبيب، أجابه سل أخاك فإنه علي رقيب، وما أعذب ما قاله ابن سهل الهمام، في هذا المقام: سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري مع أني شريك ذوي السها دليلا، والهائم معهم بجمال سعدى وليلى، فأنا رئيس ديوان الصبابة، وأنيس من فوق له الهوى سهم الحب فأصابه. فما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي خلا أني أقرب الكواكب إلى عالم الإنسان، وأعذبهم في تمام الحسن وكمال الإحسان، فلذا جمالي باد، لكل حاضر وباد، تقر الأعين برؤيتي، وتشتهي الأنفس شهود طلعتي، فغرتي طالع السعد والبشر، وسمائي موطن آدم أبي البشر، فلتكف الشمس عن مضاهاتي، ولتمسك عن مساجلتي ومباهاتي، ولتحاول غير هذه الشطة، قبل وقوعها معي في أعظم ورطة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ولتعترف بفضلي اعتراف من تنبه غب ماسها، وإن عادت العقرب عدنا لها، ثم شمر عن ساعده الأشد، وضرب بلسانه أرنبة أنفه وأنشد: لي منهج في العلا قد عز مسلكه ... ولي الكمال الذي بالفضل أملكه تمنت الشمس أن تدنو لمرتبتي ... ما كل ما يتمنى المرء يدركه فعند ذلك التهبت الشمس غضباً، وقضت مما سمعته وشاهدته عجباً، وقالت تعاليت علي بالإفك، وتعاميت عن حطتك مذ كنت هلال الشك، وبغيت بغي من ضل وتزندق، وتفرزنت وما أنت إلا بيدق، أوما خجلت من هذا الصلف، مع ما في وجهك من الكلف، وهل أنت مني في القدر، إلا كقلامة الظفر، ومع ما فيك من المحو والنقصان، كمالك لا يفي بتمام الإيضاح والبيان، فأنت نال وأنا متلوة وآيتي مبصرة وآيتك ممحوة وكفاك أيها الخادع الغرار، إن اسمك مشتق من القمار، وأنك عون السارق، وهون العاشق الطارق، تحل أجرة المنزل راجل الدين، فتذل بذلك فاقد الورق والعين، ويلي نورك ثياب الكتان، ويؤول كمالك إلى النقصان، وليت شعري هل لك بظهوري ظهور، وهل محور الدرج والدقائق إلا علي يدور فالزم الخضوع والاستكانة، ولا تطاول من سماك مكاناً ومكانة، فما هلك امرؤ عرف قدره، ولا سلك صواباً من روج مكره وغدره، ولقد بانت حجتك، واستبانت محجتك، فلا تعد بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إلى الحيف، فتكون كمن ضيع اللبن بالصيف والزم الأدب مع أهل الكمال، ولا تك ممن عرف الحق ومال، ثم إنها تاهت تيه نشوان، وفاهت بشبيه الجمان: أنا قد لبست ببهجتي ... خلع الملاحة والطرف وظهرت في أوج العلا ... ببديع حسني والظرف حسب الهلال تكلفاً ... ما فيه من شين الكلف وبأنه لو لم يقا ... بلني لغشاه السدف وإذا تجلت طلعتي ... في ذاته منها انكشف وإذا انحرفت لوجهتي ... في السير أظلم وانكسف فكأنني وكأنه ... في شأو سبق ذي شرف كالدرة البيضاء إذ ... باحالها قشر الصدف فلما أمعن القمر في معانيها، وجال طرف فكره في مغانيها، وثب وثبة الأسد، ونعب نعبة الحرد والغضب، وقال أيتها اللافحة بنار الهاجرة، لأنت التاركة للإنصاف والهاجرة، تزدرينني بسواد الكلف، أو ما دريت أنه من دواعي الحب والكلف، فهل هو إلا كخال توج به الخد المورد، أو كنقطة عنبر صيغت على در منضد، أو عذار يقيم لعاشقيه الأعذار. أو إنسان عين يشير لناظريه بالإنذار، وكأنك لم تسمعي قول من قال، وأحسن فيما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 أهلاً بفطر قد أنار هلاله ... ألآن فاغد على المدام وبكر فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وأرق من هذا في التشبيه، وأدق وألطف في التنبيه، قول من أجاد: يا ريم قومي الآن ويحك فانظري ... وجه الهلال وقد بدا في المشرق كخليلة نظرت إلى خل لها ... فتنقبت خجلاً بكم أزرق ومن هذا القبيل ما قيل: قالوا التحى، فمحا محا ... سن وجهه نبت الشعر الآن طاب وإنما ... ذاك النهار على السحر لولا سواد في القمر ... والله ما حسن القمر وأعدل شاهد لي بكمال القدر، تلألؤ وجهه صلى الله عليه وسلم تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان إذا رآني يقابلني بجميل محياه، ويقول هلال خير ورشد إن شاء الله، فبركاتي مشهورة، والدعوات لدى ظهوري مأثورة، وحزبي هم السادة الأفراد، وصحبي هم القادة الأمجاد، يناجون معي في الأسحار، ويرجون سني النفحات بالذلة والانكسار، " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " وتنهل من عيونهم عيون المدامع، فلا ريب أنهم فازوا بالمشاهدة والوصال، وحازوا أحسن الشيم والخصال، ولي إليهم أياد وأي أياد، حينما يرصدونني للصوم والأعياد. هذا وإن شعاعك أيتها الشمس، يذهب بالسرور والأنس، ينشي الصداع، ويغشى الأسماع، وينفر الطباع، ويثير الداءات والأوجاع، فلا يبدو به انشراح، ولا تشدو به بلابل الأفراح، ومن الذي بشعاعك ترنم، وشدة الحر من فيح جهنم، وكيف لا وسيد الأنام، ظلله من حرك الغمام، وقد صح عن سيد ولد عدنان، طلوعك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 بين قرني شيطان، ففضلي عليك متعين واجب، والعين لا تعلو على الحاجب. فلما وعت الغزالة ما أبداه، ورعت منتهى كلامه ومبتداه، آلت برب المشارق والمغارب، لتجر عنه من كؤوس نقمتها أمر المشارب، ثم قالت إلى متى تتطاول في مذمتي، وحتى متى وأنت غرس نعمتي، فلأجعلنك أيها القمر عبرة لمن اعتبر، ألم أعدك وأنت في ضنا المحو والمحاق، وأعدك للوجود بعد الفنا والاحتراق، وأكسك بعد التجرد حلة البهاء، وأقلدك قلائد التورد والازدهاء، فنبذت شكري وراءك ظهرياً، وتركت بري نسياً منسياً، وجنحت إلى الغرة، واستكبرت استكبار أبي مرة، وقابلتني بكفران النعم، وجازيتني بالعدوان والنقم، فما أراني بعد إحساني الغامر، إلا كمجير عامر. ثم أعرضت عنه ابتذالا، وتمثلت وعينها تتقد اشتعالا أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني ثم نظرت إليه شزراً، وقالت لقد جئت شيئاً نكراً، أتظن أن أحداً بهجائي يعول عليك، أو ينظر دوني بالإقبال إليك، وهو يعلم أن ما فيك من النور ليس من صفاتك، وإنما هو من إشراق سنائي بمرآة ذاتك، وأن ما بدا منك فمعار مني إليك، وكل ناظر بعين الحقيقة فإلي لا إليك، فو الذي أثبتني بالبقا، ومحاك بالفنا، ما ظهر فيك أيها المغرور إلا أنا، فما رأى أحد منك سواي، ولا بدا فيك إلا معناي، ولله در العفيف، إذ أشار لهذا المعنى اللطيف، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 نظرت إليها والمليح يظنني ... نظرت إليه لا ومبسمها الألمى ولكن أعارته التي الحسن وصفها ... صفات جمال فادعي ملكها ظلما وأما إعابتك علي بطلوعي بين قرني شيطان، فهو في الحقيقة عائد لعبادي من ذوي الطغيان، وتظليل الغمام من حري سيد الخلق، فهو لما أودعته من نور جلال الحق، أو ما علمت أن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل أمة، فلي شرب من إشراق تجلي القهار، بشاهد قوله جل من قائل " لا تدركه الأبصار " فانظر لما ألقيته عليك بعين الفهم " ولا تقف ما ليس لك به علم " واطو من بيننا شقة الكلام، فإنها جالبة للطعن والكلام، وأبق للصلح موضعاً ومحلاً، وكف عني لسانك وإلا، فقد لاح الحق لذي عينين، وراح الباغي يخفي حنين، وإن عدت لزخارف عدوانك ومينك، فهذا فراق بيني وبينك. قالت العنقاء: فلما رأيت احتداد الحجاج وامتداد اللجاج، وقد كاد كل منهما من الجدال، أن يتلو سورة القتال، قلت غب أن أحسنت لفظي، وأكثرت نصحي ووعظي، هل لكما في حكم، يفصل بينكم بآداب وحكم؟ فقالا: ومن هو الذي يلقى إليه القياد، في كشف هذا العنا والعناد، فأنبئينا أيتها الناصحة عنه، لنلتقط درر المعارف والبيان منه. فقلت: اللهم بلى، وهل يخفى ابن جلا، إنه لفارس السباق في كل ميدان، وغارس حدائق الآداب لكل قاص ودان، رسائله وسائل المنى لكل عارف، وفضائله جداول الهنا لكل غارف، وملحه قد عذبت حلاوة وانسجاماً، ومنحه ادارت من راحها قدحاً وجاما، كم ركعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 البلغاء لجمال أبكاره الحسان، وسجدت الأدباء لكعبة أفكاره الباهرة كل إنسان، فإن أقر على الرق أنامله، أقر بالرق أدباء الأنام له، تضحك ثغور الأوراق طرباً من بكاء يراعه، وتسجع بلابل الأوراق عجباً من طيب لفظه وسماعه، فلو انتشق ريحانة لفظه ابن نباتة، لاستطاب في ربا البديع نباته، فأين النسيج الحريري من رفيع مقاماته، والغزل الجريري من ترصيع أبياته، فرياض عباراته حياض الشفا لغليل كل عليل، وغياض إشاراته مفاض الصفا وأنس الجليل، فلو امتزج النسيم بنفحة أنفاسه القدسية، لأغنى أهل الرموس عن نفخة النشور، ولو انبلج لأهل الجحيم نور طلعته الانسية، لعرفت في وجوههم نضرة النعيم والسرور، هذا وراحته بفيض نداها السائل، راحة لكل راج وسائل، فلعمري لقد دارت شموس الكمالات عليه، وسارت بدور السعادات إليه، أفديه عبداً إلى الرزاق ذا شيم ... تألقت من سناها غرة الزمن وسيداً من بني البيطار والده ... بدر الهدى حسن ناهيك من حسن فأقبلا على بهيج بابه، وقبلا أريج أعتابه، ثم قدما لمقامه السعيد، مقامة التهنئة بالصوم والعيد، وغب ذلك تساجلاً لديه، وتناضلاً بين يديه، فهو حكم الحكم، ومنتهى الهمم، فعرجا في الحال، واندرجا بحماه العال. فحينما رآهما حيا وبيا، وتهلل بالبشر منه باهي المحيا، وقال مرحباً وأهلاً بالنيرين، ومن هما لجسد الكون كالعينين. قالت العنقاء: فقلت ها أنتما بالمشهد المأنوس، ولا عطر بعد عروس، فلينضح كل منكما إناءه بما فيه، ولينصح نفسه بصدقها في ظاهر أمره وخافيه. فلما سردا لديه المقامة، وودا أن يقيم كلا منهما مقامه، قال: والذي ألبسكما من الجمال أبهاه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومن الكمال أنهاه، ومن الحسن أولاه، أنكما لآيتان من آيات الله، ولأنتما للزمان روحه وجسده، ولعالم الإنسان عضده وسنده، وهل أنت أيها البدر من يوح، إلا كشقيق روح أو ابن بوح، فلم تختلفان وعليكما دار الملوان بحسبان، وما منكما إلا له مقام معلوم، وفضل في الأنام مرسوم، فلا تعودا إلى المشاحنة فإنها تشين النفاسة، ولا يخفى عليكما ما ينشأ عن حب الرئاسة. قالت راوية الأثر: فلقد خاب القلوب ببلاغته وأسر، وأرضى كلاً منهما بما أمضى وأسر، فتهلل وجه كل منهما بالصلح، وتلا سورة النصر والفتح، وتمثل كل وقوفاً بين يديه، واستأذن بشكره والثناء عليه، فقال بسم الله ولا حرج، حيث تم المنى ووافى الفرج، فعند ذ لك ابتدرت الشمس، وأنشدت ما يقر العين والنفس: حياك من فرد وحيد ... يا طلعة الحسن الفريد يا سالياً قلبي العليل ... وسالباً لبي الشريد لولا قوامك مائس ... ما شاقني غصن يميد كلا ولولا راح ثغرك ... لم أهم في حسن غيد لم أبد منك لطائفاً ... إلا حلالي إن أعيد وهواك أقرب للحشا ... والروح من حبل الوريد يا من لأوج صدوده ... قد أعجم الوصل الحميد قلبي الحسين شهادة ... واللحظ منك غدا يزيد أصبو بنجد والعرا ... ق إلى بياتك لو تريد وأنوح نوح الأصفها ... ني كي ترق فلا يفيد وحصار ركب نواك ير ... صدني جهاراً بالوعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 حجز القرار ولم تجب ... عد باللقا فالوعد عيد ضربت بي الأمثال في العشاق من شوقي المزيد وفني جميل تصبري ... لكن شوقي لا يبيد حملتني بهواك ما ... بأقله شاب الوليد قل لي فديتك هل حشا ... ك الصخر أم صلد الحديد أو ما ترى من مقلتي ... دمعاً جرى البحر المديد وتنهدي وتسهدي ... وتشتتي في كل بيد ولقد لقيت من العوا ... ذل كل شيطان مريد كفروا جمالك إذ أبوا ... إلا ضلالهم البعيد فهم لفي لبس بأن ... هواك من خلق جديد تباً لهم أو ليس منهم في الهوى رجل رشيد يا ليت نار الصد تصلي كل جبار عنيد أواه لو لي بالعوا ... ذل قوة الندب الجليد لكفيتهم لكنني ... آوي إلى ركن شديد مولاي أعني العبد للر ... زاق ذا الحسب المجيد لي منه زاهر نسبة ... لكنني أدنى العبيد لله مولى لذ لي ... في وصفه عذب النشيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 كل الوجود على كما ... ل صفاته الحسنى شهيد والدهر طوق من سجا ... ياه الفرائد عقد جيد يا سامياً أوج العلا ... بالحذق والرأي السديد عيد الصيام ببشره ... وافى حماك فلا يحيد فاهنأ ودم في كل عيد ... في صفا العيش الرغيد وإليك في حلل البها ... مزفوفة بكر القصيد حلت سمواً من رفيع علاك في قصر مشيد لم ترتجي إلا قبو ... لك يا ملاذ المستفيد قد أرخت سد بالمنى ... يهنيك بالعيد النضيد فلما فرغت الشمس من أبياتها، وسحرت بباهر آياتها، رفع القمر عقيرته، وأنشد قصيدته: ما للمصاب من الجوى من راقي ... إلا التي زانت بحسن راقي هيفا كجسمي خصرها، وبردفها ... شبه العذول هما جناس طباق جمعت بفاتر لحظها ورضابها ... ضدين من سم ومن ترياق سبحان من أبدى بروضة خدها ... ورداً يفوح بعنبر عباق وأدار من كأس العقيق بثغرها ... راحاً جرت في اللؤلؤ البراق عذبت حلاوة حسنها لكنها ... صداً أذاقتني أمر مذاق هل لي مجير من سهام لحاظها ... هيهات ما لقتيلها من واق ما كنت أحسب قبل وقعة عشقها ... إن المنايا الحمر في الأحداق كيف النجاة من الهوى وشراكه ... والقلب مأسور رهين وثاق يا آل ودي هل لكم في مغرم ... ضربت به الأمثال في الأشواق يرثي له الصخر الأصم إذا بكى ... بمدامع الخنساء في الآفاق يا غادة تشدو جهاراً بالنوى ... من أوجه لمحير العشاق قلبي الحسيني الشهيد صبابة ... حجز البيات وقد صبا لوفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 رصد اللقاء فظل من ركب الجوى ... وحصاره يرثي بنجد عراق عز القرار فهل جواب بالمنى ... إن الوفا من طاعة الخلاق يا وجهها أنت الرشيد هداية ... فارحم فديتك جعفر الآماق لا زلت مسروراً بملك ملاحة ... يحيي بحسنك ناظر المشتاق ما حق قلبي وهو ببيت هواك أن ... يلفى لديك مقطعاً بفراق آليت دهري لا التفت عن الهوى ... إلا لمدحي كامل الأخلاق حبر إذا أبكى عيون مداده ... ضحكت ثغور الكتب والأوراق ذو غرة لو يستجير البدر في ... أنوارها لم يخش جور محاق وشمائل أضحت لجيد زماننا ... عقد الكمال وحلية الأطواق ما دار من راح العلوم وصفوها ... كأس الهدى إلا وكان الساقي كلا ولا في شأو فضل قد جرى ... في فكره إلا سما بسباق طوفان نوح لو حكى إحسانه ... لم ينج إنسان من الإغراق عمت مكارمه البسيطة وارتقت ... أوصافه مجداً لسبع طباق لو رام إمساكاً وحاشا جوده ... لم تستطع يده سوى الإنفاق لو لم يكن عبداً لرزاق الورى ... لدعوته بمقسم الأرزاق سجدت لكعبة عزه هام العلا ... والسعد بين يديه في الإطراق يا سيداً زان الزمان بشيمة ... ساد الأنام بها على الإطلاق هذا هلال العيد أمك بالمنى ... ولأنت فينا عيد أنس باق فاهنأ ودم شمس الهداية طالعاً ... بسما الكمال بلا مغيب تلاق واستجل من فكري عروساً مهرها ... منك القبول فذا أجل صداق قد زفها نظم البهاء مقلداً ... من در وصفك حلية الأعناق وافى بها عيد السرور مؤرخاً ... بالبشر عيد دام والإشراق قالت العنقاء: فهاج بي نسيم الغرام، وماج بي بحر الوجد والهيام، إن أنحو نحو هذا الأثر، وإن أتشبه بالشمس والقمر، لأن التشبه بالكرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فلاح، والتنبه للاقتداء بهم نجاح، فعززتهما بثالثة، وفية بالعهد لا ناكثة: سلاه عن فؤادي هل سلاه ... وكيف وما جنى ذنباً سلاه غزال زانه جيد وفاه ... شرود عجبه يأبى وفاه أقمت على ثناه وليت شعري ... عن الخل الوفي ماذا ثناه بثغر لماه ظل رباط قلبي ... لذا من لحظه الغازي رماه عذابي في جواه يراه عذباً ... وسلبي في هواه غدا مناه فيا تلك الشعور إلا شعور ... بمن في ليلكن نما ضناه ويا ورد الخدود ألا ورود ... فأنت لذي الضنا أحلى جناه ويا تلك الشفاه ألا شفاء ... لمن بسلافكن غدا شفاه لقد طال البعاد ولا سلو ... ولا تغني الشجي الصب آه ألا يا للهوى من لي عذير ... بمن في حسنه العشاق تاهوا عراقي الطباع يبيح ظلماً ... دم الصب الحسيني في هواه صبوت به جهاراً مذ بدا لي ... بأوج جماله وأضا سناه وركب صدوده يبدي حصاراً ... فيحجرني ويرصد لي عناه أنوح محيراً وأبوح وجداً ... بنوح الأصفهاني من نواه وقد عز القرار فلا جواب ... سوى جفني تجاوبني دماه فمن لي يا أهيل الود فيه ... بأن أفنى ويحييني بقاه رضيت بحبه وصلاً وهجراً ... وطاب لي البيات على رضاه كتمت غرامه حتى كأني ... من الكتمان لم أدريه ما هو وأنكرت الهوى صوناً لأني ... أغار عليه يهواه سواه يشخصه الهيام بكل ذاتي ... فلا أدري أراها أم أراه فلو يدعى اسمه ألفى مجيباً ... لمن يدعوه من ولهي أنا هو له ملك الفؤاد وكل عشق ... له منا دراه من دراه تناهى في الجمال كما تناهى ... لبهجة عصرنا عز وجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ملاذ عبد رزاق البرايا ... رعاه الله ما أبهى لقاه رياض أكفه تزهو سماحاً ... بمنثور الندى الحالي جناه تخال نزيله من حسن بر ... وتكريم أخاه أو أباه يرق لدمعة الباكي انعطافاً ... ويرحم لوعة الشاكي جواه وإن أنشا من الأفكار عقداً ... شهدت الحور زفت من حلاه ألا يا كامل الأوصاف عذراً ... فقدرك عز أن أحصي ثناه فلا زالت بك الأيام تسمو ... ووجهك مشرق بسنا ضياه وذا عيد المنى فاهنأ وأرخ ... نضير العيد زاهي من حباه فلما تليت على الأسماع عرائس القصائد الشكرية، وحليت بنفائس الأسجاع أوانس الفوائد الفكرية، تهلل وجهه سروراً، وتعلل بها طرباً وحبوراً، ثم قال: ما أطيب هذا النفس الأنفس، وما أطرب هذا السماع الأقدس، فلعمري ما المثالث والمثاني، بأعذب من هذه المعاني، ولا وصل الحبيب بلا رقيب، بأعجب من هذا التشبيب بذا النسيب، فليت شعري أهذ رقيق كلام، أم عتيق مدام، أم در ألفاظ، أم سحر ألحاظ، أم نثر بديع، أم نشر ربيع، أم بيان بنان، أم نظم جمان، فلا زالت الأفلاك بجمالكم ناضرة، ولا برحت ألحاظ الأحلاك بعيونكم ناظرة، ما افتر ثغر الدهر بسناكم باسما، واحمر خد الزهر لنداكم راسما، وما حمد شارع على التمام، وسعد بارع بحسن الختام. أقول: هذا ما جئت به من بضاعتي المزجاة، لسيدي عزيز القدر والجاه، الوالد العطوف الروحاني، والعم الرؤوف الذي عمني بنداه ونحاني، وأرجوه غض الطرف عن هفوتي، ونظر اللطف لإصلاح كبوتي، ولولا وثوقي بهذا الامتنان، لم أحم حول هذا الشان، ومع هذا فليتني لزمت حدي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الضعف والقصور، ولم أتشوف بجدي لارتقاء هاتيك القصور، لجمود عين الفطنة القريحة، وخمود نار الروية والقريحة، على أن المطالب تغشي الأذهان، والجواذب تعشي مقلة السليم مما أهان، لاسيما ومقام سيدي أشهر من أن يذكر، والثناء عليه أزهر من أن ينشر، وليس قصدي إلا ترديد ذكراه طربا، وتعديد مزاياه عجبا، وإلا فرفيع مقامه غني عن المقامة، وربيع مقامه محط رحال ذوي الثناء والمقالة، من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع وبالجملة فشريف شمس نسبتي، أطمعني أن أكون بدري المقام، ولطيف عنقاء محبتي، دعاني لإنشائها مع التحية والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى تابعيه السادة الكرام، ما ناح الحمام، وفاح شذا مسك الختام. أقول: إن هذه المقامة لا ريب أنها من بحر معارفه خليج، ومن رياض ألطافه شذرة ذات مقام بهيج، وإن له غيرها من النثر والنظم، ما يحسن التهليل والتكبير عند شروقه، ويشربه السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه، فنثره لعمري عقود الجوهر، ونظمه نثر اللآلىء والدرر، وهو ممن لم يزل يصل في اجتهاده الليالي بالأيام، ويعتاض في ازدياده السهر من المنام، حتى بلغ مبلغاً يقصر عنه أمل المتطلع، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع، ونزل من القلوب بمنزلة الامتزاج بين الماء والراح، وأورد العيون الرياض والقرائح القراح، فللنواظر فيه مرتع، وللخواطر منه مستمتع. وله الأيادي البيض، في بحر كل كمال طويل أو عريض، فكأن الله براه نوراً مصوراً، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً: رفيع كمال كلما زاد خاطري ... به أملاً زادت محاسنه حسنا وكيف لا وهو فارس المجال، ورب الروية والارتجال، تؤخذ الفصاحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 عن لفظه، وتروي فنون البلاغة عن حفظه، أبلغه الله المنى وأفرغ عليه حلة السرور والهنا. السيد بهاء الدين مهدي الرواس بن السيد علي بن السيد نور الدين بن السيد أحمد بن السيد محمد بن السيد بدر الدين بن السيد علي الرديني بن السيد الكبير العارف بالله ولي الله الشيخ محمود الصوفي الصيادي الرفاعي قدس الله تعالى سره العارف الذي تطابقت القلوب على محبته، واتفقت السرائر والضمائر على عرفانه وولايته، والعالم الذي يفزع في مهم المشكلات إليه، ويعتمد في الحصول إلى القرب والوصول عليه، قدوة الأنام، وصفوة السادة القادة الكرام: ذو الكرامات التي لا تعد، والخوارق التي لا تحصى ولا تحد، وقد ترجمه تلميذه العالم الذي انفرد في زمانه، والفاضل الذي أرشد أهل عصره وأوانه، قطب السادة الأحمدية، ونقطة مدار القادة الرفاعية، من اشتهر فضله بكل نادي، السيد أبو الهدى أفندي الرفاعي الصيادي، أطال الله بقاه، وأعلى في مدارج السيادة مرتقاه، في كتابه قلادة الجواهر، في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، فقال ما نصه: ولد هذا الهمام، والأوحد الإمام، سنة عشرين ومائتين وألف، وتوفي في سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وقد بلغ رضي الله تعالى عنه من العمر سبعاً وستين سنة. وكانت ولادته في سوق الشيوخ بليدة صغيرة من أعمال البصرة سكنها والده رحمه الله، وأعلى علاه، بعد الطاعون الذي وقع في البصرة، وتوفي والده وبقي قدس سره يتيماً، ثم توفيت أمه وقد بلغ خمس عشرة سنة. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 قد قرأ القرآن على رجل هناك يقال له ملا أحمد، وكان من الصالحين. ففي خمس وثلاثين ومائتين وألف جذبه القدر إلى السياحة، فخرج طالباً بيت الله الحرام، وجاور بمكة سنة، ثم تشرف بزيارة جده عليه الصلاة والسلام، وجاور بالمدينة المنورة سنتين، وفيها اشتغل بطلب العلم على رجال الحرم النبوي، ثم ذهب إلى مصر ونزل في الجامع الأزهر، وبقي فيه ثلاث عشرة سنة، يتلقى العلوم الشرعية عن مشايخ الأزهر وفضلائه، حتى برع في كل فن وعلم، وهو على قدم التجرد والفقر والانكسار، ثم عاد سائحاً إلى العراق، فاجتمع بالشيخ العارف بالله ولي الله السيد عبد الله الراوي الرفاعي، فأخذ عنه الطريقة، ولزم خدمته والسلوك على يديه مدة، وأجازه قدس الله سره وأقامه خليفة عنه. ثم طاف البلاد وذهب إلى الهند وخراسان والعجم والتركستان والكردستان، وجاب العراق والشام والقسطنطينية والأنادول والروملي، وعاد إلى الحجاز، وذهب إلى اليمن ونجد والبحرين وطاف البادية والحاضرة؛ واجتمع على أهل الأحوال الباطنة والظاهرة، وأكرمه الله بالولاية العظيمة، والمناقب الكريمة، والأخلاق الحميدة، والطباع الفريدة، والقطبية الكبرى، والمرتبة الزهرا، وقد تجرد بطبعه عن التصرف والظهور، والتزم الطريق المستور، وعد نفسه من أهل القبور، وكان كثيراً ما يعاود في سياحته إلى بغداد، وكان يتجر لدفع الضرورة والتخلص من الاحتياج، ببيع رؤوس الغنم المطبوخة، فإذا وجد منها ما يدفع الضرورة البشرية، ترك البيع إلى أن تنفذ دراهمه، فيعود إلى البيع، وكان لا يمكث في بلدة سبعة أشهر قط، وأكثر إقامته في البلاد تحت الثلاثة أشهر، وكان يلبس ثوباً أبيض وفوقه دراعة زرقاء وعبا قصيرة من دون أكمام، وحزامه من الصوف الأسود عملاً بالأثر الرفاعي، والسنة المحمدية، واختفاء عن ظاهر الشيخ. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قدس سره إمام الوقت وشيخ العصر علماً وعملاً وزهداً وأدبا، براهينه باهرة، وسريرته طاهرة، وقدمه متين، وعزمه مكين، وكشفه عجيب، وحاله غريب. من الله علي بالاجتماع عليه، والانتساب إليه، في بغداد دار السلام، في حضرة الباز الأشهب، والطراز المذهب، مولانا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره ورضي الله عنه، وتبركت بخدمته، وتشرفت ببيعته، وتنورت بمشاهدته، وتعطرت بمشافهته، وأخذ ت عنه الطريقة، ولبست منه الخرقة، وتلقيت عنه بعض علوم الشريعة والحقيقة، فهو شيخي ومعيني، وأستاذي، وقرة عيني وملاذي، وعياذي ومحل اعتقادي، وواسطة استنادي، بلى والله، وهو الشيخ الجليل العارف بالله، المتردي برداء الخفاء المشغول بالله عن غيره، السائح العابد الزاهد صاحب المعارف والعوارف، والبركات واللطائف، والعلم الغزير، والقلب المنير، والسر الصادق، والمدد البارق، والحال العجيب، والشأن الغريب، والعلوم العظيمة، والهمم الكريمة، والآداب المقبولة، والكلمات المنقولة، ولنذكر من شعره العالي هذه القصيدة، وهي مما يدلك على مقامه الجليل، ومكانة مكانه النبيل، وها هي: طف بوادي القدس من نادي تهامة ... وافرش الخدين في أطلال رامة وانزل الفيحاء فيحا المنحنى ... حيثما أعلى الندى الطامي خيامه ولك الله إذا وافيتها ... وأنخت الركب فيها بالسلامة خذ سلاماً لأصيحاب الحمى ... من كئيب حرك الركب غرامه واذكر السقم الذي أودى به ... علهم أن يرحموا يوماً سقامه غلبته يوم بانوا شدة ... أوقعت فيه فما شد حزامه وهو لا زال كما هم علموا ... ثابت الأقدام زين الاستقامة هجرت أخلاقه حال امرىء ... جمل يوماً وفي الثاني نعامة باعهم نفساً نأت عن غيرهم ... وعليهم حملت عبء الملامة وإذا قالوا لها موتي جوى ... أنشدت للموت دحباً وكرامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يا أخا الركبان بالله التفت ... أن تعي من موثق الوجد كلامه مس عني ترب ذياك الحمى ... وأجل في بابه وجهاً وهامة باب رحب نزل الروح به ... وبه القرآن قد سل حسامه موطن الإيمان والعلم الذي ... لمعت منه على الكون العلامة حضرة الرحمة مضمار الهدى ... مهبط الوحي وميزاب الكرامة مشهدكم شوهدت من ركنه ... دولة الغيب وأعلام الإمامة كيف لا والمصطفى من هاشم ... فيه ثاو شرف الله مقامه خير من مس بنعليه الثرى ... وأجل الخلق قدراً وشهامة والنبي العربي المجتبى ... والذي ظهرا أظلته الغمامة سل تراب الغار عما نسجت ... عنكبوت الغار ليلاً مذ أقامه وسل الباب الذي شرفه ... كيف حامت حول ركنيه الحمامة وسل الماء الذي من كفه ... فاض والجيش به نال مرامه لا تسل عن معجزات ظهرت ... منه جلت وهي تبدو للقيامة كان في الدين ربيعاً عمره ... صامه لله بالله وقامه وهو نور أزلي طرزه ... صار في وجه وجود الكون شامة جحفل الرسل الذي قدماً أتى ... زين الله بمجلاه ختامه بابه للأنبيا باب الرجا ... وترى كل الورى يبغي استلامه وهو ركن المجد مرفوع الذرا ... حصن علم الغيب مكنون الدعامة طوي العالم في جبته ... وعلى العرش علت منه العمامة لو دعا البحر لوافى سائغاً ... أو دعا المنقض من ميت اقامه شرفت جبريل منه خدمة ... حولت فيه عن الدين لثامه وبه الرحمن أعلى صولة الحق ... جهراً وبه شاد نظامه مضمر من حضرة القرب بدا ... ما استطاع الطمس في الغيب اكتتامه علة الخلق ومن هذا نرى ... أوجب الله على الخلق احترامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وعلى يافوخ إنسان العلى ... شيد الجبار بالعز مقامه وله في مقعد الصدق ابتنى ... منزلاً صيره دار الإقامة ذلك اللوح الإلهي الذي ... كتبت أيدي العمى فيه الرقامة وهو قلب غرس الذكر به ... ما رأى حراسه آن منامه سجد الأقمار عزاً لاسمه ... عل أن تحسب منه في القلامة أينها من ذلك النور الذي ... عدل المولى من الوجه قوامه فعليه الله صلى سرمداً ... وعلى آل حسوا منه مدامه وعلى الأصحاب ما حاد حداً ... طف بوادي القدس من نادي تهامه وله قدس الله سره متوسلاً بجده المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا من وطينة آدم في مائها ... مخمورة لك بالنبوة مظهر أستر عظيم كبير ذنبي رحمة ... فنداك أعظم والعناية أكبر وله في الفناء المحمدي أصبحت عيناً في مقام نيابتي ... عمن فنيت به وغبت بمشهدي ودعيت في الأكوان فرداً واحداً ... والحق أعدل شاهد بتفردي وله في حضرة الحضور لما حضرت على بساط شهودي ... أدركت ذوقاً كيف غاب وجودي وفهمت من طور الحضور تحققي ... في مشهدي بعبادة المعبود فهجرت ذرات الوجود لأنها ... تفنى وطبت بحضرة الموجود وله في مقام الكرم والتحدث بالنعم لما رفعت على برج الضحى علمي ... علت إلى منتهى قاب العلا هممي وقام بي رونق العرفان واشتملت ... على رقائق أحكام النهى شيمي فصح لي مشهدي في طور مرصده ... علماً وما زال بي في مذهبي قدمي وصرت ضمن الخفا قطب الظهور ولي ... سهم التحدث بين القوم بالنعم من لاذ بي بات مأمون الجناب على ... بساط تكرمة في حضرة الكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقال قدس الله روحه وقد ورد عليه وارد الكرم ظهر السبع من بطين الغاب ... وبدا صائلاً بغير نقاب وتجلى الهلال في بهرجان الميل يبدي ضياه للأحباب هذه آية سماوية السر علت نشأة بطي الحجاب فلك الغيب دار منها فلما ... تمم الدور مال للانحجاب مظهر بارع بمعنى خفي ... ومقام مجمل بالثواب فصبت لي بسدتيه الكراسي ... وكؤوسي تنورت بالشراب ومقام افتخار دولة عزي ... ساد معنى ففاق فخر جنابي دهشة أحمدية ذات مهيا ... ومحيا بدا لذي الألباب فأنا القطب في دكيكين طبخي ... وأنا الغوث في رسيس ثيابي وأنا الشيخ والرجال تلاميذي وعلمي فشا إلى الطلاب وأنا الفرد في الزمان بشاني ... وأنا المرشد الشريف انتسابي وأنا السيد المعلى جلالي ... سار جيش الشيوخ حول ركابي وقفول العراق تمشي بظلي ... واستظل الزمان تحت قبابي قلمي آمر وحكمي جاري ... أذعن الدهر طائعاً لكتابي دولتي في الجنوب والغرب دارت ... وبأقصى الشرقين طول رحابي وبمنهى السدين صولة بأسي ... وبمعلى الدورين سمر حرابي دارت الطالبون حولي لأني ... كعبة للرجال والأقطاب حرم طيب به يأمن الدا ... خل جهراً من شوبة الأتعاب وطريقي باب الوصول إلى الله ... وفيضي يجري إلى الأنجاب دولة لا تزال تنفث سراً ... بعد موتي والسر تحت ترابي وخفائي لا شك عين ظهوري ... وبعيد التستير يفتح بابي سترى لي في دورة الشام والشهباء نوراً يعلو بنور شهابي وترى لي مظاهراً تتسامى ... وتسامى الشيوخ في كل باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وترى نوبتي تضج واسمي ... يتباهى بذكره نوابي وترى الحال في زوية ذكري ... وترى المرتجين في أعتابي إن ترم نفحتي عليك بسلكي ... فسلوكي المفتاح للأبواب وطريقي نور التجلي وسيري ... عقدة الوصل من يد الوهاب طف ببابي ولا تمل عن مداري ... وانح نحوي واسمع لذيذ خطابي لا تمل نحو جاهل أشغلته ... عن علانا دنياه بالاكتساب ذمك الجاهلون جهلاً فخاضوا ... فرأيناهم بسوء المآب سلبوا الدين بعد ذاك وراحوا ... ومآل الرواح بالاعطاب كم يقولون ما لهذا ضمير ... إنما فخره بلين الثياب فسمعنا منهم وعنك أجبنا ... لا يضر السحاب نبح الكلاب إن تكن عامراً مع الله خل ... شخص دنياك تحت طي الخراب وقال لي قدس الله سره وقد كان يتفضل علي ببعض إشارات معنوية، وقد طرق خاطري هم عظيم لبعض أمور خطرت في سري فقطع حديثه الأول، ورمقني بعينه المباركة مبتسماً وقال فتح علي ببيتين خطاباً لك ثم أنشد: إن باديك الذي أكننته ... هو باد ظاهر في خاطرك أجل قلباً في حمانا إننا ... نحن قمنا بالذي في خاطرك ولو أردنا بسط ما رأيناه من كراماته، وحفظناه من غرائب كلماته، لطال المطال، واتسع المجال، وإنا نرى بالذي ذكرناه لأرباب البصائر كفاية، نفعنا الله به وبإخوانه أهل العناية آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وقد تقدم أنه رضي الله عنه توفي ببغداد في الجانب الشرقي منها بمسجد دكاكين حبوب، وذلك سنة سبع وثمانين ومائتين وألف رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين آمين. الشيخ بدر الدين أبو النور عثمان بن سند النجدي الوائلي ثم البصري المالكي هو السيد السند، والعلامة البطل الأوحد، خاتمة البلغاء، ونادرة النبغاء، من له في العلوم على اختلافها القدم الراسخ، ولا غرو فهو طود أعلامها الشامخ، كرع من نمير حياضها حتى ارتوى، وعرج إلى سماء المعالي وعلى عرش كمالها استوى: مولى به كل الفضائل قد زهت ... وغدت تقاد إليه كالخدام وفضله وعلو كماله لا يحتاج إلى تعريف، بل تنبىء ألسنة مؤلفاته الفائقة بحسن الترصيف والتوصيف. أخذ العلم ورواه عن مشايخ أجلاء، وجهابذة حكوا في السمو كواكب الجوزاء، منهم علامة العراق على الإطلاق، وفهامتها الموسوم بحسن الشمائل والأخلاق، الرحلة المرشد لكل فضيلة وهادي، الشيخ علي بن محمد السويدي البغدادي، ومنهم العلامة الأوحد، والجهبذ المفخم المفرد، المنلا محمد أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله الحيدري الماوراني، مفتي الحنفية والشافعية، بدار السلام المحمية، ومنهم العلامة المفضال، زين أرباب المعارف والكمال، السيد زين العابدين جمل الليل المدني، فإنه لازمه حين ورد إلى بغداد والبصرة في دروس الحديث وغيرها، وأجازه بمروياته كلها، وحرر له إجازة لطيفة فيها بيت من نظمه وهو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أنا الدخيل إذا عدت أصول علا ... فكيف أذكر إسناداً لدى ابن سند وأخذ الطريقة الخالدية، وألف في ترجمة حضرة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره المعيد المبدي، الكتاب الشهير الذي أمسى في البلاغة والفصاحة عديم المثل والنظير، وهو أصفى الموارد، من سلسال أحوال مولانا خالد. وأخذ عن غيرهم من علماء الحجاز والعراق، وغيرهما من الآفاق، وفي عام ألف ومائتين وسبعة عشر ولي مدرسة المفاسية، في البصرة المحمية، فصار بها شيخ المدرسين، ومرجع أهل الفضل والتمكين. وقد كان رحمه الله تعالى آية باهرة في النثر الفائق البديع، الذي يخجل الحريري والبديع، والنظم الرائق المريع، الذي يزري بعقود الجمان، في نحور الحسان، ولا بدع فهو حسان الزمان السائد على الجميع. وبالجملة فقد خصه الله تعالى من تراث العلم بأوفى قسم، وضرب له من المعارف والمعالي بأوفر قسم. وقد ألف عدة مؤلفات مفيدة هي في جبهة الدهر غرر، وفي سمط الفصاحة والبلاغة درر، فمما اطلعت عليه منها: كتاب هداية الحيران، وهو نظم عوامل الجرجاني، قال في أثناء خطبته: هذا وإن النحو لما جلا ... مقامه بين الورى محلا جعلت من قبل اعتمام العمة ... أعمل فيه يعملات الهمة أسوم ذود الفكر في شعابه ... وأورد الأنظار في عبابه وإذ قضى الله الكريم أني ... أهصر من غصونه وأجني نظمت ما ينمى إلى الجرجاني ... عواملاً منثورة الجمان وهي منظومة على هذا النسق العجب، وموشحة بأمثلة غزلية تكتب بماء الذهب، ومنها جيد العروض في القوافي والعروض قال فيه: وسميته جيد العروض لكي أرى به جيد من رام العروض مجملا ومنها كتاب الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وهو ديوان جليل رد فيه على دعبل بن علي الخزاعي الرافضي في عدة قصائد بديعة، ختمها بقصيدة ميمية ضمنها أنواع البديع، مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ومنها مطالع السعود، بطيب أخبار الوالي داود وهو تاريخ جمع كثيراً من أخبار العراق وتراجم رجاله ووزرائه، خصوصاً وقد اشتمل على تفصيل أحوال عالم الوزراء ووزير العلماء، الوزير الشهير داود باشا والي بغداد سابقاً طاب ثراه، وقد بيض المترجم هذا التاريخ الجميل، بأمر هذا الوزير الجليل، سنة ألف ومائتين وأربعين، لما استدعاه إلى بغداد، فأكرمه وأجله، ورفع مقامه ومحله، وأمره بما تقدم، ليكون ذكر عدله وعلمه مخلداً بين الأمم، وقد اختصره الفاضل الهمام الشيخ أمين المدني وطبع مختصره في مدينة بومباي، ولو طبع الأصل لكان أكثر فائدة، وأجدر عائدة، غير أنه أراد الاقتصار على ذكر الوقائع التاريخية فقط والله تعالى أعلم. وفي سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين أرسل المترجم بخطه كتاباً إلى العلامة المرحوم الشيخ غنام النجدي الزبيري، نزيل دمشق الشام، المتوفى بها سنة ألف ومائتين وسبع وثلاثين، ذكر فيه بعض ما له من التآليف والآثار، فذكر أن له شرحاً على نظمه للعوامل، وعلى منظومته التي نظمها في العروض، وأنه نظم الشافية في التصريف، ونظم مغني اللبيب على ترتيب عجيب، ينوف على خمسة آلاف بيت، ووشحه بأمثلة هي من بنات فكره، ونظم الورقات لإمام الحرمين، وشرحه، ونظم النخبة في المصطلح، ونظم في الحساب كتاباً وشرحه، ونظم القواعد وهو مشتمل على غزل الغزل المقل، وله نظم في الاستعارات، ومنظومة في مدح إمام أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 السنة سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، وذكر أيضاً أن له تاريخاً على نحو سلافة العصر سماه الغرر في وجوه القرن الثالث عشر وطلب منه إرسال ما تيسر له ترجمته من أجلاء دمشق، وله غير ذلك كثير، لأنه عاش بعد تاريخ ذلك الكتاب الذي أرسله للشيخ غنام المرقوم ما ينوف على عشرين سنة. ومن كلامه برد الله مضجعه: لولاك يا ظبية الوعساء لم أرق ... دمعاً ولم أكحل العينين بالأرق ولم أسر أكحل الظلما بيعملة ... كالميل جال بمسود من الحدق أرمى بها كل فج لو تجشمه ... مع الرياح لما هبت من الغرق إلى أن قال: حتى إذا سال ريق الفجر من فمه ... على البسيطة واحمرت لمى الشفق أشرت للركب أن صلوا فقد جعلت ... أيدي ذكا تسلخ الظلما عن الأفق وهي طويلة الغزل مشتملة على وصف الليل وأنجمه ووصف الركاب وأنواع جمة. وقد ذكر المترجم وأثنى عليه جم غفير من الأفاضل، منهم العلامة الشهير السيد محمد أمين عابدين، حيث قال في كتابه سل الحسام الهندي ما نصه: ومن أراد الزيادة على ذلك من أوصاف هذا الإمام، فليرجع إلى الكتاب الذي ألفه فيه الهمام، خاتمة البلغاء، ونادرة النبغاء، الأوحد السند، الشيخ عثمان بن سند، الذي سماه أصفى الموارد في ترجمة حضرة سيدنا خالد فإنه كتاب لم يحك ببنان البيان على منواله، ولم تنظر عين إلى مثاله، مما اشتمل عليه من الفقرات العجيبة، والقصائد الرائقة الغريبة، عارض فيه المقامات الحريرية، والأشعار الحسانية والجريرية. وذكره أيضاً وأثنى عليه خاتمة المفسرين العلامة شهاب الدين محمود أفندي الألوسي، في الفيض الوارد والعلامة السيد إبراهيم فصيح الحيدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 في المجد التالد وكان حضرة مولانا خالد يصفه بحريري الزمان، وناهيك بهذه الشهادة من مثل هذا العارف الجليل الشان، وقد ترجمه أيضاً حضرة الفاضل المفرد، والمؤرخ الأوحد، أحمد بن محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري اليمني الشرواني، في حديقته فقال: القول فيه أنه طرفة الراغب، وبغية المستفيد الطالب، وجامع سور البيان، ومفسر آياتها بألطف تبيان، أفضل من أعرب عن فنون لسان العرب، وهو إذا نثر أعجب، وإذا نظم أطرب، فوالعصر، إنه لإمام هذا العصر، أخبرني بديع الزمان، شيخنا الشيخ عبد الله بن عثمان، أن هذا الفاضل الأديب، أبدع في نظمه مغني اللبيب وأبرز أسرار البدائع بتصانيفه المشتملة على اللطائف والروائع، متع الله بحياته ذوي الكمال، وجمعني به على أجمل حال، فمن شعره هذه الأبيات، وقد وجدتها بخطه في ظهر كتاب تضمن حاشية الشيخ العلامة ياسين على مختصر المطول، قال أنجحت آماله: وقلت على لسان محبوب طلب وصاله: أيها الصب الأديب ... لا ترى وصل الحبيب فالثريا لا ترى ... قبل تغيب الرقيب قد زارني والليل يحكي فرعه ... ظبي الشذا أنا في النحول كخصره فجنيت من وجناته ما أشتهي ... ورشفت من صبب بحمرة ثغره فسكرت حتى مست مثل قوامه ... طرباً ولم أشعر عواقب وزره ويطربني قوله قلت لما قال لي خشف الفلا ... صف عذاري وقوامي واعجلا يا عديم المثل قد كلفتني ... غير ما أقدر حتى قلت لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أي لا أقدر من الاكتفا ولا هي جوابه فاللام عذاره والألف قوامه. هذا ما وجدت من نظمه المباهي بأنواره البدور، والميسور لا يسقط بالمعسور. انتهى كلام الشرواني في ترجمة هذا الإمام. والحاصل أن هذا الفرد الهمام قد اشتمل شعره على ما تستلذ به الأسماع، ونثره على ما تميل إليه الطباع، وتأليفاته على درر غالية الأثمان، وتصنيفاته على عقود لآليها مزرية بقلائد العقيان، قد انتخبها واختبأها لمن هو أهل، لا لمن غلب عليه دعوى العلم على جهل. فلا ريب أنه خزانة الفضائل، وتاج هامة الأفاخم الأفاضل، قد قضى له الفضل بأنه أحق به ممن سواه، واختاره فن البيان سنداً له فقدمه وأحسن مثواه. ولم يزل يترقى على درج العلم والعمل، ويحرر ما يخلد له الذكر الجميل بين الأمم، ويقبل على المتعلمين إقبال الوالد الشفوق بالولد البار، ويبث لهم ما ينفعهم في دنياهم وفي دار القرار، إلى أن دعاه الداعي إلى الديار الآخرة، والمنزلة الفائقة الفاخرة، فلبى الداعي من غير إمهال، معتمداً على فضل ذي العظمة والنوال. وذلك في سنة ألف ومائتين وخمسين من هجرة السيد الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 حرف التاء الشيخ تقي الدين الدمشقي الشافعي من ذرية تقي الدين الحصني ابن حسن بن مصطفى بن إسماعيل بن محب الدين بن شمس الدين بن زين الدين بن ضياء الدين بن زين الدين عميرة البوصلي البلقاوي، الشهير بتقي الدين الحصني، ابن زين الدين عمر، بن السيد نور الدين معلى، بن السيد نجاد الدين نجدة، بن السيد الشيخ الصالح زين الدين عبد المؤمن، ابن السيد حريز الدين، بن السيد الشيخ الصالح نور الدين معلى، بن السيد مؤتمن الدين مؤمن، بن السيد حريز الدين، حريز بن السيد سعد الدين سعيد، ابن السيد فخر الدين داود، بن السيد شرف الدين قاسم، بن السيد علاء الدين، بن السيد نور الدين علوي، بن السيد منسي فخر الدين ناسي، بن السيد جوهر الدين جوهر، بن السيد علاء الدين علي، بن السيد أبي القاسم ابن السيد سالم، بن السيد عبد الله، بن السيد زين الدين عمر، بن السيد شرف الدين موسى، بن السيد محيي الدين يحيى، بن السيد علاء الدين الأصغر، بن السيد محمد التقي الجواد، بن السيد الحسن العسكري، بن علي الرضي، بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين الشهيد بكربلا، بن علي بن أبي طالب، بعل البضعة الشريفة السيدة فاطمة الزهراء، بنت سيد العالمين، وختام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ولد المترجم بدمشق الشام، وأخذ عن السادة العلماء الأعلام، منهم العلامة السيد نجيب القلعي الدمشقي، والشيخ محمد الكزبري، وغيرهما من الشيوخ الدمشقيين، وكان صالحاً عابداً، محترماً نقياً زاهداً، نير الوجه حسن الأخلاق، بين اسمه ومعناه حسن الطباق، مات سنة عشرين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير رحمه الله. توفيق باشا بن إسماعيل باشا بن محمد علي باشا الخديوي غب أن عزلت الدولة العثمانية إسماعيل باشا ولت مكانه ولده المرقوم محمد توفيق باشا، فسافر إسماعيل باشا بحريمه وأبنائه إلى مملكة إيطاليا ونزل في نابلي بقصر لحكومة إيطاليا، وتصرف المترجم في سياسة مصر وحكومتها، وذلك سنة ألف ومائتين وست وتسعين، فغير وبدل، ونصب وعزل، فجعل رئيس الوزارة رياض باشا، وجعل من كل من فرانسا وانكلتيرة مراقباً مالياً يحضر مجلس الوزراء وله صوت فيه بحيث لا يكون ولا ينفذ إلا ما وافق عليه المراقبان، وقسمت مداخيل الحكومة على قسمين، أحدهما لفائض الديون، وقدر تلك الديون نحو ألفي مليون فرنك، ومقدار ما عين لفائضها واستهلاك أصلها نحو مائة وستين مليون فرنكاً سنوياًن والباقي من مداخيل الحكومة يدفع منه خراج الدولة العثمانية وبقية مصاريف الحكومة، وجرى التصرف للوزارة بدون مجلس نواب، مع وعد الخديوي عند ولايته بفتحه، وإجراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 مقتضاه، إلى أن ظهر للوزارة أن تحدث قانوناً في ترتيب ترقي العسكر، كان من مقتضاه أن أبناء مصر العارفين بالكتابة والقراءة لا يتجاوزون رتبة رئيس الألف المسمى عند الناس بالبين باشي، والذي لا يعرف ذلك لا يستولي إلا رتبة عشرة أنفس، وهو المعروف بالأونباشي، وبقية المصالح العظيمة، والرتب الجسيمة، يتولاها الدخيلون في مصر كالترك والإفرنج فامتنع من الإمضاء على القانون في وزارة الحرب عدة من أمراء الألايات، متعللين بأن ذلك خلاف الإنصاف، فسجنهم وزير الحرب، فثارت العساكر وأخرجوهم من السجن، وأحاطوا بقصر الخديوي طالبين عزل وزير الحرب، فعزل وحصلت حينئذ طنطنة لاتحاد العساكر وإنصافهم وحياة المصريين، ونشأ فيهم حزب يسمى الحزب الوطني زعيمه في الكلام رجل يسمى عبد الله نديم، فصيح اللسان، عارف بطرق الكلام، وكثرت منه الخطب في المجامع والمواكب، ومن غيره أيضاً في الحث على الاتحاد، وأخذ الأشغال لأبناء الوطن، وكذلك الوظائف والخروج من وطأة الأجانب الذين اشتد احتقارهم للأهالي واستبدادهم عليهم بالمرتبات الباهظة، حتى صار يسمع دوي غليان الأهالي من كثرة توظيف الأجانب الذين بلغ عددهم نحو ألف ومائتي متوظف، يأخذون سنوياً نحو أحد عشر مليون فرنكاً، مع اقتدار الأهالي على الوفاء بتلك الوظائف، ونقصان مرتبهم عن ذلك بكثير، ثم بدا للوزارة لزوم التنقيص من عدد العساكر، فثار الجند وأحدقوا بقصر الخديوي متسلحين حتى بالمدافع، بعد أن أرسلوا إلى نواب الدول بالأمن عليهم وعلى رعاياهم، والإعلام بمقاصدهم وكان رئيس ذلك الاتحاد رجل من أهل مصر في رتبة أميرالاي، فصيح اللسان، ثبت الجنان، اسمه عرابي باشا فطلب هو ورؤساء الجيش الاجتماع بالخديوي، فلما تيقن الخديوي جد طلبهم بواسطة خطاب قنصل الانكليز معهم تلقاهم فأعلموه بأن مطلبهم هو عزل الوزارة وولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 رئاستها لشريف باشا وجمع مجلس النواب وإجراء قراره حقيقة، وأن تكون له الحرية اللازمة لمثله، وأنه لا يمس حقوق الأجانب، وتعهدات الحكومة معهم، فلم يسع الحال إلا لقبول جميع المطالب وإجرائها فعلاً، وازداد عرابي نفوذاً، وانطلقت الألسن بالحرية، فلما اجتمع مجلس النواب ألف قانونه الذي تبتنى عليه أحكامه، وكان من جملته أنه له الحق في الاطلاع على حساب الحكومة في الحال، وله الرأي فيه، مع أن ذلك من خواص مأمورية المراقبة الفرنساوية والانكليزية، فامتنعت وزارة شريف باشا من قبول ذلك، لما تعلم من تداخل الدولتين في الامتناع حتى يفضي إلى التداخل في السياسة، فأصر المجلس على طلبه، وأظهرت العساكر التعصب للمجلس، فاستعفى شريف باشا ووزراؤه ومن هنا خرجت الأعمال عن القصد الجميل لما يوقعها في الزوال، لأن العاقل ينظر لجميع مقتضيات الحال، ونسبة قوة الدول، فيتباعد عن موجبات الفساد، ولا تطلب النهايات في البدايات كما هو القاعدة الشهيرة القائلة من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، لكن سبق القدر فلم يتدبروا واستعجلوا فأصروا على طلبهم، ففوض الخديوي انتخاب الوزارة إلى المجلس مع أنه من حقوقه، تطييباً لخاطر الأهالي، فاستولى رئاسة الوزارة محمود سامي، واستولى وزارة الحرب عرابي باشا، وابتدأ من هنا أيضاً الاعتراض عليه من العقلاء في قبول الوزارة، لأن مقامه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأبى قبوله الوزارة، لأن قبوله يوقعه في التهمة من أنه له غرض خاص في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهو ارتقاؤه إلى المناصب العالية، سيما بعد أن رقى من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي بعد الإلحاح عليه فوافقت الوزارة رأي المجلس، وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي بذية مطلقة بالقدح في الأروباويين، والتبجح بما هم عليه مما أسف عليه عقلاء المسلمين.، وهو ارتقاؤه إلى المناصب العالية، سيما بعد أن رقى من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي بعد الإلحاح عليه فوافقت الوزارة رأي المجلس، وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي بذية مطلقة بالقدح في الأروباويين، والتبجح بما هم عليه مما أسف عليه عقلاء المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 يمضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن فهاجت صحف أوربا ضداً عليهم، وأشدهم الفرنساويون والإنكليزيون، حتى أبرقت وأرعدت دولتاهم متهددين بالحرب، طالبين نفي عرابي وبعضاً من رؤساء العسكر الذين راقوا إلى رتبة اللواء، وإرجاع وزارة شريف باشا ودحض مطلب مجلس النواب في التداخل في أمر المراقبة، فوقع اضطراب وهيجان ظهرت فيه دعوى على بعض من العساكر الجراكسة، بأنهم قصدوا قتل عرابي بإغراءات سرية منسوبة إلى طلعة باشا أحد علائق إسماعيل باشا فنفيت أولئك الجراكسة إلى الآستانة، وبقوا فيها تحت الحفظ مكرمين في أحد البناءات السلطانية، إلى أن رجعوا بعد الحرب الآتي ذكره، فلما أصرت الدولتان على ذلك، أعلن الخديوي بعزل الوزارة، فثارت الأهالي والعساكر وألزموا الخديوي بإرجاع عرابي إلى وزارته، وحضر إذ ذاك مرخص عثماني، وهو المشير درويش باشا ومعه عدة رجال لإقرار الراحة في مصر بالوجه السياسي، لأن الأهالي أيضاً أكثروا من التنويه بانتمائهم للدولة العثمانية، ووردت منها أفراد على الوجه الخصوصي من قبل لإراحة الأهالي، وكان الخلاف بين عرابي والخديوي عند قدوم درويش باشا مشتداً حتى ظهر الخبر بأن الاهالي قدموا عرض محضر بطلب عزل الخديوي عند قدوم درويش باشا بل تفاقم الطمع إلى إخراج الخديوية عن عائلة محمد علي أصلاً، وطلب أن تكون مصر مثل البلغار في امتيازاتها التي منها اختيار الوالي، وأن لا تتداخل فيهم الدولة العثمانية بشيء في إدارتهم، بل تحرشت صحفهم بأنها لو ترسل عساكر ضدهم فإنهم يقاتلونهم كما يقاتلون سائر الدول، وحينئذ أعلنت كل من فرانسا وإنكلتيرة بإبقاء الخديوي ونفوذه، وقطع دابر مضاده بالقوة الجبرية، غير أن فرانسا تطلب أن تكون قوتها وقوة الإنكليز هي الفعالة، ولا تسمح للدولة العثمانية بذلك، وإنكلتيره على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ضدها، فتطلب مبادرة عساكر الدولة العثمانية لذلك، فرأت الدولة العثمانية أن فصل النازلة يتم بدون احتياج إلى قوة، وأرسلت درويش باشا ومن معه لذلك، وحصل من قدومه ما أغاظ كثيراً من الأروباويين لانقياد العساكر المصرية والأهالي للسلطان، وامتثال أمره وابتداء السكون والتوافق بالرضى بالحصول شيئاً فشيئاً، لكنه حدث في اسكندرية التي كانت إذ ذاك مرساها غاصة بأساطيل الدول الأروباوية، حادثة شنيعة وهي قتال بين المسلمين والنصارى السكان بسبب مشاجرة عادية، فطبل الأروبايون وزمروا حتى توجه الخديوي ودرويش باشا وعرابي إلى الإسكندرية لإقرار الراحة، واقر الدول جميعاً أن الواقعة عادية لا دخل لها في السياسة، غير أن أصل المسألة من إصرار الدولتين على مطلبهم، وامتناع أهالي مصر لا زال على ما كان، وفرانسا أشد إقداماً وتهديداً بإعلان الحرب، وطلبت انكلتيره عقد مؤتمر في الآستانة لما يجب من العمل، فامتنعت الدولة العثمانية من التداخل فيه لما لها من حتى السيادة وحدها على مصر، فرأت أن ذلك من باب تداخل الدول في داخليتها، لكنهم عقدوه ودخلت فيه الدولة العثمانية أخيراً، وبينما هو في التفاوض كانت العساكر المصرية تصلح في حصون الاسكندرية حيث أنها خربة ولا استعداد فيها، لأن الدولة العثمانية كانت حجرت على إسماعيل باشا تحصينها عندما أحكم حصن أبو قير جوار الاسكندرية، وحصون دمياط وغيرها لما سبقت الإشارة إليه في أخبار إسماعيل باشا، ولما رأت أساطيل الدولتين ذلك التحصين ادعوا أنه تهديد لهم، وطلبوا الإقلاع عنهن فأمرت الدولة العثمانية بالكف عن التحصين، وادعى المصريون الامتثال، وادعى رئيس أسطول الانكليز عدمه، وطلب دخول عساكره إلى الحصون فتفاقم الخلاف وأطلقت النيران من الأسطول الانكليزي على الاسكندرية فخربتها في نحو عشر ساعات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وتضررت بعض مدرعاته، وانحازت العساكر المصرية إلى مكان يسمى كفر الدوار، وجيشوا هناك، واستولت العساكر الانكليزية على الاسكندرية وبقي الخديوي فيها، وانكشف الغطاء على مخالفة العساكر للخديوي، وكان معه درويش باشا المذكور، فرجع إلى الآستانة وبقي مع الخديوي الكاتب الثاني للسلطان، واشتد إلحاح الانكليز على الدولة في إرسال العسكر، ولم ترسل الدولة إلى أن وقعت عدة محاربات برية، كان النصر فيها للمصريين، واستولت انكلتيره على برت سعيد وسائر خليج السويس، وكان أكبر المعسكرات المصرية في التل الكبير بين القاهرة والإسماعيلية، وتضايق الإنكليز في لزوم قوة كبيرة لهم لإتمام قصدهم لأن فرانسا لما فتح مجلس نوابها لاستشارته في حرب مصر أنكر ذلك أشد الإنكار، فسحبت أسطولها وبقيت على الحياد، والدولة العثمانية وإن وافقت أخيراً على إرسال عسكرها لكن تشدد الإنكليز في جعله تحت أمرهم، وأن لا يتصرف إلا على نحو إشارتهم، وأن يخرج متى ما أمروه بالخروج ألزم تأخر إرساله، وكان تصرف العساكر المصرية بغاية الاحتراز من الأفعال البربرية، سوى ما صدر من أفراد من العربان والفلاحين في جهات قليلة، وبينما الأمر على ذلك وإذا بالدولة العثمانية نشرت إعلاناً حسب طلب انكلتيرة، بأن عرابي وكل من انحاز إلى حزبه عصاة، فلم يمض على ذلك بضعة أيام إلا وقد انحلت عرى التعصب المصري، ودخلت العساكر الانكليزية إلى القاهرة بدون أدنى حرب ولا معارضة، مع أن الجيش المصري ومن انضم إليه من العربان وغيرهم المتجاوزين المائة ألف والخمسين ألف محارب بأتم قوات الاستعداد، فتفرقوا جميعاً أيدي سبا في بضع ساعات، وسلم عرابي نفسه أسيراً إلى الانكليز، فرجع الخديوي إلى مصر وأقيم وكيل مدافع انكليزي عن رؤساء العساكر المصرية، وآل الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 حسب إرادة انكلاتيره أن حكم بعقاب عرابي، لكن الخديوي عفا عنه لأنه لم يفعل شيئاً إلا عن وفاق من يتبع وأبقى له مرتباً للقيام بنفسه، ونفي هو وكبراء الرؤساء إلى جزيرة سيلان في الهند، وذاك هو التعليل الباطني، مع أن حزباً عظيماً من الانكليز يرون أن جناية أولئك العساكر سياسة توجب القتل، فلذلك حكم عليهم المجلس الحربي بالقتل لكن الخديوي عفا عنهم، وأبدل القتل بالنفي، ولم تزل العساكر الانكليزية مقيمة بمصر ورجالهم السياسيون هم مرجع الأمر والنهي والوزارة تحت رئاسة شريف باشا، وناظر الداخلية الذي له كمال النفوذ رياض باشا وانكلاتيرة بصدد ترتيب حالة جديدة للسيرة السياسية داخلية وخارجية لمصر، مع إعلانها بأن مصر تحت سيادة الدولة العثمانية على امتيازاتها المقررة بالفرامانات السلطانية، وأن التراتيب التي هي بصددها لا تمس شيئاً من حقوق الدولة، ولا معاهدات الدول الأجنبية، وتقلص نفوذ فرانسا في مصر ولم تزل غير مسلمة رسمياً لانكلاتيرة بمرادها، وللروسية ميل إلى معاضدة فرانسا، هذا ما وقع إلى الآن وهو المحرم سنة ألف وثلاثمائة. أن فرانسا لما فتح مجلس نوابها لاستشارته في حرب مصر أنكر ذلك أشد الإنكار، فسحبت أسطولها وبقيت على الحياد، والدولة العثمانية وإن وافقت أخيراً على إرسال عسكرها لكن تشدد الإنكليز في جعله تحت أمرهم، وأن لا يتصرف إلا على نحو إشارتهم، وأن يخرج متى ما أمروه بالخروج ألزم تأخر إرساله، وكان تصرف العساكر المصرية بغاية الاحتراز من الأفعال البربرية، سوى ما صدر من أفراد من العربان والفلاحين في جهات قليلة، وبينما الأمر على ذلك وإذا بالدولة العثمانية نشرت إعلاناً حسب طلب انكلتيرة، بأن عرابي وكل من انحاز إلى حزبه عصاة، فلم يمض على ذلك بضعة أيام إلا وقد انحلت عرى التعصب المصري، ودخلت العساكر الانكليزية إلى القاهرة بدون أدنى حرب ولا معارضة، مع أن الجيش المصري ومن انضم إليه من العربان وغيرهم المتجاوزين المائة ألف والخمسين ألف محارب بأتم قوات الاستعداد، فتفرقوا جميعاً أيدي سبا في بضع ساعات، وسلم عرابي نفسه أسيراً إلى الانكليز، فرجع الخديوي إلى مصر وأقيم وكيل مدافع انكليزي عن رؤساء العساكر المصرية، وآل الأمر حسب إرادة انكلاتيره أن حكم بعقاب عرابي، لكن الخديوي عفا عنه لأنه لم يفعل شيئاً إلا عن وفاق من يتبع وأبقى له مرتباً للقيام بنفسه، ونفي هو وكبراء الرؤساء إلى جزيرة سيلان في الهند، وذاك هو التعليل الباطني، مع أن حزباً عظيماً من الانكليز يرون أن جناية أولئك العساكر سياسة توجب القتل، فلذلك حكم عليهم المجلس الحربي بالقتل لكن الخديوي عفا عنهم، وأبدل القتل بالنفي، ولم تزل العساكر الانكليزية مقيمة بمصر ورجالهم السياسيون هم مرجع الأمر والنهي والوزارة تحت رئاسة شريف باشا، وناظر الداخلية الذي له كمال النفوذ رياض باشا وانكلاتيرة بصدد ترتيب حالة جديدة للسيرة السياسية داخلية وخارجية لمصر، مع إعلانها بأن مصر تحت سيادة الدولة العثمانية على امتيازاتها المقررة بالفرامانات السلطانية، وأن التراتيب التي هي بصددها لا تمس شيئاً من حقوق الدولة، ولا معاهدات الدول الأجنبية، وتقلص نفوذ فرانسا في مصر ولم تزل غير مسلمة رسمياً لانكلاتيرة بمرادها، وللروسية ميل إلى معاضدة فرانسا، هذا ما وقع إلى الآن وهو المحرم سنة ألف وثلاثمائة. تذييل اعلم أن مصر مملكة عثمانية لها امتيازات خاصة بينها الفرمان الصادر في ولاية الخديوي المترجم المرقوم وهو محمد توفيق باشا وهذا نصه: الدستور الأكرم المعظم، الخديوي الأفخم المحترم، نظام العالم، وناظم مناظم الأمم، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب، متمم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيد أركان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 السعادة والإجلال، مرتب مراتب الخلافة الكبرى، مكمل ناموس السلطنة العظمى، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى، خديوي مصر الحائز لرتبة الصدارة الجليلة فعلاً، والحامل لنيشاننا الهمايوني المرصع العثماني، ولنيشاننا المرصع المجيدي، وزيري سمير المعالي توفيق باشا أدام الله تعالى إجلاله، وضاعف بالتأييد اقتداره وإقباله، إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرفيع، يكون معلوماً لكم أنه بناء على انفصال إسماعيل باشا خديوي مصر، في اليوم السادس من شهر رجب سنة ألف ومائتين وست وتسعين، وحسن خدمتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية، ولمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا بأن لكم وقوفاً ومعلومات تامة في خصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفء لتسوية بعض الأحوال الغير المرضية التي ظهرت بمصر منذ مدة، ولإصلاحها، وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المعلومة، مع الأراضي المنضمة إليها المعطاة إلى إدارة مصر، توفيقاً للقاعدة المتحدة بالفرمان العالي الصادر في ثلاثة عشر محرم سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين، المتضمن توجيه الخديوية المصرية إلى أكبر الأولاد، وحيث أنكم أكبر أولاد الباشا المشار إليه وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية، ولما كان تزايد عمران الخديوية المصرية وسعادتها وتأمين راحة كافة أهاليها وسكانها رفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا ومن أجمل مرغوبنا ومطلوبنا، وقد ظهر أن بعض أحكام الفرمان العالي الشأن المبني على تسهيل هذه المقاصد الخيرية المبين فيه الامتيازات الحائزة لها الخديوية المصرية قديماً، نشأ منه الأحوال المشكلة الحاضرة المعلومة صار تثبيت المواد التي لا يلزم تعديلها من هذه الامتيازات وتأكيدها، وصار تبديل المواد المقتضى تبديلها وتعديلها وإصلاحها فما تقرر إجراؤه الآن هو المواد الآتية، وهي أن كافة واردات الخطة المذكورة يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني، وحيث أن أهالي مصر أيضاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 تبعة دولتنا العلية، والخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعدلية، بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تعد في وقت من الأوقات، فخديوي مصر يكون مأذوناً بوضع النظامات اللازمة للداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة، وأيضاً يكون مأذوناً بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدول الأجنبية في خصوص الكمرك والتجارة وكافة أمور المملكة الداخلية، لأجل ترقي الحرف والصنائع والتجارة وتوابعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب، أو الأهالي والأجانب، مع أمور ضابطة الأجانب بشرط عدم وقوع خلل في معاهدات دولتنا العلية السياسية، وفي حقوق متبوعية مصر إليها، وإنما قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي، وأيضاً يكون حائزاً للتصرفات الكاملة في أمور المالية لكنه لا يكون مأذوناً بعقد استقراض من الآن فصاعداً بوجه من الوجوه، وإنما يكون مأذوناً بعقد استقراض بالاتفاق مع المداينين الحاضرين أو وكلائهم الذين يعينون رسمياًن وهذا الاستقراض يكون منحصراً في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصاً بها، وحيث أن الامتيازات التي أعطيت إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خصت بها الخديوية وأودعت لديها، لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقاً، ويلزم تأدية مبلغ سبعمائة وخمسون ألف ليرة عثمانية الذي هو الويركو المقرر دفعه في كل سنة في أوانه كذلك جميع النقود التي تضرب في مصر تكون باسمنا الشاهاني، ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفاً، لأن هذا القدر كاف لمحافظة أمنية إيالة مصر الداخلية في وقت الصلح، وإنما حيث أن قوة مصر البرية والبحرية هي مرتبة من أجل دولتنا العلية يجوز أن يزاد مقدار عساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بالصورة التي تستنسب حالة كون دولتنا العلية محاربة وتكون رايات العساكر البحرية والبرية والعلامة المميزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم، ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية رتباً إلى غاية رتبة أميرالاي، والملكية إلى الرتبة الثانية، ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشىء سفناً مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية، ومن اللزوم وقاية كافة الشروط السالفة الذكر والاجتناب من وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها فقد أصدرنا أمرنا هذا جليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم، ومختار الأكابر والأفاخم، على فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم رجال دولتنا العلية الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف. حرر في تاسع عشر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وست وتسعين انتهت عبارة الفرمان. تنا العلية محاربة وتكون رايات العساكر البحرية والبرية والعلامة المميزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم، ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية رتباً إلى غاية رتبة أميرالاي، والملكية إلى الرتبة الثانية، ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشىء سفناً مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية، ومن اللزوم وقاية كافة الشروط السالفة الذكر والاجتناب من وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها فقد أصدرنا أمرنا هذا جليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم، ومختار الأكابر والأفاخم، على فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم رجال دولتنا العلية الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف. حرر في تاسع عشر شعبان المعظم سنة ألف ومائتين وست وتسعين انتهت عبارة الفرمان. السيد تقي الدين بن عبد الله بن علي الحنبلي الدمشقي الشهير بأبي شعر وشعير قطب المعارف والكمال، وشمس الحقائق والإجلال، الشيخ الناهج منهج الفضائل، والحائز معالي الشمائل، التقي الصالح، والمرشد الناصح، والحبر الزاهد، والورع العابد، شيخ مشايخ الطريقة الشاذلية في دمشق المحمية وكان له مكاشفات ظاهرة، وأخبار غيبية باهرة، وله تأليفات في كلام السادة الصوفية، وصلوات على الذات المحمدية، ومن جملة كلامه في التصوف رسالته في التوحيد على لسان القوم التي سماها عقيدة الغيب وكان بعد تأليفها إذا أراد أن يذكر شيئاً عن نفسه يقول كما قال صاحب عقيدة الغيب، وله كتاب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 نحو أربع مجلدات بلسان غير مألفوف، وفيه أخبار عن أمور كثيرة مما سيقع، ومن ذلك تفصيل قضية حادثة العيسوية التي وقعت سنة سبع وسبعين، وفي آخر أمره حصل له جذب عظيم. وبالجملة فإنه كان أعجوبة الزمان، ونادرة الوقت والأوان، ذا كرامات عظيمة، وخوارق عادات جسيمة، وكان رضي الله عنه يقول: من توقف في شيء من الفتوحات فليأت يوم السبت قبل طلوع الشمس إلى قبري وليقرأ كل إشكاله يكشف له عن معناه. توفي هذا الجهبذ الهمام سنة سبع ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير، وقبره ظاهر مشهور. تركي بن عبد الله بن سعود أمير نجد وناصر عقيدتها كان رجلاً شهماً شجاعاً مقداماً صداماً، مشهوراً بمواقع الحروب، وكان له صولة وصيت وسمعة، وأيام مشهورة في العرب، ولما قويت شوكة نجد وتقدمت صولتها وجهت الدولة العلية إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المصري لقتالهم وكسر شوكتهم، فقاتلهم قتالاً تشيب له الأطفال، وتغيب له عقول النساء والرجال، فأسر إبراهيم باشا عبد الله بن سعود وجميع أولاده، ونقلهم وعائلاتهم إلى مصر، وذلك سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، غير أن المترجم قد انفلت من يد إبراهيم باشا وغاب عنه ولم يقع له بعد التفتيش على خبر، فتركه وتوجه بابن سعود وأولاده وعائلته إلى مصر، ولم يزل المترجم متنكراً يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن قرية إلى قرية بحالة لا يعرفه بها إلا قليل من الناس، وعساكر المصريين تتطلبه من كل جانب، وتدور عليه لتوقعه في أشد المعاطب، إلى سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين، وكان قد فتر أمر التفتيش عليه، فاغتنم الفرصة وشد أزره وظهر للناس وعرفهم بنفسه وحرضهم على مساعدته، وتظاهر يتطلب إمارة آبائه وأجداده، وما برح يتقوى شيئاً فشيئاً والناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 تساعده على مرامه، إلى أن صار عنده جم غفير، وعدد من الشجعان كثير، فملك نجداً وما حولها وجلس على مهاد الامارة النجدية، ولم يبق له معارض ولا منازع، وطرد عساكر المصريين، واستقر على عرش الراحة والتمكين، إن أمر فما لأمره من عاص، وإن نهى فما لمخالفه من خلاص، وبقي على مهاد هذه الإمارة عشر سنوات. وفي أثناء هذه المدة تخلص بعمل الحيلة ابنه فيصل، وفر من مصر هارباً، ولم يزل يقطع البراري والقفار، ويقاسي الشدائد الكبار، إلى أن وصل إلى أبيه المترجم، وأحسن الله له بالخلاص من الأسر وأنعم، ثم إن ابن أخت المترجم مشاري ثار على خاله المترجم، وأراد نزع الإمارة من يده، فعمل الوسائل، وقام قيام الأسد الصائل. وفي أثناء هذه المدة توجه ابن المترجم فيصل غازياً البحرين، فوجد مشاري أنه قد خلا له الجو، ولم يبق للمترجم من مانع يمنعه، فاغتنم الفرصة وقتله واستولى على الإمارة مكانه، وذلك سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين، ولما بلغ فيصل بأن مشارياً قتل أباه حضر إليه من غير مهلة وقتله، وكانت إمارة قاتل المترجم أربعين يوماً وتأمر فيصل مكانه. توفيق أفندي بن محمد أفندي أبي السعود بن سعدي أفندي الأيوبي نسبة إلى سيدنا الصحاب الجليل أبي أيوب خالد الأنصاري النجاري رضي الله تعالى عنه وعن ذريته ذو التحقيقات الواضحة، والتدقيقات الراجحة، والإدراكات السامية، والاستنباطات النامية، والكمالات المعروفة، والآداب الموصوفة، ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 كآبائه في دمشق الشام، وتربى بين علمائها الأعلام، ونهج أولي المناهج، وعرج للترقي أعلى المعارج، إلى أن بلغ مبلغ الكمال، ونبغ في محاسن الأقوال والأفعال، وتحلى بحلية من سلف، واستبدل الدر الثمين بالصدف، واعتصم بحبل الكتاب والسنة، ورأى أن توفيقه لذلك أعظم منة. وله نظم كالدر المنظوم، ونثر يفوق نثر النجوم، ومن نظمه المستطاب، في مدح السيد أحمد الرفاعي قطب الأقطاب، قوله: غيري مناه ظبية وغزال ... وهواه معسول اللمى مختال ومناي كأس مدامة ما شابها ... مزج وشابت دونها الآمال عيناً بها شرب الأولى وطئوا السها ... شرفاً ونالوا رفعة ما نالوا عيناً بها انفجرت ينابع حكمة ... وغدا شفاء ماؤها السلسال عيناً بها سر تنزه عزة ... عن أن تحيط بعشره الأقوال بيد مباركة مقدسة لها ... مدت يد منها الكمال ينال يد أحمد أعني الرفاعي الذي ... هو في البرية زينة وجمال مدت لها يد أحمد خير الورى ... هذا هو التعظيم والإجلال وبطي ذاك بشارة نبوية ... ما حازها الأقطاب والأبدال إن الذين يبايعونك إنما ... قد بايعوه وحفهم إقبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وإشارة لكمو بإرث مقامه ... وبأن عثرة، لائذيك تقال هو آخذ بيمينكم ويمينكم ... بيد المريد أبعد ذاك ضلال ودعتموا فأجابكم وعليكمو ... رد السلام وحسبكم إبجال وسلامه أمن لكم ولمن بوا ... ثق حبلكم علقت له آمال ولذا دعاكم حين ناديتم وذا ... مجد أثيل ما له أمثال صح انتسابكمو لحضرة قدسه ... بالمعنيين وانتفى الإشكال يا صاحب العلمين يا قمر الدجى ... يا طاهر النسبين يا مفضال يا سيداً للفرقتين وحائزاً ... للخلعتين علاك كيف يطال ومجدد الدين الحنيفي بعد ما ... درست معالمه وكاد يزال بالانكسار سموت أسنى منزل ... خضعت لعزة مجده الأقيال وعنت وجوه أولي الوجاهة خشعاً ... لما علاهم من سناك جلال توجت تاج كرامة ورفلت في ... حلل الصفا وثيابك الأسمال ووقفت في باب المليك فأوقفت ... في بابك الأقطاب والأبدال وبلغت من فلك الكمال سنامه ... فلك النجوم الشامخات نعال وحللت ذرة هام أشرف رتبة ... وخلال مجدك ما لهن مثال يا نجل صيد طاهرين أماجد ... بهم عن الأكوان زال وبال آباء صدق لا يرام علاهمو ... وهمو لفخر الأنبيا أنجال نص الكتاب أتى يخبر عنهمو ... بخصائل لم تحكهن خصال فتحوا قلوباً سكرت ونواظراً ... عميت وأسماعاً لها أفعال عنهم روينا المكرمات ومنهمو ... وعليهمو كل الأنام عيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وإليهمو الأرواح حنت حيث لو ... لاهم لما كانت لها أوصال لا غرو يا ابن الأوصياء إذا غدت ... عن وصف ذاتك تقصر الأقوال أوتيت فهماً في الكتاب وحكمة ... ومكانة بالسعي ليس تنال ونطقت في مهد الطفولة منبئاً ... بعلاك قولاً ما به: أيقال؟ وعليك مائدة المواهب أنزلت ... فغدت تفصل ما به إجمال فحكيت روح الله يا روح العلا ... وسناك نسخته وأنت مثال والنار قد خمدت لذكرك واغتدى ... بكمو سلاماً حرها القتال والشائل العجفاء درت عندما ... فازت بلثم يد نداها خال ولنخلة الجرعا أشرت فأذعنت ... وسعت إليك يسوقها إرقال وكذاك أسماكٌ ببصرة أبصرت ... ذاك البهاء فأقبلت تنثال من مثل هذا الوارث النبوي من ... صبت عليه من العلوم سجال أخلاق حضرة جده أخلاقه ... وكذا له أحواله الأحوال وشعاره آدابه ودثاره ... آثاره وفعاله الأفعال وطريقه أن تخلع الكونين مع ... أدب يزين بهاءه الإذلال وطريقه صدق وفقر دائم ... وخلائق تزهو بها الأعمال وطريقه جد بلا كسل فلا ... قيل لديه بنافع أو قال أنى أحيط بوصف ذات قدست ... إذ ليس تقدر قدرها الأقوال أعيت مناقبها الفصيح وأخرس ... المنطيق عنها واستحى القوال لكن أردت بأن أفوز بخدمة ... لكمو ليخدمني بها الإقبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ولقد لجأت لكم بخير وسيلة ... بخؤولة ما شانها إشكال يحلو مكررها بكم وقد انتهت ... للأكرمين ومن هم الأقيال تنمى لأشرفهم بني النجار خلان النبي وهم له أخوال وصلت بأحكمهم أبي أيوب من ... نزل النبي ببيته والآل إن ابن أخت القوم إن يك منهم ... فكذاك في حكم القياس الخال وأنا ابن أخت مثل ما أني لكم ... خال فلي بقرابتي إدلال وعبيدكم حقاً ومولى القوم منهم جاءنا بصريح ذا الأنفال حضرة صاحب السماحة والسيادة السيد توفيق أفندي البكري نقيب السادة الأشراف بمحروسة مصر إمام اغترفت من بحر علمه علماء الأمصار، وهمام اعترفت بفضائله ذوو البصائر من الأفاضل والأبصار، أثمرت أغصان الأقلام بفرائد مآثره، وكشف له العرفان حجاب الستر عن محيا سرائره، له في كل فن مقام مشهور، وفي كل علم علم منشور، وله شعر منظوم نظم الكواكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 في السحر، ونثر منثور نثر اللآلىء والدرر، فلا ريب أنه قلد جيد الدهر بعقود حلاه، وشيد ربوع المجد بنوامي فضله وعلاه، فهو الذي استوى على عرش الفنون، واحتوى على ما تلذ به الأسماع وتقر به العيون. وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسة عشر حينما قامت الحرب بين الدولة العلية واليونان، وكانت طليعة النصر تحت إمرة السلطان عبد الحميد خان، فهنأه المترجم بهذه القصيدة،، المقدمة لذاته السعيدة: أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم لقد سر هذا النصر قبراً بطيبة ... وبيتاً ثوى عند الحطيم وزمزم فحيا أمير المؤمنين وملكه ... ثناء البرايا من فصيح وأعجم إمام له في آل عثمان لحمة ... تبحبح منها في الذرى والمقدم خليفة صدق يسبق الوعد جوده ... كما انهل قبل البرق ميزاب مرهم يسوس الرعايا والبلاد بحكمة ... أقامت لدى نهج من الحق أقوم ويقطع أقران الأمور بفيصل ... من الرأي يحكي منه ضربة مخذم رمى الروم لما أن عتوا بكتيبة ... تميل بأعطاف الوشيج المقوم وأعطاهموا سلماً فلما تألبوا ... لشر غدوا ما بين أنياب ضيغم ومد لهم في الحم باعاً رحيبة ... فزادوا طماحاً في عتو وملأم كذاك مرار النبت أن ما سقيته ... من العذب يزدد طعم صاب وعلقم وزجوا جموعاً كالدبى في عديدها ... فألقاهموا في جوف دهياء صيلم أسال فجاج الأرض بالجند يلتوي ... كأغدرة الوديان في كل مخرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يموج به الماذي في رونق الضحى ... كما ماج لج بين أرحاء عيلم فمن كل صنديد ثبيت مشيع ... سبوق إلى الغايات أحوس مجذم يرى أن في بذل النفوس صيانة ... النفوس وأن قد يحقن الدم بالدم ومن كل ذيال كان هويه ... هوي شهاب أو عقاب محوم ومن كل حصداء دلاص كأنها ... على عاتق الأجناد بردة أرقم وبيض كلون الملح لكن متونها ... كنمل على نهر من الماء عوم وسود جثي كالإكام دوافع ... بحمر كأشباه الصواعق رجم وجأواء حرى كالوطيس أقامها ... عليهم فكانت كالفضاء المحتم كأن النصال البيض وسط عجاجها ... شرار تعالى في دخان مخيم يطير قشاري الحديد بأفقها ... بحبل وتين أو بكفٍ ومعصم فلا شيء فيا غير ضرب مفلق ... لهام ورمي مثل تهطال مرزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وطعن دراك يسبق الحس للردى ... فليس وإن أفنى النفوس بمؤلم أمال بلا ريسا عروش عداته ... وأشرق من فرسالة الأرض بالدم كأن الأكام الأدم لما تصبغت ... به أنبتت نبتي شقيق وعندم ويوم ملسطينو أقام نعيهم ... بشعواء تنفي حدة المتغشرم فأصلاهمو ناراً فقوم درأهم ... كما قوم التثقيف معوج لهذم فأمسوا حديثاً في الأنام وعبرة ... وبادوا كطسم في البلاد وجرهم بيمن له قد أدرك النصر قائد ... رمى منه أكباد العداة بقشعم وسوف يدين المشرقان لملكه ... ويتلى اسمه في كل واد ومعلم ولا زال في علياء ثبت عمودها ... وأيامه ما بين عيد وموسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 حرف الثاء الشيخ ثعيلب بن سالم المصري الشهير بالفشني إمام توحد في الفضائل، وهمام تفرد بين الأفاضل، سار بسيرة ذوي العرفان، واشتهر اشتهار عطارد وكيوان، ولد سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ عن العلامة العزيزي، والعلامة العشماوي، والعلامة الجوهري، وعن غيرهم من السادة الأعاظم، والقادة الأكارم، وانتفع وساد، ونفع وأجاد، ولم يزل على حال حسن، إلى أن دعي إلى نوال المنن. وذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين رحمه الله تعالى. ثويني بن عبد الله بن محمد بن مانع القرشي الهاشمي العلوي الشبيبي تولى مشيخة المنتفق كما تولاها أبوه وجده، وكان أحد أجواد العرب المشهورين، وكان له في حكومته أيام تعد غرراً في جبهة الدهر، منها دبى كربى الموضع القريب من البصرة، وذلك أن كعباً غزا أخاه صقراً بجيش عرمرم، فصدمهم وكسرهم تجاهه، وكان هو الآمر الناهي في ذلك اليوم، إلى أن ملأ الفضاء بجثث القتلى من قبائل كعب الروافض، ومن ذلك اليوم وهم في ذل تحت المنتفق. ومن أيام المترجم الشاهدة له بالشجاعة والإقدام يوم ضجعة، والعوام تحرفه فتقول جضعة، وسببه أن عبد المحسن بن سياج لما اشتاقت نفسه لغزو بني خالد شيوخ الحسا، قصد المترجم ليساعده، وينجده على مرامه فساعده المترجم بما يقدر عليه من الرمح والسيف والمال والجسم والجاه، وشيخ بني خالد إذ ذاك سعدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ابن عرعر، أحد المشهورين بمحاسن الشيم، فلما تحقق مساعدة المترجم، أمر شجعانه أن يشنوا الغارات على عرب المترجم بعد أن أنذر المترجم وخوفه من قتاله وشجعانه، فلما رأى المترجم عازماً على القتال والمساعدة، وكان قد ذهب الصيف وجاء الشتاء، جهز كل منهما عساكره والتقيا في أرض بني خالد، ومضى على ذلك أيام وهم في جلاد وطعان، من الصباح إلى الليل، إلى أن امتطى الخيانة بعض قبائل سعدون، فهرب سعدون هو وأتباعه، وتولى المترجم على بيوتهم ومحلاتهم. ولا زال يترقى مقامه، وتحسن به أيامه، إلى أن نزل في بعض غزواته ماءً يسمى الشباك، فنصبت له هناك خيمة صغيرة وجماعته مشتغلون بمصالح نزولهم في ذلك المكان، فجاءه رجل من أعدائه يقال طعيس العبد، فطعنه بحربة كان بها انتهاء أجله، فانتبه جماعته لذلك، وقبضوا على طعيس وجرعوه كؤوس المنية، وألقوه جيفة للكلاب، ودفن المترجم في جزيرة العمائر، وذلك عام ألف ومائتين واثني عشر رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 حرف الجيم الشيخ جمال الدين بن الشيخ محمد سعيد بن الشيخ قاسم المعروف بالحلاق نبيل عذبت نفسه صفاء ووفاء، ونبيه ملئت شيمته سخاء واحتفاء، تفتحت كمائم رويته عن زهر المعاني، وتوشحت حدائق معارفه بحرز الأماني، مع أدب زرت على الكمال جيوبه، ولطف هبت بعرف الجمال صباه وجنوبه، ونظم قد انتثرت من فرائده عقود الدرر، ونثر قد انتظمت من فوائده الغرر، وقد لبس حلة الحياء فهي دثاره، وجلس على مرقاة الارتقاء التي هي شعاره، فلم تبرح روضة نباهته الزاهية يانعة الأزهار، وغيضة بلاغته الباهية منبت ثمرات الأفكار، وإنه منذ تنسك تمسك بأذيال السنة والكتاب، وعمل بآداب السنة المطهرة وسنة الآداب، فمذهبه مذهب السلف الصالح، ومسلكه مسلك الفريق الراجح. ولد في ثامن شهر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين، من هجرة السيد الأمين. ثم بعد التمييز قرأ القرآن وجوده، وحضر دروس العلوم بهمة جيدة، ولم يزل مجافياً في طلبه اللذة وطيب الرقاد، إلى أن بلغ المقصود والمراد، فأجاز له الكثير من الأفاضل، وشهدوا له في خطوطهم بالفواضل والفضائل، فلعمري إنه ليكشف بذهنه الغامض الذي أحاط به الخفا، ويعرف رسم المشكل وإن كان قد عفا، ويبصر الخفيات بباصر فهمه، ويقصر حلها على إدراكه وعلمه. ومن نظمه قوله: جزى الله عنا الكتب خيراً فإنها ... تنم أحاديث الحبيب بلفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فموقعها أحلى من الماء الذي ... به ظمأ وقت الهجير وقيظه وقال: يا قلب صبراً على هجر الحبيب ولا ... تيأس من الوصل إن الله ذو فرج لك التأسي بمن ذاق الهوى ولوى ... عنه الحبيب وقد أضناه وهو شجي وقال: فرق الجميل على برق الجبين علا ... وعنبر الخال عن بر الوصال خلا مسكي شعر وتركي اللحاظ فكم ... ببارق الجيد منه البرق قد خجلا ياقوت مبسمه يفتر عن درر ... لا عيب فيه سوى كون اللما عسلا هيفاء قامته وطفاء مقلته ... حسناء طلعته كالبدر مكتملا لو أن بدر الدجى وافاه مبتسماً ... لظل منكسفاً من حسنه وجلا أو أن ريم الربى لاقاه ملتفتاً ... لسار مندهشاً من خصره ثملا ذاك الفريد الذي ما مثله رشأ ... قد راش من لحظه سهماً به قتلا مهفهف العطف زاهي الطرف أحوره ... كم جاد ظرفاً ولكن بالوفا بخلا يا منية القلب ما للصب عنك غنى ... فإن عطفت فحظ العبد قد كملا وقال: زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي لا وعمر الحق إني ... سلفي الانتحال مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالي ثم ما صح من الأخبا ... ر لا قيل وقال أقتفي الحق ولا ... أرضى بآراء الرجال وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقال: أقول كما قال الأئمة قبلنا ... صحيح حديث المصطفى هو مذهبي ألبس ثوب القيل والقال بالياً ... ولا أتحلى بالرداء المذهب وقال: زعموا بأن من اقتفى الآثارا ... أولى الذين تقدموا الإنكارا كلا فأجر الاجتهاد لهم سوى ... متعصب يتأول الأخبارا وكتب لي ملغزاً: يا من لحل عويص المشكلات درى ... وبحر آدابه يروي لنا دررا ما اسم له أحرف تسع بظاهرها ... وتلك عشر إذا حققتها نظرا أضحى مسماه ذا شأن له شرف ... بأهله فغدا في الأرض مزدهرا فتاجه علم في الأرض منتشر ... والثان تصحيفه بعض البلاد يرى واثنان أوله فعل وقد أتيا ... لاسم الحكيم الذي في الحذق قد مهرا ثلاثة أول منه أتت علماً ... للعود واسماً لضد الجور قد ظهرا تصحيف ثالثه مع تلوه أتيا ... خلاف علم وفنا نفعه اشتهرا وثالث منه يأتي مثل خامسه ... ورابع منه يحكي سابعاً ذكرا وبعضه الظبي إن صحفته وإذا ... تركته فهو مما في الشتا كثرا وختمه هين في قلبه عمل ... فجد بمعناه يا شهماً جلا الفكرا فأجبته بقولي نظماً ثم نثراً: يا ذا الجمال الذي في اللفط قد بهرا ... وزادنا من سنا إيناسه غررا ألغزت فيما علا قدراً ومرتبة ... ورمت ما يزدري في حسنه القمرا إن الذي رمته قد حاز أوله ... قرآننا يدر هذا من قرا ودرى ذا أعجمي خلت عن مثله لغة الذين ... فاهوا بما أهل النهى سحرا لكن من رام يدري حسن بهجته ... لابد من نية في ختم ما ذكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أيها الخل الحبيب، والخدن الأديب الأريب، إن ما ألغزت فيه، وأردت إظهاره وبيان خوافيه، هو اسم لشيء علا، واشتهر قدره في الملا، ذي نهي وأمر، ومقام تهابه النفس في السر والجهر، وبهجة وزينة، وقوة متينة، ومنعة حصينة، أوله في القرآن في الجزء الأول، وآخره في السنة التي عليها المعول، ويطلق أوله وثانيه على رئيس معلوم، له بين ذويه تقدم في الدين والعلوم. وقد افرد الإله أوله اسماً في آخر كتاب، وإن كان من الأفعال ذات البناء لا الإعراب، وثالثه ورابعه يستعمل في صوت معروف، وإن كان بعضه في المجالس غير مألوف، وخامسه وسادسه قبيلة ومصدر يدل على الجوع، النافي للراحة والنوم والهجوع، وسابعه مع ثامنه بتوسط الأخير، يدل على النهي والزجر والتنفير، ومن اراد كشف استعاراته المكنية، فلابد له على المعتمد من نية، فبها يتم المطلوب، وينكشف المرام والمرغوب. انتهى. وقال مادحاً مختار الصحاح: لمختار الصحاح على الألبا ... عوارف حق أن ترعى وتشكر وإن كان الصحاح له أياد ... فللمختار فضل ليس ينكر وله أبيات كثيرة، وتعاليق فوائدها غزيرة، ورسائل لطيفة، وتحقيقات شريفة، أدام الله نفعه، وأحسن على الدوام صنعه. توفي رحمه الله تعالى مساء السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين ودفن بباب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 السيد جمال الدين بن السيد صفتر الأفغاني قال تلميذه الشيخ محمد عبده المصري في ترجمة هذا الرجل الفاضل: الذي حملنا على ذكر شيء من سيرته ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 لكل نظر بشكل يشاكله، والرجل في صفاء جوهره، وزكاء مخبره، لم يصبه وهم الواهمين، ولم يمسسه حزر الخراصين. وإنا نذكر مجملاً من خبره، نرويه عن كمال الخبرة، وطول العشرة. هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان ينمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد، وتقيم في خطة كنر من أعمال كابل، تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام، ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين، يجلونها رعاية لحرمة نسبها الشريف، وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيه، وإنما سلب الإمارة من أيديها دوست محمد خان جد الأمير الحالي، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل. ولد المترجم المذكور السيد جمال الدين في قرية أسعد آباد من قرى كنرسنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس للتعلم، وعني والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم، ولم يقف دون نهاياتها، تلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف، ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية رياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ومنها نظريات الطب والتشريح، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطريقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج وطالت مدة سفره إليها نحو سنة، وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة في سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، واكتنه أخلاقهم، وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء الفريضة إلى بلاده، ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان، ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه، سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 بعد معاناة الحصر زمناً طويلاً، وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة ثمانين ومائتين وألف، وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته خصوصاً من هو أكبر سناً منه ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة وألبوهم للفساد، طلباً للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من أخوة الأمير ثلاثة محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين، وهوى الشيخ جمال الدين كان مع محمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير، ومشورة الوزير، أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا إلى الولايات كل منهم ذهب إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه ليعتصم بمنعته فيها، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحروب الداخلية، وبعد مجالدات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن الأمير الحالي، وتغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسمياه أميراً على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، وارتفعت منزلة الشيخ جمال الدين عنده، فأحله محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به، فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، على خلاف ما تعوده أمراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين، لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته حمله على تفويض مهمات من الأعمال إلى أبنائه الأحداث، وهم خلو من التجربة عراة من الحنكة، فساق الطيش أحدهم وكان حاكماً في قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، ولم يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوانه، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجراءة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي، واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم، وكادوا ينهزمون لولا ما االتفت يعقوب خان قائد شير علي، فوجد ذلك الغر المتهور منقطعاً عن جيشه، فكر عليه وأخذه أسيراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فتشتت جند قندهار، وقوي الأمل عند شير علي، فحمل على قندهار واستولى عليها، وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي، وبذلوا لها قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود، وجددت خيانات. وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم، وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وعاد اليوم إلى بلاده وهو أميرها، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسابور، وبقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسه الأمير بسوء، احتراماً لعشيرته وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدي خيراً له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران، كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم، وكان لم يمت، فارتحل على طريق الهند سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، ولما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في إجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء إلى مصر وأقام بها نحو أربعين يوماً، تردد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضاً منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة، فبعد أيام من وصولها أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي، لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه، فأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، فرغب إليه مدير دار الفنون تحسين أفندي أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوت باشا، وعلي شرواني زاده، وكان مشير الضابطية، وعلي دولتلو منيف باشا ناظر المعارف، وكان عضواً في مجلس المعارف، فاستحسنه كل مهم، وأطنب في مدحه، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب، تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جم غفير من رجال أهل الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب المعارف، وحضر في الجمع معظم الوزراء، وصعد الشيخ جمال الدين على منبر الخطابة، وألقى ما كان أعده، وأرسل حسن أفندي فهمي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به، وما كان يجدها لو طلب حقاً، ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، تؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن، فشبه الملك مثلاً بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة، والحدادة بالعضد، والزراعة بالكبد، والملاحة بالرجلين، ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضاف واف، ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة، ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب، يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطأ، والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه، وأن أحكام النبوات آتية على ما في علم الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فالأخذ بها من فروض الإيمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل، على شريطة أن لا تخالف الشرع الإلهي، هذا ما ذكره متعلقاً بالنبوة وهو منطبق على ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية، إلا أن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة، وهكذا تكون حجج طلاب العنت، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه وإثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الإسلام، وكيف يكون ذلك، واشتد في طلب المحاكمة وأخذت منه الحدة مبلغها، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه أن يلزم السكون ويغضي على الكريهة، وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف أثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة، فعظم الأمر، وآل إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، هذا مجمل أمره في الآستانة، وما ذكره سليم العنجوري في شرح شعره المسمى سحر هاروت مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. ثم مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الإقامة بها، حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة وظيفة ألف قرش مصري كل شهر نزلاً أكرمته به لا في مقابلة عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض دراً، وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم، ولم يذهب إلى الأزهر مدرساً ولا يوماً واحداً، نعم كان يذهب إليه زائراً، وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. فعظم أمر الرجل في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه، وأعجبوا بدينه وأدبه، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول، فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري وخيري باشا، ومحمد بك سد حمد علي ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية والفقهية، وما شاكل ذلك. ومن عشر سنوات نرى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر، وللحق مدابر، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلاً للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، أخذاً بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فيها، على أن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، أما الثابتون في إيمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين، من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك إلا بصيرة في دينهم، وقوة في يقينهم. ولنا في أئمة الملة الإسلامية ألف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها الحالي توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم مستر قيفيان قنصل انكلتزا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه بريء منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان. مصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان. أما مذهبه فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلداً لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله. أما مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره، وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله، فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعتها، وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها. وأما منزلته من العلم وغزارة المعارف، فليس يسهل على القلم حدها إلا بنوع من الإشارة إليها، وله سلطة قوية على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 له. وله قوة في حل المعضلات كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها، ومهما ألقي إليه من موضوع، يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد، إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه، وكفاك شاهداً على ذلك أنه ما خاصم أحداً إلا خصمه، ولا جادله عالم إلا ألزمه، وقد اعترف له الأروبيون بذلك، بعد ما أقر له الشرقيون. وبالجملة فإني لو قلت ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة، هو من أقصى ما قدر لغير الأنبياء والمرسلين لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه، وكثيراً ما كان التعجل علة الحرمان، وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور عزيف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة، إلا أنه صار اليوم في رسوخ الأطواد، وثبات الأفناد، فخور بنسبه إلى سيد المرسلين صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 عليه وسلم، لا يعد لنفسه مزية أرفع ولا عزاً أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر، وبالجملة ففضله كعلمه، والكمال لله وحده. وأما خلقه فهو يمثل لناظره عربياً محضاً من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته، قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه، بقي علينا أن نذكر وصفاً لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله، وهو أنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات كالجلوس في المنتزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار، وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيداً من اللغو منزهاً من اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم، وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له. هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني أتينا به دفعاً لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل، لأدى بنا إلى التطويل، والله عنده حسن الصواب، وإليه المرجع والمآب. ولم يزل يتقلب على فرش النعم إلى أن نشبت به أظفار النقم، فقاسى من الأمراض شدة، ومضى عليه وهو على حالته مدة، إلى أن استوفى منيته في خامس شوال عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر من هجرة سيد أهل الكمال، ودفن في الآستانة العلية في المقبرة المعروفة بمقبرة المشايخ، أسكنه الله الجنة، وأوسع له في دار الكرامة المنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 السيد جمال الدين بن المرحوم أحمد أفندي بن المرحوم يوسف أفندي المعروف بيوسف زاده شيخ الإسلام والمسلمين، وصفوة العلماء المتقنين، منحة الدنيا وتحفة الدهر، ودوحة الفضائل التي لم تدخل تحت حصر، من طلعت ذاته الشريفة في سماء الكمال بدرا، وانتشرت صفاته المنيفة فعطرت الأرجاء براً وبحراً، وتشنفت المسامع بصنوف نعوته الدرية، وتشرفت البدائع والبدائه بانتسابها إلى براعته العلية. هذا الذي قد فاز بالأماني ... وحاز قدراً ما له من ثان كأنه في ناظر الزمان ... إنسان عين الحسن والإحسان فلا ريب أنه كعبة المعالي، وحسنة محاسن الأيام والليالي، قد ولد هذا الفرد الكامل، والشهم الأوحد الجهبذ الفاضل، يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة أربع وستين بعد المائتين والألف، وعين العناية والرعاية تحوطه من إمام وخلف، وفم الدهر ينادي، بين صاد وغادي: قرت عيون المجد والكمال ... بمن بدا في ذروة الكمال طالعة سعد السعود وله ... حظ ثوى في هامة المعالي بشرى لذا العصر به بشرى له ... يا فوزه ببغية الآمال ولم يزل بحمد الله ينمو، ويترقى على مدارج السيادة والسعادة ويسمو، إلى أن بلغ في العلوم والآداب مبلغ الأفاضل، ونبغ بين الخصوص والعموم في الشمائل وحسن الفضائل، وخدمته المناصب الداعية لترقيه إلى أعلى الرتب، فكان لها هذا المترجم نهاية الأمل وغاية الأرب، وحينما أشرقت بالعاصمة الإسلامية شمس علمه وآدابه، وزها نورها بباهر مظهر جنابه، وأسفر من خدر الفضل محيا صباحه، وظهر لنا من غرته بادر فلاحه ونجاحه، ورشحته المعارف لأعلى المناصب، ووشحته بوشاح التحلي بأثواب النفائس والرغائب، أجلسه سيدنا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، على مهاد شيخة الإسلام بكل احترام وشان، وذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة ألف وثلاثمائة وتسع. فلا ريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أنه أعطى القوس باريها، وقلد السهام من هو حاميها وراميها، وسلم الأمر لأهله، وفوضه لمن اعترف الكل بفضله، أحسن الله إليه وصانه؛ ورفع قدره في العالمين وأعلى شانه. الشيخ جاعد بن خميس بن مبارك الخروصي العماني إمام في المعارف كامل، وهمام في اللطائف والفضائل، قد ترجمه صاحب الحديقة، فقال في أوصافه الأنيقة: أشهد أنه العلم المفرد، والأجل ممن ركع وسجد، وهدى من ضل وأضل بعلومه وأرشد، فهو اليوم زعيم قومه، وكبيرهم الذي صغرت أقرانه لقصورهم عن المقابلة له في صلاته وصومه، تصانيفه دلائل الإعجاز، وتآليفه محشوة بمحاسن الحقيقة والمجاز. فمن لطائفه قوله: خذ هاك يا ابن الأكرمين كتابا ... يحيي القلوب ويفتح الأبوابا واظب على التعليم درساً بالعشا ... والليل، وافتح بالنهار كتابا وإذا أتيت إلى المدارس لا تكن ... عند المعلم لاهياً لعابا وكذاك طاعة والديك ففيهما ... بر تنال من الإله ثوابا توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين. السيد جعفر بن السيد إسماعيل بن السيد زين العابدين بن محمد البرزنجي هو ممن رأس وعلا، ووكف جوده وحلا، وأعاد كاسد البدائع نافقاً، ومخالف الكمال بهديه موافقاً، ورث المجد عن سادة أكابر، لم يعرفوا إلا بالفضائل والمفاخر، والنسب الباهي الباهر، والحسب الزاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الزاهر، أحد علماء الحجاز، العامرين لأرجاء الحقيقة والمجاز، المتسلسلين بالمعارف والفضائل، والمتجملين باللطائف وأعلى الشمائل. حضر دروس العلماء الأعلام، إلى أن حصل على المراد والمرام. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، خرج والده من المدينة الشريفة فساقته المقادير إلى بلاد الكرد من سواد العراق، فاجتمع بواليها عبد الرحمن باشا وكان من أهل العلم والفضل، وله محبة في العلماء زائدة، فأحب السيد إسماعيل المذكور، وأكرمه وأبقاه عند مبجلاً، وزوجه ابنته عائشة، وهي والدة المترجم، فاستمر والد المترجم مقيماً بتلك الأرض خمساً وأربعين سنة، معظماً محترماً. وفي مدة غيبيته كانت فتوى الشافعية بالمدينة المنورة لدى أولاد عمه. وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف عزم والد المترجم على التوجه إلى وطنه، فتوجه في شهر رجب من السنة المذكورة، ولما وصل إلى مصر من طريق الشام، ترك المترجم في الجامع الأزهر، فأخذ عن علمائها المشهورين، وتوجه والده إلى دار السلطنة وامتدح المرحوم السلطان عبد المجيد بقصيدة سنية، فقلده منصب إفتاء الشافعية بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتحية، ثم رجع إلى المدينة ودخلها في أوائل رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. وقد أرخ رجوعه حضرة الفاضل المحترم الشيخ عبد الجليل أفندي برادة بقصيدة غراء مطلعها: الدهر أقبل بالمسرة يسعد ... ولنا بإنجاح المطالب ينجد إلى أن قال: ولطيبة قد عدت قلت مؤرخاً ... في بيت شعر بالمحاسن يفرد قد عاد جاراً للرسول محمد ... نجل نما والعود منه أحمد ثم بعد مدة نزل عن منصب الإفتاء لولده المترجم، فتقلدها سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين قبل وفاة والده بنحو ثمانية أشهر، وجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 تصديق ذلك من دار السلطنة العلية، وتردد المترجم إلى دار السلطنة مراراً، وقلد قضاء صنعاء خمس سنين آخرها شوال سنة ألف وثلاثمائة واثنتين. ثم جاء إلى مكة بأهله، وبعد أداء المناسك رجع إلى المدينة. وله مؤلفات جليلة، ومناقب جميلة، تشهد له بسمو مقامه، ونمو احترامه، أحسن الله إلينا وإليه اه. المرحوم السيد جعفر البيتي نابغة الأدب، الآتي من غرائب المحاسن بكل عجب، يملأ مسامعه بجذل وطرب، ويحلي أعطاف إفهامه بوشاح در وذهب، استكان له عصا الأدب وأطاعه، إذ رأى إحسانه له وإبداعه، مقلداً جيد أبكاره المصون، بمنظوم در بيانه المكنون، همام ألقت إليه الفصاحة مقاليدها، وملكته البلاغة طارفها وتليدها، فتصرف فيها بفكره الرصيف، وصرفها على وفق مراده بأحسن تصريف، فعنده من نوادر التحف كل آبدة، ومقيدة في صحف أفكاره كل شاردة، إن تكلم لم يترك كلاماً لغيره، وإن سار في طرق الإفادة فلله حسن سيره، كيف لا وهو خاتمة أهل الأدب بلا ريب، والمجمع على نزاهة تحريراته من الخلل والعيب، وتفننه في فنون العلوم، أمر ذائع معلوم، سلمت له في طول يده فيها كل أقرانه، وأقرت له بالفضل جهابذة أهل زمانه، فكم له من قطع إنشاءٍ كأنها قطع الروض الأزهر، أو قطع الشهب العنبر، مرقشة بنتف الأمثال، والتحف التي ليس لها مثال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ومن لمع نظم أرفع من الدر قدراً، وأضوع من المسك نشراً، إن تأملتها تجدها للنكت معدناً، ولخرد البدائع مسكناً. فمن نظمه الرقيق، المحاكي للزلال الممزوج بالرحيق، قوله: أبادني السقم لا عيني ولا أثري ... أظن ما عندكم علمي ولا خبري ما عندكم قلقي ما عندكم حرقي ... ما عندكم أرقي ما عندكم سهري ولا اطلعتم على صب تقلبه ... يد الصبابة بين الشوك والإبر ولا رعيتم مراعاتي لودكم ... ولا ذكرتم عهودي مثل مدكري أنا المشوق المعنى المستهام بكم ... حسبي جنوني بكم عزاً ومفتخري والنار لا نار إلا ما حوت كبدي ... ويلاه من حر نيراني ومن شرري يا نازلين حمى نجد ترابكم ... أعزه الله من عيني ومن نظري لولاكم لم يكن في نجد لي أرب ... ولم يكن نجد من قصدي ولا وطري ومن غرر قصائده الباهرة، المخجلة للأنجم الزاهرة قوله: حمامك في الحمى يا صاح صاحا ... فحي على الصبوح وعم صباحا عهودي بالطلا طالت وإني ... سئمت وحقك الماء القراحا تقدم للشمول ولم شملي ... ومن أقداحنا أجل القداحا تأمل في خيوط الفجر لاحت ... وأهمل عاذلي إن كان لاحا وعاجلنا فياقوت الحميا ... إذا طلعت عليه الشمس ساحا وقد قصت أيادي الحزن ريشي ... فأنبت بالمسرة لي جناحا أرح روحي براحك يا نديمي ... وراوحني فإن الروح راحا وليل الصحو أظلم فاقتدح لي ... لأجل السكر بالقدح اقتداحا وقل لعويذلي دع لي فسادي ... فإني قد وهبت لك الصلاحا أدرها من عصير ورود خد ... شقيقاً ضمنت ثغراً أقاحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 يريك حبابها اثني عشر عيناً ... فتعلم مشرباً لك واصطباحا يطوف بها علي اغن غان ... تربع في الضمائر واستراحا رشا دلت مآثره عليه ... وحالي توضح الحال اتضاحا جوارش ريقه أفواح قلبي ... ومنه اعتضت معجوناً نجاحا بعيشك هل رأيت صنوف زهر ... على فرد من الأغصان لاحا يصادر بالنهود عن التشكي ... فألتزم التمائم والوشاحا ويعذل بالعيون وبالتثني ... فاعتنق الصوارم والرماحا إذا طعن الفؤاد برمح قد ... رأيت دمي من العبرات ساحا تنزه منه في بستان حسن ... ترى في صدره التفاح فاحا ومزق لي فؤادك يا ابن ودي ... معي عشقاً ووجداً وافتضاحا على خلع العذار كتبت عهدي ... وغي قد أبى إلا جماحا فلا تعتب إذا ما طاش حلمي ... فقد أبصرت أردافاً رجاحا وحبي شاهدت عيناي فيه ... صنوف الحسن أجمع والملاحا حبيب مذ طرحت سلاح جهدي ... وصبري دونه حمل السلاحا وجد لقتلتي بحديد طرف ... لأول نظرة كانت مزاحا فيا لك نظرة ملئت نصالاً ... ومهجة عاشق ملأت جراحا إذا غنى الحمام هوى تغنى ... ومهما ناح للأحزان ناحا تساكرنا به نرجوه سكراً ... وذاك ألذ ممن قد تصاحى ولا نوفيه حقاً في التصابي ... ومن ذا في الصبا يوفي الصباحا وله من قصيدة عارض بها قصيدة فتح بن النحاس رأى البق من كل الجهات فراعه ... فلا تنكروا تحكيكه والتياعه ولا تسألوني كيف بت فإنني ... لقيت عذاباً لا أطيق دفاعه نزلنا بمرسى ينبع البحر مرة ... على غير رأي ما علمنا طباعه نقارع من جند البعوض كتائباً ... وفرسان ناموس عدمنا قراعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فلو عاينت عيناك ميدان ركضه ... رأيت جريء القلب فيه شجاعه وجنداً من الفيران في البيت كمنا ... متى وجدوا خرقاً أحبوا اتساعه وسرية قمل تنبري إثر سرية ... خفافاً إلى مص الدماء سراعه ينازعها البرغوث لحماً فليته ... رضي بتلافي واكتفينا انتزاعه فلو يجد الملسوع من عظم ما به ... من الصخر درعاً لاستخار ادراعه فرب قميص كان شراً من العرى ... إذا ضمه الملتاع زاد التياعه كأني وكيل للبراغيث قائم ... أقيت له أيتامه وجياعه إذا شبع الملعون مج دماً على ... ثيابي فلا أحيا الإله شباعه فما رشنا بالدم إلا لسانه ... ولم تر عيني مكره وخداعه سلوا عن دمي سارى البعوض فإنني ... علمت يقيناً أنه قد أضاعه فلله جلد صار بالحك أجرباً ... أخاف عليه يا فلان انقشاعه فلا تعذلوا المسكين أن عيل صبره ... وأظهر من جور الزمان انفجاعه فقد مارس الأهوال في أرض ينبع ... ووطأ فوق النائبات اضطجاعه زرعت العنا فيه يميناً ويسرة ... وصيرت صبري والتأسي ذراعه فأعدمني طول المقام تجلدي ... وكشف عن وجه اصطباري قناعه إذا رنم الناموس حولي أعلني ... وصدع قلبي سجعه وابتداعه وإن مص من لحمي وطار تبعته ... إلى فائت منه أرجي ارتجاعه عدمت غناء مثل أنغام سجعه ... فما كان أشنى سجعه وابتداعه ضعيف قوي لا يقر من الأذى ... وأضعف منه من يرجي اصطناعه وكم نفذت في دفعة كل حيلة ... ولو كان بالحسنى طلبت اندفاعه فيا لأصيحابي اقتلوني ومالكاً ... فقد مد نحوي مفسد البق باعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 حجليلان بن عليان من قبيلة من تميم وهو بضم الحاء وفتح الجيم رجل شديد جسور ذو دهاء ورأي، وكان صاحب بلدة بريدة وأميرها، ولما ارتحل إبراهيم باشا المصري من عنيزة حينما غزا الوهابين قصد بريدة فأظهر أميرها المترجم المرقوم الطاعة، وكان على خلاف عقيدة الوهابيين وإن كان لدهائه مظهراً أنه منهم لأمور سياسية دعته لذلك، وكان إذا رأى غريباً يقوم بلوازمه ومصالحه وحمايته وجميع ما يحتاج إليه، وكان ذا دين وصلاح وعبادة واستقامة وحسن سيرة وسريرة، وأوصاف جميلة يحمد عليها بين ذويه وأمثاله، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين في بريدة. جودت باشا بن الحاج إسماعيل آغا ناظر العدلية العثمانية الوزير الكبير، والمشير الخطير، عمدة الأعيان، ونخبة الأركان، وحبر المعارف، وبحر العوارف، ونصل الصواب، بفصل الخطاب، ولد في قصبة لوفجه من بلغاريا وكان أبوه المومأ إليه، ممن يعتمد بها عليه، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 حدقة إنسانهان وعين أعيانها، وركن مجلسها، وعائلته من أكرم العائلاة وأرأسها، وقد بذل المترجم همته، مذ نيطت عنه التمائم، بكسب المعالي ونيل المكارم، إلى أن صار للتلقي أهلاً، وللترقي مجلى، فجاء إلى الآستانة العلية، في أوائل سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين هجرية، وكان ذلك في أواخر أيام السلطان محمود خان، فألف حاشية على الشافية لابن الحاجب وسماها غاية البيان فكانت حسب الواجب، وسلك مسالك العلوم العربية، وخاض بحار الفنون الأدبية، وأتقن من كل علم حقيقته ومجازه، وشهد له بالكمال شيوخه وكل منهم أذن له في التدريس وأجازه، ثم قرأ الفارسية وأتقنها، كما أنه حفظ اللغة العربية وأحسنها، وأما العلوم الرياضية والطبيعية وعلم المعقولات والسياسة، فلا ريب أن له فيها كمال التقدم والرئاسة، وفي سنة ألف ومائتين وإحدى وستين، وجهت إليه رتبة مدرس أول بين المدرسين، وتمم شرح ديوان الصاحب الجليل، الذي كان قد شرع في شرحه فهيم أفندي ومات قبل التكميل، وفي سنة ألف ومائتين وست وستين لما فيه من كمال الأهلية، صار عضواً في مجلس المعارف العمومية، وفي أيام المرحوم عباس باشا خديوي مصر، رافق فؤاد باشا في سفره إلى القاهرة ذات القدر، ثم بعد رجوعهما وجهت إليه عضوية مجلس المعارف الداخلية، الذي أنشىء في دار السعادة العلية، ويوم فتحه قدمت إلى الحضرة الشاهانية، نسخة من القواعد التركية، التي اشترك هو وفؤاد باشا في تأليفها، واتقانها وتهذيبها وترصيفها، ثم ألف الرسالة المسماة بمدخل القواعد، ثم اختصرها وأجاد بما أراد من الفوائد، وفي سنة ألف ومائتين وسبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 صدر قرار مجلس المعارف السنية، أن يؤلف تاريخاً محتوياً على وقائع الدولة العلية، فألف تاريخاً قد ارتاحت له النفوس واطمأنت، وهو عشر مجلدات بالتركية قد تم وطبع واشتهر بتاريخ جودت، وفي سنة إحدى وسبعين وجهت عليه مولوية غلطة فصار من الموالي، وبعدها بسنة وجهت عليه باية مكة المشرفة ثم عضوية مجلس النظامات العالي، وفي أثناء ذلك أحيلت إليه رئاسة المجلس المقام لتنظيم القانون المتعلق بالأراضي المشهور، وهو الذي رتب مجموع قوانين الدولة العلية في ابتداء الأمر المسماة بالدستور، ثم بعد رجوعه من مأمورية التفتيش مع قبرصلي زاده محمد باشا الصدر الأعظم، وجهت إليه مأمورية فوق العادة فسار إلى اشقودره وأزال ما كان بها من كدر ولمم، ثم وجهت إليه رئاسة القومسيون الذي أقامه فؤاد باشا في أيام صدارته ذات المعالي، لأجل ترويج الإجراءات المبنية على الإنهاءات التي كان المفتشون العثمانيون في أناطولي وروم ايلي يرسلونها إلى الباب العالي، ثم صار مفتشاً في بوسنة ووجهت إليه باية صدارة أناطولي، وبعد أن رجع من بوسنة وعاد، سار بمأمورية مخصوصة إلى جبل قوزان وقبودار وكاور طاغ وجبل الأكراد، لأجل أمور سياسية، من تعلقات الدولة العلية، وفي سنة إحدى وثمانين ذهب إلى الاسكندرونة للنظر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 أحوالها، وإصلاح باديتها وجبالها، وفي ربيع السنة المذكورة وجهت إليه رتبة الوزارة السامية، وولاية حلب وكانت سيرته بها حسنة نامية، فأقام سنتين، ثم وجهت إليه رئاسة ديوان أحكام العدلية، وبعد سنتين تحولت إليه رئاسة جمعية العلماء لترتيب مجلة الأحكام المرعية، وبعد انفصاله اعتزل مدة عن الأشغال المهمات، ثم صار عضواً لشورى الدولة وعضواً في قومسيون مجلس الاصلاحات، ثم صار مأموراً في الولاية التي شكلت لترتيب ألوية بياس ومرعش وقوزان، ثم رجع إلى رئاسة قومسيون المجلة ذات الشان، ثم صار ناظر الأوقاف الهمايونية السلطانية، ثم وجهت إليه نظارة المعارف العمومية، ثم جعل معاون شورى الدولة العالية، ثم وجهت إليه ولاية ياينه ثم عاد لنظارة المعارف السامية، ثم وجهت إليه نظارة العدلية المنيفة، ثم وجهت إليه ولاية سورية الشريفة، ثم رجع الآستانة العلية، وتقلب في نظارات مختلفة سنية، ثم صار ناظر العدلية الجليلة مع حيازته على معالي الاقتراب، وفي رمضان عام ألف وثلاثمائة وسبعة انفصلت عنه لأمور خفية الأسباب، وبقي عضواً في المجلس الخاص، معدوداً من الأعيان والخواص، إلى أن توفي في الآستانة عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن بها رحمه الله. توفي في الآستانة عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن بها رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 حرف الحاء الشيخ حامد بن أحمد بن عبيد العطار الشافعي الأشعري الدمشقي فاضل العلماء، وعالم الفضلاء، وإمام السادة الدمشقية، وهمام القادة العلمية، مرجع الخاص والعام، ومجمع الجهابذة الأعلام، شيخ الجميع في زمانه. ومقتدي العموم في وقته وأوانه، وصاحب الدرجة العالية، والمرتبة الرفيعة السامية، فهو من الممتطين مطايا المعالي، والمتحلين بحلل الهمم العوالي، ولد بدمشق سنة ست وثمانين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وليس له غير الاستفادة من إلف، فكان من دأبه الطاعة والعبادة، والتقوى والزهادة، والجد في طلب العلوم، والاجتهاد في تحقيق المنطوق والمفهوم، وقد أخذ عن عدة مشايخ، ما منهم إلا وهو في العلم جبل راسخ، فمنهم والده الشهاب أحمد العطار، ومنهم الإمام الشيخ أحمد الرحمتي المشهور في الأقطار، ومنهم عالم الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري، وغيرهم ممن هو بكل فضيلة حقيق وحري، إلى أن صار صدر الشريعة والدين، ناشراً بتحقيقه طي العلم بالكشف المبين، جامعاً لصحيح حديث الفضائل، آتياً بتدقيقه بما لم تستطعه الأوائل، فلعمري إنه لهو العلامة المحقق المفضال، والمحدث الناقد البصير المعروف بكل كمال، والجامع أشتات الفضائل، والمسارع لأضواء جميع الشمائل، من انعقد الإجماع على أنه فخر المحققين قديماً وحديثاً، وصدر المدققين فقهاً وتوحيداً وتفسيراً وحديثاً، وكان في علم الحقيقة أستاذاً، وفي إرشاد الطريقة ملاذاً، ولا شك أنه اشتهر في العلم أي اشتهار، وكان في عصره كالشمس في رابعة النهار، وكان يقرأ صحيح الإمام البخاري في تكية السلطان سليمان خان، كل صباح خميس من رجب وشعبان، فيجتمع في درسه الأعيان والعلماء، والأكابر والفضلاء، وكانت قراءته له بعد والده المرحوم الشيخ أحمدالعطار، المنتقل إليه بعد وفاة علي أفندي الداغستاني، الذي سار صيته في الأقطار وطار، المنتقل إليه بعد وفاة علي أفندي المرادي ذي القدر والشان، إلا أن علي أفندي المرقوم كان يقرأ الهداية في هذا المكان، في فقه الإمام الأعظم قدس الله سره، وأولاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 لديه كل بشر ومسرة، وكان يقرأ بقية دروسه تارة في داره وتارة في جامع بني أمية، ولدروسه طلاوة وحلاوة وشهرة قوية، وفي سنة اثنتين وستين ومائتين وألف قصد حج بيت الله الحرام، وزيارة سيدنا محمد سيد الأنام، ولما وصل إلى قلعة القطرانة وهو راجع من البلاد الحجازية، ثم أجله ونشبت به أظفار المنية، ودفن بها وقبره ظاهر مشهور، جمعنا الله به في دار المسرة والحبور، آمين. حجليلان بن عليان من قبيلة من تميم وهو بضم الحاء وفتح الجيم الشيخ حسن بن إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن ابن إبراهيم بن عبد الله الشهير بالبيطار الشافعي الأشعري النقشبندي الدمشقي ولادة وقراءة، الميداني إقامة ومدفناً، الوالد الأعظم، والسيد الأفخم والأكرم، والعالم النحرير، والمدقق الخبير، شافعي زمانه، وألمعي أوانه، الجامع بين العلوم العقلية والنقلية، والمقتدي بالكتاب العزيز والسنة المحمدية، بحر العلوم والمعارف، الشارب من أطيب مناهل العرفان واللطائف، الآخذ بعزائم العبادة، والجاعل التقوى إلى الآخرة زاده، الصوفي النقي الصالح، والزاهد التقي العابد الناجح، من أطبق الناس على فضله، واقتدى العموم بصدق قوله وفعله، إن نطق رأيت البيان متسرباً من لسانه، وأدركت من بيانه تمام عرفانه، حوى الكمالات وحازها، وتحقق حقائق العلوم ومجازها، فالفضل حشو ابراده، والنبل تلو إصداره وإيراده، مع نفس عذبت صفاء، وشيمة ملئت وفاء، ومذهب صفا صفاء التبر، وخلص من شوائب الخيلاء والكبر، وسعى لكل نجح، واستوى على ذروة التحصيل والربح، وأدبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 زرت على صدر السنة جيوبه، وهبت بعرف النفس المطمئنة صباه وجنوبه. ولد رضي الله تعالى عنه أثناء سنة ست ومائتين وألف، وشب في حجر والده، ويد العناية والرعاية تجذبه إلى أسنى مقاصده، وحينما بلغ سن التمييز وجهه والده لتعليم القرآن العزيز، عند الفاضل الكامل، والعالم العامل، الشيخ فتح الله أفندي فقرأ القرآن، ثم حفظه على تمام الإتقان، إلى أن صار يعتمد عليه فيه، ويطلب منه ما استتر من مشكلاته وخوافيه، وكان مواظباً على تلاوة آياته، في غالب أوقاته، وتفقه على علامة وقته الشيخ صالح الزجاج، والشيخ حسن العطار المصري الأزهري، والشيخ عبد الله الكردي، وغيرهم مما هو مذكور في ثبته، وقرأ كثيراً من العلوم الآلية والشرعية، على من تقدم وعلى سادة ذوي مقامات علية، وشهرة سنية، منهم علامة العلماء وفهامة القادة الفضلاء، الشيخ خالد الحضرة النقشبندي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ نجيب القلعي والشيخ عبد الرسول المكي والشيخ عمر المجتهد والشيخ عبد الغني السقطي وغيرهم من العلماء الأعلام، والفضائل الكرام، ولا زال يترقى في مدارج العلوم، حتى استوى على عرش المنطوق منها والمفهوم، ويشار بحل المشكلات إليه، ويعتمد في عويصات المسائل عليه، واعترف له مشايخه بالإجادة، وألزموه بالتدريس والإفادة. ولما بلغ من العمر ثلاثين، طلبه أعيان أهل الميدان للقيام بوظائف الإمامة والخطبة والتدريس والتعليم في جامع كريم الدين، فتمنع جهده، وأظهر أن مطلوبهم ليس عنده، فاستعانوا عليه بشيوخه، واجتهدوا في طلبهم له لما يعلمون من تمكنه في العلم ورسوخه، فأجاب دعوة شيوخه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الحال، وقابل الأمر بالامتثال، وانتقل بعياله ومتاعه إلى الميدان، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين وكان لهم به من الحظوة والسرور ما كان، فانقاد له الكبير والصغير، وأحبه الجليل والحقير، وقدموه على الملك والمال، والأهل والعيال، وكان هو لهم بمنزلة الوالد والشقيق، والرفيق الرفيق، يجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعظهم بما ينفع، ويذب عنهم الأذى جهده ويدفع. ومما وقع له من الأمور الغريبة، والحوادث النادرة العجيبة، أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين وألف في رمضان، كان جالساً في حجرته قبيل الزوال يتدارس القرآن مع أحد أولاده، إذ جاءه رسول القاضي فقال له: إن القاضي يرومك فبادر لمراده، فقام ممتثلاً، وللإجابة مستعجلاً، فلما دخل عليه، نظر القاضي بعين المقت إليه، وقال له أنت الذي قد استملت الناس إليك، حتى صاروا لا يعتمدون في مصالحهم إلا عليك، وإن السلطان قد وجه حاكماً لمصالح العباد، وأنت قد حلت بيننا وبينها وهذا عدوان وفساد، وما زال يقرعه هو وأهل المحكمة، وينسبون إليه كل مفسدة ومظلمة، إلى أن أمر القاضي يحبسه في حبس الأشقياء الطغام، وقال له هذا جزاء من يتعرض لمصالح الحكام، ولم يصغ لقوله ولا لاعتذاره، بل كلما بالغ في تلطيفه بالغ في إنذاره، فاستدار حوله الأعوان، وأخذوه إلى الحبس وأسلموه للسجان، فدخل السجن وهو راض بالقدر، ليس في قلبه تغير ولا كدر، وجلس يتلو القرآن، وأهله وأولاده وعائلته ليس لهم خبر بهذا الطغيان، فما أذن العصر، إلا وقد شاع هذا الأمر، فقام الناس على ساق، وأظهروا حالة الخلاف والشقاق، ورعدت رعود الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الأمن والركون ذيلها، وسدت الطرق من ورود الأفواج، حتى لم يبق لسالك من مسلك ولا لناهج من منهاج، وكل إنسان متقلد بأنواع السلاح، لا يصغي لعاذل ولا لاح، وكل من القاضي وأعوانه خال أنه بلغ مطلوبه، ونال من هذا الفاضل مرامه ومرغوبه، وأنه قد أدب فيه سواء، وجعله هدفاً لسهام من عداه، فلما صار الغروب توجه الناس لنصرة الدين أفواجاً، جاعلين ذلك لرضى مولاهم منهاجاً، فلما سمع القاضي بذلك، علم أنه أوقع نفسه بالمعاطب والمهالك، فندم حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 لا ينفعه الندم، وفهم أن ما صنعه زلة قدم، فبادر للتوقع على السادات الأكابر، وهم يقولون له أنت متعنت مكابر، قد فتحت علينا للشر باباً أي باب، وسلكت سبيل الغي وأخطأت طريق الصواب، أظننت أنه بسبب فعلك هان، وأنه لا ينتطح له كبشان، فانظر ما وقع من سوء فعلك، والله يعلم ما يحصل لك وللناس من أجلك، فقال لقد أغراني أعواني، وألقوني في أودية ذلي وهواني، وقالوا لا تخش من تأديبه لأنه رجل حقير، لا يسأل عنه كبير ولا صغير، وإني الآن قد اعترفت بذنبي، وتبت إلى مولاي وربي، فأحضروه لأعتذر إليه، وأقبل رأسه ويديه، وها أنا ذا الآن لأمره مطيع، وعندكم في كف هذا الأمر وقيع، فعند ذلك اجتمع العلماء والأعيان، وتوجهوا وأمامهم نقيب الأشراف السيد أحمد أفندي العجلاني لإخراج المترجم من السجن بالعظمة والشان، فحينما دخلوا عليه، وقدموا جميل العبارات إليه، وطلبوا منه أن يعفو عن ظالمه، وأن يقابله بمراحمه، فقال أنا ما جرى لي ذلك إلا بذنب اقترفته، وإن كنت ما تذكرته ولا عرفته، ونسأل الله أن يعفو عنا، ويققبل صالح الأعمال منا، ثم ساروا جميعاً إلى دار النقيب، فحينما رآه القاضي بادره بالترحيب، وأبدى اعتذاره لديه، وعانقه وقبل يديه، ثم رجع إلى مكانه ومعه من الناس ألوف كثيرة، ولا زالوا يطلقون البارود بين يديه ويلعبون بالسيوف والسنان إلى أن وصلوا به إلى داره الشهيرة، ولم يمض بعد ذلك مدة أيام، إلا وأباد الله ذلك القاضي وأعوانه وأدار عليهم كؤوس الحمام. ثم إنه في آخر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف قد حضر من السلطان الغازي عبد المجيد، مرسوم سني يأمر فيه بدعوة الوالد المترجم والشيخ عبد الرحمن الطيبي إلى الآستانة ويؤكد غاية التأكيد، فأحضرهما حضرة الوالي صفوتي باشا بالتعظيم وأخبرهما بما كان، وأعلمهما بأن السفر قد تعين ثامن رمضان، فتوجها على نفقة الملك الجليل، بكل إكرام وتعظيم وتبجيل، إلى أن دخلا القسطنطينية، دار المملكة السنية، فنزل كل منهما في مكان، ولاحظتهما عين الرفعة والإحسان، وكانت مشيخة الإسلام إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ذاك لحضرة من تصرف من حين شبيبته بدراسة المعارف، وإفاضة العوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، السيد أحمد عارف حكمت بيك، فكان لوالدي منه الالتفات الوافر، والميل المتكاثر، وكان يكثر بينهم البحث والحديث، خصوصاً فيما يتعلق بالتفسير والحديث، فلذلك كان مقدماً عنده على ما سواه، وملحوظاً بعين عنايته ورضاه، وكل منهما أخذ عن الآخر وأجازه، وأسمعه حديث الأولية وذكر معناه وحقيقته ومجازه، ثم قرأ كل منهما الفاتحة، ودعوا لهما وللمسلمين بالدعوات الصالحة، وقد مدح الأستاذ الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين الأكرم والدي بهذه الأبيات على الارتجال، من غير إمهال، وهي: يا قلب أبشر بما ترجوه من منن ... فقد حظيت بشهم كامل فطن حليف علم إمام سيد ثقة ... أخلاقه الشم قد جاءت على سنن فقلت للقلب هذا ما تؤمله ... لقد بلغت المنى والأنس من حسن فأجابه سيدي الوالد حفظه الله، وأحسن مثواه، بقوله: شمس المعارف تغنينا عن السرج ... ومهج الفضل لا يخفى لمن يلج وطالع السعد لا يعروه كاسفة ... وعارف الدهر محفوظ من العوج شيخ الأنام الذي طابت مآثره ... بحر الكمالات ذو الأمواج واللجج فرع النبوة وصف الحسن لابسه ... فنوره ظاهر في وجهه البهج شهم همام وللمختار نسبته ... فيا لها نسبة تسمو لمبتهج رب المعارف والأبحاث شاهدة ... بكونه عارفاً حقاً بلا حرج طود من العلم والإحسان جمله ... حلم به قد سما الأسمى من الدرج بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا ... من فضله نظرة تدني من الفرج يا مبتغي العلم لذ إن رمت ري صدى ... بمنهل بفنون العلم مبتهج يا سائلي عن دليل الصدق في خبري ... شواهد الفضل لا تحتاج للحجج فيمم الركب وانزل روض ساحته ... واشمم شذا طيبه الفياح بالأرج فمنصب المجد فيه حاز غايته ... وقد سعى نحوه بالصدق واللهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وكوكب السعد مسعود بطلعته ... يلوح في ذورة الأفلاك بالبلج ومن يقف بالحمى نودي بلغت مني ... هذا الغياث ففز بالبشر والفرج فالله يحفظه من كل نازلة ... ممتعاً بسرور عنه لم يعج ما نال كل المنى في مدحه حسن ... معطراً من ثناه نفحة المرج ثم إنه بعد تمام رمضان، قامت دواعي الأفراح من كل زوجين اثنان، وذلك لختان جلالة السلطان مراد والسلطان عبد الحميد شبلي مولانا المعظم أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد، وكان فراغ مواكب الختان، ذوات العظمة والشأن، نهار الجمعة حادي وعشرين من شوال، سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من هجرة محمد شمس الكمال، وقد أنشد سيدي الوالد في تهنئة السلطان، ومؤرخاً ذلك الختان: ظهر السرور وزالت الضراء ... وصفا الزمان ونجمه العلياء وترنمت أطيار روضات الهنا ... بدوام عز لم يشبه فناء وتراقصت أغصان هاتيك الربا ... حيث المغارس أرضها الفيحاء وتدلت الزهر الكواكب فرحة ... وبدا الهناء ولم يصبه عناء والناس طراً قد تزايد بشرهم ... وعلا الجميع بشارة حسناء وعلى الرؤوس مشوا بأفخر حلة ... يا حبذا تلك الخطا الحسناء وترى النجوم من البحور تصاعدت ... فكأنها للناظرين سماء نغمات أنس بالتهاني أقبلت ... بترنم تسمو به الأرجاء يا بهجة للعالمين بأسرهم ... حيث الأماكن زانها النجباء بكواكب منها الخيام تزينت ... بشموس أفلاك هم الوزراء وكذا الموالي للرحاب تواردوا ... والبشر فيهم قد علاه هناء لما أنال الله بغيتنا بدا ... ملك الندى وعليه راق بهاء فأراح أرواح الأنام ببشره ... وتروحت من نشره الأرجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 عبد المجيد ولم يزل متمجداً ... بين البرايا سيفه الإمضاء جمع الجموع ليشرفوا بجنابه ... وحضور سنة من هداه سناء إلى أن قال: فأدام عزهما بمجد أبيهما ... وكساهما حللاً لهن بهاء وأدام سعد كمالهم طول المدى ... وأدامهم ما دامت الزهراء ثم بعد الختان تكرر له الاجتماع بحضرة ذي العظمة والشأن، مولانا السلطان عبد المجيد خان، وعرضت عليه الدولة العلية إجراء معاش جزيل، فقال لم يبق في العمر إلا قليل. ومن النوادر اللطيفة، والوقائع الظريفة، أني اجتمعت سنة ثمانين ومائتين وألف في مدينة غزة، بمفتيها حضرة الإمام الفاضل، والعلامة الكامل، السيد محيي الدين أفندي الحسيني، فكان من جملة المذاكرة أن حكى لنا أنه بعد انفضاض موكب الختان شرف حضرة تميمي أفندي مفتي مصر القاهرة إلى بلد الخليل للزيارة، وكان طريقه على غزة، فنزل في دار محيي الدين أفندي المرقوم، فسأله عن سفره إلى الآستانة واجتماعه بالسلطان وعن موكب الختان، فحكى له إلى أن قال له: ولما دخلنا مجلس السلطان للاجتماع معه وكان المجلس في غاية الاتساع، فأخذ كل منا مجلسه والسلطان بعد لم يحضر، والحاضرون كل منهم لا يعرف الآخر، وكل منهم يظن أن الحاضرين على غير لغته، فضاق صدري لذلك ولم أدر ما أفعل، إلى أن رأيت إنساناً عليه الهيبة والوقار، قد نظر إلى الخادم وقال: أسقني ماء مع أنه لم يرد ذلك، ولكن أراد أن يفتح للحاضرين باب معرفة في بعضهم مع بعض فعرفه الحاضرون بأنه عربي، فقمت إليه وقعدت بجانبه، وتكلمت معه، وعرف كل من الحاضرين من يفهم عليه، وانضم إليه، واشتغل كل منهم بالمذاكرة مع من يأنس به ويفهم لغته، وكان أصل ذلك هذا الإنسان فاستسميته فقال أنا من الشام واسمي حسن البيطار وهو المترجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 المذكور واستسماني، ونلنا بعضنا مع بعض في هذا المجلس وبعده غاية الأنس والتهاني، ووجدته عالماً فاضلاً، وشهماً كاملاً، ومدح وأطنب، وأطال وأسهب اه، ولم يزل هذا المترجم في الآستانة معظماً مبجلاً، مكرماً مفضلاً، إلى أن حصل لهم الإذن الشريف بالعود إلى الوطن، مقلدين قلائد الفضل والمنن، وكان يوم السفر من الآستانة يوماً مشهوداً، وموكباً للاجتماع مقصوداًن اجتمع فيه للوداع السادات والأكابر، وذوو المراتب والمفاخر، وكان يوم دخوله إلى الشام يوم اجتماع وسرور، وهناء وحبور، كاد أن يقال ما بقي في الشام إنسان، إلا وقد خرج لاستقبال هذا الحبر المصان، وكانت مدة سفره أربعة أشهر، لأنه بدأ السفر في ثامن رمضان سنة ألف ومائتين وثلاث وستين، وانتهى سفره ثامن محرم الحرام سنة أربع وستين. وكان رضي الله عنه مواظباً على التهجد وصلاة الفجر في الوقت الأول، وبعد الصلاة له أوراد لا يبرح عنها في سفر ولا حضر، منها أوراد الصباح والمساء الواردة في السنة، فإنه كان يقرأها صباحاً ومساء، ومنها أنه يقرأ في كل يوم من القرآن جزءاً، فيختم في كل ثلاثين يوماً القرآن بتمامه، ومنها قراءة حزب الإمام النووي كل يوم، ومنها قراءة الدور الأعلى وصلاة بن مشيش وقراءة سورة الكهف ومريم وطه ويس والدخان والواقعة وتبارك الملك وعم يتساءلون وسبح اسم ربك الأعلى وإنا أنزلناه والإخلاص والمعوذتين والفاتحة، وله أوراد عقب كل صلاة، وأوراد يقرأها في بعض الأيام، ليس له ملازمة عليها، وكان كثير الزيارة لمشاهد السادات، حسن الخلق يغلب عليه الزهد والإعراض عن الدنيا، وكان إذا تصعب أمر بين الناس من حقوق وغيرها بمجرد حضوره وتكلمه فيه ينقضي أمره على أحسن حال، وذلك لصفاء نيته وحسن سريرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف توجهت معه إلى الحجاز، وكانت هذه المرة له المرة الثالثة، ورأيت منه في السفر ما يدل على سمو درجته، وكان له مع علماء الحجاز مذاكرات علمية، وأبحاث علمية، وأبحاث شريفة سنية، وكانوا يشهدون له بالفضل. ولو أردت أن أذكر في هذه الكتابة ما حواه من الشمائل وما لديه، لأفضى الأمر إلى قصر هذا الكتاب عليه، ولكن ما لا يذكر كله، لا يترك كله. وفي ثاني وعشرين من شعبان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف مرض في داء ذات الجنب، وفي ليلة رمضان سأل عن إثبات الشهر، فأخبرناه بإثباته فشرب في السحر ونوى، وأصبح يعالج سكرات الموت، فوضع له بعض عياله نقطة ماء في فمه، ففتح عينيه ومسح فمه، وأمرهن بالإشارة بعدم العود لمثل ذلك. ومات رضي الله عنه قبل الغروب بساعة ونصف، وكان آخر كلامه من الدنيا الذكر، وكان نزوله لرمسه مع قول المؤذن للمغرب الله أكبر، وقد حضر مشهد جنازته جمع عظيم، وعدد جسيم، وما ترى منهم إلا من دموعه ساكبة، وأحزانه متفاقمة دائبة، وأسفه متزايد، وزفيره متصاعد، وذلك كما تقدم في غرة رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، ودفن رضي الله عنه في تربة باب الله بجانب قبر سيدنا تقي الدين الحصني من جهة الشمال، وقبره ظاهر مشهور يزار، ولقد رثاه حفيده ابن أخي الأديب الأريب الشيخ محمد بهاء الدين البيطار: ما قر قلبي من نواك ولا سكن ... كلا ولا عمري أميل إلى سكن غادرت لي مر الصبابة والأسى ... وسلبتني حلو المسرة والوسن أسري وأبكي في المعاهد شاكياً ... وجدي فترثي لي الحمامة في الفنن والوعتي ما للحمام بدافع ... حكم الذي علم السرائر والعلن يا وحشة للشام مذ بان الذي ... فاق الأفاضل بالمعارف والفطن بحر تفجر من عيون بنانه ... عذب البيان مسلسلاً من كل فن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 إن لم يكن أهلاً لكل فضيلة ... ولملتج إن لم يكن غوثاً فمن لله طلعة وجهه إذ طابقت ... لاسم له فلذاك يدعى بالحسن سار المنون به ليسعد رمسه ... بمطالع الأنوار من شمس الزمن بالله يا نعش الحبيب تمهلا ... أو ما علمت البدر غيب في الكفن قسماً بغر خصاله لفراقه ... حن المصلي بعده وشكا وأن والصحف تندبه لفقد جواهر ... كانت بها من قبل غالية الثمن والدهر قمص من برود مصابه ... ثوباً له حاكته ناسجة المحن صبراً لئن ظعن الحبيب فذكره ... فينا بحسن الوصف دوماً قد قطن لما دعته الحور تخطبه لها ... كفوا كريماً مال عن دار الحزن وافاه شهر الصوم ليلة نزعه ... فنوى وأمسك صائماً وفق السنن وبيومه عند الغروب مغيبه ... في اللحد يرجو رحمة من ذي المنن حيا ضريحاً ضمه وسقى ثرا ... هـ العنبري النشر وسمي الهتن وأصابه الإحسان ما صب صبا ... لنسيم نجد ذاكراً عهد الأغن وحباه صفو الأنس ما عام اللقا ... تاريخه روض الجنان له الوطن وكثير من الناس من رثاه، وذكر بعضاً من صفاته وحلاه، ويكفي ما قد ذكرناه، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه. ولقد تشبهت بمن رثاه، ورثيته وإن كنت عاجزاً عن معرفة قدره وعلاه، فقلت، وعلى الله اعتمدت، وبحبله المتين اعتصمت. غاب بدر العلوم تحت التراب ... وتوارت شمس العلا في الحجاب ونعاه الناعون من كل فج ... مات قطب الشآم عالي الجناب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 قل لمغتر بالحياة تنبه ... لرحيل فالعمر لمع سراب لو حياة دامت لصاحب قدر ... لاستدامت لصفوة الأحباب إن في ذا للعالمين لذكرى ... يتحلى بها ذوو الألباب خل خل الملام وارث لحالي ... قد دهاني ما لم يكن في حسابي مات روحي ووالدي وعياذي ... وملاذي وسيدي ومهابي منذ أضحت منه الربوع رسوماً ... كان لي الدمع العندمي شرابي كان سيفاً من الشريعة حدا ... موقعاً أرباب الشقاء في تباب فد قلبي إغماده في قراب ... من تراب فاعجب لذاك القراب كان ذخراً لكل دان وقاص ... ومجيراً من أمه من عقاب ما اعتمادي على الزمان وقد أو ... دى بمولى عليه جل احتسابي لو يكف البلا بساعد جود ... كان يفدى بالأهل والأتراب ليس يدري الأنام من فقدوه ... فقدوا من بكته عين السحاب حسن الاسم والمسمى أبو المجد ... سلسيل العلوم والآداب جبل هائل المهابة راسي ... بحر علم غدا وسيع الرحاب كفه من هواطل السحب أوفى ... وحماه ملجا ومنجى المصاب كعبة الطالبين نيل المعالي ... عرفات لكل داع مجاب ذو صلاة مرضية وصيام ... وقيام بالذل والانتحاب واعتكاف تقول حين تراه ... ذا لعمري داود في المحراب حسن الخلق يوسفي جمال ... لسن النطق مقصد الأنجاب قد زكا محتداً وطاب نجارا ... وعلا قدره على الأتراب خان دهري وغاب مذ غاب صبري ... وسقاني النوى مرير الشراب سلبته الأيام قهراً وكانت ... طوع يمناه في الأمور الصعاب شق قوم عند الخطوب جيوباً ... قلت شقوا القلوب عند مصابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ما ظننا أيدي المنون ترقى ... لنوال الرفيع سامي الجناب طود علم يسير فوق رقاب ... كيف تسعى الجبال فوق رقاب غاب رشدي بفقد مولى نقي ... مستزيد من التقى أواب يا هماماً حوى عظيم صفات ... وإماماً غدا نواك عذابي مذ خلت من سناك زهر المعاني ... عاد وجه الأيام مثل الغراب قد جفاني من بعد بعدك صبري ... ووفاني تحسري وانتحابي ما رأى الناس قبل مثواك غماً ... غير يوم أعددته للذهاب يوم هم يا ويحه واكئتاب ... وانتحاب وزفرة واضطراب من لدرس العلوم بعد اندراس ... من لبث الفهوم للطلاب شدت ركناً للمسلمين قوياً ... أوهنته طوارق الأحقاب طالما ما خفت من فراقك حتى ... صاح بالبين طائر الاغتراب لست أخشى مذ كنت حادث دهر ... صرت أخشى مذ غبت وقع الذباب فتأمل موج البحور تجدها ... تلطم الخد في أكف الروابي وشديد الرياح تسفي تراباً ... فوق هام ندباً على ذا العباب قد فقدنا والله حصناً حصيناً ... وهماماً قطباً من الأقطاب فعظيم على الفضائل أن تخفى ... وفي الناس طيب ذكراك راب لست أسلو وأنت أصل وجودي ... وإلى فضلك الوسيع انتسابي من يلمني إذا سمحت بروحي ... وعيالي وعصبتي وشبابي رب صبراً والله إن فؤادي ... في عذاب وشدة والتهاب حينما سار مسرعاً لقدوم ... بازدحام يحكي ازدحام الضباب نادت الحور يا فريد مقام ... لك جئنا بالبشر والترحاب خلت قبراً حللته مع أذان ... لغروب في شهر عتق الرقاب ذاك قرب من محسن ذي جمال ... غافر الذننب للورى في الحساب هذه رقدة بأوج جنان ... عند مولى الأرباب والأحباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أحسن الله عنك صبر المعالي ... وعزاء الأتراب والأصحاب وسقى روضة أويت إليها ... هاطلاً من مراحم الوهاب وصلاة مع السلام دواماً ... لنبي بر فسيح الرحاب وصحاب والآل مع تابعيهم ... ما دهانا بالبين داعي المآب الشيخ حسن المعروف بالموقع الدمشقي الفرضي الفاضل الذي لا يبارى، والكامل الذي في ميدان السبق لا يجارى، والإمام الذي اتفق العموم على علمه وتقواه، والهمام الذي أخلص العبادة في سره ونجواه. ولد في دمشق الشام، ثم حضر دروس السادة الأعلام، وقد انفرد بعلم الفرائض فكان عليه بها مدار الفتوى، وأحبه العموم لما جبل عليه من الديانة والصيانة والعلم والتقوى، ولم يزل مدار رئاستها، وإكليل هامتها، إلى أن دعاه داعي الإياب، إلى الجنة دار الثواب، وكان ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف. ودفن في مقبرة دمشق المعروفة بمرج الدحداح رحمه الله. الشيخ حسن القوزاني الخطاط الخالدي النقشبندي العراقي رحمه الله العالم الفائق في العلوم، والفاضل الكامل في المنطوق والمفهوم، مفيد الطالبين، ومرشد الراغبين، من أشرق بدر علاه في سماء الإقبال، ونظر إليه العموم بعين الرفعة والإجلال، واشتهر في نواحي العراق، اشتهار الشمس لدى الإشراق، وكان كثير الخشوع، غزير الدموع، ملازماً على العبادة، مع الفقر والزهادة، وقد تحلى بأخذ الطريق، عن صفوة التحقيق والتدقيق، العارف بالله مولانا خالد النقشبندي شيخ الحضرة، رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ورفع مقامه وقدره، ثم بعد أن رآه على كمال الاستعداد، أقامه خليفة في إعطاء الطريق وأذن له بالإرشاد، وما زال على أحسن حال، وأتم منوال، إلى أن اختار الدار الباقية، وترك هذه الدنيا الفانية، وذلك سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين. ملا حسن البزار نقطة مدار الأدب، وكعبة طواف الأرب، والناهل من أعذب مناهل النظام، والآهل لأبدع النثر وألطف الكلام، طالما نظم ونثر، والفصاحة مقبلة عليه بوجهها الأغر، وقد أخذ من عقودها جواهر، وحلى بها جيد الأوراق والدفاتر، فمن تلك العقود البهية، والجواهر النفيسة السنية، قوله: شجتني بذات البان ورق صوادح ... لهن بأعلى الربوتين هدير تذكرن عيشاً بالحمى راق ظله ... فطابت عشيات بها وبكور فنحن وما لي غيرهن على الأسى ... معين ولا لي غيرهن سمير وبت ونار الشوق بين جوانحي ... تشب ودمع المقلتين غزير خليلي ليس الحب ما تعرفانه ... ولا تحسبا أن الغرام يسير وما هي إلا النار تسعر بالحشا ... لها كل آن لوعة وزفير تحاربني الأشواق في معرك النوى ... ومالي عليها يا نديم نصير فنومي وتسهيدي مقيم وراحل ... ودمعي وقلبي مطلق وأسير نزلنا بسلع والأحبة باللوى ... وما بيننا غير النسيم سفير تعللني منهم على البعد نفحة ... كما فاح من أردانهن عبير وتعبث في لبي أحاديث ذكرهم ... كما عبثت بالشاربين خمور هم أسعروا قلبي وقد سكنوا به ... ففيه لعمري جنة وسعير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وله أيضاً: ألا لامني الأصحاب يوم سويقة ... وهل عرف الأحباب فيمن غراميا غرامي بسلع يا هذيم وحاجر ... وإن كنت عن تلك الأماكن نائيا وما أنا إلا عاشق، كل عاشق ... فلابد أن يلقى عذولاً ولاحيا وما الدهر في أهليه إلا محكم ... ينائي قريباً أو يقرب نائيا ولما شجاني ليلة الخيف بارق ... بكيت فأمسى ضاحكاً لبكائيا وبت وخضراء الجناح بذي الغضا ... مجاوبة بالسجع مني القوافيا وكم رمت كتمان الهوى فوشى به ... لدى البين دمع ليس ينفك جاريا هل البعد إلا أن علا وجد دارهم ... ومنعرج الجرعاء يا سعد داريا أم الوجد إلا أن أذوب صبابة ... وتدمي دموعي ما بكيت المآقيا على أننا كنا وما بيننا سوى ... أجارع نعمان وما كنت راضيا ألفت الهوى طفلاً فشابت عوارضي ... لعشرين من عمري فأين شبابيا وحاربني من قبل خلع تمائمي ... زماني فما للنائبات وما ليا ولست أبالي بعد هذا أكان لي ... عدواً مبيناً أم خليلاً مصافيا وله أيضاً: هذا الغرام وهذا من أحب معي ... فكيف لو بان عني الحب أو بعدا وجد تحمل منه قلب عاشقه ... ما لم يدع عنده صبراً ولا جلدا هذا ولا ذنب للأشواق في كبدي ... عيناي قد جلبت لي الوجد والكمدا لم أنس وقفتنا يوماً بكاظمة ... والقلب يعتاده وجد بمن وجدا والشوق يجري دموعي في معاهدها ... والدمع يذكي من الأشواق ما خمدا والورق تسعدني يوماً وأسعدها ... والقلب يذكر بالجرعاء ما عهدا والخل يعذلني فيه فيعذرني ... لما يرى أن لوم العاشقين سدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الشيخ حسن بن عمر بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الشطي الدمشقي الحنبلي البغدادي الأصل الشيخ الإمام، والعمدة الهمام، صاحب السيرة الحسنة، والشمائل المستحسنة، والأوصاف الكاملة، والفضائل الشاملة، نشأ في معابد الطلب والاستفادة، وأكب بعده على الإحسان والإفادة وكانت ولادته في صفر سنة خمس ومائتين وألف وله في مذهب الإمام أحمد بن حنبل التآليف المفيدة النافعة، وله أيضاً في بقية العلوم الشريفة من توحيد وبيان وحساب ومساحة. وقد شرح الإظهار في النحو، وله مولد شريف، ومعراج منيف، وشرح على حزب الإمام النووي، ومجلس في ختم البخاري. وقد أخذ عن الشيخ محمد الكزبري وولده الشيخ عبد الرحمن والملا علي السويدي والشيخ مصطفى السيوطي وكثير من العلماء الأعلام، والجهابذة الفخام وله من النظم والنثر، ما يشهد له بالفضيلة والقدر، ومن نظامه قوله مادحاً قرية دوما وخطيبها الشيخ محمد: عرجا بي على ربوع بدوما ... فسلامي لأهل دار السلام وأنيخا ركبي بها كل يوم ... نرتعن في رياضها بالمرام حفها الله بالهنا وحباها ... بأناس ذوي علا وكرام سيما من غدا خطيب رباها ... صين من خطب هول يوم الزحام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ومن قوله تخميساً: أيا من حاز فضلاً فز بوصل ... ففيه الخير محفوفاً بشمل وألق السمع ميموناً بقول ... حبا الله النبي مزيد فضل على فضل وكان به رؤوفا فدع أبويه من قول أباه ... أولو فضل علا تغنم حباه فكم خير جنى حقاً لباه ... فأحيا أمه وكذا أباه لإيمان به فضلاً منيفا وإن تعجب فلا عجب كبير ... فقدر المصطفى قدماً جدير وإياك الجمود فذا خطير ... فسلم فالقديم بذا قدير وإن كان الحديث به ضعيفا وقد صح عند بعض أهل الكشف حديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال بعضهم: أيقنت أن أبا النبي وأمه ... أحياهما الرب الكريم الباري حتى له شهدا بفضل رسالة ... صدق فتلك كرامة المختار هذا الحديث ومن يقول بضعفه ... فهو الضعيف عن الحقيقة عاري وتوفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين من الهجرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ودفن في مقبرة قاسيون في سفح الجبل وقبره ظاهر معروف رحمه الله تعالى، وكتب على بلاطة قبره ما نظمه له علامة وقته السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق الشام: هل كوكب العلم استكن ... تحت الثرى غض الأديم أم تخذ القبر وطن ... لما رأى أن لا نديم يا فاضلاً في كل فن ... من بعده الفصل عقيم كم ذا له فينا منن ... مازت لنا الفهم السقيم قد ملأ الدنيا حزن ... بندبه هذا الكريم هو أن يكن شطي السكن ... لكنه بحر عظيم حررت لما أن سكن ... في ظل مولاه الرحيم تاريخه الشطي حسن ... يقر في دار النعيم الشيخ حسن بن غالب الجداوي المالكي الأزهري المصري الإمام العلامة أحد المتصدرين، وأوحد العلماء المتبحرين، حلال المشكلات، وصاحب التحقيقات، السمح السهل، الذي هو لكل ثناء أهل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب، بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب، ومحادثة أصفى من الزلال المطلوب، وبالجملة فما هو إلا فرد العصر والأوان، وهو من الدهر بمنزلة العين من الإنسان، وقد ترجمه الإمام الجبرتي فقال، عليه رحمة الملك المتعال: ولد بالجدية، في سنة ثمان وعشرين ومائة وألف وهي قرية قرب رشيد، وبها نشأ، وقدم الجامع الأزهر فتفقه على بلديه الشيخ شمس الدين محمد الجداوي، وعلى أفقه المالكية في عصره السيد محمد بن محمد السلموني، وحضر على الشيخ علي خضر العمروسي، وعلى السيد محمد البليدي، والشيخ علي الصعيدي، أخذ عنهم الفنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 بالإتقان، ومهر فيها حتى عد من الأعيان، ودرس في حياة شيوخه وأفتى، وهو شيخ بهي الصورة، طاهر السرية، حسن السيرة، فصيح اللهجة شديد العارضة يفيد الناس بتقريره الفائق، ويحل المشكلات بذهنه الرائق، وحلقة درسه عليها الخفر، وما يلقيه كأنه نثار جواهر ودرر، وله مؤلفات وتقييدات وحواش وكان له وظيفة الخطابة بجامع مرزة جربجي ببولاق ووظيفة تدريس بالسنانية أيضاً، وينزل إلى بلدة الجديه في كل سنة مرة، ويقيم بها أياماً ويجتمع عليه أهل الناحية، ويهادونه ويفصلون على يديه قضاياهم ودعاويهم وأنكحتهم ومواريثهم، ويؤخرون وقائعهم الحادثة بطول السنة إلى حضوره، ولا يثقون إلا بقوله. ثم يرجع إلى مصر بما اجتمع لديه من الأرز والسمن والعسل والقمح وغير ذلك ما يكفي عياله إلى قابل، مع الحشمة والعفة. توفي بعد أن تعلل أشهراً في أواخر شهر ذي الحجة، سنة اثنتين ومائتين وألف، وجهز وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل، ودفن عند شيخه الشيخ محمد الجداوي في قبر أعده لنفسه رحمه الله تعالى. الشيخ حسن الكفراوي الشافعي الأزهري يتيمة الدهر. وعلامة القطر. الفاضل الكامل. والعالم العامل. قال الإمام الجبرتي: ولد ببلده كفر الشيخ حجازي بالقرب من المحلة الكبرى، فقرأ القرآن وحفظ المتون بالمحلة، ثم حضر إلى مصر، وحضر شيوخ الوقت مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ محمد الحفني والشيخ علي الصعيدي، ومهر في الفقه والمعقول، وتصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ودرس وأفتى واشتهر ذكره، ولازم الأستاذ الحفني، وتداخل في القضايا والدعاوى وفصل الخصومات بين المتنازعين، وأقبل عليه الناس بالهدايا والجعالات، ونما أمره وراش جناحه، وتجمل بالملابس وركوب البغال، وأحدق به الأتباع، واشترى بيت الشيخ عمر الطحلاوي بحارة الشنواني بعد موت ابنه سيدي علي، فزادت شهرته ووفدت عليه الناس، وأطعم الطعام واستعمل مكارم الأخلاق، ثم تزوج ببنت المعلم درع الجزار بالحسينية وسكن إليها، فاجتمع عليه أهل تلك الناحية وأولوا النجدة والزعارة والشطارة، وصار لهم بهم نجدة ومنعة على من يخالفه أو يعانده، ولو من الحكام، وتردد إلى الأمير محمد بك أبي الذهب قبل استقلاله بالأمارة، وأحبه وحضر مجالس دروسه في شهر رمضان بالمشهد الحسيني. فلما استبد بالأمر ولم يزل يراعي له حق الصحبة ويقبل شفاعته في المهمات، ويدخل عليه من غير استئذان في أي وقت أراد، فزادت شهرته، ونفذت أحكامه وقضاياه، واتخذ سكناً على بركة جناق أيضاً، ولما بنى محمد بك جامعه كان هو المتعين فيه بوظيفة رئاسة التدريس والإفتاء ومشيخة الشافعية، وثالث ثلاثة المفتين الذين قررهم الأمير المذكور وقصر عليهم الإفتاء، وهم الشيخ أحمد الدردير المالكي والشيخ عبد الرحمن العريشي الحفني والمترجم، وفرض لهم أمكنة يجلسون فيها، أنشأها لهم بظاهر الميضأة بجوار التكية التي جعلها لطلبة الأتراك بالجامع المذكور، حصة من النهار في ضحوة كل يوم للإفتاء، بعد إلقائهم دروس الفقه، ورتب لهم ما يكفيهم، وشرط عليهم عدم قبول الرشا والجعالات، فاستمروا على ذلك أيام حياة الأمير. واجتمع المترجم بالشيخ صادومة المشغوذ، ونوه بشأنه عند الأمراء والناس وأبرزه لهم في قالب الولاية، ويجعل شعوذته وسيمياه من قبي الخورق والكرامات، إلى أن اتضح أمره ليوسف بك فتحامل عليه وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 قرينه الشيخ المترجم من أجله، ولم يتمكن من إيذائهما في حياة سيده، فلما مات سيده قبض على الشيخ صادومة وألقاه في بحر النيل، وعزل المترجم من وظيفة المحمدية والإفتاء، وقلد ذلك الشيخ أحمد بن يونس الخليفي، وانكسف باله وخمد مشعال ظهوره بين أقرانه إلا قليلاً، حتى هلك يوسف بك قبل تمام الحول، ونسيت القضية، وبطل أمر الوظيفة والتكية، وتراجع حاله لا كالأول. ووافاه الحمام بعد أن تمرض شهوراً وتعلل، وذلك في عشرين شعبان من السنة الثانية بعد المائتين والألف، وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل، ودفن بتربة المجاورين. ومن مؤلفاته إعراب الآجرومية وهو مؤلف نافع مشهور بين الطلبة، وكان قوي البأس شديد المراس، عظيم الهمة والشكيمة، ثابت الجنان عند العظائم، يغلب على طبعه حب الرياسة، والحكم والسياسة، ويحب الحركة بالليل والنهار، ويمل السكون والقرار، وذلك مما يورث الخلل، ويوقع ف الزلل، فإن العلم إذا لم يقرن بالعمل، ويصاحبه الخوف والوجل، ويجمل بالتقوى ويزين بالعفاف، ويحلى باتباع الحق والإنصاف، أوقع صاحبه في الخذلان، وصيره مثلة بين الأقران، كما قال البدر الحجازي رحمه الله تعالى: إذا بعبد أراد الله نائبة ... أعطاه ما شاء من علم بلا عمل فعده لاصطياد المال مصيدة ... يعدو به عدو معدود من الهمل مثل الحمار الذي الأسفار يحملها ... وما استفاد سوى الإجهاد والملل يقول بالأمس عند القاضي كنت كذا ... عند الأمير وقد أبدى البشاشة لي وقام لي وبقدري قام أطعمني ... حلوى وألبسني الحالي من الحلل ومن مكاني والحكام طوع يدي ... وأين مثلي وما في الكون من مثلي أجيد فقهاً وتفسيراً ومنطق مع ... علم الحديث وعلم النحو والجدل وغيرها من علوم ليس من أحد ... يحاول البعض منها غير منخذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فصال إذ صار بالأشرار متصلاً ... على الأنام صيال الصارم الصقل له يشار إذا ما سار وهو على ... ركوب بغل سمين في الدواب علي يقال هذا فلان والصحاب به ... قد أحدقت ملأت كفيه بالقبل يصيح إذ رام يقريهم بهمته ... صياح شخص عن المعقول في عقل يقول ذا مذهبي أو ما فهمت وذا ... بالرد عندي أولى ليس ذا بجلي كأنه في الورى قد صار مجتهداً ... كالشافعي وأبي ثور أو الذهلي فتاه في تيه وادي العجب ليس له ... إلى هداه سبيل ما من السبل وصار منجدلاً في المقت ميت هوى ... أثوابه كفناً عدت بلا جدل فيا لداهية دهياء قد نزلت ... به وزل بها في هوة الزلل أذ أعقبته عقاباً لا عقيب له ... وعلة ما علاها قط من علل فحين حلت به حلت حلاه وما ... لمن يحاول عنه الحمل من حيل فعنه فجا شنيعاً خذ بعيد ردى ... على متون جياد العزم وارتحل إذ ذلك الشخص إبليس التعيس ومن ... له بإبليس يا للناس من قبل إليك يا ملجأ الجاني لجا حسن ... هو للحجازي الذي قد جال في الوجل من الدعاء الذي لا نفع فيه ومن ... فحش المقال وسوء الحال والمحل وصل رب وسلم ما استنار ضحى ... على نبيك طه أفضل الرسل والآل والصحب والأتباع من كملوا ... ما أوجد الله من عال ومستفل اللهم الطف بنا ووفقنا وارحمنا وأحسن عاقبتنا وقنا واكفنا شر أنفسنا يا أرحم الراحمين، اللهم آمين. الشيخ حسن بن إسماعيل بن حسين المغربي حفيد صاحب البدر التمام كان بارعاً في جميع العلوم والمعارف شيخ مشايخ عصره، قال في البدر الطالع بعد بيان مناقبه: والحاصل أنه من العلماء الذين إذا رأيتهم ذكرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الله عز وجل، وكل شؤونه جارية على نمط السلف الصالح، وكان إذا سأله سائل أحاله في الجواب على أحد تلامذته، وإذا أشكل عليه شيء في الدرس أو فيما يتعلق بالعمل سأل عنه غير مبال، سواء كان المسؤول عنه خفياً أو جلياً، لأنه جبل على التواضع. ومع هذا ففي تلامذته القاعدين بين يديه نحو عشرة مجتهدين، والبعض منهم يصنف إذ ذاك في أنواع العلوم، وهو لا يزداد إلا تواضعاً. وكان في كل علم غاية، وفي كل فن قد بلغ بالنسبة لأمثاله النهاية. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثمان. الشيخ حسن بن خالد الحازمي العريشي عالم كبير، وفاضل شهير، قال في التاج: ولد سنة ألف ومائة وسبعين وقد صار لمزيد ذكائه، وفرط وداده ووفائه، وحسن حفظه، وقوة إدراكه، من أفضل العلماء الأعلام، والسادة القادة الكرام، ثم لما استولى أهل نجد على بلاد أبي عريش ودخل الشريف حمود في طاعتهم، صار هذا عنده هو المرجوع إليه، والمعتمد في الأمور الشرعية عليه، وكاد حمود يطيعه، ويأتم به ولا يخالفه، ثم ارتفعت درجته حتى صار يقود الجيوش، ويتولى الحروب ويقيم الحدود مستقلاًن وحمل الناس على العمل بالسنة، ومنعهم من التدريس في فقه المذاهب بأسرها، فعظم ذلك على المقلدة. ولم يزل على هذه الطريقة حتى قتل في المعركة سنة ألف ومائتين وأربع وثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الشريف حسن أبو أحمد بن علي الحسيني البخاري القنوجي العالم العلامة فرع من ذؤابة هاشم، ونبعة من وشيج تلك المكارم، من آل السيد جلال الدين البخاري، وهو من عصبة كلهم سادة مكرمون، لا يمس صحف مجدهم إلا المطهرون، من حدث البشرية، ودنس الهيولى الدنية، من كل من قضى للعلياء وطرها، وتلا آيات الكرامة وسورها، تعبق منهم أنفاس النبوة، وتجر لهم على وجه البسيطة أذيال الفتوة، ولم تمح محاسنهم من صحائف الليالي والأيام، ولا تثمر بمثلها أغصان اليراع والأقلام. ولد رحمه الله سنة ألف ومائتين وعشر. ثم قرأ القرآن وتعلم الفنون الآلية وحصل الأدب وسافر إلى البلاد، ودار على المشايخ الأمجاد، من أجلهم أبناء الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي، وهم الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين والشيخ عبد القادر رحمهم الله تعالى، وكان له محبة أكيدة مع الشيخ إسماعيل الشهيد، والشيخ عبد الحي المرحوم، وكانت بيعته على يد السيد العارف أحمد البريلوي، سافر معه إلى خراسان، وجاهد في الله باللسان والجنان والبيان، والصارم والسنان، ثم عاد إلى موطنه قنوج، وألقى به عصا التسيار، واشتغل بالتآليف والتذكير، وهدى الناس إلى هدى الله الجبار، وكان آية بينة من آيات الله في التقوى والعبادة والعمل، وتأثير الوعظ وقلة الأمل، وإيثار القناعة في المأكل والمشرب والملبس، ذا سطوة عظيمة، وهيبة فخيمة، يخافه الأمراء والعلماء، لسانه أمضى من السيف البتار، وسوطه على المبتدعين والمشركين يثير قتار الدمار. لم يزل مواظباً على الطاعات والعبادات، قائماً لله تعالى بالحجج البينات، عاملاً بالدليل، تاركاً للاقتدا بالغير، متباعداً عن التقليد متمسكاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 بالسنة المطهرة في كل حقير وجليل، معتصماً بكتاب الله العزيز لا يبالي بعدو ولا خليل. مات شاباً ولم يخلف شيئاً سوى الكتب التفسيرية والحديثية، وتأسف الناس على فقده فوق الوصف، ومنذ توفي ذهب رونق الإسلام، وعلو شعائر الدين من ذلك البلد، وكان قد نوى الهجرة من بلد الهند إلى الحرمين الشريفين، فاخترمته المنية، قبل بلوغ هذه الأمنية، وإنما الأعمال بالنيات، توفي سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين. وأرخه بعضهم بقوله مات بخير اه من التاج المكلل باختصار. الشيخ حسن سكر الميداني الدمشقي كان رجلاً من أهل الجذب، وكان لا يتناول من الدنيا شيئاً، وزعم الراوي عنه أنه اتفق له مراراً متعددة في مجالس متعددة أنه يشير بيده ثم يفتح كفه عن أنواع من الدراهم والدنانير ويأخذها الحاضرون منه وينظرون إليها، ثم يأخذها منهم، ويشير بيده ثم يفتح كفه فلا يجدون شيئاً. وله من خوارق العادات أمور كثيرة مشاهدة لكثير من الناس. وكان غالباً لا يلبس على بدنه إلا ما يستر به عورته، مات رحمه الله نهار الثلاثاء سابع شهر رمضان المبارك سنة تسعين ومائتين وألف، ودفن في تربة باب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الشيخ حسن السفرجلاني الشافعي الدمشقي الشاذلي شيخ الطريقة الشاذلية بدمشق وإمام الحنفية، بجامع بني أمية، وكان مهاباً معظماًن ذا قدر واعتبار، فصيحاً ذا محاضرة، مات سنة عشرين ومائتين وألف، ودفن بباب الصغير. الشيخ حسن الدنا بن الشيخ أديب الدنا التائه الكبير، والمعتقد الشهير، المجذوب الغائب بمولاه، عما سواه، كان في أغلب أمره مكشوف العورة، مأخوذاً عن نفسه يتقدم تارة في مسيره ويرجع أخرى، وهو يفرك بيديه ويعض على أصابعه، ولا يتكلم أبداً، مات سادس عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين ومائتين وألف. السيد حسن بن تقي الدين بن حسن بن مصطفى بن إسماعيل ابن محب الدين بن شمس الدين بن ضياء الدين حميدة ابن زين الدين البوصلي البلقاوي الشافعي الدمشقي الشهير بتقي الدين الحصني مفتي دمشق الشام صدر الصدور، وزينة الأزمنة والدهور، قد فض عن فم أمانيه ختما، واستمال قلوب الحكام إليه حتما، وكان جسوراً فصيح المقال، مقدماً في زمانه على ذوي المهابة والإجلال، وتعرض لمنصب إفتاء دمشق الشام في أيام حسين أفندي المرادي، فعزلت الحكومة حسين أفندي المرقوم من الإفتاء ووجهته على المترجم المرقوم، فجعل لنفسه قدراً عظيماً، ورونقاً جسيماًن حتى أنه إذا أراد التوجه لمركز الحكومة لابد أن يمشي بركابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 أربعون رجلاً من الشجعان، كلهم مقلدون بأنواع الأسلحة، وإذا وصل لمركز باب الحكومة يقوم لاستقباله متسلم البلد المعروف بتفنكجي باشي، ويمشي أمامه إلى أن يجلس في مكانه، ثم يتصدى لتعاطي الأمور، ومدار الحكم في القضايا عليه لا على غيره يدور، وبقي مفتياً ستة أشهر واياماً، ثم عزل عن الإفتاء وغيره. ولما بلغه ذلك اعتزل في داره إلى وفاته، وكان ذلك سنة أربع وستين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى وتأسف كثير من الناس عليه لما لديه من الشهامة الهاشمية، والمآثر العربية، والنصرة لكل قاصد، والمساعدة لكل راسم رائد، عوضه الله الجنة، وأجزل له عنده المنة آمين. الشيخ حسن بن محمد الشهير بالعطار الأزهري المصري مولدا المغربي محتدا عظيم شأن لا عيب يضاف إليه، سوى أن أهل عصره قد دار أمرهم في علومهم عليه، فهو فرد المعارف والعوارف، وكعبة حرم اللطائف لكل طائف، به جمال محيا العلم قد ازدهى، وإليه كمال الفهم قد انتهى، فلله دره من همام قد ارتقى سماء الفضائل، وانتقى لنفسه أحسن الخصال والشمائل. ولقد انفرد في علم الأدب وأجاد فيما نظم ونثر، وأحاطت به الفنون إحاطة الهالة بالقمر، وكان مقره بالجامع الأزهر، والمقام الأنور. ولما استولى الفرنسيس على مصر، وجعل زمامها إليه بالقوة والقهر، وسام أهلها كل ضيم وبلية، وكاد أن يجرعهم كؤوس المنية، خرج المترجم فاراً بنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 إلى دمياط، لما حصل في مصر من الشطط والشياط، وفي عام ألف ومائتين وسبعة عشر، توجه إلى بلاد الروم فاستقام بها مدة واستقر، وفي سنة خمس وعشرين توجه إلى الشام، فدخلها زوال يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول شهر ولادة سيد الأنام، فتلقاه أهلها بما لاق، وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق، فتعلق به والدي تعلق اللازم بالملزوم، وحضر دروسه في أكثر العلوم والفنون، فكان لوالدي كالروح للجسد، وكان هو يقبل على والدي إقبال الوالد على الولد، لما يرى له من علو الهمة، وسهر الليالي المدلهمة، ولم يزل لمجالسه ملتزما، وفي سلك الملتقطين لدرر نفائسه منتظما، إلى أن خرج من الشام بعد الثلاثين، وكان قد استقام بها نحواً من خمس سنين، فرجع إلى مصر بعد هذه المدة، وكان قد زال عن مصر ما كان بها من شدة، وحينما عزم على السفر استجازه والدي فأجازه، وأنعم عليه بهذه الإجازة، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم. إن أحسن ما يقدمه السائل في مقاصده، ويلتزمه في مصادره وموارده، حمد الله بأعظم محامده، وشكره على أيمن بره وعوائده، فهو الذي يجيب السائل إذا دعا، ويثيبه على ما إليه من الخير سعى، شرف هذه الأمة باتباع أشرف رسول وكتاب، فانجاب بصبح شريعته من دياجي الجهالات جلباب، ودخل الناس في دين الله افواجاً من كل باب، وقامت بنصره صحابته الأطهار، وأشياعه الأخيار، فباؤوا بحسن المثاب، وخير المآب، ولم تزل هذه الشريعة الغراء المحجة البيضاء واضحة البرهان، مشيدة الأركان، بوراثة العلماء، وجهابذة العظماء، على خدمتها قوامون، قليلاً من الليل ما يهجعون، للأحكام يستخرجونن وللدقائق الجسام يستنبطون، وكلما مضى سلف، أعقبه خلف، وهكذا حتى تقوم الساعة، وتنقضي الدنيا التي هي كساعة، فلله من خصيصة بهذه الأمة اختصت، وامتازت بها عن غيرها وجلت، فعليه من المولى سحب صلاة يتوالى مدرارها، ويتسامى تكرارها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وعلى آله وصحبه، وجنده وحزبه، ما لمع برق، وتدفق ودق، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فإن الشاب الفاضل، والأديب العالم العامل، الشيخ حسن بن الشيخ إبراهيم البيطار، قد حضر عندي حينما حضرت إلى الشام، جميع دروسي التي قرأتها على التمام، حضور تدقيق ودراية، غير أنه قد حضر تلاوة قليل من الأحاديث الشريفة على طريق الرواية، ثم استجازني بما تجوز لي روايته، وتستند إلي عن شيوخي الأعاظم درايته، فتمنعت قدر الإمكان، واعترفت بأني لست من أهل هذا الشأن، وعندما ألح علي استخرت الله وأجزته، وبمطلوبه ومرغوبه أسعفته، بما تجوز لي روايته وتنسب إلي درايته، عن أشياخي الذين اقتبست أنوارهم، واغتنمت أسرارهم، فهم ولله الحمد عدد كثير كل له قدر خطير، فمنهم العلامة الشيخ محمد الصبان، والفهامة الشيخ أحمد بن يونس، والشيخ عبد الرحمن المغربي، والشيخ محمد الشنواني، والشيخ عبد الله سويدان، وغير هؤلاء من السادة الشافعية، وأما من السادة المالكية: فالإمام الشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد عرفه الدسوقي، والشيخ أحمد برغوث، والشيخ البيلي، وغيرهم. وقد يسر الله لي حين سياحتي في الديار الرومية والشامية والحجازية، فرأيت جهابذة فضلاء، وأساتذة نبلاء، قد تسنموا غارب الفضل، واجتنوا ثمار العقل، فأخذت عنهم بعضاً من العلوم، وربحت تجارتي بما استفدته من دقائق المنطوق والمفهوم، وكذلك قد أجزته بما لي من التآليف، التي انتهزت فيها من الدهر فرصة بعد طول تسويف، فهي جملة من الرسائل والحواشي والشروح، التي لا تخلو إذا نظرت بعين الانتقاد عن مطاعن وجروح، فليست مما يستحق أن ينشد في المجالس والمحافل، ويذكر في مجالس الأفاضل، ولكن سأذكر بعضها إزاحة لعلة التشوف، وتبريداً لغليل التطلع والتهلف، فمنها حاشية شرح قواعد الإعراب، وحاشية الأزهرية، وحاشية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 العصام على الوضعية، وحاشية شرح إيساغوجي، وحاشية النخبة، وحاشية السمرقندية، وحاشية السلم، وحاشيتان على ولدية المرعشي في آداب البحث، وشرح المنظومة الوضعية، وشرح المنظومة التي في آداب البحث، وشرح منظومة التشريح، وشرح نزهة الشيخ داود في الطب، وحاشية شرح أشكال التأسيس في علم الهندسة، وحاشية المغني، أسأل الله أن يتمها. ولنا رسائل عديدة في مسائل متفرقة من علم الحكمة، والكلام وغير ذلك. وقد أجزته بجميع ذلك بشرطه المعتبر، عند أهل النظر، سائلاً من الله أن يصلح أحوالنا، ويبلغنا آمالنا، وأرجوه أن لا ينساني من صالح الدعوات، في سائر الأوقات، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه بيده الفقير حسن بن محمد الشهير بالعطار، خادم العلم الشريف بالأزهر، عفا الله عنه بمنه. انتهى كلام هذا المترجم رفع الله قدره، وجعل أعلى الجنة مقره. ثم إنه لم يزل يترقى مقامه وقدره، ويعظم بين الناس جاهه وفخره، والناس يقصدونه من كل جانب، لما اشتمل عليه من الفضائل والمناقب، إلى أن خطبته المنية، إلى الدار العلية، وذلك في حدود سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين. الشيخ حسن بن سالم الهواري المالكي الأزهري المصري روح مجمع أهل الكمال، ودوح أهل المعارف والكمال، المتوج بتاج الأتقياء، والمنتهج منهج الأصفياء، من تفجرت ينابيع العلوم على لسانه، وفاضت عيون الحقائق من جلال جنانه، وسطعت شموس معارفه، وزكت عروس عوارفه، وطابت في الناس سيرته، وحسنت سجاياه وسريرته، وهو من رجال الإمام العلامة الجبرتي فقال في ترجمته: قرأ على الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الصعيدي ولازمه في دروسه العامة، وبعد وفاة شيخه ولي مشيخة رواق الصعايدة، وساس فيهم أحسن سياسة بشهامة زائدة، مع ملازمته للدروس، وتكلمه في طائفته مع الرئيس والمرؤوس، وكان فيه صلابة زائدة، وقوة جنان وشدة جرأة، واشترى خرابة بسوق القشاشين بالقرب من الأزهر، وعمرها داراً لسكنه، وتعدى حدوده وحاف على أماكن جيرانه، وهدم مكتب المدرسة السنانية، وكان مكتباً عظيماً ذا واجهتين وعامودين وأربع بوايك، وزاوية جداره من الحجر النحيب عجيبة الصنعة في البروز والإتقان، فهدمه وأدخله في بنائه من غير تحاش أو خشية لوم مخلوق أو خوف خالق، وأوقف أعوانه من الصعايدة المنتسبين للمجاورة وطلب العلم يسخرون من يمر بهم من حمير الترابين وجمال الأعيان المارين عليهم، فيستعملونها في نقل تراب الشيخ لأجل التبرك، إما قهراً أو محاباة، ويأخذ من مياسير الناس والسوقة دارهم على سبيل القرض الذي لا يرد، وكذلك المؤن، حتى تممها على هذه الصورة وسكن فيها، وأحدق به الجلاوزة من الطلبة يغدون ويروحون في الخصومات والدعاوى، ويأخذون الجعالات والرشوات من المحق والمبطل، ومن خالف عليهم ضربوه وأهانوه ولو عظيماً من غير مبالاة ولا حياء، ومن اشتد عليهم اجتمعوا عليه من كل فج حتى البوابين في الوكائل، وسكان الطباق وباعة النشوق، وينسب الكل إلى الأزهر، ومن عذلهم ولامهم كفروه ونسبوه إلى الظلم والتعدي والاستهزاء بأهل العلم والشريعة، وزاد الحال وصار كل من رؤساء الجماعة شيخاً على انفراده يجلس في ناحية ببعض الحوانيت يقضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ويأمر وينهى، وفحش الأمر إلى أن نادى عليهم حاكم الشرطة فانكفوا ومرض شيخهم بالتشنج شهوراً، وتوفي في السنة العاشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى. السيد حسن وادي بن السيد علي بن السيد خزام بن السيد علي الخزام ابن السيد حسين برهان الدين الخالدي الرفاعي الصيادي ترجمه ولده العمدة الفاضل، والنخبة الكامل، السيد محمد أفندي أبو الهدى أطال الله بقاه، وأعلى في مدارج السيادة مرتقاه، في كتابه المسمى بقلادة الجواهر، في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، فقال: وأما السيد الجليل، والشيخ الفاضل الأصيل، شيخ العائلة الصيادية، وصاحب السجادة الرفاعية، مولانا الوالد الشيخ حسن وادي أفندي حفظه الله وأبقاه، وحرسه بعين الكرامة والعناية وحماه، آمين. ولد طول الله عمره في سنة خمس وأربعين ومائتين وألف قبل وفاة والده رحمه الله بسنتين؛ ونشأ بين أهله وأقاربه إلى أن بلغ عمره الثمانية عشر، فجذبته يد العناية بنفحة من نفحات الرحمن، فدلته إلى جناب شيخه الولي البركة الشيخ رجب الصيادي دفين كفر سجنا، فالتفت بكليته إليه، وأقبل بقلبه عليه، فأقامه خليفة عنه، فجلس على السجادة الرفاعية بزاويته المعمورة بتقوى الله المشهورة في قصبة خان شيخون الملحقة الآن بمعرة النعمان من أعمال حلب، واشتهر أمره، وسار في البلاد ذكره، وانتسب له خلق كثير من القبائل والقرى والمدنن وانتفع به جماعة كثيرة من الموحدين، وله مناقب مأثورة، وعنايات مشهورة، ومما من الله به عليه أن يقرأ على قطعة من السكر وإن لم يوجد فعلى أي شيء كان مما يصح أكله، ويطعمه للناس، فمن أكله لا يضره سم الحيات وغيرها من المسمات، ولا يؤثر فيه ضرر الكلب العقور وغيره من الحيوانات المضرة بإذن الله تعالى، وإذا قرأ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 السكر أو غيره باسم رجل وحفظ السكر من أن يلمس بيد أحد في صرة، وكان الرجل المقروء باسمه في بغداد والسكر في الشام ولدغت الحية أو غيرها من المسمات، أو عض الكلب الأكلب ذلك الرجل وهو في بغداد، لا يضره أمرهم بإذن الله تعالى، وببركة الحضرة الرفاعية، وإذا سم رجل في بلدة وكان الشيخ صاحب الترجمة في بلدة أخرى، وتعذر حمل المسموم إليه، وجاء رسول المسموم وسمى نفسه باسم المسموم، فإن الشيخ المشار إليه يقرأ على قطعة من السكر أو غيرها من المأكولات كما تقدم ويطعمها لرسول المسموم الذي سمى نفسه باسمه، ويضربه بيده ضربة خفيفة، فإن المسموم بإذن الله يبرأ من البلدة الأخرى كما هو مشهور في البلاد الحلبية وغيرها عنه. ومن مناقبه الشريفة أيضاً أن الله تعالى قد من عليه ببركة اليد الكريمة، فإذا وضع يده على عليل أو من به وجع يشفيه الله على الغالب. وأما سخاؤه وكرم طبعه ففي نواحيهم أشهر من أن يذكر، وأما علو مظهره ومعونة الله له في أموره وتأييد ظهوره فهي أشهر من نار على علم، وما عانده في أمره بقصد خفض شأنه أحد ولا تعدى عليه وعلى أهله ومتبعيه المخلصين متعد، إلا وأخذ بإذن الله تعالى أو ذل وقهر وكل ذلك معروف مشهور، وكل ما حصل له من الفتوح والبركة سببه الأجل كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن كثير الصلوات، على سيد السادات، وهي ورده الأعظم، وطريقه الأقوم، وقد برزت عليه أنوارها، وظهرت آثارها. قصد لأخذ الطريقة العلية من أكثر الجهات والبلدان، وسارت بذكره الركبان، وانتسب إليه خلق لا يحصى عددهم، وزادت خلفاؤه عن المائة خليفة. سكن حفظه الله حلب الشهباء، من سنين يسيرة، وعمر الزاوية الرفاعية فيها وكثر بأطرافها مريدوه وإخوانه، وعلت شهرته في حلب الشهباء ونواحيها، وحسن فيه اعتقاد الناس، ومدحه الفضلاء والبلغاء وأعيان الناس، ومن الجملة مدحه بالقصيدة الآتية الفاضل الكامل، سلالة الأماجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الأفاضل، السيد عبد القادر أفندي القدسي، أوحد أعيان حلب الشهباء، وابن المرحوم نقيبها المشهور تقي الدين أفندي القدسي، وهي كما هي درة يتيمة، وصحيفة كريمة: إذا ضاقت بك الأيام فالجأ ... بحسن وسيلة لحمى الرسول فإن حمى الرسول وحق ربي ... أمان كل آن للدخيل وأقرب ما توسلت البرايا ... به للمصطفى آل البتول هم الطهر الكرام بنو المعالي ... شموس الكون جيلاً بعد جيل لهم جاه وعز مستفاض ... من المختار بالفيض الجزيل هم الوراث للمختار طه ... هم أهل الرداء المستطيل وودهم بأمر الحق فرض ... وهذا أجر مولانا الرسول إذا أديت حق الود فيهم ... فأبشر بالسعادة والقبول ودونك سيد السادات شيخي ... فلذ بجنابه العالي الجليل هو الحسن الحسيني الخزامي ... خلاصة عترة العلم الطويل له شرف الحضور حضور قلب ... مع المختار غياث النزيل فتى بيت الرفاعي الغوث روح ... الطريق وفلة الشرف الأثيل ضيا هذا الزمان أبو الموالي ... سليل الآل مولود الفحول إمام القوم زبدة آل طه ... ملاذ الملتجى باب الوصول همام من بني الكرار شهم ... يقابل ذا الإساءة بالجميل أمير من بني الصياد فرد ... تذل له الرجال بكل قيل علي القدر رحب الصدر مولى ... الأيادي صاحب الباع الطويل فللمختار جدهم صلاة ... من الرحمن ترقى في نزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وأصحاب وأولاد كرام ... غياث الناس في اليوم المهول مدى الأزمان ما وافى محب ... بحسن وسيلة لحمى الرسول وهو الآن بحمد الله على قدم استقامته القديمة الأصلية على أحسن حال، معرض عن غير الله متوكل عليه مسلم له الحال، معتمد عليه تعالى في الأقوال والأفعال، ولم يزل يترقى إلى أن خطبته المنية للمكان الأرقى، وذلك عام ألف وثلاثمائة واثني عشر ودفن في حلب. السيد حسن بن السيد محمد الصيادي الرفاعي ويعرف بخدام الصياد ترجمه السيد أبو الهدى أفندي فقال: كان صاحب الترجمة شيخاً مباركاً صالحاً معمراً، أخذ الخلافة في الطريقة العلية الرفاعية آخر عمره من الشيخ الكامل العارف السيد الحاج أحمد أفندي بن السيد مصطفى الجندي ثم الصياد، شيخ الطريقة الرفاعية بمعرة النعمان، وبيتهم بيت كرم وصلاح، توفي المترجم بحدود سنة ألف ومائتين وخمس وسبعين ودفن بمقبرتهم بقرية كفر زيتا. انتهى ملخصاً. الشيخ حسن جبينة بن أحمد آغا بن عبد القادر آغا جبينة إمام صالح، وهمام في تقواه راجح، لطيف المنادمة، حسن المكالمة، أكب من صغره على طلب العلوم، واستفادة المنطوق والمفهوم، وحضر دروس العلامة الشيخ سليم العطار، والعلامة الشيخ أحمد الكزبري والشيخ أحمد البغال، والفاضل الشيخ قاسم الحلاق وغيرهم. وكان يغلب عليه السكون، والخضوع والتواضع والركون، وبعد انتقال المرحوم الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 قاسم الحلاق إلى جامع السنانية صار في مكانه إماماً ومدرساً وخطيباً في جامع حسان. وكان يغلب عليه الفقر، غلا أنه كان حسن الصبر، وفي آخر مدته مرض مرض الاستسقاء وطال أمره، إلى أن توفي سنة ألف وثلاثمائة وخمس وعمره نحو الخمسة والستين، ودفن رحمه الله تعالى في تربة باب الصغير. حسن حسني بك بن حسين عارف بن حسن سهراب بن محمود بن مسيح بن عالي من مهاجرة الأتراك والأمراء في الروملي ترجمه أحمد عزت باشا في كتابه العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، فقال: هو الفاضل الأديب الأريب حسن حسني بك، إلى أن قال: من مهاجرة الأتراك والأمراء في الروملي، هاجروا إليه منذ أكثر من ثلاثة قرون، وسكنوا طويران وكانوا من أمرائها، وتقلبوا في مناصب كثيرة، وجرثومتهم من العائلة البايندرية، وينسب المترجم إلى طويران، هاجر جده إلى مصر سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف. وولد هو سنة ست وستين ومائتين وألف في مصر، وتوفي والده وربي يتيماً في بيت نفسه، ونشأ نشأة أدبية. ولما بلغ الثالثة عشرة أكب على التحصيل من الأساتذة ليلاً ونهاراً، وصرف النظر عن الترقيات المادية إلى طلب العلوم والأدب، فقال الشعر العربي في الخامسة عشرة، ورزقه الله القبول، واشتهر بالشعر والإنشاء والتأليف، واشتغل بالحكمة الدينية، والأخلاق والفنون السياسية وغيرها. وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سافر إلى وطنه الأصلي، لاستخلاص أملاكه وأوقاف أسلافه، وساح البلاد، ثم عاد إلى مصر، وقدم من مصر لدار السعادة سنة ثلاثمائة وألف، وهو الآن بها. أقول: وقد اجتمعت به فرأيته حسن الأخلاق، صاحب شهامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 طبع، وفصاحة لسان، وجودة ذهن، وكمال اطلاع، وله آثار كثيرة، منها: ثمرات الحياة، ديوان شعر في مجلدين، وطوالع الأماني، ولواحق الثمرات، وشطحات القلم. وهذه كلها دواوين شعر، ومصابيح الفكر، في السير والنظر، وشمس المشرق في سماء المنطق، وهو مطبوع، ونور العين، رسالة زجلية، وقصة الوارث بن تارك، وإرشاد الخليل في فن الخليل، وعصمة الجماعة، في وجوب الطاعة. وحجة الكرام في علم الكلام، وعصمة الإسلام في فضل الإمام، ويوم الدهر في أحوال مصر، وسر القدر، ومنازه الأحباب في جنات الآداب، وكتاب الوطن، والنشر الزهري، في رسائل النسر الدهري، والإنصاف في حقوق الأشراف، وفلسفة الأخلاق، والتذكار في التوحيد، والبديع في البديع، والسيف القاطع، والنور الساطع، وارتياح الجنان، بأرواح الجنان، ورسالة التوحيد، ومطية الحقيقة، ومجمع الرسائل، ومعراج الأخلاف لمنهاج الأسلاف، وبهجة الكرام في محجة أهل الإسلام، وعدة رسائل باللغة التركية. ومؤلفاته كثيرة وقوة قلمه وذهنه شهيرة. وله نسبة كما قرر من جهة أمه للدوحة الحسينية، بدل على صحتها حسن أخلاقه المرضية، لا زال كريم الجناب، بهجة الأحباب، ومن نظمه: أهوى الأماني وسعيي ليس يرضيها ... تدنو إلي وصرف الدهر يقصيها كم ليلة بت أستجلي محاسنها ... وأنجم الأفق صرعى في مجاريها تسعى إلي براح من غوايتها ... فاستقيها صبابات وأسقيها روحين في جسد كنا توحدنا ... أهواؤنا وتمنينا مباديها لا نعرف البعد حيث القرب يعصمنا ... ولا نخاف الليالي في عواديها كأننا فرقدا أفق المسرة لا ... تهاب صدي ولا أخشى تجافيها كم قلت والليل مسدول ستائره ... نعم الليالي التي جادت أياديها كم همت في وجنة من ورد وجنتها ... والخال قد عم من طيب مجانيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 حتى أضعت شعوري في مسلسلة ... من الشعور يروي الدور ساحيها وهي طويلة؛ ومن نظمه: هي الهمة العلياء والزمن النكد ... عدوان للأحرار إن أحجم الجد يبيت فتى الفتيان رهن همومه ... وقد فاز من ليلاته السافل الوغد ويصبح مقدام البهاليل أعزلاً ... ويمسي أنوف الأنف قد خانه السعد فيا عجباً للدهر تعدو ذئابه ... وقد هزلت في عز أعياصها الأسد ويا حرباً تسمو الشموس أهلة ... ويرتفع الوادي وينخفض الطود ويا طرباً تمسي المواضي طريحة ... ويحمل في أعناق أبطالها الغمد ومن نظمه يمدح العارف بالله السيد أحمد الرفاعي قدس الله تعالى سره فقال بعد أبيات كثيرة: أستقبل الدهر أبكيه ويضحكني ... فلم يقلني ولم أطلبه ملتجئا رفعت يا ابن الرفاعي عبء كلكله ... عن عاتقي فتوانى بعد ما جرؤا شبل الحسين رفيع الجاه أحمد من ... يرجى إذا الخطب من ضوضائه امتلأ آثاره بهرت أنواره ظهرت ... كتابه حجة برهانه برأ أتى على فترة يدعو لواضحة ... صوابها قد محا الآثام والخطأ جرى على سنن المختار مقتضباً ... نوراً جلا صيقل الأذهان إذ صدئا وجاء بالفتح عن داعي الهدى فكبت ... أجراه من تخذوا آياته هزؤا دعا إلى الله بالبرهان فاتضحت ... سبل الهدى فهدى برهانه الملأ وقام عن جده حق القيام فيا ... نعم الإمام بعلم جهلنا درأ رست قواعد علياه على جبل ... من التمكن يحمي كل من لجأ تنزهت ذاته عن كل شائبة ... لما على سدرة الإيقان قد وطئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وقدس الله بالتقوى سرائره ... فمن أراد له شأواً طغى فنأى وأكرم الله مثواه على قدر ... تنزلت آية تستتبع النبئا كأن يوسف معناه أقام له ... في مقعد الصدق للألباب متكئا أكرم بأحمد أشياخ اليقين لقد ... حمى اليقين فمن لم يقفه خسئا شيخ عيال عليه كل ذي أثر ... بدا فأبدى طريقاً قيماً بدأ بحر من العلم لا زالت جداوله ... تزيل عن وادي ساحاته الظمأ هيهات يعرف أبطال الوجود له ... شأواً تعالى وشأناً عز ما فتئا أنى يضاهى وطه مد راحته ... إليه والجمع من شم الأنوف رأى كأنه آية من ربه سبقت ... فجسمت فهو من آياته نشأ فقل لمن رام تفضيلاً وتكرمة ... الله أدرى بمن أولى وما درأ عليه رضوان مولاه وما برحت ... علياه ذكراً يطيب الكون ما فقرئا وقد توفي رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر. ملا حسن أفندي الشهير بالبزار بن ملا حسين ابن ملا علي الموصلي ترجمه صاحب العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية، أحمد عزت باشا، فقال: هو الأديب الفاضل، والأريب الكامل، ولد في الموصل بمحلة حسان البكري يوم الثلاثاء عاشر شهر جمادى الأولى سنة إحدى وستين ومائتين وألف. وكان فطناً ذكياً، وشاباً لوذعياً، وبعد إكماله قراءة القرآن الكريم، باشر في قراءته العلوم على علامة وقته الشيخ صالح أفندي ابن المرحوم الحاجي طه الخطيب المشهور، ولما انتهى إلى المنطق، ترك ذلك، واشتغل بنظم الشعر مع كونه مشغولاً في صنعة البزارة ولا زال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 شعره يترقى ويروق، ويعلو على شعراء عصره ويفوق، فإن غزله ونسيبه أرق من نسيم الصبا، وأمداحه محصورة في مدح حضرة المصطفى، والأولياء والصلحاء. وديوان شعره طبعوه في حلب، تتداوله أيدي الفضلاء، وأكف البلغاء. ولما كنت في الموصل لا زال يزورني ويهدي إلى فكري لطيف إنشاده، وما كان يقطع زيارته على معتاده. ثم إنه أخذ الطريقة الرفاعية عن الشيخ حاجي سلطان، والطريقة النقشبندية من المرحوم الشيخ السيد محمد أفندي النوري. ولا زال يترقى حاله في الصلاح، وطريق النجاح، حتى استخفه الشطح، فكان طوراً تجذبه حبال الجذبة، وطوراً يعقله زمام العقل، وحالاته أصبحت ممتزجة بالقبض والبسط، والرفع والحط. ثم إنه فقد بصره، وبقي أغلب أحيانه يمشي بالأزقة ويرقد فيها ليلاً، ويجر في أوحالها ذيلاً، لكنه قبل وفاته كما قيل لي بأنه قد عاد إليه عقله، واصطلح فرضه ونفله، وإنه عند أغلب أهل جلدته، وأكابر بلدته، مظنة الولاية، مع ما ينضم إليها من الدراية، ومن نظمه: قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب ... والصبر عن قربكم للوجد مغلوب لا أستفيق غراماً من محبتكم ... وهل يضيق من الأشواق مسلوب يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا ... تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب همو الأحبة إن صدوا وإن وصلوا ... بل كل ما صنع الأحباب محبوب إني رضيت بما يرضونه وبهم ... والله يعذب للمشتاق تعذيب فالروح والقلب بل كلي لهم هبة ... وكيف يرجع شيء وهو موهوب لي فيهمو سيد طاب الوجود به ... فمنه في كل ناد يعبق الطيب هو الرفاعي سامي الجد أحمد من ... قد لاذت العجم فيه والأعاريب أكرم به سيداً طابت عناصره ... وكيف لا وهو للمختار منسوب أنعم به منهلاً راقت موارده ... فكم صفا منه للأحباب مشروب هذا الذي يفخر الفخر السني به ... هذا الذي هو للمطلوب مطلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 هذا الذي شرف الأشراف تم به ... هذا الذي هو للعلياء مخطوب هذا الذي يسعد العبد الشقي به ... فكم وكم نال فيه الأمن مرغوب غيث مغيث لمن فيه استغاث وكم ... نجا بهمته العلياء مكروب وكم ذليل به قد عز جانبه ... وكم بعيد به أدناه تقريب سر من الله في كل الوجود سرى ... منه إلى الخلق ترغيب وترهيب شمس المعارف من إشراق حكمته ... للعارفين بدت منها أعاجيب بني رفاعة سدتم رفعة وعلاً ... وذكركم في جباه الفخر مكتوب تمت محامدكم في عز أحمدكم ... فمجدكم مثل في الكون مضروب هو الإمام الذي ديوانه أبداً ... في الكائنات مدى الأيام منصوب فرد به مفردات الفضل قد جمعت ... ندب بكل شديد الهول مندوب روحي وراحي وريحاني مدائحه ... وحبه لفؤادي فيه تهذيب يا أحمد الأولياء انظر إلي وقل ... لا تخش أنت علي اليوم محسوب يا صاحب الهمة العلياء خذ بيدي ... إني وحقك للأعداء مغلوب يشفى لديغ الأفاعي من عزائمكم ... وعبدكم بأفاعي البعد ملسوب حاشا لمجدك أن ترضى ببعد فتى ... له إلى بابكم بالذل تأويب يا عترة المصطفى أنتم أكارم لا ... يخيب فيكم لدى الآمال مطلوب إن تقبلوني على عيبي فيا شرفي ... فليس لي غيركم قصد ومرغوب فأنعموا بقبولي واملؤوا قدحي ... من راحكم فهو للأرواح مصحوب صلى الإله على المختار جدكمو ... ما فاح في الكون من ذكراكم الطيب والآل والصحب ما نادى محبكمو ... قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول من عام ألف وثلاثمائة وخمسة وما بقي في البلد كبير ولا ولد حتى شيع جنازته، رحمة الله عليه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الشيخ حسن بن الشيخ علي بن قويدر الأزهري الخليلي الأديب الناظم الناثر، ذو الفضائل والمآثر، من رقى أوج المعارف، وانتقى برج العوارف، وخاض بحور العلوم، ونزه صائب فكره في رياض المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه كامل المقاصد، جيد القصائد، شعره المنسجم السهل، يزري بشعر الأخطل وابن سهل، ونثره البليغ البديع، يحاكي مقامات الحريري والبديع، وهو ثقة فيما يؤخذ عنه من النقول، وحجة في علمي المعقول والمنقول، كثير المعارف والفنون، غزير اللطائف قليل المجون، لم يتخذ الشعر حرفة، ولا سكن من بيوته غرفة، بناء على أنه جل صناعته، أو أجل متاعه وبضاعته، وإنما دعاه إليه حب الأدب، ولواه إليه ما اشتمل عليه من طوية العرب، وكان رحمه الله، وأحسن مقره ومثواه، غاية في الزهد والديانة، آية في العفة والأمانة، كثير الود للإخوان، مهيباً بين الأحبة والأقران، لا تمل وإن طالت مجالسته، ولا تعل وإن زادت مفاكهته، لما كانت تشتمل على الفوائد، العائدة على محبيه بالصلات والعوائد، وكانت له صدقات وفية، مستورة عن الإظهار خفية. وقصارى الكلام، في هذا الفرد الهمام، إنه كان حسنة من حسنات عصره، وجوهرة يتيمة في جيد مصره. ولد بمصر سنة ألف ومائتين وأربع، وتربى في حجر والده على الرحب والسعة، وإن أصوله من المغرب من ذرية ولي ذي مقام روحاني، يعرف بسيدي عبد الله الغزواني، وإن علامة من كان من ذرية هذا الولي المعروف بالهدى والصلاح، أنه إذا جاء لزيارته أحد يفتح له الباب من غير مفتاح، وإن بعض ذرية هذا الولي انتقل إلى مدينة سيدنا الخليل عليه صلاة المنان، وتناسل بالمدينة المذكورة واشتهرت تسمية نسله بالمغاربة، وهم معروفون بذلك هنالك إلى الآن، ثم إن والد المترجم انتقل إلى مصر القاهرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأقام بها وكان ذا تجارة وافرة، وبها رزق بصاحب الترجمة المذكورة، صاحب الشمائل المأثورة، فلما أن بلغ أشده، وجه عنان همته للطلب بكل إقبال وشدة، فقرأ على جملة من العلماء، والسادة الفضلاء، منهم العلامة الشيخ حسن الأبطح، والفهامة شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار ذو الأرج الأفيح، والمرحوم الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الإسلام، والشيخ إبراهيم السقا عمدة الأنام، وغيرهم من مشايخ العصر، المتصدرين للإفادة في أزهر مصر، وكان شافعي المذهب، خلوتي الطريقة، قد أخذها عن الأستاذ معدن السلوك والحقيقة، العارف بالله تعالى صاحب الإمداد، السيد الشيخ أحمد الصاوي أبي الإرشاد. ومن تآليفه المفيدة، وتصانيفه العديدة، شرحه على منظومة شيخه الشيخ حسن العطار في علم النحو، وقد أجاد به أحسن إجادة ونحا ألطف نحو، وقد قال في شرحه عليها، موجهاً جميل مدحه إليها: منظومة الفاضل العطار قد عبقت ... منها القلوب بريا نكهة عطرة لو لم تكن روضة في النحو يانعة ... لما جنى الفكر منها هذه الثمرة في ظلمة الجهل لو أبدت محاسنها ... والليل داج أرانا وجهها قمره قالوا جواهر لفظ قلت لا عجب ... بحر البلاغة قد أهدى لنا درره ثم قال: ومن شغفي بتلك العرائس الخواطر، حملتني بواعث الخواطر، على أن أكتب عليها شرحاً، وأبني على دعائمها صرحا، وأشد بنطاق البلاغة لها كشحا، فوقفت على أقدامي، متردداً في تأخري وإقدامي. إلى أن قال بعد كلام طويل، ليس له في البلاغة مثيل: فشددت نطاق العزم، وتقلدت بصارم الحزم، وقومت سنان يراعي، وبسطت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 في حومة هذا الميدان باعي، وإني لأرى التوفيق يقوم أمامي، والعناية تقود زمامي وإذا العناية صادفت عبد الشرا ... نفذت على ساداته أحكامه فاجتفيت من رياض العلوم الأثمار، واجتليت بنات الأفكار، وافتضضت من المعاني الأبكار، ورصدت من بين النجوم الأقمار، وأتيت بمؤلف يهزأ بقلائد النحور، ويعبث بألحاظ الحور، تتألف نجوم المعارف من مطالع أفلاكه، وتتناثر درر اللطائف من قلائد أسلاكه، جعلته تاجاً لتلك العروس، ونزهة لنفائس النفوس، ونمقته تنميقاً عجيبا، وسبكته سبكاً غريبا، وشحنت زورقه بالدرر، وأثقلت أغصانه بالثمر، وجعلت لشرح أبيات الغزل خواتم، كأنها في أصابع الدهر خواتم، بينت فيها معاني ألفاظه المنظومة اللغوية من كتب صحاح، كقاموس البلاغة والصحاح، وضمنتها سجعاً مأثورا، ودراً منظوماً منثوراً، ونوادر أدبية يرشفها السمع مداما، وتميل الأذاق السليمة إلى محاسنها غراما، لتكمل المناسبة بين الأصل وفرعه، ويحتلب الطالب در الأدب من ضرعه، ويكون ذلك ترويحاً للنفس وتنشيطاً للبدن، بالانتقال من فن إلى فنن. تنقل فلذات الهوى بالتنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل ولا تتبع قول امرىء القيس إنه ... ضليل ومن ذا يهتدي بمضلل إلى آخر ما قال، وأجاد في المقال، وهذا الشرح في نحو ثلاثين كراساً قد أحكمه فرعاً وأساساً، ومنها شرح مزدوجته، وقد تناولته أيدي الضياع قبل انتقاله إلى مبيضته، وهو يزيد على مائة كراس، قد أودعها ما يزري باللؤلؤ والماس، ومنها رسالة الأغلال والسلاسل، في مجنون اسمه عاقل، ومنها زهر النبات، في الإنشاء والمراسلات، ومنها نيل الأرب في مثلثات العرب، الذي مدحه محمد أفندي فني بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 يا صاح إن رمت النشب ... ورغبت في أعلى الرتب وأردت سفراً نافعاً ... من در ألفاظ العرب فمثلثات قويدر ... هي كاسمها نيل الأرب هي روضة مطلولة ... منها صبا الآداب صب يا حسنها من حلية ... تزري بأطواق الذهب أهدى لئالئها لنا ... بحر خضم في الأدب أمثلثات قويدر ... سعداً لمن لك قد كتب قد كاد فني أن يهيم ... بحسن طبعك من عجب أبدى محاسنها لنا ... بالطبع في الشهر الأصب الأسعد المولى الذي ... زبد الفنون قد انتخب ذو الهمة العليا التي ... منها المعارف تكتسب رحم الإله له أباً ... هو للفضائل خير أب يا حبذا من عارف ... كل مآثره أحب يا طالما عن قاصديه ... أزاح بأساء الكرب وأراحهم مما ألم ... من المشقة والتعب للحمد والشكر اجتنى ... ولموجب الذم اجتنب وله غير هذه من التآليف، وجميل التصانيف. ومن أشعاره الفائقة، وأفكاره الرائقة، قصيدته التي مطلعها: يا طالب النصح خذ مني محبرة ... تلقى إليها على الرغم المقاليد عروسة من بنات الفكر قد كسيت ... ملاحة ولها في الخد توريد كأنها وهي بالأمثال ناطقة ... طير لها في صميم القلب تغريد احفظ لسانك من لغط ومن غلط ... كل البلاء بهذا العضو مرصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 واحذر من الناس لا تركن إلى أحد ... فالخل في مثل هذا العصر مفقود بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت ... فالشر طبع لهم والخير تقليد هذا زمان لقد سادت أراذله ... قلنا لهم هذه أيامكم سودوا وهي قصيدة طويلة، وله قصيدة ثانية، أرسلها إلى بعض الناس أولها: يا من له خلق كنفحة عنبر ... بالله كف سهام لومك عن بري وله أيضاً قصيدة قال في براعة استهلالها: لو كان أمر فؤادي دائماً بيدي ... لما وضعت يدي اليمنى على كبدي وله مزدودة جميلة متداولة مشهورة. وله غير ذلك من القصائد الطنانة، والمقاطيع الرنانة: تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار ومات ولم يدون شعره في ديوان، كما جرت بذلك عادة الشعراء من غابر الأزمان، ومع اشتغاله بالعلم ليلاً ونهاراً، كان يشتغل بالتجارة متعففاً عما في أيدي الناس سراً وجهاراً، ولم يزل في زيادة نعم مع كمال الاحترام، رفيع القدر بين الخاص والعام، حتى انتقل إلى دار السلام، في شهر رمضان سنة ألف ومائتين واثنتين وستين. ومن العجائب أن محمود أفندي الساعاتي الشاعر المصري المشهور قبل وفاة المترجم بثلاث ليال، رأى في منامه أن الشيخ المترجم توفي، وكان ذلك في مرض موته فانتبه قائلاً: رحمة الله على حسن قويدر ... فحسب هذه الجملة فكانت تاريخا للسنة التي وقعت فيها الرؤيا. ثم توفي المترجم بعد ذلك بثلاث ليال، فكانت تاريخاً أيضاً لوفاته. ثم إن محمود أفندي المرقوم أشار إلى ذلك في قصيدته الطنانة، التي رثى بها المترجم المرقوم بقوله: بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ونكست رأسها الأقلام باكية ... على القراطيس لما ناحت الخطب وكيف لا وسماء العلم كنت بها ... بدراً تماماً فحالت دونك الحجب يا شمس فضل فدتك الشهب قاطبة ... إذ عنك لا أنجم تغني ولا شهب لما أصابك لا قوس ولا وتر ... سهم المنية كاد الكون ينقلب ما حيلة العبد والأقدار جارية ... العمر يوهب والأيام تنتهب لو افتدتك المنايا عندما فتكت ... بخيرنا لفدتك العجم والعرب سقى ضريخك غيث العفو منسجماً ... ولا ارتوت بعدك الأغصان والعذب ولا استهلت عيون القطر باكية ... إلا عليك وإن حلت بك النوب أمست لفقدك عين العلم سائلة ... ترجو الشفاء وأنى ينجح الطلب بكت عليك السما والأرض واضطربت ... كأنما نالها من حزنها طرب ما كنت أحسب قبل الموت أن لدى ... نصف النهار ضياء الشمس يحتجب لو كان يدري فؤادي يوم نكبته ... كان الفداء وهذا بعض ما يجب بالرغم مني حياتي بعد مصرعه ... سيان فرقة من أحببت والعطب قل للذي يدعي من بعده أدباً ... هيهات والله مات العلم والأدب قضى الذي كان يزهو سيف فكرته ... بشاردات المعاني حين يقتضب لو كانت السمر من اقلامه اشتبكت ... على المنية ما اهتزت لها قضب وافاه صرف القضا يسعى وفي يده ... كأس عليها المنايا والردى حبب لا تطلبن من الأيام مشبهه ... عز الدواء وأنى يشتفى الوصب فما تريك الليالي مثله أبداً ... قد ينقضي العمر والآمال ترتقب حلم وعلم وجود في الوجود له ... فضل وفيض سحاب دونه السحب ليث المنام الذي في صدقه غصص ... قد حال من دونه في اليقظة الكذب وليث أحكام أحلامي التي نفذت ... قضت بحتف أناس حلمهم غضب أين المنايا وأين الشامتون به ... والمظهرون نفاقاً أنهم نكبوا إن الكآبة لا تخفي سرائرهم ... قد يعرفون بسيماهم وإن ندبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 إن يظهروا الجد من حزن فإنهم ... إذا خلوا بشياطين الهوى لعبوا لا يشمتوا إن للأيام منقلباً ... عليهم والليالي أمنها رهب ألم يروا كم أباد الدهر قبلهم ... من القرون وهم من بعدهم ذنب آمالهم خيمت فيهم وما علموا ... إن المنايا لها في حيهم طنب لكنهم قوم سوء طال عمرهم ... وقصروا في العلا هذا هو السبب لو لم يكن خيهم والله يرحمه ... ما عاجلته المنايا وانقضى النحب إنا فقدنا البقايا الصالحات به ... والصبر عز وجل الويل والحرب من للقوافي التي كانت محجبة ... إذا بدت وهي بالأحزان تنتقب لقد سبتها المراثي في مناقبه ... ودمعها في انسجام هامل سرب كأن كهف المعالي لم يكن أبداً ... للناس عوذاً إذا ما حلت الكرب لم يبق في الأرض شيء بعده حسن ... إلا خلال له تعزى وتنتسب لما دعاه إلى الفردوس خالقه ... لباه شوقاً وكادت مهجتي تثب طافت عليه بها الولدان حاملة ... من اللجين كؤوساً ملؤها ضرب والحور مذ جاءها قالت مؤرخة ... بشرى فقد جاءنا المقصود والأرب وقال فيه أيضاً وقد سئل رثاه: قالوا قضى حسن المناقب فارثه ... فأجبتهم ومدامعي تتحدر لا أستطيع رثاء من لمصابه ... أضحى لساني في فمي يتعثر وكانت وفاة هذا الهمام العلي القدر في رمضان كما تقدم سنة ألف ومائتين واثنتين وستين بداء الصدر رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الشيخ حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي النجيب الأريب، واللبيب الأديب، أعجوبة الزمان، ونادرة الوقت والأوان، الذكي الألمعي، والسميدع اللوذعي، كان من أعجب العجائب في عصره، مميزاً شهيراً في مصره، طاف البلاد والنواحي، وجال في الممالك والضواحي، واطلع على عجائب المخلوقات، وعرف الكثير من الألسن واللغات، ويعتزي لكل قبيل، ويخالط كل جيل، فمرة ينتسب إلى فارس، وتارة إلى بني مكانس، ومرة ينتمي إلى هندستان وأخرى إلى أفغانستان، فكأنه المعني بما قيل، في غابر الأقاويل. طوراً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن رأيت معدياً فعدناني هذا مع فصاحة لسان، وقوة جأش وجنان، والمشاركة في كل فن من الرياضيات، وطول الباع في المحاضرة والأدبيات، حتى يظن السامع كل الظن، أنه منفرد في ذلك الفن، وليس الأمر كذلك، وإنما قوة الفهم والحفظ والقابلية سلكته هذه المسالك، فحاز على رتبة الترقي، من غير حاجة إلى الأخذ والتلقي، وساعده انقراض أهل الفنون، فكاد أن يتكلم بما لا يفهمه الحاضرون، ومع ذلك يحفظ اصطلاحات الفن وأوضاع أهله، ويبرزه في ألفاظه ينمقها ويرونقها تدل على عدم جهله، ويذكر أسماء كتب مؤلفة وأشياخاً يستند إليها، يقل الوصول والاطلاع عليها، ولمعرفته باللغات خالط كل ملة، فيظن من خالطه أنه منهم من غير علة ويحفظ كثيراً من الشبه العقلية، والعقائد والبراهين الفلسفية، مع إهماله الواجبات الشرعية، والفرائض الدينية القطعية، وربما قلد كلام الملحدين، وشكوك الخارجين المارقين، وكثيراً ما كان يزلق في بعض المجالس، فيطلق لسانه بغلطات من ذلك ووساوس، فلذلك طعن الناس عليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 الدين، وأدخلوه في فرقة الملحدين، وساءت فيه الظنون، وكثر عليه الطاعنون، وصرحوا بعد مماته بما كانوا يخفونه في حياته اتقاء لشره، وتباعداً من ضره، لأنه كان له تداخل عجيب في الأعيان، وذوي السلطان والشان، ومع ذوي الصولة، من كل دولة، ولم يزل يعلو ويسمو، ويعظم قدره وينمو، إلى أن أصابه مرض خفيف وكان له مجلس عظيم في قلعة مصر قد وضعته الدولة المصرية بها رئيساً على المتعلمين، فنزل من القلعة وافتصد وعاد، وعنده حنق على بعض المتعلمين فضربه بشدة فانحلت الرفادة وسال منه دم كثير فحم على أثر ذلك واستمر أياماً إلى أن توفي، ودفن في جامع السراج البلقيني بين السيارج، وعند ذلك زاد قول الشامتين وصرحوا بما كانوا يخفونه في حياته، فمنهم من يقول مات رئيس الملحدين، وآخر يقول انهدم ركن الزنادقة المارقين ونسبوا إليه أن عنده الذي ألفه ابن الراوندي لبعض اليهود، وسماه دافع القرآن، وأنه كان يقرأه ويعتقد به، وأخبروا بذلك رئيس الحكومة، فطلب كتبه فتصفحوها فلم يجدوا بها شيئاً من ذلك. وكانت وفاته يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف. الشيخ حسن بن أحمد بن نعمة الله الحلبي الشافعي الفقيه الفاضل، والعالم العامل، المقري الدين الناسك الصالح، أحد القراء المعروفين بجودة الحفظ والتلاوة والأداء الراجح. ولد في حلب سنة خمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على عبد القادر المشاطي، وجمع القراءات السبع على طريق الشاطبية بالتلقين من شيخ القراء الشمس محمد بن مصطفى البصيري التلحاصدي، وأبي اليمن محمد بن طه العقاد، وأتقن وبرع وحفظ وسمع قصة من صحيح الإمام أبي عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي على أبي السعادات طه بن مهنا الجبريني وسمع البعض من الصحيح المذكور وبعض كتب الحديث على أبي اليمن المذكور، وعلى الشيخ علاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي المالكي الفاسي نزيل المدينة المنورة لما قدم حلب، وعقد مجلس السماع والتحديث بالجامع الأموي، وأجازه بالإجازة العامة مع من حضر، وتفقه على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي، وأبي زكريا يحيى بن محمد المسالخي، وقرأ العربية على الشهاب أحمد بن محمد المخملي، وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد الأزهري المصري، وغيرهم. وكان يستقيم غالب أوقاته في الجامع الأموي في حلب، يتلو القرآن العظيم دراسة وتعليماً مع الديانة والصلاح. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين. الشيخ حسن بن عبد الرحمن الكليسي الحنفي أبو محمد العالم الفاضل المتقن الأصولي المنطقي المفسر، الزاهد الورع التقي النقي المستبصر، مولده بكليس سنة ثمان وستين ومائة وألف، وقرأ بها القرآن العظيم، وبعض المقدمات على الشيخ أبي بكر البستاني، ثم اشتغل بالتحصيل والأخذ، فقرأ على أبي عبد الله محمد المرعشي النحو والصرف، وعلى الشيخ مصطفى اكسيوركي رسالة في المنطق، وأخرى في الآداب، وعلى فخر الدين عثمان المفتي الشهيد شرح الشمسية ورسالة في الآداب، ثم ارتحل إلى عنتاب، وقرأ بها على المحقق أبي حفص عمر بن محمد العنتابي الأوشاري البعض من كتب المنطق والمعاني والبيان ومصطلح الحديث والفقه، وقرأ على أبي عبد الله محد الضعيفي العنتابي حصة من تفسير البيضاوي، وحصة من الصحيح للإمام البخاري، وملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي، وعلى أبي الثنا محمود المقرىء المفتي حرز الأماني وختم عليه القرآن العظيم للسبع على طريق الشاطبية. ثم ارتحل إلى توقات وقيصرية وبهنسة، واشتغل على الفحول من علماء تلك البلاد، كالبرهان إبراهيم التوقاني، وأبي عفان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 عثمان المفتي، والسراج عمر الخربوطي، وأبي عبد الله محمد بن الحسين الحجابي، وغيرهم. وقرأ الكتب المطولة في غالب العلوم والفنون، وقدم حلب وقرأ بها أكثر الصحيح للبخاري، وحصة من صحيح مسلم، ونخبة الفكر وحصة من تفسير القاضي البيضاوي، على أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه بن محمد العقاد وسمع عليه وأجاز له، ودرس بحلب، وأقرأ واشتغل بالإفادة، ثم ولي تدريس المدرسة العثمانية ودرس بها، ولازمه جماعة. وكان من العلماء الأذكياء والفضلاء المشهورين، وقد اجتمع فيه بحلب سنة خمس ومائتين والف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام، وكل منهما قد أسمع الآخر من فوائده. ولم أقف على تاريخ موته ومحل دفنه. السيد حسن بن أحمد بن أبي السعود محمد بن أحمد ابن محمد بن الحسن الحلبي الحنفي الشهير كأسلافه بالكواكبي الزهراوي الحسيني السيد الشريف بدر الدين الفاضل الألمعي، والكامل اللوذعي، كعبة الأدباء، ونخبة العلماء، من اشتهر بالفضائل، وشهد له السادة الأفاضل. مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وستين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده وقرأ ونبل، وأقبل على العلم حتى حصل، وكان له في الأدب والشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 اليد الطولى، وتولى منصب الإفتاء العام من طرف السلطان في مدينة حلب، وكان حسن الأخلاق كريم الطباع، وكان له تردد عظيم ومحبة صافية مع العالم الشريف خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام حينما كان في حلب. ولما مرض المترجم المرقوم وعاده خليل أفندي وكان قد أشرف على الصحة أنشده من لفظه لنفسه وذلك سنة خمس ومائتين وألف قوله: قد كنت مضنى عليلا ... وصار جسمي نحيلا وليس لي من طبيب ... يبري لدائي غليلا فأنعم الله مولى ... بين الأنام خليلا من خير أصل وفرع ... مفضلاً وأصيلا من آل بيت المرادي ... مشرفاً وجليلا أنعم به من كريم ... قد حاز مجداً أثيلا أباؤه الغر قوم ... أوفوا الكمال الجزيلا فكم لهم من سجايا ... تولى العطاء النزيلا كانوا ملاذاً وذخراً ... لمن غدا مستنيلا وبيننا إنتساب ... جيلاً وجيلاً وجيلا وجدهم قطب وقت ... أعني المراد الجليلا وإنه شيخ جدي ... به يؤم السبيلا ونجله كان شيخاً ... لوالدي مستميلا وأنت يا خير نجل ... أرجوك اذناً وقيلا تحيي مآثر قوم ... شادوا العماد الطويلا لا زلت غوثاً وغيثاً ... وبالأيادي همولا وأنشد لنفسه أيضاً: يا خليلي ومنيتي ومرادي ... طيب الأصل يا رفيع العماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 جامع الفضل والمحاسن طراً ... ذو بهاء وكامل في الوداد حيث وافيت منزلي زال ما بي ... من عناء وطاب مني فؤادي صانك الله من صروف الليالي ... وحماكم من أعين الحساد لم تزل في سعادة وسرور ... ملجأ القاصدين من كل ناد فكتب إليه خليل أفندي هذه الأبيات يمدحه ويثني على أسلافه، وأسمعه إياها من لفظه، وهي من لزوم ما لا يلزم: مجد بني الزهراء والكواكبي ... يزاحم الجوزاء بالمناكب ونسب علا لهم وغيرهم ... يفخر في بيت كما العناكب لقد رقوا من العلا منازلاً ... تحسدها زواهر الكواكب همو جمال الوقت لا زالوا به ... أعزة وزينة المواكب حيا ربوعاً وحمى يضمهم ... من الحيا كل ملث ساكب ومن نظمه أيضاً يمدح بني المرادي حين شرفوا إلى حلب: حبذ حبذا تفاق الزمان ... بموافاة سادة العرفان يا رعى الله يومنا حيث فيه ... شرفوا حيناً ونلنا الأماني قادة شيدوا منار المعالي ... وعلاهم يعلو على كيوان صفوة الشام بل هم الأنجم الزهر ... وأقمار ذروة الدوران عن ثقات لقد سمعنا علاهم ... فعرفنا مصداقها بالعيان هم مرادي وبغيتي ومرامي ... ثم قصوى بشائري وأماني منهم سيد همام بهي ... كامل الذات غرة الأعيان روح أنس ونزهة الدهر حقاً ... ذو صلاح وعابد الرحمن خصه الله بالكمال مع اللطف ... وأولاه بالعلى والشأن وكذا الفاضل الوقور علي ... من علا بالتقى وحذق البيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 جوهر خالص ودر نضيد ... فاق إجلاله على الأقران إن أجاد النظام نذكر قساً ... أو أفاد العلوم كالنعمان وكذا المصطفى الشقيق المصفى ... بارع الذهن حائز الافتنان من له في العلوم ذوق وتوق ... وترق بها وصدق اللسان وكذا الكامل الأديب سمي ... حسن الذات من بني الأسطواني لا يزالون في نعيم من العيش ... مقيم على مدى الأزمان فأجابه مجد الدين المرادي حبذا حبذا بلوغ الأماني ... وبشير وافى بعقد الجمان جاءنا مخبراً بأي سرور ... وحبانا وعمنا بالتهاني نحمد الله صح جسم المعالي ... بدر أفق العلوم بحر المعاني وبه أصبح الزمان معافى ... من سقام الكدور والأحزان يا لها نعمة تعم البرايا ... غمرتنا باللطف والإحسان أيها السيد الهمام المفدى ... معدن الفضل روح هذا الزمان حسن الذات والصفات المسمى ... حسناً والكتاب كالعنوان يا ابن قوم تزينت بحلاهم ... حلب وازدهت على البلدان طلعوا في العلا كواكب علم ... وهمى جودهم بكل مكان جمع الله فضلهم فيك حتى ... حزت ما عنه كل كل لسان وملكت القلوب باللطف يهوى ... لك كالبيت كل قاص ودان وسحرت العقول بالنظم مما ... فيه من رقة وحسن بيان يا له مفحماً ولله عقد ... منه وافى يروق حور الجنان ما ظننا من قبله النجم ينصا ... غ حلياً وزينة للحسان حفظ الله حاذقاً صاغ هذا الشعر ... فضلاً يهدى إلى الإخوان وكفاه شر الحسود وأبقى ... جاهه شامخاً على كيوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 بالغاً ما يروم والعيش صاف ... في نعيم وصحةٍ وأمان مع أهلية والبنين خصوصاً ... وجميع الأحباب والخلان ما حلا ذكره الجميل وغنت ... صادحات الحمام في الأفنان وتوفي سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين تقريباً رحمة الله تعالى عليه الشيخ حسن بن عبد القادر بن مصطفى بن عبد القادر التادفي الشافعي الشيخ أبو محمد الفقيه المقرىء، مولده بتادف سنة خمس وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي محمد عبد الرزاق المكتبي، وارتحل إلى حلب وتوطنها، وتفقه بأبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وغيره، وكان صالحاً تقياً نقياً زاهداً عابداً ديناً كريماً، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين و .... الشيخ حسن الهابط المجذوب لمولاه، والمنقطع عما سوى الله، صاحب الكرامات الظاهرة، والخوارق العجيبة الباهرة، ولد سنة ألف ومائتين وعشرين، ونشأ في حجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والده، وعلمه صنعة حياكة الحرير، ثم غلب عليه الجذب والسكوت وترك الحياكة، ولازم الساحة المعروفة، في ميدان الحصا بساحة الحمام، يعني حمام التوتة، وهذه الساحة قد دفن بها جملة من السادات المجاهدين، وبها قبورهم ظاهرة مشهورة مقصودة بالزيارة، غير أنه لم يعرف من أسماء أصحابها إلا الشيخ حرب والشيخ موسى، وكثير من الناس قد حفروا في تلك الساحة فوجدوا بعض المدفونين بها بحالهم، وعندهم بعض أسلحة من الطراز القديم، كالسيف والنشاب والدرقة، وإذا الإنسان مر بين قبورهم في ليل أو نهار يجد أنساً وروحانية وفرحاً وسرورا، نسأل الله تعالى أن يلهم أهل الحمام الذي في جوارهم صيانتهم واحترامهم من فرشي الزبل والأقذار التي يفرشونها بين قبورهم وعلى مدافنهم المدروسة فإن القبور تصان لا تبتذل وتهان، خصوصاً قبور السادة المجاهدين في سبيل الله، فإن من آذاهم وإن أمهل لا يهمل، نسأل الله الحماية، والحفظ والوقاية ثم نرجع إلى المترجم فإنه رضي الله تعالى عنه كان ملازماً للوقوف في هذه الساحة، ويتردد بها قليلاً ولا يخرج عنها، وكان في أيام الشتاء والبرد ينزل عليه المطر الغزير والثلج الذي ربما يرتفع على الأرض ذراعاًن ولا يتظلل ولا ينتقل، حتى أنه مرة كان واقفاً فنزل الثلج وكثر، فجلس على الأرض وجلل عليه الثلج حتى ستره بالكلية، فتفقده الناس فلم يجدوه، ففتشوا عليه فوجدوه مستوراً في الثلج، فحينما وجدوه وأزاحوا الثلج عنه خرج البخار من عنده، وكأن محله فيه نار، ولما نظروا إليه وجدوه ضاحكاً باسماً يتكلم بكلام لا يعرفونه ولا يفهمونه، لأنه كان يهمس في الكلام همسا، وكان لا يلبس على جسمه سوى قميص وبوظية من الصوف، وكان إذا أظهر المحبة إلى إنسان شمه بأنفه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وكان دائماً نظره إلى الأرض مطرقاً برأسه يدور في محله ويتردد، كأنه محتار مدهوش واقع في مهم عظيم. وفي سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، حينما طلب السلطان عبد المجيد والدي ودعاه إلى ختان أولاده، فكانت المكاتيب من والدي إلينا متواصلة، إلى أن انقطعت عنا المكاتيب مدة طويلة، فصعب علينا الأمر، وانشغلت أفكارنا وكثرت التأويلات في هذا الأمر من الناس، فحصل عندنا جزع عظيم، فخرجت من دارنا إلى الجامع المعروف بجامع الدقاق في الميدان الذي هو في محل إقامتنا وصلاتنا وقراءتنا، وكان اليوم يوم خميس ونحن في غاية الضيق، فوجدت المترجم يتردد أمام حجرة والدي، ولم يكن له عادة في الانتقال من الساحة المتقدمة، فاستغربت الأمر كثيراً، وعرفت أنه ما كان ذلك إلا لحكمة، فتقدمت إليه وسألته، فقال بلسان فصيح يأتي الشيخ يوم الأحد، فقلت له وأي واحد؟ فقال يوم الأحد، فكررت عليه وهو لا يزيد عن ذلك، ففي ثاني يوم صباحاً ورد علينا المكتوب من بيروت بحضوره إليها، وكان وصوله إلينا يوم الأحد كما قال المترجم. وكان كثيراً ما تأتي إليه جملة من أكابر المجاذيب ليلاً، فيجلسون عنده ويتذاكرون معه، وإذا مر عليهم أحد سكتوا عن الكلام إلى أن يبعد عنهم، ورؤوسهم متدانية بعضها من بعض، خوفاً من أن يسمعهم أحد. وأما صغار المجاذيب فإنهم لا قدرة لهم على المرور من محلته، حتى لو جرهم أحد يتمنعون من مطانعته، ويظهرون الخوف والتباعد، ومع حالته رضي الله عنه وعدم كلامه كان جمالياً لا جلالياً، يأنس الإنسان به، وليس له حالة فظيعة ولا مسبة ولا كلام بشتمٍ ولا غيره، كما يحصل من بعض المجاذيب، بل كان يسكت عند كلام الناس ولا يجاوب أحداً إلا في بعض الأوقات، إذا كان السرور متجلياً عليه. ولم يزل على حاله إلى أن توفي عاشر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين وألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ودفن في جبانة باب الله. السيد الشيخ حسن أفندي بن السيد سليم الدجاني الحنفي اليافي المتصل نسبه بالسيد المصطفى صلى الله عليه وسلم العالم الأديب، والنحرير الأريب، والهمام الفاضل، والإمام العامل، حبر العلوم العقلية والنقلية، وبحر درر المنظوم والمنثور والمعارف السنية، المتفنن في اللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، والمعتمد عليه في أمانة الفتوى الشرعية. ولد في مدينة يافا سنة ألف ومائتين وحدود الثلاثين، ونشأ في حجر والده وقرأ عليه بعض الفنون، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر المصون، فحضر دروس السادة الأكابر، إلى أن صار يفتخر به الحاضر على الغابر، ثم عاد بعد التكمل، ونال في محله أرفع مقام جليل، إلى أن ولي بيافة المحروسة أمانة الفتوى ذات البها، وكانت لا تليق إلا له ولا يليق إلا لها. ولقد اجتمعت به عام توجهي إلى الرحاب القدسية، لزيارة الأماكن العلية، فقطعنا مدة إقامتنا في يافا في مذاكرات علمية، ومطارحات أدبية. من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حساً ويعشقه القرطاس والقلم فكنا تارة نتذاكر في أخبار من سلف، وتارة نتفاكه في بدائع الملح والطرف، وآونة نجول في معاني المسائل الشرعية، وآونة في معاني الأحاديث والآيات القرآنية، وسأل مني عن المعرفة في الربع المجيب والمقنطر، وأخبرني أنه قرأ المجيب لا المقنطر فطالعته معه أياماً ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 نقض من التكميل الوطر، لأنه قد ضاق الوقت ونحن على جناح السفر، غير أنه حصل عنده إلمام، يقتدر به على تحصيل المرام. وكان جسوراً حسن الأخلاق، حقيقاً باللطف والوفاق، جميل الذات كامل الصفات، عفيفاً زاهداً، ورعاً عابداً، متحرياً للصواب، في السؤال والجواب، محبوباً عند الناس، مجلسه لا يمل لما فيه من الملاطفة والإيناس، لين الجانب متواضعاً، متذللاً لمولاه خاضعاً، حسن الأوصاف، متواصل الأضياف، له شهرة حسنة، وآثار مستحسنة، وجاه عال رفيع، وقدر سام بديع، وجلالة في القلوب، وهيبة فوق المطلوب والمرغوب، وهيئة تشهد له بفضله وعلاه، وهمة سامية تفضي له بأنه زينة الكمال وحلاه، ولما توجه حضرة العالم الأفخم، والصدر الأبهى الأعظم، سيدي الإمام الأمير السيد عبد القادر بن السيد محي الدين الجزائري إلى بيت المقدس الشريف للزيارة مر في طريقه على مدينة يافا، ونزل في دار العالم العامل الشهير الشيخ حسين الدجاني، فقدم أخوه المترجم المرقوم لحضرة الأمير السيد عبد القادر هذه القصيدة وهي: عهدنا بغرب مطلع البدر مشرقا ... وإنا نراه الآن قد لاح مشرقا وللغرب أصل الفضل إذ هو مطلع ... وإن يك ذاك البدر في الشرق أشرقا رعى الله بدراً قد سرى يحمد السرى ... إلى الحرم القدسي وهام تشوقا فلله من يوم به وصل الهنا ... وجاد بشير الأنس بالوصل واللقا وأشرقت الدنيا بطلعته التي ... بدت شمس حن نورها قد تألقا بروحي أفدي من علقت بحبه ... وأضحى إليه اللب بالرهن موثقا سما في سما العليا كمالاً وبهجة ... ولطفاً وظرفاً فوق عرش البها ارتقى لطلعته تعزى المحامد مثلما ... لحضرة محي الدين حمدي تحققا ومرآه عيد للتهاني كمقدم ... لمولاي عبد القادر السامي مرتقى إمام محاريب الأفاضل جامع ... لكل كمال في الأنام تفرقا همام بيوم الحرب أثنت حرابه ... عليه وفي المحراب أضحى موفقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 طويل نجاد وافر الفضل كامل ... بسيط الندى قد فاق فهماً ومنطقا وما هو إلا سيد وابن سيد ... له المحتد العالي من الدر منتقى مليك إذا ما أم ساحة جوده ... أسير العنا في الحال من وأعتقا حوى البأس والمعروف والمجد والذكا ... وحاز المعالي والمكارم والتقى ولا عيب فيه غير أن عطاءه ... أبان لعجز الشكر لما تفتقا سل الصارم الهندي عنه فإنه ... يحدث عن فضل به الضد صدقا وليس لماضي عزمه من مضارع ... لعليائه الأمر انتهى وتعلقا زهت جلق مذ رامها منزلاً له ... فزد من بروج البدر في العد جلقا وأضحت دمشق مذ أناخ بسوحها ... كجنة خلد نشرها قد تعبقا وكنا سمعنا من مآثر فضله ... فهمنا على حب السماع تعشقا فكان عياناً فوق ما وصفوا لنا ... وشاهدت فرداً بالكمال تخلقا وحاشاه أن أحصي بمدحي نعوته ... وهل يحص ودق في البرية أغدقا وما الشعر من دأبي ولا أنا أهله ... وإن أك أحياناً به متعلقا ولكن أياديه التي عم فضلها ... وحبي لآل المصطفى العروة الوثقى دعاني إلى هذا القريض وإنني ... مقر بتقصير به أطلب العتقا أمولاي محي الدين والسيد الذي ... على فضله الإجماع قام وأطبقا هنيئاً هنيئاً بالقدوم الذي به ... لقد أقبل الإقبال واستدبر الشقا ووافى الوفا يافا بكم وتشرفا ... وفاقت على الأمصار فخراً ورونقا فبشراك يا بدر العلا بزيارة ... بها فتح تقريب لما كان مغلقا ولا زلت في أوج السيادة راقياً ... ودام لك الإسعاد والعز والبقا وهاك عروساً في مديحك قد حلت ... بحلي ثناكم جيدها قد تمنطقا على خجل وافت تؤم رحابكم ... فمن عليها بالقبول تصدقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وصل وسلم يا إلهي تكرماً ... على المصطفى خير الخليقة مطلقا وآل كرام ثم أصحاب هديه ... مدى الدهر ما غصن المسرة أورقا وما حسن نجل الدجاني قد شدا ... وقال يهنى من كنجم السهى رقى وأضحى بيمن بالقدوم مؤرخاً ... إلى المسجد الأقصى سرى يطلب التقى ثم قدمها إليه فحظيت منه بالقبول، ونالت من الالتفات غاية المأمول، وكان حضرة الأمير يعظم المترجم ويظهر له الحب والوداد، لما كان منطوياً عليه من الأدب واللطف وحسن المذاكرة والمحاضرة وفصاحة اللسان وحسن الهيئة وجمال الخصال الممدوحة. وفي منتصف شوال سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين توجه مع أخيه المرحوم العلامة الشيخ حسين الدجاني مفتي يافا إلى الحجاز وقبل توجههما نظم أخوه قصيدة يطلب بها الإذن من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأولها: يا طائر البان خذ مني مراسلة ... لروضة قد حواها أشرف الرسل وقد شطرها المترجم وذيلها ونص الذيل قوله: يا كعبة الجود يا شمس الوجود ويا ... بدر الشهود على علياك متكلي بالله خذ بيدي عطفاً ومن على ... عبد مشوق قليل الحول والحيل فارحمه يا رحمة الدارين يا سندي ... وكن شفيعي يوم العرض من خجلي أرجو الوصال فقد طال المدى ولقد ... قل اصطباري ووجدي غير منفصل لناظم الأصل مفتي العصر جد وعلى ... أخيه وهو أبو الإقبال يا أملي وله تشطير بيتي أخيه الموجودين في ترجمته بعد هذه الترجمة، وله أبيات كثيرة، وقصائد شهيرة، موجودة في ديوان شعره، المحتوي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 نظمه وبعض من غرر نثره، وإذا أردت الإطالة فيما له من المناقب والآثار، والفضائل وجميل الأخبار، خرجت عن المطلوب من الاختصار، عليه رحمة العزيز الغفار، مات سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين ودفن في مقبرة يافا وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك بزيارته. الشريف الحسن بن علي البدري العوضي السيد الأفضل، والسند الأكمل، المقري بن المقري، والفهامة الذي بكل فن يدري، والبدر الذي أضاء في ليالي العرفان، والصدر الذي أوضح دقائق المشكلات بإتقان، فلله دره من فاضل أبرز درر اللطائف من كنوزها، وكامل كشف عن محيا الطرائف لثام رموزها، فأظهر الأنفس من نفيسها، وجنى ثمار حكمها من افنان غريسها، ولعمري إنه بذلك جدير وحقيق، كيف لا وهو الهمام الذي به كل مدح يليق. ربي في حجر والده المصون، وحفظ القرآن والمتون، وأتقن القراءات الأربع عشرة، وحضر أشياخ الوقت وأنجب، وقرأ الدروس ونظم الشعر وأطرب وأغرب، وشهد له الفضلاء، والسادة العلماء، وله ديوان مشهور بين الناس، قد امتدح فيه العلماء والأعيان الأكياس، وبينه وبين الصلاي وقاسم بن عطا الله مطارحات أدبية، ومذاكرات شعرية ونثرية، ومن مطارحات العالم العلامة، والجهبذ الفهامة، الشيخ محمد الأمير، ذي الفضل الشهير، للمترجم قوله: حي الفقيه الشافعي وقل له ... ما ذلك الحكم الذي يستغرب نجس عفواً عنه ولو خالطه ... نجس فإن العفو باق يصحب وإذا طرا بدل النجاسة طاهر ... لا عفو يا أهل الذكاء تعجبوا فأجابه المترجم بقوله: حييت إذ حييتنا وسألتنا ... مستغرباً من حيث لا يستغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 العفو عن نجس عراه مثله ... من جنسه لا مطلقاً فاستوعبوا والشيء ليس يصان عن أمثاله ... لكنه للأجنبي يجنب وأراك قد أطلقت ما قد قيدوا ... وهو العجيب وفهم ذلك أعجب ومن نظمه مؤرخاً لمولد السادات بني الوفا قوله: قصدناكم فأتينا عليكم ... بأجمل مدحة وأجل صيغة وشاهدنا الذي جددتموه ... فأرخنا موالدكم بليغه وله في مدائح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا قصائد طنانة وغير ذلك، وهو كثير مذكور في ديوانه. وله أيضاً تآليف وتقييدات وتحقيقات ورسائل في فنون شتى، ورسالة بليغة في قوله تعالى " أستكبرت أم كنت من العالين " وكان الباعث له على تأليفها مناقشة حصلت بينه وبين الشيخ أحمد يونس الخليفي في تفسير الآية بمجلس علي بك الدفتر دار، فظهر بها على الشيخ المذكور، وأجازه الأمير المذكور، بأن رتب له تدريساً بالمشهد الحسيني، ورتب له معلوماً بوقته، وقدر له كل يوم عشرة أنصاف فضة يستغلها من جانب الوقف في كل شهر، واستمر يقبضها حتى مات، في شعبان سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ولم يخلف بعده مثله في معارفه وعوارفه. السيد حسن حسني بن السيد محمد بن السيد إسماعيل ابن السيد محمد بن السيد درويش بن السيد عبد الله الأعرج الموصلي سكناً وموطناً وولادة المدني أصلاً ينتهي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم القاضي العام بدمشق الشام عالم الأوان ومصنفه، ومقرظ البيان ومشنفه، بتآليف كأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد، حلى بها من الزمان جيداً عاطلاً، وأرسل بها غمام الإحسان هاطلاً، ووضعها في فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع، واستوى من الأدب على أعلاه، وخاض لجوده حتى وصل إلى منتهاه، فلا غرو أنه قطب مدار العلوم، وفلك إشراق المنطوق والمفهوم، وإرشاد طريق الهدى، وميدان الحلم والندى، ولد سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين ونشأ في حجر والده، وما زال من حين صباه مكباً على الطلب حتى أولاه من الفضل ما أولاه، دعاه منصب القضاء لهامهه تاجا، ورعاه لكل فضيلة سبيلاً ومنهاجا، وفي سنة ألف وثلاثمائة وأربع في محرم الحرام، زاد الشام فضلاً بتشريفه متقلداً بقلادة القضاء العام، فاعترف بفضله الأفاضل، وأقروا اتصافه بأنواع الفضائل. وله من التآليف الحسنة، والتصانيف المستحسنة، شرح الرائية، في الحضرة الطائية، وشرح البرهان في المنطق، وله التفسير المسمى بفتح الرحمن بتفسير القرآن، كتب فيه مجلدين إلى سورة الأنعام، أحسن الله له البدء والختام، وله كتب أخر ورسائل، تدل على أنه من أجل ذوي الفضائل والفواضل، وحينما اطلعت على تفسيره، وأمعنت النظر والفكر في معاني تقريره، وجدته التفسير الوحيد، يحق له أن يكون من منظوم التفاسير بيت القصيد، وقد كتب عليه تقريظاً أئمة عظام، وسادات كرام، وكنت فهمت من تلويح مؤلفه، ومنمقه ومصنفه، أن أكون داخلاً في عدادهم وإن كنت أحقر إنسان محسوب من آحادهم، فامتثلت الأمر وكتبت، وعلى الله توكلت: بسم الله الرحمن الرحيم، حمداً لمن سرح عيون القلوب، في رياض رياحين الغيوب، وكشف عن محيا مخدرات معاني القرآن، حجاب الستر حتى برزت للشهود والعيان، فتجلت لها من مكنون الخيام عرائسها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وبرزت من مصون الخدر نفائسها، مطوقة الجيد بنظيم العقود، متحلية بلباس قديم الألفاظ الفارقة بين الشاهد والمشهود، وصلاة وسلاماً على المؤيد بمعجزات تتلى، على ممر الدهور لا تخلق ولا تبلى، فلم تصل إلى لمسها يد فكر عن التمسك بالحق حائدة، ولم يتطرق إليها سنان ألسنة لقبيح الطعن رائدة، بل حميت حديقتها بحصون القول المصون، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فتمنعت بجيوش صولة الإعجاز، عن رؤية جاهل لا يفرق بين الحقيقة والمجاز، وعلى آله الذين مهدوا منهاج البلاغة، وأصحابه الذين امتثلوا أوامره وصدقوا بلاغه، وعلى التابعين وأتباعهم الكرام، إلى قيام الساعة وحشر الأنام. أما بعد فإن روض الكلام القديم لا تزال أفنانه تترنح بنسمات القبول، وثمرات أدواحه لا يعتري نضارتها مدى الدهر ذبول، وتلاوة آياته أشرف عبادة وأجل طاعة، وخدمته على كل حال لذوي العرفان أجل بضاعة، بيد أنه لا يتيسر لكل إنسان الدخول لحرم فهم آياته، ولا يرتقي معانيه لمعالي معانيه ومجالي مرآته، إلا بشرح يشرح القلب والخاطر، ويجلو غين الأغيار عن عيون البصائر، فلذلك شمر عن ساعد الجد والاجتهاد، وحسر ذيل العوائق عن الوصول إلى أوج المراد، حضرة المتحلي بحلية الفضائل، والمتخلي عما لا يعد من أكمل الشمائل، جمال العلوم والمعارف، المتفيء ظل ظليلها الوارف، من أشرقت بسنا علومه مطالع بروجه، واشتهر في الأقطار ارتقاؤه على مدارج عروجه، المولى الهمام، عمدة العلماء الأعلام، فخري زاده السيد حسن حسني أفندي قاضي الشام، بلغه الله في الدارين المراد والمرام، فكتب من التفسير إلى سورة الأنعام، وذكر ما يشهد له بأنه قد أولى الناس منه وإنعام، ولعمري قد رمى قلوب حساده بشرر كالقصر، ونشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 أعلام فضله على هام علاه فهي تخفق بالنصر، كيف لا وقد كان استمداده من فيض فتح الرحمن، واستيفاؤه من بحر الوارد والإلهام والتنوير والوجدان، فلذا كان هذا التفسير في التحقيق بيت القصيد من ديوان التفاسير، يحسن صرف نقد العمر في اقتناء ما أودع فيه من أجل التحابير، ويحق له أن يذكر، ويثني عليه ويشكر، ولسان حاله يخاطب موافيه، وينادي علناً بملء فيه: وأولاك الجميل بغير مطل ... وعن وجه الندى رفع الحجابا وبل ثراك بالجدوى فحق ... عليك تصير التقريظ دابا فلله تفسي جمع ما هو لطرف الدهر حور، ولجيد العصر عقد يزدرى بفرائد الدرر: فتح الرحمن له تحنو ... مهج العلماء مدى الزمن تفسير راق ورق وفا ... ق وجاء على أعلى سنن إن كان فريداً لا عجب ... لا ينكر حسن عن حسن لا زال مؤلفه يسدي ... من يممه أوفى المنن أدام الله إشراق فجر مجده، وإبراق لوامع طوالع سعده، وأدام به نفع العباد، وحسم بقواطع حججه هام الأضداد والحساد، ما تلا الفاتحة إمام، وختم بالثناء والصلاة والسلام، وحرر خامس ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وأربع، بقلم الفقير أحقر الورى عبد الرزاق بن حسن البيطار، عفا عنهما الملك الغفار اه. ثم إن المترجم المذكور له نظم بديع، ونثر رائق رفيع، وقد أسمعني حفظه الله جملة من قوله، منه: وقائلة هل علاك الشيب من كبر ... أم من هموم توالت ما لها طب أجبتها من بني الأوغاد ما حملت ... أكبادنا من كلام أسرع الشيب ومنها في معرض التبريك لوصفي أفندي باشا كاتب شورى الدولة: ومنحك نيشان المجيدي ثانيا ... دليل على مجد حوى الصدر أرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 فصدرك وصفي بالكمال مرصع ... علي لنيشان الفضائل موضع ومنه في ذم وان، وقد مكث بها في منصب القضا: سائلي عن بلد وليتها ... كيف كانت نسبة بين المضر إن ترم شرحاً لوانٍ موجزاً ... دار جهل وفسوق وكفر ومن جملة ما أسمعني حفظه الله من نظمه، وكان قد قدمه للحضرة السلطانية، قوله: قلوص تخب البيد من أرض موصل ... إلى موصل الآمال يبغي هجوعها وتسكن إن وافت بروجاً ترفعت ... بأبصار قصر شاد سمكاً يروعها فيحلو بها مر الفيافي لراكب ... وثيق بمهطال يروي ربوعها وتذهله النعماء عن حب موطن ... تصورها يهدي إليه بديعها بقسطنطينة الدنيا وسرة أرضها ... يضيء له قصد السرى ولموعها للثم أياد للخليفة أصبحت ... أياد على العافين يسدى صنيعها وأعتاب سلطان سرادق ملكه ... يباهي بها سمك السماء ضلوعها أمير لكل المسلمين ومالك ... رقاب الملا عقداً حباه رفيعها حميد المزايا مجده بلغ السهى ... وشمس علاه أبهرتنا سطوعها يبصر غاويها المحجة هديه ... ويشكر نعماه التقي مطيعها بإشفاقه الأرحام توصل في الورى ... بأيد أياديها يروق مريعها وننيران ظلم كاد يسطو لهيبها ... بعدل أراه الناس كان هجوعها جنى الدهر أنواع الرزايا فأظلمت ... عن الملة البيضاء وبانت صدوعها فقام لحل المعضلات بهمة ... يضاهي الجبال الراسيات منيعها فدام له شكر الأنام لراحة ... براحته العليا أعيد زموعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فإنك ظل الله في الناس قائم ... على شرعة المختار تحيا فروعها وأجنادك الفرسان في حومة الوغى ... أسود كأمثال الجبال جموعها وأجدادك الغر الكرام بجدهم ... أضاءت بها البلدان حقاً شموعها وقد أكثروا فتح البلاد وأعمروا ... فأعلامهم في الحرب فاقت لموعها لهم خدمة للدين من عهد فاتح ... وقبلاً وبعداً غير خاف صنيعها فلا برح السلطان فاتح وقته ... حميداً على رغم الأعادي جميعها ولا زال للعلم الشريف مرغباً ... لأهليه بالإحسان يدنو شسيعها ولا برح الدين المبين بوقته ... كشمس وفي برج القلوب طلوعها ولا انفكت الرايات تخفق نصرة ... كخفق قلوب الكافرين تريعها أتيتك ظل الله شارح نسخة ... لبرهان ميزان فهان منيعها هدية محتاج لأعتاب حضرة ... بإخلاص نفس اطمأنت ضلوعها أرجي به فيضاً تعوده الورى ... لأحظى بألطاف نداكم يذيعها وغب تشريفه إلى دمشق، قدم إلى حضرته صالح أفندي المنير هذه الأبيات: بشرى دمشق بعدل ... يسمو بمصدر حق قاضي القضاة الشريف ... الحسن خلق وخلق علامة العصر حاوي ... أزكى صلاح ورفق مذ جاء أنشدت بيتاً ... مؤرخاً قول صدق الشرع نادى هناء ... حسني بدا بدمشق وقلت مرونقاً شعري بمدحه، ومنورقاً نظامي بمنثور أوراق دوحه: مال بي للوجد قلبي حين مال ... أهيف قد شب في حجر الدلال ونسيم الفجر يثني عطفه ... لجنوب ويمين وشمال مفرد في الحسن إلا أنه ... من سنا صدغيه قد ضاء الهلال حينما يبسم خلت المبسما ... قفل مرجان على كنز اللآل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 لو تراءى في الدياجي سافراً ... عن محيا قلت ذا بدر الكمال صحت مذ أخفاه عني شعره ... كيف يخفى البدر في داجي الليال ما صبا يوماً لصب مدنف ... قاده الوجد لسقم واعتدال كم ليال بت أبكي عندما ... عندما أيقنت منه الاعتزال كلما أشكو له فعل الجفا ... مستغيثاً بالوفا قال محال وانثنى عني وولى معرضاً ... يتهادى بين تيه ودلال ظن بالهجران سلواني له ... لا ومن سواه فرداً في الجمال عاذلي دع عنك عذلي واسترح ... ليس يلويني عن الحب مقال قد نأى قلبي ولبي في الهوى ... واصطباري ضل والهجران طال فأتني حتى متى أشكو النوى ... عوض الهجران عطفاً بالوصال ليت شعري ما كفاني في الهوى ... أن جسمي صار من غير خيال قد رماه الهجر في ضنك الضنا ... واعتراه السقم حتى قيل زال هل غرامي لملامي موجب ... واحتراقي فيك باقي لن يزال من يلمني في هوى ريم رمى ... مهجتي ويلاه في أسوأ حال هو عندي عادل مهما بدا ... منه من هجر وصد وملال فاق كل الناس في الحسن كما ... فاق فضلاً حسنٌ قطب الكمال شبل ممدوح الورى محمد ... من رقى أوج التقى في كل حال يا له شبل على متن العلا ... قد علا خلقاً وخلقاً وجمال بحر علم ما له من ساحل ... موجه يقذف دراً ولآل طاهر من كل عيب سالم ... قد روى حلية أصحاب وآل عنه أخبار المعاني حدثت ... أنه فرد الورى كنز النوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 عادل عن نهج جور عادل ... صادق اللهجة محمود الخصال حاكم بالحق لا يلويه عن ... صدعه بالحق مال أو مقال كيف لا وهو ابن من ساد الملا ... منقذ الغاوين من غي الضلال دام في عز إلى يوم اللقا ... كاسياً ثوب فخار وجمال مات المترجم رحمه الله في الآستانة وكان مفتش الأوقات، في حدود الألف وثلاثمائة وستة عشر رحمه الله تعالى. حسين أفندي بن علي أفندي المرادي مفتي دمشق الشام عالم عامل، وإمام فاضل، ولد في دمشق سنة ألف ومائتين، وغب أن قرأ القرآن، وجوده على ذوي العرفان، أخذ عن عمه خليل أفندي، وعن السيد شاكر مقدم سعد، وعن غيرهم من علماء الشام، ذوي المناقب والشمائل والفضل التام، وقد تولى منصب الإفتاء عن استحقاق، ولم يزل إلى أن دعاه داعي الفراق إلى الرفاق، وكانت وفاته سنة ألف ومائتين وسبع وستين، ودفن في مدفن بني المرادي في دارهم في سوق صاروجا رحمه الله تعالى. الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي الرشيدي العمدة النبيه، والفاضل الفقيه، تعلق بالعلم وانخلع من الأمرية والجندية، وحضر أشياخ زمانه، وعلماء وقته وأوانه، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وانتقل من مذهب الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول، وتلقى عن السيد مرتضى أسانيد الحديث والمسلسلات، وحفظ القرآن في بداية أمره برشيد، وجوده على السيد صديق، وحفظ شيئاً من المتون قبل مجيئه إلى مصر، وأكب على الاشتغال في الأزهر، وتزيا بزي الفقهاء بلبس العمامة والفرجية، وتصدر ودرس في الفقه والمعقول وغيرهما. ولما وصل محمد باشا إلى ولاية مصر اجتمع عليه عند قلعة أبي قير فجعله إماماً له يصلي خلفه الأوقات وحضر معه إلى مصر، ولم يزل مواظباً على وظيفته، وانتفع بنسبته إليه واقتنى حصصاً وإقطاعات، وتقلد قضايا مناصب البلاد العظيمة، ويأخذ ممن يتولى عليهم الجعالات والهدايا، وأخذ أيضاً نظر وقف الأزبك وغيره، ولم يزل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو، واستمر المذكور على القراءة والإقراء، حتى توفي أواخر سنة تسع وعشرين ومائتين وألف. الشيخ حسين بن حسن الكتاني بن علي المنصوري الحنفي الأزهري الفاضل المفضل، والكامل المبجل، عمدة العلماء الأعلام، ونخبة الأساتذة الكرام، تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الديركي والشيخ محمد المصيلحي، وأقرأ في فقه المذهب دروساً في محل جده لأمه في الأزهر. ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب، نفوه من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضاً للدولة، وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه في أمر ادعوا عليه به وهو يتبرأ منه وينكره، كما تعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية وقلدوها المترجم، فلم يزل يخدمها حتى مرض. وتوفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في جمعية عظيمة ودفن في تربة المجاورين رحمة الله علينا وعليه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الشيخ حسين المعروف بالرسامة الحنفي الدمشقي العالم الإمام، والحبر الهمام، أحد العلماء الأعلام، ولد بدمشق ونشأ بها على العلم والعمل، مع التقوى والعبادة والتواضع والخشوع والوجل، وكان مستقيم الأوطار، جميل الأطوار، عاملاً بالسنة، ذا نفس مطمئنة، مات بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير. وكان إمام أهل الفرائض. الشيخ حسين بن حسين بن محمد الدمشقي الحنفي العطار الشهير بالمدرس ولد في دمشق الشام في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، وكان عالماً أستاذاً، وفاضلاً ملاذاً، تتقاطر مياه التقوى من وجهه ومحياه، ويشرق نور المصباح من مشكاة هداه، قد تردى بجلباب الذكاء والفهوم، وفتح له أوسع باب من حقائق العلوم، فهو العالم العامل الناجح، خاتمة السلف الصالح، الناهج منهج العلماء العاملين، والسالك في قويم طريق السادة المتقدمين، الورع الزاهد، والناسك العابد، والنحوي الفقيه، والمحدث اللغوي والمفسر النبيه، من يقتدى بآثاره، ويهتدى بأنواره، أخذ عن علامة الأقطار الشيخ عبد الرحمن الكزبري الكبير، وعن الشيخ محمد بن سليمان المدني، والعلامة إبراهيم الحلبي، والعلامة الجينيني، والعلامة علي بن محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 علي بن سليم الشافعي الشهير بالسليمي، وأجازوه جميعاً هم وغيرهم بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم فأفاد واستفاد، وأخذ عنه كثير من العلماء السادة الأمجاد، وأجازهم كما أجازه من قبله، ورووا عنه الحديث وغيره. وعرفوا مقامه وفضله، وشهرته بكل منقبة كافية، وبكل كمال وافية، فللناس به فخر عظيم كبير، ولا ينبئك مثل خبير. مات رضي الله عنه غرة شعبان سنة عشرين ومائتين وألف، ودفن في جبانة باب الصغير رحمه الله تعالى. حسين بن عمر بن إبراهيم بن حسين بن زين العابدين بن شمس الدين محمد بن كمال الدين بن شمس الدين بن كمال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن تاج الدين بن أحمد الشهاب بن شرف الملك محمد بن علي بن محمد العجلاني بن الشريف علي بن الشريف محمد بن الشريف جعفر بن حسن الشجاع بن الشريف العباس بن الشريف حسن بن الشريف العباس ابن الشريف حسن بن الشريف حسين أبي الجن العجلاني المدفون بمحكمة الباب بدمشق الشام، بن الشريف علي بن الشريف محمد بن الشريف علي ابن إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين ابن سيد الشهداء الحسين بن السيدة البتول فاطمة الزهراء ابنة سيد العالمين وصفوة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين. ولد هذا المترجم في دمشق ونشأ في الطاعة من صغره، ولم يزل يزداد منها إلى نهاية عمره، وطلب العلم على جملة من الأفاضل، إلى أن كان من ذوي الفضائل، وهذه السلسلة المذكورة هنا الدالة على شرفهم هي نظير الموجودة عندهم، غير أن بني عجلان عموماً ينكرون شرفهم وأنهم ليسوا من بني عجلان، وسمعت ذلك منهم في عدة مجالس، ويقولون إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 هؤلاء الطائفة من سلالة الوزير منجك باشا، إلا أنهم تزوجوا من بني عجلان فحازوا على هذه النسبة، ويقولون بأن شرفهم من جهة النساء، وهذا لا ينكرونه، ونحن نقول بأنهم على كل حال لهم شرف عظيم، وفضل جسيم، حيث لهم نسبة إلى سيد الأمم، صلى الله عليه وسلم. توفي المترجم سنة .... ومائتين وألف ودفن في مدفنهم المشهور. الشيخ حسين بن الشيخ سليم بن سلامة بن سليمان بن عوض بن داود بن سليمان بن السيد عبد الله بن السيد أحمد الدجاني بن السيد علاء الدين الشيخ علي بن السيد محمد بن السيد يوسف بن السيد حسن ابن السيد ياسين بن السيد بدر الدين بن السيد محمد بن السيد حسن ابن السيد ياسين بن السيد بدر الدين بن السيد محمد بن السيد يوسف ابن السيد بدر بن السيد يعقوب بن السيد مطر بن السيد غانم بن السيد محمد بن السيد زيد بن السيد علي بن السيد حسن بن السيد عوض الأكبر بن السيد زيد بن السيد علي بن السيد الحسن بن السيد عوض الأكبر بن السيد زيد بن السيد الحسين أمير المؤمنين ابن السيد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنهم أجمعين. وهو العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، تاج الأفاضل، ومنهاج ذوي الفضائل والفواضل، اشتهر فضله اشتهار البدر، وملأ ذكره البر والبحر. ولد في مدينة يافا مدينة من مدن الشام على رأس الاثنين بعد الألف والمائتين، ونشأ في حجر والده الشيخ سليم الدجاني الشافعي وقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 عليه النحو والصرف وعدة كتب من الفنون الأدبية، والعلوم الشرعية المحمدية. وأخذ عنه معظم الكتب المتداولة من فقه السادة الشافعية، حتى ترعرع وبرع، وشملته بركة والده وبه انتفع، ثم رحل بأمر والده إلى الجامع الأزهر، والمقام الباهر الأنور، سنة سبع وعشرين فأدرك الطبقة العالية من المشايخ، ممن لهم في علو الإسناد القدم الراسخ، كالأستاذ الفضالي، والعلامة الأمير، وشبله الأوحد، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد الدمنهوري، ذوي التدقيق والتحرير، والفاضل الكامل الشيخ أحمد الصاوي، والعارف بالله الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر بعض كتب السادة الحنفية، على السيد أحمد الطحطاوي خاتمة المحققين في البلاد المصرية، وكان أكثر انتفاعه بالعالم الفاضل، والإمام الكامل، السابق في ميدان الفضل إذا جوري، الشيخ إبراهيم الشافعي الباجوري، وهو الحامل له على غالب مؤلفاته النافعة، التي هي بين الناس مستعملة وشائعة، فكان يوافقه لشدة عطفه من بين تلامذته عليه، وميله القلبي إليه، وغب أن حضر عليه شرح المنهج في فقه السادة الشافعية، حصلت له إشارة باطنية، بالحضور في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، على ضريحه سحائب الرحمة والرضوان، فاستشار بعض أشياخه الكرام فأذنوا له كوالده بقصد الإفتاء ونفع الأنام، وبقي إلى موته يتعبد على مذهب إمامه النفيس، عالم قريش محمد بن إدريس، ومن أشياخه في الفقه النعماني شيخ الحنفية، في الديار المصرية، ذو التحقيق الوافي، الشيخ منصور اليافي، وممن لازمهم وانتفع عليهم بالحضور، شيخنا القدوة المشهور، ذو السر الوهبي السيد محمد بن حسين الكتبي، مفتي السادة الحنفية ببيت الله الحرام، وبه كان انتقاله لدار السلام، وقد صنف بعض مؤلفات وهو في الجامع الأزهر، وبالجملة فعلو همته لا ينكر، وفضله أشهر من أن يذكر، ثم بعد أن أجازه شيوخه الأمجاد، بالإجازات العلية الإسناد، قدم لوطنه يافا المحروسة، وسر أبوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 والأهالي برؤيته المأنوسة، وذلك في حدود عام خمسة وثلاثين، ولازم والده إلى أن توفي عام تسعة وثلاثين، وقد ناهز والده من العمر ثمانين فورث حال أبيه الغني فضله عن الإطراء والتنويه، ولا شك أن الولد سر أبيه، وواظب بعد والده على الإقراء والتدريس، وقرت به عين كل فاضل وجليس، فانتفع به كثير من الطلاب، وفاقوا ببركة أنفاسه على الأقران والأتراب، وولي وظيفة الفتوى بيافة المحمية، على مذهب السادة الحنفية، بمنشور من مقام المشيخة الكبرى في الدولة العثمانية، وذلك في حياة والده سنة ست وثلاثين، واستمر بخدمة الفتيا ما ينوف عن أربعين، متحلياً بالورع والتقوى، متحرياً الصواب وما عليه الفتوى، وكانت الأسئلة ترد إليه من أقصى البلاد، لما اشتهر عنه من العفة وسلوك منهج السداد، وكانت فتواه نافذة في الآفاق، وهو المرجع عند الاختلاف والشقاق، وكان منهلاً لكل قاصد ورائم، عاملاً بعلمه لا يخشى في الله لومة لائم، محباً للعلماء والأشراف، ولا يحب أن يأكل مرة إلا مع الأضياف، وكثيراً ما كان يترنم بما قيل، من بديع الأقاويل، مما يدل على حالته، وانفراده في جوده وسماحته. لا مرحباً بالليل إن لم يأتني ... في طيه ضيف ملمٌ نازل والصبح إن وافى فلا أهلاً به ... إن كان عندي فيه ضيف راحل والحاصل أنه كان مطبوعاً على المعروف والخير، مجبولاً على المساعدة ودفع الضير، حسن الظن والاعتقاد، بكل حاضر وباد، كثير النصيحة والفوائد، جديراً بالعطايا والعوائد، عظيم الهيبة، كري الشيبة، مجلسه محفوظ من الهزل المخل والفحش والهذيان، لا تخلو أوقاته من الكتابة والإفادة والمراجعة والتحرير في كل آن، وكان متعلقاً بتعمير الجوامع والمساجد، وكان زاهداً في الدنيا معرضاً عما فيها من الحطام، قانعاً بما تيسر من اللباس والطعام، كثير التحمل، صادق التوكل، عريض الجاه بين الورى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 مقبول الكلمة عند الحكام والأمرا، وطالما كان ينشد قول من قال، وأحسن في المقال: ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ... هم السلاطين والسادات والأمرا وقد جمع الله له بين العلوم الباطنة والظاهرة، حتى كان في علم الشريعة والحقيقة آية باهرة، مقصوداً للزيارة والرواية عنه من البلاد، موروداً للبركة والدعاء والإمداد، وقد كان علامة المذهبين، مشتهر الفضيلة في الخافقين، أخذ الطريقة الخلوتية البكرية من العارف بالله ذي الإرشاد والتمكين، نجل المحقق الصوفي السيد مصطفى البكري الصديقي وهو السيد كمال الدين. وأخذ هذه الطريقة بعينها عن الفاضل المشهور في كل ناد السيد الشيخ أحمد الصاوي ابي الإرشاد، وتكمل على يد الأستاذ العلامة السيد الشيخ فتح الله المالكي خليفة الأستاذ الصاوي، حينما قدم ليافا عام مائتين وأربعين لزيارة البيت المقدس الذي هو لكل خير حاوي، فأذن له بالخلافة والإرشاد، كما أذن له شيخه أبو الإرشاد، وأخذ عنه الطريقة الدسوقية الإبراهيمية، وحرر له بخطه إجازة سنية، وأخذ الطريقة القادرية عن الشيخ العماوي الفالوجي الهمام، والأحمدية البدوية عن الشيخ صالح العلا ري السادة الكرام، والرفاعية عن صاحب المشرب الأنسي، الشيخ حسن الغزالي الرفاعي القدسي، والشاذلية عن والده السيد سليم الدجاني، ونال من الله الآمال والأماني، وكان له أطوار وأحوال، مع ثبات قدمه على نهج ذوي الكمال، فلم يمنعه ذلك عن دروسه وقراءته، ولا عن طاعته وتقواه وعبادته. وكان في كل سنة يتوجه إلى القدس والخليل بقصد الزيارة، وله عدة قصائد في مدح السيد الخليل جعلها لنفسه أربح تجارة، وله قصائد عدة يمدح بها غيره من السادة الأخيار، قد جمعها في ديوانه المخصوص بالأشعار، وله بيتان كتبهما على باب سيدنا داود أبي سليمان، عليه وعلى إخوانه الصلاة والسلام والرضوان، وهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 إن باب الخليفة كعبة فضل ... لاح منه للعالمين ضياء في الرحاب الشريف نيل العطايا ... من نحاه له المنى والعطاء وكان يصحبه في الزيارة جمع من المريدين والأخيار، من أكابر أهل العلم والطريق وذوي الصناعة والتجار، كالأستاذ الفاضل الشيخ محمد الجسر الطرابلسي أبي الأحوال، والشيخ العارف الشيخ محمود الرافعي صاحب الكمال، والأستاذ الشيخ صالح اللاذقي الطويل، والأستاذ الكامل الشيخ محمد القاوقجي الشاذلي ابن خليل، وكثير من ذوي المقامات العالية، والمناقب الرفيعة السامية، وكلهم يتأدبون بين يديه، ويعولون في مهمات أمورهم عليه، وأما كشوفاته وكراماته، وأخباره الغيبية وصلاته، ومقاماته المرتقبة إلى ذروة الكمال، فلو أردنا بسطها لخرجنا عن الاختصار المطلوب إلى الإطالة في المقال، وله من بديع التآليف، وجميل التصانيف، عدة وافرة، نفعنا الله به وبعلومه في الدنيا والآخرة، وكان كثير التعلق بالذات المحمدية، وله عدة اشعار يمدح بها ذاته العلية. منها قد عيل صبري وأيام الصبا ذهبت ... واليد صفر ودمع العين كالديم ولي حنين سما في كل آونة ... لخير من جاء بالتبيان والحكم وقد خشيت من الأيام تمنعني ... عن الوصول لباهي النور والشيم يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم وله رحمه الله يا نسمة هبت بطيب من قبا ... أنعشت حباً في الحجاز لقد صبا سيري لطيبة خبري عن صبها ... ما زال يصبو للمعاهد والربا وإذا دخلت لروضة قد طهرت ... قولي حسين لإذنكم مترقبا قد شاب رأساً يا كرام ترحموا ... فعساه يقضي من حماكم مأربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وله أيضاً إليك رسول الله وجهت وجهتي ... وأرسيت في تيار جودك مركبي فمن لي رسول الله منك بنظرة ... أزاحم فيها الأصفياء بمنكبي وله أيضاً يا أهل طيبة هل لنا من زورة ... ومتى بقربي يا كرام تجودوا قد طال هذا الانتظار ولمتي ... بيضاً وفي قلبي يهب وقود وله أيضاً ألا ليت شعري والأماني كثيرة ... أأبلغ ما أرجوه من سادة الحمى وهل أنظرن أرض الحجاز وطيبه ... ومن زمزم يروى الفؤاد من الظما وله هذان البيتان مع تشطيرهما لأخيه حسن أفندي: أيا راكباً أما عرضت فبلغن ... ولوعي لخير الخلق في العرب والعجم فذاك هو المعني وإن قلت نبئن ... شقيقة بدر التم ما بي من النحب وأكثر حنيني في حماها لعلها ... تمن بإنقاذ المعنى من الكرب فيا شرفي أن قيل سعداك قد غدت ... تجود بإبدال التباعد بالقرب وله رسول الله لاحظني فإني ... ضعفت جوانحاً وكبرت سنا فلي أمل علا فيكم قوي ... ومن صغري فقد أحسنت ظنا فقربني رسول الله فضلاً ... وعجل لا تطيل البعد عنا فبالنظر الشريف العبد يرقى ... إلى مرجاه من سعدى ولبنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فلاحني فعيل الصبر مني ... عسى فيكم يقر العبد عينا وله هذه القصيدة يمدح بها المصطفى صلى الله عليه وسلم: أيا رحمة الدارين والسيد الذي ... لأمته حصن منيع ومعقل فأنت حبيب الله أشرف كائن ... وأشرف أهل الكون عقلاً وأكمل فلا خير إلا من جنابك يرتجي ... ولا فضل إلا عن علاك يسلسل وأنت ملاذ العالمين بأسرهم ... رؤوف رحيم واصل متوكل عليك مدار الأمر خير من التجى ... إليه وأسنى من به يتوسل أغثني وأوصل من سعاد حبالنا ... وعجل بتقربي عليك المعول ولاحظني في كل الشؤون فإنني ... بصنع جميل منكم متأمل فعنكم أموري يا صفيي أنطتها ... فإنك أنت المنعم المتفضل عليك صلاة الله ثم سلامه ... مدى الدهر ما قلب بذكر يعلل وما ابن الدجاني المفتي زاد تشوقاً ... لدار بها خير النبيين منزل وقال مشطراً بيتي سيدنا حسان في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم: وأحسن منك لم تر قط عين ... ومجدك لا يواريه علاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ولا سمعت بمثلك أذن حي ... وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب ... وشيمتك الفتوة والسخاء وصورك المصور محض خير ... كأنك قد خلقت كما تشاء وكم له من قصائد وأبيات، أكثرها في الحكم والتوسلات، قد أفردت بديوان كبير، وهو في قطره معروف وشهير، ثم إنه في منتصف شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف قاده الشوق والغرام، لحج بيت الله الحرام، فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام، وشكا إليه الفاقة فتعهد له بتيسير المرام، فعند ذلك شد إزار السفر، وتوجه معتمداً على بارىء البشر، وسار معه جملة من الأفاضل، وذوي الفضائل والفواضل، كأخيه السيد حسن الفاضل الهمام، وابن عمه السيد عبد القادر أبي رباح كعبة السادة الكرام، والسيد عبد اللطيف الرفاعي والسيد أحمد أبي الأنوار، وغيرهم من القادة الأخيار، وبعد قضاء الحج ناداه مولاه، واختاره لجواره واصطفاه، وكانت وفاته بمكة المكرمة في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين، ودفن في المعلا ما بين آمنة الرضا وخديجة أم المؤمنين، بجوار العالم الدمشقي الشيخ عبد الرحمن الكزبري قدوة المحدثين، وكان مرضه ثلاثة أيام، عليه رحمة الملك السلام. حسين أفندي بن أحمد الشهير والده بإمام حسن باشا الصدر الأعظم القاضي بدمشق ولد بدار السلطنة السنية، وجد واجتهد في طلب العلوم الشرعية والأدبية، ونفح نشره، وعلا صيته وذكره، وكان متضلعاً في العلوم العقلية، مستحضراً للعلوم النقلية، كثير العبادة متواضعاً مهاباً متعففاً عن أموال الناس. قدم دمشق سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف في أول شعبان بوظيفة القضاء فتعاطى الأحكام، على أحسن ما يرام، وامتزج مع العلماء امتزاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 الراح بالماء، ووجه عليه قضاء مكة المكرمة، وذلك أيام سلطنة الإمام الأعظم السلطان محمود، ولم يزل مثابراً على طاعته، مواظباً على مطالعته وعبادته، واقفاً على قدم التقوى، في السر والنجوى، إلى أن دعته المنية، إلى الدار الأخروية. فمات ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير قرب مقام الصحابي الجليل سيدنا بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه. الشيخ حسين الدمشقي المعروف بفشافش المجذوب المستغرق صاحب الكرامات كان له كرامات كثيرة، وأخبار صادقة شهيرة، وكثيراً ما يتكلم بكلام لا يفهم الناس معناه في الوقت، وبعد مدة يقع كما أخبر فيفهمون حينئذ معنى كلامه، وكان يقف لدى باب البلطجية في دمشق، ويقول ضربنا الخبر من هنا فوصل إلى الآستانة، وضربناه من هنا فوصل إلى مصر، ويعدد محلات كثيرة، والناس لا يفهمون هذا المقال، ولا يخطر لهم معناه على بال، وبعد مدة جعلوا المحل الذي كان يقف عنده ويشير إليه محلاً للتلغراف فكان كما أخبر، وليست هذه أول كراماته. مات رحمه الله في دمشق الشام سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ حسين الدمشقي الحنفي الشهير بالأطرش أمين الفتوى بدمشق الشام العلامة الفقيه، والفهامة المحقق النبيه، إمام أهل الفروع والأصول، الجامع بين طرفي المعقول والمنقول، الجهبذ الكامل، والهمام الفاضل، فريد عصره، ووحيد دهره، ولي أمانة فتوى دمشق الشام، أيام الحبر البحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 العلامة الإمام، حسين أفندي المرادي ولا زال في أمانة الفتوى حتى توفي سنة ومائتين وألف ودفن بباب الصغير. الحسين بن النور علي بن عبد الشكور الحنفي الطائفي الإمام الذي غذي بلبان الفضل وليداً، وعد لبيد إذا قيس بفصاحته بليدا، من له في المعالي أرومة، وفي مغارس الفضل جرثومة، ولد بالطائف كما ذكره الإمام الجبرتي، وبها نشأ وتكمل في الفنون العرفانية، وتدرج في المواهب الإحسانية، وأحبه السيد عبد الله ميرغني وتعلق بأذياله، وشرب من صفو زلاله، فتاه وهام، وقطع ربقة الأوهام، وأخذ بالحرمين من عدة علماء كرام، وشارك في اللوم، ونافس في المنطوق والمفهوم، إلا أنه غلب عليه التصوف، وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف، وكان بينه وبين الشيخ العيدروس مودة أكيدة، ومحبة عتيدة، ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة، وقد ورد مصر في سنة أربع وسبعين ومائة وألف وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج، وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم، فأعاد روض الأنس نضيرا، وماء المصافاة نميرا ودخل الشام وحلب، وبها أخذ عن جماعة من الأكابر، منهم السيد إسماعيل المواهبي فقد عده من شيوخه وأثنى عليه ودخل بلاد الروم، وحظي بما يروم، وعاد إلى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام، ثم قطن بالمدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المنورة، وكتب إليه الشيخ السيد العيدروس وهو بالطائف يستدعيه لبستان يسمى الشريعة فقال: أحسين كأس الأنس دائر ... ولنا الصفا واف ووافر راقت لنا خمر الصفا ... فزماننا زاه وزاهر أحسين روح مهجتي ... من راح قربك لي وبادر أحسين سحباً في النوى ... عنكم لنظم الأنس ناثر أحسين عين الما بكت ... شوقاً لك يا ذا المفاخر هذي الأزاهر مزقت ... أكمامها فارع الأزاهر هذي الغصون تضاربت ... من بعدكم فالروض خاضر هذي الشريعة أنسها الس ... اري لكم بالقرب آمر فاقرب ولا تشطح ببعد ... بواطن فالشرع ظاهر هيا فلي شوق غدا ... مثلاً من الأمثال سائر فأعاد المترجم الجواب، وقال: ما أنس رنات المزاهر ... والروض بالأفراح زاهر وسنى عقود علقت ... في جيد غيد والجآذر والدر في، في من أحب ... منظماً فاق الجواهر والوصل بعد القطع من ... سامى الربى سامى المفاخر كلا ولا عطر العرو ... س كذا المحاظي في المجاظر أشهى وأبهى من سنا ... نظم لطي الأنس ناشر ألفاظه تحكي الشمو ... س ونورها باه وباهر فيه المفصل مجمل ... يبدو لأرباب البصائر أغنت عن التوضيح والتسهي ... ل هاتيك الأشاير وكست براعته العبا ... رة بهجة والأمر ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 في طرسه طرر سمت ... حسناً على طرز الحرائر تحكي العيون عيونه ... سيناته تحكي الضفائر ألفاته تحكي القدو ... د رشاقة ولها تناظر إلى أن قال: آيات فخر بينا ... ت أولا وكذاك آخر ويؤم أربا النها ... ية والنهى من كل كابر يتلونه جملاً فيتلو ... من مفصله الأوامر أعني الوجيه بن النبي ... هـ ابن النبيه بلا مناكر المصطفى بن المصطفى بن ... المصطفى حامي العشائر لا غرو في حوز له ... فخراً بحسن السمت فاخر إذ جده شمس الشمو ... س العيدروس أبو المظاهر ما إن له من ساحل ... وبذاك قد عقدت خناصر أوصافها عنها البديع ... وإن يكن سحبان قاصر وللسيد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة، وغير ذلك من مطارحات كثيرة، وللمترجم مؤلفات حسان، وكلها على ذوق أهل العرفان، منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجاً كأصلها على لسان القوم، ولما حج الشيخ التاودي بن سوده كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها، حتى كتب منها عدة نسخ، ونوه بشأن صاحبها، حتى عين له سلطان المغرب بصرةٍ في كل سنة تصل إليه مع الركب، والناس في المترجم مختلفون، فمنهم من يصفه بالبركات والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه، فبهرهم نظامه، ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد، ويرميه بالحلول والإلحاد، وهو إن شاء الله تعالى مبرء مما نسب إليه، معتمد في الإرشاد والإمداد عليه، ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله فكان أنيساً له في سائر أحواله، قال: اختبرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 حق الاختبار، فلم أجد له غير لسان مثار، قال وبعد أشهر تبرم عن ملازمته وتباعد عن مجالسته واتخذ له حجرة في الحرم، وعزل نفسه عنه اعتزال النقي عن الحرم، وحكى عنه أشياء عجيبة، وأموراً غريبة وهو بها معذور، وكل منهما على قصده مثاب ومأجور، غير أنه لو تباعد عن الطعن فيه لكان أولى، ولو سلم له حاله لكان أعلى، وما كل إنسان يفهم المقصود من كلامهم، ولا كل امرىء يدرس سامي مرامهم، لأن لهم اصطلاحاً لا يدريه سوى أهله، فمن لم يعلمه فلا يلمهم بل يبكي على جهله، ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل، ومواهبهم تصل إليه في كل قليل، مات رحمه الله تعالى سنة ست ومائتين وألف. السيد حسين بن يحيى بن إبراهيم الدؤلي الذماري الحنفي الماتريدي قال في البدر الطالع: ولد في سنة ألف ومائة وتسع وثلاثين وبيني وبينه من المودة ما لا يعبر عنه، وهو من جملة من رغبني في شرح المنتقى، فلما أعان الله على إتمامه، راسلني في الإرسال إليه بنسخة، ولما ألفت الرسالة التي سميتها إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة، على عدم ذكر الصحابة بسب وما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الروافض فجالوا وصالوا، وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثاً نقلوها من كتب الإمامية وزاد الشر وعظمت الفتنة، وأعانهم علي جماعة ممن له صولة ودولة، وتعصب أهل العلم لها وعليها، وكل من له أدنى معرفة بعلم، يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون؛ ثم قال: وإن المترجم ناشر للعلم في مدينته ذمار، مع تحمله لما يلاقيه من الجفاء الزائد من أهل بلده بسبب نشره لعلم الحديث بينهم، وميله إلى الإنصاف في بعض المسائل، مع مبالغته في التكتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وشدة احترازه. مات رحمه الله سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين من الهجرة، وكان عمره مائة سنة ولا زال مثابراً على العلم إلى انتهاء أجله. الشيخ حسين بن علي مفتي السادة المالكية بمكة المكرمة حرسها الله الإمام الصالح، والهمام الناجح، الناهل من مناهل الأفاضل، والكامل الذي شهد بكماله ذوو الفضائل، كان يغلب عليه التقوى والعبادة، والتقشف والزهادة، ولد والله أعلم في حدود الخمسين والمائة والألف، وأخذ عن المحدث الفقيه، والإمام الفاضل النبيه الشيخ محمد الورتلاني المغربي المالكي، وعن الشيخ محمد الغرياني التونسي، وأخذ أيضاً حين دخل دمشق الشام، عن مشايخها الأعيان الكرام، ومن أجلهم الشهاب أحمد العطار، ثم رحل إلى مكة المشرفة وتوفي بها لثلاث مضت من شهر محرم الحرام سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، ودفن بمقبرة المعلى رحمه الله تعالى ورضي عنه. الشيخ حسين السقطي بن عبد القادر الصالحي الدمشقي الشافعي بقية السلف، وعمدة الخلف، المقتدى بأفعاله، والمعمول بأقواله، بركة الأنام، ونخبة العلماء الأعلام. ولد بصالحية دمشق سنة تسعين ومائة وألف، ونشأ بها وقرأ على أخيه العلامة الشيخ عبد الغني وعلى العلامة الشيخ محمد شاكر الشهير بمقدم سعد، ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف ودفن عند أسلافه بمقبرتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الشيخ حسين بن إسماعيل بن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره العالم الأستاذ، والكامل الملاذ، ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ عن والده وعن العلامة الشيخ صالح الجينيني وعن الشهاب المنيني والشيخ أسعد المجلد والعلامة الحفني مات سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة ودفن في مقبرة بني النابلسي. السيد حسين بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أحمد ابن أحمد المنزلاوي الشافعي خطيب جامع المشهد الحسيني في مصر المحمية العمدة العلامة، النبيه الفهامة، بضعة السلالة الهاشمية، وطراز العصابة المطلبية، حضر على الشيخ الملوي، والحفني والجوهري، والمدابغي والشيخ علي قايتباي والشيخ البيسوني، والشيخ خليل المغربي، وأخذ أيضاً عن سيدي محمد الجوهري الصغير، والشيخ عبد الله إمام مسجد الشعراني، والشيخ سعودي الساكن بسوق الخشب، وتضلع بالعلوم والمعارف وصار له ملكة وحافظة واقتدار تام واستحضار غريب، وينظم الشعر الجيد والنثر البليغ، وأنشأ الخطب البديعة، وغالب خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من إنشائه على طريقة لم يسبق إليها، وانتمى إلى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته أنواره ومكارمه ويصلي به في بعض الأحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم، ويأتي فيها بمدائح السادات ما تقتضيه المناسبات، وله منظومة بليغة في سلسلة السادة الوفائية سماها السيد حسن بن علي العوض بعقد الصفا في ذكر سلسلة ساداتنا بني الوفا، وذكرها في كتابه مناهل الصفا، يقول في أولها ما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 سماء بها الزهر الأزاهر تشرق ... بأنوارها قد نار غرب ومشرق وزانت صفا مرآتها وهي حفها ... لمستمع قد جاء للسمع يسرق إذا مد كف النحو نحو سمائها ... يكف بشهب للمعاند تحرق فما هي إلا عرش كنز حقائق ... بها الحق مشهود لمن يتحقق رياض معانيها بهن نوافح ... لأزهار أسرار بها الطيب ينشق فكم أورقت فيها غصون وكم حلت ... بها ثمرات للمحقق ترزق بلعلعها غنت فصاح بلابل ... فأعربت الألحان وألحان مطرق رعى الله ما قد راق منها وما حلا ... وأعلى سماء برقها متألق حمى الله مرقاها ومعراج قدسها ... بكوكبها السامي الذي ليس يلحق إلى آخرها وهي طويلة، وله غير ذلك رحمه الله تعالى من النثر والنظام، وبديع التحيق وبليغ الكلام، مما يدل على رفعة قدره، وسمو مقامه وكمال بدره، توفي في منتصف شهر شعبان المبارك من السنة الثانية عشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى. الشيخ حسين بن الشيخ أحمد الشهير بالكبيسي أمين فتوى دمشق الشام العالم النحرير، والفاضل الشهم الشهير، ذو السيرة العالية، والمعارف السامية، والذهن المقصور على الصواب، والكلام الذي لا يتعدى فصل الخطاب، قد انفرد للفتوى بالأمانة، وورد مناهل التقوى بالصدق والصيانة، واشتهر فضله في الآفاق، وانعقد على كماله الاتفاق، وأذعنت لانفراده أفراد الرجال، وجال رفيع ذكره كل مجال، لم يزل للفتوى أجل أمين، لا يحيد عن الحق ولا يمين إلى أن دعته لحديقة القرب المنية، وخطبته الحور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 للدار العلية، وذلك سابع عشر رمضان عام ألف ومائتين واثنين وخمسين من هجرة سيد ولد عدنان، ودفن في مقبرة دمشق ذات الفلاح، المعروفة بالدحداح، رحمه الله تعالى. قاضي القضاة السيد حسين أفندي خوجه زاده القاضي العام بدمشق الشام حاكم صالح عابد، وإمام ورع فاضل زاهد، ناهج منهج الصواب والكمال، لا يلويه عن الحق جاه ولا مال، ولا تأخذه في الله لومة لائم، بل هو على ساق العبادة والتقوى قائم، كان أوصى أنه إذا مات يدفن في جورة في مقبرة باب الصغير، بقرب مقام سيدي الصحابي الجليل الشهير، بلال الحبشي رضي الله تعالى عنه، وأن يحوط على الجورة بتابوت من خشب. والذي دعاه إلى ذلك أنه سمع من بعض العلماء أن الأقرب أن سيدنا بلال الحبشي مدفون في هذه الجورة، وقيل في الجورة الثانية بالقرب منها، وملخص الكلام، في هذا المقام، أن أكثر العلماء يقولون بأن إحدى الجورتين بها مدفون الصحاب المذكور، والثانية بها مدفون سيدنا فضالة بن عبيد أمير المدينة في أيام التابعين رضي الله عنهم وعنه، وكان في كل من الجورتين محراب ظاهر، ولكن الآن لطول الأيام قد ارتفع التراب فيهما حتى تساويا مع أرض الجبانة، ورفع الناس بعد ذلك صورة القبور خوفاً من الاندراس. توفي المترجم المذكور في رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، ودفن في تربة باب الصغير في المحل الذي أوصى أن يدفن فيه، وقام الوصي بوصيته في عمل المقام على الجورة. رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الشيخ حسين أبو عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان الحلبي الشافعي الحسيني الشريف الفقيه الصالح، والعفيف النبيه الفالح، والتقي الزاهد، والنقي العابد، مولده سنة ثلاثين ومائة وألف، قرأ القرآن الشريف على خال والده الشيخ أبي الضيا هلال بن أحمد القادري وحفظه على غيره، وتفقه وحفظ بعض المتون العلمية على جماعة، وسمع الكثير من كتب الحديث وغيره على جمع، منهم بدر الدين حسن بن شعبان السرميني، وأبو عبد الفتاح شمس الدين محمد بن الحسين الزنار، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني، وفخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي العمري، ومحمد علاء الدين بن محمد الطيب الفاسي المغربي المالكي لما قدم حلب، وعقد بها مجلس التحديث والسماع، وتاج الدين محمد بن طه العقاد وغيرهم، وأخذ الطريقة السعدية عن شهاب الدين أحمد السعدي الجباوي الدمشقي لما قدم دمشق ونزل عنده، وأخذ الطريقة القادرية وغيرها عن الشيخ تقي الدين أبي بكر أحمد الحلبي القادري، وأخذ عن الشيخ أبي الخير سعد بن عبد الله اليماني نزيل حلب وانتفع بهم، وأجاز له غالب مشايخه، وأقام الذكر والتوحيد على عادتهم، واعتقده الناس، وقد أخذ عنه العالم العلامة خليل أفندي المرادي واستجازه بجميع ما تجوز له روايته فأجازه إجازة عامة، وذلك حين رحلة خليل أفندي المرقوم إلى حلب سنة خمس ومائتين وألف كما رأيت ذلك بخط خليل أفندي، ومات المترجم بعد ذلك، ولم أقف على تعيين تاريخ موته رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 الشيخ حسين بن الشيخ محمد التدمري أصلاً الدمشقي وطناً الميداني إقامة الشافعي الإمام بجامع كريم الدين عالم قد فاق أهل زمانه، وترقى في الكمال حتى عرف بالتقدم في أوانه، قد اعتصم بحبل الوفا، وتقدس عن الفظاظة والجفا، وتمسك بعرى التقوى والعبادة، وتحلى بحلية القناعة والزهادة، وطار في الناس فضله، واشتهر في الملأ العام قوله المحمود وفعله، حضر مجالس السادات، وأخذ عنهم أنواع العلوم الشرعية والآلات، ثم درس وأفاد، وانتفع به الكثير واستفاد، وكان مستقيماً في الميدان لتعليم الناس، وكان يتعاطى وظائف جامع كريم الدين من خطبة وصلاة وتدريس، فأحيا المكان بعد قرب الاندراس، وكان رقيق الكلام، حسن الاعتذار عمن يستوجب الملام، صادقاً في الاعتماد على مولاه، لا يشغله عنه ما سواه، فهو بقية السلف وزينة الخلف، توفي بعد خدمة الجامع المرقوم نحو أربعين سنة عن نحو ثمانين سنة، وذلك في سنة أربع عشرة ومائتين وألف من الهجرة، ودفن بتربة باب الله وقبره مشهور رضي الله عنه. الشيخ حسين بن عبد الشكور المدني العالم الكبير والأوحد الشهير، ولد سنة ألف ومائة، قال في النفس: وفد إلى مدينة زبيد داعياً لأهلها إلى حسن الوضوء والصلاة وتعريفهم طريق ذلك، ونظم في ذلك منظومة عظيمة أولها: لك الحمد بدءاً منك يحسن والختما ... عليك وشكراً لا أطيق له كتما وشرح هذه المنظومة شرحاً حافلا، وبأكثر المسائل كافلا، وجعل على الشرح حاشية عظيمة، وفائدتها وافية عميمة، لا ينقل فيها من كتاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 بل إنما كان يميل إلى الاجتهاد ويراه هو الصواب، وكان يشتهر بذي العلوم اللدنية، والفيوضات الإلهية، حتى قال بعضهم فيه: لقد رأيت إماما ... أحار بالعلم لبي فقلت من أي شيخ ... فقال من فيض ربي وكان كثير البحث والمذاكرة، ملازماً لدعاية الخلق إلى ما ينفعهم في الآخرة، لا يوقر في ذلك كبيرا، ولا يترك صغيراً ولا حقيرا، ومن تشطيره: من راقب الناس مات غما ... وحظه الويل والثبور ومن تخلى عنهم تحلى ... وفاز باللذة الجسور مات في زبيد سنة ألف ومائتين. الشيخ حسين بن عبد اللطيف الدمشقي الشهير بالعمري من أولاد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد بدمشق الشام سنة اثنتين وستين ومائة وألف في شهر ربيع الأول وهو الإمام الكبير، والمؤرخ الشهير، أخذ عن مصطفى الأيوبي الأنصاري المعروف بالرحمتي وعن علي أفندي الداغستاني وعن الشهاب أحمد البعلي الدمشقي الخلوتي مفتي الحنابلة بدمشق وعن الشيخ محمد البخاري والشيخ مصطفى بن أسد اللقيمي وابن سليم الصالحي وغيرهم وله تاريخ سماه المواهب الإحسانية في تراجم العمرية، مات رحمه الله سنة ألف ومائتين. حسين بن علي بن عبد الكريم الأنصاري المدني هو من رجال اللآلىء الثمينة في أعيان شعراء المدينة، لعمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني، فقال في ترجمته: ذو نجدة ومروة، ومجد وفتوة، سجعت بمحاسنه حمائم شمائله، ولمعت من سما مكارمه بوارق فضائله، فبهر بأخلاقه الرضية، واشتمل بما ألبسه رداء الثناء بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 البرية، وله النظم الحسن المقاطع، والإبداع الذي أتقن به البدائع، منه قوله لما وقعت في المدينة الفيحاء، فتنة العام المؤرخة بهذه القصيدة الغراء، أنشدها متوجعاً باكياً ولحضرة الرسالة شاكياً: أخي إذا ما جئت في سوح أحمدا ... تضرع له وامدد إلى نحوه اليدا وناد وقل يا سيد الرسل نجدة ... تفرج عنا ما أقام وأقعدا عسى نفحة منكم عسى لمحة بنا ... تحف عسى المولى يجيب لنا الندا لقد طال هذا الكرب واشتد عسره ... وشتت جيش الصبر طراً وبددا وكدر وجه الدهر بعد ابتهاجه ... ونغص عيش المؤمنين ونكدا وأذهب راحات النفوس جميعها ... فلله ما ولى ولله ما بدا ولم يبق إلا أن يذيب رسومنا ... وأما قلوباً قد أذاب وأكبدا كأن كروب الدهر أجمع أمرها ... على حربنا فاستنفرت نحون العدا هموم غموم ثم قلة راحة ... وحزن عظيم كلما رث جددا ثلاثة أعوام نكابد همها ... وإن لم تدار كنا هلكنا فأنجدا ومن قبلها قد كان قحط وشدة ... وأشجار ظلم أثمرت علة ودا وكم جرعتنا كأس صبر وحنظل ... مرارتها أدنى المصائب والردى فرادى ومثنى حيثما ثم سكرنا ... تركنا حيارى قط لا نعرف الهدى فنسأل رب العرش تفريج كربنا ... بجاهك يا رب السماحة والندى ومذ شق أقوام عصاهم وشمتوا ... عداهم وأضحى كل وغد مسودا تهلل وجه الرفض بعد اغبراره ... وأصبح ذو رفض عزيزاً وسيدا يجر ذيول التيه في أرض طابة ... وكم من لعين منهم السيف جردا وسروا سروراً لم يسروا بمثله ... وغنى مغنيهم لذاك وغردا وقد مر دهر لا يجرون ذيلهم ... ومن جر أمسى بالتراب موسدا وما قصدهم إلا انتهاك محارم ... وتخريب دور المؤمنين أولي الهدى وما منهم إلا لعين وملحد ... وجد مجوسي وابن تهودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 حفاة عراة كالكلاب تنابحوا ... على فرعهم والأصل لعن تأبدا فلو لم يكن هذا الشقاق لما جرى ... على مثلنا من مثلهم ذا ولا عدا فيا سيد الكونين صار لنا ترى ... من الحزن والكرب الذي قد ترددا ويا كهف من يلوي عناناً ببابه ... ويا خير من نودي سريعاً فأنجدا تلاطم بحر الكرب واشتد موجه ... على أهل حق بالجوار تأكدا عسى نظرة منكم تؤلف بينهم ... ليصبح سيف الدين في الكفر مغمدا فصلى عليك الله ما لاح بارق ... وما لاح قمري الأراك وغردا حسين بن أنصار إليك انتماؤه ... يرجي فكن عوناً لهم ثم مسعدا ومع غاية الإحصاء قلت مؤرخاً ... لقد أشمتوا فينا أعادي وحسدا انتهى توفي المترجم المرقوم بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى. السيد حمزة بن السيد يحيى بن السيد حسن بن السيد عبد الكريم بن السيد محمد الحمزاوي الدمشقي الحنفي الحسيني أحد العلماء الأعلام، نقيب السادة الأشراف بدمشق الشام، وإنسان عين الأعيان، ولسان ذوي الفضل والشأن. ولد بدمشق سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، ونشأ على كمال التقوى والصيانة، والعلم والفهم والديانة، إلى أن اختارته الآخرة، لمراقيها الفاخرة. وذلك سنة سبع عشرة ومائتين وألف، ودفن بمرج الدحداح لدى أسلافه رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الشيخ حمزة بن علي الدمشقي الحنفي العجلاني نقيب الأشراف ومفتي دمشق الشام الصدر المهاب، والرئيس العالي الجناب، والفاضل الهمام، والكامل الإمام، سلالة السادة ذوي الشرف والنسب، وصفوة خلاصة ذوي المجد والحسب، من فاقت شهرته، وعلت رتبته، واشتهر في الأنام اشتهار البدر لدى التمام، لازم مدة حياته العلم والعمل، واجتنب مناهج القصور والكسل، وصان عمره عن أن يصرفه فيما لا يعنيه، بل كان في كل كمال على طريقة جده وأبيه، إلى أن وافته المنية، داعية له إلى الجنة العلية، وذلك سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في تربة أسلافه رحمة الله عليهم أجمعين. الشريف حمود بن محمد الحسني صاحب أبي عريش قال في البدر الطالع: ولد بعد سنة ألف ومائة وستين تقريباً، ثم استقل بولاية أبي عريش وسائر الولاية الراجعة إلى أبي عريش كصبيا وضمد والمخلاف السليماني، وكان متولياً لذلك من طريق مولانا الإمام المنصور رحمه الله تعالى. ثم حدث ما حدث من قيام صاحب نجد واستيلائه على البلاد التي بينه وبين بلاد أبي عربش، فأمر عبد الوهاب بن عامر العسيري المعروف بابن نقطة، بان يتقدم في جيشه على بلاد الشريف حمود، فتقدم في نحو عشرين ألفاً، والشريف حمود استقر في أبي عريش لقلة جيشه، فتقدم عليه أبو نقطة إلى أبي عريش، فدخلها في شهر رمضان عام ألف ومائتين وسبعة عشر، وقتل من الفريقين فوق الألف، ثم استسلم الشريف حمود ودخل في الدعوة النجدية، ثم خرج على البلاد الإمامية فاستولى على بندر اللحية، وعلى بندر الحديدة، وعلى زبيد، وما يرجع إلى هذه الولايات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 واختط مدينة الزهراء، وصار ملكاً مستقلا. ثم أفسد ما بينه وبين النجدي، فأمر أبو نقطة المذكور من يغزوه، فالتقيا بأطراف البلاد، فقتل أبو نقطة وانهزم جيش الشريف حمود، وقتل منهم نحو ألفين، وكان جيشه من يام ومكيل وقبائل تهامة زهاء سبعة عشر ألفاً، وكان جيش ابن نقطة كما قيل نحو مائة ألف، لأنه أمده النجدي بجماعة من أمرائه كابن شكبان والمضائفي، ثم إن جيش صاحب نجد بعد قتل ابن نقطة وهزيمة الشريف تقدموا على أبي عريش، وجرت بينهم ملاحم كبيرة، وانحصر الشريف في أبي عريش، وشحن سائر بلاد أبي عريش بالمقاتلة، ثم رجع سائر الأمراء النجدية وبقي بقية من الجيش في بلاد أبي عريش، والحرب بينهم سجال، وكان هذا الحرب الذي قتل فيه أبو نقطة في سنة ألف ومائتين وأربع وعشرين. وفي سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين وقع الصلح بينه وبين مولانا الإمام المتوكل على الله. وحاصل الصلح أنه يثبت الشريف على ما قد صار تحت يده من البلاد، ثم بعد هذا انتقض الصلح بينه وبين الإمام المذكور ولم يزل الحرب ثائراً بينه وبين الإمام إلى سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين وهو مستمر على الانتماء إلى صاحب نجد. ثم مات سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين. الشيخ حمود العمري بن سعيد بن محمد بن عمر بن عبد اللطيف الدمشقي الفاروقي نشأ على منهج الكمال، مرتدياً برداء الحسن واللطافة والجمال، ممتزجاً مع العلماء كامتزاجه مع الأدباء، محمود السيرة، ممدوحاً بصفاء السريرة، وكانت وفاته نهار السبت الحادي عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 حيدر بن سليمان بن داود بن سليمان أديب له في الأدب اليد الطولى، ومن التأليف في أنواع العلوم ما يشهد له بكمال المعرفة فروعاً وأصولا، ولقد ترجمه السيد حسن بن السيد هادي العاملي فقال: البارع فلا يبلغ كنهه المادح وإن أطنب، والواصف وإن أسهبن لأنه قد استغرق جميع صفات الكمال، وفاز منها بأعلى القداح نصيباً حتى جل عن الأضراب والأمثال، وكيف تجد له من مثيل، وقد جاء في سائر نظمه بكل معنى جليل، يبهر السامعين، ويبهت المنشدين. وله من المصنفات في كتب الأدب كتابه المسمى بالعقد المفصل، في قبيلة المجد المؤثل، الذي دل على سعة باعه، وغزارة اطلاعه، وأما شرف نفسه فلا يحتاج لشهرته إلى بينة وبرهان، وأنى وقد امتلأ بذكره المشرقان والمغربان، وتحلى جيد الدهر بعقد مفخره، وأضاءت بسواد مفارق الأيام لوامع درره، ولقد كان مع قلة ذات يده يترفع عما يتصف به الشاعر، وألزم نفسه بالرثاء والمدح للنبي والأطايب من عترته وذويه كابراً بعد كابر، ومن جرى على مثالهم من العلماء، والسادات الفضلاء، فيا له من ماجد بلغ من السخاء حداً تضوع في الخافقين نشره، فطوى ذكر من قد سلف من أهل المكارم صيته وذكره، وكان في عباداته وأوراده وأذكاره، سواء في حضره وأسفاره. يجنب العين لذيذ النوم اللذيذ مناجاة ربه، مواظباً على التهجد يتنفس عن قلب أقلقه خوفه من الله كأن القيامة قامت إلى جنبه، مع ما لازمه من العلل الموهية لصفات قوته، وهو مع ذلك يتجدد نشاطه على العبادة كأنها بعض فطرته: وإذا حلت الهداية قلباً ... نشطت للعبادة الأعضاء إلى أن قال: وأما مولده الطاهر فإنه ولد ليلة النصف من شعبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 من شهور سنة ستٍ وأربعين بعد الألف والمائتين هجرية، وتوفي وله من العمر تسع وخمسون سنة. وأما وفاته فإنه توفي عشية الأربعاء ليلة التاسعة من شهر ربيع الآخر من شهور السنة الرابعة بعد الثلاثمائة والألف هجرية. ومن نظمه رحمه الله تعالى وقد حرره في ضمن كتاب: في فمي لم يزل لذكرك نشر ... طيب واختبر بذاك النسيما وبمرآة فكري لم يزل شخصك ... نصب العينين مني مقيما وعلى النحر من علاك ثنائي ... ليس ينفك عقده منظوما لا تظن البعاد يحجب عني ... منك ذيالك المحب الكريما أنت عندي بالذكر أحضر من ... قلبي بقلبي فكن بذاك عليما لست أقوى لحمل عتبك يا من ... حملت فخره المعالي قديما فائن من غرب عتبك اليوم عني ... فبه قد تركت قلبي كليا ومن نظمه: ظن العذول أدمعي تناثرت ... حمراً لعمري غره ما يبصره وإنما يقدح زند الشوق في ... قلبي ومن عيني يطير شرره حيدر الغازي الهندي سلطان الولاية التي يقال لها لكنهو قال صاحب التاج المكلل: وقفنا على كتاب مشتمل على وصف حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 صنفه أحمد الشرواني الراحل إلى بلاد الهند، وتاريخ هذا الكتاب سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين، ذكر فيه أنه شاهد فيلاً ينوح على الحسين السبط رضي الله عنه في الشهر المحرم بشعر موزون وهذا مستبعد جداً، والظاهر أن الفيل يهمهم همهمة تحصل وزن الشعر، فإن كان صدور ذلك بلسان فصيح كنطق الإنسان، فما أظن الناطق من حنجرته إلا شيطان، وقد ينطق من الأصنام وهي جمادات، وهو ينطق من رؤوس من يدعي أنه قد صار له قرين من الشيطان كما هو معروف انتهى كلام صاحب التاج. أقول إن الله المقدس في ذاتهن المنزه عن سمات النقص في صفاته، قد أودع في كل ذرة من مخلوقاته، من بديع صنعه ولطيف آياته، ومن الحكم والعبر، ما لا يدركه البصر، قال الله تعالى: " وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " وقال تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق " وقال الشاعر: ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وقال الله تعالى: " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده " وقال في الهدهد: " فقال أحطت بما لم تحط به " ومثل هذا كثير، شائع شهير، خصوصاً في الأحاديث الشريفة، والآثار الصحيحة المنيفة، مما لا قدرة للإنسان على رده، ولا على إنكاره وإثبات ضده، من نطق الذيب والضب، والغزالة والحجر والمدر والشجر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وغير ذلك مما لا يكاد أن تحصى أفراده، ولا تحصر أعداده، وذكر في بعض التفاسير أن إخوة يوسف لما أتوا والدهم بقميص يوسف وهو ملطخ بالدم وأخبروه بأن الذئب أكل أخاهم يوسف، فقال لهم اخرجوا في طلب الذئب، وائتوني به وإلا دعوت الله عليكم فتهلكوا، فخرجوا في طلب الذئب حتى أخذوا ذئباً عظيماً هائلاً، واجتمعوا عليه حتى كتفوه ووضعوا الحبل في عنقه، وجعلوا يضربونه ويجذبونه، حتى أوقفوه بين يدي يعقوب عليه السلام، فقال لهم يعقوب كيف عرفتموه؟ قالوا لأنه كان كثيراً ما يتعرض لنا في غنمنا وما دخل غنمنا سواه، فدخل غنمنا وأكل أخانا، فقال يعقوب سبحان من لو شاء لأنطقك بحجتك، قال فنطق الذئب، وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا نبي الله إني ذئب غريب، افتقدت ولداً لي فجئت في طلبه حتى بلغت نحو بلدك هذه، فأتى أولادك فضربوني، وقد اتهموني بذنب لم أفعله، والذي أنطقني بهذا إنك إن خليتني جئت إليك بكل ذئب في بلدك هذا، فيحلفون لك أنهم لم يأكلوا ولدك، وكيف يأكل الذئب ولد الأنبياء. فأمر يعقوب بتخليته اه ووقع مثل هذا كثيراً، فإن قبل لعل ذلك من معجزات الأنبياء، أقول ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، ومن المعلوم أن سيدنا الحسين رضي الله عنه من أكبر الأولياء، وأفضل الأصفياء، فلا حاجة لما ذكره التاج، بل تسليمه على ظاهره من أولى طريق وأحسن منهاج، ومن أبدع الغرائب، وألطف العجائب، ما ذكره الإمام الدميري قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 رأيت في المنتقى من انتخاب الحافظ السلفي، وفي آخر ورقة من عجائب المخلوقات عن محمد بن إسماعيل السعدي أنه قال: وجه إلي يحيى بن أكثم فتوجهت إليه، فلما دخلت عليه، إذا عن يمينه قمطر، فأجلسني وأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 أن يفتح، فإذا شيء خرج منه رأس كرأس إنسان، ومن أسفله إلى سرته على هيئة زاغ وفي صدره وظهره سلعتان، قال ففزعت منه ويحيى يضحك؛ فقلت له ما هذا أصلحك الله، فقال لي سل عنه منه، فقلت له ما أنت، فنهض وأنشد بلسان فصيح: أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه أحب الراح والريحا ... ن والقهوة والنشوة فلا عدوى يدي تخشى ... ولا يحذر لي سطوه ولي أشياء تستظر ... ف يوم العرس والدعوة فمنها سلعة في الظهر ... لا تسترها الفروة وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروة لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه ثم صاح ومد صوته زاغ زاغ، وانطرح في القمطر، فقلت أعز الله القاضي وعاشق أيضاً، فقال هو ما ترى لا علم لي بأمره إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله، لم أقف عليه انتهى مات المترجم سنة ألف ومائتين. و .... السيد حيدر بن المرحوم ... الحلبي الأديب الشاعر، والأريب الماهر، من أشرقت بالفضل أقماره وشموسه وتموج بالعلم عبابه وقاموسه، وطار ذكره في الفيافي، واشتهر قدره الوافر الوافي، فكم نظم ونثر فنفث السحر الحلال، وتلاعب برقائق الحكم فجرت لبلاغتها وبراعتها مجرى الأمثال، وضمنها ما تتزين به الطروس، وتميل له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 القلوب والنفوس، وقلدها من حلي البديع والمعاني، ما هو أبهى من ضم الخصور وعناق الغواني، فلله دره من همام تاه في ثوب البلاغة كمالاً، ودهش ألباب أولي الفصاحة لطفاً وجمالا، وكاد نظمه يكتب بماء القلوب على محيا المحبوب، فمن رفيع كلامه، وبديع نظامه، قوله من قصيدة يرثي بها الإمام الحسين روح الله روحه. سبق الدمع حين قلت سقتها ... فتركت السما وقلت الدموع فكأني في صحنها وهو قعب ... أحلب المزن والجفون ضروع بت ليل التمام أنشد فيها ... هل لماض من الزمان رجوع ودعت حولي الشجى ذات طوق ... مات منها على الغرام الهجوع وسقتني بخمرتي مقلتيها ... ما عليه انحنين مني الضلوع شاطرتني بزعمها الدار حزناً ... حيث أنت وقلبي الموجوع يا طروباً بالقد والنهد دعني ... ما حنيني صبابة وولوع لم يرعني نوى الخليط ولكن ... من جوى الطف راعني ما يروع قد عذلت الجزوع وهو صبور ... وعذرت الصبور وهو جزوع عجباً للعيون لم تغد بيضاً ... لمصاب تحمر فيه الدموع أي يوم بشفرة البغي فيه ... عاد أنف الإسلام فيه جديع واستقل الهدى على غارة البين ... وشدت للرشد فيه النسوع يوم أرسى ثقل النبي على الحتف ... فحفت بالراسيات الصدوع حيث صكت بألطف هاشم وجه ... الموت فالموت من لقاها مروع وقفت موقفاً تضيفت الطير ... قراه فحوم ووقوع بسيوف في الحرب صلت فللجوس ... سجود من حولها وركوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 موقف لا البصير فيه بصير ... لاندهاش ولا السميع سميع جلل الأفق فيه عارض نقع ... بسنا البيض فيه برق لموع فلشمس النهار فيه مغيب ... ولشمس الحديد فيه طلوع أينما طارت النفوس شعاعاً ... فلطير الردى عليها وقوع قد تواصت بالصبر فيه رجال ... حفظت عترة النبي إذ أضيعوا سكنت منهم النفوس جسوماً ... هي بأس حفائظ ودروع سد فيهم ثغر المنية سهم ... لثنايا الثغر المخوف طلوع وله الطرف حيث سار أنيس ... وله السيف حيث بات ضجيع لم يقف موقفاً من الحزم إلا ... وبه سن غيره المقروع كيف يلوي على الدنية جيداً ... لسوى الله ما لواه الخضوع طمعت أن تسومه القوم ضيماً ... وأبى الله والحسام الصنيع وبه يرجع الحفاظ لصدر ... ضاقت الأرض وهي فيه تضيع فأبى أن يعيش إلا عزيزاً ... أو تجلى الكفاح وهو صريع فتلقى الجموع فرداً ولكن ... كل عضو في الروع منه جموع رمحه من بنانه وكأن من ... عزمه حد سيفه مطبوع زوج السيف بالنفوس ولكن ... مهرها الموت والخضاب النجيع بأبي كالئاً على الطف خدراً ... هو في حومة الحسام منيع قطعوا بعده عراه ويا حبل ... وريد الإسلام أنت القطيع وسروا في كرائم الوحي أسرى ... وعداك ابن أمها التقريع لو تراها والعيس جثمها الحا ... دي من السير فوق ماتستطيع ووراها العفاف يدعو ولكن ... بدم القلب دمعه مشفوع يا ترى فوقها بقية وجد ... ملء أحشائها جوى وصدوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 فترفق بها فما هي إلا ... ناظر دامع وقلب مروع قوضي يا خيام عليا نزار ... فلقد قوض العماد الرفيع واملئي العين يا أمية نوماً ... فحسين على التراب صريع ودعي صكة الجباه لؤي ... ليس يجديك صكها والدموع أفلطماً بالراحتين فهلا ... بدم الطعن والرماح شروع وبكاء بالدمع حزناً فهلا ... بسيوف لا تتقيها الدروع قللي الإقراع ملمومة الحيف ... فواهاً يا فهر أين القريع وقال يا دار جائلة الوشاح ... حيتك نافحة الرياح وسقتك من ديم الحيا ... وطفاء ضاحكة النواحي كم فيك قد نادمت من ... قمر يطوف بشمس راح وخريدة تختال عن ... لدن وتبسم عن أقاح نشوانة الأعطاف من ... خمر الصبا خود رداح ملكت قلوب بني الغرا ... م بلاحظ سكران صاح جهد العواذل في أن ... أسلو هوى الغيد الملاح فمتى محب قد سلا ... هيفاء تسفر عن براح ومن الذي قد كلف الطير ... ان مقصوص الجناح هيهات أخطأ ظنهم ... أن يستلين لهم جماحي وهي قصيدة طويلة يرثي بها الإمام الحسين الشهيد رضي الله عنه وله قصائد كثيرة كلها غرر. ولقد توفي المترجم رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وستة وكان عمره نحواً من خمس وخمسين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 حرف الخاء الشيخ خالد أبو البهاء ضياء الدين النقشبندي الدمشقي إقامة إمام العصر، وغرة الشام ومصر، من قلد جيد الزمان بقلائد بره وإحسانه، وقيد السنة الثناء عن غير شكر نعمته وامتنانه، أعظم العلماء قدرا، وأعلاهم شهرة وذكرا، لو نطق لسان الليل لقال إنه البدر بلا مين، أو لسان النهار لقال بأنه الشمس التي تجلى نورها في المشرقين والمغربين، خلاصة العباد من العباد، وصفوة أهل الزهادة والإرشاد، سلطان ذوي العرفان، ودليل أهل الذوق والوجدان، كأن لسان زمانه يقول فيه بملء فيه: يا من له في الناس ذكر سائر ... كالشمس يشرق نورها وتجول ومواهب حضرية سيارة ... لا ينقضي سفر لها ورحيل وخلائق كالروض رق نسيمه ... فسرى وذيل قميصه مبلول وتلاوة يجلي الدجى أنوارها ... قد زانها الترتيب والترتيل وإذا تهجد في الظلام حسبته ... من نور غرته له قنديل ملأت لطائف بره أوقاته ... فزمانه عن غيره مشغول هذا هو الشرف الذي لا يدعى ... هيهات ما كل الرجال فحول أيامه كست الزمان محاسناً ... فكأنها غرر له وحجول نفقت لديه سوق كل فضيلة ... والفضل في هذا الزمان فضول فلعمري لقد شاد ربوع الطريقة وأقام أود متونها، وزاد في بيان مشكلات الشريعة وعانى رمد عيونها، ولقد ترجمه صوفي الزمان، ومرشد الأوان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 خليفته المنسوب إليه، العلامة المرشد الشيخ محمد الخاني رحمة الله عليه، في كتابه البهجة السنية، في آداب الطريقة الخالدية، ناقلاً عن الحديقة، قال: اعلم أن شيخنا هو أبو البهاء ذو الجناحين، ضياء الدين حضرة مولانا الشيخ خالد الشهرزوري الأشعري عقيدة، الشافعي مذهبا، النقشبندي المجددي طريقة ومشربا، القادري السهروردي الكبروي الجشتي إجازة، ابن أحمد بن حسين العثماني نسباً، ينتهي نسبه إلى الولي الكامل بير ميكائيل صاحب الأصابع الست المشهور بين الأكراد بشش انكشت، يعني ست أصابع، لأن خلقة أصابعه كانت هكذا. وهذا الولي معروف الانتساب إلى الخليفة الثالث منبع الإحسان والحياء ذي النورين عثمان بن عفان الأموي القرشي رضي الله تعالى عنه. العالم العلامة، والعلم الفهامة، مالك أزمة المنطوق والمفهوم، ذو اليد الطولى في العلوم، من صرف ونحو وفقه ومنطق ووضع وعروض ومناظرة وبلاغة وبديع وحكمة وكلام وأصول وحساب، وهندسة واصطرلاب، وهيئة وحديث وتصوف، العارف المسلك مربي المريدين، ومرشد السالكين، ومحط رجال الوافدين، وأمه ينتهي نسبها إلى الولي الكامل الفاطمي بير خضر المعروف النسب والحال بين الأكراد قدس سره. ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وتسعين تقريباً بقصبة قره داغ من أكبر سناجق بابان، وهي عن السليمانية نحو خمسة أميال تشتمل على مدارس، وتكتنفها الحدائق، وتنبع فيها عيون عذبة السلسال، ونشأ فيها وقرأ ببعض مدارسها القرآن، والمحرر للإمام الرافعي في فقه الشافعية، ومتن الزنجاني في الصرف وشيئاً من النحو، وبرع في النثر والنظم قبل بلوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الحلم، مع تدريب لنفسه على الزهد والجوع والسهر والعفة التجريد والانقطاع على أقدم أهل الصفة. ثم رحل لطلب العلم إلى النواحي الشاسعة، وقرأ فيها كثيراً من العلوم النافعة، ورجع إلى نواحي وطنه، فقرأ فيها على العالم العامل، والنحرير الفاضل، ذي الأخلاق الحميدة، والمناقب السديدة، السيد الشيخ عبد الكريم البرزنجي رحمه الله تعالى، وعلى العالم المحقق الملا محمد صالح، وعلى العالم المحقق الملا إبراهيم البياري، والعالم المدقق السيد الشيخ عبد الرحيم البرزنجي أخي الشيخ عبد الكريم، والعالم الفاضل الشيخ عبد الله الخرباني. ثم رحل إلى نواحي كوى وحرير، وقرأ شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على العالم الذكي، والنحرير الألمعي، الملا عبد الرحيم الزيادي المعروف بملا زاده. وأخذ في تلك النواحي غير ذلك عن غيره فعاد إلى قصبة كوى، للأخذ عن العالم العامل، الورع الكامل، ذي الفضل الجلي، الملا عبد الرحمن الجلي، رحمه الله تعالى، فصادفه مريضاً مرضه الذي توفي فيه. ورجع إلى السليمانية ثانياً فقرأ فيها وفي نواحيها الشمسية والمطول والحكمة والكلام وغير ذلك، وقدم بغداد وقرأ فيها مختصر المنتهى في الأصول، ورجع إلى محله المأهول، وحيث حل من المدارس، كان فيها الأتقى الأورع السابق في ميادين التحقيق كل فارس، لا يسأل عن مسئلة من العلوم الرسمية إلا ويجيب بأحسن جواب، ولا يمتحن بغويصة من تحفة ابن حجر أو تفسير البيضاوي إلا ويكشف عن وجوه خرائد الفوائد النقاب، وهو يستفيد ويفيد، ويقرر ويحرر فيجيد، إلى إنصاف وذكاء خارق، وقوة حافظة بذهن حاذق، ومهما دقق في درسه على ما يريد، يعز أساتذته عن إرضاء ذهنه القائل لسان حاله هل من مزيد، وطال ما ألقى السؤال، واستشكل الإشكال، فلم يكن المجيب إلا هو بأبدع منوال، هذا مع تصاغره لدى الأساتذة والأقران، وتجاهله عن كثير من المسائل مع العرفان، حتى أنه يقرأ من الكتب الصعبة ما لم يصل إذ ذاك إلى قراءته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 بتحقيق يتحير فيه أهل مادته، فاشتهر خارق علمه، وطار إلى الأقطار صيت تقواه وذكائه وفهمه، إلى أن رغب بعض الأمراء في نصبه مدرساً قبل التكميل في إحدى المدارس، وأن يوظف له وظائف ويخصه بالنفائس، فلم يجبه إلى هذا المرام، زهداً فيما لديه من الحطام، قائلاً إني الآن لست من أهل هذا المقام، فرحل بعدها إلى سندج ونواحيها وقرأ فيها العلوم الحسابية والهندسية، والاصطرلابية والفلكية، على العالم المدقق جغميني عصره، وقوشجي مصره، من في إشارته شفاء كل داء، ونجاة كل عليل بالجهل سقيم، الشيخ محمد قسيم النندجي، وكمل عليه المادة، على العادة، فرجع إلى وطنه قاضي الأوطار، وصيته إلى أقصى الأقطار طار، فولي بعد الطاعون الواقع في السليمانية عام ألف ومائتين وثلاثة عشر تدريس مدرسة أجل أشياخه المتوفين بالطاعون المذكور السيد عبد الكريم البرزنجي، فشرع يدرس في العلوم، وينشر المنطوق منها والمفهوم، غير راكن إلى الدنيا ولا إلى أهلها، مقبلاً على الله تعالى متبتلاً إليه بأصناف العبادات فرضها ونفلها، لا يتردد إلى الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الأحكام، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو نافذ الكلمة محمود السيرة يأخذ بالعزائمن حتى صار محسود صنفه، عزيزاً في وصفه، مع الصبر على الفقر والقناعة، واستغراق الأوقات بالإفادة والطاعة، إلى أن جذبه سنة ألف ومائتين وعشرين شوق الحج إلى بيت الله الحرام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وتوق زيارة روضة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، فتجرد عن العلائق، وخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله الصادق، فرحل هذه الرحلة الحجازية من طريق الموصل وديار بكر والرها وحلب والشام، واجتمع بعلمائها الأعلام، وصحب في الشام ذهاباً وإياباً العالم الهمام، شيخ القديم والحديث، ومدرس دار الحديث، الشيخ محمد الكزبري رحمه الله تعالى وسمع منه وأخذ عليه، فقربه وقر به عيناً وفاز بما لديه من علو الإسناد، وإجازات المسلسلة الجليلة المفاد، وصحب تلميذه كذلك الأخص الأصفى الشيخ مصطفى الكردي متع الله الطلاب بطول حياته، فأجازه لشيخه بأشياء، منها الطريقة العلية القادرية، فخرج منها على جادة العزائم بأحسن قدم، يطعم ولا يطعم، فوصل المدينة المنورة، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بقصائد فارسية بليغة محررة، ومكث فيها قدر ما يمكث الحاج، وصار حمامة ذلك المسجد الوهاج، قال وكنت أفتش على أحد من الصالحين، لأتبرك ببعض نصائحه لعلي أعمل بها كل حين، فلقيت شيخاً يمنياً متربضا، عالماً عاملاً صاحب استقامة وارتضا، فاستنصحته استنصاح الجاهل المقصر، من العالم المستبصر، فنصحني بأمور، منها: لا تبادر بالإنكار في مكة على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة، فلما وصلت إلى الحرم المكي الشريف وأنا مصمم على العمل بتلك النصيحة البديعة، بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قدم بدنة من النعم، فجلست إلى الكعبة الشريفة أقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوام قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلي من غير حائل، فحدثتني نفسي أن هذا الرجل لا يتأدب مع الكعبة، ولم أظهر عتبه، فقال لي يا هذا ما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجهي إليك، أما سمعت نصيحة من في المدينة وأكد عليك، فلم أشك في أنه من أكابر الأولياء، وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو وأن يأمرني بدلالته على الحق، فقال لي فتوحك لا يكون في هذه الديار، وأشار بيده إلى الديار الهندية، وقال تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في هاتيك الأقطار، فأيست من تحصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء المناسك إلى الشام، انتهى. فاجتمع ثانياً بعلمائها، وحل في قلوبهم محل سويدائها، فأتى إلى وطنه بعد قضاء وطره بالبركات، وباشر تدريسه بزيادة على زهده الأول وعدة الحسنات الأول سيئات، مستقيماً على أحسن الأحوال، متشوقاً إلى مرشد يسلك عنده طريق فحول الرجال، إلى أن أتى السليمانية شخص هندي من مريدي شيخه الآتي وصفه، فاجتمع به وأظهر احتراقه واشتياقه لمرشد كامل يسعفه، فقال الهندي إن لي شيخاً كاملا، مرشداً عالماً عاملاً، عارفاً بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيراً بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبندي الطريقة، محمدي الأخلاق علماً في علم الحقيقة، فسر معي حتى نسعى إلى خدمته في جهان أباد، وقد سمعت إشارة بوصول مثلك هناك إلى المراد، فانتقش القول في قلبه، وأخذ بمجامع لبه، وعزم على المسير بالتجريد تاركاً منصب التدريس والوظائف، فرحل سنة ألف ومائتين وأربع وعشرين الرحلة الأخرى الهندية من طريق الري، يطوي بأيدي العيس بساط البيداء أسرع طي، فوصل طهران، وبعض بلاد إيران، والتقى مع مجتهدهم المتضلع بضبط المتون والشروح والحواشي، إسماعيل الكاشي، فجرى بينهما البحث الطويل، بمحضر من جمهور طلبة إسماعيل، فأفحمه إفحاماً أسكته، وأنطق طلبته، بأن ليس لنا من دليل، وقد أشار إلى هذه الواقعة في قصيدته العربية، متخلصاً لمدح شيخه الآتية أوصافه العذبية، ثم دخل بسطام وخرقان وسمنان ونيسابور، وزار إمام الطريق البحر الطامي، الشيخ أبا يزيد البسطامي، قدس سره، ومدحه بمنظومة فارسية، وزار في تلك البلاد، من الأولياء الأمجاد، حتى وصل طوس، وزار بها مشهد السيد الجليل المأنوس، نور حدقة البتول والمرتضى، الإمام علي الرضا، ومدحه بقصيدة غراء فارسية، أذعن لها الشعراء الطوسية ولظهور البدع فيها عجل الارتحال والقيام، إلى تربة شيخ مشايخ الجام، شيخ الإسلام، الشيخ أحمد النامقي الجامقي، فزاره ومدحه بمقطوعة فارسية بديعة فدخل بعدها بلدة هراة من بلاد الأفغان، واجتمع مع علمائها بالجامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 فجاوره في ميدان الامتحان، فوجدوه بحراً لا ساحل له، وأقر كل منهم بالفضل له، فانثنى يحل لهم ما أشكل عليهم من المسائل بأبلغ مقال، ولما رحل عنهم ودعوه بمسير أميال، لما شاهدوه فيه من بديع الحال، فسار في مفاوز يضل فيها القطا، ويخفق قلب الأسد مخافة خوارج الأفغان المقتحمين مهالك السطا، حتى وصل قندهار وكابل، فاجتمع بجمع غفير من علماء البلد المذكور وامتحنوه بمسائل، من علم الكلام وغيره فرأوه فيها كالسيل الهائل، والغيث الهاطل، ثم رحل إلى بلد لاهور فسار منها حتى وصل إلى قصبة فيها العالم النحرير، والولي الكبير، أخو شيخه في الطريقة والإنابة إلى مولاه، الشيخ المعمر المولى ثناء الله النقشبندي، فطلب منه الإمداد بالدعاء، قال فبت في تلك القصبة ليلة فرأيته في واقعة أنه قد جذبني من خدي بأسنانه المباركة يجرني إليه وأنا لا أنجر، فلما أصبحت ولقيته قال لي من غير أن أقص عليه الرؤيا سر على بركة الله تعالى إلى خدمة أخينا وسيدنا الشيخ عبد الله مشيراً إلى أن فتوحي سيكون عند الشيخ المقصود، وهناك تؤخذ المواثيق والعهود، وتنجز الوعود، فعرفت أنه قد أعمل همته الباطنية العلية ليجذبني إليه، فلم يتيسر لقوة جاذبة شيخي المحول فتحي عليه، فرحلت من تلك القصبة أقطع الأنجاد والوهاد، إلى أن وصلت دار السلطنة الهندية، وهي المعروفة بجهان أباد بمسير سنة كاملة، ولقد أدركتني نفحاته وإشاراته قبل وصول بنحو أربعين مرحلة، وهو أخبر قبل ذلك بعض خواص أصحابه بوفودي إلى أعتاب قبابه، وليلة دخوله على جهان أباد أنشأ قصيدته العربية الطنانة من بحر الكامل يذكر فيها وقائع السفر، ويتخلص لمدح شيخه قدس الله سره الأنور، ويستعطفه سائلاً من الله القبول، شاكراً له على الوصول، مطلعها: ار منها حتى وصل إلى قصبة فيها العالم النحرير، والولي الكبير، أخو شيخه في الطريقة والإنابة إلى مولاه، الشيخ المعمر المولى ثناء الله النقشبندي، فطلب منه الإمداد بالدعاء، قال فبت في تلك القصبة ليلة فرأيته في واقعة أنه قد جذبني من خدي بأسنانه المباركة يجرني إليه وأنا لا أنجر، فلما أصبحت ولقيته قال لي من غير أن أقص عليه الرؤيا سر على بركة الله تعالى إلى خدمة أخينا وسيدنا الشيخ عبد الله مشيراً إلى أن فتوحي سيكون عند الشيخ المقصود، وهناك تؤخذ المواثيق والعهود، وتنجز الوعود، فعرفت أنه قد أعمل همته الباطنية العلية ليجذبني إليه، فلم يتيسر لقوة جاذبة شيخي المحول فتحي عليه، فرحلت من تلك القصبة أقطع الأنجاد والوهاد، إلى أن وصلت دار السلطنة الهندية، وهي المعروفة بجهان أباد بمسير سنة كاملة، ولقد أدركتني نفحاته وإشاراته قبل وصول بنحو أربعين مرحلة، وهو أخبر قبل ذلك بعض خواص أصحابه بوفودي إلى أعتاب قبابه، وليلة دخوله على جهان أباد أنشأ قصيدته العربية الطنانة من بحر الكامل يذكر فيها وقائع السفر، ويتخلص لمدح شيخه قدس الله سره الأنور، ويستعطفه سائلاً من الله القبول، شاكراً له على الوصول، مطلعها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 كملت مسافة كعبة الآمال ... حمداً لمن قد من بالإكمال وأراح مركبي الطريح من السرى ... ومن اعتوار الحط والترحال وأزاح عني قيد حب مواطني ... وعلاقة الأحباب والأموال وهموم أمهتي وحسرة إخواتي ... وغموم عم أو خبال الخال وتشاحن الأقران في رتب العلا ... وملامة الحساد والعذال وأعاذني من فرقة أفاكة ... وأجارني من أمة جهال أعني روافض أذربيجان الألى ... هم أشنع المخلوق في الأفعال ومضلها الكاشي إسماعيل إذ ... قد حار لما شاب نار جدال سحقاً له من مدع متزخرف ... بعدالة من منكر مضلال وغلاة فرس في حديث مسند ... قد بشروا بإطاعة الدجال وشرار أهل الطوس من سموا الرضا ... ونفوسهم سموا أحبة آل وفساد قطاع الطريق بخيبر ... ومن المجوس وما لهم من وال منعوا الأذان رعاية الإسلام إذ ... ضلوا وخاضوا أبحر الإضلال ومنها متخلصا وأنالني أعلى المآرب والمنى ... أعني وصال المرشد المفضال من نور الآفاق بعد ظلامها ... وهدى الخلائق بعد طول ضلال نجم الهدى بدر الدجى شمس النقى ... كنز الفيوض خزانة الأحوال كالأرض حلماً والجبال تمكناً ... والشمس ضوءاً والسماء معالي عين الشريعة معدن العرفان وال ... إحسان والإيقان والإفضال قطب الطرائق قدوة الأوتاد بل ... غوث الخلائق رحلة الأبدال شيخ الأنام وقبلة الإسلام صد ... ر للعظام ومرجع الإشكال هاد إلى الأولى بهدي مختف ... داع إلى المولى بصوت عالي محبوب رب العالمين من اهتدى ... بهداه نال السبق للأمثال أخفاه رب العرش جل جلاله ... في قبة الإعزاز والإجلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 ومنها يخاطب السالك لكن بذا الوادي المقدس خالعاً ... نعلي هوى الكونين باستعجال حجر مقامك بالمقام بلا صفا ... من طوف حضرة كعبة الآمال ومنها من شام لمعاً من بروق دياره ... بمشام روض الشام كيف يبالي آنست من تلقاء مدين مصره ... ناراً تهيج البال بالبلبال فهجرت أهلاً قائلاً لهم امكثوا ... أرجع إليكم غب الاستشعال ونويت هجران الأحبة كلهم ... وركبت متن الأجرد الصهال فطوى منازل في مسيرة منزل ... واهاً لجار سابح شملال ومنها سلب الهوى لبي فما في خاطري ... غير الحبيب وشوق طيف وصال قد حان حين تشرفي بوصاله ... من لي بشكر عطية الإيصال فكما قضيت إلهنا في أشهر ... طياً لبعد مسافة الأحوال ووهبت إقداماً على طي الفلا ... ونزول غور وارتقاء جبال ورزقتنا تقبيل عتبة قبلة ... فاز المقبل منه بالإقبال فارزق إله العالمين بحقه ... أدباً يليق بذا الجناب العالي وأمدنا بلقائه وبقائه ... وعطائه ونواله المتوالي زدنا خصوراً في حضور قبابه ... أدم الورى بحماه تحت ظلال ومنها زد كل يوم في فؤادي وقعه ... ما دمت حياً في جميع الحال وأمتن مرضياً لديه وراضياً ... عنه رضى يجدي مفاز مآل فالحمد للفتاح أبواب العطا ... القادر المتقدس الفعال ثم الصلاة على الرسول المجتبى ... خير الورى والصحب بعد الآل وهي طويلة اكتفينا بذكر هذا القدر منها وفيه الكفاية، لطالب الدراية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 والرواية. وله غيرها من المقاطيع العربية، ومن الفارسية، قصائد ومقاطيع كثيرة أنسية، منها قصيدة غراء في مدح شيخه قدس سره أيضاً. وبعد وصوله تجرد ثانياً عما عنده من حوائج السفر، وأنفق ماله كله على المستحقين ممن حضر، فأخذ الطريقة العلية النقشبندية بعمومها وخصوصها، ومفهومها ومنصوصها، على شيخ مشايخ الديار الهندية، وارث المعارف والأسر المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق، ومنبع الحكم والإحسان والإيقان والرقائق، العالم النحرير الفاضل، والعلم الفرد المكمل الكامل، المتجرد عما سوى مولاه، حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي قدس سره. واشتغل بخدمة الزاوية مع الذكر والمجاهدة، فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان، وحل منه محل إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم، وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم، فلم تكمل عليه السنة حتى صار الفرد الكامل العلم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولا غرو فإن من السالكين من وصل في لحظة، ومنهم من وصل في ساعة، ومنهم من وصل في يوم، ومنهم من وصل في اسبوع، ومنهم من وصل في شهر، ومنهم من وصل في سنة، ومنهم من وصل في سنين، كما هو مذكور في كتاب منهاج العابدين. وشهد له شيخه عند أصحابه وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية، وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء، الأتمين المعروفين عند الأولياء، وأجازه بالإرشاد، وخلفه الخلافة التامة في الطرائق الخمسة: النقشبندية والقادرية والسهروردية والكبروية والجشتية. وأجاز له جميع ما يجوز له روايته من حديث وتفسير وتصوف وأحزاب وأوراد، واجتمع بإشارة من شيخه قدس سره بالعالم الفاضل، المدرس الواعظ الصوفي الكامل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 صاحب التآليف النفيسة في التفسير، ورد الروافض بأبلغ تحرير، الشيخ المعمر المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي ابن العالم العامل، المولى الكامل، ولي الله الحنفي النقشبندي رحمه الله تعالى. فأجاز له روايات الصحاح الستة وبعض الأحزاب، وكتب له إجازة لطيفة وصفه فيها بقوله: صاحب الهمة العلية في طلب الحق. ثم أرسله بعد ملازمته سنة بأمر مؤكد لم يمكنه التخلف عنه إلى هذه الأقطار والبلاد ليرشد المسترشدين، ويربي السالكين، بأتقن إرشاد وشيعه بنفسه نحو أربعة أميال، ليأتي أوطانه ممتثلاً للأمر الواجب الامتثال، سائراً في طريقه براً مدة وبحراً نحو خمسين يوماً، لم يطعم طعاماً فيه ولم يشرب الماء متغذياً متروياً بالعبادة والذكر والمشاهدة والزهادة، حتى خرج من بندر مسقط إلى نواحي شيراز ويزد وأصفهان، يعلن الحق أينما كان، وكم مرة تجمع بعض الروافض لضربه وقتله، بعد عجزهم عن أجوبة أدلة عقله ونقله، فهجم عليهم بسيفه البتار، فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار، ثم أتى همدان وسنندج فوصل السليمانية عام ألف ومائتين وستة وعشرين باستقبال أعيان وطنه معززاً مكرما، فقدم في تلك السنة بإشارة من شيخه مدينة الزوراء، ليزور السادة الأولياء، فنزل في زاوية الغوث الأعظم، سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره الأقوم، وابتدأ هناك بإرشاد الناس، على أحكم أساس، فمكث نحو خمسة أشهر ثم رجع إلى وطنه بشعار الصوفية الأكابر، مرشداً في علمي الباطن والظاهر، ولما اطردت سنة الله في الذين خلوا من قبل، أن يجعل حساداً لكل من تفرد بالفضل، وكلما كان الكمال والمحبوبية أسد، كان الإنكار والحسد أشد، هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعداوة والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان، بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو بريء من كلها بشهادة البداهة والعيان، فلم يقابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 صنيعهم الشنيع، إلا بالدعاء لهم وحسن الصنيع، فلم تخب نارهم، وما زاد إلا شرهم وعوارهم. وقد قيل: كل العداوات قد ترجى إزالتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد فخلاهم وشأنهم في السليمانية، ورحل إلى بغداد عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين مرة ثانية، فألف الذي تولى كبر البهتان من المنكرين رسالة عاطلة من الصدق والصواب، ومهرها بمهور إخوانه المنكرين مشحونة بتضليل القطب المترجم وتكفيره ولم يخشوا مقت المنتقم الشديد العقاب، وأرسلها إلى والي بغداد سعيد باشا يحرضه على إهانته، وإخراجه من بغداد بسعايته، فبصره الله تعالى بدسائسهم الناشئة من الحسد والعناد، وأمر بعض العلماء بردها على وجه السداد، فانتدب له العالم النحرير، الدارج إلى رحمة الله القدير، محمد أمين أفندي مفتي الحلة سابقا، وكان مدرس المدرسة العلوية لاحقا، بتأليف رسالة طعن بأسنة أدلتها أعجازهم فولتهم الأدبار ثم لا ينصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومهرت بمهور علماء بغداد، وأرسلت إلى المنكرين فسلقتهم بألسنة حداد، فخبت نارهم، وانطمست آثارهم، ورجع بعد هذه الأمور إلى السليمانية، محفوفاً بالكمالات الإحسانية، وبالجملة انتفع به خلق كثيرون من الأكراد، وأهل كركوك واربل والموصل والعمادية وعينتاب وحلب والشام والمدينة المنورة ومكة المعظمة وبغداد، وهو كريم النفس حميد الأخلاق باذل الندى حامل الأذى حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم، يأخذ بالأحوط والعزائم، يتكفل الأرامل والأيتام، شديد الحرص على نفع الإسلام. وله من المؤلفات شرح لطيف على مقامات الحريري لكنه لم يكمل، وشرح على حديث جبريل جمع فيه عقائد الإسلام إلا أنه باللغة الفارسية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وأكثر شعره فارسي، وله فيه ديوان نظم بديع، ونثر يفوق أزهار الربيع، وهو الآن أعني تاريخ عام ألف ومائتين وثلاثة وثلاثين يدرس العلوم، من حديث وأصول وتصوف ورسوم، ويحيي للأولياء الرسوم، ويداوي الكلوم، ويربي السالكين على أحسن حال، وأجمل منوال، وقد مدحه أدباء عصره من مريديه وغيرهم بقصائد فارسية وعربية، ورحل إليه كثير من الأقطار الشرقية والغربية، وبابه محط رحال الأفاضل، ومخيم أهل الحاجات والمسائل، لا يشغله الخلق عن الحق، ولا الجمع عن الفرق، لا زال ظله ممدوداً، ولواء ترويج الشريعة والطريقة بوجوده معقوداً، آمين. إن الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا انتهى. ثم قال صاحب الحديقة سيدي محمد بن سليمان في رسالته المرقومة: ولقد حبب إلي أن أثبت هنا قصيدة نظمتها سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين في مدحه، مستندياً مستجيزاً من فيض فتحه، حتى تتخلد في الدفاتر، وتبقى من المآثر، وهي هذه برمتها. تبدت لنا أعلام علم الهدى صدقا ... فصار لشمس الدين مغربنا شرقا وأشرق منها كل ما كان آفلاً ... وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا سقى الله من ماء المحبة وابلاً ... قلوباً به هامت فقل كيف لا تسقى لقد زهدوا فيما سواه فأصبحت ... قلوبهم مملوءة للقا شوقا لقد غرقوا في بحر حب إلههم ... فناهيك من بحر وناهيك من غرقى إذا ما سرت للسر أسرار شوقهم ... لسيدهم زادوا لرتبته حرقا قلوب سرت نحو الهدى بمعسكر ... فعادت سهام الحب ترشقها رشقا وجاء من التوحيد جيش عرمرم ... فأفنى الذي أفنى وأبقى الذي أبقى هم القوم لا يشقى جليسهم غداً ... وهل أحد يحظى بقربهم يشقى أبا خالد ذلت لديك عصابة ... فوالاهم حباً وأدناهم وفقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 لك الله يا شمساً أضاء بنورها ... من الدين ما قد كان أظلم وازرقا سقيت قلوباً طالما شفها الظما ... فأمطرتها من ماء علم الهدى ودقا فأحييت منها كل ما كان ميتاً ... ورقيت مها كل ما كان لا يرقى وأخرجتها من كل جهل وظلمة ... فمهما دجا ليل ألحت له برقا وأدخلتها حسن التوكل مخلصاً ... وأمسكتها للعز بالعروة الوثقى شفيت بأنوار الغيوب قلوبنا ... فاسمك تنشق القلوب له شقا وقد كان سلطان الهوى متمكناً ... فأوسعها ذلاً وعبدها رقا فأعتقها من رقها بتلطف ... فجوزيت من خير منحت الورى عتقا إذا استبقت بالعارفين خيولهم ... فخيلك بالتوحيد قد حازت السبقا وإن ركبوا نحو المعارف مركباً ... ركبت إليها في بحار الهوى عشقا سموت بنور الله عن كل ناظر ... فصرت ترى في الغيب ما لا ترى الزرقا فأنت إمام العارفين ونورهم ... ومنطقهم مهما أردت بهم نطقا فعطفاً على من لا يلوذ بغيركم ... بأن ترشقوه من ندى فيضكم رشقا فأنتم كرام لا يضام نزيلكم ... بجاهكم لا تمنعوا الوصل والعتقا عليك سلام الله ما ذر شارف ... وما صدحت شجواً لموكرها ورقا وصل على المختار من آل هاشم ... كما جاء بالحق الذي أظهر الحقا ومن خوارقه أن من جالسه ولازمه، وراعى الآداب ظاهراً وباطناً معه، انتفع من لحظه، واسترزق من رزقه المكنون في لفظه، من الأنوار والأسرار ووجد تأثير ذلك في الحال، وزهد قلبه عن حب الدنيا والجاه والمال، واستيقظ من نومه وأفاق متفكراً في المآل، وكاد أن يهجر الأهل والعيال، وهذه الخاصة لا توجد إلا عند الكمل من الرجال، فالحمد لله الذي شرفنا برؤيته، وأدخلنا في زمرته، وأسأل من رب العباد، أن يمن على المريدين بحصول المراد، إنه كريم رحيم جواد، ونعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ما قيل: ومن بعد هذا ما تجل صفاته ... وما كتمه أحظى لدي وأجمل ثم ارتحل قدس سره من بغداد إلى الشام بأهله وعياله واستوطن دمشق، واشترى داراً رفيعة بالمحلة المشهورة بالقنوات، ووقف بعضها مسجداً لله تعالى وأقام فيه صلاة الجماعة في الأوقات الخمسة، وعمر فيها كثيراً من المساجد الخربة، وأحيا فيها كثيراً من الجوامع المندرسة، وذلك عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف. ولم يزل متردياً برداء الجود والكرم، ناشراً للعلم والفضائل والحكم، وامتدحه جمع من شعرائها وأدبائها بقصائد لطيفة، ومقاطيع منيفة، فمنها ما مدحه بعضهم بها في عام قدومه دمشق، وذلك عام ألف ومائتين وثمانية وثلاثين: يا ملاذاً قد حبانا بالنوال ... وبدا إرشاده يحكي الهلال وسما بين البرايا عندما ... بالهدى جاء على نهج الكمال مرشد القوم إمام كامل ... وإليه منهج الإرشاد آل حبذا مولى به نلنا الهدى ... قد أدام النفع فيه ذو الجلال فاح عرف الفتح لما جاءنا ... وعليه النور يعلوه الجمال بل طبيب القوم في حال الهدى ... عارف بالله لا يثنيه حال بحر علم من لدن رب العلى ... سار بالتحقيق أهل الاتصال نوره يهدي إلى الحق فقل ... عنده ما شاء ربي المتعال وبه الشام غدت باسمة ... إذ غدا عرفانه السحر الحلال نقشبند العصر مناح الهدى ... مذ أتانا قلت مه يا للرجال هذا من دانت له أهل الحمى ... في دمشق الشام أرباب النوال زين عقد العارفين الفضلا ... شمس فضل ما له حقاً مثال عين هذا الدهر نور واضح ... ليس يثنيه لإرشاد ملال كنز فضل الهدي مصباح الورى ... ليس في مجلسه تلقى جدال أشرقت بلدتنا فيه كما ... أشرقت شمس التهاني بالوصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 جل أستاذاً تسامى رفعة ... ولي العرفان إذ نال المنال أرفعي ألمعي ذو تقى ... جامع الشرع لنا حالاً وقال كوكب العز بدا مبتسماً ... في دمشق الشام مذ فيها استطال لذ شرباً ورده في حانه ... فابتغ الورد لديه لا تبال فهو بحر مورداً طاب وكم ... من مريد مدحه السامي أطال ثق به إن رمت أسنى منحة ... من إله في علاه متعال فهو حبر جهبذ سادت به ... عصبة الذكر فحقق ما يقال خمرة المجلى شفاء قد غدا ... فاحتسي يا طالباً صافي الزلال وارتشف من خمره ثم اجتني ... ثمراً ينفى به الداء العضال والزم السر بذكر ترتقي ... رتباً جلت كمالاً عن مثال والتزم نور الهدى مرشدنا ... تلقى حقاً درسه مجلى جمال سادتي لا تهجروني وارفقوا ... بفتىً علاه وجد وانتحال ليس يرجو في الورى إلاكم ... لا ولا يبدي إلى الغير سؤال فأسعفوه وأنجدوه كرماً ... فلكم في بابكم حطت رحال واعذروني فقصوري ظاهر ... واصفحوا فالصفح من حسن الخصال دمت للإرشاد ما قال امرؤ ... يا ملاذاً قد حبانا بالنوال هذا ولو أردت أن أذكر عشر معشار ما مدح به ذلك الأستاذ، والقطب الأوحد الفرد الملاذ، لخرجت عن منهج السداد، وتحولت عن الإيجاز الذي هو المراد، وعلى كل فشهرته في العالم كافية، وسيرته المحمودة سنية وافية، وقد أخذ سيدي الوالد عنه، وحصل جل نفعه طريقة وعلماً منه، ولازمه إلى انتهاء أجله، وكان غاية مراده ومنتهى أمله، وكان للسيد المترجم به عناية قوية، ومحبة أبوية، ولما قرب ارتحاله رضي الله عنه من دار الفناء، إلى دار البقاء، وآن أوان إجابة روحه الزكية، لأمر ربها راضية مرضية، كأن الله تعالى كشف له عن ذلك، فأمر بحفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 القبر المبارك، وعين مكانه في الصالحية خارج دمشق الشام، في تل تحت جبل قاسيون مقابل مقام الأربعين، فاستقاموا في حفره ثلاثة أيام، فبعد أن تم الحفر بيوم أو يومين ابتدأه المرض يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام ألف ومائتين واثنين وأربعين. وتوفي ليلة الجمعة رابع عشره بالطاعون، فجمع الله له بين شهادات متعددة: الطاعون والجمعة والغربة وطلب العلم، ودفن في القبر الذي أمر بحفره. وقد بنى حضرة السلطان الأعظم والخاقان الأفخم السلطان عبد المجيد خان، رحمه الله رحمةً دائمة إلى آخر الزمان، على قبره الشريف بناء جميلاً مشتملاً على قبة على القبر الشريف ومسجداً وعدة مقاصير للمريدين المتجردين، ومطبخاً وبركة عظيمة للماء، وجميع ذلك في محله ظاهر معروف مشهور مقصود للزائرين والواردين. وقد رثاه الفاضل النبيل، جناب الشيخ إسماعيل بقوله: ما للجبال الراسيات تميل ... ما للبدور يرى بهن أفول ما للظلام يجر ذيل ردائه ... فوق الضياء فلم يقله مقيل ومخدرات الحر تنثر لؤلؤاً ... من دمعها فوق الخدود يسيل والورق أكثرت النواح مخضباً ... كف البطائح دمعها المهمول والدهر ألبس أهله حلل العنا ... وعلا رياض الشام منه ذبول والحزن قام على منابر حينا ... أبداً خطيباً لا يكاد يزول والأرض ترجف والنوائب أدهمت ... والبين يهجم والخطوب تجول هذا مصاب ليس يحدث مثله ... تالله كم دهشت لديه عقول ماذا بدا في الكون يا أهل النهى ... هل مخبر عني الشكوك يزيل هل كان يوم الصعقة الأولى هل ... دهم الورى بالصور إسرافيل أم زلزلت تلك القيامة وانطوت ... حجب الحياة وعاجل التهويل أفصح لنا عما بدا يا ذا الحجا ... فغدا لسان الحال منه يقول قف وانتبه ما قد بدا فيما استوت ... فيه الخلائق عالم وجهول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 قد مات كهف العلم سلطان التقى ... حبر له المعقول والمنقول سند السيادة والرياسة للورى ... قاصٍ ودانٍ فضله مأمول صدر المجالس إن بدا فكأنه ... النعمان يروي عن عطا ويقول بحر أفاض على الورى مدراره ... فروى العطاش زلاله المعسول وتفجرت منه ينابيع حلا ... منها لوراد الهدى التعليل بكت العيون على فراقك سيدي ... وبكاؤها لك بالدماء قليل وافى ضياء الدين بدر زمانه ... قطب الوجود وللعلا إكليل عند المليك الحق قد أضحى له ... في مقعد الصدق الأجل مقيل هيهات إن جاد الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل يا خالداً في حضرة القدس التي ... كم طاح دون فنائها مقتول أدناك ربك منزلاً ترقى به ... فلك الشهود وكم بذاك نزول وأباح روحك حضرة قدسيةً ... عند المهيمن ما لها تبديل وأناخ سحب الفضل تهطل دائماً ... بفناء رمسك لا تكاد تزول ما قال إسماعيل يرثي سيداً ... ما للجبال الراسيات تميل والمراثي في حقه كثيرة، وهي به حقيقة وجديرة، أضربنا عن ذكرها خوف التطويل، على أن كثرة المدح، وإطالة الشرح في حقه أمر قليل. الشيخ خالد الجزيري النقشبندي الخالدي إمام قد تحلى بعقود الكمال، وتولى على روض البهاء والجمال، حميد الخصال، الذي لمعت في سماء الإجلال بوارقها، وطلعت في آفاق الكمال شوارقها، إن ذكر الفضل فهو من ذويه، أو امتدت سواعد البذل سبقها بالعطاء لمستحقيه، توشح بالعلم والعرفان، وتصفح وجوه مخدرات الفضائل فتخير لنفسه الحسان، وبعد أن فاق بالعلم والعمل، وحاز من التقدم في الطاعة والعبادة على الأمل، أخذ عن الأستاذ العارف بالله، والمتباعد عما سواه، مولانا خالد شيخ الحضرة النقشية، وإمام المعارف والرياضات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 العلية، فسلك على يديه السلوك التام، إلى أن رآه حضرة الأستاذ بلغ المرام، أقامه عنه خليفةً في إعطاء الطريق، وأذن له بإنشاء الحضرة الشريفة مع كل مريد صدوق بالعهد الوثيق، فكان لعمري نور حدقة الفضلاء، ونور حديقة الكملاء، يشار إليه بالطاعة والعبادة، ويفتخر به التقوى والفضل والزهادة وكان في الاستقامة على جانب عظيم، وفي أمر السلوك على حال جسيم، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. خالد بك القاضي العام بدمشق الشام أقسم بالقمر إذا اتسق، وحل في دارته آمناً من كدر السحب والشفق، لهو الإنسان في حدقة الزمان، واللسان الذي صين عن زلة في البيان، والكامل الذي نظمه الدهر في عقود حلاه، والفاضل الذي ارتقى على فلك الفضائل علاه. دخل الشام قاضياً في أواخر رجب المحرم سنة اربع وثلاثمائة وألف، فعامل الناس باللطف والإكرام، وصار له جلالة ومحبة في قلوب الخاص والعام، وسار في الناس بسيرة حسنة، وكانت جميع معاملاته مستحسنة، وكان مصوناً عن مد يده إلى شيء من المال، عفيفاً تقياً نقياً حسن الخصال، ولم يزل ينهج منهج الطاعة والعبادة، حتى دعته المنية إلى دار السعادة، فلبى الدعوة مطهراً من كل أموال الناس بالباطل تطهيراً، قد تواترت الشهادة له بأنه لم يأخذ من أحد قليلاً ولا كثيراً، وقد اجتمعت به غير مرة، فلم أجد ما يطعن بكماله مقدار ذرة، ولما مات ما وجد عنده ما يكفيه، لتجهيزه وتكفينه ودفنه بقبر يواريه، حتى جمع له بعض أحبابه مقداراً من الدراهم صرفوه عليه إلى أن واروه في ترابه. وكان ذلك يوم الثلاثاء عاشر محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وكان عمره نحو سبعين سنة، ودفن في مقبرة باب الصغير في قبر والده رحمهما الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 السيد خزام بن السيد علي آل خزام بن السيد حسين برهان الدين الصيادي الرفاعي الخالدي هو من رجال تنوير الأبصار، في طبقات السادة الرفاعية الأخيار فقال مؤلفه: ومنهم الشهم الهمام، بقية آل الرفاعي الأعلام، نزيل بني خالد بديار حماة الشام. ثم قال: قال الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي في مجموعته عند ذكر السيد علي الخزام: ترك ولداً له سماه الخزام كان عمره يوم وفاة أبيه اثنتي عشرة سنة. وقد نص صاحب قاموس العاشقين، على أنه هو وأصوله من ذرية سيدنا خالد سيف الله بن الوليد المخزومي القرشي الصحابي الجليل الأمير الشهير، دفين حمص، فاتح بلاد الشام، وصاحب الفتوحات الشهيرة التي لا تحصى في الإسلام، رضي الله عنه. نعم قال ابن الأثير بانقراض ذرية سيدنا خالد في كتابه أسد الغابة، ونقض كلامه في تاريخه الكامل، في غير موضع، وخالف كلامه في أسد الغابة جماعة من فحول أعلام العلماء، منهم النسابة العلامة الإمام السمعاني والشيخ عبد الغافر في تاريخيهما، والإمام السبكي في طبقات الشافعية، والبقاعي في تاريخه، وشيخ الإسلام السراج المخزومي في صحاح الأخبار، وغيرهم رحمهم الله، وأثبتوا كلهم الذرية الخالدية وترجموا جماعة من رجالها، وقال العلامة السويدي، وهو من رجال عصرنا، في سبائك الذهب، عند قوله بنو خالد بالشام ما ملخصه: إنهم يدعون النسب لسيدنا خالد بن الوليد. والنسابون يقولون بانقراض ذريته وهم من بني عمه، ويكفيهم شرفاً أنهم من قريش: أقول: والأحاديث بفضل قريش لا تعد، وهي أشهر من أن ينبه عليها. أقام السيد خزام بقبيلة بني خالد، يضيف الوارد، ويغيث الشارد، وقد حماه الله من ارتكاب المآثم، ووهبه خلقاً جميلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 حسناً من أحسن أخلاق الأسخياء الأكارم، وقد اشتهر عند العموم أن أهل هذا البيت من قديم وحديث لا يشبعون وجيرانهم جياع، ولا يمنعون عن السائل شيئاً من مال أو زاد أو متاع، كل ذلك لوجه الله حباً في الله. نقل خال أبي الصالح الأصيل منصور العابدي أن المترجم سمع شيخاً في جامع المعرة يقول: من صلى أربعين سبتاً صلاة الصبح في مرقد سيدنا أويس القرني بالمعرة مخلصاً يرى الخضر عليه السلام، فكان يترك أهله كل يوم سبت ويجيء إلى المعرة يصلي الصبح في المقام، ويرجع، فعند تمام الأربعين رأى بعد خروجه من المقام رجلاً رث الهيئة أشعث أغبر يسيل من ريقه على لحيته، فأخذ قصبة الدخان من يده وعبث به فلم يتكدر منه، لأنه كان حليماً سليما، وبش في وجهه ولاطفه، ولكن لم يخطر له أنه الخضر، فلما لم يكلمه قال له: تريد أن أدعو لك؟ فقال إي والله يا سيدي، فقال الله يسترك أنت وذريتك ويعمر بيتك ويميتك على الإيمان الكامل. ومس بيديه على وجهه، فمس السيد خزام صاحب الترجمة بيديه على وجهه، فلما رفع يديه عن وجهه لم يجد الرجل، فعرف أنه الخضر وحمد الله وشكره، وكان يقول مفتخراً تحدثاً بنعمة الله. أنا ببركة دعاء الخضر عليه السلام بيتي معمور وذريتي مستورة، وأنا ميت على الإيمان الكامل إن شاء الله. مات المترجم سنة تسع ومائتين وألف ودفن في قرية حيش وراء قبة أبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 الشيخ خليل بن عبد السلام بن محمد الكاملي الدمشقي الشافعي ولد بدمشق سنة ست وأربعين ومائة وألف، ونشأ بها ولازم العلماء، وأخذ عن الفضلاء، وبرع في الفنون، وحاز على القدر المصون، وأخذ عنه الأفاضل. مات سنة ألف ومائتين وسبع، ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ خليل بن محمد خليل بن عمر بن سعيد الدمشقي الشافعي المعروف بالخشة كان عالماً إماما، ومحدثاً هماما، وكان له قدر واعتبار، بين العلماء الأخيار، وكان بديع التقرير متين التحقيق، متحلياً بدقة النظر وكمال التدقيق، حلال المشكلات، مزيل المعضلات، ذا ذهن ثاقب وقريحة وقادة، وسرعة فهم ونظر مستقيم ومروءة فوق العادة. ولد بدمشق في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، ونشأ بها واشتغل في طلب العلم، وأخذ عن علمائها الأجلاء الفخام، منهم بل أجلهم السيد علي الداغستاني الحنفي، والعلامة الشيخ عبد الرحمن الكردي الشافعي، والعلامة الفهامة علي بن محمد السليمي، والعلامة البخاري، والشمس محمد الكزبري، والعلامة الشيخ أحمد العطار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 والعلامة منصور الحلبي، والعلامة السيد مصطفى البكري الصديقي وغيرهم مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في تربة الدحداح رحمه الله. الشيخ خليل السعدي الجباوي الشافعي الدمشقي الميداني شيخ الطريقة السعدية الأستاذ الصالح، المعتقد، البركة، القدوة، الورع، الزاهد، العابد، المقصود خصوصاً من بلاد الأناطول والروم، قطب الواردين، ومراد القاصدين، كان مواظباً على إقامة الأذكار في زاويتهم المعلومة في ميدان الحصى المشهورة بزاوية سعد الدين. وكان حاتم زمانه مهاباً نير الوجه، أخذ الطريق عن ابن عمه الشيخ الصالح أسعد بن محمد بن مصطفى، ولقنه الذكر وسلكه وأرشده، ثم أذن له في إعطاء الطريق لمن فيه أهلية للأخذ مات رحمه الله سنة أربع وستين ومائتين وألف، ودفن في مدفنهم المشهور في تربة باب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 الشيخ خليل المدابغي الأزهري الشافعي حبر الفضلاء، وبحر ورود العلماء، صاحب التحرير والتحقيق، والتحبير والتدقيق، عرف بالمدابغي لسكناه بحارة المدابغ، حضر دروس الأشياخ من الطبقة الأولى، وكان مفرداً في عصره معقولاً ومنقولا، واشتهر فضله مع فقره، واعتزل عن الناس تباعداً عما يطعن بكمال قدره، وكان متواضعاً زاهداً، متديناً عابداً، يكتسب من الكتابة، ولا يمشي إلى حاكم ولا يدخل بابه، ولا يتجمل بالملابس ولا يعرف أنه من العلماء الكرام، بل إذا مشى بين الناس يظن أنه من العوام. توفي يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف. الشيخ خليل بن عبد الكريم بن خلاص الحلبي الشافعي الأشعري الإمام أبو الصفا غرس الدين العالم الفقيه الورع المقرىء العلامة الفاضل. مولده في حدود الأربعين بعد المائة والألف، وقرأ القرآن العظيم، وحفظه على المقرىء أبي الحسن علي البانقدسي، وقرأ العربية على غرس الدين خليل الفتال، وقرأ على غيره بعض الفنون كأبي الحسن علي بن إبراهيم العطار، وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري، ونور الدين علي بن يحيى الالتونجي، والشهاب أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب، وتفقه بأبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري الشافعي ولازمه مدة خمس وعشرين سنة. وقرأ وفهم وبرع وفاق وتنبل وانتفع به الكثير، وثقل سمعه في حدود التسعين ومائة وألف، بحيث لا يسمع إلا بعد مشقة عظيمة، وكان كثير التلاوة دائباً على التقوى والعبادة آناء الليل وأطراف النهار، وشهد بفضله مفتي الديار الدمشقية العلامة الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الهمام خليل أفندي المرادي حين اجتماعه به سنة خمس بعد المائتين والألف وكل قد أخذ عن الآخر. وتوفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر رحمه الله تعالى. الشيخ خليل التميمي الداري مفتي بلد سيدي إبراهيم الخليل سيد مجده أثيل، ومنصبه جميل جليل، فاق أدباء عصره، وزكت به شهرة مصره، كيف لا وهو أحد أئمة عصابة العلم والسيادة، المتوج من المولى المنان بتاج العز والسعادة، ولد هذا الأستاذ والعمدة الملاذ، سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين. وفي سنة ألف ومائتين وثلاث وستين عندما توجه عمه الشيخ التميمي مفتي الديار المصرية وقتئذ إلى دار السعادة مدعواً من لدن ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان، لحضور ختان أنجاله العظام، كان المترجم مجاوراً بالجامع الأزهر، فصحب عمه المشار إليه إلى الآستانة وبأثناء وجوده فيها تقلد إفتاء مدينة الخليل، وكان رحمه الله تعالى على جانب عظيم من التقوى والصلاح وسعة العلم، وكانت تأتيه الفتاوى من المدن العظيمة فيجيب عنها، وانقطع في آخر حياته عن الأشغال ولازم بيته لا يخرج منه إلا لصلاة الجمعة. وقد اجتمعت به في الخليل سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين حينما توجهت لزيارة الحرم الأقصى، فرأيت رجلاً فضله فوق شهرته، وأخلاقه الجميلة قد زادته رفعة إلى رفعته، مع عبادة وتقوى، وتمسك لدينه بالسبب الأقوى، وزهد وصيانة، وعفة وأمانة، وله نثر أرق من الصهبا، وألذ من نشوة الصبا، ومن نظامه أبياته التي سال بها من مفتي الشام محمود أفندي الحمزاوي عليه رحمة الملك السلام وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 لك الحمد يا مولاي في النظم والنثر ... كذلك شكر ليس يحصر بالحصر وأهدي صلاة يستمر ثوابها ... لأفضل خلق الرب من جاء بالنصر وآل وصحب ما تسلسل عنهم ... أحاديث أحكام كما الأنجم الزهر ومن بعدها أدعو بكل حميدة ... إلى السيد المفضال ذي المجد والفخر إمام الهدى مفتي دمشق أخي التقى ... ومن قد دعي محمود حمزة في العصر سيعرض هذا العبد بين يديكمو ... سؤالاً أجيبوا عنه بالنظم والشعر وذلك أن المصطفى سيد الورى ... تفضل بالإقطاع للأرض للديري وقد شاع هذا عند كل محدث ... بطرق لها في الكتب أصل بلا نكر فمن جملة المروي ما قد رويته ... له ولأعقابٍ له مدة الدهر فهل نستفيد الملك من ذي بأسرها ... أم الوقف أم أرصادها يا أخا البدر فإن قلتم بالملك تجريد مثله ... وإن قلتم بالوقف أفصحه بالنثر وإن قيل بالأرصاد ما العمل الذي ... تدوم عليه في بنيه وفي الأجر أيمنع أعلى القوم منهم لا سفل ... أم العبد منهم يستوي هو بالحر وهل ما ترى من أرضه مرصداً به ... على غير أولاد يخلص بالجبر وهل يؤجر الأولاد أرضاً لغيرهم ... لينتفعوا فيها بشيء من الحكر فقصوا لنا فيه الجواب ليشتفي ... بذاك عليل النفس من ربقة الأسر وعدوا لهاتيك الأراضي برقمكم ... لأروي من الصافي الزلال من الصدر فلا زال أهل العلم راجين نقلكم ... ولا زال سيب العلم من ذاتكم يجري فقد قاله مفتي الخليل مصدراً ... لك الحمد يا مولاي في النظم والنثر فأجابه مفتي الأنام، السيد محمود الحمزاوي الهمام: لك الحمد يا مولاي في السر والجهر ... على نعم لم تحص بالعد والحصر وأزكى صلاة مع سلام متمم ... على سيد الخلق المؤيد بالنصر وآل وأصحاب نجوم ثواقب ... وأتباعهم حسناً إلى آخر العصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وبعد فإن المصطفى سيد الورى ... تفضل بالإقطاع قصداً إلى البر فأقطع أقواماً تطول شروحهم ... تميم بن أوس منهم شائع الذكر فأعطاه حبروناً وعينون سرمداً ... بأنباطها والسهل والطود والوعر ومن قبل فتح الشام كان عطاؤه ... خصوصية للمصطفى طيب النشر وما ذاك وقف يا خليلي عندنا ... ولا هو بالارصاد قطعاً بلا نكر ولكنه ملك يباع ويشترى ... ويورث إن ماتوا ويؤخذ بالأجر ويعطى لمن شاؤوا بقسم مقدر ... كنصف وثلث أو لخمسٍ أو العشر وإني بحمد الله أرويه مسنداً ... بإسناد أثبات ثقات عن الحبر إمام الورى يعقوب أي في خراجه ... حكى البيع والميراث فانظر يا ذخري كذلك في إقطاع عثمان قد روي ... لسعد وعبد الله ذي المجد والفخر بثلث وربع يعطيان قطيعة ... وعن أعمش هذا الحديث أخي الخبر وفي التحفة المرضية الزين قد حكى ... إجازة إقطاع وناهيك من بحر وقد قسم الزين القطيعة جيداً ... إلى اثنين تمليك الخراج إلى الغير وأخرى لنفس الأرض إن كان مالكاً ... ولا شك أن المصطفى مالك الأمر وإن ترم التفصيل فيما ذكرته ... فذاك في الإقطاعات للعالم المصري كذلك في أشباهه والتحفة التي ... سردت لها قبلاً كذلك في الدر وفي رد محتار أطال أمامه ... كتاب خراج للإمام أبي العذر فهذا مع العجز الذي قد وجدته ... وضيق زماني يا سميري لو تدري فكن عاذري وادع الإله فإنني ... أبيت وأضحى طامس الذهن والفكر وأختم قولي بالصلاة مسلماً ... على سيدي الرسل الكرام ذوي القدر وإن لهذا الإمام شمائل علية، وأخلاقاً ممدوحة نبوية، وقد أجازه الفاضل الباجوري، والكامل السقا، والشيخ عليش والشيخ التميمي مفتي الديار المصرية، وغيرهم من العلماء الأعلام والسادة القادة العظام، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 يزل في بلده الخليل، ينشر لهم كل علم جليل، من معقول ومنقول، وفقه وحديث وفروع وأصول، مع غاية الاستقامة، وسلوك سبيل السلامة، أجزل الله أجره، وجعل الجنة مقره. توفي رحمه الله تعالى في أواخر رمضان عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر ودفن في مدفن أجداده رحمه الله تعالى. داود باشا والي مدينة بغداد دار الخلافة العباسية الإمام الألمعي، والهمام اللوذعي، حبر العلماء، وبحر اغتراف الفضلاء، ولد سنة ألف ومائة وثمان وثمانين، وهو من الكرج، ثم لما صار عمره إحدى عشرة سنة جلبه بعض النخاسين إلى بغداد، فاشتراه مصطفى بيك الربيعي ثم اشتراه منه سليمان باشا والي بغداد، فرباه وأحسن تربيته، وعلمه القرآن والكتابة وأنواع العلوم، إلى أن شهد له الخاص والعام، بأنه فاق في زمانه على العلماء الأعلام، وقد جود القرآن العظيم على شيخ القراء في بغداد محمد أمين أفندي الموصلي، ثم قرأ علم النحو والصرف على المنلا حسن بن محمد علي الزوزوجي، وقرأ المطول على المنلا محمد أسعد بن عبيد الله، وقرأ على الحافظ أحمد مدرس السليمانية علوماً جمة، منها علم التصوف والحقائق، وقرأ أيضاً المطول، وعلم آداب البحث والمناظرة وعلم البيان والمعاني، وشرح المواقف على المنلا أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله مفتي الحنفية والشافعية في بغداد، وعليه تخرج في سائر العلوم، وعد من كمل الرجال أهل الكمالات الموصوفين بالدقة وعلو الفهم والمباحثة والمناظرة، وقرأ أيضاً على صبغة الله بن مصطفى الكردي، وأجازه المذكورون وغيرهم بالإجازة الخاصة والعامة. ومن جملة من أجازه أيضاً الإمام العالم العلامة السيد زين العابدين بن جمل الليل المدني، والإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 الفاضل الشيخ علي بن محمد السويدي البغدادي الشافعي، وغيرهم، وقد أخذ عن المترجم جماعة سادة، وجملة قادة، منهم السيد محمود البرزنجي قرأ عليه أنواع العلوم، وانتفع به إلى أن صار من أفاضل العلماء، وصفوة الفضلاء، المشار إليهم في العراق، ومحمد أفندي ابن النائب البغدادي وغيرهما ممن يطول ذكره. وكان المترجم المذكور حسن الأخلاق جميل المحاضرة، كثير العطايا دائباً على البحث والمذاكرة في العلوم الشرعية والعقلية، ولما صار عمره سبعاً وعشرين سنة تولى الخازندارية لسليمان باشا والي بغداد. ولم يزل يترقى على درج الصعود، وتلحظه عين العناية بأنواع الحظ والسعود، إلى أن آلت ولاية بغداد إلى سعيد باشا بن سليمان باشا، وذلك سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف. وكان الأمير في ذلك الوقت على عرب المنتفق حمود بن ثامر بن سعدون بن محمد بن مانع الشبيبي، وكان من فرسان العرب وأذكيائهم ودهاتهم، وكان مكاراً، وله وقائع وأيام مشهودة أقر له فيها أخصامه وأضداده، وأمور غريبة يطول الكلام عليها، فلما تولى سعيد باشا صار أمره بيد حمود، حتى ما كأنه إلا طفل صغير تحت تصرف وصيه أو وليه، ولهذا أعطاه سعيد باشا ما في جنوب البصرة من القرى جميعها، وهو يقارب ثلث إيراد العراق فطار صيت بني المنتفق في البلاد، وأطاعهم الحاضر والباد، ونفذت أقوالهم، واتسعت أموالهم، وقصدهم الشعراء من جميع النواحي والأقطار، وأجازوهم بما يفوق جوائز ملوك الأمصار، إلى أن قصر مدح الناس عليهم، وصار لا يسمع بين الناس ثناء إلا وهو مصروف غليهم، ولم يزل حمود عند سعيد باشا في بغداد يرفع مكانه، ويشيد بنيانه، إلى أن تثبت في القلوب قدره، واعتدل بين الأهالي أمره، فعلا حمود إلى مقره، ولكن لا زال زمام سعيد باشا بيده من سره وجهره، فلا يفعل سعيد باشا شيئاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 إلا بعد استئذانه، فازداد بنو المنتفق من الطغيان، وامتدت يدهم على الناس بالظلم والعدوان، فنقم الناس على الباشا المرقوم، وضاقت صدورهم من فعله المذموم، وفي سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، جعل الباشا المرقوم حضرة المترجم كتخداه ورئيس عساكره، فنهض نهوض الأسد، وتهدد الأعراب والطغاة بما يوقعهم في النكد، ومن أقبهم خزاعة وزبيد وشمر وآل الضفير، فإنهم منعوا الخراج ونبهوا القرى وقطعوا السبيل حتى إن بعضهم حاصر كربلا مدفن سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه، وكان إذ ذاك في كلابلاء نحو الأربعين ألفاً من زوار العجم، ومعهم حرم شاه العجم، فلما بلغ الوالي إفساد العربان حول كربلاء، خاف أن يصيب الزوار ضرر فيرجع عليهم شاه العجم بالويل والثبور، وعظيم الأمور، وتلومهم الدولة على الإهمال، وعدم الاعتناء فيما يلزم من الأعمال، حتى آل الأمر إلى ذلك، وأدى إلى الوقوع في المخاطر والمهالك، فتوجه أمير العساكر المترجم المرقوم بعساكر وافرة، ونزل الحلة ووقع بينه وبين العصاة حروب قاهرة لهم وكاسرة، فركنوا إلى الفرار، وتشتتوا في القفار، فأرسل بعض عساكره إلى كربلا، لتأمين الزوار وحفظهم من بلاء أولئك الملا، ولم يزل محافظاً لهم إلى أن وصلوا إلى مأمنهم، واطمأنوا من وقوع شيء بهم، ثم توجه الكتخدا، داود باشا المرقوم بعساكره إلى خزاعة، فقابلوه جميعاً بالخضوع والطاعة، وفي أثناء الطريق عزل شيخ زبيد المختال، ووضع مكانه سفلح بن شلال، ثم أرسل وراء كثير من العربان، وعاقبهم على ما كان منهم من العدوان، وشن الغارة على أهاليهم، وغنم مواشيهم وصال على أدانيهم وأعاليهم، وسار إلى أن نزل بأرض الديوانية مقر العشيرة الروافض الخزاعية، فصار للمترجم شهرة في الآفاق، وعلا ذكره في الإقدام وفاق، ورأى الناس من عدالته وشهامته وشجاعته ومروءته ما لم يروه من ذي الأحكام المتقدمين على مدته، مع النصح للأمة وعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 الطمع فيما في أيدي الناس والعفة والصيانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التقوى والديانة، ولم يقبل من أحد رشوة ولا هدية ولا يسمع في عساكره وقوع شيء من ذلك بالكلية، بل كل واحد ممن يلوذ به عارف حده، وواقف عنده، ومع كثرة حروب المترجم المرقوم، لا يرى في وقت غير مشتغل بالمعارف والعلوم، مع تلامذته الملازمين له في السفر والحضر، والمتحلين من بحور لآلئه بعقود الدرر، وطلب بقية الأعراب منه الأمان، بعد أن أذاقهم من حروبه كؤوس الذل والهوان ولم يزل المترجم ساعياً لسعيد باشا بالتأييد والنجاح، والنصح والصلاح، مع الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، وكان يعرف الوالي دائماً بدسائس ذوي الفساد، وينبهه على مرادهم من البغي والعناد، فداخلهم الحسد، ونصبوا للمترجم شرك النكد، وأرادوا إتلافه على كل حال، وشرعوا في إيقاعه في مهاوي النكال، وكان المترجم يتحمل ذلك لما لوالد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ". لد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ". ولما اشتد غيظ الأعداء والحساد، قالوا للوالي إن مراد داود قتلك والاستيلاء على بغداد، وأنت تعلم أن جميع العساكر في قبضته، والأهالي كلهم متفقون على محبته، وأتوا بمن شهد على ذلك عند الوزير، وقالوا إن داود باشا وعدنا على قتلك بمال كثير، ونحن لحبنا لك وخوفنا عليك، كشفنا لك عن هذا الأمر وأبديناه إليك. وعظموا الأمر لديه، وأكثروا من إقامة البراهين بين يديه، فدخل على الوالي رعب عظيم، وخوف جسيم، ثم إنه اتفق مع هؤلاء المنافقين بأنهم يرسلون خبراً من طرف الوالي للمترجم بالحضور لمذاكرة في قضية، فإذا حضر أذاقوه في الحال كؤوس المنية، فبلغ المترجم جميع ما اتفقوا عليه، وجنح فكرهم إليه، فلم ير المترجم أحسن من الفرار والتحصن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 بعض الحصون، خوفاً من هذه المضار، فخرج من بغداد وقد تزايد كربه، قائلاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وكان معه من جماعته نحو المائتين، ولم يزل إلى أن وصل إلى كركوك من غير ضرر ولا شين. وهناك راسل الدولة العلية، وأخبرها بما كان من سعيد باشا من الأفعال الدنية، وتضييع حقوق الدولة، ومعالمة الأعداء بما يوجب لهم كل قدر وصولة، وكشف لها عن سوء سياسته، وعن عكس معرفته وفراسته، وعن تقليده أزمة الممالك المهمة لأعراب البادية، أهل النهب والسلب والظلم واليد العادية. وكان للمترجم عبارات عالية، وأساليب في الكتابة سامية، وكان له اليد الطولى في التركية والفارسية والعربية، وله النظم والنثر والكتابة في هذه اللغات كلها على أتم حالة سنية، وكانت تشهد له الأفاضل بأنه إمام همام كامل، فلما وصلت رسالته إلى الدولة العلية، تحيروا من فصاحتها وبلاغتها وما اشتملت عليه من الأمور السياسية، فعلموا أن الذي يكتب مثل هذه التحريرات، ويسطر مثل هذه التسطيرات، هو الأحق والأحرى بالإسعاف والإسعاد، بالتولية على ولاية بغداد، فما كان من الدولة العلية إلا أنها بادرت بإرسال الفرمان، العالي الشان، الواجب الإطاعة على كل إنسان، إلى داود باشا ذي القدر المصان، ومضمونه عزل سعيد باشا عن تولية بغداد، وتولية داود باشا بدله على تلك البلاد. فلما وصل الفرمان إليه قرأه علناً على رؤوس ذوي الطاعة والشقاق، ثم أرسل صورته إلى حمود بن ثامر لأنه هو المقيم المقعد في أرض العراق، وذلك لأجل أن يعلم أن سعيد باشا قد فاته المرام، وترتفع عنه برؤية صورة الفرمان الشكوك والأوهام، خصوصاً وهو أكبر أعداء المترجم وأكبر أسباب الفاسد والمكر الذي تقدم. فلما وصلت صورة الفرمان إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 حمود بن ثامر، طرحها على الأرض وأهملها إهمال المستهزىء الساخر. فتعجب قومه من إهماله ونبذ الطاعة، ونصحوه بأن أمر السلطان لا يلقى في أودية الإضاعة، ومخالفة أوامر الدولة أمرها وخيم، وخطرها عظيم، وأن الأمر منوط بك فسعيد باشا لا ينظر إلا إليك، ولا يعول في قبوله وعدمه إلا عليك، والأولى أن تنصحه بالقبول والطاعة وعدم القتال، لأن خصمه رجل مطاع ولو قدم على العراق بمفرده لأطاعه النساء والرجال، خصوصاً وقد حوى من العقل وحسن السياسة ووفور الخديعة والدهاء نصيباً عظيما، ومن الشجاعة والقوة وثبات الجنان حظاً جسيماً، فما بالك لو جر معه عسكراً من الأكراد، وقدم بهم وبغيرهم إلى بغداد، فهل يعارضه من أحد، مع أن الأهالي جميعاً يحبونه محبة الوالد للولد، فلما أكثر على حمود أعمامه وإخوانه وأولاده النصائح، رجع إلى رأيهم، وقال قد اعترفت أنه رأي صالح، وأرسل إلى سعيد باشا ونصحه بالطاعة وترك القتال، والانقياد لأوامر الدولة العلية والامتثال، فأبى سعيد باشا قبول هذا الكلام، وصغى إلى قول من أشار عليه بالعناد والخصام، وما قصدهم بالحرب إلا النهب وأخذ الأموال، وتخريب البلاد وقتل الرجال، فلما رأى حمود مخالفة سعيد باشا له عرف أنه لا طاقة له على مبارزة داود وأن من حسن له أمر المخالفة فقد حسن له المذموم لا المحمود، ففر من منزله ورجع إلى وطنه ومقره، وترك سعيد باشا يتقلب على فرش ضره. وتوجه داود باشا من الكركوك إلى بغداد، ومعه نحو الألفين من الأكراد، فخافته العباد، وهابته البلاد، فلما قرب من الزوراء، وقع بين الأهالي ثورة عظيمة وغوغاء، ومرادهم إخراج سعيد باشا بالتي هي أحسن، فدخل سعيد باشا القلعة وبها تحصن، فأرسل أهال بغداد لداود باشا بالدخول، وأنه هو حاكمهم وراعيهم والمحاسب عنهم والمسؤول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 فدخل بغداد بعد الظهر خامس ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ووفد عليه العلماء والفضلاء وهنأه الأدباء والشعراء، لأنه هو الذي كان يعرف مقامهم، وينشر بين الناس أعلامهم، ويكرمهم غاية الإكرام، ويعاملهم بالإحسان والإنعام، فلما استقر في مركز الحكومة، خمدت الشرور والفتن، ورجع إلى الصواب من كان افتتن، وأمنت الطرقات وذهبت المخوفات، وارتاح أهل الكمال، وتعب ذوو الغرور والوبال، لعلمهم أنه ظهر الذي يعاقب المجرمين، ويحسن إلى المحسنين، فرفع أهل الفضائل والعلوم، ونفذ أوامر الدولة حسب الأمر المرسوم. وبعد استيلاء المترجم المرقوم على بغداد، قتل سعيد باشا الوزير السالف، وكان قتله على مراد الوزير داود باشا المترجم وبإشارته. وذكر الشيخ عثمان بن سند البصري أن حضرة العارف بالله الشيخ خالد الحضرة النقشبندي المتقدم الترجمة في حرف الخاء، قد مر على بغداد سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف في أيام ولاية المترجم، فبلغ المترجم أن الشيخ المرقوم عليه ديون، فأمر بوفائها وكانت ثلاثين ألف غازي محمودي كبير، وصرفها الوالي دفعة واحدة، وهذا أمر نادر قل ما يوجد له نظير، وغب سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف تمت سلطنته، وتناهت قوته، وأطاعه جميع أهالي العراق من حاضره وباديه وكرده وعجمه، وقد تاقت نفسه لأن يكون سلطاناً مستقلاً، وقد جلب الصنائع والصناع إلى بغداد من أهل أوربا، بل ومن سائر الأقطار، وأخذ في أسباب التمدن والعمران، وأمر بصنعة المدافع والبنادق على الطراز الجديد، وشكل جيوشاً عسكرية منظمة بتعليمات مخصوصة اخترعها لهم، إلى أن بلغت جيوشه أكثر من مائة ألف، وبهذه الجيوش والاستعداد طمع في أنه يستولي على جميع آسية الصغرى والكبرى، وكان دائماً مطمع أنظاره الاستيلاء على بلاد العجم، وقد داخلهم الرعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 والخوف منه ومن جيوشه ومن تعليماتهم الغريبة الأشكال والأوضاع، ولكنه لم تساعده المقادير كما ساعدت محمد علي باشا على ولاية مصر، فإن داود باشا بينما هو في هذه الأبهة والسلطنة والاستقلال، والخروج عن طاعة الدولة العلية، إذ أرسل عليه السلطان محمود خان العثماني جيشاً نحو العشرين ألفاً، ورئيسهم علي باشا اللاظ، فلما قرب من بغداد ضحك داود باشا واستهزأ بهذا الجيش الضعيف الذي يريد أن يستولي على بغداد، فأخذه الغرور، فقال لو نرسل على هذا الجيش نساء بغداد لما يطيق مقاومتهن، إلا أن الوزير داود باشا لم يعلم ما هو مخبوء له في زوايا القدر، مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد. مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد. وأما جيش علي باشا اللاظ فإنه بتقدير الله تعالى لم يصبه شيء من ذلك الطاعون، وذلك تقدير العزيز العليم، وانقلب الفرح حزناً، واشتغل الصراخ في كل بيت من بيوت أهل بغداد إلا ما ندر. وقيل إن الذي مات بهذا الطاعون من أولاد داود باشا لصلبه أكثر من عشرة أولاد الذين يركبون الخيل، فانكسرت شوكته، وانحلت قوته، وداخله الهم، ولازمه الغم، وانحل عضده وانفل جيشه، البعض بالموت والبعض بالهرب والفرار، إلى البوادي والقفار، وذلك سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين، فلما طلب علي باشا اللاظ، المحاربة معه لم يسعه إلا المصالحة، على أنه يسلم إلى علي باشا بغداد بما فيها، وداود باشا يرتحل إلى الآستانة ويستقيم بها، فسافر داود باشا إلى الآستانة واستقام بها إلى سنة ستين ومائتين وألف، وكان معظماً عند السلطان محمود، ثم عند ابنه السلطان عبد المجيد ورجال دولته لكبر سنه ولطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 زمانه في الوزارة مع كمال عقله، ووفور رأيه، حتى إن كسوته الرسمية يوم العيد مكتوب على صدرها شيخ الوزراء بالطراز الملوكاني المذهب، لأن هذا كان لقبه خاصة، ثم إن السلطان عبد المجيد أرسله سنة ستين ومائتين وألف شيخاً على الحرم النبوي، فاشتغل هناك في العبادة، وتفرغ لها فوق العادة، وكان مرجع الخاص والعام، فيما يشكل على العلماء الأعلام، وقرأ بها للطلبة كثيراً من الكتب والفنون النادرة، وانتفع به العموم فيما يتعلق بدنياهم والآخرة. وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف ذهبت مع والدي إلى الحجاز الشريف، فاجتمعت مع والدي به في المدينة الشريفة، وكان رجلاً كبيراً مهاباً عليه سيما الفضل والصلاح، وله خضوع وذل وسكينة وتواضع. وكان يمضي بينه وبين والدي الوقت الطويل في المذاكرة، وقد تبركت به وبدعواته. وفي ليلة عاشوراء حين قراءة المولد النبوي الشريف بين العشائين أمرني والدي بقراءة عشر من القرآن، وكان المسجد قد غص بأهله، وكان قد حضره كذلك المترجم المذكور، وكان جلوسه بجانب والدي في الجهة الشمالية من الحرم الشريف متوجهين إلى القبلة، فغب قراءة العشر وإتمام المولد قبلت يده، فدعا لي وبش في وجهي وأظهر لي الالتفات والمحبة، وكان قد أخبر أن مراده أن يفتح مدرسة بأمر الدولة في المدينة للإفادة والاستفادة في سائر العلوم والفنون، ولكن اخترمته المنية قبل تمكنه من ذلك في تلك السنة، وهي سنة سبع وستين ومائتين وألف، ودفن في البقيع الشريف تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأمر أن لا يبنى عليه تابوت ولا قبة اتباعاً للسنة، فجعلوا له شباكاً من الحديد حول قبره. ومن آثاره بالمدينة البستان المعروف بالداودية خارج المدينة، بقرب سيدنا محمد الزكي عند منهل العين الزرقاء. ولما أتم بناءه وغرسه أرخه شاعر العراق بالاتفاق الشيخ صالح التميمي بقصيدة، وجعل آخرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 تاريخاً، وهو قوله: تاريخه غرسه فأعجب داود باشا وأعطاه جائزة ألف ريال، كانت هكذا سماحته وقد مدحه الشاعر اللبيب، والناثر الأديب السيد عبد الباقي العمري، بمدحية غريبة، وقصيدة عجيبة، ملتزماً بها لفظه الخال باختلاف معانيها فقال: إلى الروم أصبو كلما أومض الخال ... فأسكب دمعاً دون تسكابه الخال وعن مدح داود وطيب ثنائه ... فلا القد يثنيني ولا الخد والخال مشير إلى العليا أشار فطأطأت ... وأصبح مندكاً لهيبته الخال مناصبها انقادت لأعتاب بابه ... كما انقاد مرتاحاً إلى العطن الخال وقد نالها إذ أوتي الحكم حكمة ... إلهية فصل الخطاب لها خال مليك ملاك الأمر والنهي كله ... إليه انتهى والحكم في الأرض والخال حكى نهر طالوت ببسطة علمه ... وفي فضله ذاك الفتى الماجد الخال توسم عرافاً بسيماه دهره ... فخوله النعمى وما كذب الخال وصدق فيه ما تخيله النهى ... وفيما سواه قل ما يصدق الخال فيا لرجال من علاه تفرسوا ... أغر عليه من نسيج العلا خال إذا اعتركت أراؤهم عرضت لهم ... كتائب رأي من نهاه لها خال عصامي نفس سودته جدوده ... فلا الجد يجديه ولا العم والخال له العلم خدن والكمال منادم ... وحسن السجايا والحجا الخل والخال هو الصدر منه القلب كالصخر في الوغى ... إذا طاش في غلوائها الوكل الخال ودهم الليالي إن تمادى جماحها ... فهمته الكبرى الشكيمة والخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 توهم قوم أن يجاروه في العلا ... فلم يجدهم ذاك التفكر والخال يشق على من لا يشق غباره ... رهان الذي عن شوطه عاقه الخال عفا الله عنه قد عفت بعد بعده ... من البلدة الزورا المعالم والخال وهيهات ما دار الرصافة بعده ... وما الكرخ إلا السبسب القفر والخال ولكن بهذا العصر أمست كجنة ... بها تتباهى ربوة الشام والخال ورضوانها اليوم النجيب مشيرها ... يحافظها مولى عليها هو الخال عظيم وقالوا لو تراءى ليذبل ... تصاغر منحطاً وطاوله الخال حماها حماه الله من كل ريبة ... تشين علاه فهو من ريبة خال فلا زال كل منهما طود رفعة ... يلوح عليه مع تواضعه الخال وإني وإن كنت الرديف نظامه ... لمسبوقة حسن الروي لها الخال فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة ... يعارضها حتى يصاحبه الخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 حرف الدال الشيخ داود بن أحمد بن إسماعيل المعري ثم الحلبي الحنفي أبو سليمان سيف الدين الأكمه العالم الذي تهلل به محيا العالم بهجة وسروراً، وتجمل به جيد الدهر فكان له فرحة وحبورا، ذو النجدة والمروة، والمجد والفتوة، من سجعت بمحاسنه حمائم شمائله، ولمعت من سماء مكارمه بوارق فضائله، فبهر الأنام بأخلاقه الرضية، واشتمل بما لبسه من الكمال على كل منقبة جلية، وله من محاسن الكلام ما تشربه أفواه المسامع، ومن بديع النثر والنظام ما يزري ببدائه البدائع. ولد هذا الهمام والجهبذ الإمام بمعرة النعمان، سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، من هجرة سيد ولد عدنان، ثم بعد أن قرأ القرآن وأتمه، وجوده على القراء الأئمة، دخل مدينة حلب وأكب بها على التحصيل والطلب، وأخذ عن جماعة أفاضل، قد اشتهروا بالمناقب والفضائل. منهم العلامة عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني، وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني، والنور علي بن أحمد الدابقي، ومحمد الحلبي بن علي الأنطاكي المفتي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلوسي المفتي، والسيد حسن بن شعبان السرمينين وأبو عبد الله محمد بن محمد الأنطاكي، وأبو العدل قاسم بن محمد البكرجي، وغيرهم من العلاء الأعلام، والسادات العظام، وأجازوه بما تجوز لهم روايته، وتصح لهم درايته، ودخل دمشق الشام، وأخذ أيضاً عن علمائها الأعلام، وأجازوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 أيضاً إجازة عامة لجميع العلوم، التي أخذوها عن سادتهم ذوي المقام المعلوم، وكانن ممن يشار إليه، ويعول بعويصات المسائل عليه، وممن اجتمع به في حلب، فرد الشام ومفتي الأنام خليل أفندي المرادي وذلك عام ألف ومائتين وخمسة، ولم تكن وفاته بعد ذلك بكثير، أعلى الله مقامه في فراديس الجنان، إنه المنعم الجواد المحسن المنان، وقيل إن هذه الأبيات من كلامه، وبديع نظامه: ذو جمال همت في عشقته ... فتن العشاق عرباً وعجم لاح بدر التم من طلعته ... وبدا البرق إذا الثغر ابتسم بات يجلو الراح في راحته ... ويدير الكأس في جنح الظلم غلب النوم على مقلته ... قلت والوجد بقلبي قد حكم أيها الراقد في لذته ... نم هنيئاً إن عيني لم تنم يا هلالاً قد سبى شمس الضحى ... كل ما فيك وعيينك حسن صل محباً ما له من مسعف ... قد جفاه من تجافيك الوسن يا مريض الجفن يا من لحظه ... سل سيفاً للمحبين وسن جفنك النعسان من كسرته ... كم شجاع منه ولى وانهزم أيها الراقد في لذته ... نم هنيئاً إن عيني لم تنم وله رحمه الله: ورد الخدود أرق من ... ورد الرياض وأنعم هذا تنشقه الأنو ... ف وذاك يلثمه الفم فإذا عدلت فأفضل ... الوردين ورد يلثم هذا يشم ولا يضم ... وذا يضم ويشمم وله أبيات كثيرة، وقصائد بديعة بالمدح جديرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 الشيخ داود البغدادي الموسوي بن المرحوم السيد سليمان البغدادي الشافعي النقشي الشهير بابن جرجيس إمام قد طلع في سماء العلوم بدرا، وهمام قد برع في المنطوق والمفهوم وأحاط بهما خبرا، بجميل مديحه قد تحلت الطروس، وبجليل ذكره قد طربت النفوس، فلا ريب أنه صدر الأكابر والأعاظم، وكعبة طواف المكارم والأكارم، والأوحد الذي خيمت البراعة بناديه، والأمجد الذي لم يعرف غير الفضائل من زمن مباديه. ولد في مدينة بغداد سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، ونشأ في حجر والده المعروف بالصيانة والعلم والدين، وبعد أن قرأ القرآن، وأتقنه كل الإتقان، قصر نفسه على العلم وطلبه، إلى أن فاز منه بمرغوبه وأربه، وكان كثير الاعتزال عن الناس، ليس له بغير العلم والعمل استئناس، مواظباً على الفروض والسنن، على أكمل حال وأتم سنن. وكان يقرىء الدروس لمن حضر، وهو ابن ثمانية عشر، ولم يزل على حاله، ناهجاً منهج كماله، إلى أن توفي والده فسافر إلى الحرمين الشريفين، ومكث بهما نحواً من عشر سنين، وقد أجازه بهما السادة العلماء، والقادة الفضلاء، ثم رجع إلى بغداد، فصرف نفيس عمره على إفادة العلوم وإرشاد العباد، ثم رجع إلى الحرمين بقصد الحج وزيارة سيد الأنام، وتوجه مع ركب الحاج إلى دمشق الشام، ومكث بها سنتين أو زيادة، ثم قصد وطنه وبلاده، ولم يحل في محل إلا وشغله العلم والعمل، وإفادة الطالبين من غير كسل. ثم بعد مكثه مدة من السنين، سافر إلى الحجاز ومعه ولده الكامل الشيخ بهاء الدين، ثم بعد أن أتم الحج وزار خير الأنام، توجه إلى مصر والقاهرة وجلس مدة من الأيام، ثم سار حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وصل إلى الموصل فمكث بها أياما، وقد نال بجميع سياحته عزاً واحتراما، ثم رجع إلى وطنه بغداد، وقد ارتفع قدره بها وازداد، ولم يزل يفيد كل طالب، ويدعو الناس إلى الفضائل والرغائب، إلى أن دعاه مولاه، وأناله من جميله ما أولاه، وكان ذلك قبيل المغرب ليلة عيد الفطر آخر يوم من رمضان في سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، ودفن رحمه الله في جانب الكرخ مع مشايخه، وكان موته مصيبة عظيمة، ونكبة عامة جسيمة. وقد رثاه الهمام الفلاضل، نسل الأعيان الأفاضل، محمد أمين أفندي الجبوري، فقال: قد فل غارب سيف الدين وانثلما ... وانهد ركن من الإسلام وانهدما وطود علم جليل دك شامخه ... وشارق من عماد الفضل قد قصما فاغرورقت أعين الإسلام باكية ... والدين حزناً على خديه قد لطما به الحقيقة تمت وانتهت وبه ... علم الحديث كذاك الفقه قد ختما سل العراق وأهل الشام عنه وسل ... أهل الحجاز كذاك الحل والحرما وأهل نجد من الماحي تعصبها ... ومن إليه سواه ألقت السلما ولا أخو جدل إلا وألقمه ... حجارة فدعاه لا يلوك فما وكم له من تآليف منضدة ... كأنما الوحي في أقسامها انقسما هي الصحاح التي يفتي بها أبداً ... وهي الأدلة إلزاماً وملتزما بآخر الصوم قد نادى مؤرخه ... داود بالخلد وافى أرحم الرحما وللأفاضل في حقه مراثي كثيرة، هي في قطره معروفة شهيرة، قد ذكر أكثرها ولده الفاضل العارف، في ترجمة والده المسماة باللطائف، وله رحمه الله من التآليف، ما يغني عن الترجمة والتعريف، ولولا خوف الإطالة والإسهاب، المخرج ذلك عن اصطلاحنا في هذا الكتاب، لأوسعت دائرة التحبير، في بعض مناقب هذا الشهم الكبير، ولكن الشمس في رابعة النهار، لا يحتاج عرفانها إلى خبر واستخبار، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 حرف الذال الشيخ ذيب الحلبوني مولداً الدمشقي إقامة ودفناً رحمه الله تعالى صاحب الخوارق الباهرة، والأحوال الغريبة الظاهرة، والنوادر التي شاعت، والكرامات التي ذاعت، وكان قليل الكلام، كثير الغيبة والاصطلام، يتناول من الطعام قليلاً مما حضر، وإذا لم يجد طوى وصبر، وكان في أكثر أوقاته ملازماً لمدرسة الشميصاتية، الكائنة شمالي جامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 بني أمية. ولد في قرية حلبون قرية من قرى دمشق الشام، تبعد عنها مقدار ست ساعات بالسير المعتدل، ونشأ بها، ثم في سنة خمسين ومائتين وألف، قدم دمشق واستوطنها، وكان مقصوداً للدعاء والتبرك، وكان يقصد للاستخارة والفأل الحسن، وحصل له في الشام شهرة عظيمة، وكان على استقامة حسنة لا يعتريها شائبة طعن، توفي بدمشق الشام سنة ست وثمانين ومائتين وألف ودفن في مقبرة مرج الدحداح. الشيخ ذيب بن محمد بن ذيب بن قاسم الأريحاوي الشافعي الفرضي قد اشتهر بالعلم والتقوى والصلاح، وكان من صغره يتوسمون فيه الخير والفلاح، فلا ريب أنه بقية من سلف، ونخبة من خلف. ولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وألف، وتخرج على عمه زوج والدته الشمس محمد بن إبراهيم العاري المفتي، وانتفع به ولازمه وسمع منه الكثير من فنون متعددة إلى أن مات شيخه رحمه الله، وبعده تولى المترجم منصب الإفتاء بأريحا، وتولى إمامة جامعها الكبير، وكان كثير التلقي، ولم يزل سالكاً في منهج الترقي، إلى أن خطبته المنية، إلى الدار الآخرة العلية. توفي بأريحا سنة ألف ومائتين وبضع وعشرين، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 //بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. حرف الراء المهملة راشد بن سعيد الرواحي من أذكياء أدباء البحرين وعمان قد ترجمه أحمد بن محمد بن علي بن ابراهيم الأنصاري بقوله: روح جثمان الأدب، ونور عين الفضل والحسب، الشاعر المجيد، البليغ الوحيد، فمن لطائفه قوله: إني لقيت من الهوى وفنونه ... أمراً عجيباً واقفاً في بالي من ذات خال غضة ميادة ... تصمي قلوباً للورى بالخال تصمي الليوث بلحظها إن أرسلت ... سهماً مصيباً من عيون غزال وقوله: إن ظني في سيدي لجميل ... ورجائي فيه عريض طويل وإليه قد تبت من كل ذنب ... ومتابي إلى رضاه سبيل وإليه فوضت كل أموري ... وهو نعم المولى ونعم الوكيل وله في الأدب باع ما أطولها، ويراع لنظم عقود اللآلئ ما أجلها وأجملها، وفكرة ما أعلاها، وأحقها بالمديح وأولاها، توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 الشيخ الفاضل راشد بن علي النعامي الحنبلي من آل جريس عالم ناقد، متَّبع ماجد، ذو يد طولى في علم القرآن والحديث، مقتد بالسلف الصالح في كل أمر قديم وحديث، معتصم بالسنّة الصحيحة والقرآن، عامل بما فيهما مذعن لهما كمال الإذعان، وله في ذلك كتب ورسائل، دالة على أنه مجتهد بسائر الفروع والمسائل، وفقنا الله وإياه للصواب، وفتح لنا وله للوصول إلى ما يرضيه أحسن باب، إنه محسن كريم وهاب، توفي في أوائل القرن الثالث عشر. الشيخ راغب بن الشيخ صالح بن سعيد الدمشقي الحنفي المعروف بالأسطواني ولد سنة أربعين ومائتين وألف واشتغل من أول عمره في القراءة والعلم والتردد على المشايخ العظام، والأفاضل الكرام، وتولى نيابة المحكمة السنانية في دمشق الشام، ولم يزل مقبلاً على الطلب بجد واجتهاد إلى أن توفي في رابع ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح في تربة الذهبية. راغب أفندي بن سعيد أفندي بن حمزة بن علي الدمشقي الحنفي الشهير كأسلافه بابن عجلان الحسني الأديب، النجيب اللبيب الأريب، عين الأعيان، وإنسان حدقة أهل الزمان، المولى الهمام، والماجد السامي المقام، ذو الشرف والحسب، والرفعة والنسب، وريحانة روض الكمال، وعرف طيب دوحة الإفضال، قد اشتغل بالعلم والعمل، ودأب حتى نال ما رجا واكتمل، وحضر على الشيخ سعيد الحلبي وغيره من الأعلام، ولم يزل مواظباً على الإستفادة إلى أن شرب كأس الحمام في رمضان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 السيد رجب بن السيد محمد بن السيد حمود بن السيد عثمان بن السيد محمد سلطان العجاج بن السيد حسين برهان الدين آل خزام الرفاعي الصيادي ترجمه السيد أبو الهدى أفندي بن السيد حسن وادي فقال: الشيخ الجليل الواصل، والولي الأصيل الفاضل، رب الخوارق والفواضل، الذاهل الكامل، الواجد الماجد، العلي الحسب، الرفيع النسب. ولد بقرية كفر سجنا من أعمال معرة النعمان، ونشأ بها كأبيه وجده، ثم توفي أبوه ونشأ في كنف عمه، وبعد وفاة عمه حصلت إشارة معنوية للشيخ الكامل السيد أحمد أفندي الجندي ثم الصيادي، فقام من بلدته معرة النعمان إلى كفر سجنا لدار المترجم، وأجازه وخلفه ورأى من الكرامات ما يحير العقول، وقد ذكر بعضها السيد أبو الهدى المرمى إليه في تنوير الأبصار، كإبراء المقعد والمجنون والملووق، والإخبار ببعض المغيبات، والإنفاق مما لا يعلم له أصل ولا سبب، بل من كنز الغيب، وإقبال الخاص والعام عليه، وقال في آخرها: ولو أردنا تعداد كراماته الثابتة المتواترة لاحتجنا إلى مجلد كبير نشأ بقريته على البر والتقوى، وكان حليماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 سليماً مبارك السريرة، طاهر العقيدة، متمسكاً كل التمسك بآثار السلف، محباً للمسلمين، وكان لا يفتر عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تلاوة الفاتحة. توفي سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن بكفر سجناء. انتهى ملخصنا باختصار. الشيخ رحمة الله بن محي الدين بن أحمد بن مصطفى بن اسماعيل أبن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي فخر الأعيان، ونخبة الزمان وكعبة الأوان، وصفوة ذوي القدر والشان. ولد بدمشق سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، وقرأ على الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، وكانت عنده مكتبة عظيمة وقد احتوت على أكثر تأليفات جده العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي وتقدم في الجاه وعلا، وصار له شهرة حسنة بين ذوي العلا، وكان جميل المنظر حسن الذات يهابه من رآه، ويعترف بأنه من ذوي الفضل والجاه، وكان حافظاً للوداد، ولا ينسيه صديقه طول الزمان ولا النوى والبعاد، مات بدمشق في سادس وعشرين من صفر سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين ودفن في مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الشيخ رشيد القلعي الشهير بقمبازة بن الشيخ نجيب الحنفي الدمشقي ولد بدمشق سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين وقرأ على والده إلى أن صار له يد في العلوم، وقرأ للطلبة في جامع بني أمية، وأخذ عن الشيوخ العظام، ثم غلب عليه نوع من البله والجذب، وكان له نوادر عجيبة، ووقائع غريبة، وإذا أردت أن أذكر نوادره فإنها كثيرة تخرجنا عن المطلوب من الاختصار، مات ثالث عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثمائة وألف ودفن في باب الصغير. الشيخ رضا أفندي بن إسماعيل بن عبد الغني بن محمد شريف الدمشقي الشافعي الشهير بالغزي ولد بدمشق سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده واشتغل في الطلب على علماء دمشق ومن أجلهم فقيه العصر وعالمه العلامة الشيخ سعيد الحلبي وعمر أفندي الغزي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ حامد العطار، وبرع وفاق واشتهر في الآفاق، وتولى نظارة جامع بني أمية، فخدمه حق الخدمة، واشتغل في تعميره وبذل كامل الهمة، وكان مفرداً بالسعي في الصلح بين الناس. توفي سنة ست وثمانين ومائتين وألف ودفن بالحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 الأمير رضوان الطويل المصري قرأ على الشيخ عثمان الورداني وغيره، وكان له اليد الطولى في الحساب والفلك والميقات، فبرع وتقدم، وأنجب وحسب ورسم، وأشغل فكره بذلك ليلاً ونهاراً، ورسم الأرباع الصحيحة المتقنة الكبيرة والصغيرة والمزاول والمنحرفات وغير ذلك من الآلات المبتكرة، والرسميات الدقيقة، واتسع باعه في ذلك واشتهر ذكره، إلى أن قطفت يد الجل ثمرة حياته، وأطفأت رياح المنية أنوار ذاته، وذلك سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله. رفيق بك بن المرحوم محمود بك بن المرحوم خليل بك العظم الهمام الذي يتناول المعالي بثاقب حزمه، ويصيب الأغراض بصائب سهمه، ذو الشمائل الناطقة بسمو فضله، والدلائل الدالة على علوه ونبله، من تناولت حديثه الألسن العادلة، وتناقلت نفيسه الأندية الحافلة، وهو من بيت لهم في الشام مجد معلوم، وقدر في سلك الرفعة منظوم، ولد في دمشق الشام سنة ألف ومائتين واثنتين وثمانين، وتربى في حجر والده إلى أن بلغ التاسعة من عمره وضعه في مدرسة من مدارس الروم لتعليم اللغتين العربية والفرنساوية بقواعدهما، وبعد سنة خرج منها لوفاة والده، وكفله شقيقه الأكبر خليل بك فأحسن تأديبه، إلا أنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 يستطع حسن تعليمه لأنه كان ضابطاً في الجندية كثير التنقل من بلد إلى بلد، فوضعه في مكتب من مكاتب دمشق لتتميم قواعد اللغتين التركية والعربية، وحسن التكلم بهما، فمكث به نحو ثلاث سنين فأتقن بها التركية والعربية والكتابة، ثم إنه فتر عن التعلم إلى أن بلغ السنة الثامنة عشرة، وتحرك في نفسه حب التعلم ومال إلى الانكباب على المطالعة، خصوصاً في كتب الفلسفة والتاريخ، اقتداء بشقيقه الأكبر الذي كان شديد الميل إلى التاريخ والفلسفة وعنده كتب كثيرة منها، فلازم بعض الدروس العربية على بعض الأساتذة مدة قصيرة، وفي غضونها مال كل الميل إلى الشعر والأدب فدأب على مطاعة كتب الشعر، وحفظ من ومجالس العلماء. القصائد والمقاطيع مقداراً وافراً، ثم اشتغل في نظم الشعر قبل سن العشرين وكثر تردده على أهل الأدب وفي سنة ألف وثلاثمائة وواحدة أخذه المرحوم خالد عبد الله بك إلى مصر وكان ساكناً بها فترقى بها إلى درجة عالية، إلا أنه لكثرة المطالعة والسهر أصيب بمرض العصب بعد مرور سنة من إقامته في مصر، فاضطر إلى ترك المطالعة وسافر إلى الآستانة العلية، ثم إلى الشام لأجل تبديل الهواء، ولما عوفي بحمد الله من المرض هجر الشعر ونظمه، ومال إلى الإنشاء ومعاشرة العلماء، وأخصهم الأستاذ الكبير الشيخ طاهر المغربي الدمشقي، ثم عاد إلى مصر عام ألف وثلاثمائة وثلاثة، وحيث كان الحال يومئذ في مصر غير الحال الذي في سورية حصل فيه نباهة لما لم يكن يعهده من قبل، فألف رسالة سماها البيان لأسباب التمدن والعمران وعرضها على المرحوم الشيخ عبد الهادي الأبياري أحد كبار العلماء المصريين فرغبه في طبعها، ثم عرضها على العلامة المرحوم السيد محمد بيرم التونسي صاحب صفوة الاعتبار ونزيل مصر يومئذ فرغبه في طبعها أيضاً، على أنه بعد ذلك أدرك أن هذين الفاضلين ما رغباه بطبعها إلا تنشيطاً له لأنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 اعتقاد المترجم أن الرسالة ليس فيها شيء مما يهم من الفائدة والعلم. هذا ولم يزل مثابراً على المطالعة حتى آنس من نفسه قدرة على الكتابة في الجرائد، وأول ما كتب في جريدة الأهرام سنة ألف وثلاثمائة وعشر ثم في مجلة الهلال، ثم في جريدة المؤيد، وجريدة الموسوعات، والمنار، وغيرها من الجرائد والمجلات، وألف في أثناء ذلك رسالة كيفية انتشار الأديان عام ألف وثلاثمائة واثني عشر. وحاول في تلك السنة والتي قبلها تعلم اللغة الفرنساوية، لكن منعته منه الشواغل أكثر من ستة أشهر، فترك تعلمها مع غاية الأسف، وبعد ذلك لازم الإمام العلامة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، فاستفاد من علمه الواسع وآرائه العالية فوائد عظيمة، أزالت عن بصيرته حجباً كثيفة، ورأى في نفسه ملكة قدرة التأليف، فألف كتاب الدروس الحكمية، ثم كتاب تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام ثم استفزه الولع بتاريخ الإسلام إلى وضع تاريخ جديد لمشاهير الإسلام من أهل الحرب والسياسة على غير النمط المعهود عند المسلمين، أي على أسلوب جديد يمثل رجال الإسلام في أجلى مثال وأظهره، بحيث يتناول في ذلك التاريخ كثيراً من أخبار دول الإسلام الاجتماعية والسياسية، وأفيض في البحث في فلسفة التاريخ الإسلامي على وجه يتضح به حال تاريخ الإسلام، فباشر ذلك التأليف على صعوبته عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر، وأتم منه الجزء الأول في سيرة أبي بكر ومن اشتهر في دولته في تلك السنة تأليفاً وطبعاً، ثم في أواخرها أتم الجزء الثاني في سيرة عمر بن الخطاب، ولشدة البحث والتنقيب في الكتب عاوده في أثناء تأليفه المرض القديم، فأتمه بكل مشقة، واستراح إلى سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرين، فكتب الجزء الثالث في سيرة المشهورين في دولة ابن الخطاب وطبعه، وأنه لمشتغل في تتميمه راجياً من الله سبحانه التيسير فجزاه الله خير الجزاء على هذه الخدمة الإسلامية، والمأمول أن الله سبحانه، يهون عليه تأليف كتب كثيرة ينتفع بها الخاص والعام من جميع الأنام. وأنه الآن قد توطن في مصر وتأهل بها، ولم تزل أوقاته معمورة بالمطالعة والكتابة والتأليف والتصنيف، والعبادة الحسنة والأخلاق المستحسنة، والتمسك بالسنة والكتاب، والعمل بهما من غير تعصب ولا تأويل موقع في التباب، ولا يميل إلى العمل والقول بالتقليد، بل يقول أن العمل بالأصلين الشريفين هو لكل سعادة أقليد، وله من النظم البديع، والنثر المزري بزهر الربيع، مقدار عظيم، يشهد بأنه صاحب اليد الطولى والفكر الجسيم، فمن نظمه متغزلاً قوله: طبعه، وأنه لمشتغل في تتميمه راجياً من الله سبحانه التيسير فجزاه الله خير الجزاء على هذه الخدمة الإسلامية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 والمأمول أن الله سبحانه، يهون عليه تأليف كتب كثيرة ينتفع بها الخاص والعام من جميع الأنام. وأنه الآن قد توطن في مصر وتأهل بها، ولم تزل أوقاته معمورة بالمطالعة والكتابة والتأليف والتصنيف، والعبادة الحسنة والأخلاق المستحسنة، والتمسك بالسنة والكتاب، والعمل بهما من غير تعصب ولا تأويل موقع في التباب، ولا يميل إلى العمل والقول بالتقليد، بل يقول أن العمل بالأصلين الشريفين هو لكل سعادة أقليد، وله من النظم البديع، والنثر المزري بزهر الربيع، مقدار عظيم، يشهد بأنه صاحب اليد الطولى والفكر الجسيم، فمن نظمه متغزلاً قوله: سل سيفاً وصال فينا بأسمر ... من قوام ومقلة تتكسر عربي قد أعربت عن فؤادي ... مقلتاه بما به قد تسعر أن سقماً بمقلتيه تبدّى ... ليس سقماً بل ربما السكر أثر يا بروحي أفديه ظبي غرير ... ناحل القد ناعس الطرف أحور أن تهادى رأيت غصناً رطيباً ... يتثنى وإن رنا فهو جؤذر رق معنى فكاد يرشف بالكأ ... س كخمرٍ بها النسيم تعطر وتباهى على الهلال بحسن ... هو أبهى من الهلال وأبهر لو رأت حسنه الشموس لولت ... بذيول من الحيا تتعثر يا حياة القلوب جد بحياة ... لقتيل بحبك اليوم يشهر وتدارك بقية من عليل ... كاد يخفى من السقام ويدثر فتعطف على المتيم يوماً ... بوصالٍ أحيا به أو فأقبر وامزج الدل بالترفق يا من ... بهواه أولو الصبابة تفخر إن من يرحم المحب ويرفق ... بقتيل الهوى يثاب ويؤجر وله أيضاً: كفى بالهوى دمعاً يسيل ومهجة ... تذوب وأحشاء يمزقها الهجر معذبتي جودي علي بنظرة ... يضم عظامي بعدها اللحد والقبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 جزى الله من أضحيت فيه متيماً ... شجياً بمعناه الجميل أهيم تعمد قتلي بالهوى دون أجنحة ... على أن فتال النفوس أثيم رضيت بما يرضى لنفسي دائماً ... أخاف عليه الإثم وهو عظيم وله: أحبة قلبي والذي قاد للهوى ... فؤادي وأحشائي وقلبي المقطع إذا جدتم بالوصل ذلك منة ... وإن رمتم قتلي فلا أتمنع ومن كان مثلي صادق الود بالهوى ... صبوراً فلا والله لا يتوجع الشيخ رشيد بن الشيخ طه بن الشيخ أحمد العطار طلب العلم في صغره، وبذل في الإقبال على الترقي نقود عمره في جده وسهره، فقرأ على علماء عصره، الموجودين في بلدته ومصره، ومن أجلهم عمه المشهور في الأقطار، الشيخ حامد بن الشيخ أحمد العطار. وبعد وفاة عمه أقبل على طلب النيابة باجتهاده حتى كانت أكبر همه، فلم يزل يتولى النيابات، إلى أن مات، وكان جسوراً في الكلام، له في المحاضرة نوع إلمام، يحفظ كثيراً من النوادر، وواقعات الليالي العوادي الغوادر، فعقد وداده غير محلول، ودوام حديثه غير مملول، ويظهر العفاف عن الحرام، والانكفاف عن موجبات الآثام؛ والتباعد عن الرذائل، وأكل أموال الناس بالباطل، وإن كان المسموع، خلاف هذا الموضوع، والله أعلم بحقيقة الحال، يجازي بالجميل على الجميل، وبغيره على قبيح الأفعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 ثم أن المترجم المرقوم قد غلب عليه التشيع، والتضلع من غير تمنع ولا تورع، وكان عنده فيه كتاب موسوم بينبوع الينابيع، ملازم له ولأحكامه مطيع. توفي رحمه الله في جبل عجلون حينما كان نائباً، وذلك عام ألف وثلاثمائة وستة عشر ودفن هناك رحمه الله. وكانت وفاته عن نحو ثمانين سنة تقريباً. السيدة رقية بنت المرحوم الشيخ ابراهيم بن الشيخ مصطفى السعدي البرة التقية، الصالحة النقية، الزاهدة الصوامة، العابدة القوامة، المقبلة على صالح الأعمال، والمدبرة عن رذائل الأفعال والأقوال، وكان ذات سريرة صافية، ولطافة وافرة وافية، ولدت نحو ألف ومائتين وخمسين تقريباً، وتزوجت بصاحب التاريخ سنة ألف ومائتين وثمانين، ورزقت منه بأولاد لم يبق منهم سوى النجل الصالح السيد محمد سعدي أحسن الله حاله، وأنجح آماله، وكانت مواظبة على صيام رجب وشعبان، وعلى صيام الاثنين والخميس، وعلى صيام عشر محرم، وعشر ذي الحجة، مع المحافظة على فرائض صلواتها وسننها، إلى أن تمرضت بداء الإسهال، وماتت في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر. الشيخ راغب بن المرحوم الشيخ عبد الغني السادات الدمشقي إمام فقيه، وهمام نبيه، وفاضل نبيل، وكامل جليل، ولد سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً ومن حين صغره نشأ على التقوى، لأنها للوصول السبب الأقوى، وتعلم ما يرفع إلى المقام الأرفع، فتفقه على مذهب إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان، ثم دأب على طلب التوحيد والحديث وتفسير القرآن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وكان له في بقية العلوم يد طائلة، وفكرة في مناهج الصواب جائلة، فقرأ على أفاضل مصره، إلى أن صار من ذوي الفضائل في عصره. وله رسائل شريفة. وتقريرات لطيفة، واستظهارات حسنة، وأفكار مستحسنة، ومن رسائله التي نهجت منهج الصواب، وسلكت مسلك السداد بلا ارتياب، الرسالة التي رد بها على رسالة خالد أفندي الأتاسي الحمصي، وبيان ذلك أنه اتفق بعض المتأخرين من علماء السادة الحنفية على أن المرأة إذا ادعت بعد الدخول على زوجها بمقدم صداقها فلا تسمع دعواها، ومضى على ذلك مدة طويلة ضاع بها حقوق كثيرة. ثم أنه لما تولى إفتاء الشام محمود أفندي الحمزاوي، وجد أن هذا الإفتاء خارج عن الأصول، ولم يساعده معقول ولا منقول، فألف رسالة حقية، مطابقة للقواعد الشرعية المرعية، وصار يفتي عن هذه الدعوى بالسماع، من غير تأخر ولا امتناع، فلم يقدر أحد على مراجعته، إلى انتهاء مدته، وبعد وفاته، رد عليه عالم الديار الحمصية خالد أفندي الأتاسي جانحاً لعدم سماع الدعوى، وإعادة الناس إلى الوقوع في تلك البلوى، مع أنها زور وبهتان، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا جاء بها سنة ولا كتاب، ولا وجدنا لها في أدلة الشرع من باب، فتصدى له هذا الفاضل المترجم، ورد عليه رداً يبطل ما به فاه متكلم، بالأدلة الواضحة، والبراهين الراجحة، ثم أنه بعد إتمامها، وتكميل أرقامها، وعرضها على بعض الناس، وكتابتهم عليها بأنها حق بلا التباس، أرسلها إلى العاصمة الإسلامية، لكي تعرض على المشيخة العلية فبعد عرضها ومطالعتها مطالعة تحقيق، حازت على توقيع التصديق، بان ما اشتملت عليه، هو الذي يصار في الحكم إليه، فأحق الله الحق وأبطل الباطل، وذهبت زخرفة المزخرفين بلا طائل. هذا وإن المترجم المرقوم ذو أخلاق حميدة، وشمائل وحيدة، وكرم وكمال، وعفة وجمال، له في التجارة يد عالية، وهمة سامية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 فلا يتناول من أحد قليلاً، ولا حقيراً ولا جليلاً، بل ينفق على بيته وعائلته، مما يكتسب من تجارته، مع قيامه بوظيفة الإفادة، وإقراء الدروس حسب العادة، ولم يزل بحمد الله يحل المشكلات بفكره، ويعطر الصدور بنفثات صدره، ويفوف برود التحرير، ويظهر شموس التحبير في التقرير، ويروي الطالبين من بحر علمه، ويشنف آذانهم بفرائد فهمه. فلا يزال يعلو مقامه، ويسمو جاهه واحترامه، ويمنح الله به ذوي الطلب، كل ما راموه من علم وفهم وعرفان وأدب. آمين. حرف الزاي السيد زاهد أفندي بن السيد محمد نجيب بن موسى الحسيني العمري الشهير بالالثي أديب للبديع من القول منسوب، وأريب بألف من ذوي البدائع محسوب، وإن تكلم أزرى كلامه بعقود الجمان، أو تكمل قلت هذا ملك في صورة إنسان، تتستر الملاحة في غلائله، وتتقطر الرجاحة من شمائله، تمسح خلاله قذى العيون، فما تراه إلا وهي نقية الجفون، وطلعه كالروض صقلت يد الصبا ديباجة وجهه الوسيم، وتلقت النفوس قبوله تلقي النشوان برد النسيم، غرائب أحاديثه زاد النفوس وَقُرَطُ الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع، تفعل بالألباب فعل بنات الدنان، وما السحر لعمري إلا سحر ذلك البيان، فلله دره من همام وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في نقوش البراعة، قد اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من عالي الإرب إلى أقص حده، للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع، وله حسب طرَّزكُمّ الأحساب، ونسب تباهت بنسبته الأنساب، ألا وإن القلوب أجمع، قد جبلت على محبته، فلم يكن لها في سواه مطمع، فلذلك كان مقره من العين السواد، ومحله من القلب حبة الفؤاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 ولد في رجب الفرد، وكان الطالع طالع اليمن السعد، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، من هجرة سيد الخلق النبي الأمين، ونشأ في حجر والده فلما بلغ سن التمييز، أرسل به إلى المؤدب لتعلم القرآن العزيز، ثم بعد أن أتمه وأتقن آدابه، أخذ في إتقان الخط والكتابة، ثم أكب على الطلب والتحصيل، فلازم الأساتذة ملازمة المدلول الدليل، إلى أن بلغ مطلوبه، وحصل مراده ومرغوبه، من كل علم رفيع، وفن بديع: همام علا في الورى قدره ... إلى غاية جل أن توصفا فتىً قد تأثل من دوحة ... سمت في سما المجد والاصطفا وإن بيني وبينه من الوفاق، ما انعقد على إحكامه الاتفاق، ومن المخاطبات الرقيقة، والمراجعات الأنيقة، ما يزري بلطف النسيم، ويشغل الصب عن الوسيم، ولا يستغرب ما بيننا من كامل المحبة والوداد، لأن هذا الاتفاق موروث عن الآباء والأجداد، وإنه له نظم رقيق، ونثر بديع أنيق، وحافظة تميل إلى الصواب، ولافظة أعذب من عود الشيوخ إلى الشباب، وقد حضر شيوخ عصره، الكائنين في بلدته ومصره، كالشيخ هاشم البعلي، والشيخ عبد الله الحلبي، والشيخ محمد الطنطاوي، وتفقه في مذهب الإمام أبي حنيفة، وجلس في نيابة محاكم الشام الشرعية مدة طويلة، وجلس في محكمة الباب باشكاتب القسمة. وفي عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر توجه إلى محروسة الآستانة ونزل عند الشهم المحترم أحمد عزت بك بن المرحوم هولو باشا، وكان وقتئذ الكاتب الثاني في المابين ومبلغ الإرادة السلطانية، فاجله واحترمه لصداقة قديمة بينهما، ومكث عنده نحواً من ستة أشهر على الرحب والسعة، واستحصل له في هذه المدة على معاش كل شهر عشر ليرات عثمانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وعلى نيابة قضاء دوما. وغب حضوره إلى الشام ذهب إلى محل نيابته، وذلك في غرة جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة، وكان في مدة نيابته حسن السيرة، ممدوح السريرة، لم يسمع عنه ميل إلى باطل، ولا تفرقة في الحق ما بين عالم وجاهل، ولا رشوة وإن جل قدرها، ولا تعصب لقضية وإن كان من الأعاظم أهلها، وكان يهوى قبل المرافعة إجراء المصالحة، وعدم المشاحنة والمشاححة، فإذا لم يتمكن بذل وسعه في مصادقة الحق ومجانبة الباطل، ولا يحكم إلا بعد النظر والتحري ومراجعة كتب الأفاضل، وعلى كل حال فمناقبه كثيرة، وبدائهه وبدائعه شهيرة، بأنواع المديح جديرة، ثم أنه بعد تمام نيابته في دوما جلس عضواً في مجلس استئناف الجزاء في العادلية، وفي أثنائها ذهب إلى الآستانة فوجهت عليه نيابة بعلبك، ولم يمض عليه بها مدة إلا ومرض فحضر إلى الشام ولم يزل مريضاً إلى أن اختارته المنية في شعبان سنة ألف وثلاثمائة وعشرين ودفن في تربة باب الصغير رحمه الله تعالى. الشيخ زين العابدين بن جمل الليل المدني أبو عبد الرحمن بن السيد باحسن جمل الليل المحدث الفقيه، والمتفنن النبيه، صاحب الشهرة العالية، والسيرة الحسنة النامية، والمآثر اللطيفة، والمحامد الشريفة، فخر العلاء، وصدر الفضلاء، ولد في المدينة المنورة ونشأ بها، وأخذ عن والده وتكمل على يديه، وألقت رئاسة العلوم في المدينة مفاتحها إليه، وقرأ على غير والده من الأفاضل، من جملتهم محمد بن سليمان، ودخل مصر، وزبيد للرواية عن كل فاضل مفيد، ولما دخل الوهابية الحرمين، فر، ودخل العراقين، فروى عنه أجلة علماء بغداد، رغبة منهم بعلو الإسناد، وقرأ صحيح البخاري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 في مجمع حافل، فلم يدع مقالاُ لقائل أو ناقل، وكان له من الطاعة والتقوى والعبادة والزهد ما جعله معدوداً من الأوائل، مات رضي الله عنه سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، ودفن في المدينة المنورة مدفن أسلافه، وله مؤلفات بديعة، وخدمة عالية لكتب الدين والشريعة، من جملة مؤلفاته كتاب في المشتهر والمفترق، وله مختصر المنهج لشيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري الشافعي، وقد شرحه أيضاً شرحاً مفيداً، وله كتب كثيرة ورسائل شهيرة، نفعنا الله به آمين، وقد ترجمه صاحب اللآلئ الثمينة، في أعيان المدينة، فقال: ذو بديهة وروية، وسليقة مرضية، كأنها السحاب الرجاف، والغيث الوكاف، ارتدى من المكارم بحلل، وحظي من المحامد بجمل، فغرته كالهلال إضاءة وإشراقاً، ومحياه كالزهر بشاشة والزهر ائتلافاً، وكلامه كالعسجد طلاوة، والشهد حلاوة، والقطر جزالة، ترتشف الأسماع زلاله، وقد برع بنظم حسن المعاني، وبديع المباني، نظماً عليه رونق الفصاحة، وفرند الملاحة، يقطر كالمزن، بودق الحسن، كأنها الشفاه اللعس، أو تفتير العيون النعس، أو الخدود البضة، وقد ازدهرت بالورود الغضة، فمن ذلك النظم الزاهي الزاهر، والشعر الباهي الباهر، وقوله مجيباً بجواب، كأنه في كاس اللطافة حباب، وفي روض الحسن زهر مستطاب: أغادة من خود حور الجنان ... تتيه إن ماست فتسبي الجَنان أم بكر فكر من خدور النهى ... زفت بقينات بديع المعان فاقت على أترابها مذ غدت ... فريدة الحسن رداحا حصان أم راح ألفاظ حلا رشفها ... من كف ممشوق رطيب البنان راقت ورقت فرقى هامها ... تاج حباب فاق حبّ الجمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 ختامها مسك وممزوجة ... بشهد ريق من رحيق اللسان فتارة يسقيك خمر اللما ... وتارة يعطيك بنت الدنان حبابها مع لونها شاكلا ... وجنته مع در فيه المصان قد أسرت عقل أهيل الحجا ... وأمسكت من كل لب عنان أم أنجم لاحت بطرس أضا ... كبدر صيف مذ وفى واستبان أم ذي عقود من لآل حلت ... قد صاغها الندب بديع الزمان أم روضة غناء عنى على ... أفنانها طير الهنا والتهان أم نسمة الروض سرت سحرة ... ففاح منها عرف روح الجنان تحكي لنا باللطف أخلاق من ... حاز المعاني فرد هذا الأوان الكامل الشهم سراج الهدى ... خدين فخر العلم رب البيان أنواره مذ سطعت أخجلت ... زهر الربا وانكسف النيِّران نجل ذوي الفضل الألى شيدوا ... بيوت عز دونها الفرقدان شيخ أولي الحذق ربيب الذكا ... رضيع البان الفخار المصان أبدى لنا من بحر إبداعه ... دراً نظيماً راق معنى وزان نثراً ونظماً قد زهى لفظه ... لله ما أحسن هذا القران كم منة قلدنيها وما ... في ساحة الفضل أرى لي مكان لكنه من محض أفضاله ... يقلد الأجياد عقد امتنان فيا رفيع القدر عفواً فما ... أحصي الثنا لو قلت طول الزمان زففت لي مثرية قد حوت ... حر القوافي ورقيق المعان ولست كفواً أن أرى عبدها ... إذ هي بلقيس الغواني الحسان فهاك من خل قصيداً أتى ... شتيت نظم بسناك استعان ودم سليما راقياً رافلاً ... في ثوب عز مائساً في أمان ما ميل الأعطاف نشر الصبا ... وهيمنت ورق على غصن بان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 وهذه القصيدة جواب عن قصيدة العلامة عمر بن عبد السلام الداغستاني قرظ بها نظم قصيدة طويلة للمترجم وقصيدة الداغستاني المرقوم هي: لله ما أحسن هذا الجمان ... قد أخجل الدار بحسن البيان نظم بديع قد حلا لفظه ... ويسكر السمع كبنت الدنان له قواف راق إبداعها ... كعقد أجياد الغواني الحسان مسبوكة في قالب اللطف بل ... منظومة في سلك حسن المعان كالأنجم الزهر بأفق البها ... بل أنه الزهر بوسط الجنان بل درر أبرزها الحذق من ... أصداف أفكار بديع الزمان الفاضل الجحجاح مولى الندا ... الكامل الندب الفضيل المصان مولى سما في أفق المجد بل ... فاز من السعد بأعلى مكان حسيب أصل بل نسيب علا ... تالله ما أشرف هذا القران رب المعالي والسجايا التي ... يجز عن حصر حلاها اللسان زين ذوي الفضل الذي خصه ... مولاه من إحسانه بامتنان رفيع قدر منتقى ماجد ... ينزل عن عليائه الفرقدان فاق على أقرانه رتبة ... وصار فيهم ذا فخار وشان له ذكاء مثل نهر وقد ... أرخى له نظم القوافي العنان يا أيها المولى الذي وصفه ... يضوع مثل المسك بالزعفران أقبل بعذر من محب وفى ... نظماً حكى الطل على الأقحوان أو حب مزن أو نسيم الصبا ... إذ هبَّ فارتاح إليه الجنان ودم بعون اله في عزة ... ممتعاً في ظل دوح التهان وله قصائد عديدة، وتأليفات وتقييدات مفيدة، وقد تقدم أنه توفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة في المدينة المنورة ودفن في مدفن أسلافه رضي الله عنه وعنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 زين العابدين بن محمد بن زين العابدين رحمه الله تعالى، قد نظمه سلك عقود اللآلئ الثمينة، في أعيان شعراء المدينة، وترجمه جامعها فقال: خليفة سلفه علماً وفضلاً، وذكاءً ونبلاً، وارتفاعاً في سماء المجد وعلواً، وهمة في اكتساب الفضائل منحته سمواً، فهو فرع لحق في الفخار أصله، واتخذ عند محلِّ علاهم محله، بجد ساعده حظه وجده، وتهلل له مبتسماً بثغر القبول سعده، فوفود الإقبال مستكنة لديه، ومخايل العز لا تزال لائحة عليه، وأدبه الأزهر، أشهر من أن يذكر، فكم له من خطب أنشأها، وبلطائف البديع وشاها، أحسن من الحلل المطرزة رونقاً، وأبهج من سبيك العسجد إذا لاح مؤنقاً، تعشقها الخواطر، وتتنزه في حسنها الضمائر، وأما نظمه فهو الروض البديع، وقد وافاه زمن الربيع، فضحكت فيه أنواع الأزهار، المكللة بلآلي نثار الأمطار، والنسيم وافاها عليلاً، وجر عليها ذيلاً بليلاً، فمن ذلك قوله مجيباً صاحب اللآلي: لاحت كبدر لاح تحت الحندس ... وسرت بقد بالغدائر مكتسي وتبسمت عن عقد جوهر ثغرها ... وتنسمت عن طيب عرف أنفس وجلت لنا من أوج أفق جبينها ... صبحاً تنفس عن دجى متعسعس وبدا لنا في روض وجنة خدها ... فياح نبر خالها في الحرس وغدت تذود عن الخدود لحاظها ... فحمت ورود حياض تلك الكنس وبرت بصارم أنفها مهج الورى ... وبرت بماء رضابها للأنفس وحقاق فيها فتحت عن لؤلؤ ... في سلك مرجان المباسم منتسي لله مبسمها الشهي إذا غدا ... متبسماً كالصبح حين تنفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 والجيد قد فضح الغزالة لفتة ... ما قرها تحكيه غير تهجس والصدر متسع بكل فضيلة ... تكبو صوافن خصرها بتقعس والكف أهطل من سحاب سخاوة ... والجسم أرطب من برود السندس والخصر أوهن من قوام محبها ... والساق أصفى من زجاج الأكؤس مذ ماس بان قوامها في كُثبه ... أزرى بزانة كل ليث ملبس شبهت طلعة وجهها في حسنها ... بدراً بدا في أوج غصن أملس لله زائر طيفها من زائر ... وافى يدير لي السلاف فأحتسي وأبوح من سكري بسر قد سرى ... في سر سرى للسري الأكيس شمس المعارف بدر كل فضيلة ... رب النهى الفهامة المتفرس نجم العوارف روض كل لطافة ... حاوي التحائف بل وخير مدرس أكرم به من فاضل متفنن ... جمع البراعة واليراعة والقسي شهم يفوق على الغمام نواله ... ويروق للرائين منظره الوسي فرع لا برك دوحة محمودة ... زرع نما في سوح زاكي المغرس غطريف أهل المجد بل خطريفهم ... جحجاح قوم السعد بدر الأطلس شحشاح فتيان للقريض سراجهم ... مصباح فتيات النثير الخُنَّس لا زال للفضلاء يعذب مدحه ... ويطول شامخ فضله المتأسس وعلى جميع ذويه يعلو قدره ... ويفيض نهر كماله المتبجس ما عاهد الغيداق نافح روضة ... صبحاً فكللها بدر أنفس أو ثغر زهر الروض يرشف بكرة ... ريق الغوادي الضاحكات النعَّس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 عن قوله سلب العقول بتم حسن أنفس ... رشأ بسيف الجفن مردي الأنفس رشقت لواحظه السهام بمهجتي ... أو ما ترى تلك الحواجب كالقِسي ماست معاطفه فخلت قوامها ... غصناً يفوق على القنا والمدعس وغدا بلا شك بخنجر أنفه ... يفري الحشايا صاح والقلب القسي أحببْ به بدراً ربيع محاسن ... روض الجمال غدا بغير تلبس سقيت بماء الحسن وردة خده ... واخضر شاربه كزئبر سندس لو لم يكن جمع الزهور بهاؤه ... ما كنت تبصر عينه كالنرجس كالأُقحوان ترى ثناياه إذا ... ما لاح مبتسماً بثغر ألعس بل أنها تحكي لسمْط لآلئ ... تحت العقيق من الشفاه اللعس فيه المعتق من شهي رضابه ... يا بخت صب من طلاه يحتسي حاز التقابل في الجمال فوجهه ... صبح وذاك الشعر حالك حندس كالماء والنيران دارة صدغه ... فاقتبس ورد باللحظ أو بتهجس كالظبي خلقا والهزبر سطاوة ... باللحظ يفرس كل أحوس حلبس لله ليلة جمعنا في السفح إذ ... نلنا المرام وبغية المتملس مع ذلك النفار عن وصلي وقد ... أمسى يطارحنا بلفظ مونس والليل قد ألقى سجوف ظلامه ... ونجومه ترنو كأعين حرس فظللت أحسو خندريس وصاله ... حتى أضاء الصبح حين تنفس كضياء مولينا أخي الفخر الذي ... بمطارف المجد المؤئل مكتسي زين الأفاضل بل فريدة عقدهم ... بل در تيجان العلا والقونس قرم غدت مثل الكواكب خيمه ... وغدا كمثل البدر فوق الأطلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 السعد خادم فضله السامي وما ... أحجاه يخدم بالجواري الكنَّس متبوِّئٍ من قمة العليا على ... فلك أشم من المعالي أقعس روض لأصناف المحامد والثنا ... فرع عليِّ الأصل زاكي المغرس مولى غدا يحسو بعزم علاه من ... خرس المعارف مفعمات الأكؤس يا أيها المولى الهمي بيانه ... كالغيث حين تهمع وتبجس انعشت قلبي من نظام فائق ... وجلوت عنه كل هم موئِس كالزهرغب القطر كلله الندى ... أو كالحلي إذا بدا بتهسهس فسعيت نحو إشارة فيه بدت ... كيما أنال بسعدكم لتأنس فاقبل نميقة مشغل ما نمقت ... لكن بكم تزهو بأفخر ملبس لا زلت ترفل في برود معزة ... سامي الرحاب مدى سجيس الأوجس وله من أخرى: فتكت بسيف الغنج مهجة صبها ... وبأسمري القد جسم محبها وتدرعت حقاً بثوب جمالها ... فاستأثرت أسد الشراء بعضبها برزت بميدان التفاخر طفلة ... فالقرم بدد من أسنة هدبها وبدت بإيوان التغزل ظبية ... فتحجبت منها الشموس بحجبها سفرت خمار الأنس عن ذاك السنا ... فتكورت شمس الدنا في غربها كشفت عن الراحات قلت مشبهاً ... بدر الحوالك قد بدت من سحبها وجلت لنا كأس المحبة والهنا ... وملته راحاً من معتق شربها وشدت بألحان الرباب وزينب ... وبثينة العشاق نخبة سربها فسكرت من ذاك المدام فلا أعي ... وطربت من ذكر الرباب وقربها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 وله من أخرى أرى القلب مغرى وغرماً بالتغزل ... حليف جوى يصبو إلى كل عَيْطلِ يسامر زهر الليل يشكو لها الذي ... يقاسيه في ذاك الجمال المكلل وينشد عن ليلى ولبنى وزينب ... وينعم مع هند ويصبو لمنزل فليلى سويد القلب حلت وغيرها ... رسوم وأسماء تزال بمعول فشاهد سنا ليلى فضوء جبينها ... هلال يعيد الوجد بعد التنصل وحاجبها قوس أراش لأسهم ... أصابت فؤاد الواله المتعلل وأعينها حور حُمين بِبُتَّرٍ ... وهاروتها بالسحر قد صار مخبلي ومسند جنح الجند مرسل أدمعي ... ومقطوع صبري في الهوى لم يوصل زكافور خديها تنفس فجره ... بعنبر خيلان يفوح كمندل ومبسمها الزهري أشرق نوره ... على شفق يبدو بذاك المقبل ومرشفه راح ببابل صنعه ... فمن ذاق منه رشفة لم يعلل وجيد لها يحكي الغزالة صوره ... وما قدرها تحكيه غير تخيل وراحات أيديها كبدر دجنة ... وصدر كقرص الشمس في حين ينجلي فدائي هواها والدواء وصالها ... وحالي لا يخفى على المتأمل انتهى. إن هذا المترجم قد مات في القرن الثالث عشر ولم أقف على تعيين تاريخ موته رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 حرف السين المهملة القاضي سالم بن محمد الدرمكي من علماء البحرين وعمان أديب هو في وجه الزمان غرة، وأريب ليس للزمان منه سوى الجمال والمسرة، قد امتطى متن البديع والبيان، وركب ظهر البحرين وعمان، وقد ترجمه أحمد بن محمد الأنصاري فقال ما ملخصه: القول فيه أنه أشعر أهل مصره، وخاتمة بلغاء قطره، مَلَكَ أزمة البراعة واللسن، وظفر بكل معنى برائق حسن، اجتمعت به غير مرة لاستنشاق أرج أنفاسه، في خميلة أرض هي مسقط رأسه، فوجدته سالماً من الفظاظة كاسمه، متحلياً بحلية الفضل اللامع، نوره من محاسن نثره ونظمه، فمن لطائفه قوله م قصيدة أرسل بها إليَّ متشوقاً وأنا إذ ذاك باليمن الميمون: فيا أبيض الأخلاق والوجه أنا مذ ... تناءيتَ أيامي غدت كلُها سودا ولا زلت أن اتهمت يهوى تهامة ... فؤادي وإن أنجدت يوماً هوى نجدا فمهما تسر يشفعك قلبي أينما ... توجهت لا تسعى إلى وجهة فردا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وذكرك في قلبي يلذ وفي فمي ... كأني أحسو من تذكرك الشهدا نأيت فعن جفني نأى بعدك الكرى ... فهل كنتما وكلتما للنوى وعدا فيا أحمد المحمود طبعاً إلى متى ... بافعالك الحسنى تعلمني الحمدا لقد ند عنك السوء يا ابن محمد ... ودمت كريماً لا تصيب له ندا وقوله في ذكر المحبوب عند الشدة والكروب: ولقد ذكرتك يا بثينة في السفر ... والفلك في البحر المحيط قد انكسر والموج من طوفانه متلاطم ... والموت للأنياب منه قد كشر والناس قد غرقوا معاً إلا أنا ... أرجو الحمام تجاه وجهي ما استتر وبقيت في لوح غريق كله ... والماء لي كلي إلى رأسي غمر ومكثت حيناً من طعام معدماً ... فيه وتذكاري يقوم به الذكر ويعحبني قوله من قصيدة مدح بها السيد النبيل، محمد بن خلفان الوكيل، عليهما رحمة الملك الجليل: نفسي فدى الإلف الذي صار بي ... براً وما عاينت منه جفا شمائل راقت ورقت له ... فمنه ما أحلى وما ألطفا كأنه في حسن أخلاقه ... لنجل خلفان الوكيل اقتفى محمد مَن ما هفا قلبه ... لريبة قط وعنها هفا لم يك بالمخلف عهداً ولا ... كل امرئ فوه يُرى مخلفا يجود بالمال ويسطو فكم ... أمن من قوم وكم خوفا وما أتاه مذنب تائباً ... يطلب منه العفو إلاَّ عفا وما شدد الدهر على شيعة ... إلاَّ عليهم جوده خففا وبالندى منه يوفيهم ... إذا رأى الدهر لهم طففا إذا قضى أو جاد أو صال أو ... قال حكى في فعله المصطفى يصلح ما اختل بتدبيره ... مارتقت دنياه إلاَّ رفا توفي رحمه الله عام ألف ومائتين وبضعة عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 الإمام الأمجد سعيد بن الإمام أحمد البوسعيدي من علماء عمان والبحرين قال صاحب الحديقة: ماذا أقول فيمن تفرع من جرثومة السيادة، وترعرع في رياض الحبور والسعادة، وتتوج بتاج العز الزهر، وحظي في دهره بالعيان الأخضر، وتطاول نواله، واتسع في الفضل مجاله: كانت الألسن عن أوصافه ... وغدا المدح به مفتخرا فمن لطائفه، وبديع طرائفه، ما كتبه إلى أخيه الهمام سلطان ابن أحمد الإمام: إذا شحت الخضراء بالوبل فالتمس ... تجد جود سلطان على الناس كالمطر فإن عز مطلوبي فليس شماتة ... وإن حصل المطلوب فالفوز بالظفر وقوله يرثي ولده السيد حمد رحمه الله تعالى: وافى حمامك يا حبيبي بالعجل ... نار تلهب في ضميري تشتعل يا من له شرف وفضل في الورى ... أمسى وحيداً مفرداً دون الأهل الله أكبر من مصاب عمنا ... هماً وغماً لا يبيد ولا يفل حمد حوى المجد الشريف تغيرت ... أيامه قد كان يضرب بالمثل صبراً لأولاد الإمام ومن لهم ... من أخوة وأقارب فيما نزل لا غرو هذا قد أتى خير الورى ... لم تمنع الأموال عنه ولا الدول وقوله رحمه الله: لهفي على زمن مضى ... ما ذقت أحلى منه شي لما ذكرت عهوده ... جرت الدموع وقلت أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وله قصائد كثيرة، وأبيات شهيرة، وأوصاف ممدوحة، وشمائل مشروحة. رحمه الله تعالى. الشيخ سعيد بن المرحوم محمد الغبرة كان رجلاً يغلب عليه الصلاح، واقتفاء آثار ذوي النجاح، وطلب العلم في أول أمره إلى أن صار له ملكة وإلْمامٌ نوعاً ما، ولكنها لعدم كمال إقباله ما تَمَّا، واخذ الطريقة الصاوية الدرديرية، وكان يقيم الذكر في الجقمقية شمالي جامع بني أمية، وصار عنده جمعية كبرى، وحصل له قبول عند الناس إلى أن استحصل التولية على أوقاف المدرسة المرقومة، فأقبل على الدنيا بجده واجتهاده، ففتر أمره وتنزل قدره، وكان يقرأ درس وعظ بجامع بني أمية فكان يحضره الغرباء، وكان له جسارة في الأمور ودأب عظيم، وكان يخيل له أنه من كبار العلماء المدرسين وفي آخر أمره ذهب إلى عكة وأخذ طريق الشاذلية عن الشيخ علي اليشرطي، بعد ان كان منكراً على هذا الطريق وأهله. وقد توفي هذا المترجم في الحمام فجأة سنة ألف وثلاثمائة ونيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 السيد سعيد أفندي ابن الشهاب أحمد الأيوبي الأنصاري رئيس الكتاب بمحكمة الباب كان شهماً أديباً، وكاملاً لبيباً، ذا سيرة جميلة، وسريرة جليلة، وشمائل حسنة، وفضائل مستحسنة. ولد بدمشق الشام سنة أربعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وقرأ القرآن وأتقنه، ثم حضر دروس الأفاضل الأعلام، إلى أن بلغ المأمول والمرام، وأحسن صنعة الكتابة، وكان ذا تؤدة في أموره لا يعرف حماقة ولا طيشاً، وتولى رئاسة الكتاب في محكمة الباب، وحصلت له شهرة عظيمة، وسيرة وافية جسيمة ولم يزل يتفوق مقامه، ويمازج القلوب احترامه، إلى أن دعاه الحمام إلى دار المقام، سنة ست وثلاثين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير. الشيخ محمد الشيرازي هو من رجال الحديقة، بل هو فردها في المجاز والحقيقة، قال في ترجمته، لكي يبدي لنا شمس معرفته: سعيد الحظ والطالع، لا فرق بين وضاءة سعده وبهاء البدر الساطع، نبغ في جنة المعارف شيراز، فظفر من ظهوره كل طالب بلطائف الأدب، وفاز، له النظم الحسن والنثر الذي دل على أنه ذو بلاغة ولسن، ديوان شعره الفارسي بستان، وبيان نظامه العربي حديقة ورد وريحان، فمن ظريف نظمه قوله: فاح نشر الحمى وهب النسيم ... وتراني من فرط وجدي أهيم إن ليل الوصال صبح منير ... ونهار الفراق ليل بهيم ووداع الحبيب خطَب جزيل ... وفراق الأنيس داء أليم فتن العابدين صدرٌ وسيم ... آه لو كان فيه قلب رحيم يا وحيد الجمال إني وحيد ... يا عديم المثال قلبي كليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 سلوتي عنكم احتمال بعيد ... وافتضاحي بكم ضلال قديم معشر اللائمين فيما جهلتم ... لو رأيتم جماله لم تلوموا إن نار الهوى لدى كل صب ... مع ذكر الحبيب روض نعيم كل من يدعي المحبة فيكم ... ثم يخشى الملام فهو مليم وما أحلى قوله: يا نديمي قم ونبه ... واسقني واسق الندامى خلني أسهر ليلي ... ودع الناس نياما اسقياني وهدير الرعد قد أبكى الغماما في زمان سجع الطير على الغصن وحاما وأوان كشف الور ... د عن الوجه اللثاما أيها المصغي إلى الزهاد دع عنك الملاما فز بها من قبل أن يجعلك الدهر عظاما قل لمن عير أهل الحب بالجهل ولاما لا عرفت الحب هيهات ولا ذقت الغراما لا تلمني في غلام ... أودع القلب سقاما فبداء الحب كم من ... سيد أضحى غلاما انتهى. فهذا المترجم قد طار ذكره وفاق، وانعقد على انفراده في بلاده الاتفاق، قد قصده الطلاب من الأقطار، ونحاه الرغاب لما يعلمون لديه من بديع الأوطار. قد أخذ عن العلماء الأفاضل، إلى أن امتاز بالفضائل والفواضل، فدرس وأفاد، وجاد، وأجاد، وأظهر من المعارف التحقيقية ما لم يكن على بال، وبهر في فنونه التدقيقية من بحر ذهنه السيال: فكأنما هو روضة ... تهتز في يوم مطير أزهارها ككواكب ... قد زينت فلك الأثير علامة لم يلق في ... هذا الزمان له نظير إن جال في التفسير فالتفسير أعسره يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 أو قرر الأحكام من ... فقه تفقهها الكثير وإن انتحى للنحو وضحه بتسهيل العسير وإليه في فن البلا ... غة كل مسؤل يشير وإذ تعانى الشعر قلت أذا الفرزدق أم جرير والحاصل أنه فرد عصره، وزينة قطره ومصره. توفي رحمه الله تعالى في شيراز سنة ألف وزيادة عن المائتين. السيد سعيد بن قاسم بن صالح بن اسماعيل بن أبي بكر القاسمي الشهير بالحلاق الدمشقي الشافعي سلالة مجد أشرقت أنواره، ونفحت في رياض الأدب أنواره، فصيح ألبسه المولى حلة الكمال، وبليغ نسج القريض على أبدع منوال، فأخذ برقاب القوافي، وورد منها المنهل الصافي، فحاول رقيقه وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله، بنظر نقاد، وخاطر وقاد، يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان، يترقرق به ما الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع، مع حسن المحاضرة، ولطف المذاكرة، فلا جرم قد طابق اسمه مسماه، وكاد أن ينطق بلفظه معناه، ولد في دمشق الشام، في أوائل المحرم الحرام، عام تسعة وخمسين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده بركة عصره، وفقيه قطره، فتأدب بفضائله وتهذيبه، وكساه من الفنون الرداء المذهب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى نبل وشدا، وبلغ في المعارف الندى، ولما توفي والده عام أربعة وثمانين ومائتين وألف قام مقامه في إمامة جامع السنانية، وإحياء دروسه الليلية والنهارية، وله أخذ وسماع وتحصيل، عن غير والده الجليل، من أساتذة محققين، وأفاضل كاملين، منهم الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 محمد الطنطاوي والشيخ سليم العطار والشيخ محمد المنير والشيخ عمر العطار وغيرهم بواهم الله دار السلام. واجتمع بفضلاء الحرمين الشريفين وبيت المقدس الشريف عام زيارته لهما سنة إحدى وثلاثمائة وألف. وله إقبال عظيم على شانه، وانزواء شديد عن أكابر زمانه، والقلوب على مودته متطابقة، والألسن بالثناء عليه ناطقة، وله مصتفات أدبية، ومجموعات بهية، منها بدائع الغرف، في الصنائع والحرف، ومنها الثغر الباسم، في ترجمة والده الشيخ قاسم، ومنها سفينة الفرج، فيما هب ودب ودرج، ومنها ديوان شعر لطيف جمع فيه جملة من درره، وشذرة من محاسن غرره، وأكثر ن ابتكار النوادر، وتلطف في المجون بكل معنى بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 نادر، راضياً بعفو الطبع، وما يخف على السمع، فمن لؤلؤه الرطب، ورشح قلمه العذب، قوله مطلع قصيدة متغزلاً: أما وعيون فاتكات فواتر ... فعلن كأفعال المواضي البواتر وصبح جبين فوق بدر يزينه ... شقائق ورد بين ليل الغدائر وعنبر خال حول ثغر مدامة ... حماه ورود الرشف سيف المحاجر وبلور جيد إن تنازل ريقه ... يريك بريقاً من خلال الحناجر ورقة خصر فوق طود كثيبة ... تميد بموج فوق بحر الجزائر وخطيّ قدّ كم ترى عند هزه ... طريح غرام لا جريح خناجر وهيكل جسم إن تراءى لناظر ... فما هو إلا قطعة من جواهر بأن الهوى مني وإني من الهوى ... وإن هيولى العشق سار بسائري ومن منظوماته الحماسية قوله من أبيات: شموس الرضا دوما علينا بوازغ ... وآلاءُ ستر الله فينا سوابغ وفي يدنا اليمنى غدا اليمن مغدقا ... بشعر وآداب فنحن النوابغ لنا في العلا نفس تعز بربها ... وقلب بغير الفكر والشكر فارغ وقال في مدح دمر: يا صاح إن رمت المسير لمنزه ... فاقصد بسيرك نحو روضة دمر فهواؤها محيي الجنان وأرضها ... مثل الجنان وماؤها كالكوثر ومن لطائفه قوله: ذهب الربيع بورده وبلينه ... وأتى الشتاء ببرده وبطينه أما الفقير ففي الشتاء هلاكه ... من همه في فحمه وعجينه وبسقف بيت عياله من دلفه ... وبرجفه من برده وأنينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 وقال في باب التوكل: كل من يبغي سوى المولى نقص ... واعتراه من ذوي الدنيا غصص وإذا أمل منهم حاجة ... نغص المسؤول عنها ونكص مكفهر الوجه لو أبصرته ... قلت من أين له داء البرص وعلى السائل فرضا لو سخا ... مرة ألقاه في ذل القفص فاترك العالم طرا ثم سل ... ملكاً يرغب أن تؤتى الرخص منعماً براً كريماً رازقاً ... ليس يرضى عن عبيد قد حرص عالماً أجمال أحوال الورى ... فهو ادرى في تفاصيل القصص وقال لبعض الشؤون: نظر الزمان إليَّ من طرف قذي ... يوماً فقلت منادياً من منقذي فنظرت من كل الجهات فلم أجد ... خلاً يغيث فقلت غب تعوذي بالأمس لا يحصون أحبابي فهل ... محقوا بريح أصفر مستحوذ أم هل تواروا في قبور بيوتهم ... سحقاً لهم من ذلك الفعل البذي أين المودة والإخاء والاصطفا ... بل أين مَنْ مِنْ خير ثدي قد غذي صدق اللبيب الشاعر الفطن الذي ... قد قال هذا البيت بالمعنى الذي ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد القنفذ ومن لطائفه قصيدتان نظمهما في عام تأخر برده عن وقته المعتاد صاغ الأولى في قالب السؤال من فصل الشتاء والثانية في جوابه واعتذاره المتضمن وعظ الموسرين ليتفقدوا أولي الفاقة. أما الأولى فهي قوله: ما بال بردك ياشتاء تأخرا ... وبريق برقك خلب لن يمطرا أقبلت يا فصل الشتاء ولم نجد ... من ماء مزنك قطرة بلت ثرى فصل كأيام الحسوم يجيئنا ... فالآن في أبداننا ما أثرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 ما هكذا قد كنت تأتي للورى ... فارحم جشا بلظى هواك تسعرا وإذا سألتك أن أراك حقيقة ... فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى أين الرياح العاصفات بفصله ... لا تبقي في الأشجار عرقاً أخضرا أين الجليد مجمدّ الأرض الذي ... مثل الزجاج تخاله متصورا أين الصقيع المقصم الظهر الذي ... ترك الفتى من رجفه متحيرا أين الضباب المظلم الجو الذي ... بظلامه يحكي قتاماً أغبرا أين اسوداد الجوِّ أين عبوسه ... أين الغمام وغمه ومتى سرى أين الزيادة في المياه إذا أتت ... تحكي لنا في اللون طيناً أحمرا بل أين برد الزمهرير ولسعه ... للوجه لكن يستخير المنخرا أين الرعود المزعجات بصوتها ... كمدافع يضربن جواً أقفرا فإذا رأيت رأيت برداً خاطفاً ... وإذا سمعت سمعت صوتاً منكرا أسفي لثلجك يا شتاء فإنه ... قد كان يبني أذرعاً أو أكثرا أسفي على البَرَد الكبير وطبّه ... مذ كان ينزل جامداً مستحجرا أسفي علينا ما رأت أبداننا ... برداً به نلتذ في لبس الفرا فإلى متى والصحو عمَّ سماءنا ... والشمس في إشراقها لن تسترا وبيوتنا أبوابها مفتوحة ... فكأن حرَّ الصيف لن يتغيرا وننام لا مزَّملين بثوبنا ... كلا ولا احتجنا لآن نتدثرا وسقوفنا جفت وقد كانت لنا ... يبكي بدمع الدلف ماء أصفرا أسفي على يبس الميازيب التي ... طول الشتاء تصب ماء أغبرا أسفي على تلك البلاليع التي ... كانت تسد بما يحاكي الأبحرا أسفي على تلك المناقل لم تذق ... في صفوة فحماً وجمراً أحمرا أسفي على تلك البرادي وهي في ... أجداثها ملفوفة لن تنشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 أسفي على الأوحال في الطرقات إذ ... يبست وآن لها بأن تتخمرا ومتى نرى الإنسان يمشي فوقها ... يغدو ويرجع خائضاً ومشمرا ومزركشاً من طينها ومطرزا ... ومدبجاً من فرقه وإلى ورا وبنعله قد شال من أوحالها ... أرطال طين كاد يحني الأظهرا فلطالما قد قيل أيام الشتا ... زلق الحمار بوحلة فتفطرا والناس يصطرخون هل من منقذ ... غرق الحمار بحمله وتكسرا أسفي على الحمال لو أبصرته ... لرحمته لما بكى وتحسرا فإلى متى لا تحمل العكاز بل ... لا يلبس القبقاب بل لا يشترى ومتى نرى سطح السقوف مكلساً ... ومخمراً بالثلج أبيض نيرا لو أنني جمعته وخزنته ... للصيف كنت عملت منه متجرا فبمثل هذا الحال كان شتاؤنا ... أفلا يحق عليه أن نتقهرا يا أجرد الكانون جئت معاكساً ... تدع الغصون ونحن ننبذ بالعرا وكذا الأصم أخوه لا يبغي بأن ... ننطم في وسط البيوت ونقبرا لو كان يسمع لا يضن ببرده ... لكن أصم فليس يسمع ما جرى فعسى بآذار يجود بمالنا ... قد ضن فيه شتاؤنا إن أدبرا وقال في القصيدة الثانية التي وقعت جواباً على لسان حاله فهي: يا من تكلم في الشتاء بما درى ... ورأى بأن البرد فيه تأخرا برد الشتاء لقد تحول عنكمو ... وأظنه قد ضل في إحدى القرى جوبوا البلاد لعلكم تجدونه ... في قارة قد قرَّ فيها أو سرى إن لم تروه بها فجدوا خلفه ... فلعله في حمص زار وزمهرا أم في حماة أتى إليها يحتمي ... فعصى بعاصي نهرها وتسترا أم راح نحو مدينة الشهباء أم ... رام الإقامة في ذرى أم القرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 ليريحهم من حرها في برده ... ويزمل الأبدان منهم بالفرا أم أمَّ نحو الروم وهي بلاده ... منها نشا وبها استقر بلا امترا فهناك تلقون الشتاء وبرده ... يمشي بمسقط رأسه متبخترا وترون ما تبغون من آفاته ... وزيادة مما يقص الأظهرا فإذا سمعتم أنه في بلدة ... ورأيتموه جامحاً مستنفرا قولوا له يا ابن الحلال إلى متى ... ما آن أن تأتي وتنظر ما جرى بينا نطوف لعلنا نحظى به ... في بعض تلك المدن أو بعض القرى وإذا به بين الجبال مخيم ... إذ لا أنيس له هناك من الورى قلنا له: يا بارداً في طبعه ... لكن قطر نداك يحكي السكرا أنت الذي عاهدتنا من أدم ... والعهد منك على المدى لن يخفرا تأتي ألينا كي تغيث زروعنا ... في كل عام مرة أو أكثرا والآن في ذا العام قد قاطعتنا ... وفررت عنا ما الذي منا جرى أرأيت منا ما يسوءك فعله ... من كل ذنب سيئ لن يغفرا أم بعضنا يجني عليك بذنبه ... فأخذت باقي البعض ظلماً وافترا هذا وقد جئناك بعد مشقة ... فابدي الجواب ولا تكن مستعذرا نهض الشتاء وقال كلا فاسمعوا ... نصحاً يقال لمن يريد تبصرا لما منعتم مالكم فقراءكم ... وعراهمو من فقرهم ما قد عرا وغنيكم متنعم بطعامه ... وشرابه ولباس أنواع الفرا وفقيركم لا تنظرون لحاله ... وترونه في عيشه متكدرا وترونه بالسوق في وقت المسا ... يبتاع زيتوناً وخبزاً أسمرا يغدو حزيناً باكياً وغنيكم ... يغدو ويرجع ضاحكاً مستبشرا ويطوف حول الفاكهاني في المسا ... أو حول بياع الكنائف للشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 وإن اشترى شيئاً غدا من بخله ... يخفيه تحت ثيابه متسترا والمعدمون يبصبصون بأعين ... حول الغني ويرجعون القهقرى وإذا الفقير أتاه يبكي كسرة ... أو جاء ضيفاً يبتغي منه القرى ما كان إلا بالعصا إكرامه ... أو بالعطا أعطاه فلساً أحمرا وكم تمنى الأغنياء بأن يروا ... في ساحة الفقراء ريحاً أصفرا كي لا يروا أبداً فقيراً بل ولا ... يجدون مسكيناً وأشعث أغبرا يا ويحهم ماذا يكون جوابهم ... في القبر حين يروا نكيراً منكرا للأغنيا ويل من الفقرا غدا ... يوم القيامة إذ يرون المحشرا إذ يقبضون عليهم في موقف ... منه الوليد يشيب من بين الورى ويقول كل منهم يا ربنا ... خذ حقنا منهم فلن نتأخرا يبقى الغني هناك لا مال له ... فيصير عما قد جنى متحسرا فالآن أنتم يا ذوي الأموال إن ... واسيتموا الفقراء آتي ممطرا وتزوركم رحمات رب لم يزل ... للمحسنين مساعداً وميسرا وترون فصلي فصل خصب مقبل ... في كل خير بالرخاء مبشرا ولتسمعن رعوده كمدافع ... ولتنظرن البرق فيه منورا ولتبصرن هتون مزن سحابه ... فسيوله في الأرض تحكي الأبحرا ولسوف ينزل ثلجه ببلادكم ... فهناك يبني أذرعاً أو أكثرا ويروج سوق سويقكم في وقته ... فكلوا السويق مدبساً ومكسرا وله من هذا الباب، ما تلذ به أولوا الألباب، مما يعترف له بحقه، ويعرف به مقدار سبقه، ثم أنه في ثاني وعشرين من شوال عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر بعد طلوع الشمس وكانت الساعة اثنتين من النهار صباحاً توفي المترجم فجأة وكان له مشهد عظيم، ومحفل جسيم، وكانت الصلاة عليه في جامع السنانية ودفن في مقبرة باب الصغير وراء قبر والده رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 الشيخ سعيد بن عبد الكريم الأنصاري المدني رحمه الله تعالى هو من عقد اللآلئ الثمينة، في أعيان المدينة، فقال مؤلفه، ومجيده ومصنفه: فاضل أطلق في العلم لسانه، واتخذ الفضل عنوانه، وحاز الفضائل بحسن همة، وجعل الآداب لها تتمة، فأبدى نظماً هو الدر إلا أنه المنضود في النحور، والزهر إلا أنه الخضل الممطور، وهو أكبر إخوته، وكبير ثلته، فإنهم أربعة إخوة نشأوا من الحسب والمكارم في أعلى ربوة، ثلاثة منهم لهم في النظم يد، وواحد منهم لم يكن له فيه صدد، فمن نظم صاحب الترجمة البارع في كناية البيان وصريحه، قوله في مدح سيدنا عثمان بن عفان كتبها على تابوته في ضريحه: لعثمان ذي النورين تفدى الجوانح ... وتسعى إليه العارفون الجحاجح ألا كيف لا تسعى وقد حاز رفعة ... لها الشرف العالي مدى الدهر راجح سليل ذوي المجد الرفيع مكانة ... به يتقى والحادثات فوادح فإن كان مجد الصاحبين محققاً ... فمجد أبي عمرو له الفضل شارح لقد بايع المختار عنه بنفسه ... مبايعة فيها الكماة كوالح وجهز جيش المسلمين بماله ... وأوقف بئراً تنتحيها الموائح وقد أنزلت فيه أمن هو قانت ... يقوم الدياجي والدموع سواقح وبشر بالبلوى ففوض أمره ... فوافته بالدار الرزايا النواطح وأضحى شهيداً في الجنان منعماً ... له الحور تجلى قد علته الوشايح همام أمير المؤمنين قد استحت ... ملائكة الرحمن منه وصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 وأثنى عليه الهاشمي ببذله ... تليداً معّداً قد حبته المرابح وزوجه بنتاً له ثم بعدها ... حباه بأخرى نشرها ثم فايح وهاجر حباً مرتين فأخصبت ... سنون وسالت من نداه الأباطح فيا ثالث الأصحاب أنت وسيلتي ... ويا جامع القرآن جودك مانح وهاكم قريضاً فوق تابوتكم زهى ... على الروض فيه المطربات صوادح وكالنور نوراً بل يزيد وضاءة ... وحسناً له بين الأنام مدايح فمع غاية المجد المؤثل قد أتى ... لتاريخه شطر من الشعر واضح يقولون زوار الضريح إذا أتوا ... أيا حسن تابوت له الله مانح قد توفي في أوائل القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى. الشيخ سعدي بن محمد بن عمر بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن أحمد بن شمس الدين بن تقي الدين بن أبي بكر ابن عبد الهادي الدمشقي الحنفي الفاروقي العمري المتصل النسب بسيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين، ولد المترجم في دمشق الشام ونشأ بها وقرأ على جل علمائها، وأجل فضلائها، ومن أجلهم العمدة العلامة، والنخبة الفهامة، الشيخ سعيد الحلبي، والسيد شاكر العقاد، وغيرهما من الأعيان الأمجاد، وولي أمانة الفتوى في دمشق الشام أيام مفتيها الأجل الهمام، السيد حسين أفندي المرادي، إلى أن توفي وتولى الإفتاء بعده ولده علي أفندي المرادي مدة أشهر وكان المترجم عنده، ثم بعد موت علي أفندي تولى الإفتاء طاهر أفندي وكان المترجم عنده، إلى أن فصل سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين وتولى الإفتاء أمين أفندي الجندي فكان المترجم أمين الفتوى عنده، إلى أن توفي المترجم المرقوم في حدود سنة الألف والمائتين والثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 الشيخ سعدي بن الشيخ هاشم التاجي البعلي الدمشقي من العلماء الأفراد والفقهاء السادة الأمجاد، كان حسن الأخلاق قد علا قدره وفاق، وكان محمود السيرة ممدوح السريرة، قد سافرت وإياه سنة تسع وسبعين إلى القدس فرأيت من حسن حاله، واتساع باله، ما يوجب له حسن الثناء والمدح ويذهب عنه كل طعن وقدح، مات رحمه الله تعالى خامس عشر ربيع الثاني سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير. الشيخ سعدي بن مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي المعروف بالسيوطي العام العامل الهمام، ومفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد بدمشق خامس عشر شهر المحرم الحرام سنة ست وتسعين ومائة وألف من هجرة سيد الأنام، وأخذ عن الشيخ محمد الكزبري، والشيخ شاكر مقدم سعد والشيخ غنام الحنبلي، وغيرهم من السادة العلماء والقادة الفضلاء، وبرع وفاق وطار ذكره في الآفاق، وكان عالماً عاملاً زاهداً فاضلاً، عابداً تقياً صالحاً نقياً، رفيع المقام بديع الاحترام، تولى نظارة جامع بني أمية بعد وفاة والده سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين، وإفتاء الحنابلة وكان فائقاً في العلوم من منطوق ومفهوم، ولاسيما في علمي الحساب والفرائض فإن له بهما المعرفة التامة. ولم يزل على كماله إلى أن جذبته يد المنية إلى الدار العلية، في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وست وخمسين ودفن في الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قال في البدر الطالع: ولد تقريباً سنة ألف ومائة وستين في وطنه ووطن أهله القرية المعروفة بالدرعية من البلاد النجدية، وكان قائد جيوش أبيه عبد العزيز وكان جده محمد شيخاً لقريته التي هو فيها، فوصل إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد المنكِرُ على المعتقدين في الأموات فأجابه وقام بنصره، وما زال يجاهد من يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها الأمور الجاهلية وصار الإسلام فيها غريباً. ثم مات محمد بن سعود وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية، وقام ولده عبد العزيز مقامه فافتتح جميع الديار النجدية، والبلاد العارضية والحسا والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة وغالب جزيرة العرب، وغالب هذه الفتوح على يد والد سعود، قام ولده سعود المترجم المرقوم، فتكاثرت جنوده واتسعت فتوحاته، ووصلت جنوده إلى اليمن، فافتتحوا بلاد أبي عريش وما تصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريف أبي عريش وأمدوه بالجنود، ففتح البلاد التهامية كاللحية والحديدة وبيت الفقيه وزبيد، وما يتصل بهذه البلاد، وما زال الوافدون من سعود يفدون صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور وولده المتوكل بمكاتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها وفي جهة ذمار وما يتصل بها، ثم خرج خليل باشا من مصر إلى مكة بعد إرساله بجنود افتتحوا مكة والمدينة والطائف وغلبوا عليها، وكان استيلاؤه على مكة والمدينة عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين، وخروجه إلى مكة سنة ألف ومائتين وسبع وعشرين، والحرب مستمرة. ومات سعود سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين، وقام بالأمر ولده عبد الله بن سعود، وقد أفردت هذه الحوادث العظيمة بمصنف مستقل، ثم خرجت جيوش الدولة ومصر على عبد الله بن سعود ومن معه من الجند في قريته الدرعية، وطال الحصر وأخربت المدافع العثمانية كثيراً من الأبنية، وبعد هذا استسلم عبد الله بن سعود، وكان ذلك في سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، وأدخلوه أسيراً إلى حضرة سلطان العرب والعجم حضرة أمير المؤمنين السلطان محمود والله أعلم ما انتهى إليه حاله. ثم خرج بعض الجنود العثمانية صحبة خليل باشا إلى تهامة اليمن التي كانت بيد الشريف حمود، وكان خروجهم بعد موته وقيام ولده أحمد بالأمر، مع معارضة الشريف حسن بن خالد الحازمي للشريف أحمد، فاستولت الجنود العثمانية على ما كان بيد الشريف أحمد بن حمود، واستسلم إلى أيديهم، وأحضروه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 دار السلطنة العثمانية، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وأربع وثلاثين. وأما الشريف حسن بن خالد الحازمي ففر بمن معه إلى بلاد عسير، وتحصن بمكان يقال له المناظر، فخرجت عليه الجنود العثمانية، ووقع بينهم حروب، آخرها قتل الشريف حسن بن خالد والأمر لله سبحانه اهـ. الشيخ سعيد بن أسعد الدمشقي الشهير بالسفاريني النابلسي الحنبلي كان إماماً عالماً عاملاً، وهماماً كاملاً فاضلاً، معتمداً عليه في مذهب الإمام الأوحد، العالم المجتهد الإمام أحمد، قدس الله سره، ورفع في الدارين قدره، وكان له صلاح ظاهر، ودأب على السنة باهر. مات رحمه الله في غرة رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة الذهبية قرب قبر السيد عبد الباقي الحنبلي الأزهري. الشيخ سعيد بن حسن بن أحمد الحلبي الأصل الدمشقي المنشأ الحنفي شيخ المحدثين، وعمدة العلماء العاملين، وزبدة الفضلاء، ونخبة السادة الأتقياء، من شيد ربوع العلوم، وقيد شوارد المنطوق والمفهوم، فهو الحجة الراجحة، والمحجة الواضحة، والبحر المتلاطمة أمواج عرفانه، والحبر المتواترة براهين بيانه، أوحد أهل زمانه، ومفرد عصره وأوانه، المحقق الفقيه، والمدقق النبيه، شيخ الشيوخ وإمام ذوي الكمال والرسوخ. ولد بحلب سنة ثمان وثمانين ومائة وألف، ونشأ بها وقرأ على جملة من أفاضل علمائها، ثم في سنة سبع ومائتين وألف قدم دمشق الشام، واستوطن في حجرته بجانب مدرسة الكلاسة في جامع بني أمية، وتصدر للإفادة والتعليم، والإرشاد والتفهيم، وأخذ عن إسماعيل أفندي المواهبي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 والسيد محمد نجيب بن أحمد القلعي، والشيخ محمد مكي القلعي الحلبي، والشيخ علي الشمعة، والشيخ محمد الكزبري، والشهاب العطار، والشيخ مصطفى الأيوبي الأنصاري الرحمتي الحنفي، والشيخ شاكر مقدم سعد والشيخ يوسف أفندي بن السيد حسين الحسيني الحنفي الدمشقي، والعلامة أبي الفدا إسماعيل بن محمد بن صالح بن محمد المواهبي الحلبي الحنفي القادري، ومحمد أفندي بن عثمان أفندي العقيلي، وقرأ صحيح الشهاب المنيني، وكان يقرأ في رمضان ستين ختمة، مات رضي الله عنه في دمشق في اليوم الثاني من شهر رمضان سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ودفن في تربة الذهبية. سعيد بن حمزة العجلاني نقيب دمشق الشام الحنفي الدمشقي السيد الإمام، الفاضل الهمام، صدر الأفاضل، وبدر ذوي الفضائل، المحقق الأديب، والمدقق الأريب، والماهر النبيه، والبارع الفقيه، والورع العابد، والناسك الزاهد، ولد بدمشق ونشا في حجر والده وتربى على يديه، وتخرج عليه، وعلى أفاضل العلماء، وأماثل الفضلاء، ومن جملتهم السيد نجيب القلعي الحنفي. وقد نقل بعض الناس عن ولد الشيخ نجيب أنه مأمور من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجازته، ولي نقابة الأشراف بدمشق الشام مكان والده السيد حمزة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، وبعد هذه التولية بمدة قليلة عزل حسين أفندي المرادي من الإفتاء ونفي من دمشق ووضع في مكانه المترجم المرقوم، وبقي مفتياً خمسة أشهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 ثم أعيدت إلى حسين أفندي المرادي، وكان للمترجم قبول عند الناس ومحبة عظيمة لما حاز عليه من الصفات الحميدة، والأخلاق العالية الجليلة. مات رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين ومائتين وألف ودفن في دمشق في مدفنهم المشهور. الشيخ سعيد الخالدي الدمشقي الشاذلي الترشيحي اليشرطي الشافعي ولد سنة إحدى وعشرين بعد المائتين والألف ونشأ من أول عمره في العبادة، والطاعة والزهادة، وزيارة الأولياء والجلوس في مجالس العلماء، وقد أطلعني ولده على نسبه فأحببت ذكره حفظاً لسلسلته فهو أي المترجم سعيد بن شاكر بن سعيد بن سعد الله بن سعيد بن قاسم بن أحمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن جابر بن علي بن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الله بن سالم بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جبران بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن جابر بن سالم بن سليمان ابن الصحابي الجليل سيدي خالد بن الوليد قدس الله سره، ورفع في الدارين قدره، وقد بدأ المترجم بتعلم ما لا بد منه، وما لا يستغني المكلف عنه، ثم التفت إلى التعلم، والاستفادة والتفهم، فلازم الشيخ العلامة وهو ملا أبو بكر الكردي مدة وكان من قبله قد حضر دروس والدي المرحوم الشيخ حسن البيطار مدة طويلة، وحضر دروس أخي الشيخ عبد الغني أفندي في تحفة ابن حجر الهيتمي، ودروس الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار ثم الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 سليم العطار والشيخ إبراهيم العطار ثم لازم شيخنا الفاضل الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي فقرأ عليه أنواعاً من العلوم وصار عنده ملكة عظيمة، وقوة جسيمة، وكان حسن العشرة، طيب النشرة، نطوقاً في الكلام جميل المقال، لا يمل حديثه وإن طال، ممدوح المجالسة لطيف المؤانسة. له في الحكايات الأدبية حافظة قوية، وعلى حكاياته طلاوة وعذوبة وحلاوة، رقيق الحاشية لطافته في الناس فاشية، فقير الحال زاهد في الجاه والمال، له في العلوم همة تقتضي أن يصير من أفراد الأمة، مواظب على ديانته غير ناظر معها إلى راحته، آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر، آخذ بالعظائم لا تأخذه في الله لومة لائم، جسور في الجواب لا يخاف ولا يهاب، لا يمشي إلى دعوة إو إلى أهل أو صاحب أو جليس إلا ومعه من الكتب عدة كراريس، لا يخلو مجلسه من نصيحة أو موعظة أو جواب أو سؤال، أو حكاية تكسو المجلس حلة الجمال، فاشتهر وفاق وانعقد على كمال لطفه وأدبه الاتفاق، وصار له قدر مديد خصوصاً وهو من ذرية سيدنا خالد بن الوليد، كأنما لسان حاله يقول لمريد الترقي للوصول: من يطلب العز يتعب في مدارجه ... فالعز طود وأرض الذل ميدان لولا المشقة ما فاق الورى بشر ... ولا سيما في الدنا بالمجد إنسان ومن هذا المعنى قول من قال وأحسن في المقال: لا تدرك العلياء دون مشقة ... كلا ولا الحسنى بلا تهذيب فالعز في كلف الرجال ولم ينل ... عز بلا كلف ولا تعذيب ولم يزل مستقيماً على حاله متخلصاً من أوحاله، إلى أن حضر إلى داريا خليفة من خلفاء الشيخ علي المغربي اليشرطي الشاذلي وكان قد أرسله من عكا، واسمه الشيخ أحمد البقاعي، فأخذ المترجم عنه الطريق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 ثم بعد ذلك ذهب إلى زيارة الشيخ في عكا فحضر من عنده وقد انعكست حالته، وانقلبت إلى ضدها في الظاهر طاعته، وعلاه طيش وجنون، ومن المعلوم أن الجنون فنون، فذهب رونقه، وبان نورقه، واستثقل أمره وانخفض قدره، فترك الفقه والأصول والمعقول والمنقول، واستخف بالعلماء، وجحد فضيلة الفضلاء، وأنكر العلم والعمل، وعن كثير من التكليفات اعتزل، وقال هذه واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين؟! وكان كثيراً ما يتكلم بالكلام، الذي لا يرتضيه من في قلبه ذرة من الإسلام، وصار لا يقول بواجب ولا مسنون، ويقول إن التمسك بذلك محض جنون، ومن دخل في الطريق وترقى في المقامات صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال، وهل يقال في حقه عن شيء حرام أو حلال وأمثال ذلك كثير لا يرام، ولو أردنا أن نطيل به لخرجنا عما يقتضيه المقام. وقد وافقه على ذلك عدة أشخاص، قد خرجوا من الدين ولات حين مناص، فتجاهروا بالآثام، ولم يتقيدوا بحلال أو حرام مع أن شيخهم الأستاذ قد أنكر عليهم، ووجه أشد الملام إليهم، وكتب لهم ينهاهم عن ذلك، ويزجرهم عن هذه المسالك، وهم يؤولون كلامه، حتى صاروا فرقة ذات متانة وحمية، وفي يد كل واحد منهم عكاز، في أسفلها حربة يتوكؤون عليها في المجاز، وما زال يفاقم أمرهم، ويكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 جمعهم، إلى أن نفى الحاكم بسببهم أستاذهم إلى جزيرة قبرص، ناسباً القصور إليه، ومعه المترجم وجملة أنفار يعتمدون عليه. وكان المترجم خطيباً في قرية كفرسوسيا وهي قرية من الشام تبعد قيد ميل، وكان منها معاشه، مع التعظيم والتبجيل، فحينما ذهب منفياً مع الشيخ وضعوا عنه وكيلاَ، ولم يسلكوا إلى الاستغناء عنه سبيلا، وكان الشيخ يقول لهم ما صدر علينا هذا التضييق، إلا من تكلمكم بما لا يليق، ثم بعد مدة طويلة عفت الحكومة عنهم على أنهم لا يعودون إلى أمثال هذه الرذيلة، ولا إلى الملابس البذيلة، فعاد المترجم إلى قريته، ومحل إقامته وخدمته، ورجع إلى حاله الأول وما يرجع عن زيغه ولا تحول، فأعرض عنه أهل البلد ونصبوا له شرك النكد، إلى أن فصلوه، ووضعوا مكانه تلميذه وبمصلحته وصلوه، فعاد المترجم بعياله إلى الشام، وتزايد أمره بما يقتضي الاعتراض والملام، إلا أنه قد ضاقت يده، وهبط قدره وسؤدده، وذهب جماله وسقط كماله، فذهب إلى داريا يقري الأولاد، ودنياه تعامله بعكس المراد، وذلك كله لاتباعه الباطل، وتمسكه بما ليس تحته سوى الشقاء من طائل، وكنت أنصحه بالرجوع إلى المطلوب، فيقول لي أنت عن الحقيقة محجوب، لو قطع رأسي وتفصلت أوصالي لا رجعت عن طريقي وحالي. فمرة كنت أمشي وإياه في الصحراء فرأى امرأة قروية قد لبست لباساً أحمر فقال لها يا حبيبي عملت نفسك امرأة ولَبِسْتَ اللباس الأحمر! ومرة رأى هراً فصرخ وقال له عملت نفسك هراً وتظن أني ما عرفتك. وكان يقول عن إبليس إنسان كامل. وأمثال هذا كثير، مما لا يقول به جليل ولا حقير، ويقول للائمين أنتم أهل الرسوم، المتمسكون بظاهر العلوم، ونحن الصوفية أهل الطريقة، والوجدان والحقيقة. وما علم أن ذلك من أكبر الغلط، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 قال به فقد سلك مسلك الشطط، وهل تجدي من غير شريعة طريقة، أو تصلح بما لا تمسك له بالقرآن والسنة حقيقة. قال صاحب الأسفار في شرحه على رسالة الخلوة للشيخ الأكبر قدس الله سرهما: وصية يا أخي رحمك الله قد سافرت إلى أقصى البلاد، وعاشرت أصناف العباد، فما رأت عيني، ولا سمعت أذني، أشر ولا أقبح ولا أبعد عن جناب الله من طائفة تدعي أنها من كمل الصوفية وتنسب نفسها إلى الكمال، وتظهر بصورتهم، ومع هذا لا تؤمن بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا تتقيد بالتكاليف الشرعية، وتقرر أحوال الرسل وما جاءوا به بوجه لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فكيف من وصل إلى مراتب أهل الكشف والعيان، ورأينا منهم جماعة كثيرة من أكابرهم في بلاد أذربيجان وشيروان وجيلان وخراسان لعن الله جميعهم فالله الله يا أخي لا تسكن في قرية فيها واحد من هذه الطائفة، لقوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " وإن لم يتيسر لك ذلك فاجهد أن لا تراهم ولا تجاورهم فكيف إن تعاشرهم وتخالطهم؟ وإن لم تفعل فما نصحت نفسك والله الهادي انتهى وما زال المترجم على حاله خائضاً في أوحاله، إلى أن تمرض وتوفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين. ودفن في جوار سيدنا بلال الحبشي نسأل الله أن يكون رجع عما كان عليه وتاب إلى الله وآب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 سعيد بن عبد الله بن حسن بن مرعي بن ناصر الدين الدوري المعروف بالسويدي الشافعي البغدادي الأصل ثم الدمشقي الشيخ العمدة الإمام، والفاضل النخبة الهمام، برمة الشام وكعبة طواف العلماء والأعلام، ومفيد الخاص والعام، وأوحد الأفاضل الكرام. ولد في بغداد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف، ودأب على الطلب مدة ثم قدم دمشق واستوطنها وأخذ عن علمائها ومن جملة شيوخه والده المرقوم، والفاضل الشيخ عقيلة المكي، والشيخ صالح الجينيني، والعلامة الشيخ سالم البصري، والشيخ عمر بن أحمد السقاف، والشيخ البديري، والسيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس والأحياء، وأبو الطيب المغربي المدني المالكي. وأجازوه جميعاً بالإجازة العامة بما تجوز لهم روايته عن شيوخهم، وأخذ عنه طلبة زمانه وأجازهم بالإجازة العامة، ولم يزل في ترق إلى أن مات رضي الله عنه سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير. السيد سليم بن علي بن موسى الدمشقي الحسيني الحنفي الشهير بابن مرتضى السيد الشريف النجيب الأديب، واللطيف الذكي الريب، أحد الأعيان، وأوحد ذوي الشان، من أهل السلسلة النبوية والسلالة الأحمدية، تحلى بأحسن الشيم، وتوشح بجلباب السماحة والكرم. ولد في نيف وخمسين ومائتين وألف، وكان معاشراً لطيفاً، أديباً ظريفاً، صاحب نوادر جليلة، وطرائف جميلة، لطيف الطبع سليم الصدر، ذا رفعة وجلالة ومهابة وقدر، وكان عند الشيعة والرافضة مقدماً مهاباً معظماً يواصلونه في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 سنة على ما قيل، بنحو مائة ألف ويقولون هذا قليل. مات نهار الأحد ثامن شهر شعبان سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن عند قبور بني المرتضى في مقبرة باب الصغير قرب قبور الزوجات الطاهرات. السيد سليم أفندي بن نسيب أفندي بن السيد حسين بن السيد يحيى حمزة الشريف العابد، والعفيف الزاهد، المعروف بين الناس بالتقوى والديانة، والعفة والصيانة، وكان عالماً عاملاً، هماماً فاضلاً، كثير التباعد عن الناس، له بالعزلة راحة واستئناس، وكان في أكثر أوقاته معتكفاً في مشهد سيدنا الحسين في جامع بني أمية، وكان له بعض صنائع غريبة ودقائق عجيبة، يصرف منها على نفسه طلباً للحلال وبُعداً عن الحرام من الأموال. مات رحمه الله وأحسم مثواه، في خامس وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وسنة واحدة، ودفن في مقبرة الدحداح قرب قبر والده. السلطان سليم خان الثالث بن السلطان مصطفى بن السلطان أحمد الثالث ولد سنة ألف ومائة وخمس وسبعين، وجلس على تخت الملك عام ألف ومائتين وثلاثة في ثاني عشر رجب، ففي الحال اخذ بتدبير الأحوال لينجو بصلاح الدولة من وبال النكال، فبعث بالجيوش لقتال روسيا والنمسا، وأخيراً تداخلت بروسيا وإنكلترا، فعقد الصلح مع النمسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 ثم مع روسيا، فسر أهل العاصمة بالصلح، على أن أخبار سوريا ومصر لم تكن مرضية للدولة، وكان السلطان المشار إليه قد رأى مضرة الإنكشارية وتجاوزهم الحدود فرغب أن يلاشي وجاقهم ويقيم مكانهم عسكراً جديداً على الطريقة الإفرنجية، لأن الإنكشارية كانوا قد زعزعوا أركان السلطنة بعصيانهم وعدم انقيادهم، وكان قد نظم في العام الماضي بعض الفرق من النظام الجديد، فهاج الإنكشارية من ذلك، وأثاروا في القسطنطينية شغباً عظيماً يطول الكلام بذكره، واعتصبوا عصبة واحدة، وكان موافقاً لهم على منع النظام الجديد عطا الله أفندي شيخ الإسلام وقائمقام الصدر الأعظم، فقوي أمرهم به وقال لهم أنه لا يجوز أن تكون عساكر الإسلام مشبهة بالكفار، وحيث أحدثوا النظام الجديد كانوا متشبهين بالكفار، فقويت هذه الحجة في صدورهم وقالوا سيروا بنا لنلاشي النظام الجديد وننتقم من الوزراء الذي أفسدوا طهارة الإيمان بأفعالهم الشنيعة، وتحالفوا على ملاشاة وجاقات العساكر الإنكشارية، الذين هم عمدة مملكة الدولة العلية، وبعد هذا الحديث أخرجوا ورقة فيها أسماء بعض أشخاص من رجال الدولة يريدون قتلهم، أرسلها إليهم المفتي عطا الله أفندي، فأخذوا يتلونها ويسمون الأشخاص الذين يرون قتلهم، ثم ساروا يفتشون عليهم فوجدوا بعضاً منهم فقتلوهم، واختفى كثير منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 في بيوت النصارى واليهود، وقتلوا خلقاً كثيراً، واحضروا سبعة عشر رأساً من أعظم رجال الدولة، ودام الدم جارياً في القسطنطينية ثلاثة أيام، ثم صمموا على طلب السلطان سليم والقبض عليه ليخلعوه، وصاروا يقولون يا أيها السلطان المغشوش بهذه التعاليم أنسيت أنك أمير المؤمنين، وعوضاً عن اتكالك على الله القادر العظيم الذي يبدد بدقيقة واحدة الجيوش الكثيرة العدد وأردت أن تشبه الإسلام بالكفار وأغضبت الله فكيف يسوغ لك أن تكون أمير المؤمنين، ومحامياً عن الدين، فالعساكر المحافظة على كرسيك لم يعد لهم ثقة بك، والمملكة أضحت مضطربة فيجب عليك أن تلاحظ وتفضل على كل شيء الإيمان وسلامة الإسلام. وبعد كلام كثير صارت قراءة الفتوى التي مضمونها أن السلطان الذي يخالف القرآن الشريف هل يترك على تخت السلطنة الجواب كلا، ثم قال القارئ قد صار معلوماً عندكم أنه تحتم عزل السلطان فما قولكم الآن؟ هل تسلمون له يفعل ما يخل بالإسلام، فصرخت العساكر كلا ثم كلا لا نقبله سلطاناً علينا فليعزل، وصرخوا باسم السلطان مصطفى بن السلطان عبد الحميد وقالوا ليعش السلطان مصطفى، وأرسلوا المفتي إلى السلطان سليم ليتنازل عن السلطنة من دون مقاومة، فدخل عليه متذللاً منخفض الرأس قائلاً يا مولانا إني قد حضرت بين يديك برسالة محزنة أرجوك قبولها لتسكين الهيجان، وليس خافياً على مسامعكم الشريفة بأن العساكر الإنكشارية قد نادوا باسم السلطان مصطفى ابن عمك سلطاناً عليهم، فالآن لا سبيل إلى المقاومة فالتسليم لآمر الله أوفق من كل شيء، فلم تظهر على السلطان سليم كآبة من هذا الحديث، وقبل كلام المفتي ونزل عن السلطنة، وكان ذلك في إحدى وعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، فمدة سلطنة المترجم ثمانية عشر عاماً وثمانية أشهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 وبينما كان ذاهباً يختلي في مكان منفرد عن السرايا التقى بالسلطان مصطفى قادماً ليجلس مكانه على تخت السلطنة، فقال له: يا أخي أهبطني الله من العرش العتيد لأن تجلس عليه أنت، لأنني أردت وضع تنظيمات لتقوية المملكة والدين، وإصلاح حال العساكر الذي جهلوا تعليمهم وتركوا قوانينهم، فهاجت عليَّ العساكر مع بعض رجال الدولة وأرسلوا يطلبون مني التنازل عن تخت السلطنة، ونادوا باسمك، وها أنا ماض بكل رضا أعيش منفرداً، وأما أنت فإنك سعيد أكثر مني، فأرغب إليك أن تسلك معهم بالحكمة اللازمة الحسنى؛ فلم يصغ السلطان مصطفى لكلام السلطان سليم، وأراد السلطان سليم أن يعانقه فلم يمكنه من معانقته، فلما وصل السلطان سليم إلى المكان الذي يريدون وضعه فيه وجد السلطان محموداً أخا السلطان مصطفى ماكثاً في ذلك الموضع، عليه آثار الرقة والنباهة، وعندما شاهد السلطان سليم التقاه فقبل يده ذارفاً دموعاً غزيرة، فحرك السلطان سليم إلى البكا، وجلسا في ذلك الموضع وطال ما كانا يتحدثان دائماً بالأمور المشيدة أركان الدولة والدين وتمام القصة يأتي في مكانه. قة والنباهة، وعندما شاهد السلطان سليم التقاه فقبل يده ذارفاً دموعاً غزيرة، فحرك السلطان سليم إلى البكا، وجلسا في ذلك الموضع وطال ما كانا يتحدثان دائماً بالأمور المشيدة أركان الدولة والدين وتمام القصة يأتي في مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين ودفن في تربة السلطان مصطفى. الشيخ سليم بن نجيب صافي الحنفي الحمصي عالم غير أنه عامل، وكامل غير انه فاضل، متواضع دائم الخضوع، متذلل كثير البكاء والخشوع، قد أمات نفسه بإحياء طاعته، وحفظ أوقاته بتقواه وعبادته، وجذب القلوب بحسن أفعاله، وملك الألباب بجميل أحواله وأقواله، فلا ريب أنه فرد مصره، بل أوحد أوانه وعصره. ولد سنة تسع وعشرين بعد المائتين والألف، ونشأ في طلب العلم الشريف ثم أقبل على الطاعة والتقوى، وذكر الله في السر والنجوى، وكان ورعاً عابداً، ناسكاً زاهداً، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يجلس في مجلس إلا وقد شغله بسيرة السادة الغرر، وكان لا يفتر عن ذكر الله بحال، ولا يسكت عن منكر ولو كان مرتكبه من ذوي السلطة والإجلال، وكان يدور على الأرامل والأيتام، فيقضي لهم حوائجهم حسب المرام، وكان له غاية الهمة، في قضاء المصالح والخدمة، وكان إذا جلس في مجلس لا يقوم حتى يجعل ختام مجلسه ذكر الله تعالى، وكان كثيراً ما يقول: الحمد لله الذي أنعم علينا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتارة يبدل أنعم، بمًنَّ، وتارة أكرمنا برسوله محمد، ويأمر الناس بأن يواظبوا عليها. وقد اجتمعت به سنة ثمانين في مدينة حمص فرأيته فوق ما سمعت عنه، وشاهدت ما لم أكن أظنه منه، فلا ريب أنه فرد زمانه، ونادرة أوانه. ولم يزل ناهجاً منهج السلف الصالح، متمسكاً بالسبب القوي الراجح، متخلقاً بأخلاق ذوي الكمال، متحققا ً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 بآداب السادة من أعيان الرجال، إلى أن خطبته المنية، ونقلته للمقامات العلية، وذلك في اليوم الحادي والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة سبع وتسعين من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام. الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الشيخ حامد بن الشيخ أحمد بن الشيخ عبيد الله بن عبد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي الشافعي الشهير بالعطار إمام اقتدت به أئمة العلماء، واكتست من فضائله حلية ذات بهجة وسناء، ونطقت في مديحه ألسنة الأقلام على منابر الأنامل، وأعربت أفواه الدفاتر عما في ضميرها من أنه مجمع الفضائل، أثمرت أفنان اليراع في رياض فضائله، وأينعت أثمار كمالاته الأحمدية في حدائق فواضله، قد انعقد إجماع من جل وقل، على أنه مرجع الكل في الكل: فالناس كلهم لسان واحد ... يتلو الثناء عليه والدنيا فم فلعمري قد عجزت عن حد نباهته وطلاقته الأفكار، وطارت بأجنحة الثناء عليه بلابل الأقطار كان بعد جده المرحوم الشيخ حامد العطار يقرأ البخاري الشريف يوم الخميس فقط صباحاً في رجب وشعبان، فتارة يقرأ سبعة دروس، وتارة ثمانية، وذلك في تكية المرحوم السلطان سليم الكائنة في المرج الأخضر، مع أن شرط السلطان سليم أنه يعظ واعظ في كل جمعة مرة واحدة، وله على كل درس ثلاثون بارة، وإن السليمانية التي بجانب التكية السليمية قد شرط السلطان سليمان أن واعظاً يعظ بها في كل جمعة ثلاثة أيام، وله عن كل يوم عشرة دراهم فضة، في كل سنة أربعة آلاف قرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 تقريباً ثم إن المرحوم الشيخ حامد العطار ضم الدرسين واحداً والمعاشين معاشاً واحداً، وجعل قراءة الدرس في السليمية، وجعل في خصوص رجب وشعبان في كل يوم خميس صباحاً، ونقله من الوعظ إلى البخاري الشريف، مقابلة لدرس قبة النسر في جامع بني أمية، فإنه يقرأ تحتها البخاري الشريف في رجب وشعبان ورمضان، إلا أنه كل يوم بعد العصر، وكذلك يأخذ المدرس في السليمية زيادة على الدراهم المرقومة في كل سنة مائتين وثمانية وثمانين مداً من الحنطة. وبعد وفاة الشيخ حامد المرقوم قرأ في محله ولد ولده الشيخ سليم، وهو المترجم المرقوم، وكان عالماً فاضلاً فصيحاً نطوقاً جسوراً حفاظاً وجيهاً، ذا همة وإقدام، ولم يكن له ما يطعن في مقامه سوى أنه كان محباً لأخذ الدراهم وتناولها بدون تحر، وكان يتعاطى أكثر القضايا وينظر بها لمحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 نفعه. وعلى كل حال كان عديم المثال، في العلم والفضل وبقية الخصال. توفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة سبع وثلاثمائة وألف وعمره نحو الثمانين ودفن في مرج الدحداح. سليم بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشافعي مات والده سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، فأراد بعض الناس أن يكون ولده المترجم مكانه في تدريس صحيح الإمام البخاري بعد العصر في رجب وشعبان ورمضان تحت قبة النسر في جامع بني أمية، وإن كان عديم الأهلية، بل كان يقرأ في كتب المبتدئين، لكن أرادوا أنهم يجعلون له همة للطلب والتحصيل، وإنه في أول الأمر يقرأ الدرس رسماً لكيلا تخرج هذه الوظيفة من هذه العائلة، فكان بعض الناس في كل يوم يكتب له الدرس وبعض تقريرات عليه، ويضبطون له بالقلم خوفاً من التحريف، وصار يقرأ هذا الدرس في كل سنة على هذا المنوال، من غير اعتراض عليه ولا سؤال، ولم يزل كذلك إلى أن ظن نفسه أنه فاق، مع أنه ما تقدم عن حاله الأول ولا ارتدى برداء ما يليق بذوي الكمال ولا تحول، بل كان بتعاطى القضايا، التي يعدها أصوله من أعظم الرزايا، فنعم الآباء والجدود، ونعم ما كانوا عليه من الفضل المشهود، فلا ريب أن هذا المترجم، ذا الهيئة السامية والقدر المعظم، قد رمدت به عيون العلم والأدب، وتمنت العمى ولا تراه مستوياً على هذه الرتب. وحينما مات والده، وانتهى من فضل هذا البيت طارفه وتالده، وجلس المترجم تحت قبة النسر، أنشد لسان حال المحل حزناً من غير صبر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 لعلك يا عذير علمت حالي ... فتعلم أي خطب قد لقيت وإني إن بقيت بمثل ما بي ... فمن عجب الليالي أن بقيت ومن العجيب أنها قد احترقت بعد مدة قليلة، وبقيت على انهدامها تبعاً للجامع مدة طويلة. نسأل الله حسن الأحوال، بجاه سيدنا محمد والصحب والآل توفي هذا المترجم رحمه الله تعالى سنة أل5 وثلاثمائة وإحدى وثلاثين وجلس في مكانه ولده الشيخ محمد علي فتح الله علينا وعليه، ودفن هذا المترجم في تربة باب الصغير في مدفن آبائه الكرام. الشيخ سليم بن الشيخ حسين النحلاوي المعروف بالطيبي أمين فتوى السادة الشافعية، في دمشق الشام المحمية، ولد في دمشق ونشأ بها، وحضر دروس علمائها إلى أن بلغ المطلوب، وفاز بالمرغوب، وصار معدوداً من الأوائل، ومحسوباً من ذوي الفضائل، وكان حسن العبارة، دائباً على الترقي في المعارف ليله ونهاره، لطيف المحاضرة، رقيق المذاكرة، لا يُملُّ كلامه، ولا يعلُّ نثره، ولا نظامه، وله مؤلفات بهية، وآثار لطيفة زهية، منها الفيوضات الرحمانية، في أحكام الفرائض القرآنية. وكان زينة المجالس، وبمثله يتنافس المتنافس، ولم يزل رفيع المقام جليل الاحترام، إلى أن نظمته يد المنية، في سلك الراحلين إلى الدار العلية، وذلك في حدود الألف وثلاثمائة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 الشيخ سليم بن محمد بن يوسف بن حسن بن يوسف سمارة ذو علم وعبادة، وفضل وسيادة، واستقامة في الأمور، وصيانة عما يوجب القصور، كان رفيقي في طلب العلم، على سيدي الوالد، فقرأنا كتباً متعددة، من فنون لا من فن واحد، وبعد موت والدي سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين حضرنا دروس العالم الفاضل ذي المقام الرصين الشيخ محمد الطنطاوي الأوهري، الذي هو بكل فضل حري، فحضرنا جميع دروسه، بكل جدٍّ واجتهاد، ونلنا به كل مرام ومراد، ولم نزل نحضر دروسه خمس سنين، إلى أن حدثت حادثة النصارى في أواخر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فانتقل الشيخ المومى إليه من الميدان إلى داخل البلد، لإقراء أولاد الأمير عبد القادر السيد السند، وجلس بمكانه بجامع سيدنا صهيب الشيخ العربي المغربي، وبعد موته جلس المترجم في مكانه في الجامع المرقوم إماماً وخطيباً ومدرساً، وتزوج ببنت شيخنا الطنطاوي المرقوم، ووجهت عليه نظارة جامع المصلى المشهور، فقام بخدمته كما هو في الشريعة مأمور، ثم صار إماماً في المحلة المرقومة، وكان يتعاطى مصالحها من عقد وصلح وغير ذلك من الأمور المعلومة. وفي سنة خمس وثمانين بعد المائتين والألف حينما جاء إلى الشام الشيخ محمد المغربي الفاسي الشاذلي، أخذ الطريقة عليه ولا زال يشتغل في السلوك، إلى أن ذهب شيخه إلى ملك الملوك، فذهب المترجم إلى الحجاز واستقام هناك عدة شهور في زاوية الأستاذ المرقوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 وحصل له الإذن من ولد الأستاذ المرقوم بأن يعطي الطريق لمن شاء ممن فيه أهلية للأخذ، وأن يقيم الأذكار على شرط الطريق المعروف عند أهله ولم يزل هذا المترجم في علم وعمل وطاعة وعبادة وصيانة وتقوى، يحب التودد إلى إخوانه، ويذهب إلى زيارتهم بقدر إمكانه، مع قيامه بوظيفة الإفادة، وإقامة الأذكار حسب العادة، وله تمسك بالسنن، وميل إلى العمل بها جميل حسن، وللناس به اعتقاد عظيم، ونظر إليه بعين التعظيم، غير أنه له أطوار، فربما يكون في غاية البسط فتجذبه في الحال إلى الأكدار، فيغلب عليه السكوت، ويظهر عليه أنه مقهور ممقوت، وهذه كثيراً ما تحصل لأهل الطريق، ويعتريهم به غاية الضيق، وعلى كل حال فالله هو المتصرف بعباده كيف يشاء، وهذا يجعله ممن أحسن وهذا ممن أساء، فهذا المترجم ممن يحق له أن يذكر، ويثنى عليه بين الناس بالجميل ويشكر، وفقنا الله وإياه لطاعته، وأحسن غلينا بجميل عنايته. توفي رحمه الله تعالى أثناء سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وثلاثين ودفن في باب الصغير. سليم أفندي بن أنيس أفندي بن قصاب حسن أقسم بالشمس والقمر، ونسيم الصبا إذا سرى في السحر، لهو البليغ الذي فاق نظمه ونثره، وراق لدى الأسماع سجعه وشعره، له خلق أرق من النسيم وأعذب، وكلام ألذ من سماع العود وأطرب، وأوصاف كالروض إذا ثغْرُ أقاحه تفلَّج، ومائس غصنه بأنواع الزهر تاه وتبرج، وفصاحة ألانت له عصي الكلام، وبلاغة طوعت له أبيَّ النظام، فمن نظمه الزاهي الزاهر، وشعره الباهي الباهر، وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 أبى الله إلا أن أبيت معذباً ... وأن لا أرى غير المحبة مذهبا بروحي غزالاً إن تمايل أو رنا ... فلا تذكروا الأغصان بعده والظبا فإن اشتغالي بالذي هو يرتضي ... وفيه، فلا أما أبر ولا أبا حملت الأسى حرصاً على وده وقد ... أضعت شبابي في هواه تسيبا خلعت شعوري والتنسك والهدى ... وأصبحت في برد الضلال مجلببا سهوت عن الدنيا وديني كأنما ... عليَّ إلهي ما أسن وأوجبا أروح وأغدو بين قومي كأنني ... مسيئ ومِخْطاء، وما كنت مذنبا ذليل ومالي بالوضيع وإنما ... غرامي دعاني أن أذل وأغلبا وقوله: يا بدر ما هذا التجني والقلى ... ما كان ظني فيك ترعى العذلا أوليتهم حسن الوفاء وخنتني ... بقبيح هجر ليت ما كانوا ولا أجهلت ودي فيواك صيانة ... الله أكبر ما أود وأجهلا هل قد نسيت العهد أم أنقضته ... بالله فاذكر ما تقضى أوَّلا مهلاً أبعد تعطف وتلطف ... مني تبلغ حاسدي ما أملا وقوله: كم ذا وكم هذا العذاب الأكبر ... وإلى متى هذا المنون الأحمر يا قلب فارجع عن قريب وارتقب ... مولاك بي إن الطريق لمخطر إذا لم تطع نصحي ضلالاً بالهوى ... ودّع حياتك فاللقاء المحشر وقوله: عاقب بما تبغي سوى الإعراض ... وافعل كما تختار إني راضي واسمح ولا تسمع كلام مفَّوه ... بالسوء قد أفشي الجفا أمراضي إني على العهد القديم محافظ ... ما خنت ودّاً قد زكا في الماضي يا حبذا موتي بحبك إن تكن ... بالصد والهجر المحتم قاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 لو كان يدري حالة الولهان ... ما جار بالأعراض والهجران ظبي سلا في حبه قلبي وما ... حدثت نفسي عنه بالسلوان أمسي وأصبح في هواه كأنني ... سكران نشوان بخمر دنان أواه من لوم العواذل إنه ... قد زادني ناراً على نيران بالله بلغ يا صبا إن جزته ... أشواق صب بالمحبة فاني حيران سهران الظلام متيم ... يرعى النجوم بناظر هتَّان وله ما الهوى إلا هوان واكتئاب ... واحتراق واشتياق واضطراب نعمة قل إن تشا في نقمة ... أو بلاء أو نعيم في عذاب ليس تعداد الليالي فائداً ... إنما قد زاد نيراني التهاب إن نأى يا طول تسهيدي به ... أو دنا لم يشف قلبي الاقتراب وقال في ذات مخصوصة مما ظاهره الهجاء، وباطنه المداعبة والمجون: ما هام هذا الشيخ فينا وافتخر ... إلا على حب الطعام المفتخر ظهرت مناقبه الحسان وداره ... عنا توارت ليس يدركها البصر أمسى بداره المطعمين منعما ... وبداره يلقى عذاباً من سقر إن هلَّ يوم العيد هللَّ فرحة ... وإذا أتى شهر الصيام نوى السفر شيخ إذا ما مد يوماً باعه ... لم يبق شيئاً في الخوان ولا يذر تلقى الصحون لديه ترجف خيفة ... فيجيبها أين المفر من القدر أسنانه مثل المناجل ما ورا ... ء حصادها لقط يراه من اغترر فالويل للقبوات من وثباته ... والسحق للحلواء منه إن حضر كره الزحام على الطعام لذا غدا ... يبدي التعامي عنه في غض النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 تباً له بئس الأكول فإنه ... لو حل في دار النجاشي لافتقر صادفته متحيراً والوقت في ... شهر الصيام فقلت ما هذا الخبر؟ فأجابني دعني فإن حماقتي ... قد أورثتني من تجنيها الكدر أقسمت شهري لا أجيب لدعوة ... وظننت ظن الخير في صبري عذر فمتى زمان النحس عني ينقضي ... وأرى ليالي المحق تظفر بالقمر حتى أجيب لكل داع مسرعاً ... وأسير لو أن الطريق على خطر وله: خسف البدر وقد تم الأمر ... وبدا في خده داجي الشعر ذهب الحسن الذي قد غره ... واسترحنا من دلال كان مر وقال مؤرخاً: لقد ولدت لك العرجاء مهراً ... فدع زوراً دعاء البضع عنكا نعم لاحت علائم فيك منه ... وفيه بدت علائم أشبهتكا وما هو منك عبد الله أرخ ... بلى لو جاء بغلاً كان منكا وقال: ما لهذا الحب آخر ... لا ولا للصب ناصر ما احتيالي عز صبري ... والهوى أبدى السرائر لست أخلو من حسود ... أو عذول دام غادر إن سها عني رقيبي ... جاء يرنو ألف ناظر أو نأى عني عذولي ... كان سقمي فيه حاجر ليتني قبل الهوى لو ... أنني زرت المقابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 ليت شعري اليوم هل لي ... بالهوى العذري عاذر بأبي الظبي المفدى ... أكحل العينين ساحر إن رنا باللحظ عجباً ... قلت يا هاروت حاذر بدر حسن تم وصفا ... إن بدا أسبى الحرائر حبه سلَّ شعوري ... يا ترى بالحال شاعر حسنه جرد نسكي ... وهو بالإحسان غامر عادل الأعطاف لكن ... لحظه بالفتك جائر صرت من وجدي عليه ... مثلاً في الناس سائر عاذلي فنَّد وأوَّل ... فعلى الباغي الدوائر واتق الرحمن واحذر ... إن طرف الصب ساهر وقال في نوع الاطراد: أيها الراوي أحاديث الشجن ... بالهوى العذري خذ عن مؤتمن عن سليم بن أنيس بن سليم ... بن حسان بن قصاب حسن وقال مادحاً حضرة الشهم الأديب حسن أفندي بيهم حبذا موردها بيروت من ... بلدة قد برعت في كل فن أشرقت تزهو بأبهى فتية ... لم تجد فيهم فتى إلا حسن وقال مجيباً عن هذا اللغز الوارد من جناب الأديب الفائق الشيخ محمد عجم الحمصي قل للأجل الأمجد السامي المقام الأوحد حييت من خل سليم القلب حلو المورد ما اسم رباعي نصفه ... أراه فر من اليد والنصف أفتن عاشقاً ... يحكيه ميد الأملد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 جزآن منه صيرا ... ني رق ظبي أغيد بالبسط ثاني حرفه ... البر منه تجتدي هو صالح ذو رفعة ... بالقطب دوماً يقتدي هات الجواب بسرعة ... لتنال أسنى السؤدد الجواب: يا من سما بالسؤدد ... أسنى المقام الأمجد أهديت لغزاً سامياً ... في نجم سعدك يقتدي اسم رباعي حكى ... وجه الحبيب الأغيد اسم وكم منه إلى ... فعل وحرف تهتدي النصف فر ونصفه ... قدَّ يقدُّ تجلدي أصبحت رقاً بالهوى ... مذ قر في قلبي الصدي بالقلب درَّ شطره ... قف ما تبقى واشهد تلقى بحذفك لامه ... فرقاً بدا كالفرقد هذا الجواب فأرتجي ... إغضاء طرْفك سيدي وقال: ما بال قلبك قد غدا متقلباً ... أيُلام ولهان ولم يك مذنباً ما كان عهدي في ودادك جفوة ... من غير داع بالمحبة أوجبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 ولما نظم ديوانه المسمى بنشاة الصِّبا، ونسمة الصِّبا، وطبعه في خامس عشر شوال سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين، أرسل لي نسخة فأرسلت له تقريظاً على الديوان المذكور إلا أنه قد كان طبع فلم يمكن إلحاقه، وقد أرسل إليَّ هذه القصيدة: أمن طرفه الوسنا أم ثغره الحالي ... دعاني الهوى نشوان أغفل عن حالي أم الغمز في عينيه أوحى مراسلاً ... فؤادي بما أوحى فهيج بلبالي غزال له قلب المحبين مرتع ... ولم بلف قلباً من محبته خالي هو البدر إلا أن آية حسنه ... مرتلة لم يتلها بالسنا تالي سلا القلب جوراً وهو فيه فليته ... رعى حق جارٍ لم يكن قطُّ بالسالي له الله ما أحلى زماناً قضيته ... بلقيائه أُنساً على رغم عُذالي ذوى بعده عود اصطبار يوعوده ... كعود صبا الأشياخ والهرم البالي قطعت الرجا من وصله وأنخت في ... حمى عبد رزاق الورى ركب آمالي هو العالم النحرير والعامل الذي ... تجرد للمولى عن الآل والمال إمام لأفراد الفضائل جامع ... يؤم ذرى عليائه كل مفضال إذا ماد في ميدان فن يراعه ... وجال بأفكار جلا كل إشكال كساني بروداً من نسيج قريضه ... فبت على الأقران أسحب أذيالي وقلدني من بحره عقد جوهر ... نظيماً ولكن لا يليق بأمثالي وقابل حظي منه أسعد طالع ... فحققت وهما نجم نحسي بإقبال فلا زال في جبر الكسير ملاطفاً ... مدى الدهر ما المشتاق حن لآطلال ولد هذا الشهم الأديب، سنة ألف ومائتين وستين بوجه التقريب، ولم يزل بحمد الله على أحسن حال، وأهنأ عيش وأعلى كمال، كلامه لطيف ومقامه منيف وسيرته حسنه، وصفاته مستحسنة، أطال الله بقاه، وأعلى حظه ومرتقاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 الشيخ سليمان بن سلامة الشافعي الأشعري الميداني العالم العابد، والناسك الزاهد، ولد سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، وقرأ على الشيخ صالح الزجاج، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ عبد الله الكردي، وبقية الشيوخ الموجودين، ولم يزل كذلك إلى أن انتقل والدي الشيخ حسن إلى الميدان فاقتصر عليه، وحط رحله لديه، فقرأ من الفنون وأكثر، إلى أن قرأ التحفة الفقهية لأبن حجر، وحين وصولهم إلى باب العتق اخترمت والدي المنية. وكان المترجم المرقوم ذا هيبة علمية، ولطافة أدبية، وكان عليه وظيفة التدريس والإمامة والخطابة في جامع ساحة السخَّانة تابع الميدان. ولم يزل مواظباً على إفادته، مقبلاً على تقواه وعبادته، إلى أن توفي رحمه الله في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وسبع سنين، ودفن في مقبرة باب الله، رضي الله عنه وأرضاه. الشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الشافعي الأزهري المصري المعروف بالجمل الفاضل العلامة، والرحلة الفهامة، المحدث الفقيه، والمتبحر النبيه، الصوفي الصالح، والمتعبد الناجح. ولد بمنية عجيل كما ذكره الإمام الجبرتي، إحدى قرى الغربيه، وورد مصر ولازم الشيخ الحفني، فشملته بركته، وأخذ عنه طريق الخلوتية، ولقنه الأسماء، وأذن له واستخلفه وتفقه عليه وعلى غيره من فقهاء العصر، مثل الشيخ عطية الأجهوري ولازم دروسه كثيراً، واشتهر بالصلاح وعفة النفس، ونوه الشيخ الحفني بشأنه، وجعله إماماً وخطيباً بالمسجد الملاصق لمنزله على الخليج، ودرس بالأشرفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 والمشهد الحسيني في الفقه والحديث والتفسير، وكثرت عليه الطلبة، وضَبَطْتُ من إملائه وتقريراته كثيراً. وقرأ المواهب والشمائل وصحيح البخاري وتفسير الجلالين بالمشهد الحسيني بين المغرب والعشاء، وحضره أكابر الطلبة، ولم يتزوج. وفي آخر أمره تقشف في ملبسه ولبس كساء صوف وعمامة صوف وطيلساناً كذلك، واشتهر بالزهد والصلاح، ويتردد كثيراً لزيارة المشايخ والأولياء. ولم يزل على حاله، حتى توفي حادي عشر ذي القعدة سنة أربع ومائتين وألف. الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة بالشنواني العمدة الشهير، والنخبة النحرير، تولى شيخاً على العميان بعد وفاة الشيخ الشبراوي، وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت، وجمع بجاههم أموالاً عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة، ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين، ويطالبهم بها كيلاً وعيناً، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان، فلا يجد بداً من الدفع وإن كانت غلاله معطلة، صالحه بما أحب من الثمن. وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلا بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقاً ويبيع خلاصته، ويعجن نخالته خبز الفقراء العميان، يتقوتون به مع ما يجمعونه من السؤال في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة، وتغنيهم بالمدائح والخرافات، وقراءة القرآن بالبيوت ومساطب الشوارع، وغير ذلك، ومن مات منهم ورثه الشيخ المترجم المذكور، وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 الميت، وفيهم من وجد له مال عظيم، ولا يجد لنفسه معارضاً في ذلك. واتفق أن الشيخ الحنفي نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقاً مكشوف الرأس مضروباً بالنعال على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ، ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته، وتسمع كلمته، ويقال قال الشيخ كذا، وأمر الشيخ بكذا، وصار يلبس الملابس الفاخرة والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقون به من كل جانب، وتزوج الكثير من النساء الجميلات الغنيات، واشترى السراري البيض والحبش السود، وكان يقرض الأكابر المقادير الكثيرة من الأموال ليكون له عليهم الفضل والمنة. ولم يزل حتى حمله التفاخر في أيام الفرنسيس على المداخلة في الفتنة والرئاسة مع من ترأس، وقتل فيمن قتل في القلعة ولم يعلم له قبر، وكان ذلك في سنة أربع عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزيدي المدفون ببجيرم نسبة إلى زيده بالقرب من منية ابن خصيم، وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمد بن حنفية هو العالم الفقيه، والمحدث النبيه، خاتمة المحققين، وعمدة المدققين، بقية السلف، ونخبة الخلف، وكعبة العلماء، ومرجع الفقهاء، من طار في الآفاق ذكره، ورقي على أوج الرفعة قدره، وتحلى بالفضائل، وتقدم على الأفاضل. ولد ببجيرم قرية من الغربية سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وحضر إلى مصر صغيراً دون البلوغ، ورباه قريبه الشيخ موسى البجيرمي، فحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم، وحضر على الشيخ العشماوي في الصحيحين وأبي داوود والترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 والشفا والمواهب، وشرح المنهج لشيخ الإسلام، وشرحي المنهاج لكل من الرملي وابن حجر، وحضر دروس الشيخ الحفني، وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي، وأخذ عن الديربي وغيره، وحضر أيضاً دروس الشيخ علي الصميدي، والسيد البليدي، وشارك كثيراً من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره. وكان إنساناً حسناً حميد الأخلاق متجمعاً عن مخالطة الناس مقبلاً على شأنه، وقد انتفع به أناس كثيرون، وكف بصره في آخر عمره، ومن تآليفه: حاشيته على شرح المنهج أربع مجلدات، وأخرى على الخطيب وغير ذلك، وقبل وفاته سافر إلى مصطية بالقرب من بجيرم فتوفي بها ليلة الاثنين وقت السحر ثالث عشر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه. الشيخ سليمان الفيومي المالكي الأزهري العمدة النحرير، والنبيل الشهير، كريم الأفعال، جميل الخصال، ولد بالفيوم، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن، وجاور في الأزهر، وكان في أول عمره يمشي خلف حمار الشيخ الصعيدي وعليه دارعة صوف وشملة صفراء، ثم حضر دروسه ودروس الشيخ الدردير وغيرهما، واختلط مع المنشدين على الاذكار، وكان له صوت حسن مطرب، فيذهب إلى بيوت الأعيان في الليالي فينشد الأنشادات ويقرأ الأعشار من القرآن، فيعجب الحاضرون به ويكرمونه زيادة على غيره، واختلط ببعض الأعيان البرقوقية من ذرية السلطان برقوق، وهم نظارعلى أوقافه، فراج أمره، وكثرت معارفه بالأغوات الطواشية، وبهم توصل إلى نساء الأمراء والسعي في حوائجهن، وصار له قبول زائد عندهن وعند أزواجهن، وتجمل بالملابس وركب البغال. ولما مات الشيخ محمد العقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 تعين المترجم لمشيخة رواق الفيمة، وبنى له محمد بيك المعروف بالمبدول داراً عظيمة بحارة عابدين، وكانت تأتيه الهدايا من الأمراء وغيرهم، وتزوج ببنت عبد الله الرومي وتصرف في أوقاف أبيها، وكان مع قلة بضاعته في العلم مشاركاً بسبب التداخل في القضايا. وكان كريم النفس جداً يجود وما لديه قليل، مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير، والجليل والحقير، وطعامه مبذول للواردين فكل من دخل عليه لابد أن يقدم له طعاماً، ولا يرد طالباً بلا شيء ولو أنه يقترض، ويدفع فوق المأمول، وكان لا يتأخر عن مساعدة ذي حاجة أصلاً، مع كونه نافذ الكلمة، مقبول الشفاعة، ولا يقبل من أحد شيئاً مكافأة على فعله، فمالت إليه القلوب، ووفدت عليه الناس من كل جانب، وطارت شهرته في البلاد والأماكن، وكان إذا نَزَلَ عنده ذو حاجة فلا يخرج من داره حتى تقضى حاجته، فيودعه ويزوده ما يكفيه إلى وطنه. ولما أخذ الفرنساويون مصر عام ثلاثة عشر، كانت داره ملجأ القاصدين ومنهل الواردين من الناس، لأنه كان عند الفرنساويين من المقدمين على غيره، ولم يزل في ازدياد إلى أن نزل به مرض فأبطل شقه، وعقد لسانه، ولم يزل حتى توفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 حرف الشين السيد شاكر بن علي بن سعد بن علي بن سالم العمري الحنفي الدمشقي شيخ قد فاق في العلم والعمل، وحاز في التقوى والعبادة والحلم والكرم بغية الأمل، قد جمله الله تعالى بأحسن الشمائل، وتوجه بتاج الكمال والفضائل، وزينه بفرائد الفنون وعوائد العلوم، وأظهر له ينابيع المنطوق والمفهوم، فارتقى ذروة المعارف، وبزغت من مشارق أفكاره شموس اللطائف. ولد في دمشق الشام، سنة ألف ومائة وسبع وخمسين في محرم الحرام، ثم التفت لطلب العلوم، حتى صار بيت القصيد ومرجع العموم. قرأ على الشيخ محمد الكزبري الشافعي، وعلى ولده الشيخ عبد الرحمن، وعلى المنلا علي التركماني، وعلي أفندي الداغستاني، وعلى الشيخ علي السليمي، وعلى الشيخ مصطفى الأيوبي، وعلى الشيخ إبراهيم الخلوتي، وعلى الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 محمد العجلوني، وعلى الشيخ احمد بن عبيد الله الحمصي، وعلى الشيخ إبراهيم الغزي الصايحاني، وعلى الشيخ مصطفى ابن أحمد بن محمد بن سلامة اللقيمي، والشيخ محمد بن أبي بكر الدمشقي، وغيرهم من الشاميين وغيرهم، وقد أجازوه جميعاً بما تجوز لهم روايته عن مشايخهم، وكانت له شهرة عظيمة، وبركة شاملة عميقة، فكان يعتمد عليه، ويشار إليه، ومن نظمه يمدح شيخه الإمام الفاضل السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس يا بني العيدروس أنتم ملاذي ... أنتم ملجأي بني العيدروس فاعطفوا سادتي على عبد رق ... رق من صبوة وشوق رسيس وقال أيضاً: يا آل بيت العيدروس أنتم ... أهل الصفا وبكم تطيب لذائذي عطفاً على من أزعجته كروبه ... فحماكم للمستجير العائذ وقد مدحه تلميذه السيد محمد عابدين بقصيدة منها قوله: لاانثني عن حبه وغرامه ... أبداً وإن كانت دموعي تغدق إلا إلى مدحي لروض العلم مَنْ ... مِن عرفه كل الورى تستنشق العالم العلامة الفرد الفريد اللوذعي الألمعي الحاذق هو شاكر ولربه ذي الشكر شا ... كر دائماً دائماً عن شكره لا يزلق إلى آخرها وهي طويلة وحينما قدمها لشيخه المرقوم أجابه بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 حبيب لقد أهدى إلي مدائحاً ... ألذ على قلبي وأشهى من الشهد عقود جمان صاغها فكر بارع ... خبير بتنظيم الفرائد في العقد أديب أريب ألمعي سميدع ... نبيل نبيه لوذعي عطر الند فصن ذاته من حاسد ومعاند ... ويمم به سبل المسرة والجد وحين رجا مني القبول تخضعاً ... تلقيتها بالشكر منه وبالحمد ومن قوله رضي الله عنه قرب وفاته في آخر عمره: قد آن يا خلي ويا بغيتي ... أرجع عن ميلي وعن صبوتي واتقي رباً سريع الرضا ... ينعم بالعفو وبالتوبة وكانت وفاته رضي الله عنه بعد العصر نهار الجمعة لأربع مضت من محرم الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، ودفن بمقبرة الذهبية قرب قبر سيدي أيوب الخلوتي من جهة رأسه. الشيخ شاكر بن خليل بن ناصر بن محمد المجذوب الرفاعي الميداني كان رجلاً صالحاً متعبداً مشتغلاً بأوراد القطب الأوحد السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره، وجعل أعلى الجنان مقره، وللناس به اعتقاد، وتأتي إليه النساء لأخذ التمائم بكل اعتقاد!! وقد عاش من العمر فوق الثمانين مع كل الاستقامة، إلى أن دعته المنية سنة ألف ومائتين وست وستين 10 ذي الحجة ودفن بباب الله. شعبان بن عبد الله بن شعبان الانطاكي أحد العلماء العظام، وأوحد العلماء الأعلام، المشهور بالتقوى والصلاح، والمذكور بالعبادة والفلاح، والزهد والكمال، والبشر والجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 ولد بانطاكية عام اثنتين وعشرين ومائة وألف، وقرأ على علمائها حتى صار من فضلائها، وكان جل انتفاعه بقريبه السيد محمد أفندي بن علي أفندي المفتي ولا زال يترقى في العلوم إلى أن وليَّ وظيفة الإفتاء ببلده المذكورة، وكانت فضائله وشمائله مأثورة، فاشتهر أمره وعلا ذكره، وأحبه الناس لكماله وحسن أفعاله، وأطبق العموم على أنه للنظير معدوم، ولم يزل على حاله إلى أن دعته المنية إلى الدار العلية. فتوفي أوائل شعبان عام ألف ومائتين وثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 حرف الصاد الشيخ صادق أفندي الواعظ الحنفي كان إماماً كاملاً، وعالماً عاملاً، متمسكاً بدينه، متمكناً بعقيدته ويقينه، لا يخشى سطوة أمير مكابر، ولا إمام جائر، صداعاً في قوله، معتمداً على الله في قوته وحوله، لا يميل مع نفسه إلى ملائم ولا تأخذه في الله لومة لائم، وفي سنة بضع وثمانين بعد المائتين والألف حضر لدار السلطنة العلية، وعاصمة الأمة الإسلامية، في أيام خلافة أعظم ملوك الإسلام، وسيد ملوك الأنام، السلطان عبد العزيز خان، عليه الرحمة والرضوان، وكان دخول المترجم أوائل رمضان، فكان يقرأ درس الوعظ في أيا صوفيا إلى اليوم السابع والعشرين، وقد جرت العادة أن السلطان في ذلك اليوم يدور على الدروس، فمتى أتى لدرس يختم المدرس الكلام، ويدعو للسلطان، فما زال السلطان يجري العادة ومعه وكلاء الدولة العظام، وشيخ المسلمين والإسلام، إلى أن وصل لدرس المترجم، فلم يجر العادة من الختم في الحال والدعاء، بل التفت إلى الوكلاء، وخاطبهم بما لا يليق خطابهم به من كونهم أدخلوا على السلطان الغرور، وأبطلوا الشريعة وارتكبوا سفاسف الأمور، ونكسوا أعلام الدين، وقدموا المخالفين على المؤمنين، وأطال الكلام، وتجاوز الحد في هذا المقام، والسلطان صاغ إليه، فحقد الوكلاء عليه، فبعد أن ختم ذهب، وقد أضمروا له كل عطب، ثم بعد ذلك اجتمعوا وذهبوا إلى السلطان، فدخلوا عليه بعد تقديم الاستئذان وتكلموا في حق المترجم بما غير قلب أمير المؤمنين عليه، وقالوا له قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 فعل ما أوجب توجيه المضرة إليه، فلا بد من إعدامه، ليتأدب غيره عن التكلم بمثل كلامه، فقال أمير المؤمنين نعم ولكن لا بد من مرافعتكم معه في مجلس شيخ الإسلام، لئلا يقول الناس قتل ظلماً فَنَقَعَ بين العموم في الملام، فحينما أحس شيخ الإسلام، دخل على الملك خفية عن الوكلاء العظام، ولم يزل يتعطف للسلطان، ويسترحمه بالعفو عن هذا الإنسان، ويقول له إن قتلناه قيل بالعبارات الصريحة، إن السلطان قد قتله لبذله النصيحة، ولكن نفيه أولى، ورأي أمير المؤمنين أعظم وأعلى. فأمر السلطان بنفيه في الحال، فأرسل إلى عكا من غير امهال. مطلب قصة محمد بهاء الله رئيس البابية وكان ممن نفي من بلاد العجم قبله إلى عكا محمد بهاء الله رئيس البابية. والناس قد اختلفوا فيه على أنواع، فمنهم من يقول يَدَّعي بأنه المهدي، ومنهم من يقول أنه يدعي النبوة، ومنهم من يقول يدعي الألوهية، فألف المترجم رسالة في عقيدتهم غير وافية بالمقصود، غير أني أحببت ذكرها بعد تعريبها لأنه ألفها باللغة التركية وهي: كان مبدأ ظهور البابية في تاريخ سنة ألف ومائتين وخمس وستين وهو أنه ظهر رجل في شيراز سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، واسمه علي بن محمد بن رضا الحسيني وهو رجل تاجر، فذهب إلى مكة لمصداق الأحاديث من أن المهدي يظهر من مكة، ووقف عند مقام إبراهيم يوم الجمعة والخطيب على المنبر وصاح بأعلى صوته أنه هو المهدي وأنه قد ظهر، فأخذه رفقاءه في الحال لمنزلهم ثم ساروا به إلى شيراز، وأخذ هناك يدعو الناس إليه سراً وجهراً، ويقول لهم أنه المهدي المنتظر، فما زال يتفاقم أمره، ويعظم ذكره، وتكثر جماعته، وتزداد دعوته إلى أن سجن في السجن، وكان قبل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 قد سجن مراراً وشاه العجم يطلقه، ولكنه في هذه المرة، قد تجسمت منه المضرة، وطغت عليه نفسه، فصار من اللازم إهانته وحبسه، وفي السنة السابعة من ظهوره، الكاسفة لبهاء وجوده ونوره، قتل بالرصاص وهو مصلوب، وعاملته الأيام بعكس المرغوب. وفي هذه المدة التي مضت عليه في الحبس قد حرر ستة وتسعين مصحفاً، وتمكن بعد مشقة عظيمة من إرسالها إلى خارج السجن، ووصولها إلى اخوته وجماعته، ومن بعد قتله، وصل إلى أخويه بعض من كتبه فباشرا الدعوة بالنيابة عنه، إلا أن كل واحد منهما يدَّعيها لنفسه ويكذب الآخر، ثم تجاذفا في دعواهما فصار كل منهما يدَّعي النبوة عوضاً عن المهدية، وأخذا في تحرير الرسائل وإرسالها بدعوى النبوة العظمى، وطُلِبَ إلى النَّاسِ تصديقهما، وجالا في البلاد لدعوى العباد، فلما وصلا إلى مدينة ادرنة اشتد بينهما الخصام، وصار كل منهما حريصاً على قتل أخيه وإلقائه في حيز الإعدام، وكان فسادهما قد سرى على بعض الناس من غير مرا، فقبضت الحكومة عليهما، وحكمت بتوجيه النفي إليهما، فنفي أحدهما إلى قبرس، والثاني إلى عكا مؤبدين. وسبب دعوى هذين النبوة إنما كان من علي بن محمد بن رضا المومى إليه أعلاه الشيعي المذهب، فإنه لما كان في السجن ادعى سنة في ابتداء أمره أنه المهدي، ثم ادعى أربع سنين أنه نبي، ثم ادعى الألوهية وصورة دعواه على المنوال الآتي: وهو أنه في قديم الزمان كل نبِيٍّ عصرٍ لما تتم مدته تنتقل أمته الموجودون إلى النبي الآخر وهكذا إلى حضرة محمد صلى الله عليه وسلم الذي تختم مدته سنة ألف ومائتين وخمس عشرين فأخذ أمته وذهب إلى المحشر، وبعد ذلك جميع ملل الأرض تخصني حيث صرت نبياً لها، وبعد سنة ألف ومائتين وخمس وثلاثين يظهر نبي أفضل مني وبه تتم مدتي، وكلما جاء نبي يكون أكمل وأعظم ممن قبله، وهذا الحكم سار من الأول الذي لا أول له إلى الآخر الذي لا آخر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 وإن كتبه التي رأيناها يفهم من بعضها أنه المهدي ومن بعضها أنه نبي ومن بعضها أنه إله؛ وذلك مبني على الأصول والقواعد الشيعية، فانهم ليس لهم ثبات على حال واحد، بل هم متقلبون ويتلونون على أنواع شتى، وقواعد البابيين كذلك فليس لهم ثبات على حال واحد، وإن القرآن الذي يدعون أنه نزل عليهم عبارة عن مواعظ وأحكام قليلة متضاربة، غير أنها توصي كثيراً بتخريب الكعبة حيث قد جعلوا مكانها مسجده الذي في شيراز، فعندهم قد بطلت الكعبة الحجازية بالكعبة الشيرازية، ويوصي بأنه يلزم اشتراء البيوت التي حول مسجد شيراز وإدخالها في المسجد للتوسعة، ويقتضى بأن يجعل له خمسة وتسعون باباً، وأخبر في كتبه بوقوع أمور شتى إلى الآن لم يظهر منها شيء، وكذلك أخبر بانتشار أمته شرقاً وغرباً، وجعل السنة تسعة عشر شهراً كل شهر تسعة عشر يوماً، وتأمر كتبه بالصلاة في يوم وقت الظهر فقط، وأن التوجه يكون إلى مسجده الشيرازي وهذا كله بعد موته، وأما حال حياته فإنه اتخذ لنفسه قبلة خاصة به، وكان يأمر بالصلاة تارة ركعتين وتارة تسع عشرة ركعة، وكان يحكم بأن الهواء والتراب النقي الطاهر كل منهما مطهر من النجاسة من غير ضرورة، ولهذا لا يلزم الغسل من الجنابة ولا غسل الثوب والبدن من النجاسة لتطهير الهواء لهم، وإذا استعملوا الماء إنما يستعملونه بين المنكرين تقية، ويجوز عندهم نكاح الأخت وصوم رمضان تسعة عشر يوماً. وقد غير لهم نظام التركات، وإذا صلى أحدهم يقول بدل السلام الله أكبر. وبدل التحيات، وإذا أراد أحدهم السلام إن كان رجل قال الله أعظم وإن كان امرأة تقول الله أجل، وذلك كله مع أشياء أخر يطول استقصاؤها إنما هي مأخوذة عن أخيها الأول واتبعوه بعد موته على ذلك وداوموا عليه وأشاعوه في بغداد وأدرنة، إلى أن بدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 بينهما البغضاء والشحناء بسبب الاختلاف في الديانة، وتسلط الأخ الكبر على قتل أتباع أخيه الصغر خفية، ولذلك فرقوا بينهما حين النفي فجعلوا الأصغر في قبرس والأكبر في عكا، ودعوى الصغر انه نبي وإن الآيات الإلهية دائماً تتنزل عليه ويحررها مصاحف ويرسل بها خفية إلى إيران، فيتلقونها بالقبول والإذعان. ومما أنزل عليه وحرره في مصاحفه: أيها الإيرانيون أخي الذي في عكا شيطان لا نبي، أنتم آمنوا بي إني أنا نبي ولا تؤمنوا له فيكون مأواكم النار؛ وأمثال ذلك مما ينفر عن أخيه ويرغب فيه، وما عدا ذلك مما هو مذكور في مصاحفه المنزلة عليه، فإنه اقتباس من القرآن وتقليد له. وأما التنزلات البغدادية عليه فإنها وصايا دالة على خزي أخيه الكبر، وكان يذكر في عباراته تارة اسم شيطان وتارة اسم سفيان وتارة أسم خنزير، ومراده بالأول أخوه، وبالثاني وزير شاه العجم، وبالثالث الشاه نفسه. وتارة يعبر عن أخيه بكافر. وحيث أن الفتنة بينهما لا تهدأ في ليل ولا في نهار حصل للحكومة منهم قلق عظيم، وشغل فكر جسيم، وتحمل الأهالي منهم مضرة عظيمة، ومن جملة مضرتهم أن الكبير العكاوي أرسل خفية جلادين من اتباعه وهو سبعة أنفار بالسلاح التام إلى جملة من جماعة أخيه الصغر المنفيين إلى عكا فطرقوا عليهم الباب ففتحوا لهم فسارعوا الدخول فلم يجدوا وقتئذ غير ثلاثة أنفار، فلم يزالوا يضربونهم حتى أعدموهم، وكان محلهم قريباً من مركز الحكومة فكثر الصياح عليهم والضجيج، والعويل والعجيج، فهجمت العساكر عليهم بأمر الحكومة ووضعوهم في الحبس، ثم إن الأخ الأكبر وإن كان مدعياً النبوة إلا أنه من حين وصوله إلى عكا أسبل على نفسه حجاب التقية، وقد اطلع البعض على شيء من تحريراته فأفادت انه يقول إن النبوة الآن تابعة للنبوة الماضية، غير أنه لشدة حجابه وتقيته لم يظهر كمال حاله، لأنه لم يخرج من منزله أصلاً ولا يراه أحد إلا في يوم الحادثة التي قامت عليهم بسبب قتل جماعته بعض جماعة أخيه، فأنهم أخرجوه لدارة الحكومة جبراً، وبعد ذلك رجع إلى محله ولم يظهر لأحد قط. وهو كثير الاعتبار لنفسه يخاف على بخس اعتباره وقدره أشد الخوف، وعنده من التكبر مالا يحاط به، وله عدة زوجات، يحب الرفاهية والملابس الحسنة والمآكل النفيسة من الطيور وغيرها من الحيوانات والحلويات، وداره في عكا تساوي أكثر من ثلاثمائة ألف وعنده سبعة من الجلادين وأربعة نم الحواريين، وما عداهم أصحاب، فيذهبون كل يوم إلى داره ويصلون ركعتين يتوجهون بهما إليه بكمال الخضوع، وهو قائم رافع رأسه إلى السماء، وعند تمام الصلاة يعظهم حصة ثم يسجدون له كسجودهم عند الدخول ويتفرقون، ومقدار أمته عشرون من قومه وخمسة من أهالي عكا، واثنان نصارى، وذلك يدل على أنه يدَّعي الألوهية لا النبوة. العجم، وبالثالث الشاه نفسه. وتارة يعبر عن أخيه بكافر. وحيث أن الفتنة بينهما لا تهدأ في ليل ولا في نهار حصل للحكومة منهم قلق عظيم، وشغل فكر جسيم، وتحمل الأهالي منهم مضرة عظيمة، ومن جملة مضرتهم أن الكبير العكاوي أرسل خفية جلادين من اتباعه وهو سبعة أنفار بالسلاح التام إلى جملة من جماعة أخيه الصغر المنفيين إلى عكا فطرقوا عليهم الباب ففتحوا لهم فسارعوا الدخول فلم يجدوا وقتئذ غير ثلاثة أنفار، فلم يزالوا يضربونهم حتى أعدموهم، وكان محلهم قريباً من مركز الحكومة فكثر الصياح عليهم والضجيج، والعويل والعجيج، فهجمت العساكر عليهم بأمر الحكومة ووضعوهم في الحبس، ثم إن الأخ الأكبر وإن كان مدعياً النبوة إلا أنه من حين وصوله إلى عكا أسبل على نفسه حجاب التقية، وقد اطلع البعض على شيء من تحريراته فأفادت انه يقول إن النبوة الآن تابعة للنبوة الماضية، غير أنه لشدة حجابه وتقيته لم يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 كمال حاله، لأنه لم يخرج من منزله أصلاً ولا يراه أحد إلا في يوم الحادثة التي قامت عليهم بسبب قتل جماعته بعض جماعة أخيه، فأنهم أخرجوه لدارة الحكومة جبراً، وبعد ذلك رجع إلى محله ولم يظهر لأحد قط. وهو كثير الاعتبار لنفسه يخاف على بخس اعتباره وقدره أشد الخوف، وعنده من التكبر مالا يحاط به، وله عدة زوجات، يحب الرفاهية والملابس الحسنة والمآكل النفيسة من الطيور وغيرها من الحيوانات والحلويات، وداره في عكا تساوي أكثر من ثلاثمائة ألف وعنده سبعة من الجلادين وأربعة نم الحواريين، وما عداهم أصحاب، فيذهبون كل يوم إلى داره ويصلون ركعتين يتوجهون بهما إليه بكمال الخضوع، وهو قائم رافع رأسه إلى السماء، وعند تمام الصلاة يعظهم حصة ثم يسجدون له كسجودهم عند الدخول ويتفرقون، ومقدار أمته عشرون من قومه وخمسة من أهالي عكا، واثنان نصارى، وذلك يدل على أنه يدَّعي الألوهية لا النبوة. وهذا ملخص الرسالة مع حذف ما لا حاجة إليه مما لا ارتباط له بأمر الديانة والاعتقاد وقد كنت مررت على عكا بعد الألف والمائتين والتسعين فاجتمعت بوله عباس أفندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 وكان يتبرأ كثيراً من نسبة ذلك إلى والده، وكان يقول لي أن والدي يأكل ويشرب ويأتي النساء ويمرض ويتألم، ومن تعرض له هذه العوارض كيف يسوغ له أن يكون ألهاً؟ وهذه الدعوة افتراها عليه أخوه الأصغر وجماعته، إلا أن أكثر أهل عكا ممن اجتمعت بهم ينسبون له هذا الاعتقاد وقد أرسل والي الشام سفيراً من طرفه لاستكشاف حالهم حينما كنت هناك، فاستحصل مصحفاً منسوباً إليه مشتملاً على آيات ملفقة من القرآن. وقد رأيته ثم سألت عنه ولده المومى إليه، فقال وهذا أيضاً من جملة الافتراء علينا، وليت شعري من الذي رأى والدي وسمع منه ذلك، أو شاهد منه حالاً يقتضي دعوة النبوة أو الألوهية، كل ذلك من أكاذيب أعدائنا والافتراء علينا لا أصل له، والله يعلم ذلك لا تخفى عليه خافية في الوجود. ثم إن المترجم استأذن من الباب العالي في التوجه إلى الحجاز، فجاءه الجواب بالإذن، وبعد توجهه وقضاء مناسكه بالتمام، تمرض أياماً وتوفي بالبلد الحرام، ودفن هناك في المعلى الشريف، وكان ذلك في ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 الشيخ صادق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد البخشي الحلبي الحنفي الخلوتي صلاح الدين أبو النجا شيخ الإخلاصية بحلب، العالم الخَيِّر البركة الصالح الدين العمدة الإمام المرشد، مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف ونشأ بكنف والده وأعمامه وأخذ عنهم وقرأ عليهم وانتفع بهم، وأكثر انتفاعه بعمه أبي الإخلاص حسن بن عبد الله البخشي، وقرأ على أبي عبد الفتاح محمد بن الحسين، وأبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجبريني، وأبي العدل قاسم بن محمد النجار، وقرأ صحيح البخاري على أبي محمد عبد الكريم ابن أحمد بن محمد علوان الشراباتي. ولما قدم حلب سنة أربع وأربعين ومائة وألف المسند الرحلة أبو عبد الله جمال الدين محمد بن أحمد عقيلة بن سعيد المكي، وزارهم في تكية الإخلاصية الكائنة بمحلة البياضة، سمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وحيث المصافحة والمشابكة، وأجاز له بمروياته، وأسمع عليه مسلسلاته، بقراءة والده وعمه، وأجاز لهم جميعاً بخطه على ظهر إثباته، وأجاز له الشهاب احمد بن محمد المخملي، وهو يروي عن عمه البرهان إبراهيم النجشي وغيره، وأبو محمد عبد الوهاب بن احمد الزهري وآخرون، وكتبوا لهم خطوطهم وسمع عليهم الكثير واخذ الطريقة الخلوتية وغيرها عن عمه ووالده، ولما مات سنة خمس وسبعين ومائة وألف صار شيخاً مكانه في تكيتهم الإخلاصية المعروفة بهم، ولم يعارضه عمه في المشيخة وارتضاه، وكان يحنو عليه ويحبه ورباه وأحسن تربيته، وانتفع به وبآدابه وسمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 عليه ديوان شعره من لفظه، فأجازه بمروياته ومسموعاته، وكتب له بخطه بعد التلفظ مراراً، ولازم الاستقامة وتصدر الإرشاد والتسليك، واختلى كعادتهم ولازمه جماعتهم وأخذوا عنه، وكان يقيم الأذكار للتوحيد. وكان سخياً كريم الأخلاق حسن السريرة والسيرة كثير الديانة والخير من المشايخ الأخيار، رأيت بخط خليل أفندي المرادي يقول: ولما دخلت حلب المرة الثانية سنة خمس ومائتين وألف اجتمعت به غير مرة، وزارني وزرته وتردد إليَّ، وسمعت من لفظه وصافحني وشابكني كما أسمعه الأولية وصافحه وشابكه ابن عقيلة المكي، وأجاز لي بما تجوز له روايته لفظاً وكتابة على ظهر ثبت شيخه الشراباتي، ولم أقف على تاريخ موته. الشيخ صالح بن حسين بن أحمد بن أبي بكر الحلبي الحنفي الشهير بالدادنجي كوالده الفقيه الأصولي الكاتب البارع المتفوق الدَّيْن التقي الزاهد، مولده في إحدى الجمادين سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على جماعة وأخذ عنهم وأكثر من الفقه أخذاً وقراءة. ومن جملة من أخذ عنهم والده المومى إليه، وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني، وأبو الحسين علي بن إبراهيم العطار وأبو محمد عبد القادر بن بشير بن عبد الحق البشيري، وياسين الفرضي وأبو جعفر منصور بن علي الصواف، وعبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، وأبو السعادات طه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 ابن مهنا الجبريني، وعبد الوهاب بن قورد العرَّاس، وأبو محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني، وأبو عبد الله محمد بن محمد الطاهر التافلاتي المغربي، وأبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار، وآخرون، واعتنى بملازمتهم، وحضور مجالسهم، وأجازه الأكثر منهم بخطوطهم. وناب بالقضاء بحلب، وفي أريحا وإدلب وغيرها، وحفظ المسائل والفروع الفقهية، واعتنى أشد اعتناء بها، وكان شديد الحفظ لها قوي الاستحضار. وكانت الناس تراجعه في المسائل. وكان يلازم قراءة الأوراد والأذكار، كثير العبادة لطيف العشرة، وكان والده من مشاهير علماء حلب أصحاب الرفعة والشان، ولما صاهر المولى الرئيس صالح بن إبراهيم بن عبد الله الدادنجي أحد أعيان حلب، وتزوج بابنته أم العز خاتون، وانتمى غليه وسكن عنده، غلبت عليه نسبته وصار لا يعلم إلا بها بين الناس، وتارة كان يكتب في تحريراته الدادنجي وتارة الصالحي نسبة إلى مخدومه المذكور، وجاءه من ابنته أبو الحسين صالح صاحب الترجمة، فنسبته حينئذ صحيحة من جهة والدته دون والده وأقاربه المشهورين بهذه النسبة. واجتمع به في آخر أمره العالم الدمشقي خليل أفندي المرادي في حلب حين زارها عام ألف ومائتين وخمسة وأخذ عنه واستجازه وطلب دعاه. وكان يتردد عليه كثيراً ويتذاكر معه المسائل النادرة الفقهية كما رأيت ذلك بخطه. وتوفي عام ألف ومائتين ودون العشرة غالباً رحمه الله تعالى وذلك بعد أن مرض بداء الفالج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 الشيخ صالح بن درويش التميمي عالم غمام، وفاضل همام، قد شاع في العالم ذكره، وذاع في الأنام نشره، وسما فخاره، ونما وقاره، وافتخر به عصره، واشتهرت به مصره، قد فاق أقرانه في النظم والنثر، وزان اوانه في القوافي والشعر، وكان في كل علم آية، وفي كل فن قد وقف على الغاية، وله قصيدة همزية، يمدح فيها ابن عم سيد البرية، وقد خمسها له الشاعر المشهور، الذي هو في حرف العين مذكور، السيد عبد الباقي أفندي العمري الفاروقي الموصلي، وقد ذكرها في ديوانه الترياق الفاروقي مقدماً عليها هذه الترجمة وهي قوله: هذا التخميس المحكم التأسيس، الذي يسلي الجليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 عن تعاطي بواطي الخندريس على القصيدة الهمزية، والخريدة ذات المزية، لإمام أئمة الأدب، ومالك أزمة لسان العرب، جناب وليي وحميمي الشيخ صالح التميمي، مادحاً بها حضرة أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين ويعسوب الموحدين، وأبي الغر الميامين، عليه وعليهم سلام الله إلى يوم الدين: يا علياً به تباهى العلاء ... وتناهى في نعته الإطراء ما لمجد شاءَوْتَ فيه انتهاء ... غاية المدح في علاك ابتداء ليت شعري ما تصنع الشعراء كنت للمجتبي بحرب وسلم ... وزراً قائماً بكل مهم أنت صنو له بعلم وحكم ... يا أخا المصطفى وخير ابن عم وأميرٍ إن عدت الأمراء رتب نلتها بنسبة طه ... قصرت كل رتبة عن مداها إن نظرنا الأنام من مبتداها ... ما نرى ما استطال إلا تناهى ومعاليك ما لهن انتهاء لدراريك في سما المجد ضوء ... وبحضن الدوار منهن خبء يقتفي الختم من سواريك بدء ... فلك دائر إذا غاب جزء من نواحيه أشرقت أجزاء أو كشمس يغشى سناها الهباء ... من غبار تثيره الهيجاء فيميط الهباء عنها الهواء ... أو كبدر ما يعتريه خفاء من غمام إلا عراه انجلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 انت بحر لكنه غير آجن ... لقريش به حمى ومساكن لك مد قبل التكون كائن ... يحذر البحر صولة الجزر لكن غارة المد غارة شعواء نلت فضلاً أبا تراب فأقصى ... كل فضل عم الوجود وخصا وبيوم الحساب لا يستقصى ... ربما رمل عالج يوم يحصى لم يضق في رماله الإحصاء ولو أن الأقلام كل نبات ... ومياه البحار حبر دواة ضقن عما أظهرت من خارقات ... وتضيق الأرقام عن معجزات لك يا من إليه ردت ذكاء منهجاً للهدى خلقت قديماً ... جئت تهدي عمياً وتشفي سقيما فاتخذناك هادياً وحكيماً ... يا صراطاً إلى الهدى مستقيما وبه جاء للصدور الشفاء شدت في ذي الفقار للدين أصلاً ... فتسامى قدراً وعزَّ زجلا وعلى ما أسست قولاً وفعلاً ... بني الدين فاستقام ولولا ضرب ماضيك ما استقام البناء أنت والحق دمتما بوفاق ... أنت يوم اللقا عن الحوض ساق أنت ذاك الكرار يوم سباق ... أنت للحق سلم ما لراق يتأتى بغيره الارتقاءُ فيك خير الأنام أوتي سؤلاً ... مثل ما أوتي ابن عمران قبلا يا أبا شُبَّر وقد صح نقلاً ... أنت هارون والكليم محلا من نبيٍّ سمعت به الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 قل تعالوا ندعو بمحكم ذكر ... لك فخر بها علا كل فخر أنا ادري وجملة الخلق تدري ... أنت ثاني ذوي الكسا لعمري أشرف الخلق من حواه الكساء كنت في جيب الغيب معنى يصان ... حين لا أعصر ولا أحيان أيقل الأسرار منك مكان ... ولقد كنت والسماء دخان ما بها فرقد ولا جوزاء بك ليل العماء بلالي ... فاستضاء الوجود من ظلمة الغي درة كنت والجواهر لا شي ... في دجى بحر قدرة بين بردي صدف فيه للوجود الضياء نقطة فرغت وليس وعاء ... ملئت حكمة ولا إملاء أنت باء لها العباء غطاء ... لا الخلا يوم ذاك فيها خلاء فيسمي ولا الملاء ملاء خبر جاءنا بذا مأثور ... وحديث مسلسل مشهور عنعنته عن الصدور صدور ... قال زوراً من قال ذلك زور وافترى من يقول ذاك افتراء قصب السبق في مقام كريم ... حزتها من لدن حكيم عليم أنت يا من سبقت في تقديم ... آية في القديم صنع قديم قاهر قادر على ما يشاء هل " أتى " في سواك ذكر حكيم ... لك في نص آية تعظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 أو لم يغن من له الجهل خيم ... نبأ والعظيم قال عظيم ويل قوم لم يغنها الأنباء خصك الله من لدنه بمفخر ... في مرايا العقول لا يتصور كنت في غابة الهوية حيدر ... لم تكن في العموم من عالم الذر وينهى عن العموم النهاء إنما الناس إن نظرت معادن ... فرقها في تفاضل متباين خلني من دفائن وضغائن ... معدن الناس كلها الأرض لكن أنت من جوهر وهم حصباء كم قضينا من نشر تلك المطاوي ... عجباً يوقع النهى في مهاوي ولقد صح إذ سبرنا الفحاوي ... شبه الشكل ليس يقضي تساوي إنما في الحقائق الاستواء لم ينل نجم الأرض مهما تزيا ... مثل نجم السما مكاناً عليا فاتحاد الألفاظ لم يغن شياً ... لا تفيد الثرى حروف الثريا رفعة أو يعمه استعلاء روضة أنت للعقول ودوح ... يجتني من طوباك رشد ونصح ومتى هب من عبيرك نفح ... شمل الروح من نسيمك روح حين من ربه أتاه النداء طالما للأملاك كنت دليلاً ... ولناموسهم هديت سبيلا يوم نادى رب السماء جبرئيلا ... قائلاً من أنا فروى قليلا وهو لولاك فاته الاهتداء لك شكل نتيجة للقضايا ... لك قلب للعالمين مرايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 لك فعل حوى رفيع المزايا ... لك اسم رآه خير البرايا مذ تدلى وضمه الإسراء فوعاه بالحس حداً ورسماً ... حيث ساوى معناه منك مسمى قبل عرض الأسماء اسماً فاسماً ... خط مع اسمه على العرش قدما في زمان لم تعرض الأسماء إثر هذا أبدى عوالم ملك ... فاطر الأرض والسماوات حبك وأناط البروج فيها بسلك ... ثم لاح الصباح من غير شك وبدا سرها وبان الخفاء فقضاها مسبب الأسباب ... نوبة للأرحام والأصلاب وجرى ما جرى بأم الكتاب ... وبرى الله آدماً من تراب ثم كانت من آدم حواء وللمترجم قصائد كثيرة، ومدائح شهيرة، قد تناولتها بالقبول يد الأكابر، وشهد لها بالفضل كل ناثر وشاعر. مات المترجم رحمه الله سنة ألف ومائتين وإحدى وستين. الشيخ صالح اليافي أحد المجاورين في المدرسة الباذرائية الشافعي الخلوتي كان إماماً بارعاً عابداً، وصالحاً تقياً زاهداً، قد اشتغل في الإرشاد وربى المريدين وأفاد، وكان مستمراً على هذه الحالة الحسنة، والمنقبة المستحسنة. وله تأليفات عديدة، وتقييدات مفيدة، منها مختصر التفسير ومنها الحكم في كلام القوم. وكان على طريق السادة الصوفية، والقادة الخلوتية. توفي سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح وقبره معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 الشيخ صالح السيوطي الدشمقي الحنبلي مفتي الحنابلة في دمشق وابن مفتيها ولد بدمشق ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، إلى أن صار من الأعلام والفضلاء الكرام، وتولى نظارة جامع بني أمية. وكان ذا هيبة ووقار، محترماً مبجلاً معظماً بين الأخيار. مات رحمه الله في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح عند أسلافه. الشيخ صالح المعروف بابن شمس وهو صالح بن يوسف بن أحمد بن إبراهيم بن شمس الدمشقي الشافعي الأشعري كان أحد الأفراد الفضلاء، وأوحد السادة الأمجاد النبلاء، له من التحقيق الحظ الأوفر، ومن التدقيق النصيب الذي لا يحصر، مع هيبة ووقار، ورفعة ذات اشتهار. أخذ عن العلماء الدمشقيين الأعلام، وحضر دروسهم إلى أن بلغ جل المرام، ثم أفاد بعد أن استفاد، وبلغ الطلبة به كل مراد. وهو من بيت مجد قديم، ليس فيهم قبيح ولا ذميم. مات في دمشق سنة سبع عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة الشيخ ارسلان. الشيخ صالح بن محمد بن خليل بن صالح بن خليل الدمشقي الشافعي الشهير بالقزاز ولد بدمشق ونشأ بها، وكان عالماً عاملاً وفقيهاً فاضلاً، ورعاً زاهداً وناسكاً عابداً، من مشاهير العلماء وأفاضل الفضلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 أروي مذهب الشافعي عن والدي عنه بسنده المتصل إلى صاحب المذهب، وهو من أجل شيوخ والدي. وقد أخذ عن كثيرين من أجلهم الشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار والسليمي الشيخ علي والشيخ أبي الفتح وغيرهم من الأجلاء. وكان كاتباً ذا خط جميل مع غاية السرعة، وكاد إذا رقم كتاباً كبيراً أن لا تجد فيه تحريفة من أوله إلى آخره توفي بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير قرب قبر سيدنا الصحابي الجليل أوس رضي الله عنه. الشيخ صالح بن محمد بن عبد الرحمن السفرجلاني الشافعي الدمشقي شيخ الطريقة الشاذلية السفرجلانية ولد بدمشق سنة ثمان وأربعين ومائة وألف، وعاش مائة وسبع سنين. وكان ذا دين وصلاح وتقوى ونجاح، وعبادة وفلاح وزهادة ورباح، مات رحمه الله سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين. الشيخ صالح بن يوسف الدمشقي الحنفي الشهير بالعش الأخ الصالح والعابد الفالح، كان من إخواننا في الأخذ على القطب الشهير السيد محمد الفاسي المكي. واشتغل عليه في طريق الشاذلية وحصل له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 بذلك تنوير عظيم، وكان قبل ذلك قد أخذ على الشيخ محمد مهدي الطريقة الخلوتية. وكان من أهل العلم والصلاح لطيفاً جميلاً حسن المعاشرة، له معرفة بالموسيقى وتقسيم الأنغام، وله محفوظية لطيفة من كلام القوم. وكان محبوباً عند الناس، وكان فقيراً قنوعاً عفيفاً متواضعاً، كثير الزيارة لمشاهد الأنبياء والأولياء، كثير التردد إلى الاخوان. مات بدمشق في عشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير عند قبر سيدنا بلال بن رباح الحبشي. الشيخ صالح عابدين بن السيد عبد العزيز السيد أحمد بن السيد عبد الرحيم بن السيد نجم الدين بن السيد محمد صلاح الدين الشهير بعابدين بن السيد نجم الدين بن السيد علي بن السيد محمد كمال بن السيد تقي الدين المدرس ابن السيد مصطفى الشهابي بن السيد حسين بن رحمة الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين عبد الله بن قاسم بن حسن بن إسماعيل بن حسين النتيف بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأعرج بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الصحابي الجليل الحسين بن السيد البتول فاطمة الزهراء بنت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذريته ذوي القدر الأفخم. ولد رحمه الله بدمشق ونشأ على الطاعة والعبادة، وكان من أهل التقوى والصلاح والزهادة، والكشف والشهود والدراية، وكثرة الذكر الموجبة لكمال العناية. وله مزايا كثيرة، وخوارق عادات شهيرة، وكان شغله في الدنيا التعلم والتعليم والتفهم والتفهيم، والإقبال على مولاه، والسعي في تحصيل رضاه، وكان قد بشر زوجة السيد عمر أخيه حين كانت حاملة بالمرحوم السيد محمد عابدين، وسماه بهذا الاسم وهو في بطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 أمه. ولما وضعت المرقوم أمه صار يأخذه المترجم عمه ويضعه في حجره ويقول له أعطيتك عطية الأسياد في رأسك، وكان الأمر كذلك فإن سيرة المرحوم السيد محمد عابدين وما حصله من الشهرة والمنقبة والفضل لا تخفى على أحد. مات هذا المترجم رحمه الله تعالى سنة ثلاث ومائتين وألف ودفن بباب الصغير قرب مقام العلائي صاحب الدر. الشيخ صالح بن سلطان بن محمد بن سلطان بن حسين الحلبي الشافعي العالم الفاضل، البارع الكامل، النحوي المتقن واللبيب المتفنن، أحد العلماء الأجلاء، وأوحد الذوات الفضلاء، مولده بحلب سنة سبع وخمسين ومائة وألف، ونشأ في حجر جده لكثرة أسفار أبيه، وقرأ القرآن على الشمس محمد المصري في مكتب السخانة. وكان جده من تلامذة أبي عبد القادر محمد بن صالح المواهبي الملازمين له، فانتفع بآدابه ووعظه، وكان يحفظ الكثير من لفظه، ولما توفي جده المرقوم كان عمر المترجم أربع عشرة سنة، فكانت أمه تحثه على طلب العلم وتدعو له دائماً بالفتوح، ومهما دخل عليه شيء من المال يشتري به أوراقاً مخرمة من فنوف العلم من سق الجمعة ويطالع بها، وحفظ القرآن العظيم على شيخه النجم محمد الفتياني، وأخذ بعض العلوم عن الشيخ عبد الهادي المصري، والشيخ عبد القادر الديري، والشيخ أبي اليمن تاج الدين محمد بن طه العقاد، وعلى الشيخ عثمان بن عبد الرحمن العقيلي، وعلى أبي زكريا يحيى بن محمد المسالخي، وعلى الشيخ قاسم بن علي المغربي التونسي، وعلى أبي جعفر منصور بن مصطفى السرميني الحلبي، وعلى أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المنيلي، وعلى الشيخ عبد الكريم الشراباتي، وعلى الشيخ محمد بن صالح المواهبي، وعلى الشيخ خليل بن عبد القادر المدني، وعلى أبي عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 محمد بن أحمد المكتبي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي، وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني، ومصطفى بن عبد القادر الملقي، فاستفاد منهم وأفاد، وقام بوظيفة العلم والعمل فوق المراد. وقرأ على المذكورين النحو والصرف والمعاني والبيان، والمنطق والتوحيد والفقه وأصوله، والحديث وأصوله، والتفسير وبقية الفنون بكمال الإتقان، وأجازوه جميعاً بالإجازة العامة، وممن أجازه أبو الفيض محمد المرتضى به محمد الزبيدي اليمني نزيل مصر، والشهاب أحمد بن محمد الدردير المالكي، وأبو الصلاح أحمد بن موسى العيدروس اليمني، ومحمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، وغيرهم واشتهر وفاق وملأت شهرته الآفاق. وكان ينظم الشعر قليلاً ومن نظمه: الراحمون لمن في الأرض يرحمهم ... من في السماء كما قد جاء في الخبر إن ترحموا ترحموا من ربكم ولكم ... جزيل حظ من المختار من مضر ومن نظمه أيضاً: بحمى رسول الله كن متمسكاً ... واعكف بساحة فضله ونواله واطرح وساوسك التي لك أشغلت ... وادخل حماه واستتر بظلاله فهو الذي لولاه ما خلق امرؤ ... والدهر لم يسمح لنا بمثاله وهو الذي فيه العصور تباشرت ... وكذا القصور تزينت لوصاله وهو الذي يهدي الأنام بهديه ... وبفعله وبحاله وبقاله كشف الدجى بضيائه وجماله ... والى العلا سراً رقى بكماله إن رمت تنجو ناده يا من أتى ... الذكر الحكيم بمدحه ودلاله يا أفضل الرسل الكرام وغوثهم ... فاشفع لعبد تائه بضلاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 إن الخطايا أثقلتني سيدي ... يا خير من يولي الغنى لعياله وله من قصيدة: رشأ غزا قلبي بسهم جفونه ... وسبى اصيحابي بسحر عيونه وسطا بقد مزري سمر القنا ... وحمى حماه بفتكه وشؤونه والليث يحمي شبله بزئيره ... أو ما ترى لا يمتطى لعرينه وله قصائد قليلة لأنه كان لا يعتني بالشعر كثيراً لعدم فراغه من الإقراء والتدريس، والشعر يحتاج إلى إقبال كثير عليه. ولم يزل المترجم على حالة صالحة وهمة راجحة، إلى أن اختار الآخرة على الأولى، فأقبل على مولاه ناجياً لا مخذولاً، وذلك سنة ألف ومائتين وقبل العشرين. الشيخ صالح الفلاني العمري المدني المربي المالكي بن محمد بن نوح بن عبد الله بن عمر بن موسى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن محمد بن الحافظ عليم الأندلسي الشاطبي بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن القاسم بن خلف بن برهان بن إدريس بن عامر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. ولد سنة ست وستين ومائة وألف ثم أقبل نحو الطلب وتمسك بأذيال الأدب، فهو عالم المدينة النبوية، وفاضل البقعة الحجازية، وعمدة الأفراد الأعيان، ونخبة الذين يشار إليه بالبنان، الجامع بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 العلم والعمل، والنائل من الفضائل فوق ما يتعلق به الأمل، فهو الفاضل الذي إذا أعمل أسمر يراعه في بطون الكواغد، أرى جميل الآثار من فوائد العوائد وعوائد الفوائد، كيف لا وهو المتمكن من العلوم، والمتوطن لإبراز الصواب من خزانة المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه البديع بيانه، والرفيع القدر مقامه وشأنه، ومن تشير الأصابع لفضله، والألسن تعلن بأن الكمال لا ينكر على أهله. وقد أحسن في الأدب كل الإحسان، وأتى بما تضعه العيون مكان الإنسان، فلله فضله ودره حيث قلد جيد الآداب لؤلؤه الثمين ودره، وخلب الألباب سحره، وملك مجامع القلوب نظمه ونثره، فمن بديع نظامه، ورفيع كلامه، مخاطباً به العلامة السيد عمر المدرس المدني الداغستاني، معرضاً له بالإقبال على زاد الآخرة والإعراض عن عرض الإماني: يا ويح مبتاع الضلالة بالهدى ... فلسوف يندم يوم يؤخذ بالنواصي ما همه إلا لقاء كواعب ... عرب تميس كأنها القضي النواضر للنقص في الدنيا يسوء وإنما ... حسناته عند الحسا هي النواقص لم يدر أن لا بد يوماً أن يرى ... في آلة حدباء تندبه النوادب فيكون وهو بحالة لم ينتفع ... ببكا البواكي بل ولا نوح النوائح فدع التكاسل واستعد محاذراً ... بغت المنون وما ينوب من النوائب واذكر إلهك بكرة وعشية ... واشكر له وصل الفرائض بالنوافل واعبده واتقه ولا تكفر به ... وافعل أوامره ولا تأتي النواهي واسأله لا تسأل سواه فإنه ... من فيض أبحر جوده ترجى النوائل وارغب إليه وعذ به متوقعاً ... فرجاً إذا نزلت بساحتك النوازل فأجابه المرسول إليه على أسلوبه يا فاضلاً حاز العلوم وسيداً ... أبدى نظاماً حسنه راق النواظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 نظماً بليغ اللفظ فيه الاكتفا ... حقاً لمن يبغي الغرائب والنوادر كالروض في نسماته وبهائه ... منها تفوح لمن يقابلها النوافح فيه الأزاهر من نصائحه لمن ... رام انتفاعاً من لطائفه النوافع يحتاج قارئها البكاء لذنبه ... حتى ينوح منه تمتلئ النواحي لله درك يا فصيحاً بالغاً ... أبدى بقوة فهمه الكلم النواصح نسخت بدائعك اللطائف نظمنا ... لله ما أحلى بدائعك النواصع وحويت ما لم تحوه الأدباء من ... لفظ تفوق بها على نسج النواسج فلك الفصاحة والبلاغة كلها ... عضيت من عزوم عليها بالنواسج لا زلت في روض السعادة راتعاً ... تجنى بسعدك منها الأثمار النواسق أأخذ عن الشيخ محمد المسوني والشيخ محمد سعيد سفر وغيرهما. وأعلى أسانيده من طريق شيخه ابن سنه (بكسر السين وتشديد النون المفتوحة) المعمر مائة وخمسين سنة، عن الشريف محمد بن عبد الله عن محمد بن اركماش الحنفي عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بأسانيده المشهورة. مات المترجم المرقوم في المدينة المنورة عام ثمانية عشر ومائتين وألف ودفن بها رحمه الله تعالى. الشيخ صالح بن الشيخ محمد الدسوقي الأصل الدمشقي الولادة والمنشأ الشافعي عالم فاضل، ونحرير عامل، له في الولاية القدم الراسخ، وفي أنواع العلوم المقام الشامخ، ساد على أهل زمانه، وفاق أجلاء عصره وأوانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 ومن غريب ما وقع في مدته، ونسب تداركه إلى حضرته، أنه كان له تلميذ يقال له الشيخ قاسم الحلاق، وكان من أنبه تلامذته على الإطلاق، وكان له حجرة في جامع السباهية في محلة الدرويشية، قد انقطع بها للعلم والعبادة، وطلب النجاح والسعادة، ثم أنه في ليلة معلومة، كان مدعواً بعد العشاء في أعزومة، وبعد نصف الليل قد حضر، وكانت الليلة ليلة أربعة عشر، فدخل الجامع وأغلق الباب، بعد أن ودع الرفقة والأحباب، فوضع بعض ثيابه في حجرته، ودخل الخلاء لقضاء حاجته، ثم خرج وجلس على حجر أمام البركة حصة من الزمان، لكي يأخذ حظه بشرب قليل من الدخان، وكان إشراق البدر في كمال، والوقت في غاية الاعتدال، وهو قد أفرغ عليه السرور والبسط والحبور، فلم يمض عليه حصة قلية، إلا وقد أقبلت نحو هرة جميلة، وصارت تتلمس بثيابه، وتدور حول جنابه، وهو يأنس بها وينظر إليها، ويلمس بيده عليها، حتى ارتقت على صدره وعضت أنفه، كأنها تريد قطعه وقطفه، فلطمها لطمة قوية، كادت تذيقها كؤوس المنية، فوثبت إلى طرف البركة وحملقت إليه، حتى خاف أن تسطو عليه، فبادر الذهاب، ودخل الحجرة وقفل الباب، ولونه قد انشحب وفؤاده قد اضطرب، وأعضاؤه ترتعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 ارتعاد المحموم، كأنه دنا أجله المحتوم، فما مضى برهة، إلا سمع كلاماً من خارج الحجرة، فأصغى بسمعه لذلك، فسمع رجلاً يقول والله لأذيقنه غصص المهالك، أين هو لأذيقه النكال والجحيم، قالت هو في هذه الحجرة مقيم. فقام الشيخ وقد عدم الاقتدار، وأخذ يجمع متاع الحجرة باليمين واليسار، ويضع جميع ذلك وراء الباب، وجعل ذلك لمنع دخول من سمعه من أكبر الأسباب، فما رأى إلا يداً قد امتدت إلى داخل الحجرة وفتحت الأقفال، ودفعت جميع ما كان وراء الباب بغاية الاستعجال، ثم فتح الباب ودخل، وقال يا بنتي أهذا الذي حصل منه ما حصل، فقالت نعم يا مولاي، هذا الذي ضربني وأوهن قواي، فقال اصبري وانظري إليه، وتأملي ما يجري عليه. ثم أمر بجماعة فأحضروا بين يديه، فصار يضرب أعناقهم واحداً بعد واحد، وينظر إلى الشيخ ويلقي القتلى عليه، حتى امتلأت الحجرة ولم يبق بها مكان، قال لابنته: ما تريدين أن أفعل الآن؟ فاقترحي علي، واتركي الأمر إلي. فقالت: يا أبت يكفيه ما وقع الآن، وإن عاد باء بالنكال والخسران. ثم آب من حيث حضر، والشيخ قد غاب عن إدراكه وصار حاله عبرة لمن اعتبر، فلما علا النهار تفقدوه، فلم يقعوا عليه ولم يجدوه، فنظروا من خصاص الباب إليه، فوجدوه ملقى وإشارات الموت عليه، فاختلعوا الباب في الحال، بعد أن كسروا الأقفال، واحتملوا الشيخ إلى بيته وهو عن إدراكه ذهلان كأنه في بحران، فحضر عنده شيخه المترجم إلى بيته وهو عن إدراكه ذهلان كأنه في بحران، فحضر عنده شيخه المترجم ذو القدر المصون، وعلق عليه تميمة وقرأ عليه شيئاً من الكلام القديم ذي السر المكنون، فقام في الحال، كأنما نشط من عقال. وكانت تعاوده هذه البنت من بعيد وتقول له ارم الحجاب وإلا قتلتك من غير ارتياب، فيشكو لشيخه فيقول له إياك أن تسايرها في ذلك، فتوقعك في الشدائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 والمهالك، وما دامت التميمة عليك، لا قدرة لها على الوصول إليك. توفي رضي الله عنه سنة ست وأربعين ومائتين وألف في المدينة المنورة ودفن بمقبرة بقيع الغرقد (بالغين المعجمة) قال في المختار بقيع الغرقد مقبرة بالمدينة المنورة. الشيخ صالح بن حيدر الكردي الأصل والشهرة الاشكتي الشافعي إمام له في العلوم أطول باع، وهما قد اتفق الجل على فضله بلا نزاع، قد تفرد في زمنه بكمال التحقيق، وتوحد بصواب الفهم وسداد التدقيق. ولد بدمشق الشام سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف ونشأ بها، وجد واجتهد في طلب العلوم، إلى أن برع في فني المنطوق والمفهوم، وكان إماماً في الحديث وأصوله، وحصل من علم التصوف والحقائق على مطلوبه ومأموله، وله في كل فن كمال المعرفة والإدراك، ولم يكن له عن الإفادة والاستفادة فكاك، وكان أحد أفاضل الشام الموصوفين، ومن أجل نبلائها وأجلائها المعروفين، إذا رآه الإنسان أجله وهابه، وأعلى قدره وأعظم جنابه، قد أخذ عن الشيخ أحمد العطار، وعن العلامة العلواني عمدة الأمصار، وعن الشيخ محمد العاني، والشيخ علي الداغستاني والشيخ محمود الكردي العمدة الفاضل، والشيخ عبد الرحمن الكردي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 ذي الأخلاق والشمائل، والشيخ علي كزبر والحفني والملوي والبراوي، وعن الفاضل الشيخ سالم الحفناوي، وأخذ الطريقة العلية النقشية عن الجليل المحترم المعظم الشهاب الأيوبي الرحمتي، وكان له في الطريق يد عليا، وهمة سامية كبرى، مات رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، طيب الله ثراه آمين. الشيخ صالح السقطي الدمشق الصالحي الشافعي بن الشيخ عبد الغني بن الشيخ عبد القادر السقطي الأديب الكامل، والفقيه الفاضل، والبارع الأوحد، والهمام المفرد. ولد بصالحية دمشق عام ألف ومائتين واثنتي عشر، وقرأ على والده وعلى والدي، وعلى العلامة الشيخ سعيد الحلبي، وعلى الشيخ أحمد بيبرس. وولي خطابة جامع الحنابلة بصالحية دمشق وخطابة السليمية، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ودفن عند أسلافه بقاسيون. الشيخ صالح الدمشقي الحنفي أمين فتوى دمشق الشام المعروف بابن أياس فخر العلماء العاملين، وصدر الفقهاء والمحدثين، رحلة الطالبين، وخاتمة المحققين. ولد بدمشق سنة تسع وسبعين ومائة، وأخذ عن السيد شاكر العقاد المعروف بمقدم سعد العمري، وعن العلامة الشيخ محمد الكزبري، وعن الشهاب المنيني، وولي خطابة جامع قلعة دمشق المنسوب لأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 الدرداء حينما كانت سكناً لبعض الدمشقيين، ثم انتقل من القلعة وسكن بمحلة الشاغور، وتصدر لإفادة الطالبين، وولي أمانة الفتوى بدمشق أيام مفتيها المولى أسعد أفندي البكري الصديقي، ولم تطل المدة حتى توفي في سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب مقبرة بني السقطي رحمه الله تعالى. الشيخ صالح بن سعيد بن أحمد الدمشقي الحنفي المعروف بالأسطواني ولد بدمشق سنة عشر ومائتين وألف ونشأ بها، وقرأ على الأفاضل، وكان صالحاً لطيفاً متواضعاً لين الجانب حسن الأخلاق مواظباً على صلاة الجماعة لا يشغله عنها شاغل، وتولى خطابة الجامع الأموي فخطب مدة ثم فرغها على ولده راغب أفندي. مات صاحب الترجمة عاشر ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين ودفن في مقبرة الذهبية في الدحداح. الشيخ صالح بن المرحوم الشيخ أحمد بن المرحوم الشيخ سعيد المنير الدمشقي الشافعي من طائفة ذات حسب ونسب وجاه عظيم وعلم وأدب، وكان المترجم من أحسنهم لطفاً، وأجملهم نباهة وظرفاً. قرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 على والده مدة مديدة، وأخذ عنه فنوناً عديدة، وقرأ على الشيخ سليم العطار، وغيره من السادة الأخيار، ثم قرأ على شيخنا الشيخ محمد الطنطاوي حتى فاق وظهر شأنه، ورجح في العلم ميزانه، وسما ذكره ونما قدره، وطلبته الطلبة من كل جانب، ومالت إليه أعناق الرغائب، وله درس جامع بين العشاءين في جامع بني أمية، في التفسير الشريف وما شاكه من المقاصد العلية، وكأنه مكانه الذي يجلس فيه للتدريس يناديه، رغماً عن أنس حاسده ومعاديه: قلدت من المنظوم لا بخسا ... جيد الفضائل عقدا قط ما لبسا وصغت منثوره تاجاً علا وغلا ... قدراً وسعراً ولا والله ما وكسا هات الحديث عن السادات متصلا ... ثم اروه عالي الإسناد لا حبسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 وتوجه مراراً إلى الدار العلية، والعاصمة الإسلامية، وفي المرة الأولى وجهت عليه باية أزمير المجردة، وفي المرة الثانية وجهت عليه باية ادرنه المجردة أيضاً، ثم إنه كان قد وقع بينه وبين أخيه شقيقه عارف أفندي مباغضة أوجبت مرافعة بينهما في الحكومة، فما زال يتفاقم الأمر بينهما إلى أن ذهب المترجم في المرة الأخيرة إلى الآستانة لأجل تتميم دعواه مع أخيه، فطلبته المنية، إلى السعادة الأبدية، وذلك سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرين ودفن في مقبرة الآستانة. الشيخ صالح بن محمد سعيد بن حماد المدني الخطيب الأديب الذي حاكى نظمه الدرر، واللبيب الذي لآلئ نثره كلها غرر، قد انفرد في فن المحاضرة، وانتهى إليه علم حسن المذاكرة، قد أخذ عن أفاضل الشيوخ وشيوخ الفضائل، وأذعن له الخاص والعام بأنه من السادة الأفاضل، وكان مثابراً على القراءة والإقراء، وأجازه شيوخ عصره ووصفوه بأوصاف الفضلاء البلغاء، وأذنوا له بالإفادة والتدريس، وبالإفتاء على مذهب سيدنا محمد بن إدريس، لما رأوا من تحقيقه وجودة فهمه وتدقيقه، وقد نظمه صاحب اللآلي الثمينة، في سلك تراجم أدباء المدينة، فقال فيه يصف حاله ويذكر أدبه وكماله: مبدي الكلمات الرائقة، التي هي بالحسن للقلوب شاثقة، والنظم النفيس، الذي ليس لجناسه جنيس، والنثر الذي يلمه بنان الأفهام في أطباق مجامع القلوب، وتشرب الأرواح طرباً منه راح معان في كأس الأبداع مصبوب، مع صدق لهجته ووضوح محجته، وانتشار فضل أأشرقت كمل بدوره، وذكاءه أناله من العلم عرائس خدوره، وحسن معاملات وأخلاق تشهد له بأنه الإمام الهمام الفيلق الغيداق. فمما أبدته خزائن أذهانه من جملة كلمه وعقيانه، مجيباً عن القصيدة التي مدحه بها عمر أفندي المدرس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 تجلت لنا ذات السنا المتألق ... تميد بقد بالملاحة مشرق بأبهى محيا زانه در مبسم ... تحيي بأشهى من حميا مروق تتيه دلالاً في حلي وحلة ... وتزهو جمالاً قد حلا بترقرق رشيقة شكل زينت بمحاسن ... بديعة حسن أتقنت بتأنق ترق بظرف تسترق به النهى ... وترنو بطرف للقلوب مفوق شمائلها سلاماً رق معنى لسامع ... وأبدت كلاماً دق معنى لذائق فهمت بها لما فهمت خطابها ... وقابلتها مذ أقبلت بتشوق وقبلتها حباً لها وقبلتها ... وأمهرتها روحي وجسمي وما بقي ولم لا ومهديها السراج ضياؤنا ... أخو الفضل بل رب الكمال المحقق مجيد لأفراد المناقب أجمعا ... مجيد إلى أعلى المراتب مرتقي همام له الباع الطويل تفضلا ... يفيض به من بحره المتدفق أديب أريب لا يجارى بحلبة البديع وفي الإبداع أبرع مفلق فيا بارعاً وشى الطروس بنثره ... ونظم كما الدر النضيد المنسق ومن سخرت أعلى المعاني له متى ... دعاها أجابته بغير تعوق أتت بنت فكر منك تخطب خطة ... يضيق نطاق عن نداها ومنطقي ولولا الحيا من وجه جاك سيدي ... مطلت بها فالمطل حيلة مملق فدونكها خجلاء عطا فحلها ... بحلي قبول بالتفضل أليق ودم وابق واسلم في هناء وغبطة ... برغم حسود لا يغيظك أحمق ولم يزل هذا المترجم مستوياً على عرش أدبه، متصاعداً في ترقيه نحو بلوغ أربه، إلى أن قصد الدار الآخرة، وسكن غرفته السامية الفاخرة، وذلك في أوائل القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 الشيخ صالح بن أحمد بن موسى بن أبي القاسم المغربي المالكي الخلوتي الشهير بالسمعوني العلم الفرد في العلوم والمعارف، والأوحد المقصد في بدائع اللطائف والطرائف، من اشتهر بالعبادة والطاعة، وعرفه الناس بالزهادة والقناعة. ولد في جزيرة وغليس من أعمال الجزائر الغربية سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ بها وأخذ عن علمائها الكرام، وجهابذتها الفخام، واستقام بها اثنتين وعشرين سنة وهو مجد في طلب العلوم الشرعية، ومجتهد في تحصيل العلوم النقلية والعقلية. ثم لما أخذت الدولة الفرنسية الجزائر، وتعطلت المساجد والمنابر والمنائر، هاجر المترجم إلى دمشق الشام، وذلك سنة أربع وستين ومائتين وألف من هجرة سيدة الأنام، فجعلها محل إقامته، وموطن راحته وكرامته. وأخذ عن علمائها العظام أنواع الفضائل، إلى أن صار معدوداً من الأفاضل. وله منظومة في فقه السادة المالكية، وقد كتب عليها حاشية جليلة جلية، وله شرح على رسالة في علم الميقات، قد جمع فيه ما نثرته يد الشتات، وله تاريخ على طريق الرمز والإيماء والإشارة، وصل فيه لقدوم محمد رشدي باشا الشرواني الوزير الأعظم الذي كان قد تولى الصدارة، وله فيه أسلوب عجيب، وطريق نادر غريب. وكان صالحاً تقياً وفالحاً تقياً، رفيع المقام وافر الاحترام، مقبلاً على الله مدبراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 عما سواه، جميل المقال جليل الخلال، لم يزل على حاله، متخلياً من الدهر عن أوحاله، إلى أن خطبته دواعي المنية، إلى دار الآخرة العلية، وذلك لثلاث بقين من شهر جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، دفن في مقبرة باب الصغير، قرب قبر المرحوم العلامة الشيخ محمد الكزبري رحمه الله تعالى. السيد صالح أفندي بن السيد عبد القادر أفندي بن السيد أحمد بن السيد حسن بن السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن بن السيد إسماعيل بن السيد محب الدين الحصني الحسيني المعروف بابن تقي الدين، فهو الحسيب الذي لا ريب أنه من أشرف العناصر محسوب، والنسيب الذي هو إلى أعظم الأكابر منسوب، من سلسلة تسلسلت إلى أشرف إنسان، وارتقت إلى مكان قيل فيه ليس في الإمكان أبدع مما كان. قد ارتفع شرفه على كاهل الفخار، واستوى سؤدد مجده على ذروة المدار، فلله دره من أديب طاف حول كعبة لطفه ذوو الأدب، وأريب سعى بين مروة سنائه وصفا صفائه ذوو الأرب، قد أينع زهر كماله في حدائق الفضائل، وأشرق بدر جماله فاهتدى به أولو الوسائل. ولد في دمشق الشام، دار آبائه وأجداده السادة الكرام، وذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده المعروف بكل كمال ولطف، ثم بعد أن قرأ القرآن العظيم وجوده، صرف همته إلى الخط فنال منه أحسنه وأجوده، ثم حضر دروس العلماء، ولازم مجالس الفضلاء، فأتقن العلوم العربية، واجتهد في تحصيل العلوم الشرعية، إلى أن بلغ مناه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 وحاز على ما تمناه، وأجازه علماء زمانه بالإجازة العامة، وكتبوا له ما يدل على كمالاته التامة، وتقدم لدى أهل زمانه، وتسامى مقامه بين أقرانه، ثم سار إلى الآستانة دار السلطنة العثمانية فاستقام بها مدة، ثم سار إلى الحجاز لقضاء الفريضة الإسلامية، وبعد أداء فريضة الحج الشريف بالتمام، توجه لزيارة جده المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. ثم بعد مدة توجه إلى الدار الدمشقية، فاستقام بها مدة ثم رحل منها إلى الدار العلية، فجعلها مجل تجارته، وموطن إقامته، وفي سنة أربع وتسعين ومائتين وألف وجهت عليه نقابة القدس الشريف، وقد أناب من قام عنه بهذا المنصب المنيف، ودخل في سلك المناصب العلمية، إلى أن وصل إلى باية بروسه السنية، من البلاد الخمس الموصلة للحرمين، وعين السعادة ملاحظة له بما تقر به العين، ولم يزل ملازماً على الأدب والخضوع، والتذلل والعبادة والخشوع، وزيارة الصالحين وحب المساكين، ومساعدة ذوي المقاصد، والإكرام لكل قاصد. وله هيئة حسنة ومعاشرة مستحسنة، وتقوى وعبادة وقناعة وزهادة، وفي شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع، وجهت عليه نقابة أشراف الشام، فمكث بها سنتين وفي الثالثة توجه إلى الحجاز الشريف والحرم السامي ذي القدر المنيف، وبعد أداء النسك والعبادة، دعاه إلى دار الآخرة داعي السعادة، فكانت وفاته في شهر ذي الحجة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وعشر من هجرة سيد الأنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 الشيخ صبغة الله أفندي بن إبراهيم بن حيدر الحيدري مفتي الشافعية في بغداد الحجة البالغة، والمحجة النابغة، والكعبة المحجوجة، والروضة المبلوجة، نقطة كرة العراق، " وفارس " ميدان جولان السباق، وعمدة الأحكام الشرعية، ونخبة السادة الشافعية. ولد سنة ألف ومائة وإحدى وستين بماوران واسمه تاريخه، ونشأ في العلم والطاعة، وبرئ من الكسل والإضاعة، وأخذ عن مشايخ عصره، وأئمة مصره، مع الهمة والاجتهاد، إلى أن بلغ رتبة الترجيح والانتقاد، فأجازه الأفاضل، وشهدوا له بالفضائل، وعاملوه معاملة الشيوخ، ذوي القدم الثابت على ذروة الرسوخ، مع الزهد والورع، والبعد من المصانعة والطمع. كيف لا وهو ابن من رقى وعلا، وساد في جميع أطوار جميع الملا، علي ابن عم سيد الورى من تقدم في مقام القرب والناس ورا، فهذا هو الشرف الأعلى، والمجد الذي هو بكل مديح أولى، ثم انتقل من بلده ماوران إلى دار السلام بغدان، فاشتهر بها أمره، وعلا قدره وطار في الآفاق ذكره، وعرفت قدره الوزراء، والعلماء والفضلاء، وتولى إفتاء السادة الشافعية في مدينة العراق السنية، فكان للحق ناصراً، وللباطل حاسراً، وللمحق وزيرا، وللمبطل نذيرا. وكان ذا أخلاق حسنة، وصفات مستحسنة، وقد أخذ الطريقة النقشية العالية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 عن قطب العرفان ذي المعارف السامية، مولانا الشيخ خالد، حباه الله من فضلة القدر الزائد، فأحسن في سيره، وتقدم من أرباب الطريق على غيره، ولم يزل مثابراً على العلم والعمل، إلى أن وافاه الأجل، سنة ألف ومائتين ونيف وعشرين. الشيخ صديق بن علي المزجاجي الزبيدي الحنفي ولد سنة ألف ومائة وتسع وخمسين تقريباً ثم أتقن كتب الحديث والفقه الحنفي وسافر للدرس والتدريس إلى " مخا " ثم رجع إلى " صنعا ". قال صاحب البدر الطالع: ووصل إلي ولم أكن قد عرفته قبل ذلك ولا عرفني، وجرت بيني وبينه مذاكرات في عدة فنون، ثم خطر ببالي أن أطلب منه الإجازة فعند ذلك الخاطر طلبها مني، فكان ذلك من المكاشفة، فأجزت له وأجاز لي وكان إذ ذاك سنه فوق خمسين سنة، وعمري دون الثلاثين، ثم ما زال يتردد إلي وفي بعض المواقف بمحضر جماعة وقعت بيني وبينه مراجعة في مسائل، وأكثرت الاعتراض في مسائل من فقه الحنفية وأوردت الدليل، وهو يتمحل في الجواب لما يوافق الحنفية وينتصر لهم، فلما خلوت به قلت له أصدقني هل ما تبديه في المراجعة تعتقده اعتقاداً جازماً فإن مثلك في علمك بالسنة لا يظن به أنه يؤثر مذهبه الذي هو محض الرأي في بعض المسائل على ما يعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 صحيحاً ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لا أعتقد صحة ما يخالف الدليل وإن قال به من قال ولا أدين الله بما يقوله أبو حنيفة وأصحابه إذا خالف الحديث الصحيح، ولكن المرء يدافع عن مذهبه. مات في حدود ألف ومائتين وأربعين انتهى. ولله در أبي عبد الله محمد بن علي الصوري يذكر الحديث وأهله فقال وأحسن المقال: قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائباً أهله ومن يدعيه أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل والجهل خلق السفيه أيعاب الذين هم حفظوا الدين من الترهات والتمويه وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عابد وفقيه وهل لا يعاب على قوم تركوا الحديث والعمل بما فيه، وتمسكوا بأقواله تناقضه وتنافيه، قال بعض الأفاضل: رفض السنة قوم فتنوا ... علموا الباطل وانقادوا إليه ورجال لم يخونوا عهدهم ... صدقوا ما عاهدوا الله عليه صديق خان أبو الطيب بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري فاضل حظة من المعرفة وافر، وكامل وجه أمانيه طلق سافر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 ما زال من الرفعة في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة، له في الخلق والخلق من الرضوان روضان، وفي النثر والنظم من المرجان مرجان، فهو عقد نبلاء الأفاضل، وبيت قصيد ذوي الفضائل، من طار صيت علاه وحلاه في الأقطار، وتطاولت إليه الأبصار من الأمصار، فلا ريب أنه فرد العصر في كل فضيلة، وفهد ذوي القدر للوقوف على حقيقة كل مقصد ووسيلة، وقد ترجمه بعض السادة الأفاضل، فذكر بعض ماله من الفضائل، فقال: هو السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري، أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري، المخاطب بالنواب عالي الجاه أمير الملك خان بهادر، أدامه الله تعالى بالعلا والتفاخر. من ذرية السبط الأصغر الشهيد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وله في شهر جمادى الأولى في التاسع عشر منه يوم الأحد في سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف هجرية ببلدة قنوج المحمية، " بكسر القاف وفتح النون المشددة وسكون الواو على زنة سنور " وعليه من السيادة العليا والسعادة العظمى مخايل، ومن السؤدد والشرف براهين ودلائل. فربي في مهد الآداب والشمائل الجميلة، وتعلق من حال صباه بالخصال المرضية والخلال الجليلة، وكان من أجل ما أنعم الله به عليه أن صرفه برحمته الخاصة عن الاشتغال بمحدثات العلوم التي جدواها قليل، والخوض في مبتدعات الرسوم التي عدواها جليل، وقد أجزل له المنة، وكشف الله به عن الحقيقة الشرعية كل دجنة، ووفقه لتفسير كتابه العزيز وحبله المتين، ودراسة سنة نبيه المأمون الأمين، فاشتدت رغبته فيها وتطلعه إليها، واستئناسه بها وإدامة النظر في كتبها، واطلاعه على ثناياها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 وتفحصه عن خباياها، حتى رزقه الله حظاً صالحاً ومقاماً في الأنام راجحاً ناجحاً، وهو ي ذلك أخذ بحجزة الأتباع، شديد التوقي من نواشط الرأي والابتداع " النواشيط: جمع ناشط وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أرض "، فنمي بذلك علمه، وتوفر من القبول سهمه، وجرى بالخير التام والثناء الحسن على ألسنه المتبعين اسمه: نوابنا الصديق نابغة الزمن ... يطوى به الذكر الجميل وينشر وكان أخذه هذا العلم الشريف وانتفاعه فيه عن أكابر ممن أدركهم من محدثي اليمن الميمون وعلماء الهند، ولما حصلت له الإجازة المعتبرة من مشايخ السنة، وأسود غابات الحديث شداد المنة، شمر عن ساق الجد والهمة، لجمع الأحكام التي نقطت بها أدلة الكتاب وحجج السنة، من غير تعصب لعالم من أهل العلم ومذهب من المذاهب، وألف في كل باب من أبواب الشريعة الحقة الصادقة المحمدية ما لم يؤلف مثله لهذا العهد الأخير، وانتفع به أجيال من الناس كثير، وسارت بمؤلفاتهه الركبان إلى أقطار الأرض هندها وشامها ويمنها، ومصرها ورومها، وحجازها وشرقها وغربها، وذلك من فضل الله تعالى، وكان فضل الله عليه كبيرا. ثم أن الله سبحانه وتعالى خوله من المال الكثير، ومن علي بالحكم الكبير، والأولاد السعداء والنسب الحميد، والحسب المزيد، ما يقصر عن كشفه لسان اليراع، ولو كشف عنه الغطاء ما ازداد الواقف عليه إلا يقيناً وإن أنكرته بعض الطباع، وهو الذي يقول لأخلاقه مقتدياً بأسلافه بفم الحال ولسان المقال: " اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور " " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 وقد طعن الآن في عشر الخمسين من العمر المستعار، مع ما هو مبتلى به من سياسة الرياسة وفقد الأحبة والأنصار، وكثرة الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار، والمرجو من رب العالمين، أن يجعله ممن قال فيهم " وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة من الصالحين " والحمد لله الذي جعله محسوداً لا حاسداً، وصابراً شاكراً ولم يجعله فظاً غليظ القلب معانداً، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. وهذه أسماء كتبه المؤلفة على ترتيب حروف المعجم المطبوعة في مطبعة رياسة بهوبال المحمية، وغيرها من البلدان العظام، ويزيد الله في الخلق ما يشاء وهو المتفضل ذو الإنعام. حرف الألف أبجد العلوم، إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين بالفارسي، الاحتواء في مسئلة الاستواء، الإدراك في تخريج أحاديث در الأشراك، الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، أربعون حديثاً في فضائل الحج والعمرة، إفادة الشيوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ فارسي، الاكسير في أصول التفسير فارسي، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة، الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح. حرف الباء الموحدة بغية الرائد في شرح العقائد فارسي، البلغة في أصول اللغة، بلوغ السول من أقضية الرسول. حرف التاء الفوقية تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 حرف الثاء المثلثة ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت فارسي. حرف الجيم الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة. حرف الحاء المهملة حجج الكرامة في آثار القيامة فارسي، الحرز المكنون من لفظ المعصوم المكنون، حصول المأمول في علم الأصول، الحطة في ذكر الصحاح الستة، حل الأسئلة المشكلة. حرف الخاء المعجمة خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان. حرف الدال المهملة دليل الطالب إلى أشرف المطالب فارسي. حرف الذال المعجمة ذخر المحتي في آداب المفتي حرف الراء المهملة رحلة الصديق إلى البيت العتيق. الروضة الندية شرح الدرر البهية. رياض الجنة في تراجم أهل السنة. حرف الزاي حرف السين المهملة السحاب المركوم في بيان أنواع الفنون وأسماء العلوم، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب. سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند فارسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 حرف الشين المعجمة شمع انجمس في ذكر شعراء الزمن فارسي. حرف الصاد المهملة حرف الضاد المعجمة ضالة الناشر الكئيب في شرح النظم المسمى بتأسيس الغريب. حرف الطاء المهملة حرف الظاء المعجمة ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي. حرف العين المهملة العلم الخفاق في علم الاشتقاق. العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة. عون الباري بحل أدلة البخاري أربع مجلدات. حرف الغين المعجمة غصن البان المورق لمحسنات البيان. غنية القاري في ترجمة ثلاثيات البخاري. حرف الفاء فتح البيان في مقاصد القرآن في أربع مجلدات. فتح المغيث بفقه الحديث. الفرع النامي من الأصل السامي فارسي. حرف القاف قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل. قضاء الرب في مسئلة النسب. قطف الثمر في عقائد أهل الأثر. حرف الكاف كشف الالتباس عما وسوس به الخناس في الرد على الشيعة باللسان الهندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 حرف اللام لف القماط على تصحيح ما استعمله من الأغلاط. لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان. حرف الميم مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام. مراتع الغزلان في تذكار أدباء الزمان. مسك الختام شرح بلوغ المرام، باللسان الفارسي. منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول، باللسان الفارسي. حرف النون نيل المرام في تفسير آيات الأحكام. حرف الواو الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم، وهو القسم الأول من هذا الكتاب. حرف الهاء هداية السائل إلى أدلة المسائل، بالفارسي. حرف الياء يقظة أولي الاعتبار فيما ورد في ذكر النار وأصحاب النار. هذا ما وقع في الماضي وإلى الآن في الزيادة والتوجه إلى تصنيف كتب شتى. وفي الحقيقة أن مثله لا يكون في هذا الزمن، مع ما هو فيه من الامتحان، وقد آن أن نقبض جواد القلم عن الطراد في وصفه، فإن الكلام فيه بحر تيار وعباب زخار، وفيما ذكرنا كفاية لأولي الألباب، والله الموفق لإصابة الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 تتمة إن هذا السيد المترجم، والأستاذ السند المعظم، توجه في شهر شعبان سنة خمس وثمانين ومائتين وألف إلى بيت الله، فقدم مكة المكرمة وجدد عهداً بالركن والحطيم، وتنسم من عرف عرفات وتمتع من أرج ذاك النسيم، ثم شد الرحال إلى زيارة السيد المصطفى قطب دائرة الكمال، فزار المرقد النبوي الأنور ثم مرقد الآل الأطر، وتمتع بزيارة من سلف، ممن لهم كمال الفضل والشرف، ثم عاد إلى محروسة بهوبال المحمية، فاستقبلته خلافة الهند السامية البهية، حيث أنه تزوج بوالية مملكتها وحامية حوزتها، المزرية طلعة كمالها بشرف الشمس والقمر، والمستوية حامية إمارتها على عرش الظفر، تاج الهند المكلل، وطراز المجد الرفيع الأول، نواب شاه جهان بيكم، أحسن الله إليها وتفضل وأنعم، وفسح في حياتها وبارك لها وعليها في أوقاتها. فجلس هذا المترجم مجلس الخلافة في الأمور الدولية، وقام مقام السيدة المشار إليها في إنفاذ الأوامر السنية، وانتفع الناس بجوده وبذله، وعلمه وحكمه وفضله، وعاد إلى مملكته ماء الشبيبة بعد المشيب، وظهر غصنها الذابل في نضرة الرطيب، وغدا بردها البالي قشيبا، وأصبح جدبها الماحل خصيبا، وارتفعت بها قصور العلم بعدما كانت رسوماً عافية، واستبانت معالم الفضل بعد ما كانت إغفالاً خافية. وذلك لأنه كان ملياً بالعلوم، متضلعاً منها بالمنطوق والمفهوم، مجتهداً في إشاعتها، مجدداً لإذاعتها، مع كونه يرى ذاته الشريفة كآحاد المسلمين، ويتواضع مع كل واحد من الناس لله رب العالمين، ويتحاشى كماله عن الدنيا وزخارفها، ويتجافى بقلبه عن مراقيها ومعاطفها، وأحيا السنن الميتة في ذلك المكان، بالأدلة البيضاء من السنة والفرقان، فهو سيد علماء الهند في زمانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 وابن سيدهم الذي برع فضلاً في عصره وأوانه، فخضعت له النواصي، وشهد بكماله الداني والقاصي، ولم يزل يزيد علوم الشريعة بهاء ونضارة، ويفكك عقود أكمامها بأحسن عبارة وألطف إشارة، واشتد اشتغاله بها تصنيفاً وتأليفاً، وطالت يده البيضاء في بنيانها ترصيصاً وترصيفا، ولم يزل مقامه يسمو، وقدره يعلو وينمو، إلى أن دعاه الداعي لدار جزائه، ولحصوله على غاية مرامه ونهاية منائه، وذلك سنة ألف وثلاثمائة ونيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 حرف الطاء السيد الشيخ طاهر بن محمد الأنباري كان فاضلاً نبيهاً، وعالماً متفنناً فقيهاً، لازم السيد سليمان الأهدل، وقرأ عليه تفسير البيضاوي والبغوي وحصل له فتوح عظيم في سائر العلوم، وتخرج عليه عدة علماء محققين. ومن كلامه: اللبيب من إذا سبقه الناس بالعلم سبقهم بالعمل، وإذا سبقوه بالعمل سبقهم بالإخلاص لله عز وجل، وإذا سبقوه بالإخلاص سبقهم بالثبات على ذلك إلى الممات. وكمال الإنسان في ثلاثة أمور: علوم يعرفها، وأعمال يعمل بها، وأحوال تترتب على علومه وأعماله: العلم ليس بكاف ربه شرفاً ... إن لم يكن عمل ما فيه تلبيس لو كان بالعلم من دون التقى شرف ... لكان أفضل خلق الله إبليس توفي رضي الله عنه سنة ألف ومائتين و ... الشيخ طاهر بن سعيد المعروف بسنبل الدمشقي من العلماء المعروفين، والأعيان المشهورين، ولد بدمشق سنة ألف ومائة وخمسين تقريباً، ونشأ بها وقرأ على أخيه الشيخ محمد وعلى والده وغيرهما، حتى برع وفاق واشتهر في الآفاق، وكان ناهجاً منهج الزهادة والتقوى والعبادة. مات رحمه الله عام ألف ومائتين وثمانية عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 طاهر أفندي مفتي دمشق الشام بن عمر أفندي الخربوتلي الحنفي الدمشقي ولد في خربوت سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ثم قدم مع والده إلى دمشق وتوطن بها، وحضر مجلس العلم لدى أفاضلها وأعلام علمائها، كالشيخ شاكر مقدم سعد، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ سعيد الحلبي وغيرهم. وكان كوالده صالحاً عابداً زاهداً متقشفاً في الدنيا مقبلاً على الآخرة، وصار من المتقدمين في الفقه في مذهب أبي حنيفة، وكان أبوه قد وجهت عليه إمامة محراب الحنفية في جامع بني أمية، فانتقلت إليه بعد موت والده. ثم وجهت عليه أمانة فتوى دمشق الشام أيام مفتيها حسين أفندي المرادي، وبعد موت حسين أفندي وجهت رتبة إفتاء الشام على ولده علي أفندي المرادي، وبعد أشهر حضر علي أفندي لدى والدي وطلب منه أن يستعفي له من الإفتاء واعتذر بأنه رأى رؤيا أزعجته كثيراً، وقال له لا أخرج من دارك حتى تخلصني من منصب الإفتاء، ولم يمكن تنزيله عن هذا الخاطر، وكان الوالي في ذلك الوقت سعيد باشا صهر السلطان محمود وكان من الصالحين، وكان المشير علي الأوردي الهمايوني الخامس أمين باشا، وكان رئيس المجلس الكبير عثمان بك وكان صاحب الحل والعقد، وكل منهم كان له مع والدي غاية المحبة وكانوا في كل أيام يحضرون عند والدي، فلما لم يمكن مضي علي أفندي في منصب الإفتاء وأصر على ذلك مع شدة الهلع، تكلم والدي في أمره فقال له عثمان بيك لا بأس بذلك، لكن بشرط أن يكون الإفتاء لك، فقال له أنا أسعفي عن غير وأقبل لنفسي لا يمكن ذلك، فقال له هذا منصب علم وأمانة، ولا نجد الآن موافقاً من كل الوجوه في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 القطر سواك، فقال له أنا أريد منصباً لا أعزل منه، فقال له أستحضر لك براءة من السلطان في توجيه الإفتاء عليك وعلى أولادك من بعدك، فقال له ما قصدت هذا، إنما قصدت أنه إذا أراد السلطان عزلي لا قدرة لأحد على إبقائي، وأنا عندي منصب لا يعزلني منه أحد وهو منصب العلم فلا أختار غيره عليه، على أني لا آمن على نفسي، وهذا منصب خطر، وإن عزمتم علي في ذلك يكون سبباً لقطع سبب الوصلة بيني وبينكم. فلما ظهر عليه التغير كثيراً، اضربوا صفحاً عن التكلم معه في هذا الخصوص، وتفرقوا ثم اجتمعوا بعد ذلك، وانعقد إجماعهم مع أهل البلد على وضع صاحب الترجمة، لأمانته وتخرجه في مسائل المذهب وخدمته لأمانة الفتوى مدة طويلة، وجلس لمسائل الناس في مدرسة الجقمقية شمالي جامع بني أمية، ثم بعد مدة قد انتقل إلى مكان آخر قد أعد للإفتاء، ولم يزل مفتياً إلى أن وقعت في الشام حادثة النصارى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، نفي مع من نفي من أعيان الشام وعلمائها إلى قلعة الماغوصة تابع جزيرة قبرص، واستقام بها مدة هو والشيخ عبد الله الحلبي، وأحمد أفندي الحسيبي، وعمر أفندي الغزي، وعبد الله بيك العظم، ومحمد بيك العظمة ومن معهم، واستقاموا بها مدة سنتين فصدرت الإرادة السنية بنقلهم إلى إزمير، واستقاموا بها ثلاث سنين، ثم طلبوا إلى دار الخلافة العلية، فرفع عنهم الحجر وصدر الأمر بإطلاقهم إلى أوطانهم، وأنعم على المترجم بقضاء مولوية ازمير مع نيابة بني غازي تابع طرابلس الغرب، فاستقام هناك سنتين، ثم عاد لدار الخلافة فوجهت عليه نيابة خربوت، فمكث بها سنتين ثم وجه عليه نيابة حماة مرتين، ثم قدم دمشق وبها استقام إلى أن توفي نائب محكمة الباب محمد أفندي الجوخدار سنة 1298، وجه والي ولاية سوريا أحمد حمدي باشا النيابة المذكورة على المترجم، وكان القاضي في ذلك الوقت عبد الله أفندي بن مصطفى أفندي حقي، وما زال نائباً في المحكمة المرقومة إلى أن توفي سنة ثلاثمائة وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 الشيخ طاهر بن إبراهيم بن سعد بن عواد الحموي الشافعي البصير شيخ القراء بحماة الحافظ الكبير والمقرئ الشهير، والفاضل الفقيه والكامل النبيه، مولده سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي عبد الله محمد بن علي الدمشقي من طريق حفص، وعلى أبي إسحق إبراهيم بن عباس بن علي الدمشقي، وحفظ الشاطبية والرائية وطيبة النشر وشروحها والجزرية، وقرأ التمهيد في التجويد، وابن القاصح شرح الشاطبية، والهمداني والنكت والدرة لابن الجزري، وابن المصنف شرح الطيبة وغيرها من الشروح والمتون، البعض مع الحفظ والبعض قراءة وسماعاً، واشتغل بتحصيل الفنون والعلوم، وقرأ على جماعة، وأخذ الفقه والعربية عن فرج الله الحموي وأبي الصدق يوسف الفقيه وأبي محمد عبد الله الحواط وشمس الدين محمد بن أحمد شهاب الدين الديري نزيل دمشق، وقرأ المنطق والمعاني والبيان والتوحيد على الإمام الكبير عليم الله بن عبد الرشيد اللاهوري الهندي نزيل دمشق، وأبي محمد أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، وسمع الحديث وغالب كتب الصحاح على تاج الدين محمد بن طه العقاد الحلبي، ومحمد بن الناقلاتي المغربي، وأبي عبد الله محمد بن محمد الحكيم اللاذقي، وسراج الدين عمر بن إبراهيم إسماعيل الكيالي الأدلبي وأبي الحسن علي بن عبد الكريم الأرمنازي الشافعي وأجاز له غالب شيوخه ومهر وتفوق وأتقن وحفظ واستفاد وأفاد وشهد له شيوخه بالنبل والتفوق. وكان من مشاهير القراء بالديار الشامية وألف بالقراءات كتاباً سماه الفوائد. وكانت وفاته بعد الألف والمائتين وخمسة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 الشيخ طاهر العقري الخالدي النقشبندي العالم التقي والمرشد النقي، خلاصة الأكابر، ونخبة الأفاخر، نشأ بصحبة الأفاضل إلى أن صار من ذوي الفضائل، ثم أخذ الطريق ونهج مناهج أهل التحقيق، وأخذ عن المرشد الكامل الشيخ خالد شيخ الحضرة، وبعد اشتغاله مدة خلفه خلافة عامة حيث تأهل للخلافة، ولم يزل مشتغلاً في الإرشاد إلى أن استكمل الأجل الميعاد، وذلك سنة ألف ومائتين و ... الشيخ طاهر بن إبراهيم بن حسن الكوراني ثم المدني وهو من رجال أصفى الموارد، فهو ذو الوصف الحسن والفصاحة واللسن، فلا ريب أنه الجهبذ الذي علت به كلمة الإسناد، وزخر به العلم الحديثي وزاد، وأمد بإملائه الصدور بالإرشاد والإمداد، وصعد إلى ذروة منة لا ترتقى، وأبرز من أحواله المستصفى والمنتقى، وميز بنقده التام رجاله، وعاناه والشيب ما شاب قذاله، وقفا والده فيه حتى صارت به بيضا لياليه، كيف وقد أملى مجالس حديثية، تكاد تكون عسقلانية وإن كانت مدنية، واستمدت الأذهان من تقريره، ولباب تنقيح تدقيق تحريره، ما هو الروض وزهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 الشيخ ملا طه بن الشيخ يحيى البزري الكردي الشافعي الدمشقي العالم العابد، والعامل الزاهد، ناسك زمانه وتقي أوانه، ولد في العامودية بلدة من بلاد الموصل سنة ألف ومائتين وخمسين، وبها أخذ عن والده وعن غيره من شيوخ الموصل وشيوخ العمادية والسليمانية، ونهج منهج السلف وفاق في التقوى والعلم بين الخلف، وفي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف قدم دمشق وأقام في محلة الصالحية في حارة الأكراد، ولازم المدرسة الركنية، وكان لا يخرج منها إلا لصلاة العصر في جامع بني أمية كل يوم في الوقت الأول مع الجماعة، وقصد البيت الحرام للنسك مرتين من دمشق، وكان بيني وبينه محبة قوية ومذاكرات علمية، ومطارحات أدبية ومناصحات صوفية، ومفاكهة حسنة ومعاشرة مستحسنة. وكان تقياً زاهداً ورعاً خاشعاً متنبهاً متيقظاً قليل الكلام فيما لا فائدة به، وكان من أشراف طوائف الأكراد. توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب قبر ابن أخته الشيخ عبد الله الكردي قرب مغارة الجوعية من جهة الغرب. الشيخ طه بن يحيى الكردي الشافعي العالم المشهور بكل فضل مأثور، المتحلي بحلية الفضائل والمتخلي عن الاتصاف بشيء من الرذائل. ولد سنة ألف ومائة وست ثلاثين، وأخذ عن السيد علي بن السيد مصطفى الحريري، وعن الشيخ طاهر بن سعيد سنبل، وترقى في بديع المعارف واتصف بأكمل الحسن واللطائف. مات سنة أربع عشرة ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 الشيخ طه بن الشهاب أحمد العطار الدمشقي الشافعي ولد بدمشق وطلب بها مع الزهد والتقوى، والصلاح في السر والنجوى، وكان ملازماً للطريق والأذكار، وقراءة القرآن في الليل والنهار، متواضعاً عابداً سيداً ماجداً، قوالاً بالحق ملازماً للصدق، لين الجانب، له فكر في حل المشكلات ثاقب، قليل الاختلاط بين الناس، مشهوراً باللطف والإيناس، متحلياً بالورع، متخلياً عن الطمع، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. الشيخ طه بن جمعة بن مصطفى بن جمعة بن سليمان الدسوقي الشافعي الدين الصالح المعتقد الزاهد، الورع العابد، العالم العامل، مولده بدسوق في أسواط سنة تسع وستين ومائة وألف، وخرج من بطن أمه أكمه وتنقلت به الأحوال وخرج من بلاده إلى البلاد الشامية، وتنقل من مكان إلى مكان، حتى استقر في قرية كفر كرمين بناحية جبل سمعان من أعمال حلب، واختارها وأقام بها في غار هناك، تزوره الناس ويأتونه بالنذور والذبائح على عادتهم، ويعتقدونه ويتبركون بأنفاسه ودعواته، وحصل الشفا لكثير من المرضى والزمنى على يده بإذن الله تعالى. وكان ينتسب كما ذكر هو من لفظه إلى خيزرانة بنت الشيخ موسى أخي القطب إبراهيم الدسوقي. وبالجملة فقد كان من خيار عباد الله تعالى أهل الاستقامة، ومات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين و ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 الشيخ طه بن عبد الرسول بن أبي يزيد بن البرزنجي الشافعي الموسوي الحسيني السيد الشريف أبو السعادة الفاضل الأديب النجيب أحد السادة الأشراف الأفاضل الأجلاء. مولده ببرزنجه من أعمال شهرزور سنة ثمان وستين ومائة وألف، وقرأ على الأجلاء من علماء شهرزور منهم جلال الدين الكلعنبري، وأبو محمد عبد القادر الكوراني، وأولاد عمه معروف بن مصطفى البرزنجي، وعبد الكريم وعبد الرحيم ابنا أبي القاسم بن الحسن البرزنجي، وارتحل إلى بغداد وقرأ بها على أبي مهدي عيسى بن صبغة الله الحسين آبادي الماوراني، وعبد الرحمن بن فيض الله القادري نقيب الأشراف ببغداد، وأخذ عنه الطريقة القادرية، ثم دخل الموصل وقرأ بها على جرجيس الأربلي الموصلي وغيره، ثم حج وجاور في المدينة المنورة وسمع الكثير والكتب الستة في الحديث عن أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الفاسي ثم المدني، ولازمه قدر ثلاث سنين وأجاز له بخطه، وقرأ عليه وانتفع به، ثم ارتحل إلى مصر وقرأ بها الكثير على محب الدين محمد المرتضى بن محمد الزبيدي اليمني، وأجاز له بخطه، ودخل قسطنطينية ودمشق وحلب وغيرها من البلاد، واجتمع بالعلماء والأدباء والرؤساء، وكان مستقيم الأطوار مواظباً على التقوى والعبادة آناء الليل وأطراف النهار. مات رحمه الله تعالى بعد الألف والمائتين وخمسة، ولم أقف على تعيين تاريخ موته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 الشيخ طه بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي مفتي الشافعية بحلب العالم الفاضل. والهمام الجهبذ الكامل. والتقي الصالح. والنقي الراجح. مولده سنة تسع وخمسين ومائة وألف، واشتغل بالأخذ والتحصيل في كنف والده وانتفع به وقرأ عليه الكثير من الكتب والفنون، ولازم الشيوخ وسمع عليهم وأكثر من التلقي، وله عدة مشايخ سادة أفاضل منهم أبو سليمان صالح بن إبراهيم الجينيني الدمشقي، وأبو يحيى علاء الدين بن علي بن صادق الدغستاني. ولم يزل يترقى في الأخذ والعلوم والمعارف، إلى أن خطبته المنية بعد الألف والمائتين وخمسة. الشيخ السيد طه الكيلاني نسبا الشمزيني الهكاري الخالدي النقشبندي كان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً، زاهداً عابداً، ورعاً تقياً نقياً، حسيباً شريفاً من أولاد سيدنا عبد القادر الجيلاني، وكان كثير الوعظ والتذكير، يذكر الناس بالله ويعظهم ويرشدهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وكان حسن الأخلاق طيب الأعراق، قد شغلته الطاعة عن البطالة والإضاعة، وقد أخذ الطريقة النقشية عن عمدة الزمان مولانا شيخ الحضرة خالد، ثم بعد الكمال ونوال المراد أقامه خليفة وأذن له في الإرشاد. توفي سنة ألف ومائتين و ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 الشيخ طه شرف الدين أبو أحمد المقري بن أبي بكر بن رجب بن أبي بكر بن حسن الحلبي الحنفي الفقيه الصالح الدين التقي الورع الزاهد، العالم العامل الإمام الهمام النقي العابد، أحد القراء والحفاظ بحلب، ولد بها سنة ست وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم على والده، وأتقن حفظه على جماعة، منهم الزين عبد اللطيف المدني نزيل المدرسة الشرفية والجمال يوسف المصري وأبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، وتلاه على الشمس البصري وأبي محمد عبد الكافي بن عبد الكريم الحلبي الإمام بالجامع الأموي، وقرأ الفقيه والنحو على أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المداري، وقرأ على أبي عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، وحضره في كثير من الفنون، وسمع عليه غالب الكتب مع من حضر، كالدر المختار للحصكفي والدرر وشرح الجوهرة والأشموني وابن عقيل على الألفية والجامع الصغير للسيوطي وجميع صحيح الإمام البخاري والشفا للقاضي عياض وغيره، وأخذ عنه الطريقة القادرية، وبعد موته لازم ولده أبا المواهب إسماعيل المواهبي، وحضره وسمع عليه حصة من الفنون، وسمع أيضاً حصة من الجامع الصغير على أبي عبد القادر صالح بن عبد الرحمن البانقرسي، وسمع الكتاب المذكور أيضاً على أبي محمد عبد القادر بن بشر بن عبد الحق البشري، ولازم الأشياخ واحتفل بالسماع، وكان مواظباً على قراءة القرآن العظيم ويتدارس به مع القراء ولا يغفل عن التلاوة بحقها ليلاً ولا نهاراً، وكان جميل المجالسة حسن المعاشرة، لطيف الكلام، يحب المذاكرة في الأحكام، كثير المواعظ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، معتزلاً عن الناس إلا لما يرجع عليه منه أمراً ديني من الاجتماعات المطلوبة، والمجالس المستحسنة المرغوبة. ولم يزل على نهجه المستقيم إلى أن استضافته المنية وطلبته للدرجات العالية، وذلك بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 الشيخ الطيب بن الشيخ محمد المبارك الجزائري الدلسي المالكي العالم الفاضل والهمام الكامل، عمدة زمانه ونخبة أقرانه. ولد سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين تقريباً ونشأ في حجر والده، فتعلم القرآن وجوده وحفظه وأتقنه، وأجاد الخط، وقرأ الفنون من العلوم على سادة أفاضل، منهم عمدة الأنام، وكعبة الإسلام، جهبذ الأفاضل، وينبوع الفضائل والفواضل، العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري الحسني، فكنا نحضر وإياه مع من حضر كتاب الفتوحات المكية، وغيرها من كتاب السادة الصوفية، وقرأ على العالم اللوذعي، والسميدع الألمعي، شيخنا الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي فنوناً متعددة، وقرأ على غيرهما من السادة المالكية، وأجازوه بالإجازة العامة. وله ذكاء وحفظ مع طلاقة لسان وطلاوة في الكلام، وحسن معاشرة ولين جانب، وخضوع ولطف وزهادة، وقناعة وجود وكرم نفس، ومهابة وقبول، وأفكار عالية وفهم جيد في كلام القوم. وفي عام اثنين وثمانين حينما شرف شيخنا الأستاذ السيد محمد الفاسي الشاذلي أخذ عنه الطريقة الشاذلية، وبعد اشتغاله مدة في الطريق أذن له في الإرشاد، وإعطاء الطريق، فأرشد وأحسن في إرشاده، وأعطى الطريق وأقام الأذكار في الليل والنهار، وأكثر من السياحة في خدمة الطريق، وانتفع منه البعيد والصاحب والرفيق، وعرف بين الناس واشتهر باللطف والإيناس. وفي سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين أرسله حضرة الأمير عبد القادر الجزائري مع حضرة شيخنا الطنطاوي إلى مدينة قونية لمقابلة الفتوحات المكية على خط مؤلفها العارف بالله الشيخ محي الدين العربي وقرأها مع الشيخ المذكور هناك مرتين مقابلة، وبعد مجيئهما قرأناها جميعاً على الأمير المرقوم مع التزامنا لإصلاح نسخنا على النسخة المقابلة على خط المؤلف. ومما نظمه وأسمعني إياه من لفظه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 سلوي عن الأحباء حرمه الحب ... فإن هجروني فالعذاب بهم عذب وهيهات يوماً أن أميل إلى السوى ... وكيف وقلبي مدنف بهم صب فإن حدثوا أروي الحديث بسائري ... فنعم الشفا ذكر الأحبة والطب فلله عيش قد تقضى بقربهم ... وكأس الهنا صاف ومغنى اللقا رحب سقوني شراب الأنس صرفاً مقدساً ... عن المزج لما أن تمزقت الحجب فقالت سليمى قر عيناً بما ترى ... وطب في الهوى نفساً فقد حصل القرب ألم تدر أن الوصل أضحى مقامه ... عزيزاً رفيعاً لا تطاوله الشهب حمانا منيع دونه الحتف يا فتى ... وإن الهوى مرقاه مستوعر صعب فكم مغرم أضحى معنى ولم يفز ... بنظرة إسعاف بها يسكن القلب تؤجج نار الوجد بين ضلوعه ... وأجفانه مثل الغمام لها سكب يرى روحه تنحط قدراً بلمحة ... وإن عدها يوماً لعمري هو الذنب فمن شاء أن يحيا ويحظى بنظرة ... فبي فليمت وجداً وإلا فلا يصبو وله نظم له حلاوة وعليه طلاوة، وله شغف كثير بالسماع والنساء لو تيسر له لدخل في كل ليلة على كاعب عذراء. ويحب التجمل في الملبس وغيره، وهو ذو تودد وتحبب كثير السؤال عن إخوانه وأخلائه وأخدانه، يعاشرهم أحسن المعاشرة، ويلاطفهم أجمل الملاطفة. ولم يزل يفحل أمره ويعظم قدره، إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع وعشرين كانون الثاني وسادس وعشرين من شعبان عام ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر ودفن في سطح لمزن قرب الجبل رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 حرف الظاء الشيخ ظبيان بن الشيخ يوسف بن الشيخ عبد العال بن الشيخ محمد حفيد ابن محمود المسمى براعي الغزالة المدفون بقربة جيرود " قرية من قرى دمشق الشام تبعد عنها مقدار سبع ساعات من جهة الشرق إلى شمال " ولد بدمشق يوم الأربعاء سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وأخذ الطريقة القادرية عن والده المذكور وعن الشيخ محمد علي أفندي الكيلاني القادري الحموي، وكان له أطوار غريبة وأحوال عجيبة، وكانت تأتي إليه النساء والرجال من كل جانب، فهذا يسأله عن تجارته، وهذا يسأله عن زوجته، وهذا يسأله عن سفرته، وهذا يسأله عن شركته، وكل واحدة من النساء تسأله عن مقصود مخصوص، وهو تارة يجيب بلسان مفهوم، وتارة يتكلم بمعنى غير مفهوم. وكان يرد عليه من المال شيء عظيم، ومن الهدايا شيء جسيم، ولا زال يعلو مقامه، ويعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 احترامه، وتقصده الوزراء والوجوه والكبراء، إلى أن توفي حادي عشر رجب سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مدفنه الذي بناه لنفسه في آخر تربة باب الله رحمه الله تعالى. الشيخ ظاهر باطن الدمشقي الصالحي كان رجلاً شهماً ذا مروءة ظاهرة، وشهامة باهرة، وأحوال عجيبة، وأمور غريبة. وكان مشهوراً بالكرامات وخوارق العادات، مع لطافة وجمال، واستقامة تدل على حسن الحال، وهو من التغلبيين الذين لهم في الشام شهرة كبيرة، ومناقب هي بكل مدح جديرة. وكان هذا المترجم حسن المعاشرة، جميل المذاكرة، كثير الوداد، بعيداً عن المناكدة والعناد، وكان مقصوداً في تيسير الحوائج، مطلوباً في الدعاء لنوال النتائج، ليس له غلظة ولا فظاظة ولا قباحة في الكلام، ولا مسبة ولا شتم ولا ما يوجب الملام، مع أن طور الجذب يغلب عليه، والناس من كل فج تأتي إليه. مات في سنة ألف ومائتين ونيف وتسعين رحمه الله تعالى. المرشد الكامل الشيخ ظافر بن محمد حسن بن حمزة ظافر المدني الشاذلي منبع عين الحقيقة، ومجمع بحري الشريعة والطريقة، إنسان حدقة الفضائل، وترجمان عرفان السادة الأفاضل، وحديثة الهدي والكمال، ومعدن الجود والنوال، من أجمع ذوو التحقيق على علمه وولايته، واجتمع أهل التدقيق على كمال فهمه ودرايته، ورفع الدهر قدره فأجله، وعرف ضده فأهانه وأذله، وخدمته السيادة فكانت له عبداً، ولاحظته العناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 فأفرغت في رعايته جهداً. ولم يزل يتنقل مقامه، ويترقى قدره ومقامه، إلى أن دعته الحضرة السلطانية، للإقامة بمدينة القسطنطينية، وبيان ذلك على طريق الإجمال لا على التفصيل، المؤدي إلى الخروج عن المقصود وارتكاب التطويل، إنني كتبت لحضرته وهو في الآستانة العلية، أن يرسل لي ترجمته السنية، فأجاب وما ضن ومن علي بها وما من، وأنبأني بأنه ولد في شعبان المبارك سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، بمسراته من أعمال طرابلس التي دفن بها والده المجمع على كماله من غير خلف، فنشأ في حجر والده إلى أن شب، وكان له كمن طب لمن حب، ثم قال: فعلمني القرآن إلى أن أتقنته، ثم علمني من أنواع العلوم إلى أن ظننت أن ما تعلمته أحسنته، ثم أخذ يؤدبني بآداب السنة، إلى أن وجد نفسه الشريفة لإعطائي الطريق مطمئنة، فاستخار الله واستهداه، وغب أن حصل له الإذن بما يهواه، أخذ يدي بطريق المصافحة وتلا قوله تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " إلى آخر الآية ثم تلا: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " الآية ثم لقنني لا إله إلا الله وقال لي اذكرها من غير قيد ولا عدة تتكاثر عليك الفيوضات، ويتقوى لك بفضل الله المدد. وكان رضي الله عنه يحبني محبة كاملة زائدة عما تقتضيه شفقة الأبوة، ولا زال يؤهلني لكل أمر ذي بال، ويمدني بهمته الجامعة لأنواع الكمال، ثم ألبسني الخرقة المباركة، وهي جبة صوف من لباس المغرب، وقد ثقل علي لبسها حتى صرت أختفي من الناس مدة، إلى أن حصل لي بهمته تمام الأنس بها، ولا زالت على ظهري ثلاث سنين، ثم أمرني أن أتلون في اللباس، ثم أتيته وطلبت منه أن يلقنني الاسم الخاص، فأمهلني أياماً إلى أن تحقق مني صدق طلبي له أخذ بيدي ولقنني إياه، وقال لي اذكره يفتح الله عليك عن قريب إن شاء الله، فكنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 أذكره دائماً مستغرق الوقت فيه، وكلما خطر بقلبي شيء أبديته له، ولا زلت كثير الشكوى لديه، غزير التململ بين يديه، إلى أن قال لي مرة: ليس المطلوب بكثرة الأذكار والأوراد، إنما هو بنظرة الأستاذ بعين العناية والإمداد. وشكوت له مرة كثرة الوسواس والأفكار حالة الذكر، فقال لي رضي الله عنه لا بأس عليك لأنها ترد على كل ذاكر ولا تضره. وشكوت له مرة أخرى من الوهم، فقال لي هو باطل، واستشهد لي بقول القائل: فأفنيتها حتى فنت وهي لم تكن ... ولكنني بالوهم كنت أطالع ثم بعد ذلك أمرني رضي الله عنه بالسياحة إلى تونس، ثم بعد السياحة عدت إليه، فقال لي الآن صرت أخي ومريدي وابني، فأعطني حق ذلك وأنا كذلك أعطيك حق الأخوة بحيث لا أعمل شيئاً بغير استشارتك، فبكيت وبكى رضي الله عنه. وكنت في بعض الأيام جالساً عنده مع بعض خواص الإخوان، فأتاه إنسان برطبتين باكورة، فأخذهما وأطعمنيهما وقال لي انو ما شئت يحصل إن شاء الله تعالى، فبعد ذلك رأيته في منامي كأنه جالس رضي الله عنه بقرب منهل، ومعه جمع غفير من التلامذة، وأنا من جملتهم، فرأيت أخوتي يتزاحمون على الماء، فقال رضي الله تعالى عنه: أيكم يسقي أولادي، فأردت أن أسرع لمرادي، ثم قلت هذه مزية أوثر بها التلامذة، فما قام أحد، ثم كرر القول ثانياً وثالثاً، فقمت وسقيتهم واحداً واحداً حتى رووا، فقام رضي الله تعالى عنه ودخل بي إلى محل فيه خزانة ففتحها وأخذ منها علبة، وأخرج منها وعاء فيه حلوى بيضاء، فأخذ على إصبعه وقال لي افتح فاك فناولني ذلك، فما وجدت أحلى ولا ألذ منها، وما فضل على إصبعه مسحه على صدري، فخرجت لي منه رائحة عظيمة ما رأيت أطيب منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 ثم قيل إن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجلس، فطلعت، فلما انتهيت إلى المجلس وجدته نائماً وهو لابس رداء من صوف في غاية الحسن، فظهرت لي قدماه الشريفتان يعلوهما نور ساطع متصل بسقف المجلس، فقلت الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، فقال وعليك السلام، وجلس متربعاً، فرأيت بجنبي أحد الأحبة، فقال صلى الله عليه وسلم مرحباً بكم، ورفع جناحيه الكريمتين، وأشار لنا بالدخول تحت جناحه الأيمن، وضمني إلى جانبه فغشيني طيب روائحه، وأنعشني لطيف فوائحه صلى الله عليه وسلم، الحمد لله والشكر لله. ثم في الصباح أتيت الأستاذ رضي الله تعالى عنه وقصصت عليه ذلك، فقال لي هنيئاً لك واستوص بإخوتك خيراً فإنهم أمانة الله عندك انتهى. ثم أنه بعد وفاة والده الأستاذ، ومرشده العمدة الملاذ، انتهت إليه رياسة الإرشاد، وطار صيته إلى أقصى البلاد، وانتفع به أهل المشرق والمغرب، ولسان العموم عن بعض فضائله يعرب. وفي سنة ثمان وستين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى فزان وتونس سائحاً داعياً إلى الله، ثم في سنة ثلاث وثمانين توجه إلى الحجاز، ورجع إلى طرابلس الغرب، وفي سنة ثمان وثمانين عاد إلى الحجاز من طريق الآستانة العلية، وفي هذه المرة أخذ عنه الطريق حضرة السلطان الأعظم، والخاقان الأفخم، السلطان عبد الحميد خان، وذلك قبل أن يتولى أمر الملك، ثم توجه إلى طرابلس وتونس. وفي سنة إحدى وتسعين قبل خلع السلطان عبد العزيز بمدة يسير، ومن بعدها لم يأذن له السلطان عبد الحميد بالخروج من الآستانة لكثرة محبته له وأنسه بجماله واعتقاده بكماله، واجتماعه معه على الذكر والمذاكرة، وعلى المفاكهة الأدبية والمحاضرة، ولم يزل يعلو مقامه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 ويسمو احترامه، ولا يزال إن شاء الله في رفعة عالية ونعمة نامية. وفي عام ألف وثلاثمائة وخمسة أنشأ له حضرة السلطان المذكور داراً عظيمة مع تكية للإخوان الشاذلية، وكان يكاتبني في بعض الأحيان، ويخاطبني مع رفعة مقامه خطاب الإخوان، بعبارات فائقة، ومعان رائقة، دالة على أنه بلغ ما أراد، من العلم والعرفان والإرشاد، ومرة جاوبته عن كتاب أرسله وجعلت له هذه القصيدة مع الجواب، وهي: ما كنت أعرف ما الهوى لولاكا ... لا والذي أولى البها أولاكا يا فاتني كف الجفا عن مغرم ... مضنى وعامل بالجميل فتاكا أنا ذلك الخل الوفي بعهده ... هل خلت يا بدر الدجى انساكا ما شئت فاصنع بي فما لي ملجأ ... إلا إليك لأنني مولاكا واهاً لمن من طرف دخل البلا ... ء لجوفه من نظرة تلقاكا من لي بأن ترضى بروحى والحشا ... وبمهجتي يا منيتي وأوراكا لم يثنني عنك النحول ولا الضنى ... فبما ترى عني العذول ثناكا قد ضاق بي رحب الفضا وقد انقضى ... عمري ولم أظفر بغير جفاكا يا عاذلي كف الملام فإن لي ... قلباً يسوم من الهوان هلاكا أو ما دريت بأنني فيه أرى ... عذباً عذابي لا أروم فكاكا ذلي له عز واضلالي هدى ... وأرى الملام بحبه إشراكا أسرفت في لومي ولا أصغي ولو ... كان الحبيب بصبه فتاكا لو شمته والشعر منسدل على ... أردافه ما كنت تنكر ذاكا أو لو بدا فجر الهدى من وجهه ... لسلا حشاك وضل فيه حجاكا أو لو تثنى تائهاً بقوامه ... أزرى الغصون بميله وسباكا سلم لنا واسلم فآية حسنه ... ما زاغ عنها مبصر إلاكا يا لائمي كن راحمي فإلى متى ... أعلي من أهواه قد ولاكا حتى سعيت بما سعيت به ولم ... تذر العناد ولم تراع أخاكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 حسبي الوذ بسيد ساد الورى ... ورقى وخلف دونه الأفلاكا حبر الهدى بحر الندى حصن الردى ... بشر ولكن أشبه الأملاكا بدر السعادة في سماء سيادة ... فاقصده تحمد في الصباح سراكا إن لاذ راجيه بكعبة عزه ... قالت له العليا جعلت فداكا يمم حماه أن ترم فيض الندى ... تلقى جواداً بالمنى لباكا يا صاحبي قم بي نؤم رحابه ... ودع السوى واغنم لديه رجاكا هذا الهمام ابن الهمام أبو الندى ... يهدي السبيل ويرشد النساكا هذا الإمام ابن المداني ظافر ... فاظفر به وعداه دعه وراكا هذا هو القطب الرفيع مقامه ... حدث ولا حرج عليك بذاكا لا عيب فيه سوى الكمال وإنه ... ذو راحة لم تعرف الإمساكا يا سيداً ما زال طرفي يحسد السمع الذي أحياه ذكر حلاكا أترى أفوز ببغيتي والدهر يسعدني وقبل منيتي ألقاكا يهنيك جددت المآثر بعدما ... درست وحان هوانها لولاكا ورعاك بالإقبال مولانا أمير المؤمنين وللصعود دعاكا عبد الحميد مليكنا قطب الورى ... لا زال مبغضه يسوم هلاكا عذراً لرق راق فيك مديحه ... لم يبغ غير شموله برضاكا فاقبل فديتك من أسير عبودة ... عذراء تشدنا ببعض ثناكا تمشي على استحيائها لقصورها ... قد أرخت طب ظافراً بمناكا هذا وإن حضرة المترجم يحق له أن تفرد بشمائله الأسفار، ولولا الخروج عن المقصود لأطلت في ترجمته، ولكنه نظراً لأسلوب الكتاب لا بد من الاقتصار، حفظه الله على الدوام، وسهل له كل مرام، ثم أنه في سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة تمرض ودعاه داعي السعود إلى جنة الخلود، ودفن في الآستانة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 حرف العين الملا عباس الكردي الكوسنجقي النقشبندي الخالدي نهج مناهج الفضل منذ ماز الأخماس من الأسداس، وجنح إلى صدق القول وجميل الفعل والابتعاد عن الأرجاس، فتحلى بحلية التقوى والعبادة والزهد والورع، وتخلى عن الرذائل وإيثار الزائل والولع بالطمع، فكان زاهداً تقياً، عابداً نقياً، عالماً عاملاً ورعاً فاضلاً، يحب العزلة ما أمكن، ويهوى من الناس من هو له على العبادة أعون. ولما ارتوت نفسه من أجمل النفائس، وتجردت عما يوقع في المهلكات والدسائس، رام الدخول إلى حرم المعارف، والعدول إلى طريق القوم الموصل إلى لطائف العوارف، فأخذ الطريقة النقشية، عن بحر الفيوضات الربانية، والمجد التالد ذي الفضل الزائد، مولانا شيخ الحضرة الشيخ خالد. فسلك سلوك أهل الجد والاجتهاد، إلى أن حصل له ما أحب وأراد، فلما رأى فيه الأهلية لإعطاء الطريقة العلية، أذن له بالإذن العام أن يأذن لمن شاء ورام، بالشرط المعروف والعهد الموصوف، وقد دعته المنية إلى الدار العلية سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. رحمه الله تعالى. السيد عارف أفندي بن المرحوم محمد أفندي بن عثمان أفندي الجابي الحنفي الدمشقي أحد المشهورين الأكابر، ومن عليه يدور محور المفاخر، المديد الباع الفريد الانطباع، الذي ملك زمام المحاسن، وافتخرت به السادات الأحاسن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 ورقى إلى ما أحبه، وتيقظ إلى ما نفعه وتنبه، فبدأ من أول أمره سابقاً، ولمن سلفه من الأفاضل لاحقاً، مع صون لسانه عن كل قبيح، وترديه بكل رداء مليح، واشتهاره بكل كمال، وانتشار ذكره باللطف والجمال، واتباعه لرغائب السنة، وانتباهه للشكر على كل نعمة ومنة، فله لعمري القدر المبرور، والفخر الذي لا تبليه الدهور. ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده الهمام، فرباه على الكمال والأدب، إلى أن بلغ به المنى والأرب. ثم ذهب في حياة والده إلى الآستانة العلية فمكث بها زمناً طويلاً، ونال من المراتب التي وجهت عليه قدراً جليلاً، وتولى رتبة قضاء بغداد، ثم بعد موت والده في الشام رجع إلى الشام وعاد، فأحبه الخاص والعام، وحصل له من الشهرة ما لا يرام، وفاقت معاملته، وراقت مجالسته ومنادمته، والتفتت إليه الوزراء والأعيان، وأنزلته الأكارم من العين مكان الإنسان. وله غيرة غريبة ومروءة عجيبة، وخصال نبوية وصفات مصطفوية، ومجلسه ليس فيه سوى الفوائد العلمية، والمذاكرات اللطيفة الأدبية، بلسان يتحاشى عن كل عيب، وكلام خال عن الملام والريب، يتمنى جليسه أن لا يفارقه، ويود أن يكون مدى الأيام مشاهده وموافقه، وكان من أعز الناس علي، وله التفات في جل أموره إلي، يقصدني في كل مدة، مظهراً غاية المحبة والمودة. وقرأ من الفنون عدة، باذلاً في طلبه اجتهاده وجده، إلى أن بلغ مطلوبه ونال مرغوبه. وفي ثالث يوم من جمادى الأولى قام في الصباح فصلى الفلجر، وقرأ أوراده وسأل من المولى المنان الثواب والأجر، وبعد الضحوة الكبرى حصل له نوع انحراف، إلا أنه قليل مأمول الانصراف، وبعد صلاة الظهر شرب كأس حمامه، وكان هذا اليوم من الدنيا آخر أيامه، وكان موته فجأة من غير مرض، بل دعاه داعي المنية في الحال فأسرع إلى إجابة الأمر المفترض، وذلك سنة أربع وثلاثمائة وألف، فتأسف له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 الخاص والعام، وبادروا تشييع جنازته بكل اهتمام، رغب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، توجه العموم بالدعوات إليه، ثم شيع جنازته الأكابر والأعيان والأصاغر والولدان، وحينما شاهدت هذا الحال، تذكرت قول من قال: صروف الليالي لا يدوم لها عهد ... وأيدي المنايا لا يطاق لها رد تسالمنا سهواً وتسطو تعمداً ... فإسعافها عسف وإقصادها قصد عجبت لمن يغتر فيها بجنة ... من العيش ما فيها سلام ولا برد أفي كل يوم للنوائب غارة ... يشق عليها الجيب أو يلطم الخد أرى كل مألوف يعجل فقده ... فما بال فقد الإلف ليس له فقد مضى طاهر الأثواب والجسم والحشا ... له الشكر درع والعفاف له برد وأبقى لنا من طيبه طيب ولده ... ينوب كما أبقى لنا ماءه الورد فبالرغم مني أن يغيبك الثرى ... ويرجع مردوداً بخيبته الوفد سأبكيك جهد المستطاع منظماً ... رثاك وهذا جهد من ماله جهد لئن كنت قد أمسيت عنا مغيباً ... فقد ناب عنك الذكر والشكر والحمد الشيخ عاشق المصري الخالدي النقشبندي زبدة الأفاضل ونخبة الأمائل، عالم الزمان وفاضل الأوان، الصالح العامل والفالح الكامل، قد لازم حضرة مولاناة الشيخ خالد في دمشق الشام، وأدى حق الخدمة والسلوك على التمام، ثم خلفة وأذن له بالإرشاد، وهو آخر من تخلف ونال من الشيخ المراد، ولما مر الشيخ إبراهيم فصيح أفندي الحيدري في طريقه إلى الحجاز على مصر، اجتمع بالمترجم المرقوم، وذلك سنة ثمانين وألف ومائتين، وكان مستقيم الأطوار، حسن الأخلاق فصيح اللسان مشتغلاً بالطريق، متفرغاً للهداية والإرشاد، إلى أن اخترمته المنية سنة ألف ومائتين ونيف وثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 الشيخ عبد الباسط السنديوني الشافعي الأزهري المصري هو جواد علم لا يكبو، وحسام فضل لا ينبو، قد سبق في ميدان التقدم أقرانه، واجتلى من سعد جده قرانه، وبذل فيما يعود نفعه الرغائب، وعمت فضائله الحاضر والغائب، لم يترك طريقاً من طرق الإسعاد إلا سلكه، ولا وجهاً من وجوه الاجتهاد إلا استدركه، وأرب على من سبقه من الكرماء الأوائل، وامتد صيت ثنائه في العشائر والقبائل. قال الإمام الجبرتي: قد أجازه أكابر المحدثين، ولازم الشيخ محمد الدفري وبه تخرج في الفقه وغيره، وأنجب ودرس وأفاد وأفتى في حياة شيوخه، وكان حسن الإلقاء جيد الحافظة، يملي دروسه على ظهر قلبه، وحافظته عجيبة الاستحضار للفروع الفقهية والعقلية والنقلية، إلى أن قال: إنه كان قليل الورع عن بعض سفاسف الأمور، وبذلك قلت وجاهته بين نظرائه. توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الآخرة سنة إحدى ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن في تربة المجاورين. الشيخ عبد الباقي أفندي الفاروقي بن سليمان العمري حفيد أبي الفضائل علي المفتى الحنفي الموصلي عفي عنه إمام خاض بحور الأدب أتم خوض، وتفنن في إجادة الأرب تفنن الأزهار في سرحة الروض، وخلا عن الأكفاء، وتعالى بدره عن الخفاء، وقلد جيد عصره، ووشح خود مصره، بمنثور لآل ومنظوم عقود تتزين بها تيجان الجمال، وتتحلى بها أبيات الكمال، فإنه السابق الذي لا يلحق، واللاحق الذي شمس إشراقه لا تمحق، ذو الفكرة الصافية، والمعرفة التامة الوافية، والكمالات المشهورة المعروفة، واللطافات الموصوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 ولقد أبدى من المحاسن وأبدع، وارتوى من حياض النباهة وتضلع، وسلك مسالك المعارف، وملك منها كل تليد وطارف، بعزم غير ذي كلال، وجد وجد به مكنون در الأفضال. وله الذهن الوقاد، والذكاء الذي أورده على الأدب أحسن إيراد، فمن نظمه الأنيق، وشعره الفائق الرقيق، قوله مادحاً سيدنا علي وأهل البيت ذوي المقام الجلي: هذا الكتاب المنتقى والمجتبى ... في نعت آل البيت أصحاب العبا بالقلم الأعلى بيمنى قدرة ... في لوح عزة بنور كتبا لاح به فرق العلا متوجاً ... مرصعاً مكللاً مذهبا وكمها مطرزاً مدبجاً ... وعقدها منقحاً مهذبا فرق معناه وراق لفظه ... يحكى صفا الودق إذا ما انسكبا ثنا إذا أنشدته له ثنى ال ... وجود عطفاً وتهادى طربا وهي طويلة بديعة الكلام، رفيعة السبك والنظام. ومن شعره الجليل، حينما زار سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم قوله: زر مقاماً معظماً واتل فيه ... بعض آي من معظم التنزيل وادخل الباب حاسر الطرف حاف ... إنه باب حطة للدخيل وأنخ للرجا به يعملات ... موقرات بحمل وزر ثقيل وتذلل واخضع ولذ وتوسل ... وأقل منه تحت ظل ظليل والثم الباب بالشفاه ورصع ... أرضع في فرائد التقبيل وانثر الدمع من شؤون عيون ... مثل نثر الجمان من إكليل وتبرد واقصد سبيل ارتواء ... فعلى ابن السبيل قصد السبيل تجد النار تشبه الماء برداً ... وسلاماً يطفي غليل العليل وعليه الآثار من منجنيق ... تتراءى للعين من بعد ميل والمياه التي تسيل فيوضا ... وانبعاث النسيم من سلسبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 شهدت أنه المقام الذي قد ... كان قدماً به مقام الخليل وبه مهده الذي قد تجلت ... فوقه هيبة المليك الجليل فعليه من ربه صلوات ... وسلام نهديه في منديل نسجته أيدي الملائك من رقة غزل التكبير والتهليل ما تلا الفاروقي يا نار كوني ... بلسان التجويد والترتيل وقال رحمه الله تعالى: قد كثر تهافت فراش مصاقع الفرقتين، على مصباح مشكوة كل بيت من هذين البيتين النيرين، على تشطيرهما وتخميسهما في نعت آل بيت سيد الثقلين، فأحببت الاقتداء بالجماعة، مع ما أنا عليه من قلة البضاعة، فشطرتهما مرة وخمستهما مرتين؛ فها هما يسطعان كالفرقدين: يا آل من ملأ الجهات مفاخراً ... وأتى بكم للكائنات مظاهرا وهم الذي لكم يعد نظائراً ... إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم أو ما درى إذ راح يعلن بالندا ... أن الذي هو غيركم رجع الصدى فوجدكم سر الخليقة أحمدا ... أنتم حقيقة كل موجود بدا وجميع ما في الكائنات توهم وقال رحمه الله مشطراً لهما: إن الوجود وإن تعدد ظاهراً ... ما فيه غيركم لمن يتوسم أوصح في الإمكان ثم عالم ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم أنتم حقيقة كل موجود بدا ... من كنز كنت وفيه أنتم كنتم فحقيقة الأعيان أنتم عينها ... وجميع ما في الكائنات توهم وقال رحمه الله التخميس الثاني في نعت آل بيت من أنزلت عليه السبع المثاني: يا آل طه في الكنوز ذخائراً ... كنتم وجئتم للبروز مظاهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 ما لي وذي حول يردد ناظراً ... إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم في الدار ديار سواكم ما اغتدى ... مع كثرة موهومة متفردا فمن العماء لمن بنوركم اهتدى ... أنتم حقيقة كل موجود بدا وجميع ما في الكائنات توهم وقال رحمه الله تعالى: سلت لحاظك مرهفاً ... بالجفن كان مغلفا وسطا فجاوز حده ... في القتل حتى أسرفا ما ضر لحظك لو تأنى م لحظة وتوقفا عن فتكه في مهجة ... ذابت عليك تلهفا يا من لثمت لثامه ... ورشفت منه المرشفا بفم الخيال فلا ارتوى ... قلبي ولا وهجي انطفا وقف التصور والتأمل ... للعقول استوقفا عن درك معناك الذي ... بالفكر لن يتكيفا وبلمع برق الثغر كا ... د البرق أن يتخطفا أصبحت من ظمأي إلى ... تلك الشفاه على شفا ببيان منطقك الذي ... جعل المعاني أحرفا وأدار فيها من لما ... ك على الندامى قرقفا حرف تحكم في الرؤو ... س وبالعقول تصرفا قد مازج الأرواح حت ... ى فيه ذبن تلطفا وبعارض باللام قد ... عرفته فتعرفا بسوى أنامل فكرتي ... نمامه لن يقطفا وبرمح قد ثقفت ... هـ فنونه فتثقفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 من لينه أخشى إذا ... ما اهتز أن يتقصفا وبواو صدغ ما على ... غير الخدود تعطفا عطفاً على رمق امرئ ... غادرته رسماً عفا لم يبق غير تسيسه ... وعلى النية أشرفا رفقاً بقلب متيم ... عنه سواك قد انتفى أشفى على خطط الهلا ... ك ومن وصالك ما اشتفى وبليل هجرك ربما ... غفت النجوم وما غفا أخفيت حبك برهة ... والآن قد برح الخفا ونشرته نشر العبير ... وكان قبل ملففا وتسامرت بين الحجو ... ن به القوافل والصفا شغب العذول علي عندك بالسلو وأرجفا فليكثر التعنيف من ... جهل الغرام فعنفا لو كان يدري ما الهوى ... وهو الظلوم لأنصفا يا أيها القمر الذي ... بغياهب الشعر اختفى والبدر حاول أن يحا ... كي وجهه فتكلفا لبس المحاسن واكتسى ... ثوب الجمال مفوفا كن لي عليك مساعداً ... وعليك كن لي مسعفا أو ما كفى ما قد جرى ... ما قد جرى أو كما كفى وقال مبتكراً هذه الأبيات وهي من اختراعاته الغريبة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 علينا أهلة هذي الشهور ... غدت تحصد العمر في منجل وداست بيادر أيامه ... بنات لياليه بالأرجل وقد نثرته مذاري الخطوب ... كنثر الحبوب من السنبل وقد طحنته رحى النائبات ... دقيقاً فما احتاج للمنخل وقد عجنته بماء الصدود ... أكف القطيعة في الموصل وقد خبزته سليمى الهموم ... بمسجور تنورها المصطلي وقد قورته رغيفاً رغيف ... فقلنا لأم الدواهي كلي ومر الصباح كريح الصبا ... ومنه الشمائل كالشمأل وطار إلى ما ورا الخافقين ... يرفرف في خافقي أجدل وضاع الشباب فرحنا عليه ... ندور من الشيب في مشعل وقد خضبته أكف الغموم ... خضاباً إلى الحشر لم ينصل وكان السواد قراباً له ... فصار البياض شبا المنصل بكينا على زمن مدبر ... كما الطفل يبكي على المطفل ولا بد من بعد هذا البكاء ... سنبكي على الزمن المقبل تشابه ذا اليوم مع أمسه ... فقسنا الأخير على الأول وقال رحمه الله: وقاض بجور ماله من مضارع ... على أنه بالعسف أقطع من ماض قضى ومضى لكن إلى كل غاية ... من الخزي لا يحظى بها أبداً قاض يقولون يقضي قلت لكن بباطل ... وقالوا يقص الحق قلت بمقراض وقال رحمه الله تعالى: كل يوم يجرد الدهر سيفاً ... نصله الصبح والمساء قرابه يتراءى نجاده من شعاع ... وعمود الفجر المنير نصابه والدراري في ظهره فقرات ... فالورى مثل ذي الفقار تهابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 فإذا ما بدا ينضنض كالصمل ... على الخافقين سال لعابه إنه ذلك الحسام الذي يخشى على كل من عليها ضرابه وقال رحمه الله: بي كاتب خطه المسود نسخته ... قد بيضت كل تسويد من اللمم عوذت حاجبه مع شق قامته ... من عين حاسده بالنون والقلم وقال مشطراً رحمه الله: رسمت بمحمر البنان شقائقاً ... فزها برونقها طراز برودها ومشت فألقت من شعاع ردائها ... في الروض مثل ورودها بخدودها لم أدر أيهما الشقائق فانثنت ... مشغولة الأيدي بحل بنودها ولمحت زمان النهود فبادرت ... عيني تثلث جلنار نهودها ورمقت سطراً فوق صدر مشرق ... كنهار زورتها وليل صدودها وبدت لتثبت بالجعود ضلالتي ... فيه حروف شهودها لجعودها ومن نثره ما كتبه لصاحب الدولة العلامة الفاضل عبد اللطيف صبحي باشا ابن سامي باشا وكان قد أرسله إليه من دار السلام إلى الآستانة وهو: باسمك يا لطيف قسماً بمن أقسم بالصبح إذا أسفر، ما رأيت مناسبة لنسبتك أيها النسيب إليه، لكونه وأبيك السامي عليه، هو بالانتساب إليك أجدى، وبالاحتساب عليك أيها الحسيب أجدر، وأنى يتسنى له الوصول إلى حضيض سدتك القعساء، ولو طار بأجنحة النسر إلى عنان السماء، على أنه ما يتنفس إلا حسرة على انحطاطه عن علي رتبتك، ولا يتبسم إلا مسرة بما حازه من ارتباط قوي نسبك، ولا ينفلق إلا كاشفاً عن غرر محاسنك الكاشفة للكروب، ولا ينصدع إلا حاسراً عن طرر مآثرك الجاذبة للقلوب، ولا يهب سحراً نسيمه، إلا عن نفح الطيب من سجاياك، ولا يعب عبوب القلوب شميمه، إلا من عبير التعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 عن مزاياك، فليمل صحائف حكمة الإشراق على الآفاق، وليتل صفائح لواقح الأنوار على الأقطار، وليشدخ بعمود من نور، يا فوخ الديجور، وليمعط بلهذم رمحه جلباب الليل إلى الذيل، وليلق ملاحفاً من ضياه على الوهاد والأعلام، ولينشر مطارفاً من سناه، على البطاح والآكام، وليلف ذنب السرحان، بين الأفخاذ والأعكان، وليسمك بكافور تباشيره سائل العلق، من عرنين الشفق، وليعطس بأنفه الأقنى الأشم العرنين، ولينعم بتشميت ذكا صباحا، وليزهى غرراً وأوضاحا، تتلألأ بها أسرة الجبين، فها أنا والنبيه غني عن التنبيه، ما وقب غاسق، وذر شارق، وعن بارق، لا زلت أدامك الله ولم أزل آن الضحى ووقت الطف، أصل االاغتباق بالاصطباح، واقطع آناء الليل وأطراف النهار، بما يديره على مسامعي من الأقداح الكبار، مفعمة بما يتسلسل سلساله من سلاف محاسن الآثار، دوراً مسلسلاً مساء، ودوراً صباح، فيأخذني الارتياح بالراح من يدي، وأكاد أن أطير من غير جناح ليناديك الندي: وكيف يطير المرء من غير أجنح ... ولكن قلب المستهام يطير جناب من وطئت لجانبه أيها السعد بساعد مساعدتك، وعضد معاضدتك، سبل مقاصده، وطرق مواقفه، فوطاها مولاك ومولاي، الذي ملكت عقد ولائه، فاستملك عقد ولاي، فاستحق أن يكون من الموالي العظام، الفاضل الهمام الشيخ طه، لا زال ممتطياً مما مهدت له من نجائب النجابة، وركائب الرغائب المستطابة مطاها، فإنه السابق الذي لا يلحق، واللاحق الذي لم يسبق، ولا يشق له غبار، باستطراد مساعيك في مضمار الافتخار، فما حضر في محفل بأعلام مدينة السلام حافل، ولا جالس من عنادلها مساجل، إلا وملأ أقفاص الخواص، مما يليه بهديله وترتيله، من سورة الإخلاص في محبتكم أفراحا، وأجال من جريال هاتيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 المعاني المروقة في أواني المباني أقداحا، ومن سني طالعه وبهي مطالعه لا برح مستديراً محور مباهاته، على قطب لسانه بأفلاك لهواته، فيطلع من كواكب المناقب، ما يزاحم النعائم في المناكب، ويملأ ضوءها ما بين المشارق والمغارب، ويشعل في مشكاة أولي البصائر والأبصار، من مصابيح خلائقك الحسان الساطعة الأنوار، ما يذكر في مجامر الضمائر، من طيب الذكر ما هو أذكى من عنبر الشجر المعطار، له في كل ديوان لسان شاكر لإحسانك، وفي كل لسان ديوان ذاكر لامتنانك، يتلو من آيات براعتك ونيلك، وبينات مجدك وفضلك، ما يقرط بدرره المسامع، وتأخذ فرائده بالمجامع، فما من ناد إلا وعطره بنفحات شذى أخلاقك الندية، ولا من واد إلا وأفعمه برشحات ندى أياديك الندية، ولا زلنا نتناول في أثناء مفاكهاته، من فواكه شهي كلماته، ما هو في أطباق كالبدور في الإشراق على خوان أخوان الصفا موضوعة، فهي كفاكهة الجنة، وله تعالى الحمد والمنة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولله أبوك يا غرة جبهة المالك والمملوك، ما أسرع ما لمحته بعين عنايتك، فجعلته نصب عينك ملحوظاً برعايتك، واتخذته مستودعاً لجواهر صنائعك، مروجاً لما استصحبه من مفاخر بضائعك، وعلمت أنه ممن إذا علم أكرم، وإذا جرب قرب، وإذا اختبر ادخر، لما ظهر لك بأول وهلة من المخايل، الدالة على كرم الشمائل من الاعتدال في أحواله، والطمأنينة والتؤدة اللتان هما من بعض خلاله، لا يتطارح على زاهد فيه، ولا يظهر حرصاً على غير حريص عليه. وليس بواقع في قدر قوم ... وإن كرموا كما يقع الذباب وما كان سقوطه عليك وانجذابه إليك إلا كسقوط الطل على الروض المخضل، هذا وما ينقضي عجبي منه وإعجابي به وهو العندليب بل مغني اللبيب، في لحنه المعرب عن المرفوع من مقامك، والمنصوب من أعلامك، والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 من أذيال أفضالك، والمجزوم، والمجزوم به من أجزال نوالك، بعد أن أرشت من شؤونه الخوافي والقوادم، وبللتها بعد بل الصدى بقطر الندى من هاطل وابل جودك المتراكم، كيف استطاع المطار مع الاختيار عن تلك الأوكار إلى هذه الأقطار، وخلف ما خلف من هاتيك الرياض الورقة الفضائل والحياض المتدفقة بالفواضل، وما دعاه إلى ذلك فأجاب بعد الاستئذان إلا حب الوطن الذي هو من الإيمان، والحنين إلى ما ترك في رصافة بغداد من الأولاد وأفلاذ الأكباد، ولعفاف مجبول في جبلته، وكفاف معجون في طينته، وما راعى قول من تقدم من الشعراء: يقع الطير حيث يلتقط الحب ... ويغشى منازل الكرماء فرجع مملوء الحقايب، مما أسديت له من غرائب الرغائب، بعد أن حصل ما كان يتوقعه من بلوغ الأمل، ولم يقنع من الغنيمة بعد الكد، وقد ساعد الجد بالقفل، وبناء على أشكال تأسيسه الرصينة البنيان، المهندسة الزوايا والأركان، في وصف رصف تلك المزايا الحسان، والسجايا السامية الشان، وضعت قواعد هذا الكلام السطحي التعبير، ورفعت أبنيته فسامتت منطقة البروج بل المحدب بالتقعير، وأنفت بوصف تلك المآثر على الأثير، فأدى فتح باب فصل الخطاب، إلى اتصال مد أطناب الإطناب، المؤذن بعدم رد الجواب، عن هذا الكتاب الكثير الإسهاب، فليسبل حضرة المولى، وهو باللطف أولى، ذيل مراحمه ولطفه، عما تداخل في هذا الكلام من العلل المفضية إلى عدم صرفه، وعلى أنه داخل في باب الوقف، وممنوع لدى المنتقد عن الصرف، فهو علا علاته موقوف عليك وقفاً مؤبداً، ومع ذكرك الجميل جيلاً بعد جيل مخلداً، والله أسأل وبنيته أتوسل أن يقيك ويبقيك خادماً لأبيك مخدوماً لبنيك، وأن لا يخليك من قرة عينك بهم وقرة أعينهم فيك، وأن يقيمك مركزاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 للإحاطة بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأن يديمك قطباً تدور على محور درايتك إدارة الأقاليم بالنون والقلم، والسيف والعلم، وأن يجعلك يا كريم الأب والجد مقيلاً لعثرات الكرام، وينصبك يا أيها العلم الفرد مقيلاً للعلماء الأعلام، ما نفخت أفواه المحابر وثغور الأقلام، فملأت الصحف والدفاتر مما حويته من مفاخر المآثر بمسك الختام: سبرت بمسبار اختباري فما ارتضى ... سواك اختياري من كرام هموهم وما سمعت أذني بغيرك من فتى ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم انتهى. هذا وإن للمترجم ديواناً يعبق روحه، حتى كان الزهر فوحه، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين وقد أرخ المترجم وفاته رحمه الله قبل موته بأبيات آخرها: بلسان يوحد الله أرخ ... ذاق كأس المنون عبد الباقي 1279هـ - السيد عبد الجليل بن المرحوم الشيخ عبد السلام المدني المشهور ببرادة عالم فاضل، وهمام إمام كامل، قد اشتهر في الناس اشتهار البدر، واستشرفت إليه النفوس استشرافها لليلة القدر، واتفق على كمال فضله الخاص والعام، وأذعن له العموم بأنه طود العلماء الأعلام، ومحور مدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 الأدب ولسان بلاغة العرب. قد ضاهى السماكين رفعة وقدراً، وحيرت الأفكار بدائعه فنثره كالنثرة وشعره كالشعرى، ألفاظه رقيقة كخلقه اللطيف ومعانيه حسنة وقدره منيف. قد اجتمعت به حينما شرف إلى دمشق الشام بعد الألف وثلاثمائة بقليل، وهو من المرض سقيم وعليل، وبديهة النظر تدل على أنه استكمل من السنين، ما بين الستين إلى السبعين، فرأيت شهما جيد الكلام، رفيع المقام، جميل المقابلة، جليل المعاملة، لطيف الموانسة، شريف المجالسة، طلق اللسان، عليه مهابة وجلالة وشان. ولم يطل بقاؤه في الديار الدمشقية، بل بعد مدة قليلة توجه إلى وطنه المدينة المنورة من جهة اسكندرية، وكان قد أسمعني من نظمه ونثره ما يدل على جودة ذهنه واتساع فكره، وقد حفظت شيئاً منه وقيدته، إلا أنني ظللته بعد ذلك وفقدته، ولم أجد عندي سوى ما قرظ به على الكتاب المسمى بعلم الدين، لحضرة العالم الفاضل علي باشا مبارك ناظر الأشغال العمومية المصرية سابقاً، وهو: ما تنسج الأيدي يبيد وإنما ... يبقى لنا ما تنسج الأقلام الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإني تصفحت هذا الكتاب، بل العجب العجاب، الذي نسبت للشيخ علم الدين روايته، وأسندت للسائح الإنكليزي حكايته، فوجدته نزهة للناظر، وسلوة للخاطر، فيه للقلوب ارتياح، وللخواطر نشاط وارتياح، تعرب مبانيه عن لطيف معانيه، وتفصح روائع ألفاظه الرائقة عن بدائع مضامينه الفائقة، ويشهد لمؤلفه بعلو المقدار، ولمصنفه بحسن الاختيار. جمع فيه من غرائب الفنون ونقائض الجد والمجون، الضب والنون، وقرن إلى أسنى المقاصد أشرف المطالب، فصح أنه المرغوب لكل طالب، أظهر فيه ما خفي من أشرار الصنائع، وكشف عن وجه مخدرات العلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 البراقع، وأضاف إلى ذلك من حكم الحكماء، ما أغفلته القدماء، ووشحه بلطائف النوادر، وما تفردت به الأواخر، وأظهرته في هذا الدور الأخير فهو مخترع لجميع المخترعات جامع، وبديع في بيان معاني المبتدعات نافع، ينتقل من فصل إلى ضده، ويحكم الوصل بما أبداه من عنده فكأنه مؤلفه المفضال يقول فيه بلسان الحال: تصديت في إتعاب فكري لجمعه ... فجاء كتاباً في البها لا يشارك وكنت بحمد الله فيه موفقا ... فاسمي علي في الأنام مبارك فلله در من أنشاه، وبطراز الحسن والإحسان وشاه، فإنه أجاد، وسلك طريق السداد، وبلغ به ما فوق المراد. بلغه الله تعالى أمانيه، وكبت حاسده وشانيه، ولا زال متواصل البقا دائم الارتقا، بهجة للياليه وأيامه، يزين الوجود بآثار أقلامه، مغتنماً للثناء الجميل، والأجر الجزيل، بحرمة سيد الأنام، الذي يحسن بذكره البدر والختام، ومن نظامه: إن كان بختي عن الدنيا تقاعد بي ... فإن لي همة من دونها القمر وإن تك الكف عن إدراكها قصرت ... فالرجل عن دفعها ليست بها قصر ومن بديع كلامه: ناولت ذات البها المرآة أوهمها ... بأن فيها لها شكلاً يحاكيها وعندما أبصرت فيها محاسنها ... جارت وصالت على عشاقها تيها ومن كلامه الأنيق ونظامه الرقيق: أرى كل ما تحوي مجالس أنسنا ... جنوداً لدفع الهم سلطانها الشاهي ولا عجب إن لم تتم بدونه ... فما تم أمر للجنود بلا شاهي ومن كلامه حينما انتصرت الدولة العثمانية على اليونان وذلك في أحد عشر تموز سنة ألف وثلاثمائة وثلاث عشرة وكان المترجم نزيل الدار العلية فقال مهنئاً ومادحاً حضرة السلطان الأعظم عبد الحميد خان، نصره الرحمن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 كذا فليكن ما يحرز المجد والفخر ... كذا فليكن ما يجمع الفتح والنصر كذا فليكن ما يبلغ السؤل والمنى ... كذا فليكن ما يدرك الثأر والوتر كذا فليكن سعي الملوك مقدساً ... يرافقه نسك ويتبعه أجر كذا فليكن قهر الأعادي وهكذا ... تخاض المنايا والحديد لها جسر حديث عن اليونان يضحك باكياً ... ويطرب محزوناً ويلهو به غر أماني نفوس في الدجى حلموا بها ... وبالعكس في تعبيرها طلع الفجر همو دبروا أمراً لأمر وفكروا ... فعاد عليهم ضلة ذلك الفكر فعاثوا وجاسوا في البلاد بجهلهم ... وعم على جيرانهم منهم الغدر صبرنا وكم عنهم عفونا فلم يفد ... وعن مثلهم لا يحسن العفو والصبر فقام أمير المؤمنين لردعهم ... ببأس شديد لا يقوم له الصخر فبادرهم منه هصور غضنفر ... كذا الليث يخشى من بوادره الهصر مشيد أركان الخلافة فخرها ... عظيم بني عثمان يا حبذا الفخر لقد قام في ذا العصر بالواجب الذي ... هو الفرض من غزو تباهى به العصر فأحيا مواتاً للجهاد تقادمت ... عليه دهور لا يشاد له ذكر وقام به في الله لله يبتغي ... مثوبته العظمى وحق له الشكر غزاة لعمر الله قد نال خيرها ... وسالمه رغم العداة بها اليسر بفتكته البكر التي شاع ذكرها ... وأفضل فتكات الملوك هي البكر ليهنك يا كهف الأنام وظلهم ... فتوح به سر المحصب والحجر وقبر لخير الخلق سر بطيبة ... وحق لهذا النصر أن يفرح القبر فأنت ملاذ للعفاة مؤمل ... وفضلك جم لا قليل ولا نزر ومن أين للمزن الكهنور جود من ... بكلتا يديه ديمة صوبها التبر لك الرأي بالحزم السديد مؤيد ... تعاملهم بالمكر إن لزم المكر فداو مريض الجهل بالحلم إن يفد ... وإلا فداء الشر يحسمه الشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 ورأيك سيف ما ألمت شباته ... بأمر عصى إلا استطاع له الأمر ومن أين للسيف الحسام مضاؤه ... إذا خامر الألباب من حادث ذعر كهانته شق سطيح بجنبها ... يحار لها زيد ويعيا بها عمرو سمعنا بأن الجبن فيهم سجية ... ولما التقينا صدق الخبر الخبر لقد تركوا الأوطان والأهل عنوة ... وأجلاهمو القتل المبرح والأسر وما وقفوا في ماقط الحرب لحظة ... ولا تثبوا كلا ولكنهم فروا وأدهم بالدهم الجياد داهمو ... فحاصوا كحمر الوحش صادفها نمر وترحالة عنها ترحل جمعهم ... ودكدك من أنحائها السهل والوعر وغصت غلوص بعد ذاك بريقها ... فما ساغ لولا أن تداركها البحر ولا ريس في لا ريس بعد انهزامهم ... رئيس فهم فوضى كأنهم الحمر ودوميكة تدعوا اتينة جهدها ... لتنجددها هيهات أشغلها عذر وحينما كنت في الآستانة سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة كان حضرة المترجم بها أيضاً، وكنت أجتمع به كثيراً وأجلو الغم بمذاكرته وبديع محاضرته. وكان متقن اللغات الثلاث متبحراً بها، فمرة تلا علينا بيتين بالفارسية وأفاد أن معناهما أن هذا العالم قبل إيجاد كان مستريحاً من النعم والنقم، وأن الله تعالى ما أوجده إلا لتحمل الألم، والأكدار والسقم، وطلب مني رد هذا المعنى إلى العربية فلم أستطع إلا موافقته ومسايرته ومطاوعته، فقلت: كان ذا العالم في غيب العدم ... ذا هناء من نعيم أو نقم ما براه الله إلا للعنا ... والدواهي والنواهي والسقم وقلت أيضاً: قد كان ذا الخلق في غيب العما عدماً ... ما شابه نعم كلا ولا نقم وما براه إله العرش من عدم ... إلا لتنهكه الآلام والسقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 ونظم هذا المعنى حضرة الفاضل الكامل محي الدين باشا الجزائري شبل الأمير عبد القادر حفظه الله فقال: قد كان هذا الخلق قبل ظهوره ... في راحة من رحمة وعناء فأراد بارئه لسر قد خفي ... إظهاره للسقم والبلواء وأرسلت ذلك للمترجم المومى إليه، وبعد أيام أرسل إلي كتاباً وفيه: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله يا سيدي ومنتهى أملي وهواي، لما تأملت القطعتين النفيستين، بل الدرتين بل الفرقدين النيرين، لم أستطع السكون والتمكين، حتى بادرت إلى التطفل عليهما ومزجت الغث بالثمين، وشطرتهما بما لم أرضه لهما، ثم أنه غلب علي الشره الخسيس، فلطختهما بالتخميس غير النفيس، وها هما يعثران في ذيل الخجل، والعفو منكما غاية الأمل. القطعة الأولى: أيها السائل يا عالي الهمم ... ومريد الفهم عما قد أهم خذ جواباً شافياً من كل هم ... كان ذا العالم في غيب العدم ثابتاً في ذاته من القدم ظرفه في لونه من لونه ... وصفه محتجب في صونه قربه مندمج في بونه ... غافلاً عن كونه في كونه ذا هناء من نعيم ونقم ثم لما فاض بحر بالسنا ... وجرت فيه الجواري بالثنا فلأمر يقتضيه الاعتنا ... ما براه الله إلا للعنا ومقاساة هموم وألم خصه باللطف من إنعامه ... وحباه بحبا إكرامه وابتلاه رفعة لمقامه ... كي يرى الأهوال في أيامه والدواهي والنواهي والسقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 وأما قطعة حضرة الأمير محي الدين باشا: يا من تحير في الوجود ونوره ... وعناه فهم صغيره وكبيره اسمه مقالاً كاشفاً لضميره ... قد كان هذا الخلق قبل ظهوره في عالم الأعيان والأسماء هو كان في العدم الممحض رافلاً ... هو كان للعلم القديم مواصلاً ما شم رائحة الوجود ولا ولا ... متنزهاً عن كل وصف غافلاً في راحة من نعمة وعناء هو بالعماء الصرف منه مكتفي ... ولغيره مهما يكن لم يعرف وله بذاك مقام عز أشرف ... فأراد باريه لسر قد خفي إيجاده فكساه ثوب بهاء ما كان يدري نعمة من نقمة ... كلا ولا نوراً له من ظلمة عن نفسه من نفسه في عصمة ... لكنه جعل الإله بحكمة إظهاره للسقم والبلواء وللمترجم المذكور فضائل شهيرة، وشمائل بديعة كثيرة، قد شاعت في العالم شيوع البدر، وقابلتها الأفواه بالحمد والشكر. توفي هذا المترجم المرقوم وهو راجع من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة قبل وصوله بثلاث مراحل وحمل إلى المدينة المنور وصلي عليه بالحرم الشريف ودفن في البقيع، وذلك في المحرم الحرام سنة 1327هـ. السيد عبد الجليل بن السيد أحمد الحسيني الواسطي البلجرامي عالم جل في الأنام قدره، وفاضل سار في سائر الأقطار صيته وذكره، فمن بديع نظامه، الدال على رفيع مقامه، قوله: يا صاح لا تلم المتيم في الهوى ... هو عاشق لا ينثني عن خله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 يأبى الدواء سقامه كعيونه ... فعلى الطبيعة يا معالج خله ومن قوله: حبيب قوس حاجبه كنون ... وصاديد ابن مقلة شكل عينه لعمري أنه نص جلي ... على أن الرماية حق عينه وله شعر رقيق، ونثر بديع أنيق، توفي سنة ألف ومائتين وواحدة. السيد عبد الجليل بن مصطفى بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي ولد سنة أربع وثمانين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده فكان في العلم آية، وفي الآداب غاية، مع تقوى وعبادة، وأخلاق جميلة وزهادة، وعفة وديانة، وكمال وصيانة، وفضيلة مشهودة مشهورة، ومنزلة رفيعة بين الناس مذكورة، وأفعال حسنة، وأحوال مستحسنة، ومحاضرات غريبة، ومذاكرات عجيبة، لا يمله جليسه، ولا يروم فراقه أنيسه، يرى العزلة للدين أسلم، والابتعاد عن الناس أحسن وأحكم، فلله دره من فرد نادر، ناه عن المنكر والمعروف داع وآمر. ولم يزل على هذه الحالة الفاخرة، إلى أن دعاه داعي الآخرة، وذلك نهار الخميس أواخر شعبان سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين. الإمام العارف بالله السيد الشيخ عبد الجواد بن الشيخ عبد اللطيف بن الحاج حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياتي من أولاد الشيخ ياسين القاياتي منتهى نسبه إلى الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه الإمام الأمجد والبطل الأوحد، مؤيد السنة وناصر الدين، ومربي الفقراء والمريدين، من ملأت شهرته الآفاق، وحصل على كمال فضله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 الإجماع والاتفاق، وتألفت على محبته القلوب، وزالت عن ذوي مشاهدته الهموم والكروب. ولد في القايات سنة سبع وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده وبعد أن حفظ القرآن بالتجويد والإتقان، نقله والده إلى القاهرة، فأخذ العلم بها عن جماعة ذوي معرفة باهرة، منهم النور الشيخ علي البخاري الذي اشتهر في الآفاق علمه وولايته، ومعرفته بكمال الفنون ودرايته، وكان غالب أخذه عنه وجل تردده إليه، وأكثر اعتماده في مهماته عليه، وكان شيخه المرقوم يجله غاية الإجلال، ويقدمه على الواردين في الترحيب والإقبال، ويقول أنه من الأولياء، وسيكون له شأن بين العلماء. وأجازه العلماء ذوو القدر المصون، بما تجوز لهم روايته من جميع الفنون. وأخذ الطريق عن والده فجد واجتهد، وأفيضت عليه الأنوار وجذبته يد العناية والمدد، فلما أحس والده بالرحيل إلى جوار الملك الجليل، أمره بالتلقين والإرشاد والقيام بهداية العباد، فقام بإحياء تلك الشعائر أتم قيام، وبلغ به القاصدون والمريديون أتم مرام، وصار منهلاً عذباً للواردين، وملجأ وغوثاً للقاصدين، وبدراً منيراً للمسترشدين، وبحراً زاخراً للمستفيدين. وكثرت أتباعه كثرة فائقة جداً، وانتشرت مناقبه فلن تستطيع لها عدا. وشاع ذكره وعلا أمره في جميع البقاع، فكاد أن لا يخلو محل من المحلات إلا وله فيها مريدون وأتباع، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وكثرت وفود الوافدين إليه، حتى صارت قرية القايات، أكثر من كثير من المدن بطبقات، وكلهم ينالون منه أنواع الإجلال والكرامة، حتى كل منهم يتمنى أن يجعل في هذه القرية مقامه. وبنى لوالده المقام الأنور، والمسجد الشريف الأبهر، ورتب بالمقام ليلة الجمعة والسبت مقرأ عظيماً يحضره من أهل العلم والقرآن عدد كثير وجم غفير، ولكثرة الزوار لهذا المقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 الكريم، حدث يوم الجمعة بتلك البقعة سوق عظيم، وجعل بالمقام خزانة كتب من جميع العلوم، فما من كتاب إلا كاد أن يكون في قلادة هذه الخزانة من جملة المنظوم، وصار يحث الناس على تعليم الأولاد، ويساعدهم فوق المراد، حتى كثر أهل العلم والقرآن، وصار لهم بهذا المحل عز وشأن. وكان مع شغله بالإرشاد وإكرام الوافدين بالمال والزاد، وذكره وأوراده وإقباله واجتهاده، يقرأ للطلبة في كل يوم درسين مما هو للطلبة قرة عين، وكان له زيادة اعتناء بتعظيم الأشراف، حتى لو قدم لهم روحه لا يعد ذلك من الإسراف، وكان شديد الرحمة باليتامى والمساكين، والأرامل والمنقطعين، وكراماته أشهر من أن تذكر، ومناقبه لا تعد ولا تحصر. وله من التآليف كتاب مجموع الفتاوى يشتمل على أجوبة المسائل التي سئل عنها على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وله بعض رسائل في الانتصار لأهل الطريق في أمور أنكرت عليهم، وله كتاب في أشياء من غوامض الطريق. وجعل على ضريح والده مقصورة في غاية الانتظام، وبعد موته قد جعل الناس له ولوالده مولداً يحضره الجم الغفير من الخاص والعام. وتروج فيه البضائع وتكثر الخيرات، وتظهر فيه البركات وجميل النفحات. ومن أراد أن يرى العجب العجاب، فلينظر ما يحصل من الإكرام في هذا المولد لمن حل بهذا الرحاب. توفي المترجم المرقوم والفرد الذي بكل فضل موسوم، ليلة الجمعة في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، ودفن بجوار والده في القايات داخل المقام الأنور، وعلى ضريحه مقصورة في غاية الانتظام. وقد كتب على قبره الشريف من نظم الشيخ مصطفى حبيب العدوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 أيقظ جفونك من طيب الكرى وعظ ... فليس شخص على الدنيا يمتعظ لو كان يبقى بهذا الدهر ذو شرف ... ما مات مثل الإمام العالم الوعظ عبد الجواد الذي أحيا النفوس بما ... أسداه من نور قلب مشرق يقظ ضاق الفضا مذ قضى أيامه ومضى ... إلى إله كريم خير محتفظ بشرا فالحور قد قالت مهنئة ... أرخ بدار الهدى عبد الجواد حظي وقد مدحه الشيخ محمد شهاب بقصيدة منها: أدر كؤوس التصابي واجل قدحاً ... وخل من في مجالي صفوها قدحا رهاتها خمرة بكرا معتقة ... بكر بها لحديث الوجد قد شرحا إلى أن قال: نعم الخليفة في وجود وفي كرم ... عبد الجواد سليل السادة الصلحا يا حسنه واصلاً كانت طريقته ... لله في الله لا في نيل ما قبحا دلت على سره أنوار ظاهره ... والظرف يشعر بالمظروف إن نضحا وممن رثاه أحد علماء الأزهر العالم الفاضل الشيخ علي غزال فقال: أبدرتم العلا من أفقه نزلا ... أم كوكب السعد لما تم قد أفلا أم حادث الدهر وافتني نوائبه ... إذ ما سمعنا به في حكمه عدلا حيث الإمام أبو الأنوار قد غربت ... من بيننا شمسه لما قضى الأجلا شيخ الشيوخ القياتي الذي شرفت ... به الأواخر حتى أدركوا الأولا وأطال فيما قال مع إنه لم يذكر من شيم هذا المفضال، إلا قطرة من بحر أو ذرة من بر، وقد رثاه غيره بمراثي كثيرة، وهي في محلة موجودة وشهيرة، ولو أردنا ذكرها مع ما مدح به هذا الفاضل صفوة الأخيار، لاحتاج الأمر إلى عدة أسفار، ولكن الشمس لا تحتاج إلى مديح، والبدر غني إشراقه عن التصريح نفعنا الله به والمسلمين آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 الشيخ عبد الحليم بن مصطفى بن محمد بن خليل الشافعي العجلوني ثم الدمشقي شيخ المحيا الشريف، والإمام الهمام ذو القدر المنيف، بركة أهل الشام ومعتقد العموم الخاص والعام، الفهامة المحقق والعلامة المدفق، والمرشد الزاهد والتقي العابد، مربي المريدين ومفيد الطالبين، بديع الزمان وعمدة ذوي العرفان، كان حسن التقرير قوي الحافظة سليم الصدر، كثير الطاعة مواظباً على الذكر. ولد بدمشق الشام في اليوم الثامن من شهر شوال سنة خمسين ومائة وألف. ونشأ بها وأخذ عن أفاضلها وعلمائها كالشيخ العلامة أبي الفتح العجلوني وشمس الدين محمد الكزبري والشيخ أحمد البعلي والشيخ علي الداغستاني والشيخ مصطفى اللقيمي والشيخ أبي بكر القواف والشيخ أسعد المجلد والشيخ التافلاتي. وأخذ في مصر عن الشيخ الملوي والشيخ الحفني والشيخ البراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الكامل محمد بن أبي بكر الجاويش والشيخ العيدروس وأجازوه جميعاً الإجازة العامة بجميع ما تجوز لهم روايته عن مشايخهم. وأخذ طريق المحيا عن الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ مصطفى سوار والشيخ عيسى الشبراوي وعن الشيخ الحفني ولقنه الذكر والشهاب أحمد أبو الفوز بن العارف عبد الوهاب الشعراني وعن السيد محمد مرتضى الزبيدي وكتب له بخطه، والشيخ أحمد العروسي والشيخ أحمد الدردير المالكي الخلواتي وإبراهيم المصيلحي بن إبراهيم الشافعي إمام جامع الأزهر. مات المترجم بدمشق الشام سنة سبع عشرة ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، ودفن رحمه الله تعالى في مقبرة باب الصغير، أعلى الله درجته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 عبد الحميد بن شاكر بن إبراهيم الزهراوي الحمصي ريحانة الجليس وحانة الأنيس، تفرع من دوحة الرسالة والنبوة، وترعرع في روضة البسالة والفتوة، فجمع بين كرم الأصل والأخلاق، وطلع بدره في سماء المعارف وراق، واقتطف من حدائق الآداب أزهاراً، وارتشف من زلال الكمال وعلا قدراً وفخاراً، وقرن بين النسب والسيادة، وتقلد بالحسب وتحلى بالعلم والزهادة. إن تكلم أفاد وأطرب، وإن كتب أجاد وعما في ضميره أعرب، مع رقة تفوق نسيم الصبا، ولطافة ما سمع بها نجيب إلا وإليها مال وصبا. صرف نقد شبابه في الطلب والتحصيل، وأكمل مواد معلوماته نهاية التكميل، مع ذكاء عجيب وإدراك غريب، وهمة عالية ومروءة سامية، وطبع أشهى من الراح وسجع الضم تثني الملاح. ثم سافر إلى الآستانة ليقضي بها شأنه، وعينت له الدولة العالية معاش الإكرام، وأخرجته من الآستانة إلى الشام، فاختلط بعلمائها وجلس مع فهمائها، وأظهر للبعض بعض ما لديه من بديع المعاني، وأضمر بعض أشياء لا يجوز كشف سترها إلا لمعاني. وكان من دأبه إظهار الانتقاد، وعدم الميل إلى التأويل وإن ما ورد به النص عليه الاعتماد. وقد ألف رسالة سماها الفقه والتصوف، وهي مشتملة على ثلاث رسائل ينتقد بها على كتب الفقه والأصول والتصوف، وقد زاد في اعتراضه، وحكم على كثير مما قالوه بانتقاضه، وتجاهر بهذا الأمر بين الخاص والعام، ونشر هذه الرسالة بين الأنام. فلما علم الناس بها أنكروها، واحتقروا ما اشتملت عليه وحظروها، وقام لها العلماء على قدم وساق، واتفقوا على تكفير مؤلفها من غير شقاق. ثم ذهبوا أفواجاً إلى الوالي من غير فتور، وأخبروه عن المترجم بما يكدر الخاطر ويسجر الصدور. وقالوا لقد تعدى طوره، وأشاع في الناس جوره، وأذاع الضلال ولم يخش من أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 ولا وال. فأمر الوالي بالقبض عليه، وإحضاره لديه، وأن يجتمع المفتي والعلماء الكرام، لكي يسألوه عن قصده فيما أشاعه من غير احتشام. فلما سألوه نكل عن الجواب، وأعرض إعراض من لا يخاف ولا يهاب، فأمر الوالي في الحال بجمع الرسائل أجمع، وأرسلاه صحبته إلى المحل الأرفع، فلما وصلوا إلى الدار العلية، أسلموه إلى مدير الضبطية وكان ذلك في شهر شعبان، عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر من هجرة ذي المقام المصان. ثم أن هذه الرسالة وإن كان بعضها صواب، إلا أن الكثير منها لا ينبغي إذاعته بين الأحزاب، بل تدار كؤوس البحث به بين العلماء الخواص، من دون تعرض إلى امتهان وانتقاص. وإن رسالة المترجم مخصوصة بالمساوي والملام، ومقصورة على تخطئة أولئك العلماء الأعلام. فإشاعة هذه الرسالة خطأ وإن كان ظن مؤلفها جميلاً، وطبعها المقتضي لشهرتها بين معترضيها وغيرهم لا يناسب لأنه رتب أمراً جليلاً، والغريب كل الغريب أنه ما نظر إليها ناظر منصف، ولا اطلع عليها إلا متعصب مسرف. فمنهم من حكم بكفره وإبعاده. ومنهم من حكم بزندقته وعناده، ومنهم من أوجب عليه القتل، وإن وجوب ذلك مأخوذ من النقل، من قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " والحكم عليه بالقتل لهذا الدليل لا يخلو عن اعتساف. والحاصل أن هذه القضية كانت قضية كبرى. ولكن انصرفت بإرسال الوالي له مع بعض رسائله إلى الآستانة لينظر في أمره، فبقي بعد وصوله أشهراً في دائرة الضابطة محجوزاً عليه غير مهان، ثم بعد ذلك شملته العواطف الحميدية، والمراحم العثمانية، فأغرقته في بحر إحسانها، وكسته ثوب عفوها وامتنانها، فأبقت معاشه عليه، وردته إلى بلده مع جميل نظرها إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 ولم يزل يرفع أكف الضراعة في الدعاء لأمير المؤمنين. والحمد الله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 السلطان عبد الحميد خان بن السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان قال في الفتوحات الإسلامية: هو السلطان المعظم المفخم، سلطان سلاطين العرب والعجم، حائز العلم والصلاح والكرم، المتشرف بخدمة طيبة والحرم، صاحب السيف والقلم، ظل الله في العالم غياث بني آدم، نعمة الله على العباد، وفضله على الحاضر والباد، ناصر الحق والدين، مؤيد شريعة سيد المرسلين، المحفوف بالسبع المثاني، أمير المؤمنين مولانا السلطان الغازي عبد الحميد الثاني، أعز اللهم سرير الملك والخلافة بوجوده، وأعد على القريب والبعيد آثار فضله وجوده، وأنفذ في جميع البلاد رسائل أوامر وأحكامه، وانشر على البرايا ألوية عدله وأعلامه، وأيده بتأييدك وأبده بتأبيدك، واجعل سلالة تلك السلطنة العلية العثمانية مسلسلة إلى منتهى الدوران، مستمرة على مرور الليالي والأيام، باقية إلى آخر الأزمان آمين يا رب العالمين. بويع أطال الله عمره لما خلعوا أخاه السلطان مراد في ثالث شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، فكانت سلطنته زينة وبهجة وسروراً، وامتد بها في مشارق الأرض ومغاربها ما ملأهما نوراً، ومما كان من الحوادث في أول ولايته أنه وقع عصيان من بعض النصارى الداخلين في رعية الدولة العالية في بلاد الروم ايلي وهم طائفة يقال لهم الهرسك فجهز عليهم مولانا السلطان المذكور جيشاً فقاتلوهم، وكانوا قوماً ضعافاً لا يحتاج الاستيلاء عليهم وقهرهم إلى كلفة ولا إلى كثرة عساكر، إلا أن الروسية تداخلت معهم وصارت تقويهم بأشياء كثيرة حتى اتسعت فتنتهم وانتشرت، وأعانهم طوائف من النصارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 الذين كانوا قريباً منهم، إلى أن صارت المحاربة بين الدولة والروسية وصارت تلك الطوائف من النصارى مع روسية، وساقت الدولة بهذه الفتنة العساكر الكثيرة، وأنفقت الخزائن الوفيرة، فقدر الله بانهزام جيوش الإسلام وأسر كثير منهم في بلونة وذلك بسبب محاصرة عساكر الروسية لهم في ذلك البلد، وعدم إمكان وصول الميرة إليهم لشدة البرد، وكثرة الثلج، وممن أسر من كبار عساكر الإسلام الوزير عثمان باشا الغازي قوماندان ذلك الجيش في بلونة، ثم أطلق مع كثير ممن أسروا وكان إطلاقهم بعد انعقاد الصلح وتملك الروسية كثيراً من المدائن العظام إلى أن وصلوا إلى قريب أدرنة. والكلام على هذه الفتنة طويل قد أفرد بالتأليف، وختام الأمر أن بقية الدول توسطت في الصلح بين الدولة العلية ودولة الروسية وانعقد الصلح سنة خمس وتسعين على أن يبقى تحت يد الروسية ما تملكوه من البلاد، وأن الدولة العلية تدفع لهم غرامة الحرب وكان شيئاً كثيراً، وتبقى للدولة أدرنة وما يليها. وكان هذا الخلل إنما دخل على المسلمين بعد خلع السلطان عبد العزيز فلا حول ولا قوة إلا بالله. وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف أعطت الدولة العلية جزيرة قبرس للإنكليز، على أن تكون بأديهم سنين موقتة بشرط أن يدفعوا للدولة العلية قدر الخراج الذي كان يحصل منها، وقد تكرر وضع اليد على قبرس من المسلمين والنصارى مراراً كثيرة، أولها من زمن الصحابة حين افتتحها معاوية رضي الله عنه، وبعد ذلك صار المسلمون والنصارى يتداولونها، تارة تكون بيد هؤلاء وتارة بيد هؤلاء، وفي سنة ست وتسعين ومائتين وألف خلع والي مصر إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 وقد كان محمد علي باشا لما انعقد الصلح بينه وبين مولانا السلطان عبد الحميد سنة خمس وخمسين ومائتين وألف جعلت له مصر ولأولاده من بعده، فلما صارت ولايتها لإسماعيل باشا أراد حصر الولاية في أولاده ومنع إخوانه وأولاد إخوانه منها، فتوجه إلى دار السلطنة في مدة السلطان عبد العزيز سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف فتم له مراده، وجعلوا ولاية مصر له ولأولاده الأكبر فالأكبر، وكان الصدر الأعظم في ذلك الوقت في دار السلطنة هو محمد رشدي باشا الشرواني. ثم أن الله قضى وقدر أن عاقبة هذا الأمر الذي فعله إسماعيل باشا أول ما ظهر سوءه عليه، فإنه في سنة ست وتسعين ظهر عليه كثيرة ديون أخذها من الدول الأجنبية وأنفقها في غير حقها، فتشاور أهل الديون على أنهم يضبطون خراجات مصر ومحصولاتها لأجل استيفاء ديونهم، فلما أحس بذلك أراد أن يجعل لهم عصبية يمنعهم بها، فتداخل مع العلماء وأهل مصر وعقد بينه وبينهم عهوداً ومواثيق على أن الأمور كلها تكون بيد العلماء والأهالي وبمشاورتهم، فملا أحس الإنكليز والفرنسيس وغيرهما بانعقاد هذه العصبية سعوا في خلعه ووافقهم على ذلك مولانا السلطان عبد الحميد، فخلعوه في سنة ست وتسعين وجعلوا ولاية مصر لولده الأكبر محمد توفيق باشا عملاً بما تقرر قبل ذلك حين نفى إخوته وبنيهم من دخولهم في الولاية من بعده، وإن الولاية من بعده تكون لأكبر أولاده فأقاموا عليها ولده الأكبر وهو محمد توفيق باشا، وتوجه والده إسماعيل باشا بعائلته وبقية أولاده إلى نابولي من بلاد إيطاليا، وجعل له مرتب من محصولات مصر وخزينتها. وفي سنة سبع وتسعين ومائتين وألف استولت دولة الفرنسيس على تونس وأعمالها بالمكر والخديعة والحيلة، فجهزت دولة الفرنسيس عساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 كثيرة وأظهرت أنها تريد تأديب بعض قبائل العرب العصاة، منهم قبيلة يقال لهم الخمير في أعمال تونس، فوصلوا بعساكرهم إليهم وقاتلوهم وقهروهم ثم زحفوا بعساكرهم إلى تونس، ولم يستطع أحد أن يدفعهم إلى أن قاربوا دخول تونس، فاضطرب أهل تونس اضطراباً كثيراً، ثم عقدوا معهم صلحاً وأدخلوا طائفة من عساكرهم تونس وأبقوا الباي وهو حاكم الإقليم على ولايته بحسب الظاهر، واستولوا في الباطن على الأحكام والمحصولات والخراجات، واستقبلوا الديون التي كانت على والي تونس، وصارت الأمور كلها بأيديهم فلا حول ولا قوة إلا بالله. وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف كانت فتنة بمصر بين والي مصر توفيق باشا وبين عرابي باشا، وكان عرابي باشا من رؤساء عساكر محمد توفيق باشا، واتسع الأمر في ذلك، فجاء الإنكليز بعساكرهم البحرية نجدة لمحمد توفيق باشا إلى الإسكندرية، وضربوا مدافعهم على الإسكندرية، وقاتلوا الذين كانوا مع عرابي باشا، وكان ذلك في شعبان ورمضان سنة تسع وتسعين، واتسع الأمر بما يطول الكلام بذكره، وكانت الغلبة لتوفيق باشا ومن معه من الإنكليز، وتملكوا الإسكندرية، وذهب عرابي باشا ومن معه إلى مصر، ثم سارت الإنكليز بعساكرهم لقتاله بمصر، والكلام على ذلك طويل، وآخر الأمر أنه انهزم عرابي باشا ومن معه، ثم دخلوا مصر وقبضوا على عرابي باشا وعلى كثير ممن كانوا معه، فقتلوا جماعة منهم ونفوا جماعة نفياً موقتاً، وجماعة نفياً مؤبداً، وصار العفو عن قتل عرابي باشا ونفوه مع بعض من كانوا معه إلى جزيرة سيلان من أعمال مليبار من بلاد الهند، وجعلوا إقامته ومن معه هناك، ورتبوا لهم مرتباً يكفيهم. واستولى الإنكليز على القطر المصري، ووضعوا عساكرهم في القلعة على صورة أنهم إنما فعلوا ذلك إعانة لمحمد توفيق باشا وأبقوه على ولايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 والإنكليز مع ذلك كله يقولون ليس مرادنا الاستيلاء على مصر وإنما مرادنا الاصطلاحات والتأييد لمحمد توفيق وإذا استقامت الأمور وانتظمت أحوال مصر نخرج منها وتخرج عساكرنا. وفي سنة سبع وتسعين ظهر رجل بالسودان يسمى محمد أحمد يقال أنه المهدي أو قائم طالب لإظهار الحق ولم يدع أنه المهدي، ويقال أنه شريف حسني، وكان قبل ظهوره مشهوراً بالصلاح ومن مشايخ الطرائق، قيل إنه على طريق الشيخ السمان، وأول ظهوره أنه لما كثرت أتباعه ومريدوه وقع اختلاف بينه وبين العساكر المصرية المتملكين للسودان عمالاً لصاحب مصر محمد توفيق باشا، ثم اتسع الأمر بينهم وبينه إلى القتال، وقاتلوه وقاتلهم مراراً، وكانت الغلبة لمحمد أحمد عليهم حتى استولى على كثير من بلاد السودان وأخرجهم منها، فلما دخل الإنكليز مصر صار الإنكليز هو الذي يجهز عليه العساكر ويقاتله بعساكر الإنكليز ومعهم عساكر مصر، ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة يطول الكلام بذكرها، والغلبة في تلك الوقائع كلها له عليهم، فتملك كردفان وكسلة والخرطوم وبربرة ودنقلة وغير ذلك، وقتل منهم خلقاً كثيراً لا يحصى عددهم، وكان أمره معهم عجيباً يأتون إليه بالعساكر الكثيرة، والمدافع والآلات الشهيرة التي لا يطيق أحد مقابلتها، فيقابلهم بجيوشه السودانيين وليس معهم إلا السيف والرمح والسكاكين، فيهجمون على تلك العساكر في موضعهم ومحط جيشهم ولا يبالون بمدافعهم وآلاتهم حتى يخالطوهم ويقتلوا أكثرهم من قرب طعناً بالرماح وضرباً بالسيوف والسكاكين، ويشتتون شملهم، ومنهم جماعة في براري سواكن قد ولى محمد أحمد عليهم رجلاً يسمى عثمان ذقنه، فجاء بمن معه من السودان لمحاصرة سواكن وإخراج الإنكليز والعساكر المصرية منها فخرجوا إليه بجيوشهم الكثيرة، وآلاتهم ومدافعهم الشهيرة، فهزمهم عثمان ذقنة ومن معه من السودان هزيمة بعد هزيمة، وقتل الكثير منهم حتى أنهم جاؤوه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 سنة ثنتين وثلاثمائة بنحو من سبعين مركباً مشحونة بالعساكر الكثيرة، والآلات والاستعدادات الوفيرة، وخرجوا لقتاله في البر قريباً من سواكن، فهزمهم وقتل أكثرهم وشتت شملهم وغنم أكثر أموالهم ودوابهم وذخائرهم وأسبابهم، وإلى هذا الوقت وهو شهر ذي الحجة من سنة ثنتين وثلاثمائة وعثمان ذقنه ومن معه من السودان في نواحي سواكن محاصرون لها، وفيها عساكر للإنكليز وصاحب مصر قيل أن جيوش محمد أحمد تبلغ ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وأما دعوى أنه المهدي فمختلف فيها فمن الناس من يقول أنه يدعي أنه المهدي، ومنهم من يقول لم يدع أنه المهدي بل يقول أنه قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة وإخراج الإنكليز من مصر، والأكثر من الناس يقولون أ، هـ رجل صالح على غاية من الاستقامة، ومنهم من يقدح فيه وينسب إليه خلاف ذلك، ويقول إن جيوشه يقع منهم فساد كثير، وليس لهم غرض إلا القتل والنهب، وإنهم في استيلائهم على كردفان والخرطوم وغيرهما قتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فيهم العلماء والصلحاء والنساء والأطفال، وقيل إن وقوع ذلك كان من بعض المفسدين منهم ولم يرض بذلك محمد أحمد ولم يأمر به، والله أعلم بحقيقة الحال. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن انتصار آخر هذه الأمة في آخر الزمان يكون بالسودان فيحتمل أنهم هؤلاء ويحتمل أن يكونوا غيرهم، وانتصار المسلمين بهم في آخر الزمان مأخوذ مما ذكره الخازن في تفسيره عند تفسير قوله تعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " من سورة الواقعة فإنه قال ما نصه: ثلة من الأولين يعني من المؤمنين الذين قبل هذه الأمة، وثلة من الآخرين يعني من مؤمنين هذه الأمة، ويدل عليه ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم، وقال لما أنزل الله عز وجل قوله تعالى: " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 وقال: يا رسول الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل، فأنزل الله عز وجل: " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين "، فدعا رسل الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وقال له: قد أنزل الله فيما قلت، فقال عمر رضي الله عنه رضينا عن ربنا وصدقنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آدم إلينا ثلة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله. ومثل ذلك في تفسير الخطيب الشربيني وفي التفسير المسمى بالدر المنثور للجلال السيوطي أن عروة بن رويم يروي هذا الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحديث المذكور أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم. أيضاً رواه ابن مردويه وابن عساكر، لكن اللفظ الذي ذكره في الدر المنثور قال في آخره: وأمتي ثلة، ولن تستكمل ثلتنا حتى نستعين بسودان من رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فيحتمل أن المراد من السودان هؤلاء القائمون مع محمد أحمد وعثمان ذقنه، ويحتمل أن يكون غيرهم والله أعلم بغيبه. وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من وقوعه، وروى ابن مكرم الإفريقي في كتاب له سماه لسان العرب حديثاً لم يذكر من خرجه وقال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب، أصحابه محسرون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك، يأتونه من كل أوب كقزع الخريف يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فيمكن أنهم هؤلاء السودان القائمون مع محمد أحمد أو غيرهم. مباحث في المهدي المنتظر وقد ذكر كثير من العلماء الذين ألفوا رسائل في ظهور المهدي وعلاماته أن من علامات ظهوره خروج السودان، منهم الجلال السيوطي والعلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 ابن حجر والعلامة المتقي والعلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في كتابه المسمى بالإشاعة في أشراط الساعة، ففي رسالة الجلال السيوطي المسماة بالعرف الوردي في علامة المهدي، حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إذا خرجت السودان طلبت العرب ينكشفون حتى يلحقوا ببطن الأردن أو ببطن الأرض، فبينما هم كذلك إذ خرج السفياني في ستين وثلاثمائة راكب حتى يأتوا دمشق، فلا يأتي عليهم شهر حتى يبايعه من كلب ثلاثون ألفاً. والأحاديث التي جاء فيها ذكر السقياني كثيرة شهيرة والكلام عليها طويل، وهو يريد قتال المهدي عند ظهوره، ثم يخسف بجيش السفياني ويهلكه الله تعالى. وفي رسالة ابن حجر المسماة بالقول المختصر في أخبار المهدي المنتظر، أن من علامات ظهور المهدي ألوية قبل من المغرب، وأن خروج أهل المغرب إلى مصر من أمارات خروج السفياني، وذلك إنما يكون عند ظهور المهدي، وجه السودان بالنسبة إلى مصر مغرب، فيحتمل أنهم هؤلاء القائمون مع محمد أحمد، ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وكذا قوله خروج أهل المغرب إلى مصر يحتمل أن يكونوا هؤلاء لأنه يصدق على الجهة التي ظهروا منها أنها من المغرب بالنسبة لمصر، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، والله أعلم بأسرار غيبه وأسرار أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن علامات ظهور المهدي الرايات السود التي تخرج من خراسان، وجاء فيها أحاديث كثيرة، قال في الإشاعة: يمكن أنها هي التي خرجت في زمن المهدي العباسي بن المنصور، ويحتمل أنها أيضاً تخرج عند ظهور المهدي المنتظر. وفي شرح الشجرة النعمانية تبقى قوتها وسلطنتها إلى ظهور المهدي، وأنهم يكونون من أعوانه وأنصاره بأنفسهم وأموالهم وخزائنهم وعساكرهم وآلاتهم وعددهم، فيجب الدعاء للدولة العثمانية على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 كل مسلم والذي يقاتلهم يكون باغياً خارجاً عليهم، فالواجب على كل مسلم السعي في تشييد دولتهم وتثبيت قواعدها، وإهانتهم في إظهار الشريعة وإحياء السنن وإماتة البدع، والدعاء لهم بالتوفيق، فنسأل الله تعالى أن يوفقهم لكل خير وأن يلهمهم كمال الرشد والصلاح، وكذا سائر وزرائهم وقضاتهم وعمالهم. ثم إن هذا القائم بالسودان وهو المسمى محمد أحمد إما أن يكون باغياً خارجاً على السلطان فيجب قتاله وإن لم يدع أنه المهدي، ويمكن أن الله أقامه لإخراج الإنكليز من مصر إعانة للدولة العثمانية ولا يريد الخروج على السلطان وإنما يريد أن يكون من جملة رعايا الدولة العثمانية ثم يكون لإعانة المهدي؛ ويؤيد ذلك ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فإنه ذكر فيها حديثاً أخرجه نعيم بن حماد عن أبي قبيل قال: يكون أمير بإفريقية اثنتي عشرة سنة ويكون بعده فتنة، فيملك رجل يملؤها عدلاً، ثم يسير إلى المهدي فيؤدي إليه الطاعة ويقاتل عنه، فيمكن أنه هو هذا الرجل المسمى محمد أحمد ويمكن أنه غيره والله أعلم بأسرار غيبه. وقيل إن الذين يشيعون أنه هو المهدي إنما هم بعض أتباعه ليرغبوا عامة الناس في اتباعه والدخول في طاعته، وأما هو فإنه لم يدع أنه المهدي، بل قال بعض من اجتمع به أنه سمع منه بلا واسطة أنه يقول: إني لست أنا المهدي المنتظر وإنما أنا قائم لإظهار الحق وإقامة الشريعة، وأما أن ثبت أنه يدعي أنه هو المهدي المنتظر فالأمر مشكل، لأن المهدي المنتظر لا يدعي أنه المهدي ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها ولا يبايع إلا وهو مكروه، بل لا يبايع الناس حتى يتهددوه بالقتل وذلك أن الله يطلع بعض من اختصه من صالحي عباده وعلى علاماته، فيدلون الناس عليه فيطلبونه فيفر منهم مراراً، ثم يمسكونه ويكرهونه على البيعة ويتهددونه بالقتل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 ولا يكون ظهوره والبيعة له إلا والناس بلا خليفة، أخذاً من حديث: يحصل اختلاف عند موت خليفة وهو أصح حديث روي في هذا الباب، وأما الآن فالناس لله الحمد لهم خليفة وهو أمير المؤمنين مولانا السلطان عبد الحميد بن المرحوم مولانا السلطان عبد المجيد، وبيعته في أعناق المسلمين، وسلسلة سلطنته من أحسن الدول الإسلامية مقيمين للشريعة السنية، محبين للصحابة وأهل البيت، ناصرين أهل السنة المحمدية قامعين أهل البدعة الردية، فلا يجوز خلع بيعته ولا الخروج عن طاعته، ثبت الله دولته وأبد سلطنته، فمن خلع بيعته أو ترك طاعته أو خرج عليه فهو باغ معتد. وأيضاً من علامات المهدي المنتظر أن يكون من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأن يكون ظهوره والبيعة له بمكة بين الركنين، ولا يصح أن يكون ظهوره والبيعة له بغير مكة، قال الجلال السيوطي في آخر العرف الوردي في علامات المهدي: وأما قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون من المغرب فهو باطل، وقد تبع السيوطي على ذلك العلامة العلقمي والعلامة الصبان في رسالته التي ألفها في علامات المهدي، فكل منهما قال كما قال السيوطي، أن قول القرطبي أن ظهور المهدي يكون بالمغرب باطل، وقال بعضهم يمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر، فإن كثيراً ممن ادعى نفسه أنه المهدي وكان ظهورهم بالمغرب، كمحمد بن تومرت وعبيد الله العبيدي جد ملوك إفريقية ومصر، وخلق كثير غير هذين ادعى كل واحد منهم أنه المهدي بالمغرب وغيره، وذلك لأن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، وهو الذي يكون من ولد فاطمة ويكون ظهوره بمكة، والناس بلا خليفة، ويبايع مكرهاً ولا يطلب البيعة لنفسه ولا يقاتل الناس لتحصيلها، ويكون في زمنه خروج المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ويجتمع به. ومما يدل على أن المهديين متعددون والمهدي المنتظر واحد، ما ذكره العلامة ابن حجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 في الصواعق المحرقة لأهل الضلال والزندقة، حيث قال حاكياً لقول من قال أن المهدي من ولد العباس، وهو والد هارون الرشيد واسمه محمد المهدي بن عبد الله المنصور بناء على الأحاديث المذكور فيها أن المهدي من ولد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أنه من أحسن خلفاء بني العباس، وهو فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، ثم قال ابن حجر موجهاً لقول هذا القائل: ويمكن أنه مهدي من ولد العباس وهو غير المهدي المنتظر فإن المهدي المنتظر من ولد فاطمة رضي الله عنها، ويكون في زمنه خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ويجتمع به، فهذه العبارة صريحة في تعدد المهديين، وجمع بعضهم بين الأحاديث التي فيها أنه من ولد فاطمة، والأحاديث التي فيها أنه من ولد العباس بطريق آخر فقال: أن المهدي المنتظر من ولد فاطمة من جهة أبيه، ومن ولد العباس من جهة أمه، بأن تكون أمه أو أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: أم بعض آبائه من ولد العباس، وكلام ابن حجر في رسالته التي في علامات المهدي يقتضي أيضاً تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد فإنه قال فيها: والذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر، وهو الذي يخرج الدجال وعيسى عليه السلام في زمنه، وهو المراد حيث أطلق المهدي، وأما من قبله فليس واحد منهم هو المهدي المنتظر، ويكون قبل المهدي أمراء صالحون لكنهم ليسوا مثله، فهو الأخير في الحقيقة، وكذلك غير ابن حجر ممن ألفوا رسائل في علامات المهدي كلهم يقتضي كلامهم تعدد المهديين وأن المهدي المنتظر واحد، وإنما قالوا بذلك التعدد لأنه قيل في محمد بن الحنفية أنه المهدي، وقيل في عمر بن عبد العزيز أنه المهدي، وقيل في محمد النفس الزكية ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط أنه المهدي، فهؤلاء أطلق على واحد منهم أنه المهدي، فيثبت بذلك تعدد المهديين قطعاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 لكن ليس واحد من هؤلاء هو المهدي المنتظر، فالمهدي المنتظر واحد وهو لم يظهر إلى الآن، فيمكن حمل كلام القرطبي على غير المهدي المنتظر ممن كان خروجهم بالمغرب، ولا يمكن حمل كلامه على المهدي المنتظر لأنه إنما يظهر بمكة والناس بلا خليفة كما تقدم إيضاحه، وكذلك لا يصح قول من قال إنما يكون ظهور المهدي المنتظر من ماسة بالغمرب، فهو قال باطل لا أصل له كما نبه على ذلك العلامة ابن خلدون في تاريخه، فإنه قال: أن القول بظهوره من ماسة باطل لا أصل له، وإنما نشأ ذلك من رجل من المتصوفة خرج بالسوس الأقصى وعمد إلى مسجد ماسة وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هناك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك، وأفهمهم أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته، فتهافت عليه تهافت الفراش طوائف من عامة البربر، ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدسوا إليه من قتله في فراشه وانطفأت الفتنة. والحاصل أن الذي تقتضيه الأحاديث النبوية وصرح به العلماء أن المهدي المنتظر، إلى هذا الوقت لم يظهر، وذكروا له علامات كثيرة بعضها مضى وانقضى وبعضها باق لم يظهر، ومن أعظم علاماته أنه يصلحه الله في ليلته، وأنه من ولد فاطمة رضي الله عنها، وأنه يبايع مكرهاً لا أنه يطلب البيعة لنفسه ويقاتل الناس لتحصيلها، بل لا يبايع حتى يتهدد بالقتل، وأن ظهور البيعة له إنما تكون بمكة بين الركنين، وإن ظهوره إنما يكون عند وجود اختلاف بموت خليفة، فلا يظهر ويبايع إلا والناس بلا خليفة، فهذه الأشياء هي أقوى العلامات عليه، وله علامات كثيرة غير هذه ذكرها الذين ألفوا الرسائل في تحقيق أمره. لكن تلك الأشياء ظنية ومختلف في كثير منها، وذلك مثل اسمه واسم أبيه وموضع ولادته ومقدار عمره وقت ظهوره، ومدة مكثه في الأرض بعد ظهوره، فكل هذه الأشياء مختلف فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 فما قيل في مقدار عمره وقت ظهوره أنه ابن أربعين، وقيل أنه ابن عشرين، وقيل أنه ابن ثمانية عشر، وقيل غير ذلك. وقيل في مدة مكثه بعد ظهوره أنها سبع سنين أو تسع سنين وقيل أنها أربعون وقيل عشرون وقيل غير ذلك. وقيل في اسمه أنه محمد وقيل أحمد، وهل هو من ولد الحسن أو الحسين أو العباس؟ وجمع بعضهم بأنه من ولد أحد الحسنين من جهة أبيه ومن ولد الآخر من جهة أمه، وفي بعض أمهاته من هي من ولد العباس. والأحاديث التي جاء فيها ذكر ظهور المهدي كثيرة متواترة، فيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن وفيها ما هو ضعيف وهو الأكثر، لكنها لكثرتها وكثرة رواتها وكثرة مخرجيها يقوي بعضها بعضاً، حتى صارت تفيد القطع، لكن المقطوع به أنه لا بد من ظهوره، وأنه من ولد فاطمة، وأنه يملأ الأرض عدلاً نبه على ذلك العلامة السيد محمد بن رسول البرزنجي في آخر الإشاعة. وأما تحديد ظهوره بسنة معينة فلا يصح لأن ذلك غيب لا يعلمه إلا الله، ولم يرد نص من الشارع بالتحديد، وقد ذكر كثير من المتقدمين من العلماء تحديد ظهوره في سنين عينوها بالظن والتخمين، فلم يخرج فيها فأخطأوا في ظنهم وتحديدهم، ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في المهدي أنه يصلحه الله في ليلته أن المهدي لا يعلم بنفسه أنه المهدي المنتظر قبل وقت إرادة الله إظهاره، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المخلوقات لم يعلم برسالته إلا وقت ظهور جبريل له بغار حراء حين قال له: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " وأما قبل ذلك فكان يرى منامات كثيرة تأسيساً لرسالته وتقوية لقلبه، لكنه لم يعلم أن المراد منها تأسيس الرسالة، حتى أنه كان كلما رأى مناماً من تلك المنامات يخبر زوجته خديجة رضي الله عنه ويشكو إليها حاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 فكانت ثبته وتقول له كلاماً يقوى به قلبه كما هو موضح في كتب الحديث، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ظهور جبريل عليه السلام له، وقوله: " اقرأ باسم ربك " فبالأولى أن المهدي المنتظر لا يعلم بأنه المهدي المنتظر إلا بعد إرادة الله إظهاره، ولذلك يمتنع من البيعة حتى يتهدد بالقتل ويبايع مكرهاً، فهذا هو سر قوله صلى الله عليه وسلم يصلحه الله في ليلته ليعلم من ذلك أنه لم يعلم أنه المهدي إلا وقت إرادة الله إظهاره، فكل من يدعي أنه هو المهدي المنتظر ويطلب البيعة لنفسه أو يقاتل الناس لتحصيلها فهو مخالف لما صرحت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ادعى هذه الدعوى كثيرون فيما تقدم من الأزمان ولم تثبت دعواهم، وكان لهم مع الخلفاء وقائع وحروب مذكورة في التواريخ، وقد جمعت أسماؤهم ووقائعهم باختصار في رسالة مستقلة، ليعلم من وقف عليها أن كل من ادعى هذه الدعوى لا تتم له إلا إذا جاءت على طبق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. وقد ذكر العلامة ابن خلدون في تاريخه كلاماً فيه فوائد تعلق بهذا البحث، فلنذكر ملخص ذلك تتميماً للفائدة، وحاصل ذلك أن الذين يدعون هذه الدعوى إما أن يكونوا موسوسين أو مجانين فلا علاج لهم إلا التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا فتنة، وإلا يسخر بهم وتذاع السخرية بهم، والصفع في الطرق أو الأسواق، وإما أن يكونوا من طالبي الرياسة والملك فيجعلون هذه الدعوى وسيلة لذلك ويغفلون عما ينالهم من الهلكة وإسراع الهلاك والقتل من الملوك والسلاطين عند إحداثهم فتنة بهذه الدعوى، وقد يكون بعض من ادعى هذه الدعوى من الصالحين ويريد إظهار الحق ويتخيل له أنه هو المهدي، فيخطئ ظنه ولا يعرف ما يلزمه وما يحتاج إليه في إقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 فإن الله لم يكتب عليه في ذلك إثارة فتنة وإنما أمره الله تعالى به حيث تكون القدرة عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ". وأحوال الملوك والدول قوية راسخة لا يزحزحها ولا يزلزلها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوة التي من ورائها العصبية بالقبائل والعشائر، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله تعالى بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله تعالى بالكون كله لو شاء، لكنه سبحانه وتعالى إنما أجرى الأمور على مستقر العادة وإنه حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك، وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرياسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأن أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين، ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة، وكل أمر يجتمع عليه كافة الخلق لا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق لهم العوائد في الغلبة بغير عصبية، والغفلة عن هذا هي أكثر أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طريق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله تعالى، فليكثر اتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغا والدهما، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، وكثير منهم يدعي أنه المهدي المنتظر ولم تصح دعواهم، ويتبعهم كثير من العامة والأغمار ممن لا يرجعون إلى عقل يهديهم ولا علم يقيدهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 يستجيبون لكثير ممن يدعون هذه الدعوى لما اشتهر من ظهور فاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر، وأكثر ما يكون ذلك في الممالك القاصية وأطراف العمران بإفريقية والسوس من المغرب، وتجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان بذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة، واعتقادهم هو أنهم قائمون بدعوة الفاطمي يزعمون ذلك زعماً لا مستند له إلا البعد عن القاصية عن مثار الدولة وخروجها عن نطاقها، فتقوى عندهم الأوهام في ظهور الفاطمي من ذلك الموضع، لخروجه عن رتبة الدولة ومثار الأحكام والقهر، ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا الوهم، وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة تنشأ عن وسواس وحمق، وقد قتل الملوك والرؤساء كثيراً منهم، ثم قال: أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأربلي، قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب المريني رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتوزيري، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من كدالة وكزولة، وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة وعلماؤهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة في عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، وتبعه الدهما من غمارة؛ ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط. وأخبرني شيخنا المذكور بفرسية عن مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه رجلاً من أهل البيت من سكان كربلا كان متبوعاً معظماً كثير التلامذة، وكان الناس يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، وتأكدت الصحبة بيننا في الطريق، ثم كشف لي عن أمرهم وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 بكربلا قاصدين أرض المغرب، لإظهار دعوى أنه الفاطمي المنتظر، فلما وصل إلى المغرب وعاين دولة بني مرين، وكان أمير المؤمنين يوسف بن يعقوب في ذلك الوقت منازلاً تلمسان، فلما رأوا قوة ملكه قال ذلك الرجل لأصحابه: ارجعوا بنا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. وهذا يدل على أن ذلك الرجل استبصر بأن الأمر لا يتم إلا بالعصبية الكافية لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الموطن ولا شوكة له وأن عصبية بني مرين في ذلك الوقت لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب، إلا أن التعصب لشأنه لم يترك لهذا القول، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة، لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعوه، وأكثر ما يعتنون بإصلاح السابلة، لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما فيها من طيب معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا، إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم، لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون به الأقصار عن الغارة والنهب، ولا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك، لأنها المعصية التي كانوا عليها، ومنها توبتهم. ونجد ذلك المنتحل للدعوة والقائم بزعمه بالسنة غير متعمق في فروع الاقتداء والاتباع، إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش أقصى قصدهم، وشتان بين هذا الطالب للدنيا وبين من أراد إصلاح الخلق لكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، فاتفاقهما ممتنع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 لا تستحكم للأول صبغة في الدين ولا يكمل له نزوع عن الباطل، ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعيه، فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم. وقد وقع ذلك بإفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة في المائة السابعة، ثم من بعد لرجل من بادية رياح كان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمرهما، وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يشتبهون بمثل ذلك ويلبسون فيها، وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت الفتنة بين الأمين والمأمون ابني الرشيد وقتل الأمين، وكان المأمون بخراسان فأبطأ عن مقدم العراق، وأراد انتزاع الخلافة من بني العباس ونقلها للعلويين، فجعل ولي عهده علياً الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فهاج من ذلك فتن كثيرة ببغداد، واجتمع بنو العباس وكشفوا وجه النكير على المأمون، وتداعوا للقيام وخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج وكثر القتل والنهب ببغداد، وانطلقت أيدي الذعار بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس، وباعوها علانية في الأسواق، ورفع أهلوها أمرهم إلى الحكام وقد ضعف أمرهم فلم ينصفوهم، فتوافر أهل الدين والصلاح وتعاقدوا على منع الفساق وكف عاديتهم. وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدربوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابه خلق وقاتل بهم أهل الدعارة فغلبهم، وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل، ثم قام من بعده رجل آخر يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 سهل بن سلامة الأنصاري وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتبعه كافة الناس من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم، ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان وطاف ببغداد، ومنع كل من أخاف المارة، ومنع الخفارة لأولئك الشطار، فقال له القائم الأول وهو خالد الدربوس أنا لا أعيب على السلطان، فقال له سهل: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان، وذلك سنة إحدى ومائتين، فجهز إبراهيم بن المهدي بعد أن بايعه بنو العباس جيشاً لقتال سهل بن سلامة، فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه، ثم اقتدى بهذا العمل بعده كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. ثم ذكر كثيراً من الأحاديث التي جاءت في المهدي وضعف كثيراً منها، ثم قال: والحق الذي يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه، وقد قررنا لك ذلك من قبل بالبراهين القطعية، وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعملت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع والمدينة من الطالبيين من بني حسن وحسين بن جعفر، منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب متفرقة، فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا أن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى يتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها، وأما على غير هذا الوجه فلا يتم ذلك لما أسلفناه من البراهين الصحيحة انتهى ما أردت نقله من كلام ابن خلدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 ورأيت في كثير من الرسائل المؤلفة في شأن المهدي أنه لا يتم أمره إلا بالقيام بالشريعة الغراء، وأنه يكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، ويفيض الله على الخلق نوراً ببركته فيتبعونه ويقتدون به في جميع شؤونه وأفعاله وأقواله وأحواله، حتى يكون حالهم كحاله، ووصفهم كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووصفهم، لأن الناس على دين ملوكهم، فإذا استقام خليفة المسلمين وصار كالخلفاء الراشدين فإنهم كلهم يستقيمون، وإذا زهد في الدنيا يزهدون، وملاك الأمر كله هو الزهد في الدنيا وعدم التبسط فيها، ومن الأمثال القديمة: الناس على دين ملوكهم، وذكروا أن السبب في هذا المثل أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، كان مشغوفاً بتشييد البنيان، فكان الناس في زمانه ليس لهم همة إلا تشييد البنيان والقصور، وفي ذلك طول الأمل والغرور، ثم ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك بن مروان، فكان مشغوفاً بكثرة الأكل وتنويع الأطعمة وتكثير الألوان، فكان الناس في زمانه يتفاخرون بالتوسعة في تنويع المأكولات ونهمكون في التلذذ بالشهوات، وفي ذلك أعظم البليات، ثم ولي بعد سليمان ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، الملحق بالخلفاء الراشدين، فكانت همته في الاشتغال بالطاعات والعدل وإقامة الدين، فكان الناس في زمنه راغبين في فعل الطاعات مستكثرين من فعل الخيرات، فقالوا الناس على دين ملوكهم، فالخليفة الأعظم هو القدوة لجميع المسلمين، وأعظم شيء يقتدون به هو فيه، فيكون به صلاحهم وانتظام أمرهم واتفاق كلمتهم، هو الزهد في الدنيا والتناول منها بقدر الضرورة والحاجة وترك الفضول الذي لا يحصل إلا بتعب ولجاجة، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وبلية، والزهد فيها أصل كل خصلة سنية، ولا يكون الزهد من العامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 إلا بعد زهد الخاصة، فإن الخاصة هم العمدة في ذلك، والمراد من الخاصة: الملوك والسلاطين والأمراء والقضاة والعلماء. وأولى من يطلب منه الزهد في الدنيا الخليفة الأعظم الذي أقامه الله لإصلاح أمور الدنيا والدين، وإحياء الشريعة وقتال الكفار ودفع المفسدين. قال الإمام الطرطوشي في كتابه المسمى سراج الملوك: إن الخليفة إذا عدل في بيت المال، وساوى نفسه بالمسلمين في الأخذ من بيت المال بقدر الحاجة، كان المسلمون كلهم عسكراً للإسلام. والحاصل أنه إذا زهد في الدنيا واقتصر على قدر الحاجة والضرورة في جميع الأحوال يتبعه على ذلك الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الناس من الرجال والنساء والأغنياء والفقراء، فإذا حصل ذلك يسهل حينئذ إقامة الشريعة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصير همة الجميع متوجهة لاتحاد الكلمة والاجتماع على منهج الشرع المطهر، فتحيا بذلك السنن التي أميتت، وتزول البدع التي أذيعت، وتقبل الناس على جهاد الكفار وفعل كل الطاعات، فإن الكفار إنما تغلبوا على المسلمين بسبب رغبة المسلمين في الدنيا واقتحامهم المعاصي لتحصيلها، وإزالتها مخالفة لأغراضهم الذين هم بصددها، فلا يمكن استقامتهم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما داموا لم يكونوا كذلك لا يستقيم لهم أمر، وقد صح عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان كثيراً ما يقول في خطبه ومجالسه: أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة وأملككم لنفسه. فهذه العبارة نص صريح في أنه لا يستقيم أمر المسلمين حتى يكونوا كما كان الصحابة رضي الله عنهم، وما دام الخليفة الأعظم يتبسط في الدنيا ويأخذ من بيت المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 ما أراد مما زاد عن حاجته، ويتكرم في العطار بما شاء على من شاء، ولا يراعي في ذلك القواعد المشروعة، ولا يسلك مسلك الخلفاء الراشدين، فإن الناس يتبعونه فلا يمكن حصول الاستقامة لهم، ولا تتحد كلمتهم ولا ينتظم أمرهم، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بل يصيرون كلهم يطلبون الدنيا ويتلذذون بالشهوات، ويرتكبون لتحصيلها أنواع الخطيئات، لأن الله تعالى أجرى عادته بين العباد أن يكون الناس على دين ملوكهم، فهذا هو السبب في عدم اتحاد المسلمين واتفاق كلمتهم. وأما في زمن المهدي فإنه يسلك هو مسلك الخلفاء الراشدين، ويزهد في الدنيا ولا يأخذ من بيت المال إلا بقدر الضرورة، والناس يكونون في زمنه على طريقته يفعلون كما يفعل. فظهر بهذا أنه إذا زهد الخليفة الأعظم في الدنيا وعدل في بيت المال وأخذ منه بقدر حاجته من غير زيادة له ولخدمه وأتباعه واتخذ له من الخدم الذين يقومون بخدمته بقدر الحاجة أيضاً من غير زيادة، يتبعه على ذلك كافة الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وجميع الأبرار والفجار، والخليفة أمين على بيت مال المسلمين لا يتصرف في شيء منه إلا بحسب المصلحة العائدة النفع على الإسلام والمسلمين، فهو مثل قيم مال اليتيم لا يتصرف إلا بالمصلحة الظاهرة، فإن كان له مال خاص به يسعف به عن الأخذ من مال المسلمين، فلا يأخذ شيئاً، وإن لم يكن له مال يأخذ بقدر الحاجة كما قال تعالى: " ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " فإذا فعل ذلك اقتدى به الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء وكافة الخلق فتتحد قلوبهم وتجتمع كلمتهم، ويقبلون على فعل الطاعات ويعرضون عن فعل السيئات، ويتركون التلذذ بالشهوات، فيتم اجتماعهم على نصرة الدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ويصيرون كلهم عسكراً لنصرة الإسلام، ويقوى عزمهم على قتال أعدائهم من القوم الكافرين. وأما إذا تبسط الخليفة في مال المسلمين، وتبعه الوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، فلا تطيب قلوب بقية المسلمين ببذل أموالهم وأنفسهم وأولادهم في قتال الكافرين، حيث يرون ملوكهم لم يساووهم، وما كان انتصار الصحابة على القوم الكافرين وفتحهم البلاد الواسعة مع الاتحاد واتفاق الكلمة، إلا بسبب مساواة أمرائهم لهم في جميع شؤونهم، وما حصل افتراق الكلمة وعدم ائتلاف القلوب، إلا لما استبد الملوك بالأموال وتبسطوا فيها، وترفعوا على بقية المسلمين وأكثروا من المكوسات والظلم بأخذ أمواله، وصرفوها في غير مصارفها، فشق على المسلمين تميزهم عنهم وترفعهم عليهم بأموالهم التي أخذوها منهم بغير حق. ولا يظن ظان أن الخلفاء الراشدين إنما فتحوا الأمصار وانتصروا على الكفار بكثرة الصلاة والصيام، بل إنما كان ذلك بزهدهم في الدنيا وعدم تبسطهم بها وعدلهم في بيت المال، والحرص على مساواتهم للمسلمين، فطابت قلوب بقية المسلمين فبذلوا أموالهم وأنفسهم وأولادهم وجاهدوا الكفار وفتحوا البلاد، حتى كان الغزاة يتجهزون للغزو من أموال أنفسهم ويجهزون منها غيرهم إن قدروا على ذلك، ونفوسهم طيبة بذلك، وتأبى نفوسهم أن يأخذوا من بيت المال شيئاً إذا كان لهم ما يفي بذلك، لأنهم يرون أمراءهم مساوين لهم في جميع تلك الشؤون، وإذا سلك الخليفة والأمراء والعلماء هذا المسلك يرتفع عن المسلمين المكوسات والضرائب، وينتفي عنهم جور الحكام، لأنهم إنما يجورون عليهم ليتبسطوا في أموالهم ويتلذذوا بها، وإذا ساوى الحكام رعاياهم وعدلوا في بيت المال، تسخى نفوس الأغنياء بإعطاء الفقراء ويواسونهم، وتقنع نفوس الجميع بأقل القليل، فلا يبقى في المسلمين فقير، وينقاد الناس للحق وينصفون من أنفسهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 فتزول المخاصمات التي كانت بينهم وتقل مرافعاتهم إلى الحكام، ويحصل بينهم كمال المحبة والائتلاف، ويرتفع كل شقاق واختلاف، وإذا عدل الخليفة في بيت المال وسلك في ترك التبسيط في الدنيا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، كان قدوة للمسلمين، ويكون له من الأجر مثل أجر من عمل بمثل عمله من المسلمين، وكان سبباً في اتحاد المسلمين وائتلاف قلوبهم واتفاق كلمتهم، وانتصارهم على القوم الكافرين، ويكون له في ذلك من الله الرضا والرضوان في الدنيا وجنات النعيم، وتقر بذلك عين النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. ويستحيل أن يحصل لهم شيء من ذلك والخليفة لم يكن كذلك، لأنهم إنما يفعلون ما يفعل، وحالهم عن ذلك لا يتحول، والتبسط في الدنيا من أعظم أسباب الفسق الموجب للهلاك، قال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " وعدم التبسط في الدنيا هو ملاك الأمر، وليس على الخليفة في سلوك هذا الطريق مشقة ولا ضيق، ولا منع من إدراك الحق ولا تعويق، وينال بغيته من الأكل والشرب والنكاح بغاية الراحة والتلذذ. والحاصل أن استقامة الخليفة حتى يكون كالخلفاء الراشدين في عدله في بيت المال، هو السبب الأعظم في اجتماع كلمة المسلمين واتحادهم في جميع الأحوال، وعدم عدله في بيت المال سبب للافتراق في الحال والمآل، ولو صام النهار وقام الليالي الطوال، وبدون استقامة الخليفة وعدله في بيت المال كالخلفاء الراشدين لا يرجى للمسلمين فلاح، ولا يتم لهم اتحاد ولا نجاح، أطال الله عمر هذا السلطان عبد الحميد، ونظر إليه بعين العناية والرعاية والتأييد، ووفقه وأعلى مقامه وجمل به لياليه وأيامه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 عبد الحميد أبو الاقبال بن الشيخ عبد الغني الرافعي الطرابلسي هو الشاب الأديب، والحسيب النسيب، قال صاحب العقود الجوهرية: ولد المترجم بطرابلس الشام سنة 1275 هجرية، ونشأ في حجر أبيه وقرأ عليه علم الأدب والعربية والفقه، وأحرز طرفاً عظيماً من الأدب، وشعره رقيق يحتوي على كل معنى دقيق. وقد أكثر في مدح السادة الرفاعية، والسلالة الأحمدية، وبيتهم القديم في طرابلس الشام معمور بالصلحاء الكرام، والعلماء الأعلام. وقال صاحب العقود الجوهرية: رأيته وهو في خدمة والده المحترم لما دخلت إلى صنعاء اليمن، وكان إذ ذاك أبوه رئيس استئنافها، ما بين هاشمها وعبد منافها، وتكحلت أنظاري بطلعة ذلك الشيخ الأكبر، وولده المومى إليه ذي الفكر الأنور، وقد علاهما النور الفاروقي، وقضيت من زورتهما بعض حقوقي، رعاية لما بيننا من حقوق النسب، وروابط الأدب، ومن نظمه مشطراً: سرت ناقتي ليلاً فسبحان من أسرى ... بها للحمى العالي فما أحمد السرى أضاء له صبح الهدى منه فانبرت ... إلى الساحة القعساء والحضرة الكبرى وحطت حمول السير مثقلة على ... حضيرة قدس يزدهي تربها التبرا وراحت كما قد رحت ملتثماً ثرى ... أريكة باب دون جبهته الخضرا أنخت بها والفجر سل على الدجى ... سيوفاً بقايا الشهب حليهن درا وهي قصيدة طويلة أصلها لأبي المظفر منصور الواسطي رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 الشيخ عبد الحميد بن الشيخ عبد الوهاب السباعي الحمصي الشافعي المفتي العام بحمص البهية العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، صاحب التحقيقات الفائقة، والتدقيقات الرائقة، والمعارف العالية، والفضائل السامية، كان كثير العبادة، شهير الزهادة، عالي الهمة، طويل الباع في كشف الوقاع المدلهمة، مثابراً على العلم والعمل، حسن الظن والرجا والأمل. تولى الإفتاء بحمص على مذهب أبي حنيفة النعمان، وإن كان شافعي المذهب لأنه لم يكن أعلم منه في المذهبين في ذلك الأوان، وكانت توليته للإفتاء بعد ذهاب شيخه الشيخ إبراهيم الأتاسي إلى طرابلس الشام، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 يزل بها مفتياً إلى أن رحل إلى الآخرة دار السلام. وبلغني من بعض العلماء والسادة الفضلاء، أنه أتى في حياته إلى حمص رجل شيعي يقال له أبو مغزالة، فنزل في أطراف حمص ليحقق آمله، وصار يدس للعوام بعض عقائد الشيعة من حيث لا يشعرون به أنه مخالف، وكان يظهر لهم التقوى والعبادة والزهادة والمعارف. إلى أن مال إليه الكثير، من غير اعتراض عليه ولا نكير، وصار الناس ينوهون بذكره، ويميلون إلى إعلاء مقامه وترفيع قدره، فأخبر الشيخ المذكور بذلك، فأحضره وسأله عن سلوكه هذه المسالك، فأنكر وتنصل عما نسب إليه، وأظهر للشيخ أنه لا يعتقد هذا المذهب ولا يعول عليه، فما زال الشيخ يلقي عليه بعض مسائل، ويتوصل إلى اختبار حاله بدقيق الوسائل، إلى أن ظهر حاله وبان، وزال إنكاره وتوهيمه وبان، فقام الشيخ في الحال وضربه، وأخرجه من بلدته وأذهبه، وأظهر للناس ما أراده من المخالفة والابتداع، فتوجه ذلك الطاغي إلى جهة بعلبك والهرمل وكان بعض أهل تلك النواحي على مذهب أهل السنة والاجتماع، فدس إليهم عقائد الشيعة المخالفين، فاتبعوه من ذلك الوقت ونشأ لهم هذا من ذلك الحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 وله من المؤلفات حاشية على جمع الجوامع في مجلدين ضخمين، وفتاوى في المعاملات في مذهب السيد أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه في ثلاث مجلدات سماها الإقناعية، وشرح على رسالة السمرقندي في البيان، ومؤلف سماه بغية الطلاب في الرد على ابن عبد الوهاب أصل الفرقة الوهابية، توفي رحمه الله تعالى سنة العشرين بعد المائتين عن بعض ستين سنة في مدينة حلب ودفن هناك وقبره معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 السيد الشيخ عبد الخالق المعروف بابن بنت الجيزي الأجل العمدة الشريف الصالح بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد تاج العارفين المصري المنتهي نسبه إلى سيدي عبد القادر الحسني الجيلي ويعرف بابن بنت الجيزي، وهو أخو السيد محمد الجيزي المتوفى قبل ذلك من بيت الثروة والعز والسيادة. تولى بعد أخيه الكتابة ببيت النقابة ومشيخة القادرية وأحسن السير والسلوك مع الوقار والحشمة، وكان إنساناً حسناً كثير الحياء منحجباً عن الناس مقبلاً على شأنه، وفيه رقة طبع مع الأخلاق المهذبة والتواضع للناس والانكسار، توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 عبد الخالق بن علي المزجاجي الهندي رحمه الله تعالى علامة التحقيق، وفهامة التدقيق، ويعسوب الأفاضل، ونخبة الأماثل، من طار في الآفاق ذكره، وانتشر في العالم مقامه وقدره. وقد مدحه بعضهم بقوله: نيطت تمائمه عليه بمنزل ... سام بأهليه على الأبراج أهل الشمال والفضائل والعلى ... سرج الهداية هم بنو المزجاجي تربى في حجور الترقي، وتمسك بحبال التنزه والتوقي، وأخذ العلم عن أهله، وترقى إلى أن اعترف الكل بفضله، ومناقبه مشهورة غنية عن الإطناب، ومآثره معروفة لا تحتاج إلى الإسهاب. سمع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي من الإمام العلامة السيد أحمد بن محمد مقبول الأهدل، وسمع منه أيضاً صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، وكثيراً من كتب الحديث الشريفة، وكان أثرياً على مذهب السلف يعمل بالحديث، توفي رحمه الله بعد الألف والمائتين رحمه الله تعالى. السيد الشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى مؤلف كتاب النفس اليماني، والروح الريحاني الكامل الفاضل، والعالم العامل، والجهبذ الهمام، والسميدع الإمام ولد رحمه الله وأحسن إليه ورعاه سنة تسع وسبعين ومائة وألف، ونشأ على بديع الاستقامة وأحسن وصف، في عيشة راضية مرضية، وهمة في تحصيل العلوم سنية، وطاعة وافية، وسريرة صافية، إلى أن صار إماماً فقيهاً، وهماماً نبيهاً، ومحدثاً مفسراً أصولياً، وتقياً نقياً صوفياً عاملاً بالحديث والقرآن، تاركاً للتقليد والأخذ بقول فلان وفلان. ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 يزل مجداً مجتهداً، مكباً على القرآن والحديث وعليهما معتمداً، إلى أن مرض مرض موته، وآن أوان ارتحاله وفوته. فمات رحمه الله ليلة الثلاثاء بعد العشاء الأخيرة في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ألف ومائتين وخمسين، وله من العمر إحدى وسبعون سنة، وأرخ بعض الفضلاء وفاته بقوله: لينهك الفردوس مفتى الأنام. الشيخ عبد الرحمن الروزبهاني مدرس الزاوية الخالدية في بغداد عالم علماء العصر، وإما فضلاء مصره ذي القدر، من انعقد الاتفاق على أنه عالم الآفاق، وأقر له الورى بأن من سواه ورا، وقد نشأ في حجور المعارف إلى أن صار كنز العوارف، مع الزهد والتقوى في السر والنجوى، والتخلي عن المحارم والتحلي بالمكارم. أخذ عن سادات أهل العراق، واستجازهم فأجازوه بالإجازة العامة على الإطلاق، واستفاد فأفاد وأقبل عليه الطالبون من أقصى البلاد، ولا زال يسمو ومقامه يزكو وينمو، إلى أن اختار الآخرة على الأولى، وسار لينال من مولاه مأمولاً وذلك في بغداد دار السلام، سنة سبعين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وقد أرخ وفاته شاعر العراق، وأديبها على الإطلاق، السيد عبد الباقي العمري فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 فاز هذا الضريح فوزاً عظيما ... بتقي يحكي الملائك سيما هو حبر وصدره الرحب بحر ... أودع الله فيه قلباً سليما ما رأى قبل لحده الناس لحدا ... ضار كهفاً ليذبل ورقيما بعدم أم الفضل أمست كما أنه حي أبو الفضل عاقراً وعقيما يا لبحر منه فقدنا عبابا ... زاخراً بالندى وغيثاً عميما فترضوا عنه إذا زرتموه ... كل يوم وسلموا تسليما فبدار السلام قد ارخوه ... حل عبد الرحمن مثوى كريما وأرخه المذكور ثانياً: أنت يا قبر مركز الحسنات ... وركاز المآثر الصالحات بك عبد الرحمن حل فحلت ... معه فيك جملة البركات وانطوت في ثراك منه علوم ... زاخرات تربو على الصيبات قد قضى عمره بزهد وتقوى ... وصلاة مشفوعة بصلات ببنان البيان في البحث كم قد ... حل للطالبين من مشكلات وبقطر العراق محور فضل ... مثله لا أتى ولا هو آت بعده أضحت المدارس حتى ... من حلى كل الأفاضل عاطلات رجعت مطمئنة منه نفس ... وتسامت لأرفع الدرجات وترقى بسلم العلم ارخ ... شان عبد الرحمن للجنات وكانت جنازته غاصة بالمشيعين، وتأسف عليه الناس أجمعين. رحمه الله رحمة واسعة. الشيخ عبد الرحمن البوصنه لي بن الشيخ أحمد المغربي الحنفي شيخ مكتب الرشدية الجقمقية في دمشق الشام صاحب المعارف في العلوم، والسابق في ميدان التقدم في المنطوق والمفهوم، الثقة المشهور بالكمال، والهمام الموصوف بأشرف الأحوال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 من رقى أوج الفضل وحل بناديه وتحلى بعقود مقاصد العالم ومباديه. كان كثير العبادة مهاباً محترماً عليه جلالة ووقار، وهيبة بين الأعيان والصغار والكبار، وكان حسن الأسلوب في التعليم، صاحب معرفة في التدريب والتفهيم. قدم من الآستانة إلى دمشق الشام سنة سبع وسبعين ومائتين وألف واستقام بها، وكان موظفاً من معارف الآستانة بأن يكون معلماً أول في مدرسة الجقمقية شمال جامع بني أمية، وكانت هذه المدرسة مكتباً مقدماً على سائر المكاتب، كما أن شيخه مقدم على سائر مشايخ المكاتب، وحصل على يديه نفع كثير للطلبة في كثير من الفنون والألسنة من تركية وعربية وفارسية، وبعد مدة وجه عليه تدريس الشفا في حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم في تكية السلطان سليم خان، ولم يزل قائماً بوظائفه مع كمال الهمة وبذل الجد والاجتهاد حسب الطاقة، إلى أن توفي أواخر شهر رمضان المبارك سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير عند قبرة العلامة العلائي صاحب الدر رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن العراقي الشافعي الأشعري قد ترجمه السيد عثمان بن سند فقال: إن المشار إليه، ممن تضرب أكباد الإبل للثم يديه، ويعول في المنقول والمعقول عليه، وهو ذو فنون كم من طيها من فنون، وإشارات لها نواظر العرفان عيون، ومحاسن يشهد بحسنها الحاسدون، وشمائل يتنافس بها المتنافسون. وآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 محكمة الآثار، وروايات تستفيض منها الأسرار، وسيادة بأرجها الكون معطار. فهو من الكمل الذين هزوا من العلوم فناً وفنا، والأجلاء الذين بهم طير الفضائل تغنى، والوجوه الذين أسفر بغرورها الزمان، والصدور الذين راق بهم كل صدر وزان، والأقطاب الذين تدير أنظارهم رحى العرفان، والشرفاء الذين لعالية الشرف كالسنان، والفضلاء المرتقين على الأقران، والأذكياء المحرزين قصب السبق في كل رهان، والأكارم الذين افتخر بهم الأوان، فهو لا ريب أنه على كمال الصفات أبهى عنوان، وهو الفاضل الذي أحيا للشافعي آثاره وأعلى من الفقه بالدقائق مناره، والقمر الذي له العلوم دارة، والمعتبر الذي أبان من روض الإسناد أزهاره، والمتصدر الذي رفعته على صهوتها الصدارة، والمحرر الذي شكره المحرر وعطر المحافل بما أملى وقرر، والمدرس الذي أبرز النكت وأظهر وأدنى قطوف الفوائد، وكان الصلة لطلاب العلم والعائد: ولع بأبكار المعاني فكره ... فكأنها عرب إليها يطرب صفى من العلم الدقيق زجاجة ... فوها عن السر الإلهي معرب يا ربع فقه الشافعي بشارة ... إذ جاد روضك منه دان صيب أصبحت مفتر الأزاهر ضاحكا ... من علمه فغناك منه مخصب أضحت مواردك الشهية في الورى ... مورودة إذ طاب منك المشرب حكم أراها ما بدون لعارف ... إلا سما وله أتم المطلب ونوادر ما زلن منه شورداً ... نادي العلوم بها مريع مخصب رقت زجاجة طبعه فطلبته ... لأنال منه ما به أتقرب والشيب لم يكرع بفودي ذوده ... وقضيبه برد النجابة يسحب فصرفت عنه لسوء جد في الورى ... وبقيت لا شرف لدي ومنصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 وبالجملة فهو مفرد علم، وأوحد علت له في العلوم القدم، وحيث لم تؤذن الأقدار، بالإقامة في هذه الدار، دعاه داعي اللقا إلى دار البقا، وقد أثبت ترجمته السيد محمد سند، وتلا صحيح مناقبه بأعلى سند، وفي آخر مدته قصده للقراءة عليه حضرة مولانا الشيخ خالد، فوجدت يتقلب على فرش المرض الزائد، ولم يمض عليه أيام حتى اختار الآخرة دار السلام، وذلك عام ألف ومائتين واثني عشر رضي الله تعالى عنه وأرضاه. السيد عبد الرحمن أفندي بن السيد طالب الرفاعي نقيب البصرة قد ترجمه السيد أبو الهدى أفندي فقال: الإمام الجواد، الطاهر الأجداد، الرفيع العماد، رب المحامد المشتهرة، ينتهي نسبه من طريق السيد شعبان إلى القطب الفرد عظيم الإمداد سيدنا الشيخ عز الدين أحمد الصياد رضي الله عنه. نشأ كأسلافه الكرام البررة في مدينة البصرة وشب بها وولي أمر النقابة بعد أبيه، واشتهر أمره وحسن في البلاد ذكره، وكان على جانب عظيم من الشهامة والمروة وحسن الأخلاق والفتوة، وكان يضرب بجوده المثل. توفي رحمه الله في البصرة سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف وأرخه شاعر العراق السيد عبد الغفار الأخرس بتاريخ بديع افتتحه بقوله رحمه الله: قبر به سيد شريف ... تدفع في مثله الكروب اختتمه بقوله: يوم به قد قيل أرخ ... مضى إلى به النقيب الشيخ عبد الرحمن بن حسن الريمي الذماري ولد سنة ألف ومائتين وسبع. قال الإمام الشوكاني في البدر الطالع: له قراءة علي وهو من عباد الله الصالحين، ومن العلماء العاملين، المتعبدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 بمقتضى الأدلة الشرعية، لا يميل إلى التقليد بل يعمل بالآيات والأحاديث النبوية، ولم يزل على قدم ثابت وطاعة وعبادة وتقوى وأوصاف أحمدية إلى أن توفاه الله سنة ألف ومائتين ونيف وسبعين. الشيخ عبد الرحمن أفندي المعروف بالهلواتي الحنفي المصري الأزهري نخبة عصره، وزينة مصره، من ألبسه الفضل رداء الكمال، وجذبته يد العناية للاستواء على مراتب الإجلال، وقد أثبته الجبرتي في ديوانه ونبه في تاريخه على رفعة مقامه وشانه، فقال: الصاحب الأمثل والأجل الأفضل، حاوي المزايا المنزه عن النقائص والرزايا، قد اشتغل بطلب العلم على السادة، ولازم الأشياخ للتحصيل والاستفادة، وحصل في المعقول والمنقول والفروع والأصول، ما تميز به عن غيره مع حسن الأخلاق، وشهرته في الآفاق، وحضر الكتب الكبار على العلماء الأخيار، وأخذ الحديث عن السيد مرتضى الزيبدي وكثيراً من المسلسلات وكتب الحديث كالصحيحين وغيره، وألف حاشية على مراقي الفلاح، وكان يباحث ويناضل مع عدم الادعاء وتهذيب النفس والسكون والتؤدة، والأمارة والسيادة، ولم يزل رفيع المقام عالي المرام، إلى أن أجاب الداعي، ونعته النواعي، سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن الجمل أخو الشيخ سليمان الجمل الأزهري تفقه على أخيه ولازم دروسه وحضر غيره من أشياخ الوقت ومشى على طريقة في التقشف والتباعد عن مخالطة انلاس. ولما مات أخوه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 يملي الدروس بجامع المشهد الحسيني بين المغرب والعشا على جمع من مجاوري الأزهر، والعامة تجتمع لسماع قراءته أفواجاً في ذلك الوقت، فقرأ: الشمائل والمواهب والجلالين، ولم يزل على حالته حتى توفي ثاني عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الدمشقي الشهير بالحفار العالم الفقيه، والكامل النبيه، الحسن السيرة والصافي السريرة، له مشاركة في العلوم، وله في الناس قدر مشهور معلوم، وكان له حصة مع الحفارين في تربة الدحداح، وكان يقري كثيراً من الطلبة في جامع التوبة. وللناس به اعتقاد عظيم وتعلق جسيم، وله درس عام حافل بين العشائين في الجامع المرقوم. وقرأ على الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعلى الشيخ حامد العطار وعلى غيرهما من الشيوخ العلماء الكبار، وأجازوا له بالإجازة العامة لجودة ذهنه وحسن فهمه، حسب شهادة شيوخه له بتفوقه وتقدمه في عمله وعلمه، وحسن خلقه ولين جانبه وتقواه وعبادته، وورعه وزهده وخشوعه وخضوعه وتواضعه ولم يزل ينمو مقامه ويسمو إلى أن مرض في شهر شعبان مرضاً ثقيلاً ودام مرضه يزداد إلى أن توفي ثاني رمضان المبارك سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح. الشيخ عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشافعي الدمشقي محدث الديار الشامية السيد الذي أشرقت شموس أفاضله في كل ناد، وفاضت بحار معارفه على صدور القصاد، وأفاد الطالبين بديع المعاني والبيان، وأروى المريدين بزلال الكمالات والعرفان. طلع من أفق المعارف هلالا، وأهل من ميقات المعالي إهلالا، فوصل طيبة العرفان، وسعى وطاف ببيت الفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 والإحسان. الإمام العالم العلامة، والمحدث الكبير الفهامة، من هو لتاج المعارف إكليل، المتسربل برداء التقديم والتفضيل، الزاهد القنوع ذو القدر المرفوع، مشهد الكمال ومظهر الجمال. ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وثمانين ومائة وألف في دمشق الشام، ونشأ وتربى في حجر والده الشمس الهمام، إلى أن أتقن وتفنن وفاق، وطار صيته في الأمصار والآفاق. وأخذ عن أفاضل متنوعين كثيرين تركيين وعربيين، منهم والده الشيخ محمد والشهاب أحمد العطار والشيخ محمد الكاملي وبدر الدين بن بدير المقدسي وشهاب الدين أحمد بن علوي باحسن الشهير بجمال الليل والشيخ نور الدين الوزائي الأزهري والشيخ صالح الغلاني والشيخ زين الدين عبد الغني بن محمد بن هلال مفتي الشافعية بمكة والشيخ محمد طاهر بن سعيد سنبل الحنفي والشيخ علي الخياط والشيخ محمد السقاط، وأخذ مكاتبة عن الشيخ حسن البقلي المالكي وعن الشيخ مصطفى العقباوي المالكي وعن الشيخ أحمد العروسي الشافعي وعن ابن القيصر عبد الرحمن المغربي النحراوي وعن الشيخ محمد الشنواني الأزهري الشافعي وعن الشيخ محمد السقاط الخلوتي وعن الشيخ عبد الوهاب النجاتي. ويروي صحيح البخاري عن البربير عن الشمس الكزبري عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري عن الشيخ إسماعيل العجلوني، ويرويه أيضاً عن والده الشمس الكزبري وهو عن والده الشيخ عبد الرحمن الكزبري عن خاله الشيخ علي كزبر عن السيد مصطفى البكري عن أبي المواهب محمد الحنبلي عن نقيب الأشراف السيد محمد بن حمزة الحسيني عن الشيخ عبد الباقي الحنبلي عن الشمس البابلي عن النجم الغزي. وقد أخذ عنه علماء الشام، وغيرهم من العرب والأعجام. ومن جملة من أخذ عنه سيدي الوالد فإنه روى عنه صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري الجعفي من أوله إلى آخره وقد أجازه به وبجميع ما تجوز له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 روايته عن مشايخه مما هو مذكور في ثبته، وأنا حضرته ولله الحمد على والدي في الدرس العام في جامع كريم الدين بين العشاءين من أوله إلى آخره وأجازني به وبجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه، وقد أردت أن أذكر سندي من هذا الوجه لعلوه عن غيره فإني أخذته من طرق كثيرة ولكن هذا السند من أعلاها إسناداً فأقول أروى صحيح البخاري عن والدي المولود سنة 1206 المتوفى سنة 1272 عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري المولود سنة 1184 المتوفى سنة 1262 عن والده الشمس محمد المولود سنة 1140 المتوفى سنة 1221 عن والده عبد الرحمن المولود سنة 1100 المتوفى سنة 1185 عن خاله الشيخ علي كزبر المولود سنة 1100 المتوفى سنة 1165 عن السيد مصطفى البكري المولود سنة 1099 المتوفى سنة 1162 عن أبي المواهب الحنبلي المولود سنة 1044 المتوفى سنة 1126 عن السيد كمال الدين بن حمزة المولود سنة 1024 المتوفى سنة 1085 عن الشيخ عبد الباقي الحنبلي المولود سنة 1005 المتوفى سنة 1073 عن الشيخ محمد البابلي المولود سنة 1000 المتوفى سنة 1077 عن النجم الغزي المولود سنة 977 المتوفى سنة 1061 عن الشهاب أحمد العيشاوي المولود سنة 941 المتوفى سنة 1025 عن الشمس محمد الرملي المولود سنة 826 المتوفى سنة 926 عن البدر محمد الغزي المولود سنة 904 المتوفى سنة 984 عن الجلال السيوطي المولود سنة 849 المتوفى سنة 911 عن القاضي زكريا الأنصاري المولود سنة 825 المتوفى سنة 926 عن الحافظ بن حجر العسقلاني المولود سنة 773 المتوفى سنة 852 عن ولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي المولود سنة 762 المتوى سنة 826 عن والده عبد الرحيم المولود سنة 725 المتوفى سنة 806 عن الجمال عبد الرحيم الأسندي المولود سنة 704 المتوفى سنة 772 عن التقي علي بن عبد الكافي السبكي المولود سنة 682 المتوفى سنة 756 عن الحافظ أبي الحجاج يوسف المزي المولود سنة 654 المتوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 سنة 742 عن الحافظ عبد المؤمن الدمياكي المولود سنة 613 المتوفى سنة 705 عن الإمام النووي المولود سنة 631 المتوفى سنة 676 عن الشمس عبد الرحمن بن قدامة المولود سنة 577 المتوفى سنة 682 عن أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي المولود سنة 545 المتوفى سنة 631 عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى الشجري المولود سنة 458 المتوفى سنة 553 عن الداوودي المولود سنة 374 المتوفى سنة 467 عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخي المولود سنة؟ المتوفى سنة 381 عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن بشر الفربري المولود سنة 231 المتوفى سنة 320 عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي المولود سنة 194 المتوفى سنة 256 انتهى. وبعد موت والده وجه عليه تدريس البخاري الشريف تحت قبة النسر في شهر رجب وشعبان ورمضان بعد العصر كل يوم، وعامة العلماء تحضره للأخذ عنه. وفي عام اثنين وستين ومائتين وألف توجه المترجم إلى الحجاز بقصد النسك، وبعد العود من الوقوف رابع يوم من عيد الأضحى توفي إلى رحمة الله ودفن بعد أن غسل في محفل من الفضلاء والعلماء والوجهاء وصلي عليه في الحرم الشريف، والجامع الأنور المنيف، في مقبرة المعلا وقبره ظاهر يزار. الشيخ عبد الرحمن بن علي بن علامة عبد الرؤوف البشبيشي الشافعي العلامة المفيد الفهامة المجيد، نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الأشياخ وتفقه في مذهب أبيه وجده وهم شافعيون، واجتمع بالشيخ حسن الجبرتي ولازمه ملازمة كلية. قال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: وحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 المترجم على الوالد في مذهب أبي حنيفة وحفظ كثيراً من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات، وكان به بعض رعونة. ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة وأخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله فلامه على فعله وسمعته يقول له: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وانحط قدره عنده من ذلك الوقت وذلك بعد موت والده في سنة سبع وثمانين ومائة وألف. وأملق حاله وتكدر باله، ثم سافر إلى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية، وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله، ثم قدم مصر لأمر عرض له فأقام بمصر وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شؤونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب. وكان إنساناً حسناً يذاكر بفوائد مع حسن المعرفة وصحة الذهن، وربما تعلق ببعض فنون غريبة، ولذا قل حظه وأنشدني لنفسه أبياتاً مدح بها قاضي الثغر واسمه محمد نصري وبيت تاريخها هذا: رجاه مذهب النعمان أرخ ... بشرع محمد نصري مقدم وهما تاريخان كما ترى، توفي رحمه الله سنة سبع ومائتين وألف وحيداً في داره وهو جالس من غير سابقة مرض ولا إشارة نسأل الله حسن الخاتمة. السيد عبد الرحمن بن بكار الصفاقسي نزيل مصر العمدة الجليل والنبيه النبيل، العلامة الفقيه الشريف والفهامة اللطيف، قرأ في بلاده على علماء عصره ودخل كرسي مملكة الروم فأكرم وانسلخ عن هيئة المغاربة، ولبس ملابس المشارقة مثل التاج والفراجة وغيرها، وأثرى وقدم إلى مصر وألقى دروساً بالمشهد الحسيني، واتحد مع شيخ السادات الوفائية السيد أبي الأنوار فراج حاله، وزادت شوكته على أبناء جنسه وتردد إلى الأمراء وأشير إليه، ودرس كتاب الغرر في مذهب السادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 الحنفية، وتولى مشيخة المغاربة بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن البناني، وسار فيها أحسن سيرة مع شهامة وصرامة وفصاحة لفظ في الإلقاء. وكان جيد البحث مليح المفاكهة والمحادثة واستحضار اللطائف والمناسبات، ليس فيه غلظة ولا فظاظة، ويميل بطبعه إلى الحظ والخلاعة وسماع الألحان والآلات المطربة. توفي رحمه الله سنة تسع ومائتين وألف كما نقله الجبرتي. الشيخ عبد الرحمن الأجهوري النحراوي الشهير بمقري الشيخ عطية الشافعي المصري قال الجبرتي: الإمام العلامة، المفيد الفهامة، عمدة المحققين ونخبة المدققين، الصالح الورع المهذب. خدم العلم وحضر فضلاء الوقت ودرس ومهر في المعقول وبرع في المنقول، ولازم الشيخ عطية الأجهوري ملازمة كلية، وأعاد الدروس بين يديه، واشتهر بالمقري وبالأجهوري لشدة نسبته إلى الشيخ المذكور، ودرس بالجامع الأزهر وأفاد الطلبة، وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الحفني ولقنه الأذكار وألبسه الخرقة والتاج وأجازه بالتلقين والتسليك. وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات، ويلازم المبيت في ضريح الإمام الشافعي في كل ليلة سبت، يقرأ مع الحفظة بطول الليل، وكان إنساناً حسناً متواضعاً لا يرى لنفسه مقاما، يحمل طبق الخبز على رأسه ويذهب به إلى الفران ويعود به إلى عياله، فإن اتفق أن أحداً رآه ممن يعرفه حمله عنه وإلا ذهب به، ووقف بين يدي الفران حتى يأتيه الدور ويخبزه له. وكان كريم النفس جداً يجود وما لديه قليل. ولم يزل مقبلاً على شأنه وطريقته حتى نزلت به الباردة وبطل شقه، واستمر على ذلك نحو السنة، وتوفي إلى رحمة الله في السنة العاشرة بعد المائتين والألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي العالم المشهور، والهمام الذي فضله مأثور. ولد في بلاد نجد، ثم أن محمد علي باشا وزير مصر لما أمره المرحوم السلطان محمود بمقاتلة الوهابيين أرسل ولده إبراهيم باشا ومعه معسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر أغواره لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد، فقاتلهم وقتل ونهب وحرق وخرب، وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر، فبعثه والي مصر إلى السلطان محمود فصلبه. وأما باقي عائلة أمراء الوهابيين المعبر عنهم بآل المقرن وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعبر عنهم ببيت الشيخ فإنه نقلهم جميعاً إلى مصر وأسكنهم هناك، ورتب لهم معاشات تكفيهم، وكان من جملتهم المترجم المرقوم، فالتفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهادة والعبادة، ولم يزل على حالته المرضية وطاعته وعبادته وإفادته السنية، إلى أن اخترمته المنية سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن الكردي النقشبندي الخالدي السباح في بحار التوحيد، والسياح في قفار التجريد، المعرض عما سوى الله، والمقبل بكليته على إلهه ومولاه، نشأ في مهد الطاعة والعبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 وسلك مسالك التقوى والزهادة، واستفاد وأفاد ونفع وأجاد، وحسنت سيرته، وطابت سريرته، ولازم خدمة شيخ عصره حضرة مولانا خالد قدس سره، ولم ينفك عنه، سافر معه إلى الهند ورجع معه إلى بغداد مرات وإلى الشام، وسافر معه إلى الحجاز، فكان لا ينفك عنه أينما توجه، وقد خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد فأرشد كثيراً من العباد، ولم يزل يترقى على معراج الاتصال ويسمو في مراتب الجمال، ويقصده الواردون وينتفع به السالكون، إلى أن توفي في الشام بعد الألف والمائتين والخمسين رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن بن سعدى بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب الكناني البعلي الشهير بالتاجي الدمشقي الحنفي أحد العلماء الصالحين والفضلاء المعتقدين، كان إماماً تقياً عابداً حسن المعاملة كثير الإقبال على الله، مشتغلاً بالعلم في ليله ونهاره، دائباً على شغل أوقاته بالاستفادة والإفادة، إلى أن انفرد في زمانه وفاق على أقرانه. مات رحمه الله تعالى ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي أفندي العمادي الدمشقي الحنفي كان عالماً عملاً كاملاً فاضلاً، ذا شهرة حسنة وسيرة مستحسنة، ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده، وكان ذا فطنة ونباهة وحذق ووجاهة، كثير التودد لأحبابه شفوقاً على أرحامه وأقاربه، متديناً ورعاً تقياً. مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 الشيخ عبد الرحمن بن علي بن مرعي الشافعي الدمشقي الشهير بالطيبي الشيخ الإمام والحبر الهمام، شيخ الإسلام وعمدة الأنام، وبركة الشام وكعبة العلماء الأعلام، ونخبة ذوي المعارف في الأحكام، من انتهت رياسة العلوم إليه، واعتمد الكل في معرفة الصواب عليه، فهو السامي ذروة الفضل في تحقيق الفروع والأصول، والرامي بسهام معارفه شوارد المعقول والمنقول، والقاطف بأنامل أفهامه ثمرات الدقائق والراشف من مناهل العرفان زلال الرقائق. علامة الزمان وفهامة العصر والأوان، التي العابد والنقي الزاهد، الذي شهد بكمال صلاحه الخاص والعام، ومال الجميع إليه في تمييز الحلال من الحرام. ولد في بلاد عجلون سنة أربع وثمانين ومائة ألف، وقدم دمشق بعد المائتين فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد وسعى في طلب العلم وتحصيل المراد، ولازم علماءها الأعلام وفضلائها الكرام، وكان من أعظم شيوخه الشيخ محمد الكزبري والشيخ يوسف شمس وغيرهما، ولا زال يترقى إلى أن صار يقلب بين الناس بالشافعي الصغير. ثم إنه في آخر شعبان سنة ألف ومائتين وثلاث وستين قد حضر من أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان مرسوم، بطلب المترجم هو ووالدي الشيخ حسن البيطار ذو المقام الموسوم، للدار العلية والعاصمة العثمانية، يدعوهما لحضور ختان أولاده الكرام ذوي المقام والاحترام، فلبى كل منهما الإجابة، وتوجه بعد أن ودع أحبابه، فلما أن وصلا تلقتهما أيدي التكريم، وأنزلتهما في منازل الاحترام والتعظيم. وكانا متلازمين على الدوام لا ينفكان عن الاجتماع لدى يقظة أو منام. وكان لهما القدر الأعلى والمقام الأجل الأجلى، وقد قصدهما الأفاضل من كل جانب لاغتنام ما لديهما من العلم الذي هو أسنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 المطالب، وبعد مدة دعاهما حضرة السلطان إلى حضور الختان. فدخلا حرمه السعيد، ودعوا لعلاه بالنصر والتأييد، ثم بعد مدة من تمام الختان قدما للذات العلية عريضة الاستئذان، وغب برهة من الزمن صدرت الإرادة السلطانية بعودهما إلى الوطن، فعادا إليه بكل سرور وكانت مدة غيبتهما أربعة شهور. ولما قربا من الشام وعلم الناس بحضورهما بسلام، هرع لاستقبالهما الكبير والصغير والحقير والفقير، وامتدت موائد السرور ودارت كؤوس الحبور، وعلى كل حال فهذا المترجم من الأفراد ومن السادة القادة الأجواد، وفي ثاني سنة من حضوره إلى الشام خطبته المنية لدار المقام، وذلك في رمضان سنة أربع وستين ودفن في مقبرة الشيخ ارسلان على جادة الطريق رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحيم البرزنجي الشافعي الأشعري عالم عامل وإمام فاضل وهمام زاهد وناسك عابد، أخذ عن جملة من السادة وعن كثير من القادة إلى أن شهدوا له بالكمال وأجازوه بما تجوز لهم روايته عن الشيوخ الأبطال، وممن أخذ عنه من الأكابر ذوي الفضل الوافر، مولانا الشيخ خالد شيخ الحضرة الشافعي النقشبندي الدهلوي، فلازمه للاستفادة والاقتباس من أنوار معارف تلك السيادة، والانتشاق من عبهره والاجتناء من ثمره، والاقتطاف من كمائم زهره، والارتشاف من ضرب فكره، ولقد أجاد من قال فيه من بديع قوافيه: من أناس يحيا بهم كل ربع ... نزلوه فاستنطق الأوطانا نزلوا طيبة فطاب ثراها ... فاسألا عن ثنائها القرآنا وكرام إن حدثوا في ندي ... عطروا من بردوه الأردانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 وأناس منهم علي أناس ... مذ تساموا إلى العلا أعلانا فاطميون يفطمون عن الغي ... نفوساً تهوى التقوى إعلانا هم عيون من الوجود وإن هم ... حجبوا عن زهو الدنا الإنسانا فصرف المترجم إلى العلوم العناية وأمسك بزمام الرواية والدراية، وأحيا مآثر أجداده واشتهر صيته في حاضر قطره وباده، وسقى رحيق تحريره بكؤوس تقرير وتحبيره كل معاصر ذكي وجهبذ سامي الجد زكي، وتقي فائض الأسرار وصوفي صفا ورده من الأكدار، وأعمل أقلامه ليرفع من شرع جده أعلامه، ويضحك من السنة ثغراً أضحك الله سنه، وداوى بمعارف إسناده وتنظيره وإيراده كلوم البحث والمناظرة، وأجرى كميت أنظاره فأفحم مناظره، ونظر في الحكمة فكان مركز الدائرة، وعرف علماء قطره فضله الذي يري أنه بدر عصره، وأقروا بأنه من الحكمة اللسان ومن عين النظر الإنسان. وأقبلوا إليه فرادى ومثنى، وزينوا من جواهر خاطره لكل فكر نحراً وأذناً: يكاد إذا تصبب في حديث ... يضارع مالكاً حفظاً وضبطا فقل للسامعين له أصيخوا ... لقول صار للأفكار سمطا متى أصغى له ندب بسمع ... يجد منه لذاك السمع قرطا وأضاف إلى العلوم النقلية ما هو عقد في نحرها من الدلائل العقلية، وتجلى على موجهات الشمسية إلى أن دعي ابن بجدتها في الناحية الكردية. لنا من أولى البيت المطهر سادة ... يداوون للأحكام للملة الكلما فوارس يقرون العدة صوارما ... ويقرون مهديا إلى سبلهم علما فما مثلهم في العلم يوماً رأيته ... إذا نظروا أجلوا عن المشكل الظلما وإن قرروا في حلبة الدرس ذقت من ... مقاولهم عذبا تخيله الظلما وللمرتضى عبد الرحيم مباحث ... إذا امتص منها الفكر لم يذق السقما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 مباحث فيها للنبي سرائر ... لطفن فأحيت من مطالعها الفهما إذا نظمت في عقد درس وعابها ... حواسدة قالوا هي الدرة العصما مباحث إن قال المعاصر أنها ... جواهر قلنا الدر من سمة الدأما فلا تنكروا منه فرائد زينت ... من الكرد ما ضاهى بأعلامه الشاما إذا نفحت من أفق درس تشيمها ... شمائل تستدعي من الناشق الشما وإن أسفرت في ليلة مدلهمة ... ارتك لأقمار الهدى القمر التما فيحيى به يحيى إذا ما تفجرت ... ينابيع أفكار له تبهر الخصما يقرر من قول النبي فتنبري ... دقائق بالتقرير تستغرق الوهما فيا زمناً حلاه لؤلؤ فكره ... تنور بما أبداه للحكم النجما فتقريره التنوير للفكر عن صدى ... وتحريره منهاج من هديه أما أهب على الطلاب أنفاس بحثه ... فأحيا بأرواح الذكا للهدى الجسما وأقرأ من لم ينظر العصر مثله ... بعين ولا جاراه ذو فطنة علما يمين التقى لا بل يسار مؤمل ... إليه أتى يشكو من الزمن العدما ومحيي دروس العلم بعد دروسها ... بذهن إذا ما مد علماً حكى اليما فتى عبشميا ما وجدنا نظيره ... بزهد أرنا أنه البدر أو أسمى توفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر. الشيخ عبد الرحيم الزياري المعروف بملا زاده الشافعي الأشعري العلم المفضال، والأوحد الذي لم يزل مشاراً إليه بكل كمال، والعلم الفرد في محاسن الأخلاق والخلال، والجهبذ الهمام الذي نال بغية الآمال، والحبر الذي لنحر العلوم نحر، والبحر الذي بالدرر المنثور تلاطم وزخر، والألمعي الذي أدلة ألمعيته شواهد على أعلميته. سطعت أنواره في الأكراد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 وتفجرت ينابيع حكمه في كل واد، وأزهرت رياض تقريره في كل فؤاد، فهو الإمام الذي شكرت المعضلات فكره، وعجز معاصره أن يقدر قدره، لم يدع من الفنون فناً إلا ارتقاه، ولا نوعاً غريباً إلا اختباره وانتقاه، ولا خفيا من المشكلات إلا أبان محياه، ولا دنا من دنان المباحثات إلا ارتشف حمياه، ولا وادياً من التحقيق إلا سلكه، ولا ارتدى برد تحرير إلا وشاه وحبكه، مع دين يشهد أعداؤه بمتانته وزهد ظهارته كبطانته، وصبر على مضض الأيام يظهر له أنه في الكمال إمام أي إمام، وله من التحابير أحسن التحارير، وبدائع بيان هي البديع والبيان، وكان من أعظم المقاصد للمداح بالقصائد، ولذلك قال عثمان أفندي بن سند أمدنا الله وإياه بوافر المدد: قصائد لم يطربن إلا لأنها ... لها من علا عبد الرحيم مساند إمام زكا عرقاً فأضحى محله ... له سمرت فوق السماك مصاعد تجسد من علم فقد قال إنه ... عباب ففيما قال لاحت شواهد تقارير أما زهرها فسوائر ... ولو أنها كالخالدات خوالد فوائده في الدرس هن فوائد ... ولو أنها للدارسين موائد قواعد أبداهن غرا يزينها ... نوادر في الآفاق هن الشوارد إذا جال في بحث رأيت به فتى ... له طاب من بحث العلوم الموارد له غرر لماعة وبراعة ... لها من بديع النظم سارت أوابد توفي المترجم عام ألف ومائتين واثني عشر. الشيخ عبد الرسول البخارلي الحنفي النقشبندي العالم في الشريعة والحقيقة، المرشد الكامل في آداب الطريقة، كان أديباً كاملاً وهماماً فاضلاً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ما جلس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 مجلس إلا وعظ وذكر، جواد كريم لطيف رحيم، كثير الوداد جميل الترداد. يسعى ماشياً من مكان إلى مكان لزيارة الأحباب والإخوان، وله أمور باهرة وكرامات ظاهرة، ما رآه إنسان إلا وأحبه وأخلص له في المحبة، وحينما ورد من بخارى إلى الشام أقبل عليه الخاص والعام، وكان يصرف صرف الأكابر والأعيان ولم يعلم له جهة ولا اعتماد على إنسان. ولم يزل على حاله من سلوكه في مناهج كماله، إلى أن توفي نهار الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة سبع وتسعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الستار أفندي بن الشيخ إبراهيم أفندي بن الشيخ علي أفندي الأتاسي مفتي مدينة حمص البهية العالم العامل والحبر المدقق الكامل، والدر المختار لتنوير الأبصار، وإمداد الفتاح للصعود على مراقي الفلاح، فلا ريب أنه محيي ربع العلم بعد اندراسه، ومنير كوكب الفضل بعد انطماسه، وقد استوى على عرش الورع والعبادة، واحتوى على ما يوجب التقدم للمعالي والسيادة. ولد في طرابلس الشام وتربى على أيدي السادة الكرام، فأكب على تحصيل العلم من صغره، كما أنه تجرد لحسن العمل في كبره، وتولى رحمه الله التدريس في الجامع النوري. وقد حضر إلى دمشق المحمية، فأقبل على الأخذ عن علمائها بهمة قوية كالشيخ محمد الكزبري عمدة الأخيار، والشيخ محمد بن عبيد العطار. وأخذ الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان عن الشيخ نجيب القلعي والسيد شاكر العقاد وغيرهما من العلماء الأعيان. وكان مكملاً في العلوم من منطوق ومفهوم، تهابه القلوب لفضله وتعظمه، ويجله العموم ويحترمه، مع أنه لا تأخذه في الله لومة لائم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 ولا تدنيه الأماني من المعاطب والمآثم، وله شعر لطيف رقيق، ونثر أعذب من الرحيق، ومفاكهات أدبية، ومناسبات لما يخل بالأدب أبية. توفي رحمه الله في معان بعد أداء الحج الشريف ودفن هناك وقبره على يسار الداخل إلى معان من جهة الحجاز، وقد صين قبره بأربعة جدر من اللبن، وما شاع عند أهل معان من أن صاحب هذا القبر اسمه الشيخ عبد الله فهو مما جرت به العادة بين الناس غالباً من أن كل من مات غريباً في محل وكان ذا قدر ولم يعرفوه فإنهم يسمونه بالشيخ عبد الله، والتحقيق أن هذا المقام مقام المترجم المرقوم كما هو محقق عند أهالي حمص خلفاً عن سلف، وكان قد حضر دفنه في هذا المحل جماعة من أهل حمص، وكانت وفاته سنة خمس وأربعين بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى. وقال هذا الموشح في مدح الشام: حبذا الشام مقر الشرفا ... وديار الأنس فيها وطني صانها المولى لطيف اللطفا ... من صروف الدهر طول الزمن دور كم بها الأخبار حقاً وردت ... وأحاديث روتها العلما وكذا الأبدال فيها سكنت ... وخيار من خيار الكرما خيرة الله تعالى قد غدت ... وإليها يجتبي أهل الحمى فهي دار الأتقياء الحنفا ... من بهم يشفى عليل البدن كنبي الله يحيى ذي الوفا ... وكذي الكفل جزيل المنن دور جامع الأموي حاوي العابدين ... في دياجي الليل والناس نيام في خشوع لم تراهم ساجدين ... ووجوه زانها نور القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 يسألون الله رب العالمين ... جنة الفردوس في دار السلام وجوار الهاشمي المصطفى ... أحمد المختار أوفى محسن من له قلب رحيم قد صفا ... والد الزهراء جد الحسن دور كم رياض مع غياض حولها ... وبساتين زهت بالنيربين وقصور عاليات كم لها ... وعيون فائقات كل عين وسرور وحبور حلها ... تجمع الشمل الذي من بعد بين طالما قضيت عمراً سلفا ... بين أحباب وشهم فطن حينما قد كنت صبا دنفا ... خالي الأفكار في عيش هني الشيخ عبد السلام بن الشيخ عبد الرحمن بن المرحوم الشيخ مصطفى الشطي الحنبلي الدمشقي كان عالماً لطيفاً وأديباً كاملاً عفيفاً، محبوباً بين الناس مطلوباً لكل جمال وإيناس، حسن الخطاب محكم الجواب، ناظماً ناثراً شاعراً. ولد سنة ألف ومائتين وست وخمسين ونشأ في طلب العلوم الشرعية والفنون الآلية والأدبية. وله قصائد كثيرة وموشحات شهيرة، منها قوله عارضاً حديث الرحمة: لقد روينا حديثاً عن مشايخنا ... مسلسلاً أولياً جاء منتظما إن ترحموا ترحموا دنيا وآخرة ... فإنما يرحم الرحمن من رحما وقال مخمساً بيتين للأمير منجك: يا من تعرض للشقا ... لا تنس يوم الملتقى إن رمت فوزاً في البقا ... اشغل فؤادك بالتقى واحذر بأنك تلتهي ... واترك لغمر حاسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 واصحب لشخص ماجد ... واقصد لرب واحد واعمل لوجه واحد ... يكفيك كل الأوجه وقال في مدح الشيخ حسن الراعي: في حاء حبك لم أزل مترقياً ... وبسين سرك لا أخاف ضياعي وبنون نورك في الأنام مهابتي ... ورعايتي إذ أنت نعم الراعي وقال في مدح كتابين حنبليين: يا من يروم بفقهه ... في الدين نيل مطالب اقرأ لشرح المنتهى ... واحفظ دليل الطالب وقال مضمناً: أجريت من شوقي إليك مدامعي ... وازداد من عشقي عليك تلهفي لو كنت تعرف حالتي لرحمتني ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف مات رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء تاسع شهر محرم الحرام سنة خمس وتسعين ومائتين وألف ودفن في الذهبية في مرج الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 الشيخ عبد الصمد بن محمد الأرمنازي بن محمد الأرمنازي الشافعي الحلبي الفقيه الأديب، والكامل اللبيب، مولده بأرمناز " قرية من أعمال حلب " ليلة الجمعة خامس عشر رمضان سنة ثلاثين ومائة وألف، ونشأ بها في كنف والده وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجوداً على الشيخ المقرئ يحيى بن الحسين الحلبي الزيات، وتفقه بأبي الحسن علي بن عبد الكريم الأرمنازي، وقرأ النحو وغيره من بقية الفنون، وخطب بعد والده في جامع أرمناز كأسلافه، ولهم زمان قديم في هذا المكان. ونظم الشعر وتعاناه، وأقبل على مطالعة الدواوين الشعرية وكان متديناً كريماً جواداً صالحاً، ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: لست أخشى ولي إليك التجاء ... يا نبياً سمت به الأنبياء كنت نوراً وكان آدم طيناً ... فأضاءت بنورك الأرجاء جئتنا من إلهنا بكتاب ... عربي عنت له البلغاء أيها المادحون طيبوا نفوساً ... إن مدح النبي فيه الشفاء ما رماني الزماني منه بسهم ... أو دهتني الخطوب والضراء وتوسلت بالمشفع إلا ... داركتني الألطاف والسراء قاب قوسين قد دنا فتدلى ... وتحلى لما أتاه النداء كان جبريل البراق دليلاً ... حين أسرى به فنعم العطاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 وبدت حين وضعه معجزات ... ضاق عنها التعداد والإحصاء وضعته والكون كان ظلاماً ... وعن الحق في القلوب عماء فانتفى الغي حينما حل في الأر ... ض ونارت أقطارها والسماء يا رفيع الجناب أنت المرجى ... في المهمات إذ يعم البلاء كن مجيري يا خير هاد لأني ... ليس لي في الأمور عنك غناء وله أشعار كثيرة، وقصائد شهيرة. توفي بعد الألف والمائتين وخمسة. السيد الشيخ عبد الصمد بن عبد الرحمن الجاوي أوحد العلماء مفرد الفضلاء، الولي التقي والعارف النقي، قال في النفس اليماني: وفد إلى مدينة زبيد عام ألف ومائتين وستة، وكان من العلماء العاملين ومن المتفننين في سائر العلوم، أخذ عن عدة من علماء عصره وفضلاء مصره، منهم الشيخ إبراهيم الرئيس، والشيخ محمد مراد، والشيخ عطاء المصري، والشيخ محمد الجوهري، والشيخ محمد الكردي وغيرهم. ثم أقبل على علم التصوف وكان جل اشتغاله به ويعظم شأنه ويكثر من ذكر فوائده، وأن من أقلها أن ينكشف للمشتغل به والمقبل عليه عيوب نفسه ونقصها وتقصيرها، ويكون ذلك بعد توفيق الله سبحانه عاصماً له عن الغرور، وقيل في هذا المعنى: يا رب إن العبد يخفي عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه ثم أنه قد كثر من زمن الأولين الاعتناء والمطالعة في كتاب " إحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 علوم الدين " حتى أن بعض علماء المغاربة ألف كتاباً حافلاً في فضائل الإحياء. ومما يحكى أن رجلاً من المشتغلين به اطلع على كتاب تنبيه الأحيا على أغاليط الإحيا، فأقبل على مطالعته فما أتمه إلا وقد ذهب بصره، فأكثر من البكاء والتضرع إلى الله عز وجل وعرف السبب وتاب إلى الله عز وجل، فرد الله عليه بصره. انتهى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلامه في الأحياء غالبه جيد، لكن فيه أربع مواد فاسدة: مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة الترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة. وبينه وبين ابن عقيل قدر مشترك من جهة تناقض المقالات المصنفات. قال الشيخ حسين بن عبد الله الحضرمي في حق الأحيا: يداوى به من سموم الغفلة ويوقظ علماء الظاهر، ويوسع للعلماء الراسخين، ومن أنكر عليه فهو خارج عن الصواب. ولا عبرة بقول محمد صديق حسن خان في كتابه المسمى بالتاج المكلل فإنه قال: وهو لا شك كذلك لكن بعد حذف المواد الفاسدة المشار إليها، ومثله كتابه الآخر المسمى بكيمياء السعادة. انتهى قال صاحب النفس اليماني: قرأت على المترجم من أول كل ربع شيئاً وأجازني، وكان لا يرى للدنيا قدراً، اتصف بالسماحة وبذل المال ما أمكن. توفي سنة ألف ومائتين و.. السلطان عبد العزيز بن السلطان محمود الثاني تولى الملك بعد أخيه السلطان عبد المجيد وكان سلطاناً مهاباً جسوراً ذكياً نبيهاً عارفاً بدقائق السلطنة، تولى الملك سابع عشر ذي القعدة الحرام سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، وفي سنة ثمان وسبعين أظهر أهل الجبل الأسود العصيان فأرسل إليهم من أرجعهم إلى الطاعة بعد حرب عظيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف أظهر العصيان أهل جزيرة كريد وكثير من البندقية، فجهزت الدولة جيوشها براً وبحراً وكذلك جهز صاحب مصر جيوشاً كثيرة فكانت مع عساكر الدولة، ووقع بينهم وبين العصاة حرب شديد كان النصر فيه لعساكر المسلمين، وأذاقوا العصاة الوبال، وأرجعوهم إلى الطاعة والاعتدال. وفي سنة تسع وسبعين توجه المترجم إلى الديار المصرية للتنزه والتفرج، وكان ذلك في ولاية إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا. وفي سنة أربع وثمانين توجه إلى باريز تخت ملك الفرنسيس، وكان قد دعاه نابليون حينما دعا عدة من الملوك العظام، وكان في رحلته هذه قد مر على أدرنة وعلى قلعة بلغراد، وكان السرب قد طلبها منه أعطاهم إياها، فحين عاين تحصينها غضب لذلك، وكانوا أخبروه أنها مهدومة وأنها مدينة كاسدة، فلما رآها ندم حيث لا ينفع الندم. وفي سنة ثمان وثمانين أرسل جيشاً عظيماً تحت قيادة رديف باشا إلى بلد عسير حينما خرجوا عن طاعته، فهزمهم وقتل أميرهم محمد بن عايض ابن مرعي، وقتل كثيراً وأسر كثيراً وأرسلهم إلى الآستانة، وصارت بلاد عسير في حكم الدولة منضمة إلى ولاية صنعا واليمن، وفي هذه السنة أيضاً كانت فتنة عظمى بين ألمانيا وفرانسا آل الآمر فيها إلى هزيمة الفرنسيس وأسر ملكم نابليون الثاني. وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع شهر جمادى الأولى خلع المترجم المشار إليه ومات بعد خمسة أيام، وعمره ثمان وأربعون سنة، ومدة سلطنته ست عشر سنة وأربعة أشهر رحمه الله تعالى. وقد أشيع أنه قتل نفسه بمقص قص به عرقاً في ذراعه فمات، وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف نفي جماعة من الوزراء إلى الحجاز، فحبسوهم في قلعة الطائف، منهم: مدحت باشا ومحمود باشا داماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 مولانا السلطان عبد الحميد، ونوري باشا داماد حضرة السلطان المتقدم ذكره، ومعهم جماعة آخرون منهم: شيخ الإسلام خير الله أفندي. وفي سنة ثلاثمائة توفي مدحت باشا ومحمود باشا الداماد في القلعة المذكورة، وكان خلع السلطان عبد العزيز سبباً لاضطراب كثير وحوادث شتى. وكان القائم أكمل القيام في خلعه حسين عوني باشا، وكان السلطان عبد العزيز هو الذي رقاه وأعلى قدره إلى أن جعله رئيساً على العساكر كلها، بل جعله مقدماً على جميع أهل الرتب والمناصب، فكافأه الباشا المذكور على هذه الأمور العظيمة بأن أدخل في أفكار الوزراء أن السلطان المذكور قد تداخل مع الروسية، وأنه يريد أن يملكهم دار السلطنة، ولا زال هو ومن اتفق معه يسعون في الفساد ويدبرون التسلط على خلعه، إلى أ، تم لهم ذلك فخلعوه ووضعوا مكانه السلطان مراد، ابن أخيه السلطان عبد المجيد. فقدر الله تعالى أن رجلاً يقال له حسن جركس وكان السلطان عبد العزيز المومى إليه متزوجاً بأخته فأخذته حمية على السلطان عبد العزيز، فصمم على قتل حسين عوني باشا، ودخل عليه في دار الصدر الأعظم محمد راشد باشا فوجده مع جماعة من الوزراء مجتمعين للمشاورة في بعض الأمور، وكان مع حسن جركس فرد بست طلقات فقتل به حسين عوني باشا ومعه جماعة من الوزراء، ثم قبضوا على حسن جركس وقتلوه. وكان موت المترجم كما تقدم سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع جمادى الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 الشيخ عبد العليم بن محمد بن محمد بن عثمان المالكي الأزهري الضرير الإمام الفاضل العمدة الصالح الكامل، عمدة الخلف ونخبة من أتقن العلوم وعرف، حضر دروس الفاضل الشيخ علي الصعيدي رواية ودراية فسمع عليه جملة من الصحيح والموطأ والشمائل والجامع الصغير ومسلسلات ابن عقيلة، وروى عن كل من المولوي والجوهري والبليدي والسقاط والمنير والدردير والتاودي ابن سودة حين حج، ودرس وأفاد. وكان من البكائين عند ذكر الله سريع الدمعة كثير الخشية، وكان يعرف أشياء في الرقى والخواص وفوائد القرينة وأم الصبيان، ثم ترك ذلك لرؤيا منامية رآها وأخبر بعض خواصه بها. أقول: أن كل ما أذن به الشارع صلى الله عليه وسلم لا بأس به، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقى فكان إذا أتى المريض فدعا له قال: أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً. وكان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئاً ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الموجوع، ويقول: تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا. وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ولي وجع قد كاد يبطلني فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات، فقلت ذلك فشفاني الله. وعن أبي سعيد أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت قال: نعم قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين أو حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقال لي: ألا أرقيك برقية جاءني بها جبرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 قلت: بأبي وأمي بلى يا رسول الله، قال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك، من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حاسد. توفي المترجم رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ودفن ببستان المجاورين بمحفل عظيم من العلماء والأعيان. السيد عبد الغفار بن السيد عبد الواحد بن السيد وهب المعروف بالأخرس أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ولبيب قد احتوى نظامه على بلاغة قس وفصاحة سحبان، فهو الفرد الذي جرت في بحور شعره سفن الأذهان، ودارت على الندمان كرؤوس نثره ونظمه فأغنتهم عن الحان والألحان. ولد في بلدة الموصل بعد المائتين والعشرين والألف من الهجرة النبوية، ونشأ في مدينة دار السلام المحمية، ولم يزل يجول في نواحي العراق مرتحلاً وحلاً، تارة مثرياً وتارة مقلاً، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الأغوار منها والأنجاد. وفي إبان صباه كان قد أرسله المرحوم الوزير الخطير والمشير الكبير، حضرة داود باشا والي بغداد، عليه رحمة الملك الجواد، إلى بعض بلاد الهند ليصلحوا لسانه عن الخرس، وما كان فيه من الكلام قد احتبس، فقال له الطبيب: أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق وإما أن تسارع إلى دار البقاء، فقال له وهو منه نافر وعنه مغضي، إنني لا أبيع كلي ببعضي، واتبع طريق الصواب والسداد، وكر راجعاً إلى بغداد. وبقي فيها مدة يكابد منها بعضاً من اليسر وبعضاً من الشدة. وفي عام التسعين بعد المائتين والألف عزم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 التوجه إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وكان ذلك الأثناء في البصرة الفيحاء، فتمرض هنالك بعد أن أقعد فرجع إلى مدينة الزوراء دار السلام، يكابد الشدائد والآلام، ثم في شهر رمضان من ذلك العام، عاد أيضاً إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأي حسرة، وصار نزيلاً في دار ذي المقام الموفور، الشهم الكامل الشيخ أحمد نور. فلم يزل يثقل به المرض من جهة ما عرض لجوهر حياته من أنواع العرض، إلى حين الزوال من يوم عرفة فتوفاه الله، وكان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتأسف عليه الخاص والعام، وقالوا أن الأدب قد طويت أعلامه بعد هذا الهمام، فشيع جنازته أفاضل البصرة وبقلوبهم على فقده حسرة وأي حسرة، وأقيمت الصلاة عليه بعد صلاة العيد، وكان ذلك المشهد دليلاً على أنه ختم له بالختم السعيد، فدفنوه بمقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة سيدنا الزبير، لا زالت تنهل عليه هواطل الرحمة والخير، فهناك طواه ضريحه، وخفقت بحور شعره وأدبه بعد أن سكن ريحه، وانقض بموته ذلك البنيان، ونطقت أفواه نظمه بعد أن سكن منه اللسان، وانطفا نور ذياك الجنان، فسقط بسقوطه نجم النظم والبيان، وأضحى داثر الأثر خفي العيان. وكان رحمه الله حسن العقيدة سلفي الأثر، ساكناً بجانب الكرخ من بغداد، علوي النسب المفتخر. وقد ناهز عمره السبعين، فلا زالت رحمة المعين تتولاه كل حين. ومن قصائده الحسان، التي اشتهرت في البلدان: أتراك تعرف علتي وشفائي ... يا داء قلبي في الهوى ودوائي ما رق قلبك لي كأن شكايتي ... كانت لمسمع صخرة صماء والشوق برح بي وزاد شجونه ... بأشد ما ألقى من البرحاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 عجباً لمن أخذ الغرام بقلبه ... أنى يعد به من الأحياء هل يعلم الواشون أن صبابتي ... كانت بلحظ مهاً وجيد ظباء وتجرعى مضض الملام من التي ... حلت عقيب الجزع في الجرعاء لم يحسن العيش الذي شاهدته ... من بعد ذات الطلعة الحسناء فمتى أبل صدى بمرشف شاذن ... نقض العهود ولا وفى لوفائي وجفا ومل أخا الهوى من بعدما ... كنا عقيدي ألفة وإخاء ونأى بركب الظاعنين عشية ... أين الركاب وأن ذاك النائي أصبحت لما ماس عدل قوامه ... أشكو طعان الصعدة السمراء وأجيب سائل مهجتي عن دائها ... دائي هواك فلا بليت بدائي لم يدر واللعس الممنع طبه ... أن الدواء بمقتضى الأدواء إلى آخرها وهي طويلة ومن قوله رحمه الله: هل تركتم غير الجوى لفؤادي ... أو كحلتم عيني بغير السهاد قد بعدتم عن أعين فهي غرقى ... بدموعي ولي فؤاد صادي ثم وكلتمو السهاد عليها ... يمنع العين عن لذيذ الرقاد من مجيري من الأحبة بجفو ... ن وتعدو منهم علي العوادي علموا أنني عليل ومن لي ... أن أرى طيفهم من العواد نزلوا وادي الغضا فكأن الدمع مني سيول ذاك الوادي تركتني أضغانهم يوم بانوا ... وحدا فيهمو من البين حادي بين دمع على المنازل موقو ... ف وشمل مشتت بالبعاد وفؤاد يروعه كل يوم ... ذكر أيامنا الحسان الجياد يا رفيقي وأين عهدك بالجز ... ع سقاه الغمام صوب عهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 إلى آخرها وله أيضاً: أتنكر منك ما تطوي الضلوع ... وقد شهدت عليك به الدموع ولولا أن قلبك مستهام ... لما أودى بك البرق اللموع ولا هاجت شجونك فاتكات ... تكتم ما تكابد أو تذيع تشوقك الربوع وكل صب ... تشوقه المنازل والربوع ليال بالتواصل ماضيات ... بحيث الشمل ملتئم جميع ومن كلامه المترجم أيضاً: بارق لاح فأبكاني ابتساما ... نبه الشوق من الصب وناما ولمن أشكو على برح الهوى ... كبداً حرى وقلباً مستهاما ويح قلب لعب الوجد به ... ورمته أعين الغيد سهاما دنف لولا تباريح الجوى ... ما شكا من صحة الوجد سقاما ما بكى إلا جرت أدمعه ... فوق خديه سفوحاً وانسجاما وبما يسفح من عبرته ... بل كميه وما بل أواما ففؤادي والجوى في صبوتي ... لا يملان جدالاً وخصاما ليت من قد حرموا طيب الكرى ... أذنوا يوماً لعيني أن تناما منعونا أن نراهم يقظة ... ما عليهم لو رأيناهم مناما قسماً باللوم والحب أن ... كنت لا أسمع في الحب ملاما والعيون الباليات التي ... ما أحلت من دمي إلا حراما وفؤاد كلما قلت استفق ... يا فؤادي مرة زاد هياما إن لي فيكم ومنكم لوعة ... انحلت بل أوهنت مني العظاما وعليكم عبرتي مهراقة ... كلما ناوحت في الأيك حماما ومتى يذكركم لي ذاكر ... قعد القلب لذكراكم وقاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 يا خليلي وما لي أن أرى ... بعد ذاك الصدع للشمل التئاما احسب العام لديكم ساعة ... وأرى بعدكم الساعة عاما لم يدم عيش لنا في ظلكم ... أي عيش قبله كان فداما حيث سالمنا على القرب النوى ... وأخذنا العهد منها والذماما ورضعنا من أفاويق الطلى ... وكرهنا بعد حولين الفطاما أترى أن الهوى ذاك الهوى ... والندامى بعدنا تلك الندامى كلما هبت صبا قلت لها ... بلغيهم يا صب نجد سلاما وبنفسي ظالم لا يتقي ... حوبة المضنى ولا يخشى أثاما ما قضى حقاً لمفتون به ... ربما يقضي وما يقضي مراما لو ترشفت لماه لم أجد ... في الحشا ناراً ولو شبت ضراما ولأطفأت لظى نار الجوى ... ولعفت الماء عذباً والمداما شد ما مر جفا مستعذب ... من عذابي فيه ما كان غراما إلى آخرها وهي طويلة وقال: وظبي دعتني للحروب لحاظه ... وهيهات من تلك اللحاظ خلاص تصدى لحرب المستهام وما له ... سوى اللحظ سهم والنقاب دلاص فلما أجلت الطرف أدميت خده ... وأدمى فؤادي والجروح قصاص ومن قوله: وأقمار غربن فليت شعري ... إلا بعد الغروب لها طلوع أمرت القلب أن يسلو هواها ... على مضض ولكن لا يطيع وما أشكو الهوى لو أن قلبي ... تحمل بالهوى ما يستطيع وقال: وغادة لو بروحي بعت رؤيتها ... لكنت والله فيها غير مغبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 ما البدر والغصن أحلى من شمائلها ... كأنها من بنات الحور والعين وقال: أنعم علي بشيء أستعين به ... على المسير لعل الله يشفيني أقضي بنعماك أوقاتاً أعيش بها ... وأن أمت فهي تكفيني لتكفيني وقصائده كثيرة وأشعاره شهيرة، رحمة الله عليه وعلى والدينا ووالديه. عبد الغفور الكردي الكركوكي النقشبندي الخالدي العالم المحقق والفاضل المدقق، كنز المعارف ومدار اللطائف، وقطب الإرشاد ومنهج الصواب والسداد. أخذ عن شيوخ زمانه وعمدة وقته وأوانه، وأفاد واستفاد وكان للمريدين أحسن مراد. ثم أخذ الطريق عن علامة الدنيا ومرشدها مولانا الشيخ خالد، وبعد أن رأى فيه كمال الاستعداد أذن له بإعطاء الطريق والإرشاد، فاشتغل بالطريق على العهد الوثيق، وحصل منه النفع وعرف بالكمال بين الأنام. وكانت وفاته رحمه الله بعد الألف والمائتين والأربعين. عبد الغفور الخالدي الشاهدي البغدادي العالم الفقيه والولي المرشد الكامل النبيه، العارف بالله والمستغرق في حب مولاه، صاحب الأنفاس القدسية والمعارف الأنسية، مربي السالكين ومفيد الواصلين، فإنه سلك أولاً على يد السيد عبيد الله الحيدري فلما دخل دائرة الكمال واستوى في تربيته على دائرة الاعتدال، خلفه حضرة مولانا خالد خلافة مطلقة وذلك حين عود الأستاذ المرقوم من البلاد الهندية، إلى البلاد العراقية، سنة ست وعشرين ومائتين وألف. وأذن له بالإرشاد في مدينة بغداد. ولهذا المترجم كرامات وخوارق عادات، قد ذكر بعضها صاحب المجد التالد. توفي المترجم سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين غالباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 الشيخ عبد الغني بن محمد هلال مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة الإمام المتحلي بحلية الكمال، والمحتوي على أفضل الشمائل وأجمل الخلال. وكان معروفاً بالعبادة والتحقيق والزهادة والتدقيق، واليد الطولى في المعارف والفهم العالي في عويصات العوارف. ولد بمكة المكرمة ونشأ بها وأخذ عن علمائها وحضر مجالس فضلائها، ومن أجلهم عمه السيد سعيد سنبل والعلامة الشيخ عمر باعلوي سبط العلامة البصري، وبرع في العلوم وفاق في معرفة المنطوق والمفهوم، وتولى إفتاء السادة الشافعية وأخذ عنه فضلاء السادة الحجازية، توفي ليلة الخميس لثلاث مضين من شعبان المعظم سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الغني بن عبد القادر الشهير كأسلافه بالسقطي الدمشقي الصالحي الشافعي، من الشيوخ المتقدمين في الفضل والعلوم، والأفراد المعروفين بجولان ميدان المنطوق والمفهوم. زينة العباد من العباد، وصفوة الزهاد والسادة الأمجاد. ولد سنة خمس وستين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده المذكور وأخذ عنه وعن الشهاب أحمد المنيني، وعن العلامة الشيخ علي السليمي الصالحي، ودرس في السليمية وكان تقياً صالحاً ونقياً في العبادة ناجحاً، وقد قرأ والدي عليه أكثر الفنون، وحصل له به الفضل المصون، ومن جملة ما قرأ عليه مؤلفات القاضي زكريا الأنصاري، وأجازه بسند مذكور فيه رجاله بتواريخهم إلى القاضي المرقوم، فأحببت ذكره كذلك تتميماً للفائدة أقول: يروي والدي المولود سنة 1206 والمتوفى سنة 1272 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 وقد عاش 66 سنة عن شيخه الشيخ عبد الغني المرقوم المولود سنة 1165 والمتوفى سنة 1246 وعاش 81 سنة عن الشهاب أحمد المنيني ولد سنة 1089 وعاش 83 سنة ومات سنة 1172 عن الشيخ عبد الغني النابلسي ولد سنة 1050 وعاش 93 سنة ومات سنة 1143 عن النجم الغزي الدمشقي ولد سنة 977 وعاش 84 سنة ومات سنة 1061 عن والده البدر الغزي ولد سنة 904 " 14 ذي القعدة " ومات سنة 984 عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري ولد سنة 825 وعاش 101 سنة ومات سنة 926 وبهذا السند بعينه يروى تأليف ابن حجر الهيثمي المكي ولد سنة 909 وعاش 65 سنة ومات سنة 974 ويروى مؤلفات الشمس الرملي بهذا السند إلى النجم الغزي التهاوي عن الرملي ولد الرملي سنة 914 وعاش 90 سنة وتوفي سنة 1004 ويروى بالسند المرقوم للبدر الغزي عن السيوطي: تأليفات السيوطي ولد السيوطي سنة 849 وعاش 63 سنة وتوفي سنة 912 وبالسند المرقوم إلى البدر الغزي عن الشهاب الرملي الكبير توفي سنة 857 ويروى كتب العارف بالله الشيخ محي الدين العربي عن الشهاب المنيني، عن العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي، وأبي المواهب الحنبلي، عن النجم الغزي، عن البدر الغزي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن أبي الفتح المراغي، عن القطب إسماعيل الجبرتي، عن القطب الواني، عن الشيخ الأكبر قدس الله سره، ورضي الله عنهم أجمعين. الشيخ عبد الغني بن محمد شريف بن أبي المعالي محمد الغزي العامري الدمشقي ولد بدمشق في شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين ومائة وألف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 ونشأ في حجر والده المرقوم المولود سنة خمسين ومائة وألف، والمتوفى سنة ثلاث ومائتين وألف، والمدفون في مرج الدحداح. وقرأ المترجم على سادات عظام وعلماء كرام، إلى أن صار من أعلم علماء الديار الدمشقية. وتولى من بعد والده إفتاء الشافعية. وهذه الوظيفة قد تورثوها عن آبائهم إلى الجد الأعلى الشهاب أحمد الغزي المولود في غزة سنة ستين وسبعمائة، وتوفي في دمشق الشام يوم الخميس سادس شوال سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وكانت وفاة صاحب الترجمة عاشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وست عشرة، ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الغني السادات الدمشقي الحنفي الإمام الكامل والعمدة الفاضل، زين العلماء وصفوة الفضلاء، له تقييدات لطيفة ورسائل شريفة. مات سنة خمس وستين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. وكان له أخذ عن سيدي الوالد، وله عليه اعتماد زائد. ولما ألف رسالته في حكم الحائط المشترك أرسل هذه الأبيات لسيدي الوالد ضمن مكتوب طويل محتو على نثر بديع جميل، ويطلب منه أن يقرظ له على الرسالة المرقومة، ونص الأبيات: أرجوك يا بهجة الأيام مبتغياً ... أسامة الطرف في تنميقها الحسن فإن ترى حسناً فالحسن وصفكم ... فطرزوا حسنها بالمنطق اللسن لا غرو إن كسيت ثوب الجمال إذاً ... وقد هدى بسناها حائد السنن لا زال منك يراع الحسن ينشر في ... أسماعنا لؤلؤ الألفاظ بالسكني ما دبج الروض من حب الغمام وما ... قد غردت صادحات الطير في فنن وللمترجم رسائل كثيرة وقصائد وأبيات شهيرة، وأبحاث لطيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 وتحقيقات طريفة. وكان تقياً عابداً نقياً زاهداً، جميل العبارة والتقرير حسن الأسلوب والتعبير. قرأ على المشايخ العظام كالشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ حامد العطار، والشيخ عبد الرحمن الكردي، والشيخ صالح القزاز، وغيرهم من السادات الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، وانتفع وحقق واجتهد ودقق، ونوع الأسباب في إفادة الطلاب، غير أن زمانه قد عانده وخالفه وما ساعده، فلذلك قصر به جواد التقديم، عن الوصول إلى مراتب ذوي الرفعة والتكريم، وكان أخبرني من كان يعرف حقيقة أطواره، ولم يخف عليه شيء من ظواهره وأسراره، بأن السبب الكبير في هذا التأخير، كونه ألف رسالة في تكفير أبوي النبي عليه الصلاة والسلام، وظن أن ذلك إنما يوجب له الكرامة والاحترام، وما عرف أنه لو لم يفعل لكان أولى، أو لو انتصر لهما لكان قدره عند السيد الأعظم أعلى، أعاذنا الله من كل بلوى وأحسن إلينا وإليه في السر والنجوى آمين. ومن نظمه البديع الشاهد له بالمقام الرفيع، قوله يمدح الوزير علي باشا المعزول عن بغداد: علوت لمجد فوق ما أنت آمله ... وفزت بإقبال لك العز حامله لك السعد ما هذا العلو لمبتغ ... سواكم وما في الدهر شهم يحاوله يميناً بعلياكم لقد حزت في الورى ... مقاماً على الجوزاء تعلو منازله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 بنيت من العز المنيع دعائماً ... وقمت على بحر تفيض سواحله أبيت " وبيت الله " ذما وسبة ... وحزت نوالاً فوق ما أنت نائله شرعت من المعروف فينا شرائعاً ... بها البطل الكرار تحيا فواضله أقام بها راجيك يبسم ضاحكاً ... ينال من الخيرات ما هو آمله وقمت بإحياء الوزارة حاملاً ... لسيف غدت للنصر تعزى حمائله زرعت من الألفاظ روض محاسن ... لنا أثمرت در المعاني خمائله يرى منك في الهيجاء بأس وشدة ... وفي غيرها لطف تروق محامله رؤوف بأحوال الرعية منصف ... رحيم إذا المظلوم عزت وسائله أهنيه بالشام المنيرة منصباً ... يطرزه السعد المبين تكامله له منصب من بعدها مصر غانماً ... ومن بعدها يشتد بالختم كاهله شهامة كسرى في سخاوة حاتم ... من المهد عنه قد حكتها قوابله أتى شامة البلدان فاخضر عيشها ... وأصبح منها الغصن يحلو تمايله متى ذكرت في الحي أوصاف وصفه ... يفوح به نشر من المسك شامله فأضحى كروض البان فاح عبيره ... نسيم الربا أخلاقه وشمائله مهاب جسور لا يسمى مهابة ... وإن كان شعري قد حكته أوائله إلى هنا ما وجدته من هذه القصيدة. وله قصائد كثيرة ومقاطيع بالمدح جديرة، رحمه الله وأعلى علاه، وجعل الجنة مثواه، وأعطاه مراده في الآخرة ومناه. ومن نثره ما كتبه لوالدي رحمهما الله تعالى بطلب به منه أن يقرظ له على رسالة كان ألفها فأرسل له هذه العبارة وهي: سيدي المحترم دام بالنعم وسيع الرحاب والحمى والحرم، ما انهلت صيبات سوابغ الديم. قد تعود الداعي المتطفل على ساحة الفضل والرحاب من علي القدر والعز العريض والجناب، أن تشرفوا رسائله بسلاسل سطور ألفاظكم العنبرية، وتشنفوا المسامع بدرركم الجوهرية، وأن تلبسوها قباب الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 وتجلبوها بجلباب الامتنان، وتحلوها بسوار القبول وتقرطوها بقرط المعقول والمنقول. وتقرظوها بتقرير نظركم الاكسير، فيكون لها سير الشمس في المسير، وتصيغوا لها خلخال الجمال والبها، وتحلوا جبينها الأغر بعقود تجلت للمحاسن بها، وتوشحوها بنطاق الدلائل، وترشحوها بسلاسل السطور العنبرية والجدايل، وتكونوا أبا عذرها نصراً وفتحا وتذبون عن عرضها المصون سبة وقدحا، ذب الغيور عن الحرم، وذلك من محض الفضل والكرم، ولا تدعوا فيها للملام والمذمة غصة ونزهوها كالعروس على منصة. وقد علم القوم أنكم لا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا ترنم طير على غصن الهوى حائم، فمنوا جنابكم كما هو عادتكم الجميلة العميمة وأحاسن محاسن أخلاقكم الكريمة، وليس عليكم في ذلك ضير " ولباس التقوى ذلك خير " ولئن منعتم ذلك لخاطر الغير وحاشا لباس تقواكم، فعندنا شاهدا عدل خطكم الشريف ولفظكم الجزل، كيف وقد قام بصدق الحديث الدليل والله يدعو إلى الحق ويهدي إلى السبيل. فكنت كما كنت سابقاً، بلسان بلبل الحق ناطقاً، وحنانيك البدار البدار، فإني قد لبست ثوب الانكسار، وتقمصت بثوب البهار، وابتهلت بظلمي للأخذ بالثار بالواحد القهار. والآن قد قمت للإهاب للسفر بعصا الترحال، والحروب سجال. والله يعز بوجودكم الدين المحمدي والإسلام، وسلام الله عليكم ورحمته ممزوجاً بمسك الختام. الشيخ عبد الغني بن طالب بن حمادة بن إبراهيم بن سليمان الميداني الحنفي بحر علم لا يدرك غوره، وفلك فضل على قطب المعارف دوره، لم يقنع بالمجاز عن الحقيقة، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره، ويتعسر على الألسنة نشره، وتأليفاته التي يحق لرائيها أن ينافس بها ويفاخر، محشوة من الفوائد بما يعقل الأفكار ويقيد الخواطر. ولد في الشام في الميدان سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين، وربي في حجر والده، ثم بعد تمييزه قرأ القرآن، ثم طلب العلم الشريف بكل جد واجتهاد، فقرأ على الشيخ عمر أفندي المجتهد وعلى الشيخ سعيد الحلبي وعلى الشيخ عبد الغني السقطي وعلى السيد محمد عابدين وعلى الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعلى الشيخ أحمد بيبرس وعلى والدي الشيخ حسن البيطار، فإنه لازمه ملازمة المرضعة للرضيع، وكان يكثر المديح في حقه لدى كل رفيع ووضيع، ولما طلب منه الإجازة حضرة المحترم السيد سلمان أفندي القادري نقيب بغداد كتب له بها أسماء مشايخه المرقومين، ولما ذكر والده قال وكان جل انتفاعي به. وكان ذا زهد وتقوى وعبادة في السر والنجوى، وهمة عالية ومروءة سامية، ولسان على الذكر دائب، وشهرة قد سارت في المشارق والمغارب، ومنزلة في القلوب حميدة وعقيدة في كماله وحيدة، له من المؤلفات: الشرح المسمى باللباب على متن القدوري وقد طبع مرتين لكثرة طالبيه، وشرح المراح في علم الصرف، وشرح رسالة الطحاوي في التوحيد، ورسالة وشرحها في الرسم، ورسالة سماها إسعاف المريدين لإقامة فرائض الدين وقد شرحها ولده الشيخ إسماعيل، وسل الحسام على شاتم دين الإسلام، ورسالة في صحة وقف المشاع، ورسالة في مشد المسكة، ورسالة في رد شبهة عرضة لبعض الأفاضل، ورسالة سماها كشف الالتباس في قول البخاري قال بعض الناس. وله نظم ونثر يفوق اللآلي والدر، فمما نظمه قصيدته التي مدح بها أستاذه الوالد التي صدرها بقوله: لمحررها عبد الغني يمدح فيها جناب شيخه وقدوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 العالم الرباني والوالد الروحاني، من تفاخرت به الأقطار، سيدي الشيخ حسن بن إبراهيم البيطار ويهنيه بوصوله بالسلامة من الرحلة الحجازية إلى وطنه دمشق المحمية، دام كما رام والسلام: ومضت بروق الحي في الظلماء ... سحراً أهاجت لاعج الأحشاء ونضت سيوف الهند في إبراقها ... فهمت عيون مدامعي بدماء ما شمتها إلا وملت ترنماً ... كتمايل النشوان بالصهباء وشفت فؤاد المستهام من الضنى ... نعم الدواء يكون إثر الداء وفكرت عهداً قد مضى فينا سقى ... عهدي القديم به غمام بكاء زار الحبيب ونوره متشعشع ... يمحو ظلام الليل الليلاء لما بدا أنشدت في تلك الربى ... شق الصباح غلالة الظلماء نادمته والشوق بين جوانحي ... أذكى لهيب الوجد والأهواء في ليلة جنت فأنور بدرها ... يحكي محيا مرتع البلغاء من قد رعى حب القلوب وقد حوى ... روض الربيع معنبر الأرجاء المرتقي رتب الفضائل والعلا ... فيها ارتقى للذروة العلياء اللوعذي الألمعي ومن غدا ... علم العلوم ومرجع العلماء المفرد العلم الذي آثاره ... دلت عليه بأصدق الأنباء إن قيل من هذا الذي تعني فقل ... من مدحه فرض على الشعراء الفاضل النحرير بدر قد سما ... " حسن " ولكن سيد الحسناء ميداننا بقدومه قد فاخرت ... أمثالها فيه مع الندماء صدر الشريعة والحقيقة والتقى ... من قلبه كالدرة البيضاء من أتقن المعقول والمنقول وافتخرت به شام على الزوراء مغني اللبيب فكفه قطر الندى ... ومطول التمداح فيه شفائي قد قام في ذكر الإله ملاحظاً ... بسوابغ الآلاء والنعماء بطريقة الصديق قد يروي الظما ... بخلوص صدق ساعة الظلماء كهف ترى النجباء في أعتابه ... تأتي له بالنظم والإنشاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 لا عيب فيه غير أن نظامه ... خلب العقول ببهجة وسناء وجميع من في الكون من عشاقه ... في الدين والدنيا من السعداء فجعلته بين البرية حليتي ... هو ملجأ الفقراء والغرباء لا زال كالبيت الحرام محرماً ... عند استلام الركن والإيماء والعذر لا يخفى فإني مادح ... يأتي إلى أعتابكم بعناء متخلصاً من بطؤه متشفعاً ... بالهاشمي وسيد الشفعاء المجتبى المختار من كل الملا ... وهو الذي قد خص بالإسراء صلى عليه الله ربي دائماً ... ما ناح قمري على الورقاء وعلى قرابته الذين تقدسوا ... والآل مع أصحابه النجباء من بعد مختتم أتى تاريخها ... أمواج كافور سرت كرباء سنة 1242 ومن نثره ما كتبه لوالدي حين كان في الحجاز سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين: غب إهداء سلام تنطبق كلياته وجزئياته على قضايا الأشواق، وتثبت مقدماته من الأشكال ما يعجز عن وصفه خاصة الرسم والحد من الاشتياق، نخص بذلك جناب سيدنا ذي القضية الموجهة إلى كل مجد، الحملية على مقدمات العز المعدولة عن العكس والطرد، حضرة مولانا الشيخ حسن البيطار، لا برح لواء فضله منشوراً في الآفاق والأمصار، ولا زال قدره بالرفعة مشفوعاً، ومقامه الأسمى على عاتق الجوزاء محمولاً وموضوعاً، وعدوه عقيماً عن بلوغ الآمال، ذميماً على ممر الأيام والليالي إلى آخره. ومن كلامه في مدح الذات المحمدية، ذات الصفات الأحمدية: هما مقلتي طير على البان ساجع ... وتغريده المسموع للقلب صادع كأن صروف الدر القته بالنوى ... فناح على إلف له وهو خاضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 فقلت له يا طير قطعت مهجتي ... وهيمت مضنى وهو بالحب والع وذكرتني يوماً رمى القلب في الغنا ... ومن لي وقلبي في جوى الحب واقع فهاك حديثاً عن حقيق محبتي ... تسلسله عني دموع هوامع فقد رمقت عيني لوامع ظبية ... لها برق وجه في دجى الشعر لامع وحاجبها قد فاق حسناً وثغرها ... فريد نظام للفرائد جامع ولما بدت للصب ماست وقد رنت ... فما البرد ما الأغصان ما الريم راتع وفي البعد عنها واسع الأرض ضيق ... وفي القرب منها ضيق الأرض واسع وكل محب ما اهتدى بجمالها ... فذاك كذوب في الضلالة واقع إليها جميع الحسن يعزى أصالة ... وحسن سواها في البرية تابع إلى أن قال: إذا أقبلت فالشمس تسجد هيبة ... وإن خطرت فالغصن في الروض راكع ولي مخلص من صدها بتشفعي ... إليها بمن لي في القيامة شافع فلولاه لم نعرف لدين ولا تقى ... ولولاه لم يوجد مدى الدهر طالع ولا عيب أن قيل الغنيمي مادح ... رسول إله عبده فيه طامع فذاك عبيد للغني ومن له ... سواه إذا اشتدت عليه الموانع وله قصائد كثيرة، وفضائل معروفة شهيرة، وخيريات حسنة وتعميرات مستحسنة. وكانت الناس تأتيه بالهدايا وتقصده بعظيم الوصايا، وقد جدد عمارة الجامع الذي بجانب داره في الميدان في محلة ساحة السخانة وأنشأ له منارة عظيمة متينة. وبالجملة والتفصيل، قد كان شهماً ما له من مثيل، وقد اتسع جاهه وكثر في الناس ثناؤه، وخالطت هيبته القلوب فكان لها أجل مطلوب ومرغوب. ولم يزل على استقامته في طاعته وعبادته، وإفادته لطالبه ووارده، وإحسانه لراغبه وقاصده، إلى أن سجع على دوحه حمام الحمام، ودعاه إلى الرحلة داعي الأنام. فتوفي رحمه الله تعالى رابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين. ولقد صلي عليه في جامع الدقاق بإمامة ولده الفاضل الشيخ إسماعيل، قدمه للإمامة شيخنا الفاضل الطنطاوي، وكان لجنازته مشهد قد غص به واسع الطريق، ودفن في تربة باب الله في أسفل التربة الوسطى من جهة الشرق، وطلب مني ولده أن أنظم له أبياتاً تكتب على القبر فقلت: همام فاضل شهم إمام ... جليل ذو مقامات شريفة ثوى في رمسه فاعجب لرمس ... حوى بحراً شمائله منيفة فوا أسفا قضى عبد الغني ... سريعاً نحبه ونحا حليفة ربيع الفضل حياً في ربيع ... بروح وارتياح مستضيفة بكاء قد أتى تاريخه زد ... لقد ماتت علوم أبي حنيفة الشيخ عبد الغني أبو محمد عز الدين بن علي بن صلاح ابن أحمد الحلبي الحنفي الحسيني العالم الأستاذ والفاضل الملاذ، والفقيه الصالح والنبيه الفالح، ولد سنة ألف ومائة وثلاثين واجتهد في الطلب والتفت إليه، وأقبل بجده واجتهاده عليه، وسمع وقرا وفهم ودرى، وأخذ عن جماعة ذوي فضالة وبراعة، منهم أبو عبد القادر صالح بن عبد الرحمن البانقوسي، فتفقه عليه وأخذ عنه الحديث، وقرأ على والده أبي محمد عبد القادر البصير، وحضر كثيراً من دروس أبي محمد مصطفى بن عبد القادر الملقي ولازمه مدة وانتفع به، وسمع من أبي العدل قاسم بن محمد النجار الجامع الصغير في الحديث. وأخذ الطريقة القادرية عن أبي عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، والطريقة الرفاعية عن أبي الحسن علي الصعيدي المصري، والطريقة الشاذلية عن أبي محمد عبد الوها بن أحمد الأزهري البشاري المصري، والطريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 السعدية عن العماد إسماعيل السعدي. وكان حريصاً على الاستفادة والإفادة، كثير التقوى والعبادة، وفي آخر أمره انقطع إلى الذكر والإرشاد وأقبل عليه المريدون من كثير من البلاد، فانتفع به كثير من الناس، ولم يزل على صلاحه وتقواه وعبادته ودعايته إلى الله، إلى أن دعته المنية، إلى المنازل العلية بعد الألف والمائتين وخمسة رحمه الله. أخي وشقيقي الشيخ عبد الغني بن المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد البيطار العالم الذي هو بكل وصف جميل متخلق، والعامل الذي هو بكل خلق كريم متحقق، روضة الفضل التي أشرقت أنوارها، ودوحة المجد التي أينعت ثمارها، وسماء العلم الذي تنورقت مشارقه ومغاربه، وأمطرت بالمعارف والعوارف سحائبه، سلك منذ نشأ منهج العلم والعمل، وملك من الكمالات ما يتعلق به الأمل، وقادته يد المعالي إلى الفضائل، وألبسته حلل المآثر وكسته أعلى الشمائل. ولد سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده، ثم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 قراءة القرآن الشريف حفظه مع الشاطبية على شيخ القراء في الديار الشامية الشيخ أحمد الحلواني، بالروايات السبع مع غاية الإتقان والتجويد، ثم قرأ على والده مدة من كتب النحو والصرف والفقه والحديث والتفسير والتوحيد والمنطق والمعاني والبيان والبديع، وحضر الكتب العظيمة كالتحفة لابن حجر والبخاري بطرفيه رواية ودراية والإحياء للغزالي وللخطيب التفسير والمختصر للسعد والمواهب اللدنية وغير ذلك. وقرأ أيضاً على الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي وعلى الشيخ سليم العطار وعلى الشيخ عبد الغني الميداني وعلى الشيخ عبد القادر الخطيب وعلى غيرهم من العلماء الأعلام والسادات العظام؛ وأخذ طريق السادة الشاذلية على المرشد الكامل السيد محمد المغربي الفاسي واشتغل به كثيراً، ودأب على مطالعة كتب القوم إلى أن طالع الفتوحات المكية مع الفهم من ابتدائها إلى انتهائها، مع ترك الانهماك على الدنيا، والزهد فيما يؤدي إلى تحصيلها، وليس له شغل سوى الإفادة والاستفادة وما يوجب له التقدم الأخروي، متباعداً عن الشهوات النفسانية، كثير التحرز مما يوجب الملام عند الله، مستقيم لأطوار، يحب العزلة عن سوى الكمل الأخيار، كثير المذاكرة، جميل المحاضرة، لطيف العبارة خصوصاً في علم الإشارة، إن حضر في جمعية لا يتكلم غالباً إلا في المسائل العلمية. قد اجتمعت معه حينما كنت مشتغلاً بترجمته، وذكر شمائله وحليته، فسألني وإن كنت لا أصلح للسؤال، وأعلم أنه مستو على درجة الكمال، عن قول السيد أحمد بن إدريس: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ورجل قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله، مرة واحدة، في القيمة يسبق ذاك! ما المقصود من هذه العبارة، هل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 هي على ظاهرها أم سلك فيها مسلك الحقيقة والإشارة؟ فطال بيننا الكلام، في هذا المقام، إلى أن قال لي: إن بعض الناس وقع من هذه العبارة في التباس، فبعضهم أنكرها وبعضهم توقف في المقصود منها وأمرني أن أكتب عليها ما يزيل حجاب الاعتراض عنها، فامتثلت أمره، وأجللت بالقبول قدره، وقلت مستعيناً بالله معتمداً على فضله وعلاه، مستمداً من فيضه العميم، أنه رؤوف رحيم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جازى عباده عن ذكرهم بذكره، ورغبهم في السؤال والدعاء بأمره، فأطمع المطيع والعاصي والداني والقاصي، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخيرة الأصفياء، وعلى آله والتابعين، وأصحابه السابقين الأولين، ما ذكر الله ذاكر وشكره على قبوله شاكر. أما بعد فيقول سيدي الشيخ الإمام أحمد بن إدريس المغربي الحسني نسباً الإدريسي من ذرية سيدنا إدريس بن عبد الله قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه: لو أطال الله عمر رجل من زمن أبينا آدم إلى قيام الساعة وهو يقول " أي بلسانه مع تصديق جنابه لكثرة الأجر والثواب والخلاص من سوء العذاب " لا إله إلا الله محمد رسول الله بدون أن يكون مستغرق القلب بالله، متخلياً عن شهود ما سواه، بل قلبه مشغول بالأمور الدنيوية، وفكره محصور بالأحوال الدنية، قد استولى على قلبه الحجاب، على سبيل الاستيعاب، فلم يبق مع ذلك لديه مطمع لتجلي الحقائق فيه، لعدم نورانيته بتراكم ظلم الحجب على عين بصيرته، لم يطلب من ذكره مع الحجاب سوى الأجر والثواب، قد غفل عن السير في مناهج الوصول، وظن أن حالته هي المنى والمأمول، مع أن أهل الله ما ألقوا نفوسهم في المهالك، وسلكوا أصعب المسالك، وفعلوا الفرائض والنوافل وذكروا الله في البكر والأصائل، إلا ليكشف لهم الحجاب ويشهدهم بعين قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 رب الأرباب، فيتمتعون بوصال المحبوب، ويحوزون على المنى والمرغوب، فهذا السائر الكامل الذي لم يكن سيره طلباً لثواب، ولا رهبة من عقاب، بل كان سيره في مقامات السائرين إلى رب العالمين. وهذه المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، وإنما انحصرت مقامات السائرين إلى الله تعالى في هذه الثلاثة، لأن الإنسان لما كان من مبدأ ظهوره في النشأة الدنيوية الحسية إلى أن يبلغ مبلغ التمييز والعقل، إنما كان الغالب عليه أحكام الطبع والجهل بمبدئه ومعاده، عاملاً بحكم طبعه وهواه ومراده، فعندما عقل وأحس بالمبدأ والمعاد وأخذ في السير من طبعه إلى ربه بحكم شرعه، إما أن يكون في مبدأ هذا السير مع غلبة حكم الطبع وغلبة اقتضاء النفس الملهمة فجورها، فهو في مقام الإسلام، وهذا مقام الذي قال لا إله إلا الله محمد رسول الله من زمن سيدنا آدم على الفرض إلى يوم القيامة. وإما أن يكون في وسطع وذلك بظهور أحكام الروح الروحانية على أحكام الطبع والنفس حتى تصير مقتضيات الأمور الحسية والإرادات الطبيعية والجهالات النفسية، مقهورة تحت روحانيته، ومقتضاها من الإرادات العقلية والإدراكات العلمية، فهو في مقام الإيمان الذي هو مقام قبول الروح لما غاب عن الحس، وهو مقام غربة النفس. وإما أن يكون في آخر سيره من نفسه إلى ربه فهو في مقام الإحسان، وذلك بأن يخلص من الاعتدال، لاستغنائه بالشهود عن الاستدلال، ولخلاصه من شتات الأسفار، بالحصول في محل القرار، فاتحدت العين بالعين، وزال الأين من البين، فحينئذ أفناه التوحيد عن توحيده، وجرده الوجود عن تجريده، فانطمست عين تكثيره في تفريده، وأشرقت شمس واحديته في تعديده، قد وحد الحق ذاته عنه، وأوصل بصفة البقاء إليه بعد الفناء لطيفة منه، فصح فيه قول من قال: توحيده إياه توحيده ... فهو الواحد الموحد لنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 تعالت واحديته سبحانه ... عن التوحيد بالتوحيد في قدسه وهذا هو المراد بقول سيدي أحمد بن إدريس: ورجل أي آخر قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله مرة واحدة في القيمة يسق ذاك لأنه قالها في حضرة الشهود حين انمحت الذات بالذات، والصفات بالصفات، وغابت العين بالعين وزال التعبير بالاثنين، حينئذ ما قالها إلا الله، ولا نطق بها سواه، وصح له أنه نطق بالكلمة الكريمة في كل لمحة ونفس، لأن ذلك وما فوقه لم يخرج عن كونه من الوسع الإلهي الذي هو عبارة عن التجلي بجميع المظاهر الوجودية والوجوبية والإمكانية والصورية والمعنوية والحكمية والأثرية والعينية والعلمية والفرضية والقولية والفعلية والحسية والتنزيهية والتشبيهية فكان عين جميع ذلك من وجه واحد من كل الوجوه، وكان غير ذلك جميعه من وجه واحد من كل الوجوه، فهو الواسع الذي قبل الضدين وتجلى بالوصفين، وكان عين الشيء وخلافه وتقيد فهو مقيد وانطلق فهو منطلق، وتقيد في الانطلاق وانطلق في التقييد فصدقت عليه جميع الاعتقادات، ووقعت عليه جميع العبارات، كلت الألسن عن حصر ما هو عليه، وانحسرت العقول السليمة عن الوصول إليه، أحاط الكون عدماً ووجوداً، ولم يحط الكون به، ووسع الأشياء كلها علماً وعيناً وذاتاً وصفات ولم يسعه شيء. أما قوله في الحديث القدسي ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن، فهذا الوسع عند المحققين إنما هو عبارة عن قبول القلب للألوهية من حيثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 لنفسه على أنه الله، وهذا المعنى لا يتسع له شيء من المخلوقات سوى قلب الإنسان الكامل لأنه مظهر الذات، وما سواه فمظاهر الأفعال والأسماء والصفات، والإنسان الكامل ولو عرف أنه هو الله وتحقق بما تحقق به من الأسماء والصفات، فإنه لا يبلغ غاية الكنه الذاتي ولا يستوفيه بوجه من الوجوه، ولهذا قال الصديق الأكبر: العجز عن درك الإدراك إدراك، وقال سيد المقربين وخاتم المرسلين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال تعالى " وما قدروا الله حق قدره " يعني المقربين والكمل المحققين من الأنبياء والمرسلين من دونهم من الأنبياء والصديقين وسائر عباد الله المؤمنين والكافرين، بل هو فرق ما عرفوه وقدره فوق ما قدروه ووراء ما دروه. فائدة في معنى " لا إله إلا الله " ليكون السالك عند قولها ملاحظاً لذلك، أي لا مستغن عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه، إلا الله تعالى، ولا شك عند العقلاء جميعاً أن الوجود الواحد الحق مستغن عن كل ما سواه من صور العالم ومقاديرها، وتعينات أرواحهم ونفوسهم، وأشباحهم وجميع أحوالهم، لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق، وجميع العوالم مفتقرة إليه لتظهر به وتتعين فيما هي متعينة به، وهذا معنى وحدة الوجود وهو معنى الكلمة الطيبة. عائدة لا بد للمريد السالك إن كان مراده الوصول، إلى مراتب أهل الحصول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 من الاشتغال بالذكر دائماً بأي نوع كان من الأذكار، وأعلاها الاسم الأعظم وهو قولك الله الله لا يزيد عليه شيئاً، لأن الله ما وصف بالكثرة شيئاً إلى الذكر، وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر، فقال " والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " وما أتى الذكر قط إلا بالاسم " الله " خاصة معرى عن التقييد فقال: " اذكروا الله ذكراً كثيراً " وما قال بكذا وقال: " ولذكر الله أكبر " ولم يقل بكذا وقال: " واذكروا الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله الله " فما قيده بأمر زائد على هذا اللفظ لأنه ذكر الخاصة من عباده الذين يحفظ الله بهم عالم الدنيا وكل دار يكونون فيها، فإذا لم يبق في الدنيا منهم أحد لم يبق للدنيا سبق حافظ يحفظها الله من أجله، فتزول وتخرب. وكم من قائل الله الله باق في ذلك الوقت لكن ما هو ذاكر بالاستحضار الذي يستحضره أهل الله، فلهذا لم يعتبر اللفظ دون الاستحضار، فعلم من ذلك أن المريد لا ينتفع بأي ذكر كان إلا مع استحضار المعنى. والأدب الذي ذكره أهل الله في رسائل السلوك من التقوى والطاعة والعبادة والعمل بما في الكتاب والسنة وغير ذلك من المجاهدات. وصل اعلم أن الطرق شتى، ولكل طريق مرشدون يدلون الناس على الطريق الموصل إلى الله ليسلكوه، ومن المعلوم أن المرشد لا بد أن يكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم من كونه يخاطب الناس على قدر أحوالهم، فيخاطب المبتدي بما لا يخاطب به السالك. ويخاطب مريد السلوك بما لا يخاطب به مريد البركة والثواب، وله أساليب متعددة في دعاية الخلق إلى الله، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 أكثر النفوس لها ميل إلى الدنيا والراحة من تكلف مشقات العبادة، ولا تهوى أن تعمل عملاً إلا بجائزة يسهل عندها القيام بالعمل، وإن الشيخ أحمد بن إدريس كان من كبار السادة المرشدين، والقادة الداعين إلى الله والمنشدين، فأتى لهم بهذه الصيغة التي تقتضي زيادتها الأخيرة زيادة ثواب لقائلها مرة، على من يقولها طول عمره من غير هذه الزيادة. وليس مقصوده اقتصار القائل على مرة في تحصيل مراده، بل مراده أن يقول للناس في ترغيبهم إذا كان قولها مرة لها من الثواب ذلك فما بالك بالذي يلازم عليها آناء الليل وأطراف النهار، فحينئذ يلازم الإنسان على تلاوتها والحجب تتمزق شيئاً بعد شيق حتى يقع الشهود القلبي، فإذا حصل الشهود استغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور، فلو ذكر العبد ربه في تلك الحضرة كان غير عارف بالأدب كما أن من كان بين يدي السلطان لا يناسبه تكرار اسمه جهراً على التوالي، بل ربما نسبوه إلى الجنون وأخرجوه من حضر السلطان لقلة أدبه، وكيف يكون منه ذلك وقد فني عن شهود السوى بحصوله في مقام الشهود، وقد ارتقى بفنائه عنه إلى مقام الوجود، فأي شيء له حينئذ وجود مع الله حتى ينفيه بتوحيده؟ ومن المعلوم أن النفي فرع الثبوت، وقد شهد هذا الكامل حينئذ أن الوجود لله وحده لا شريك له، وأن ما سواه ما شم رائحة الوجود أصلاً. مهم نقل أهل الشرع أنه لو قال إنسان لا إله إلا الله ألف مرة من غير أن يكررها وإنسان آخر قالها ألف مرة بالفعل هل يكونان متساويان؟ فأجابوا بأن كلاً منهما حصل العدد غير أن الذي قال ذلك مرة واحدة حصل له هذا العدد من غير مضاعفة، والذي كررها العدد المعلوم حصل له العدد مضاعفاً، وأمر المضاعفة شيء موكول علمه إلى الله عز وجل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 فلا يمكن إدخاله تحت حصر مخصوص، وقد علمت أن أهل الله لا يسألون عن ثواب ولا عن عقاب، بل مرادهم الوصول إلى حضرة الحكيم الوهاب، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ومن عليهم بما طلبوه جوداً وكرماً منه. نسأل الله أن يمن علينا بالمرام، وأن ينعم من فضله بحسن المبدأ والختام. وإلى هنا كان انتهاء الكلام بإذن الملك العلام، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين. حررت غرة محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وتوفي هذا الأستاذ والأخ الملاذ، ليلة الثلاثا مساء سابع عشر رجب الفرد عام خمسة عشر وثلاثمائة وألف ودفن في تربة باب الله رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الغني البقاعي الشافعي القادري الدمشقي المعروف بكل معروف والموصوف بكل فضل موصوف، كان من العلماء والسادة الفضلاء، مع عبادة وتقوى ومجاهدة في الله في السر والنجوى، وزهد وصيانة، وكمال وأمانة، وقدر وعلا، ورفعة بين الملا، واعتقاد في قلوب الناس. وكان جميل المعاشرة حسن الإيناس، وله كرامات شهيرة وخوارق كثيرة. توفي في دمشق الشام ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الفتاح بن عبد الله بن صالح الكردي الشافعي الدمشقي بقية السلف الصالح، ونخبة الخلف الناجح. أخذ عن أبيه وغيره من السادة الكرام، والقادة العلماء الأعلام، مات حادي عشر رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 عبد الفتاح بن أحمد بن الحسن الجوهري الشافعي الأزهري عالم أذعن له في العلوم العقلية والنقلية كل فاضل، وقال العارف بمراتب علمه لمن حاول تناولها: أين الثريا من يد المتناول، كان نزعة الأبصار ولمحة البصائر، وكعبة الأبرار ونفحة الأكابر، وملجأ المتعلم والمستفيد، وأول متصدر يستفاد منه فيفيد، أضاءت الدنيا بأنوار علومه، وتزينت بدرر منثوره ومنظومه. ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف ونشأ في حجر والده، وحضر دروس العلامة الملوي وبعض دروس أبيه وغيره، ولم يكن معتنياً بإظهار جلالة العلم ولم يلبس لباس الفقهاء، بل كان يعاني التجارة والكسب. ولما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وقع الاتفاق على جلوسه في مكانه وإقرائه الدروس والتفاته للطلبة، وتقدم أمره وراج قدره، واستعت دنياه. ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية في مصر، فصادرته فرنسا وأخذت منه خمس عشر ألف ريال فرنساوي، فعظمت همومه وتفاقمت غمومه، وسافر إلى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار، فأقام بها أشهراً ثم ذهب إلى شيبين الكوم بلدة أقاربه، وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرة ومائتين وألف، وذلك بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بنحو خمسة أيام، ودفن هناك في قرية شيبين. الشيخ عبد الفتاح العقري النقشبندي الخالدي المرشد الولي الفقيه العابد، والمقصد التقي الناسك الزاهد، صاحب الهمم العلية، والأخلاق المرضية، كان من أهل الاستقامة في التقوى منقطعاً إلى الله في السر والنجوى، أخذ الطريقة النقشبندية الخالدية فأحسن بها الاشتغال وقام على ساق الخدمة بها في الأيام والليالي، ثم لما رآه حضرة الأستاذ مولانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 خالد قد استعد للإرشاد وصار عنده أهلية الدعوة إلى المراد، خلفه خلافة مطلقة يعطي الطريق لمن أراد من ذوي الهمة والاستعداد. وكان رحمه الله تعالى حسن الأخلاق صافي السريرة متواضعاً متذللاً كثير الخدمة هاضماً لنفسه. توفي رضي الله تعالى عنه بعد الألف والمائتين والخمسين. الأمير الكبير السيد عبد القادر بن محي الدين الجزائري المغربي هو الهمام الكامل العارف، والإمام المتحلي بأعلى العوارف، الراسخ القدم في العلم الإلهي والكاشف عن أسرار الحقائق حتى شهدها كما هي، قد حل من طرف الفضل في سواده، وتبوأ من صدر الشرف أوج فؤاده، فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتقف عندها المطامع، فلا ريب أنه مفرد الزمان القائم مقام الجمع، المستجمع لصفات الكمالات الإنسانية لدى كل منطق وسمع، فهو البحر الذي سارت فيه سفن الأذهان فلم تدرك قراره، وعجزت أفكار النظراء وألباب البلغاء عن أن يخوضوا تياره. ما برز جواد علمه في ميدان البحث إلا وازدان على قاص ودان، ويقال لمن سأل عن حقيقة حاله ليس الخبر كالعيان. وأما جوده فهو القطر الذي عم الفجاج نتاجه، والبحر الذي طاولت الأبراج أمواجه. فلله دره من كامل قد استدارت منطقة المجد حول قطب سيادته، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء شمس سعادته. فهذا الذي تقتبس من مشكاته أنوار التقوى والصلاح، وتختلس من جانب طوره أطوار النجاة والنجاح. وحل من الشرف في طالع سعوده، واستوى على ذروة الغرف المشيدة لبذل نداه وجوده، وشهرته قد فاقت ضوء المصباح والصباح، وسيرته قد رقت فهي لسامعها الراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 المباح. ولا غرو فهو فرع الشجرة الطيبة المنابت، قد ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثوابت، تسامت بالنسبة إلى شرف النبوة أعاليها، واخضرت بماء الفتوة أدواح معانيها ومعاليها: كل المفاخر والمناقب جمعت ... فيه على الإطلاق والتقييد والمجد مقصور عليه أثيله ... والعز تحت ظلاله الممدود تلقى برؤيته المنى أو ما ترى ... عنوانه بجبينه المسعود لو تشعر الدنيا لقالت إن ذا ... مضمون أشعاري وبيت قصيدي ومع ذلك فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وليث الرماح الخطية والأقلام الفلاح. فهو لعمري الموصوف حقاً ببسط الكف ما أعرض يوماً عن بذل المعروف ولا كف. فهيهات أن يصفه الواصف وإن أطال الكلام، أو أن يحكيه العارف وإن ملأ بطون الدفاتر وبرى ألسنة الأقلام. وأما ذكر نسبه الموصول بأشرف نبي وأجل رسول، فهو التقي العابد والغازي المجاهد، الأمير عبد القادر المغربي الجزائري بن السيد محيي الدين بن السيد المصطفى بن السيد محمد بن السيد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المعروف بابن حذه مرضعته بن السيد محمد بن السيد عبد القوي بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد عبد القوي بن السيد خالد بن السيد يوسف بن السيد أحد بن السيد بشار بن السيد محمد بن السيد مسعود بن السيد طاووس بن السيد يعقوب بن السيد عبد القوي بن السيد أحمد بن السيد محمد بن السيد إدريس الأصغر بن السيد إدريس الأكبر بن السيد عبد الله بن السيد الحسن المثنى بن السيد الحسن السبط بن السيد علي بن أبي طالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 وفاطمة الزهراء بنت سيد العالمين، وإمام الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم: نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا وقد نظم هذا النسب الشريف صاحب المقام العالي المنيف السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق الشام رحمه الله تعالى فقال: يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه ... حاشا علاكم بأن الخلف يعقبه حيا فأحيا ظنوناً غير نائية ... لولاه كانت قضت مما تراقبه وافى البشير به والفكر في قلق ... والقلب في حرق هم يقلبه والجفن في أرق والعين في غرق ... والصبر في فرق كرب يداعبه ومذ تفوه قام الحزن مرتحلاً ... عنا بعسكر لوم لست أنحبه وباشر البشر في ضرب الخيام على ... قاع السرور فكم ذا كنت أرقبه فالحمد لله حيث الفضل في ملك ... مسلسل الأصل يعلو حين تنسبه العالم العامل الغازي أخو ورع ... الزاهد المنتقى للخير ينتبه السيد الفرد عبد القادر الحسني ... من سيفه ملك الإفرنج يرهبه نجل المحقق محيي الدين سيدنا ... من ضاء من علمه شرق ومغربه ابن الإمام الهمام المصطفى كرماً ... من كل محمدة في الكون تطربه ابن الممجد ركن العز أوحدهم ... محمد من غدا في الحمد مذهبه ابن الهمام هو المختار قدوتنا ... عند الثريا مقاماً كنت تحسبه ابن السميدع عبد القادر الورع المز ... دان بالقدر رفعاً لست تنصبه ابن الشريف هو المختار أحمد من ... فعل المحامد والإحسان مشربه ابن الممجد عبد القادر الحسن ال ... أخلاق فوق الدراري كان مطلبه ابن المسمى بحذه عند نسبتهم ... أخدوده واصل لله راكبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 ابن التقي الذي سموه أحمد من ... وسائط الحمد للتوفيق تجذبه ابن الذي مر في عز وفي شرف ... محمد من لذيل الفخر يسحبه ابن المسمى بعبد للقوي لما ... أبداه في دين مولاه تصلبه ابن الكريم علي من سما عظماً ... حتى غدا في علاه البدر يرقبه ابن الجواد العفيف السمح أحمد من ... أعي اليراع لفضل فيه حاسبه وهو ابن عبد القوي الله سدده ... قواه في ضمن تقواه تقربه ابن الذي خلد الفردوس خالدهم ... فالحور في روضة الرضوان تخطبه ابن السمي إلى الصديق يوسف من ... قميصه من عفاف قد جاذبه ابن الهمام جليل القدر أحمد من ... ساد المعالي بطرق المجد يركبه ابن المبجل بشار الكرام ومن ... سمت لدى الخلق بالبشرى مراتبه ابن المكرم فرع المجد واحده ... محمد من صفات الحمد تصحبه ابن المهذب مسعود الطوالع من ... في الشرق والغرب لا يخشى تحجبه ابن المفاخر طاووس بنسبته ... إلى المعالي ولا عجب يصاحبه ابن المسمى إلى يعقوب سيدنا ... من صبره لم تضق فيه مذاهبه ابن الشديد لأمر الله قدوتنا ... عبد القوي فذا يحلو تعصبه ابن الكريم المفدى ذاك أحمد من ... ركن المعالي به تسمو جوانبه ابن المعظم نسل الملك قسوره ... محمد من سمت فينا رغائبه ابن المتوج تاج الملك في رحم ... إدريس أصغرهم تزهو كتائبه ابن المسمى بإدريس المليك فكم ... خاض المفاخر فيه الدهر أشهبه ابن المكمل عبد الله كاملهم ... من حصر أوصافه يعيي تطلبه ابن الإمام المثنى فضله حسن ... من جمع إحسانه ما لست أكتبه وهو ابن سبط الرسول المنتقى حسن ... من كان سيده المختار ناسبه وهو ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ... طراً كما الأخبار تعربه وهي ابنة الخاتم الهادي محمدنا ... من شرف السلك في الأنساب كوكبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 صلى عليه مع التسليم خالقنا ... ما ضاء في العالم العلوي موكبه والآل والصحب ما أرخت أي وطر ... يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه ولد رضي الله عنه وأرضاه في القيطنة من أعمال معسكر بالمغرب الأوسط يوم الجمعة الثالث والعشرين من رجب سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية، ونشأ رحمه الله تعالى في حجر والده إلى أن شب بالعفة والصيانة والطاعة والأمانة مرضي الحال محمود الأقوال والأفعال، مشهوراً بين أقرانه بالجد والاجتهاد دائباً على المطالعة والحفظ والرياضة والانفراد، قد ظهرت عليه من صغره لوائح الفلاح، وتقلد منذ تمييزه بمقاليد الصلاح والنجاح، وأخذ الفقه عن والده عمدة المحققين إمام الكل في الكل السيد محيي الدين، والفقه وغيره عن غيره من العلماء والسادة القادة الفضلاء، ثم رحل للطلب إلى هوران، فأخذ عن علمائها ذوي الإتقان. وكان يحفظ أكثر البخاري متضلعاً باللغة العربية، وله بذلك وبغيره اليد العلية، ولم يزل يكرع من شراب العلم كؤوساً روية، ويلبس للجولان في ميدان القيام بأنواع العبادات دروعاً قوية، وعين الرعاية ترعاه وتساعده على ما قصده وعناه، ويد الرفعة تشير إليه وتطرح تقاليد السعادة بين يديه، إلى أن صار عين زمانه وحدقة إنسان عصره وأوانه، وقد افتخر به من خلف على من تقدم من الأعلام وسلف، ومع ذلك فكان ذا شجاعة علوية، وأخلاق وأوصاف محمدية. ولما قصد حضرة والده البلاد الحجازية، أخذه معه للتشرف بتلك الأماكن والأخذ عن ذوي المراتب الألمعية، فمشى مع والده براً إلى تونس، ثم ركب معه البحر إلى الإسكندرية، ومنها سار إلى مصر ثم إلى السويس فركب معه إلى جدة ومنها إلى مكة، فحج مع والده وزار واعتمر وأدى بقية المناسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 كما أخبر النبي وأمر، ثم سار معه إلى المدينة المنورة، فزار قبر جده الشريف وصلى بالمسجد النبوي المنيف، ثم سار معه إلى دمشق الشام، فأقام بها مدة وأخذ عن علمائها السادة الأعلام، كما أخذ عن أهل غيرها ممن مر عليهم في طريقه، غير أنه قد استقام في دمشق الشام مدة، قد بذل بها في طريق النقشية اجتهاده وجده، ثم سار إلى مدينة بغداد لزيارة السيد عبد القادر الجيلاني كعبة الإسعاد، فتكمل بهذه الرحلة، ونال ممن اجتمع بهم من ذوي الفضل كل نحلة، ولبس الخرقة القادرية من يد الأستاذ نقيب الأشراف وخليفة السيد عبد القادر سيدي السيد محمود القادري ذي الفضل الباهر، ثم رجع إلى مكة المشرفة مرة ثانية فحج وزار وتبرك بتلك الآثار السامية، ثم رجع مع والده إلى الأوطان وحالها مضمحل معدوم الراحة والأمان، وقد طال عليهم الأمد وتوالى عليهم الكرب والنكد، وتطاولت إليهم يد الأجانب، وأحاط بهم الهم والغم من كل جانب، وكثر بينهم الفساد وانحازت طوائفهم نحو التخالف والعناد، فتارة يرون كف العدو فرضاً، وتارة يحارب بعضهم بعضاَ، وقد يئسوا من نجدة الدولة العثمانية التي لها عليهم السيادة الحقية، وظهر لهم عجز جارهم سلطان المغرب الأقصى، وبحر الفتن لديهم لا تحد أمواجه ولا تحصى، فاجتمع العلماء والأشراف وأعيان القبائل من العرب وذوي الإنصاف، وقدموا على حضرة والد المترجم السيد محيي الدين وألزموه إما أن يقبل بيعتهم على الملك لنفسه وإما أن يقبلها لولده المترجم المرقوم، ولم يقبلوا له من اعتذار بل أصروا عليه غاية الإصرار، فنظر في هذا الأمر فوجد الاهتمام به واجباً، وقد خطبته هذه الإمارة ولم يكن لها طالباً. بيد أنه لا يقدر على القيام بها بنفسه لكبر سنه وعجزه، فاختار لها ولده المترجم المذكور ذا الفضل الباهر والمشهور، حيث أنه بلغ أشده ونال من الكمال حده، وترشح للإمامة وتأهل لها، حتى لم تكن تصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 إلا له ولا يصلح إلا لها، لما كان محتوياً عليه من علو الهمة واستقامة الأطوار، وقوة الملكة وتحمل المكاره وحسن الاصطبار، والشجاعة والعلم والسماحة والحلم، والقوة والعزم والإزماع والحزم، والنباهة والتيقظ والمواراة من المخاوف والتحفظ، والعبادة والتقوى في السر والنجوى، إلى غير ذلك من أنواع الفضائل وبديع الشمائل، التي لا بد للملك منها ولا غنى له عنها. فلما علموا من والده الشريف الإجابة ورأوا ما عند المترجم من البسالة والنجابة، نادى المنادون بلا توان باجتماع الأكابر والأعيان. فاجتمع العلماء والأشراف، وأهل الصولة من الأطراف، وكان اجتماعهم بوادي فروحه من غريس فجلس سيدي المترجم تحت دردارة هناك عظيمة، وتقدم والده إليه فبايعه ثم بايعه الناس بيعة عميمة. وفي الحال لقبه والده بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبو جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية. هـ بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبو جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية. فداء الجزائر قد ابتدأ منذ انخرم أمر الينكشارية في القسطنطينية التي هي مقر الدولة العامة، ونشأ عنه ما نشأ من فساد الإدارة والولاة، إلى أن أصيبت عدة جهات وباء حسين باشا بالخزي، وأثم الظلم والخراب والتهور الذي كان أعظم النكبات، وانتقلت حالة الجزائر بل وحالة السياسة في شطوط إفريقية الشمالية إلى طور آخر انتهى. وكان مبدأ استيلاء فرانسا على الجزائر سنة ست وأربعين ومائتين وألف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 في مدة كارلوس العاشر ملك فرانسا، وتمكن الفرانسيس أولاً من القاعدة وما حولها، لكن بقية الجهات أصروا على الامتناع من الطاعة لفرانسا، لأنها إنما أرادت الانتقام من الوالي حسين باشا وقد حصل، فالجهات الشرقية من القطر انفرد بالحكم فيها الحاج أحمد باي قسنطينة، والجهات الجنوبية والغربية تشتت تحت رؤساء القبائل، ورام الفرنساويون محاولة تطويعهم بالرفق بأن يتولى الأمر في وهران والي تونس، بإرسال أحد عائلته أو أحد متوظفيه، فأرسل والي تونس واحداً من جهته ومعه شرذمة من الحرس، فلم ينفذ أمره في مدين وهران فضلاً عن خارجها، فرجع من حيث أتى. ثم أجمعت الجهات الغربية والجنوبية على مبايعة الرجل الوحيد سلالة النسل المطهر الأمير السيد عبد القادر الجزائري بن محي الدين الحسني، وقام لله حق القيام وصحبته النصرة الإلهية في كثير من الوقائع، إلى أن كان في بعضها ما هو خارق للعادة من الكرامات، كطفر فرسه الأزرق به ستين متراً وحين أحاطت به العساكر الفرانساوية كالحلقة، وراموا مسكه باليد فطفر به فرسه على رؤوس العساكر وأسلحتهم ذلك المدى ونجا راكضاً إلى منعته، ودام محارباً لهم نحو سبع عشرة سنة، واستقامت له حكومة ضرب فيها السكة باسمه وأنشأ المدافع والبنادق ونفذ أمره وخشيته فرانسا، وأرسل إلى الحاج أحمد باي ليتحدا ويكونا يداً واحدة، فامتنع تجبراً وطغياناً، وكان ذلك سبباً لتأخر أمره وحطته وغدره، وتنكيس أعلامه واستيلاء الفرانساوية على ما كان تحت أحكامه. وبقي الأمير السيد عبد القادر مدافعاً ومهاجماً إلى أن سولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الاتحاد مع الفرنسيس على محاربة الأمير السيد المشار إليه، وقطع عنه سلطان المغرب خط التجائه إلى جهات الصحراء، فاضطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 حضرة الأمير إلى التسليم للفرنسيس، بعد المشاورة مع وكلائه ووزرائه وأمرائه، حيث سدت المناهج والمسالك وعز الخلاص، ولات حين مناص: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها فأرسل المترجم رسوله إلى قائد الفرنساويين بالميل إلى التسليم، على شروط أرسلها له في رقيم، فقبلها القائد وأظهر الفرح، وزال عنه الغم والترح، ووجه إلى المترجم هدية ذات شان، مفيدة للتودد والأمان، وصدق له على عهده، وأظهر له من الاحتفال غاية جهده. ثم بعد أيام نزل بعائلته ومن معه من خاصته في البارجة الحربية إلى أن وصل إلى دينة أمبواز وبداخلها صرايا عظيمة حصينة، فوضع المترجم بها هو ومن معه، وكان ذلك في شعبان سنة ألف ومائتين وأربع وستين، ثم نقل الأمير منها إلى مدينة بوردو، ثم إلى مدينة نانت، ولما فصل رئيس جمهورية فرانسا وتولاه البرنس لويس نابليون، فاجتهد غاية الاجتهاد وسلك مناهج السداد، في تخليص الأمير من سجنه، وتسريحه إلى مكان يحول بينه وبين كدره وحزنه، فلم يزل يوجه إليه الرسائل، ويعمل في الحضور لديه الوسائل، إلى أن توجه نابليون إلى امبواز، ووعده بالوفاء بالعهد على الحقيقة لا المجاز، وقال له إنك بعد أيام تكون في باريز عاصمة ملكنا، ويكون لك كمال القدر عندنا، وكان قد أقام في امبواز أربع سنوات، فما مضى قليل من الأيام إلا وجاء الأمر بحضور الأمير إلى باريز بالجلالة والاحترام، فدخل في موكب لم يكن لغيره، وساق الله إليه جميل بره وإحسانه وخيره. ولم يزل في عز واحترام وجلالة وإعظام. يدور حيث شاء ويجتمع مع الأكابر والعظماء، إلى أن صدر الأمر من الذات الإمبراطورية بتسريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 حضرته الآستانة العلية، وذلك في ربيع الأول سنة تسع وستين ومائتين وألف، فسافر هو ومن معه إلى الآستانة ولا يمر في طريقه على بلدة إلا ويتلقاه أهلها بالحبور وغاية السرور إلى أن وصل إلى الآستانة دار الخلافة العثمانية، واجتمع بأمير المؤمنين مولانا السلطان عبد المجيد فأجله وعظمه وأكبره واحترمه، وقال له أنت صاحب الرأي في سكناك في أل محل شئت من الممالك العثمانية والبلاد الإسلامية، فخرج من عنده حامداً شاكراً، داعياً له بدوام السعادة أولاً وآخراً، وأنشأ هذه القصيدة وقدمها لحضرته العالية السعيدة، وهي: الحمد لله تعظيماً وإجلالا ... ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالا والشكر لله إذ لم ينصرم أجلي ... حتى وصلت بأهل الدين إيصالا وما أتت نفحات الخير ناسخة ... من المكاره أنواعاً وأشكالا وامتد عمري إلى أن نلت من سندي ... خليفة الله أفياء وأظلالا فالله أكرمني حقاً وأسعدني ... وحط عني أوزاراً وأثقالا قد طال ما طمحت نفسي وما ظفرت ... لكن للوصل أوقاتاً وآجالا اسكن فؤادي وقر الآن في جسدي ... فقد وصلت بحزب الله أحبالا هذا المرام الذي قد كنت تأمله ... هذا مناك فطب حالاً بما آلا وعش هنيئاً فأنت اليوم آمن من ... حمام مكة إحراماً وإحلالا فأنت تحت لواء المجد مغتبطاً ... في حضرة جمعت قطباً وأبدالا وته دلالاً وهذا العطف من طرب ... وغن وارقص وجر الذيل مختالا آمنت من كل مكروه ومظلمة ... فبح بما شئت تفصيلاً وإجمالا هذا مقام التهاني قد حللت به ... فارتع ولا تخش بعد اليوم أنكالا وابشر بقرب أمير المؤمنين ومن ... قد أكمل الله فيه الدين إكمالا عبد المجيد حوى مجداً وعز علاً ... وجل قدراً كما قد عم أفضالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 كهف الخلافة كافيها وكافلها ... من لا عهدنا له في القرن أمثالا يا رب فاشدد على الأعداء وطأته ... واحفظ حماه وزده منك إجلالا واظهرن حزبه في كل متجه ... وسددن منه أقوالاً وأفعالا وابسط يديه على الغبراء قاطبة ... وذللن كل من في لأرض إذلالا فالمسلمون بأقصى الغرب طامحة ... أبصارهم نحو يرجون إقبالا كم خائف يرتجي أمناً بسطوته ... وحائر يرتجي للحزن تسهالا فرع الخلافة وابن الأكرمين ومن ... شادوا عرا الدين أركاناً وأطلالا كم أزمة فرجوا كم غمة كشفوا ... كم فككوا عن رقاب الخلق أغلالا هم رحمة لبني الإيمان سائرهم ... هم الوقاية أسواء وأهوالا أنصار دين النبي بعد غيبته ... في نصره بذلوا نفساً وأموالا قد خصهم ربهم في خير منقبة ... ما خص صحباً بها قبلاً ولا آلا كم حاول الصحب والآل الكرام لها ... والله يختص من قد شاء إفضالا ما زال في كل عصر منهم خلف ... يحمي الشريعة أقوالاً وأفعالا حتى أتى دهرنا في خير منتخب ... من آل عثمان أملاكاً وأقيالا قد كنت مضمر خفض ثم أكسبني ... رفعاً وقد عمني جوداً وأفضالا وبالإضافة بعد القطع عرفني ... وقد نفى عني تصغيراً وإعلالا هذا وحق علاه منتهى أملي ... قد حط عني بمحض الفضل أثقالا لا زال تخدمه نفسي وأمدحه ... مستغرق الدهر أبكاراً وآصالا أهدي مديحي وحمدي ما حييت له ... أفادني أنعماً جلت وإقبالا جزاه عني إله العرش أفضل ما ... جازى به محسناً يوماً ومفضالا ولم تزل الباخرة واقفة على الآستانة عشرة أيام، وهو في كل يوم يزور الكبراء والعظماء والوكلاء ويزورونه، وقد كفله السلطان عبد المجيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 حينما طلبت دولة فرانسا من السلطان المومى إليه أن يكفله، وبعد أن استقام عشرة أيام، والطعام في كل يوم يأتيه من السرايا إلى الباخرة، توجه إلى بروسة فدخلها يوم الاثنين السابع من ربيع الثاني سنة 1269 وتلقاه واليها خليل باشا صهر الذات الشاهانه ومعه العلماء والوزراء والكبراء، ثم أنه لم يستقر به الأمر أياماً حتى جاء عنده خليل باشا بأمر السلطان المعظم يخبره بأن مراد الدولة العلية أن تعين له معاشاً يكفيه مع الاتساع هو ومن يلوذ به، فسر المترجم بذلك، ووجه لأمير المؤمنين ما يليق من الدعوات، غير أنه اعتذر بأن إمبراطور فرنسا قد عين له ما يكفيه ويكفي من معه، وأما حضرة أمير المؤمنين فإن ما أسداه إليه من كفالته عند فرنسا فإنها هي المنة التي لا تقابلها منة، حيث أنه لولاها لم يتيسر له الخروج من بلاد فرنسا. ثم أنه لما رأى ما عرا هذه المدينة من كثرة الزلازل، ورأى أن جماعته قد ضاقت صدورهم من الإقامة بها، وقد تحسن عندهم تبعاً لسعادة الأميرة الرحلة إلى دمشق الشام، فسافر إلى الآستانة أول ذي الحجة سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، ثم إلى باريز فتلقاه الإمبراطور ورجال الدولة بكل عظمة وإجلال، ثم رجع إلى الآستانة وقدم الاستئذان من الباب العالي بالرخصة له أن يرحل إلى دمشق الشام، فصدرت أوامر الدولة العلية لمحمود نديم باشا والي دمشق بالاستعداد لقدومه، وإعداد محل لائق به. ثم أن الأمير المرقوم غب حضور الإذن رجع إلى بروسة، وفي خامس ربيع الثاني خرج منها بمن معه وكانوا مائتين نفس فركب بهم باخرة فرنساوية إلى بيروت، فاستقبله الخاص والعام واهتزت لقدومه أنحاء الشام، وبقي قليلاً من الأيام ثم رحل ودخل الشام، وكان قد خرج للقائه أهل البلد، ولا يبعد أن يقال ما شذ منهم أحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 فتألف الكبير والصغير وشملهم بامتنانه وبشره الغزير، ثم بعد أن استراح من السفر وزال عنه النصب والكدر، توجه إلى بيت المقدس للزيارة الشريفة، وكان ذهابه من طريق صفد، وإيابه من طريق حوران، تتميماً للزيارات الواقعات في الطريقين وذلك سنة 1273. وبعد ذلك في رمضان من تلك السنة، قرأ في المدرسة الأشرفية المشهورة بدار الحديث الواقعة في العصرونية صحيح الإمام الحافظ المجتهد أبي عبد الله البخاري، وكان ختامه في اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف. وفي نصف ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وست وسبعين حينما وقعت الحادثة الكبرى في نصارى الشام، وكان قد تعدى عليهم بعض الأشقياء المتوحشين فقتلوا وأضرموا النيران في أملاكهم ونهبوا متاعهم، فحصل من الأمير المرقوم ما يدل على كمال غيرته ومروءته وتمدنه من خلاصهم والإحسان إليهم، وبذل كمال المعروف، وقد كافأه حضرة أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان بالكتاب الذي أرسله إليه بخطاب التفخيم والاحترام، مع النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، وتواردت عليه كتابات بقية الملوك مع النياشين ذوات الفخر والقدر. وتفصيل ذلك مذكور في كتاب مناقب المترجم من تأليف ولده المحترم سعادة محمد باشا الذي سماه بالكوكب الزاهر، في أخبار الأمير عبد القادر. وفي سنة سبع وسبعين ومائتين وألف توجه إلى حمص وحماه وغيرهما بقصد الزيارة للمشاهد العظيمة، ولما وصل إلى حماة ونزل في طيارة بني الكيلاني، ورأى الناعورة أنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 وناعورة ناشدتها عن حنينها ... حنين الحوار والدموع تسيل فقالت وأبدت عذرها بمقالها ... وللصدق آيات عليه دليل الست تراني ألقم الثدي لحظة ... وادفع عنه والبلاء طويل وحالي لحال العشق بات محالفاً ... يدور بدار الحب وهو ذليل يطأطئ حزناً رأسه بتذلل ... ويرفع أخرى والعويل عويل وفي أول رجب سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين توجه إلى الحجاز من جهة البحر، فنزل من بيروت إلى الإسكندرية ثم إلى مصر، بكل عز وإكرام، ثم إلى مكة، وبعد أيام أخذ الطريقة الشاذلية عن العارف بالله الشيخ محمد الفاسي واختلى مدة في غار حراء فبلغ مطلوبه ونال مرغوبه، وفتحت له كنوز الأسرار وكشف له عن رموز الستار، وبرقت له البوارق ووردت عليه الواردات من المنهل الرائق، وبعد خروجه من غار حراء، توجه إلى الطائف الشريف فمكث هناك نحو ثلاثة أشهر، وهو على اشتغاله واجتهاده في الطريق، ونظم هناك قصيدته التي يذكر بها بدايته ونهايته، ويمدح بها شيخه ويذكر خلافته وولايته، وأولها: أمسعود جاء السعد والخير واليسر ... وولت جيوس النحس ليس لها ذكر إلى أن قال: أتاني مربي العارفين بنفسه ... ولا عجب فالعسر من بعده يسر وأعني به شيخي الإمام وعدتي ... لهيبته تغضي له الأسد والنمر محمد الفاسي له من محمد ... كمال الرضى والحال والشيم الغر أبو حسن لو قد رآه أحبه ... وقال له أنت الخليفة يا بحر إلى آخرها، وهي طويلة ذكر بها أسراراً وأموراً تدل على بعض ما حصل له من الفتح الرحماني والكشف الصمداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 وفي أول يوم من جرب سنة ثمانين ومائتين وألف، توجه إلى المدينة المنورة من طريق جدة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من جرب، واستقبله أشرافها وحكامها وعلماؤها، ثم بعد مدة طلب من حضرة الهمام الشريف صاحب المقام المنيف السيد أحمد أسعد أن يهيء له محلاً يختلي فيه للعبادة مدة، فهيأ له المحل الذي كان لسيدنا الصديق قدس الله سره وبابه من المسجد الشريف، فاختلى فيه شهرين، وحصل له ما حصل ووصل إلى ما إليه وصل، ولم يزل في المدينة الشريفة والبلدة المنفية، إلى أن حضر ركب الشام فتوجه معه إلى مكة والبلد الحرام، وبعد إتمام حجه توجه إلى جده في الرابع عشر من ذي الحجة الحرام، وفي التاسع عشر ركب في الوابور المصري، ولم يزل تستقبله الولاة والكبراء والعلماء والوزراء، إلى أن دخل دمشق الشام، في التاسع عشر من المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف فاستقبله الخاص والعام، فقابلهم كعادته بالبشر والسرور والفرح والحبور، وبعد استراحته من رحلته وسياحته سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف، عزم على السفر إلى الآستانة لزيارة الخليفة الأعظم والسلطان الأفخم، مولانا السلطان عبد العزيز خان، فقابلته الدولة بما لاق وعاملته بما اشتهر في الآفاق، وأتاه حضرة الصدر الأعظم من طرف أمير المؤمنين بالنيشان العثماني من الرتبة الأولى، وكان إذ ذاك مسند الصدارة العظمى حضرة فؤاد باشا. وفي تلك الأيام قدم المترجم الرجا والشفاعة لحضرة أمير المؤمنين في تسريح الذوات الشاميين المنفيين إلى قبرص وردس فقبلت شفاعته وخرج الأمر العالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 بتسريحهم، وقد تعرض لذلك العالم الجليل والفاضل النبيل، مفتي اللاذقية السيد عبد الرزاق أفندي فتاحي الحسيني في موشحه الذي قدمه لحضرة مولانا المترجم المرقوم وهو: سلت لفتكي من الأحداث هنديا ... خود حكى قدها بالميل خطيا دور رشيقة القد بالأعطاف تسبيني ... تسمو بطلعتها حسناً على العين رضابها العذب منه الرشف يحييني ... وقد دعاني بفرط الوجد مسميا دور يا بانة اللطف كم ذا تهجرين الصب ... مني بطيب اللقا وارعي حقوق الحب متى تجودين يا أخذ المها بالقرب ... لمغرم قد غدا بالشوق مضنيا دور ما لي إذا ما جفا الأحباب أو بعدوا ... سوى الأمير الذي وافى به الرشد السيد الشهم عبد القادر السنة ... مولى غدا عرفه في الكون عطريا دور سليل ذي الفضل محي الدين والحسن ... في نسبة منتهاها صاحب السنن بدر الجزائر من وافى على سنن ... غدا به عند رب العرض مرضيا دور في فتنة الشام كم وفى من الهمم ... حتى حكى صنعه ناراً على علم وقد حبته ملوك الأرض بالنعم ... وللفخار نياشيناً زهت زيا دور وقد أتم صنيع الخير حيث سرى ... لباب سلطاننا الأسمى الرفيع ذرا يرجوه إطلاق من في النفي فاعتبرا ... منه المقام وبالبشرى له حيا دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 وقد بلغنا جميعاً غاية الأمل ... بحسن إقدام هذا السيد البطل من فاق فينا بحسن العلم والعمل ... لا زال دهراً من الأسواء محميا وله في ذلك أيضاً: بشرى فقد نلنا المنى ... والغم زال والعنا دور الله عودنا الجميل ... من فيض إحسان جزيل لا بد للخطب الجليل ... من منحة فيها الهنا دور كم شدة ذاب الفؤاد ... منها وجافانا السهاد قد حفها لطف فعاد ... فيها لنا يسر دنا دور صبراً أخا العقل السليم ... ورضى بتقدير الحكيم فالله ذو الفضل العظيم ... فبفضله قد عمنا دور بالصبر قد حزنا الفرج ... وبه لنا فاح الأرج والغم زال كذا الحرج ... مع كل كرب أحزنا دور قد فاز عبد القادر ... رب الكمال الباهر بجزيل أجر وافر ... لما بذا الخير اعتنى دور بدر الجزائر ذو العلا ... من فاق قدراً في الملا بحر لوراد حلا ... وفي العطا مولى الغنا دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 ليث الوغى رب الندى ... سامي الذرا شمس الهدى أهل التقى نور بدا ... يمحو الدياجي بالسنا دور في فتنة الشام الشريف ... قد سكن الخطب المخيف بحزمه الوافي المنيف ... خف البلا عن قطرنا دور للوسع أضحى باذلاً ... وقد رقى منازلا وله الملوك عاجلاً ... أهدوا نياشين الثنا دور ثم انتضى العزم الوفي ... لرد من منا نفي فنحا حمى الليث الصفي ... بدر الملوك عزنا دور سلطاننا عبد العزيز ... غوث الملا الحرز الحريز سامي الذرى الغوث المجيز ... من بالمراد أمدنا دور إلى حماه قد ورد ... قد فاز منه بالمدد وأجابه فيما قصد ... وعفا له عمن جنى دور وحباه نيشان افتخار ... وأحله أوج الوقار فسما له ذكر وسار ... مع ما من الخير اقتنى دور ندعوك رب العالمين ... بالمصطفى طه الأمين أيد أمير المؤمنين ... سلطاننا غوث الدنا دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 واعطف بفضل وافر ... للشهم عبد القادر سبط النبي الطاهر ... من قد هدانا سبلنا دور واحفظ لنا أشباله ... وامنحهم إقباله يسر له آماله ... وافتح له يا ربنا وبعد أن أقام حضرة الأمير المترجم مدة شهرين في الآستانة، توجه إلى فرنسا فاهتز القطر لقدومه، وتحرك لاستقباله ركن العاصمة من حاكمه ومحكومه، ونال من القدر أعلاه ومن الاحتفال أجلاه وأولاه. وقابل الإمبراطور نابليون وجلس معه ساعة وبذل له من الاحترام اتساعه، ثم بعد أيام رحل إلى لوندرا مملكة الإنكليز، وحصل له من الدولة والأهالي كل قدر عزيز، ثم بعد تمام اطلاعه على تلك المحلات رجع إلى باريز، وغب وداع الإمبراطور ورجال الدولة توجه إلى وطنه دمشق الشام، وكان قد زيد له في معاشة في كل سنة خمسون ألف فرنك، فصار جملة معاشه في كل شهر ستمائة ليرة فرنساوية، اثنا عشر ألف فرنك، ولا زال في طريق رجوعه إلى الشام إلى أن وصلها، لا يمر على بلدة إلا ويقابل بكل مقام عال، ولما أقبل على الشام خرج أكابرها وعلماؤها لاستقباله والسلام عليه، فعاملهم بأحسن معاملة ولاطفهم غاية الملاطفة، وكان يحادثهم بما أنعم الله به علي تحدثا بنعمة الله تعالى. وفي تشرين الثاني سنة ألف وثمانمائة وتسع وستين الموافق سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين، دعي إلى حضور فتح خليج السويس كما دعي إلى ذلك أعيان العالم، فاجتمع في مصر بإمبراطورة فرنسا وكان له منها الاحتفال العظيم والالتفات الجسيم، ثم عاد إلى الشام بعد مدة قريبة. وفي سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، خرج ومعه بعض أولاده السادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 وبعض خواصه وخدمه إلى طبرية وصفد ونواحيهما للتنزه والفرجة، وكان الوقت وقت الربيع، وأقام في تلك الرحلة نحو أربعين يوماً، وكان لي بحمد الله منه الحظ الأوفى والالتفات الأجدى الأجدر، والعناية العالية والبشاشة السامية، وحضرت عليه مع من حضر كتاب فتوحات الشيخ الأكبر، ورسالة عقلة المستوفز له، وكتاب المواقف للمترجم المرقوم، وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه ونسبت إليه. وكنا لا يرد علينا إشكال من آية أو حديث أو غير ذلك إلا وأجاب عنه بأحسن جواب، من فتح الملك الوهاب، وكان في كل مدة قليلة يدعونا إلى بعض محلاته خارج البلد، فكان يدخل علينا كل سرور ويفرغ علينا كل حبور، وفي كل سنة في أيام الصيف كان يخرج إلى قصره في أرض دمر، فكان يأمرني بالخروج معه، ولا زلت ملازماً لها إلى أن توفي. وفي غرة رجب سنة ألف وثلاثمائة ابتدأه مرض المثانة وحصر البول، ولا زال يقوى عليه إلى الساعة السابعة من ليلة السبت التاسع عشر من رجب، فدعاه مولاه إلى جنابه وفسيح رحابه، وذلك في قصره في قرية دمر، فلما أصبح الصباح ماج الناس بالعويل والصياح. ونقل في عربته من قصره في دمر إلى داره في الشام، ثم غسل في داره بحضرة العلماء الأعلام، وصلي عليه في جامع بني أمية في مشهد لم يسبق لمثله، وخرج معه الناس أجمع مع الخضوع والتذلل، إلى أن دفن في الصالحية من دمشق في مدفن الشيخ الأكبر محي الدين العربي شمالي قبره الشريف، ليس بينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 وبين الحائط الشمالي قبر آخر وكتب على بلاطة القبر الشريف من نظم الأخ الفاضل عبد المجيد أفندي الخاني: لله أفق صار مشرق دارتي ... قمرين هلا من ديار المغرب الشيخ محيي الدين ختم الأوليا ... قمر الفتوحات الفريد المشرب والفرد عبد القادر الحسني الأمير ... قمر المواقف ذا الولي ابن النبي من نال مع أعلى رفيق أرخوا ... أزكى مقامات الشهود الأقرب في تاسع عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وقد رثاه كثير من العلماء الأعلام والشعراء الأدباء الكرام، منهم العلامة محمد إسحق أفندي الأدهمي الطرابلسي: قامت عليك قيامة العلماء ... يا سيد العلماء والأمراء وبكتك أجفان المكارم والعلا ... يوم النوى ممزوجة بدماء هذا مصاب ما أصيب بمثله الإسلام بعد السادة الخلفاء من لليتامى والأرامل يا ترى ... بعد الأمير ومن إلى الفقراء ومن الذي يولي الجميل تفضلاً ... ويجود بالصفراء والبيضاء ومن الذي يرجى لهذا الدين إن ... خفنا عليه سطوة الأعداء من للمساجد والرياضات التي ... أرضيت فيها عالم السراء تالله من بعد الأمير المرتضى ... ما ثم إلا كاشف الضراء مات الأمير السيد الحسني عبد القادر ابن السادة الكرماء أسفي على قمر بأفق سما العلا ... قد كان يحلف غرة الظلماء القانت الأواب من أحيت موا ... قفه لنا العربي ذاك الطائي علامة الآفاق ذاك العارف الغو ... ث المعظم بضعة الزهراء أسفي على من كان يستسقى به ... صوب الغمام وصيب الأنواء إلى أن قال: أما الأمير فقد غدا في جنة ... المأوى وجاور أكرم الكرماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 وغدا ينادي نلت ما أملته ... من خالقي وبلغت كل مناء وسعادة الدارين حزت فأرخوا ... طيباً بحسن الظن من مولائي سنة 1300 وهي قصيدة طويلة تزيد على ثمانين بيتاً. ورثاه أيضاً الشيخ طاهر أفندي المغربي السمعوني فقال: خطب جسيم عم بالأكدار ... ما بعده لسواه من مقدار لو يعتري صم الجبال لأصبحت ... دكاً تنثر مثل نثر غبار ولو اعترى نوع النبات لما نما ... ولصار مثل الترب والأحجار إلى أن قال: لو كان في الموت الفداء فداه ... م كل سميدع ندب من الأحرار لكنه أمر على كل الورى ... متحتم في سابق الأقدار إلى آخرها. وممن رثاه حسن أفندي بيهم البيروتي: بأي جناح سامنا صرفه الدهر ... أم الدهر خب من خلائقه الغدر وعن حسد ما انتابنا من خطوبه ... وما نابنا إلا الخديعة والمكر هو الدهر لم يحسن لمن كان قبلنا ... ولا يرتجى خير الذي طبعه الشر يمد لنا بالنائبات أكفه ... أليس لهذا المد عن مسنا جزر ويبغي ولا يبغي البقاء لغيره ... ولا بد يوماً أن يذوق الردى الدهر ويحسدنا في كل شهم سميدع ... ولا عجب إذ كان في طبعه كبر فليس من الحزم الوثوق بعهده ... فما عهده إلا الخلابة والخفر لقد زادنا طعناً فأدمى قلوبنا ... وقابلنا بالكسر فامتنع الجبر وأورثنا ريب المنون مصيبة ... لها ارتجت الأفلاك وانقضت الزهر لها الأرض مادت والجبال تزلزلت ... لها صعق الأحيا وقد قضي الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 ومنها: بها جاء ناعي البرق يرعد قلبنا ... فأمطرت الآماق ما ضمه الصدر عشية عين الغرب حجب نورها ... دجى الشرق حتى لا يخال له فجر مصاب به العلياء تبكي أميرها ... وكل امرئ من ذا المصاب به شطر أجل مات عبد القادر الحسني من ... به سادت السادات وافتخر الفخر ومنها: به ملتقى البحرين للعلم والندى ... ففي صدره بحر وفي كفه بحر وكانت أياديه ولا من بعدها ... مناهل جود ليس يسبقها نهر وهي طويلة تنوف عن خمسين بيتاً. وممن رثاه أيضاً الأديب الأريب أبو النصر أفندي السلاوي المغربي فقال: على نفسه فليبك من كان باكيا ... فمن مات من نال الحظوظا العواليا هو الحق والدنيا لعمرك باطل ... ومن ينأ عنها كان للخير دانيا وما الناس إلا بين نوم ويقظة ... يسومون بالبخس النفوس الغواليا وأي امرئ آتاه مولاه رشده ... غدا زنده نحو الترحل واريا ومن لم يسر في يومه سار في غد ... إلى حيث ألقى السابقون المراسيا بلى كل نفس سوف يأتي كتابها ... ويحظى بعقبى الدار من كان راضيا لنا في رسول الله يا قوم أسوة ... نقضي بها أيامنا واللياليا وليس سوى التسليم والصبر ملجأ ... إذا زلزل الخطب الجبال الرواسيا لئن ساءنا فقد الأمير فإننا ... بمطلوبه العالي نمني الأمانيا تولاه مولاه الذي يبسط العطا ... لمن شاء بالحسنى ويجزي المواليا ترقت به النفس الشريفة للعلا ... ولبت إلى نعم الرفيق المناديا وما ذاك إلا أنه كان سالكاً ... سبيل الهدى بعد النبيين راعيا مشيداً عماد الدين من شرع جده ... مقيماً حدود الله بالعهد وافيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 رؤوفاً رحيماً دائم الشكر والرضى ... حليماً عليماً للفضائل حاويا سميعاً بصيراً لا أرى غير أنه ... سواء لديه الأمر جهراً وخافيا يمد أيادي المحسنين بفضله ... ويغفر للمستغفرين المساويا ويبسط للراجين من بحر جوده ... على الرفد والإقبال منه الأياديا وكم من سحاب كان للناس ممطراً ... سواريه تحكى من عطاه الغواديا وكم نعمة من فضله طاب غرسها ... لدينا ونرجو أن تدوم كما هيا وإنا وإن كنا فقدناه واحداً ... وقد عز أن يأتي به الدهر ثانيا فأنجاله الأمجاد فيهم كفاءة ... بإحرازها حازوا الثنا والمعاليا على أنه ألقى إليهم زمامها ... فقادوا بأسباب الكمال النواصيا وأرشدهم حتى أتاه يقينه ... وجد إلى دار السعادة ساريا فهم بعده أقمار مجد صفاتهم ... نجوم عن الأرجاء تجلو الدياجيا ونعم الكرام الفائزون بألفة ... ترد الردى عنهم وتردي الأعاديا ألا يا بني قطب الوجود تمسكوا ... بحسن التواخي تشكرون المساعيا وكونوا من الدنيا على قلب واحد ... تناولن بالحزم الحظوظ القواصيا ولا تأسفوا فالصبر أجدر بالفتى ... إذا أبرم الرحمن ما كان قاضيا هنيئاً له بالبشر والفوز أنه ... غدا مكرماً في جنة الخلد راضيا وله أيضاً مؤرخاً: يا طالب الإمداد دونك روضة ... قد حل في أرجائها القمر المنير الفرد عبد القادر الحسني من ... هو في الحقيقة وارث القطب الشهير تاقت لحضرته الكريمة نفسه ... فحوى بحسن جواره حسن المصير بشرى لمن وافى رحاب ضريحه ... يرجو إغاثته إذا عز النصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 فبسره تقضى الحوائج كيفما ... كانت بعون عناية الملك القدير ولذا لسان الحال قال مؤرخاً ... حي بدار الخلد مولانا الأمير وممن رثاه العالم المجيد، والشاعر الذي حكى شعره شعر لبيد، فقال: إنما الدنيا وإن طال مداها ... ليس للمرء بقاء في حماها دأبه الفكر بما يعمرها ... وهو منقول إلى دار سواها لو درى مقدار ما يحيا بها ... آثر الزهد ولم يعشق غناها هو منها دائماً في خطر ... وترى خاطره في مشتهاها إنه عما جرى منه بها ... غافل كالعين لم تنظر قذاها لا يلم من لامه في حبها ... حيث يعطي نفسه فيها هواها هي شوهاء عجوز إنما ... تتجلى كعروس في حلاها إلى أن قال: فجعتنا بأمير كامل ... كان يهدي كل نفس لهداها هو عبد القادر الشهم الذي ... قد حوى بين الملا عزاً وجاها سيد إن ذكرت أوصافه ... يعبق المحفل من طيب شذاها أصله في الأرض أضحى ثابتاً ... وله فرع تسامى لسماها كان ذا علم وحلم وتقى ... ووقار وسماح لا يضاهى كان للآداب سوقاً أهلها ... ربحت أنفسهم منه مناها كان في الغرب وفي الشرق حمى ... يرتجي الناس به دفع أذاها ودمشق الشام منه قد خلت ... كسماء فقدت شمس ضحاها أسفاً لو يقبل الموت الفدا ... لفدته كل نفس برضاها أي عين قد بكته دهرها ... فلتلك العين عذر في بكاها قبره لو أنه يدري بما ... حازه ساكنه تاه وباهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 إلى آخر القصيدة. وممن رثاه أيضاً الشيخ إبراهيم الأحدب: أصم نداء الخطب للمجد مسمعاً ... وراع المعالي والعوالي بما نعى وهذا منار العز لفح سمومه ... وما صد عن هام العلى حين صدعا تداعى له ركن الفخار وقد هوى ... به كوكب العلياء هولاً بما دعا فلا كان يوم السبت يوم مصائب ... فقد جاء ظهراً فيه للنجم مطلعا وقد راع أصحاب العبا وقع حادث ... بفقد إمام جل في الكون موقعا وألوى بعبد القادر الدهر عادياً ... على قدر ساء الكرام وروعا إلى آخرها، وهي طويلة تنوف عن ستين بيتاً. وممن رثاه تاج الأدباء وقطب مدار الشعراء، محمد أفندي الهلالي الحموي فقال: سهام قضاء الله ليس لها رد ... وكأس الردى ما من إذاقته بد بلى كل شيء هالك غير وجهه من ... له الحكم حتماً لا شريك ولا ضد محال إذا جاء المقدر حيلة ... لمستعصم من أن يلم بد كد عناء حياتي كلها بعد سيد ... به فجع الإسلام والعلم والمجد وأظلمت الأوطان حين بجسمه ... تنورت الأكفان وابتهج اللحد سقى وابل الرضوان أعطر مرقد ... حوى بحر فضل ما لتياره حد كأن لم يكن بر كأن لم يكن تقى ... كأن لم يكن صدق كأن لم يكن رشد طوى الكل بعد النشر بعض من الثرى ... فلم يبق إلا الذكر والشكر والحمد مضى الجود والإحسان والعفة انقضت ... وصاحبها العرفان والحلم والزهد مضى ابن بني الزهراء حقاً لجده ... فيا حبذا الأبناء والأب والجد معز اليتامى والأرامل كنزهم ... إذا الضبع الشهباء ذلت بها الأسد بروحي بروحي آه لو يفتدى بها ... أمير بأمر الله جد به الجد هنيئاً لجنات النعيم بقرب من ... أرانا جحيم الحزن من بعده البعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 هنيئاً لمحيي الدين قدس سره ... بجار حماه اليمن للجار والسعد مصاب أصاب الدين لو أن بعضه ... على أحد لا ندك من هوله أحد قيامة رزء لو ترى الناس بالبكا ... محاجرهم جرحى وأعينهم رمد لهم زحل بالذكر لله والدعا ... وأدمعهم سحب وأهوالهم رعد سكارى وما هم بالسكارى وإنما ... وفاة ابن محيي الدين حق بها الوعد سرى نعشه فوق الرقاب وحوله ... ملائكة الرحمن أنوارهم تبدو لقد جل عن أن يدفنوه بروضة ... هي الروح والريحان والمسك والند تقي نقي جاور الله في البقا ... وأقبل بالبشرى على القادر العبد وقور غيور ناسك متواضع ... على أنه المقدام والأسد الورد على أنه البسام يوم كريهة ... إذا عبست من تحت فرسانا الجرد فتى من رجال الله كان على العدى ... حساماً صقيلاً لا يفل له حد فتى كان لا يخشى من الخصم سطوة ... وليث الشرى حاشا يروعه القرد فتى في سبيل الله كان مجاهداً ... وليس له إلا رضى ربه جهد همام كمي كم أزاح ملمة ... بسيف رقاب المعتدين له غمد هزبر هصور في الجزائر كم له ... وقائع لا يقوى على حصرها عد سراج على سرج الجواد كأنما ... من الرعب والإرهاب يقدمه جند نعيناه للمحراب والحرب والندى ... فكل علاه الحزن والسهد والوجد عطاء ولا من وعفو ولا حقد ... وجبر ولا كسر وود ولا صد حسان مزايا بانتقال حليفها ... تعطل جيد المجد وانفصم العقد لحى الله داراً للزوال نعيمها ... وأولها مهد وآخرها لحد غرور حياة وهي غراء حية ... بأنيابها سم يمازجه الشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 فتاة تراها وهي شر عجوزة ... كما الدهر لم يصرم حبائلها الشد تصيد البرايا واحداً بعد واحد ... فلم ينج منها لا كريم ولا وغد مجربة تباً لها من خؤونة ... فلا موثق منها يدوم ولا عهد عروس ولكن المحال حليها ... لها المين مرط والخداع لها برد لعوب كما الصهبا بألباب أهلها ... تروح بهم طوراً وطوراً بهم تغدو فما نصحت إلا وغشت وهكذا ... قياس قضاياها بنا العكس والطرد شكونا ونرد الدهر ليس بسامع ... وهل تنفع الشكوى إذا حكم النرد فلس لنا إلا التوكل والرضى ... بما قد قضاه الواحد الأحد الفرد فصبراً جميلاً إنها لمصيبة ... يذوب أسى من حرها الحجر الصلد ولكن إذا في نار حزن ثوى الحجا ... خبت ومع التسليم أخمدها البرد وآل رسول الله أولى من الورى ... بأن يتحلوا بالوقار ويعتدوا هم الحسنيون الألى صوت صيتهم ... به ألسن الإحسان ما برحت تشدو هم الكاظمون الغيظ والصابرون هم ... رياحين زهراء النبي إذا عدوا وهم عدتي في شتي وذخيرتي ... بدنياي والأخرى هم القبل والبعد ولا سيما أنجال من قد مضى ومن ... رحيق شراب الأنس طاب له الورد مصابيح فضل عظم الله أجرهم ... ولا ساءهم من بعد من فقدوا فقد وأبقاهم الرحمن للناس رحمة ... سحائبها يروى بها الغور والنجد نعم كلهم نجب كرام ثوابت ... لدى الروع حتى أن أصغرهم طود وأكبرهم من دونه الدهر همة ... بغيرة ندب أوحد ما له ند محمد السامي سماء مقامه ... على الشمس لا نكر هناك ولا جحد أمير وجيه الوجه والجاه كوكب ... منير به العلياء تم لها السعد لإحسانه تصبو العفاة وحسنه ... تحن له ليلى وتشتاقه هند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 بديع معان عن أداء بيانها ... لقد كلت الأقلام والألسن اللد كفى بشذاه سيرة وسريرة ... فما الشيخ ما القيصوم والبان والرند وما غايتي بالمدح إلا تشرفي ... بأروع من بيت القصيد هو القصد إليه سرت أسرار والده الذي ... بعدن مع الأبرار طاب له الخلد وسار إلى المأوى بتاريخه وقد ... دعاه بجنات البقا رجب الفرد سنة 1300 هـ. عليه من الرب الرحيم السلام ما ... بكت مقلة وابتل من دمعها خد وما ابن هلال راح ينشد قائلاً ... سهام قضاء الله ليس لها رد وممن رثاه مصطفى أفندي رشدي: قد طالما حاربت ضمن ضمائري ... جيش الخطوب ولا تجوب بخاطري بل طالما خاطبت خطبي قائلاً ... خطرت ويحك ما الزمان بقاهري هل كيف يقهرني الزمان ولي إلى ... فخر العلا نسب بود باهر فأجاب وا أسفا على حامي الحمى ... مع يا فتى واندب بدمع وافر ناديت مات المجد بل مات الندى ... من بعد ذي النعماء عبد القادر إلى أن قال بعد أبيات كثيرة: مذ قيل فاز بجنة أرخت كم ... بجنان خلد فاز عبد القادر سنة 1300 وممن رثاه طيب الله ثراه الشاعر الشهير عمر أفندي البربير فقال: لم اسودت الدنيا ولم يك غاسق ... وأظلمت الآفاق حتى المشارق خليلي رعاك الله قل لي ما الذي ... لقد صار في الدنيا فإنك صادق فهل آن خلي للقيامة وقتها ... ونفخ بصور ثم يصعق صاعق وبعث الورى والحشر ثم وإنه ... تقوم لرب العالمين الخلائق أرى الكون مسوداً أرى الشمس لم تبن ... أرى البدر لم يسفر وما هو شارق وإن نجوم الأفق غير طوالع ... فلم يبد مسبوق ولم يبد سابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 وأين السما غير الظلام فلا يرى ... ولو جد بالتحديق والوثق وامق أزالت وإلا بالظلام تحجبت ... فما شأنها قل لي فصدري ضائق وما لي أرى الأطواد ليست بحالها ... فكم قد هوى طود وكم دك شاهق وما لي أرى الأطيار خرساً ولم يكن ... عن الصدح والتغريد يسكت ناطق إلى أن قال: وها لم أزل فيه إلى أن أجابني ... وأدمعه من مقلتيه دوافق بصوت خفي قد يدق سماعه ... إجابة باك وهو بالدمع شارق وقال نعم أودى خليفة مالك ... ومالك هذا العصر من لا يسابق وجيه أولي التدقيق وهو أميرهم ... له نشرت فيهم عليه البيارق هو الشمس عبد القادر السيد الذي ... على فضله أهل العلوم تصادقوا إلى آخر ما قال وقد أسهب فيها وأطال في حق هذا السيد المفضال. وممن رثاه أيضاً خليل أفندي البربير البيروتي فقال: خطب ألم بنا أجرى العيون دما ... لقد شكى الخلق من أهواله ألما فليندب المجد في الأكوان مظهره ... إذ راع ركن العلا والعز فانهدما يا للمصيبة من خطب سطا وعدا ... فلم نجد أحداً من حزنه سلما يا للنوائب من هول به كسفت ... شمس الهدى فكسا آفاقنا ظلما رزء تداعب به شم الجبال وقد ... ألوى بها زعزع أضحت به عدما يا للرزيئة من رزء بوقعته ... أنار في كل قلب بالأسى ضرما كادت به الأرض من حزن تميد كما ... غدت هشيماً به من هول ما صدما هل بعد ذا الخطب ما بين الأنام يرى ... خطب به كل جفن يرسل الديما أو هل نرى بعده في الكون مزعجة ... تخفي السرور وتبدي الحزن والسقما كلا لعمري فهذا الخطب صدمته ... قد زعزعت كل رأس قد غدا علما أضحى به رجب يبدي لنا عجباً ... عشنا به فرأينا رزءه دهما شهر أصم به في الكون قد ظهرت ... نوائب أوقرت أسماعنا صمما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 يد المنون به اغتالت أمير علا ... فاغتالت المجد والمعروف والكرما نتيجة الدهر عبد القادر العلم المولى الذي في البرايا قدره عظما السيد السند الشهم الذي عظمت ... أخلاقه فاغتدى بين الملا علما دوح السيادة تاج المجد بهجته ... ثغر المعالي بها قد كان مبتسما إنسان عين أولي العلياء سيد من ... سيب المكارم منهم سح وانسجما أمير مجد سما هام السهى شرفاً ... وكان للعز والعلياء خير حمى أمير حزم حكت آراؤه شهباً ... لكل مارد خطب رائع رجما غوث الطريد وغيث اللائذين إلى ... حماه يمطرهم من جوده نعما ناديه مصدر أنواع الندى أبداً ... ما من يوماً بما يعطي ولا سئما أربى على كل ذي فخر بنسبته ... لسبط خير رسول بالفخار سما بمجده سادت السادات وافتخرت ... وعقدهم بعلاه كان منتظما أقواله درر أفعاله غرر ... وجه المعالي بها قد كان متسما هذا وكان المترجم معظماً عند سائر ملوك البلاد الإفرنجية فكانوا يطلبون صورته ويطلبون أن يكتب عليها، فكتب على بعضها ما صورته: لئن كان هذا الرسم يعطيك ظاهري ... فليس يريك النظم صورتنا العظمى فثم وراء الرسم شخص محجب ... له همة تعلو بأخمصها النجما وما المرء بالوجه الصبيح افتخاره ... ولكنه بالفضل والخلق الأسمى وإن جمعت للمرء هذي وهذه ... فذاك الذي لا يبتغي بعده نعما وله نظم بديع، ونثر فائق رفيع، غير أنها بعضها في الرقائق، وأكثرها في الحقائق، تدل على سمو معارفه، وعلو عوارفه، نفعنا الله به في الدارين بجاه محمد سيد الكونين. آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 الشيخ عبد القادر بن أحمد بن عطاء الله بن إسكندر الحلبي الحنفي المقري أحد الحفاظ والقراء الموجودين بحلب الشهباء. ولد بها سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجوده على الشيخ المقري المتقن أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المعري نزيل حلب، ولازم أبا عبد الله محمد بن صالح بن رجب المواهبي القادري وقرأ عليه الدرر الفقهية والجامع الصغير في الحديث وسمع عليه الكثير من الأحاديث وغيرهما، وأخذ عنه الطريقة القادرية. وبعده لازم ولده أبا المواهب إسماعيل المواهبي وجدد عليه الأخذ في الطريقة وغيرها، وسمع عليه الكثير من الأحاديث الشريفة، ولازمه السنين العديدة وانتفع بمجالسه، وكان ينشد الموشحات والقصائد في حلقة ذكره والخلوة الأربعينية ويلازمه غالب الأوقات. وكان متوطناً في قلعة حلب وخطيباً بجامعها المعروف بجامع النور. وكان من القوم الأخيار ذوي الفضائل والآثار، واجتمع به سنة ألف ومائتين وخمس خليل أفندي المرادي مفتي دمشق بحلب، وشهد بفضله وعلمه وكماله. وتوفي المترجم المرقوم بعد ذلك ولم أقف على تعيين وفاته. الشيخ عبد القادر بن عبد الرحمن بن عبد القادر بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم برهان الدين الدمشقي الصالحي البقاعي الأصل العدوي المعروف بالسقطي الحنفي إمام الفضائل وعمدة ذوي الفواضل، العالم المحقق والهمام المدقق، عمدة الأكابر ونخبة ذوي المفاخر. ولد بصالحية دمشق في منتصف رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، ونشأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 بها وقرأ القرآن الكريم على الشيخ علي بن سليم الصالحي، وأخذ عن شيخه المذكور وعن العلامة الشيخ علي كزبر والعلامة عبد الله البصروي والعلامة الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي، وأجاز له الماجد محمد بن عيسى كنان الكناني والشمس محمد بن إبراهيم التدمري والشيخ علي البرادعي، وأخذ العربية والعقائد عن محمد بن أحمد قولقسز والعلامة الشيخ موسى بن أسعد المحاسني، وسمع حديث الرحمة من علامة الوجود ابن عقيلة المكي، والعلامة محمد بن الطيب المغربي وأجازوه جميعاً، وحضر دروس العلامة الكبير الشيخ إسماعيل ابن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي. وأخذ عن صاحب الترجمة أجلاء دمشق وعلماؤها، وتوفي سنة خمس ومائتين وألف، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى. وتولى وظيفة مشيخة الحرم السليمي ودرس بالمدرسة العمرية وتولى إمامتها، وقبره قريب من قبر الشيخ موفق الدين والعلامة الشيخ عبد الرحمن الداودي. الشيخ عبد القادر بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين بن عبد الكريم الدمشقي الشافعي الشهير كأسلافه بالكزبري العالم الهمام، والعامل الإمام، ولد بدمشق في اليوم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائة وألف ونشأ بها، وأخذ عن علمائها الكرام كالشيخ محمد الكزبري والشيخ أحمد العطار وغيرهم. مات سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. الشيخ عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد بن وهبة بن عيسى بن محمد رشيد بن عبد الرزاق بن محمد بن خالد بن شمس الدين بن أبي محمد رشيد بن شمس الدين بن عثمان بن أحمد شهاب الدين ابن تاج الدين عبد الرزاق بن أبي النصر محيي الدين بن محمد نصر بن عبد الرزاق بن العارف بالله عبد القادر الجيلاني قدس الله سره. الشافعي الدمشقي الشهير بالخطيب. ولد بدمشق سنة خمس عشرة ومائتين وألف، وقرأ على بعض العلماء الدمشقيين ثم انقطع للعلم وسافر إلى الأزهر وأخذ عن العلماء المصريين، إلى أن صار يشار إليه ويعتمد عليه، ثم عاد إلى وطنه دمشق الشام، ولم يزل معدوداً في من السادة العلماء الأعلام، إلى أن توفي رحمه الله خامس شهر رمضان سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 السيد عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر الكوكباني قال في البدر الطالع: هو شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق. ولد كما نقل من خطه سنة ألف ومائة وخمس وثلاثين، نشأ بكوكبان، ثم ارتجل إلى صنعاء، فأخذ عن أكابر علمائها كالعلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير. وإني أذكر وأنا في المكتب مع الصبيان أني سألت والدي رحمه الله من أعلم الناس بالديار اليمنية فقال السيد عبد القادر يعني صاحب الترجمة. وبالجملة فلم تر عيني مثله في كمالاته، ولم أجد أحداً يساويه في مجموع علومه، ولم يكن بالديار اليمنية في آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 مدته له نظير، وهو رحمه الله تعالى من جملة من رغبني في تأليف وشرح المنتقى، فشرعت فيه في حياته وعرضت عليه كراريس من أوله فقال: إذا كمل على هذه الكيفية في نحو عشرين مجلداً وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل إلى هذا المقدار، ثم أرشدني إلى الاختصار ففعلت، فكمل بحمد الله وبيضته في أربع مجلدات، ولم يكمل إلا بعد موته بنحو ثلاث سنين. وترجمه في النفس اليماني والروح الريحاني بقوله: السيد الإمام إنسان عين الأعلام، صدر العلماء المعتمدين بدر الأئمة المجتهدين، له العلوم الزاخرة، والأحوال الشريفة الفاخرة، والأخلاق النبوية والسيرة المحمدية، من مشايخه الشيخان العلامتان عبد الخارق بن أبي بكر ومحمد بن علاء الدين المزجاجيان، ومن أهل الرحمين السيد الإمام العلامة محمد بن الطيب المغربي الفاسي. وله من الأساتذة الكملة نيف وثمانون شيخاً، ومن المؤلفات ما يزيد على الأربعين مؤلفاً: منها حاشية القسطلاني وحاشية الجلالين وحاشية المطول ومختصره وشرح كفاية المتحفظ، ومن مشايخه أيضاً محمد حياه السندي المدني، وقد ترجمه وامتدحه عمدة من العلماء الأعلام، منهم القاضي العلامة قال في جملة ترجمته: تسامى له السند العالي مع النسب الغالي، مظهر السنة النبوية على رؤوس الأشهاد، مبكتاً لأهل البدعة في الحاضرة والباد. ولقد قام بهذا الواجب أتم قيام، وذب عن سنة جده بين الأنام، وأدخلها إلى أذهان الفقهاء المقلدين، وقبلها من له الفهم المكين، والذهن السمين وسلك طريق المتقين، ومال عن الاعتساف وآض إلى الإنصاف، فلله دره من عالم هدى وأمال عن طريق الردى. امتدحه السيد العلامة علي بن محمد بن علي بن أحمد اليمني بقصيدة أبان فيها أوصافه الجميلة، وأياديه الجزيلة. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين وسبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 السيد عبد القادر بن السيد درويش بن السيد محمد بن السيد حسين بن السيد يحيى الشهير بابن حمزة الدمشقي الحنفي الحسيني أحد أعيان دمشق الشام وأوحد علمائها الأعلام، كان نبيهاً ذكياً وفقيهاً زاهداً تقياً، عالماً عاملاً ماجداً فاضلاً. ولد بدمشق سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ بها في الانكباب على التحصيل والطلب، والتضلع في علوم الشريعة والأدب، وحضر دروس الشيوخ الأعلام والسادة الفضلاء الكرام، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ محمد أكرم الأغواني. وله مؤلفات كثيرة، منها رسالته في التوحيد المسماة بالرسالة الحمزاوية بالتوفيق بين الماتريدية والأشعرية، ورسالته في فضل آل البيت، ورسالة في الرد على من قال أن قراءة الفاتحة خلف الإمام أحوط. وقد ولي أمانة الفتوى أيام حسين أفندي المرادي مفتي دمشق الشام. مات رحمه الله تعالى بدمشق سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، عاشر شهر رمضان المبارك ودفن في مرج الدحداح. الشيخ عبد القادر أفندي بن عبيد الله الكردي ثم المارواني البغدادي الحيدري قد ترجمه عثمان أفندي الحيدري بن سند فقال ما ملخصه: البليغ المنطيق المفلق السري، جمع الفصاحة في برود كلماته، والنباهة في مطاوي مبدعاته، إذا أخذ في أخبار الماضين وجدته بحراً عجاجاً، وإن مرد الأحكام أبدع تقريراً وإنتاجاً، كأنما الأحكام في صدره مرقومة، واللطائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 في لسانه مصورة منظومة. " إلى أن قال ": اجتمعت به سنة أربع عشرة بعد المائتين والألف فرأيته قد استكمل من الكمال أعلاه ومن العلم أولاه. طلب العلوم على جهابذة سادة وأفاضل قادة، وكان لطيف المجالسة حسن المؤانسة، له شعر ذو أمثال سائرة، وتشبيهات بديعة نادرة، وفوائد أدبية ونوادر قريضية: وإذا نظرت إلى نوادر شعره ... أبصرت فيه فصاحة لا توصف يذر النوادر للبيان كأنها ... درر بعقد أو جمان يوصف تولى قضاء البصرة مرتين، فكان للقضاء والحكم بالحق قرة عين. وقد مدحه عثمان أفندي سند سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين بقوله: حكم إذا حققت فيه رأيته ... لا جهل فيه ولا تعسف أو شطط كم حكمة أبدى لنا في مشكل ... لو لم يزله لكان ليلاً لم يمط ما أشار إلى معنى إلا أبداه ولا مشكل إلا أجاب إذا ناداه، ولا غرو فآباؤه كلهم نجوم، وأعمامه ولاة المنثور والمنظوم. توفي رحمه الله بعد الخمس والثلاثين والمائتين والألف. رحمه الله تعالى. عبد القادر بن أحمد بن محمد بن مسلم بن إبراهيم بن عيسى بن مسلم الصمادي القادري شيخ الطائفة الصمادية بدمشق الشام، ومرشد الفرقة القادرية ذات الاحترام، كان مستقيم الأطوار مقصوداً لبلوغ الأوطار، مشتغلاً بالطريق والاستعداد حسن السلوك والإرشاد، زاهداً عابداً خاشعاً متواضعاً، نبيهاً فقيهاً عالماً بعلمه فائقاً في فهمه. مات سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير قرب قبر الشمس الكزبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 الشيخ عبد القادر بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ مصطفى الخلاصي الحنفي الدمشقي الطبيب ولد في دمشق الشام وأخذ عن والده علم الطب حتى برع به، ثم قرأ بقية العلوم على شيوخ دمشق وأجازوه بما تجوز لهم روايته به. وكان كثير الاستفادة حسن الإفادة، ذكياً بارعاً عارفاً بدقائق الطب، أستاذاً قد انتهت إليه رئاسة معرفة الأمراض وتشخيصها وكان له في رؤية المرضى أمور خارقة للعادة تدل على كمال علمه ومعرفته. وكان كثير التردد على والدي المرحوم وكان يسأله كثيراً عن بعض مشكلات، وقد أخذ عنه واستجازه فأجازه. وكان حسن الهيئة لطيف المعاشرة جميل الملاطفة غزير العلوم. شرح الدر المختار وألفية ابن مالك وله عدة تآليف وجملة من التصانيف. مات بدمشق سنة ألف ومائتين و .... ودفن بباب الصغير. الشيخ عبد القادر الديملاني النقشبندي الخالدي إمام في العلم والعبادة، قد استوى على عرش القناعة والزهادة، ثم أقبل على الطلب إقبال المشغوف وحضر دروس الأفاضل حضور الملهوف، واعتصم بحبل العمل وفاز من دهره بالأمنية والأمل، وساد بين الناس وكان مشهوراً باللطف والإيناس، ثم بعد مضي أيام الطلب وفوزه بما رجا وطلب، أخذ الطريقة الشريفة النقشية عن عالم الوقت والعصر الشيخ خالد شيخ الحضرة العلية، فخدمها حق الخدمة واجتهد بها اجتهاداً عالي الهمة، ولم يزل إلى أن وجد به الأستاذ كمال الاستعداد للإرشاد، فخلفه وأذن له بإعطاء الطريق لذوي الأهلية لنوال المراد، وكان الأستاذ كثيراً ما يحيل تربية المريدين إليه ويعتمد في علم اللوازم عليه. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 السيد عبد القادر البرزنجي النقشبندي الخالدي العالم العامل الزاهد الورع العابد الخاشع الناسك. أخذ عن علماء عصره، ثم أخذ الطريقة النقشية عن عالم زمانه ومرشد وقته وأوانه الشيخ خالد شيخ الحضرة، ولما وجد فيه الأهلية أذن له في الإرشاد. توفي سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين تقريباً. القاضي عبد القادر الرضوي لاورتقباوي من أدباء الهند والعجم غواص لجج البيان، المقرط بدرر بدائعه الآذان، فمن لطيف شعره: صدر الورى فخر أهل الهند قاطبة ... علامة العصر مولانا غلام علي لقد أقر على الأفلاك أخمصه ... وجل في المنصب العالي عن البدل في قلبه من سنا العرفان بارقة ... وفي يديه زمام العلم والعمل أملى لنا سبحة المرجان مرحمة ... وأثبتت المنة العظمى على المقل أتى بمعجزة غراء ناسخة ... صحائفاً صنفت في الأزمن الأول كجده باهر الإعجاز حيث محا ... كتابه صحفاً من معشر الرسل أبقى إله الورى فينا إفادته ... ما نضر الغيث نبت السهل والجبل السيد عبد القادر أفندي بن السيد تقي الدين القدسي الحلبي الكاتب الثاني في المابين قد ترجمه سعادة أحمد عزت باشا في كتابه المسمى بالعقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية فقال: صاحب الخصائل الممدوحة والآداب والمعرفة، تدفق ذكاء وتجسم حياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 قد صيغت أخلاقه من النسيم، وتهذبت أطواره بحكم التجاريب من الحديث والقديم، فهو من بيت شرف وعز مستديم. كان أبوه نقيب حلب الشهباء، وجده مفتيها ومرجع العلماء، فهم فيها عماد الشرف والمحامد، وركن الطارف والتالد. ولد حفظه الله بحلب سنة ست وأربعين ومائتين وألف، وترعرع في حجر والده ونشأ على حال عظيم من الكمال والتقوى والأدب، وتلقى علوم العربية والفقه وغيرها من علوم السنة عن أفاضل حلب، ثم أتقن بعدها اللغة التركية والفارسية، وأحسن المنثور والمنظوم في اللغتين العربية والتركية، وله فيها الآثار الحسنة، والأفكار المستحسنة، ومن أعظمها أنه ترجم كتاب البرهان المؤيد مؤلف حضرة الغوث الرفاعي رضي الله عنه من العربية إلى التركية، ورسالة رحيق الكوثر التي هي من كلام الغوث الرفاعي الأكبر أبدع فيهما كل الإبداع، وترجم المجالس الأحمدية. وله غير ذلك من المآثر العديدة والآثار الحميدة، ما تتزين به الصحائف والأوراق وتهتز لها الأغصان بالأوراق. وقد تقلب منذ نشأ في خدمة الدولة العثمانية حتى أحرز المراتب العلية والمناصب السنية، وهو الآن الكاتب الثاني في المابين للجناب العالي السلطاني لا زال ملحوظاً بالأنظار الخفية والجلية بكل غدوة وعشية، وله نظم رقيق ونثر بكل مدح حقيق، ومن نظمه تخميسه على قصيدة حسن أفندي البزار الموصلي في مدح السيد أحمد الرفاعي قدس الله سره آمين وهي: يا سادتي فضلكم في الصحف مكتوب ... وحبكم بلسان الشرع مندوب والحمد لله أني فيه مسلوب ... قلبي إليكم بأيدي الشوق مجذوب والصبر عن قربكم للوجد مغلوب ولست أبغي براحاً عن مودتكم ... حسبي أعدد خيلاً في عشيرتكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 وقد فنيت بكم من فيض همتكم ... لا أستفيق غراماً في محبتكم وهل يضيق من الأشواق مسلوب عسى بإسعافكم أستحصل الأملا ... فالصبر مر وفيكم للمحب حلا كم ذا أقول وقيد البعد قد ثقلا ... يا قلب صبراً على هجر الأحبة لا تجزع لذاك فبعض الهجر تأديب لعل يوماً بلطف منهم يصلوا ... أسير هجر وحبل الوصل يتصل فلا تحد عنهمو مهما بدت علل ... همو الأحبة إن صدوا وإن وصلوا بل كل ما صنع الأحباب محبوب والقصيدة طويلة ذكرها بتمامها صاحب العقود الجوهرية، وهي تدل على كمال صاحب الأصل والتخميس، والأصل مذكور بتمامه في ترجمة صاحبه توفي في الآستانة سنة ألف وثلاثمائة وعشر تقريباً. الشيخ عبد الكريم البرزنجي من سلسلة طيبة طاهرة ذي نسبة باهية باهرة، لهم الفضل الأعلى، والقدر الأجل الأجلى. وقد ترجمه الإمام الكامل والهمام العالم العامل، أديب العصر وزينة كل قرية ومصر، السيد عثمان بن سند العراقي في كتابه أصفى الموارد فقال: العالم الذي عرفت العلوم مقداره وأرتعه روض الدقائق نوره وبهاره، والمحقق الذي أقعده التحقيق على ربوة الصدارة، والمدقق الذي نشر فضله على النيرين إزاره، والنسيب الذي شرف الجوزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 ذكره والشريف الذي أعرق في الشرف سره، والسيد الذي مكانه من السؤدد صدره. قرأ على السادة الأفاضل وأخذ عنه ذوو الفضائل والفواضل، ممن طار ذكرهم في الأقطار وافتخرت بهم مصرهم على الأمصار. وممن قرأ عليه وجلس للأخذ عنه بين يديه، العالم الشهير والفاضل النحرير، والعارف بالله والمقبل عليه في سره ونجواه الشيخ خالد شيخ الحضرة النقشبندي الكردي الشافعي، فقرأ على المترجم كتباً جمة، وحضر مجالس علومه بالجد والاجتهاد وعلو الهمة، وكان رفيع المقام شامخ القدر والاحترام، ليس له من عيب لقال سوى أنه في عصره فرد بلا مثال، وإقباله على الله دائم ولا تأخذ فيه لومة لائم. ولم يزل كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى وذلك في السليمانية عام ألف ومائتين واثني عشر ودفن بها. الشيخ عبد الكريم بن محمد بن عبد الجبار بن محمد الحلبي الحنفي الماتريدي أبو محمد كمال الدين العالم الواعظ الفقيه والإمام الفاضل النبيه. ولد سنة أربع وعشرين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم، واشتغل بالأخذ والتلقي والسماع والقراءة، فقرأ على والده وسمع عليه الكثير من الأحاديث وكتب المتون والأسانيد وانتفع به، وعلى أبي الفتوح علي بن مصطفى الميقاتي الدباغ والبدر حسن بن شعبان السرميني وقاسم بن محمد النجار وأبي عبد الفتاح محمد بن حسين الشهاب وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبي المحاسن يوسف بن حسين بن درويش الدمشقي الحسيني المفتي والنقيب بحلب وأبي الثنا محمود بن شعبان البرستاني وأبي محمد عبد السلام بن مصطفى الحريري وآخرين، وأجازوه، وارتحل إلى دمشق وسمع بها على أبي النجاح أحمد بن علي المنيني الخطيب في جامع بني أمية وشرف الدين موسى ابن أسعد المحاسني وأبي الفدا العماد إسماعيل بن محمد جراح العجلوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 وأبي الحسن علي بن أحمد كزبر وأبي الثناء محمود بن عباس الكردي العبدلاني نزيل دمشق وآخرين وسمع منهم غالب المسلسلات كالأولية وغيره وأجازوا له وكتبوا له بخطوطهم ودخل القدس وأخذ بها عن أبي الإرشاد مصطفى ابن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي الخلوتي وأجاز له بخطه في أواسط سنة ستين ومائة وألف وانتفع به وقرأ عليه البعض من تآليفه، وسمع عليه الكثير واستقام عنده أياماً، ثم ارتحل إلى مصر بقصد الأخذ والتلقي وقرأ بها على النجم الحفناوي والبدر حسن بن أحمد المدابغي والشمس محمد بن محمد الدفري والشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي والزين أبي حفص عمر بن الطحلاوي وسمع عليهم غالب كتب الأحاديث الشريفة والمسلسلات وأولها حديث الرحمة، فإنه سمعه من جميع شيوخه كما هو مصرح في إجازاتهم، ولازمهم مدة أشهر وقرأ عليهم، وكتبوا له بخطوطهم الإجازات المؤرخة سنة أربع وستين ومائة وألف، وعزم على الحج من مصر وحج تلك السنة، وسمع الأولية وبعض المسلسلات من أبي عبد الله محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي نزيل المدينة المنورة وأجاز له بخطه، ثم عاد إلى حلب ودرس بها ووعظ بجامعها الأموي الكبير. توفي بعد الخمسة والمائتين والألف. الشيخ عبد الله الدهلوي المعروف بشاه غلام علي بن شاه عبد اللطيف الدهلوي شيخ مشايخ السادة النقشبندية، وأستاذ أهل الطريقة الفاضلة العلية، وهو من رجال الحدائق الوردية، في حقائق أجلاء النقشبندية. فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 شاه العارفين، ومليك المرشدين الكاملين، مظهر علوم الدين، ومظهر سر الهداية واليقين، المحقق بمقام التلوين في التمكين، شيخ مشايخ الديار الهندية، ووارث المعارف والأسرار المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق. نال قدس الله سره من العلوم الإلهية ما نال، ومن المقامات العلية ما لا يخطر ببال. وذلك أن هذا العزيز، بعد ما بلغ سن التمييز، أكب على تحصيل الفضائل، والتحلي بأحسن الشمائل، حتى صعد بهمته إلى سماء علوم الرسوم، فتناول من ثرياها أعظم النجوم، إلى أن أصبح في كل علم إماماً، فزاد إقداماً على الترقي في المعالي واهتماماً، فصعد النظر إلى قمر المعارف، فرأى نوره مستمداً من شمس أستاذه العارف، فقصد على جنائب العزم جنابه، ويمم بالهمم الكبار رحابه، فأقبلت به نسمة القبول، على حرم مراحم الوصول، إلى ذلك المقام المأمول، مقام المرشد العظيم، فحنا عليه بقلبه السليم، حنو المرضعات على الفطيم، وجعل يمده بمدده الروحاني، ويربيه بنفيس نفسه الرحماني، ويرقيه إلى مدارج الأخيار، ويقيه أغيار الأغيان وأغيان الأغيار، حتى إذا جذبه إلى مقام حق اليقين، وانتهى به إلى سدرة منتهى المقربين، عاد إلى عالم الشهادة وقد خلع عليه خلع السيادة، وأصبح من غيث إحسانه غوث زمانه، وعهد إليه بعده بإرشاد المسترشدين عنده، فوفى عهده، وصدق وعده، وكان خير خلف، لأشرف سلف. قام بتأييد الشريعة المحمدية، وتجديد معالم السنة السنية، وأداء حقوق الحقائق، وإحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 جميع الطرائق، القادرية والسهروردية الكيروية، والجشتية والنقشبندية، رافعاً لواءها بين الخلائق، فأقبلت القلوب تستظل بظله، ولبت الألباب نداء فضله، وانتهت إليه رتبة الإرشاد، ورحلت إليه الأبدال والأوتاد، فنال ببركته كل مريد أقصى المراد. شذرة من خبره وذرة من أثره ولد قدس سره عام ثمان وخمسين ومائة وألف في قصبة بتاله ضلع بنجاب وجاء تاريخ ولادته مظهر جود وهو من آل البيت الكرام غير أني لم أقف على نسبه الشريف. وكان والده الشريف الشاه عبد اللطيف عالماً عارفاً صالحاً زاهداً كبير الشأن قادري الطريقة، تلقاها عن العارف الكبير الفائز بصحبة الخضر عليه السلام الشاه ناصر الدين القادري قدس سره، واشتغل بالرياضات الشاقة والمجاهدات التامة. وكثيراً ما كان يخرج إلى الصحراء فيذكر الله تعالى ويتغذى بالنبات بقي مرة أربعين يوماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 لم يكتحل طرفه بنوم، ولم يذق الطعام إلا ليلاً قليلاً، ومع ذلك لم ينو الصيام مقاومة لرعونة نفسه، وكان له انتساب أيضاً للطريقة الجشتية والشعارية، ورأى والده في منامه قبل ولادة الشيخ قدس الله سره سيدنا علياً كرم الله وجهه فقال له: سم ولدك باسمي فلما ولد سماه علياً، إلا أن لما بلغ قدس الله سره سن التمييز سمى نفساً تأدباً غلام علي، ورأت أمه في المنام رجلاً جليلاً يقول لها: سميه عبد القادر، قال مترجمه الشيخ عبد الغني المعصومي: ويمكن أن يكون هذا العزيز هو الغوث الجيلاني رضي الله عنه وسيأتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه في المنام عبد الله. وكان قدس سره في الذكاء آية باهرة، حفظ القرآن المجيد في شهر واحد، وأكب على تحصيل العلوم معقولها ومنقولها، حتى أصبح عالم عصره. وكتب المترجم في بيان أحوال نفسه فقال: إني بعد تحصيل علم الحديث والتفسير تشرفت في أعتاب حضرة الشهيد قدس سره، فبايعني على الطريقة العلية القادرية بيده المباركة، ولقنني الطريقة العلية النقشبندية فتشرفت بالحضور في حلق الذكر، والمراقبة عنده خمس عشرة سنة حتى تفضل على هذا الحقير بالإجازة المطلقة في الإرشاد العام، وقد ترددت أول الأمر في أنه هل يرضى الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أن اشتغل في الطريقة النقشبندية أولاً، فرأيته في واقعة جالساً في مكان وحضرة الشاه نقشبند في مكان تلقاءه، فخطر لي حينئذ أن أحضر عند شاه نقشبند فقال الغوث الجيلاني في الحال: المقصود هو الله تعالى فاذهب فلا مضايقة، وكان لي جهة تعيش فتركتها، فاشتدت عرى الفاقة علي فاعتصمت بالتوكل واتخذته سجية، ولم يكن يومئذ عندي غير خلق حصير أفترشها، ولبنة أتوسدها، فبلغ بي الضعف أقصاه، فلفرط ما نالني أغلقت باب حجرتي، وقلت هذا قبري حتى يأتي الله بالفتح أو بأمر من عنده، فما لبثت أن فتح الله تعالى علي يد من لا أعرفه، فمكثت في زاوية القناعة خمسين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 قيل: لما أغلق باب الحجرة وقال ما قال أدركته العناية الإلهية، فجاءه شخص وقال له: افتح الباب، فقال: لا أفتح، فقال له: إن لي معك شغلاً فافتح لي، فلم يفعل، فألقى له من خصال الباب جملة من الدراهم الهندية المعروفة بالروبية وذهب، فمن ذلك اليوم لم تنقطع الفتوحات عنه. ولما توفي شيخه حضرة الشهيد قام مقامه في مسند تربية المريدين وإرشاد الطالبين فأكب الناس عليه، وشدوا الرحال إليه، من أماكن بعيدة من الروم والشام والعراق والحجاز وخراسان وما وراء النهر، بل من أقصى أرض الخطا إلى غاية أرض المغرب، بعضهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كحضرة مولانا خالد والشيخ أحمد الكردي والشيخ إسماعيل المدني، وبعضهم بإشارة السادات كالشيخ محمد جان، والبعض برؤيتهم له في المنام. وكان موصوفاً بأعلى مراتب الأخلاق الحميدة، فمن السخاء بحيث كان يوجد في رباطه دائماً ولا ينقص عن مائتي مريد إلا قليلاً، وكان يقدم لهم كفايتهم على أتم وجه، ولم يدخر لغد قط، ومن الحياء والتواضع بأنه لم يضطجع ماداً رجليه أبداً، ولم ينظر وجهه في المرآة، وإذا دخل إلى داره كلب ليطعم شيئاً يقول إلهي من أنا حتى أكون واسطة بينك وبين أحبابك فأسألك بحرمة مخلوقك هذا وكل من قصدني إلا ما رحمتني وقربتي إليك. ومن التمسك بالسنة المطهرة ما لا يدرك شأوه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يهاب معه الأمراء والملوك كما يعلم ذلك من مطالعة مكتوباته، حتى أنه لما حضر السيد إسماعيل المدني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحابه وأحضر معه بعض آثار نبوية بإشارة منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 عليه السلام أن يضعها في المسجد الجامع الذي في دهلي، فوضعها، عرض ذلك إلى حضرة الشيخ، فقال له إنه وإن تكن بركات فخر العالم صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان محسوسة ولكن لا يخلو من ظلمة الكفر، ففتشوا ذلك المكان فإذا فيه صورة بعض الأكابر، فرفعوا الأمر إلى السلطان وأزالوا التصاوير منه. وكان قليل النوم جداً، فإذا قام إلى التهجد أيقظ النوام ثم يتهجد ويجلس للمراقبة، ويتلو من كلام الله تعالى ما شاء. وكان ورده في كل يوم عشرة أجزاء ثم يصلي الصبح جماعة في وقت الغلس، ثم يلتفت إلى حلقة الذكر والمراقبة إلى وقت الإشراق. وكان رباطه لا يستوعب المريدين لكثرتهم، فلذلك كان يكرر الأذكار لطائفة بعد طائفة، ثم يجلس لقراءة الحديث والتفسير إلى قرب الزوال، فيتناول الغداء. وكان إذا أرسل إليه أحد الأغنياء طعاماً نفيساً لا يأكله بل يكره أيضاً أن يأكل منه المريديون، وإنما يهديه لجيرانه، ومن كان حاضراً عنده من أهل البلدة، وربما ترك أواني الطعام في مكانها فيأخذها من شاء فيأكلها. نعم لو أرسل إليه شخص دراهم ولم يكن مظنة شبهة يخرج أولاً زكاتها على مذهب الإمام الأعظم من جواز إخراج زكاة المال إذا بلغ النصاب قبول الحول، لأن صدقة الفرض أفضل من النفل، ثم يعمل فيما بقي حلواء وغيرها ويرسل بها إلى فقراء الشاه نقشبند، وفقراء والده، ويؤدي ما كان عليه من دين في نفقة رباطه، ويعطي من قصده من ذوي الحاجة، وربما يأخذ الشخص من هذه الدراهم شيئاً في حضوره فيطلع عليه ويعرض عنه بوجهه ولا يتعرض له. وكان بعد تناول الغداء يقيل قليلاً، ثم يشتغل بمطالعة الكتب الدينية والحقائق وغيرهما والتحارير الضرورية، ثم إذا صلى الظهر قرأ درسي حديث وتفسير إلى العصر، فيصلي ثم يقرأ حديثاً وتصوفاً كمكتوبات الإمام الرباني وعواف المعارف ورسال القشيري، ثم يجلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 في حلقة الذكر والتوجه العام إلى الغروب، وبعد صلاة المغرب يتوجه لخواص السالكين، ثم يتناول العشاء حتى إذا صلى العشاء أحيا عامة ليله بالذكر والمراقبة، فإذا غلبه النوم اضطجع في مصلاه وربما نام وهو جالس ولم يعلم أنه مد رجليه لفرط حيائه كما تقدم. وكان لا يجلس إلا محتبياً كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الأولياء كالغوث الجيلاني حتى توفي على هذه الحال. وكان حريصاً على إخفاء الصدقة فإذا فتح عليه بشيء يقسمه على الفقراء وهم في المراقبة لئلا يشعر أحد منهم بالآخر، وكان يلبس الخشن من الثياب، ولو أهدي إليه ثوب نفيس باعه واشترى عدة أثواب وتصدق بها، وهكذا في غير ذلك ويقول لأن يكتسي جماعة خير من واحد. وورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت يوماً إزاراً ورداء خشنين وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين. وكان رضي الله عنه شديد الشفقة على المسلمين يكثر من الدعاء لهم وأكثر ما يكون في جوف الليل، وكان له جار يسمى حكيم قدرة الله يصرف أكثر أوقاته في غيبته، فحبس يوماً فسعى كل السعي في خلاصه ولم يذكر ذلك له، وكان مجلس المترجم كمجلس سفيان الثوري لا ترفع فيه الأصوات ولا تنتهك المحارم، مبرأ عن حديث الدنيا فلا يذكر فيه الأمراء ولا الفقراء، وقد استغاب بعض الحاضرين في مجلسه شخصاً فذكره وقال: أنا أحق بما قلته منه، ونال شخص في حضوره من سلطان الهند وكان صائماً فقال: وا أسفاه لقد فسد صومي فقيل له: أنتم ما ذكرتم أحداً بسوء، فقال: نعم ولكن سمعت، والذاكر والسامع في الإثم سواء، وكان عاشقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانياً فيه بحيث إذا سمع اسمه الكريم اضطرب وغاب. وقد أحضر له خادم أقدامه يوماً ماء للتبرك وقال له: أنت منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعد عند سماع هذا الكلام، ثم قام فقبل الخادم وقال له: من أنا حتى أكون منظور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 في إكرامه، وكان شديد الحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله قوي التمسك بالسنة دؤوباً على مطالعة حديثه، حتى توفي وسنن الحكيم الترمذي على صدره، ولم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً إلا وتأسى به. وكان له في القرآن المجيد ذوق عظيم، وكان كثير التلاوة له كثير المحبة لسماعه، وكان يحب سماعه من أحد خلفائه العظام الشيخ أبي سعيد المعصومي ويتأثر تأثراً بليغاً، فإذا ازداد من السماع اضمحل وتلاشى له، وقال: حسبي لا طاقة لي بأكثر. ويحب سماع أشعار القوم والمثنوي ويحصل له من ذلك وجد، غير أنه كان لثباته وكمال تمكنه لا يظهر عليه، ويقول: رقص أبو الحسين النوري يوماً والجنيد جالس قال: " إنما يستجيب الذين يسمعون " فقال الجنيد: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " فالجنيد كان في غاية الثبات. ومن جملة كلامه الدال على علو مقامه، قوله: إن التخلق بالأخلاق الحسنة واجب على كل أحد، وهي الحلم التواضع والشفقة والنصيحة والموافقة للأصحاب والإحسان والمداراة والإيثار والخدمة والألفة والبشاشة والكرم والمروءة والتودد والمودة والجود والعفو والصفح والحياء والسخاء والوفاء بالعهد والسكينة والوقار والثناء والدعاء إلى الله تعالى دائماً وحسن الظن وتصغير النفس واحتقار ما عندك واستعظام ما عند غيرك. وأما المقامات فأولها الانتباه ثم التوبة ثم الإنابة ثم الورع ثم محاسبة النفس ثم الإرادة ثم الزهد ثم الفقر ثم الصدق ثم الصبر ثم الرضى ثم الإخلاص ثم التوكل. وأما الأحوال فمن ذلك المراقبة ثم القرب ثم الرجا ثم الخوف ثم الحياء وهو حصر القلب عن الانبساط ثم الشوق ثم الأنس ثم الطمأنينة ثم اليقين ثم المشاهدة وهي آخر الأحوال، وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ومن ذلك ما كتبه في إجازته للشيخ أبي سعيد المعصومي والشيخ بشارة الله، ولغرابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 أسلوبها نقلتها بتمامها فقال: بعد الحمد والصلاة، من العلوم أن المقامات والاصطلاحات التي هي في طريقة الإمام الرباني مجدد الألف الثاني، مقررة، ينبغي أن تشاهد في كل درجة منها كيفيات وأحوال وأنواع وأسرار تلك الدرجة، وإلا فاختيار الطريقة عبث، فلم إضاعة العمر، وإن لم تكن المقامات العشر التي أولها التوبة وآخرها الرضا لازمة للباطن فما الفائدة من هذه الطريقة، فإنه يحصل في سير لطائف عالم الأمر كيفيات كثيرة ففي سير لطيفة القلب المفيدة لمراقبة الأحدية الصرفة بعد مراقبة المعية، يحصل الفناء والاستغراق وقطع العلائق والآمال وغيرها، وفي سير لطيفة النفس المفيدة لمراقبة االأقربية والمحبة، يحصل الاستهلاك والاضمحلال، وفناء أنا وغيره، وفي سير عالم الخلق ينهل الفيض الإلهي على العناصر الثلاثة ما عدا عنصر التراب، وتوجد المناسبة لتجليات اسم الباطن والملأ الأعلى وتهذيب اللطيفة القالبية، وتحصل في الحقائق السبعة، وسعة الأنوار وبداهة الأمور النظرية، وزيارة حضرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وثبوت أذواق المحبة الذاتية، فإن أدرك سالك هذه الطريقة هذه العلوم والمعارف فهو مبارك، وغلا فقد اكتسب العجب والأنانية فويل له. وكل شيء يحصل في الصحبة من هذه الحالات فهو حسن، وإلا فهو تحقير للطريقة، ويلحق المشايخ من ذلك الشخص عار، والمريدين عجب وترذيل للطريق، ودعوى الانتظام في سلك المشايخ هداهم الله سبحانه إلى رضائه واشتياق لقائه آمين. وإذ قد وصل ولله الحمد صاحباي حضرة المولوي بشارة الله وحضرة الحافظ أبو سعيد سلمهم الله تعالى وجعلهم سرجاً لإشاعة أشعة الطريقة لهذه المقامات، والمرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتفضل على بقية أصحابي الأعزاء وأحبابي وعلى هذا الدليل المقصر، بالتوفيق للاستقامة واتباع السنة ومحبة المشايخ، والترك والانزواء، واليأس من الخلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 والترقي لهذه الحالات، فإني مع تمام الخجل أكتب لأن المرشدين يكتبون في الإجازات هاتين الكلمتين، فأقول: يد هذين العزيزين التي هي أحسن من يدي، هي يدي، وبيعة خدمتهم التي هي أقوى ذريعة للسعادة والنجاة بيعتي، بارك الله بهما، بشرط أن يعرضوا عن أهل الدنيا، ويلازمون بقدم مكسورة باب الحق، مع صدق الوعد الكريم المطلق جل سلطانه، فإنه أركان طريقي وتربية توجهات حياتي، اللهم وفقتني وإياهم لمرضاتك ومرضات حبيبك صلى الله عليه وسلم، واجعل آخرتنا خيراً من الأولى آمين. وكان رضي الله عنه يقول: إن أحب الشهادة في سبيل الله تعالى ولكن أتذكر ما حصل للناس في شهادة شيخنا مرزا جان جانان رضي الله عنه من البلاء، إذ قحطوا ثلاث سنين، ومات بذلك خلق كثير، ووقع قتل وحروب لا تعد، فأترك سؤالها. وقد غلب عليه البواسير آخر مرضه، وكان الشيخ أبو سعيد وقتئذ في مدينة لكنهو فأرسل إليه في برهة يسيرة كتباً كثيرة يحقه على الحضور ليكون قائماً مقامه، وأن يستخلف مكانه نجله الشيخ أحمد السعيد أحد خلفاء حضرة مرشد المكرم، فترك أهله وأتى مخفا، فلما تشرف بلقائه قال له: كان مرادي إذا لقيتكم أبكى كثيراً ولكن أتيتني في وقت لا يمكنني فيه ذلك، ثم التفت بكليته إليه وأوصى له بخلافة الإرشاد العام. وكان من عادته المستمرة أنه إذا حصل له شائبة مرض أوصى قلماً وأكد لساناً بمداومة الذكر وتحسين الأخلاق وتقوية النسبة الشريفة، ومجاملة المعاملة مع الجميع، والإعراض عن الاعتراض بلو ولم على مجاري القضاء، وملازمة الاتحاد مع الاخوان، والتفرغ للعبادة مع الفقر والقناعة والرضى والتسليم والتوكل، فجدد هذه المرة تلك العادة المستمرة، وقال: إذا قضي الأمر فاحملوني إلى المكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 الذي فيه الآثار النبوية التي في جامع دهلي، واطلبوا لي من صاحبها الشفاعة وأوصاهم أن ينشدوا أمام جنازته هذين البيتين: وفدت على الكريم بغير زاد ... من الحسنات والقلب السليم فحمل الزاد أقبح ما رأينا ... إذا كان القدوم على الكريم فلما كان وقت الإشراق من يوم الاثنين ثاني عشر صفر أمر بحضور أبي سعيد من داره سريعاً، فنظر إليه ثم وضع رأسه في صدره، وهو جالس على هيئة الاحتباء وقتئذ، فالتحق بالرفيق الأعلى، فغسل بأمواه الأنوار، وكفن بأثواب الأسرار، وحمل على أطراف الأصابع إلى المسجد الجامع، وقد انفضت لأجله المجامع وهرعت لرباطه الناس حتى غصت بالمشيعين الشوارع، فصلى عليه الإمام أبو سعيد ووضعوه تبركاً عند الآثار النبوية، ثم أتوا به الخانقاه فدفنوه في الجانب الأيمن من البقعة المباركة التي ضمت المرحوم مرشده الشهيد. وكان لمشهده في دهلي يوم مشهور، وأرخ أدباء الهند ذلك بتواريخ متعددة أحسنها تاريخان، أحدهما نثر وهو " نور الله مضجعه " وثانيهما ضمن مقطوعة بالفارسية وهو قوله: " في روح وريحان وجنات النعيم " فنظمتها تبركاً به فقلت في الأول: حضرة القطب الدهلوي ... رغب الحق مرجعه فلهذا إذ أرخوا ... نور الله مضجعه وقلت في الثاني: الدهلوي الشاه عبد الله ... ذا الغوث العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 أرخه في روح وريحان ... وجنات النعيم ومن ذلك بيت فيه تاريخ ولادته وحياته ووفاته قدس سره: بمظهر جود جاء مدة عيشه ... إمام قضى قل نور الله مضجعه وله رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه خلفاء حنفاء هم علماء الأولياء، وأولياء العلماء، ملؤوا الخافقين إرشاداً والثقلين إمداداً. انتهى بتصرف. الشيخ عبد الله أبو الكمال بن عطا الله بن عبد الله بن بركات الحلبي الشافعي الكتبي الفاضل الأديب والشاعر البارع الأريب. ولد بأحد الجمادين سنة أربع وسبعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم على مصطفى بن سليمان الحموي المقري وأبي بكر بن عمر الحلبي وحفظه برواية حفص، واشتغل بالأخذ والتحصيل، فقرأ على والده العربية وتخرج عليه، وقرأ بقية العلوم على جماعة منهم أبو محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم الدري وأبو اليمن محمد بن طه العقاد وأبو عبد الله محمد بن حجازي الخفاف ومحمد بن يوسف الاسبيري المفتي وزين الدين عمر بن عبد الله الخفاف وقاسم بن علي المغربي المالكي التونسي، وسمع صحيح البخاري بطرفيه على عماد الدين إسماعيل بن محمد المواهبي وحضر دروسه وأجازه بخطه، وسمع حديث الرحمة المسلسل بالأولية من أبي الفتوح محمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، وهو ابن ثماني سنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 هو ووالده لما قدم حلب وأجازه بخطه، وسمعه أيضاً من أبي البركات عبد القادر بن عبد اللطيف النيسابوري الطرابلسي، وأجازه غالب شيوخه، وتفوق وتنبل ومهر وأقبل على نظم الشعر فنظم ونثر، وكان من الأدباء البارعين. ولما سافر العالم المؤرخ الفاضل محمد خليل أفندي المرادي إلى حلب سنة خمس ومائتين وألف اجتمع المترجم به فأخذ عنه واستجازه ونظم هذه القصيدة يمدحه ويهنيه بعيد الفطر: أبدت لنا الورقاء من ألحانها ... سجعاً ينوب عن السلاف وحانها تثني على أيامك الغر التي ... هي عندنا الأعياد في أعيانها فترنحت تلك الغصون صبابة ... وسرت حميا الأنس في عيدانها وتأرجت أزهارها وتبلجت ... أنوارها وافتر ثغرها أوانها فالنشر ند والمحاسن غادة ... وطغى الحباب على عقود جمانها طارحتها شكوى الغرام وحالتي ... وهوى أقام على حمى أوطانها أخبار حب قد روتها أدمعي ... وتسلسلت في الخد عن نعمانها كادت بطلف حديثنا وسماعه ... أن ترسل العبرات من أجفانها حتى درت ماذا أكابد في الهوى ... وتعرفت صدق الهوى بعيانها ذكرت لتجديد العهود مواعداً ... يجب الوفاء بها على ندمانها واستقبلت عود الأماني باللقا ... لقدوم عيد الفطر من إبانها فيه يهنى واحد المجد الذي ... ثنى ذكاء في سمو مكانها المشتري رتب الكمال من العلا ... والواهب الجوزاء من كيوانها المنتقى من أكرمين أعاظم ... نالوا الثوابت من لدى دورانها شم العرانين الفخام إلى السهى ... من غير ما يزهو على أخدانها فهم الصدور مهابة وجلالة ... وهم البدور طوالعا في آنها والجود ألقى في ذراهم رحله ... إذ كذبوا الأنواء في هتانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 والعلم والتقوى شعار مقامهم ... وسنا المحامد مخبر عن شانها ما ثم إلا وارد صادر ... شكر السحائب في ندى إحسانها فاذكر مرادك عندهم تلق المنى ... وتساعد الأقدار في جريانها كم رائد في المكرمات مرادهم ... ومشمر عن ساعد وبنانها والموهبات تقول ألسن حالها ... إن المواهب في يدي منانها فبنو المرادي هم أساطين الملا ... تعنوهم الفصحاء في أوزانها لا سيما المولى الخليل المجتلي ... نور البراعة من سنا حسانها العالم النحرير من وضحت له ... سبل الهداية سالكاً بأمانها بحر الفضائل ملتقى مجموعها ... همع الهوامع مرتوي ظمآنها ضوء السراة منارهم نحو الهدى ... كنز العفاة الطب من أحزانها صدر الشريعة والحقيقة نجمها ... يبدي الدليل الحق من برهانها حلى بسلسلة الجواهر فضله ... عن مالك قطب العلا سلطانها طرقاً تعانى جمعها أحيا بها ... سنن الرواة أجاد في إتقانها وأطاعه الخبر العويص عن النهى ... وتنقب الآثار من أكنانها وأبان عمن في العصور تقدموا ... بغراسة يمتاز في عرفانها وغدا مخلد جلها أسفاره ... بعبارة لم تنأ عن سحبانها قس المخضرمة الذين تخيروا ... الكلم النوابغ بانتقا عدنانها كاسي القريض محاسناً من لفظه ... كالخود زينها حلى عقيانها الملبس الألفاظ لما حاكها ... شبه الملوك تتيه في تيجانها فالنظم يلثم من ثنايا دره ... والدر ينظم في ثنا مرجانها وحلاوة القند الشهي سلافها ... وسلاف أهل الشوق خمرة حانها ونضارة الحسن البهيج نضارها ... وغضارة الولدان شرب دنانها لا زال سيدنا مدير كؤوسها ... في سائر الأعياد بدر زمانها صافي السريرة لا يشاب بشائب ... ومنيع ذات مجتني أقرانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 وتظل تصدح بالثنا لجنابه ... أهل البسيطة شامها ويمانها وملاحظين جنابه بدعائهم ... لا سي مخلصه فتى فتيانها ما لاح في القصوى هلال الفطر أو ... طلعت شموس السعد من ميزانها وكتب يمدحه أيضاً: بحقكما هبا فقد سطع الفجر ... وأذن داعيه ألا وجب الأمر وفي الطير والأفنان شاد ومائس ... غناء ولا هجر، ووصل ولا هجر ومن نشرها ريح الصبا زهر الربا ... إذا ضمها من نحو كاظمة النشر ودارت حميانا على البر والتقى ... حميا عفاف ما على ربها حجر سلافة قوم لم يذوقوا مدامة ... ولا خامروا خمراً ولا نالهم وزر نعم سمعوا يوماً أحاديث ماجد ... هي الدر قد وافى بتنظيمها الثغر هو البحر يرجى للعواطل دره ... كما أنه يحوي مناهله القطر ثمال عفاة في المآتم والأسى ... وحين صروف الدهر حان لها الغدر بقية أسلاف كرام تقدموا ... ومن سنن الآداب أن يختم الصدر إمام المعالي يقتدي أهلها به ... وقطب العوالي رقه الشمس والبدر بجد وجد ساد أمة جيله ... وشاد ذرى ما فوق ذروته قدر غذاه لبان الفضل من هو يافع ... وتوجه التوفيق والفتح والنصر فدانت له الأعلام من كل وجهة ... وقيل لأبناء الرجا هذه مصر فإن قصروا عن شأو علم أمدهم ... وإن مدت الأوغاد حاولهم قصر إذا ابن نجيم قاسه بنظائر ... ترى الفرق مثل الفجر ما دونه سر تنائى حبيب إن تدانى حبيبنا ... وأما زهير أين أنجمه الزهر وقس يقاسي العي عند خطابه ... وعمرو بن عثمان حوى زيده عمرو هنيئاً بني شهبائنا بقدومه ... فقد لعبت فينا الصبابة والخمر وحيا فأحيا بالتحية مغرماً ... يقلبه ليلاً على الكبد الجمر وباعد أحزاناً تحصن جيشها ... على قلب صب لا يناصره ذمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 فيا من به يستطلع البدر سعده ... وفاقاً لعلياه كما اتضح الأمر لأنت مراد الفضل وابن مراده ... وعامر ركن المجد طال لك العمر بقيت مدى الأيام أرباً لأهلها ... يسود بها الراجي ويتضع الغمر ويثني عليك الحظ أبيض ناصعاً ... وتخرس أعداك الأبالسة الحمر وعيشك والأيام والدهر والمنى ... رضي وأعياد وطوعك والأمر وكتب إليه أيضاً يمدحه: يا در در الجمال ما صنعا ... أسيره دون نيله قنعا أعز قوماً بعز منصبه ... وكلنا هيبة له خضعا فمن مجيري من أسر غانية ... غيداء في القلب طيفها رتعا رخيمة رخصة المعاطف والبنان تكشو من حيلها الجزعا أهدى إلي السقام ناظرها ... قاسيت سهداً لكنه هجعا عسالة القدر والمباسم وال ... حديث نشفي الطعان والوجعا فالغصن في الروض فرع قامتها ... والبدر في أفق وجهها طلعا كأنه ازدان من محاسن من ... حاز التقى والكمال والورعا بقية السادة الألى جمعوا ... مناقب العلم والصلاح معا حيث مراد العلياء كوكبهم ... يزهو على الكون كلما لمعا ومن سناه وعز طالعه ... نور علي على العلا سطعا فخلد الله أصل دوحتهم ... وصان باللطف فرعها ورعى أعني خليل الكرام سيدهم ... ومن نداه السحاب إن همعا الباسل الشهم والخضم إذا ... داعي الكمالات والنوال دعا الحائز الرفق والتعطف إن ... وافاه جان فحلمه وسعا والعالم الفاضل الذي ذكرت ... أبحاثه إن ضده منعا والناظم الناثر المجيد بما ... أبرزه الفكر والحجا تبعا ألفاظه الدر والجمان حلى ... فالقرط في أذن كل من سمعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 أو هي سحر ومن يعرضها ... يخال في الحال أنه طبعا أو هي بنت الكرام روقها ... أين الندامى يسقونها جرعا لا زال فوق النسرين طائره ... يصدح بالشكر كلما سجعا ومن يعاديه خاسراً حزناً ... ثاوي درك الحضيض متضعا ما افتر نور الخزام مبتسماً ... عن روق حسن صفاءه نصعا وما العطائي جاء معتذراً ... وراجياً أن يقال حيث لعا فإن جهد المقل مغتفر ... بقيت ما ارتاح مخلص ودعا وكتب له يمدحه أيضاً: ولهي بكم في غدوتي ورواحي ... وله العليل إلى شذى الأرواح وترنمي في مدحكم بين الملا ... روحي وندماني وملئ الراح وصدى يراعي إذ يراعي ذكركم ... عودي الرخيم ورنة الأقداح وطروسي اللاتي حوين سناءكم ... صفحات غراء الجبين رداح ومدادها نقش البنان من الدمى ... والنقط خيلان البياض الماحي أبي الأيادي الهاشمية والأكف ... الحاتمية والندى المياح الصاعدين إلى الكمال بلا انتها ... والمحرزين المجد دون براح من منكم قطب الوجود مرادنا ... روح المكارم بلبل الأفراح وحفيده علامة العصر الذي ... هو جوهر من فالق الأصباح السائر الأخبار في آفاقه ... ذكر يضوع بنشره الفواح من ليس يرغب عن مدائحه شج ... متهيم وأطاق فيه اللاحي ويك اتئد يا عاذلي أنا مغرم ... في وصفه أصبو إلى التمداح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 سكنت محبته القلوب بأسرها ... خلقاً بدون تعرض الأشباح سر أبان إلى النهى مرموزه ... إن الوفاق بعالم الأرواح أخلصت تهنيتي له بالصوم في ... هذا الربيع الوارق الأدواح لرجاء نيل القرب من ساحاته ... ثم التملي بالسنا الوضاح ظل ظليل في المهامه وارف ... خل خليل بحر كل سماح لا زال يبقى كل عام رافلاً ... متوشحاً بالمجد كل وشاح ما أهديت لجنابه تحف الثنا ... من مخلص ثمل المودة صاح أو ما يقول أبو الكمال مصدراً ... ولهي بكم في غدوتي ورواحي وله مخمساً أبيات الصغي الحلي سايرتنا إلى الليوث الحوامي ... مرهفات إلى الدماء ظوامي ما الأعادي إذا عدوا ما الروامي ... إن أسيافنا القصار الدوامي صيرت ملكنا طويل الدوام قد وعينا التلويح من كل مور ... وقدحنا من الزناد لموري لم يشب حزمنا ارتشاف خمور ... نحن قوم لنا سداد أمور واقتحام الأخطار من وقت حام من يفد حينا يعد بسلام ... ليس يخشى من سطوة وملام ولنا القرن طائع كغلام ... واصطلام الأعداء من وسط لام واقتسام الأموال من وقت سام مات رحمه الله عام ألف ومائتين وبعد الخمسة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 الشيخ عبد الله بن مصطفى بن أحمد بن موسى الحلبي الحنفي الشهير كوالده بالجابري نسبة إلى القاضي جابر بن أحمد الحلبي والد أم جده أحمد الفاضل الأديب الفقيه الكاتب البارع المنشئ، مولده في ربيع الأول سنة تسع وستين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم واشتغل بالتحصيل والأخذ، فقرأ على أبي الهدى صالح بن سلطان وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني وأبي المواهب إسماعيل بن محمد بن صالح المواهبي وسمع الكثير عليهم وعلى غيرهم، وأجاز له جماعة كأبي جعفر منصور بن مصطفى ابن منصور السرميني وأبي البركات عبد القادر بن عبد الللطيف البيساري الطرابلسي وغيرهم، وكان يكتب أنواع الخطوط مع الإتقان وكانت الأفاضل تشهد بنبله ونجابته. وفي سنة أربع وثمانين ومائة وألف دخل دمشق مع والده وعمه، ونزل في دار بني المرادي، وكانوا يشهدون له بالنبل والفضل. وفي سنة أربع وتسعين دخل دمشق المرة الثانية قاصداً الحج بالنسك، ونزل أيضاً في دار بني المرادي عند خليل أفندي صاحب التاريخ، وكان أيضاً مع والده، وكان يعرف اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية، وكانت علماء الروم يحررون ما يكتبه من الترسل التركي ويقيدونه عندهم، ويشهدون بتفوقه ونبله. وكان مع والده يشتغل بتحرير الوثائق الشرعية والصكوك لدى قاضي قضاة حلب، وكان والده رئيس العدول والكتاب بالمحكمة الكبرى. ولما صار والده نقيب الأشراف بحلب والمفتي العام بها صار ولده المترجم مكانه رئيس الكتاب، وشهد الناس بأدبه وعقله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 واحترمته الصدور والأعيان وكان ينظم القليل من الشعر، ومن كلامه مشطراً بيتي الجواليقي: ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... بزلال فيض فضائل ومراحم فقصدت مقصدهم وجئتك راجياً ... ووقفت خلف الورد وقف حائم حيران أطلب غفلة من وارد ... ولهان أرجو نجدة من راحم فأقمت منتظراً ببابك واقفاً ... والورد لا يزداد غير تزاحم وشطرهما أيضاً الأديب أبو بكر بن مصطفى الكوراني الحلبي: ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... وكأنهم ظفروا بمنهل حائم فقصدته متتبعاً وراده ... ووقفت خلف الورد وقف حائم حيران أطلب غفلة من وارد ... كي أرتوي وأنال عطفة راحم فبقيت ظمآناً أكابد لوعة ... والورد لا يزداد غير تزاحم وقد خمس تشطير الجابري الفاضل عبد الله بن عطاء الله الكتبي الحلبي: يا ذا الذي عنه الأكارم قد رووا ... وعلى نداه ورحب كفيه لووا وبك الملا كعب الأيادي قد طووا ... ورد الورى سلسال جودك فارتووا من فيضكم بمكارم ومراحم أموا من الأنواء صوباً هامياً ... يحيي مرابع للكرام خواليا واخضل عود الدهر طلقاً باهياً ... فقصدت مقصدهم وجئتك راجيا ووقفت خلف الورد وقف حائم أتراك يا حظي الخؤون مساعدي ... أرد الظلال بمعصي وبساعدي حتى م أبقى في عنا وتباعد ... حيران أطلب غفلة من وارد ولهان أرجو نجدة من راحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 لأبدع إن جانبت ظلاً وارفاً ... أو كنت من حر الأوام مشارفاً وافيت أثر الناس بيتك طائفاً ... وأقمت منتظراً ببابك واقفاً والورد لا يزداد غير تزاحم مات المترجم المذكور سنة ألف ومائتين ونيف. الشيخ عبد الله بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي أبو البركات جمال الدين العالم الفاضل والمحدث الكامل، شيخ القراء في حلب الشهباء، زين الثقات، جمال الرواة. مولده يوم عيد الأضحى سنة خمس وستين ومائة وألف، وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجوداً، وقرأ القراءات السبع من طريق الشاطبية، واشتغل بالتحصيل والأخذ والانتفاع، وقرأ وسمع وأخذ الفنون المتنوعة عن كثير من السادة المشايخ في المدة الطويلة، منهم والده وجل انتفاعه به وعليه، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي، ومصطفى بن عبد القادر الملقي، وأبو عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي، وأبو عبد الله محمد بن صالح المواهبي، وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري، والشمس محمد بن مصطفى البصيري شيخ القراء بحلب، والمقري زين الدين عمر بن شاهين، والتاج عبد الوهاب بن أحمد المصري، وأبو عبد الله محمد بن محمد التافلاتي، ولطف الله بن أحمد الأرضرومي، وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي مفتي الحنفية، وأبو الحسن علي الرابقي، وأبو داود سليمان بن أحمد الكليسي المفتي، وأبو بكر بن أحمد الهلالي القادري، وأبو إسحق عبد الجواد بن أحمد الكيالي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 عبد الله الحنبلي، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، والشمس محمد حاجي بن علي المفتي، وعبد الرحمن الدمشقي بن إبراهيم المصري، والشهاب أحمد بن إبراهيم الأربلي الكردي نزيل حلب، وأبو عبد الله محمد الصوارني الكردي، وأبو العدل قاسم بن علي التونسي المغربي، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني، وأبو الفضل فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي، وأبو عبد الله طاهرالحنفي، وأبو العباس أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب، والشهاب أحمد الكعاك، وأبو عبد الله محمد بن حجازي السختياني، وأبو عبد الله محمد الفرضي، والشيخ شرف الدين المقري، وأبو عبد الله عبد الكافي بن حسين الإمام، ومحمد بن زكريا المقري، ومهذب الدين سعيد بن عبد الله السويدي البغدادي، ومحمد بن يوسف المفتي، وأبو الإخلاص حسن بن عبد الله النجشي، وأبو الحسن محمد بن صادق السندي نزيل المدينة المنورة، وأبو الفيض محب الدين مرتضى بن محمد بن محمد الزبيدي اليمني نزيل مصر وغيرهم. وسمع الكثير من كتب الأحاديث الصحيحة والمسلسلات لحديث الرحمة وغيره وفضله لا زال في ازدياد إلى أن اخترمته المنية بعد الألف والمائتين وخمس سنوات رحمه الله رحمة واسعة. عبد الله باشا والي عكا ابن علي آغا الخزندار أحد مماليك أحمد باشا الجزار نقل صاحب المناقب الإبراهيمية، والمآثر الخديوية، إن المترجم المذكور، كان لا يركن إليه في أمر من الأمور، عديم الوفاء، متقلب الآراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 لا يرعى عهداً، ولا يحفظ وداً، عاكفاً على الملاهي واللذات، مشغوفاً بسماع الأغاني والأصوات، فساعدته يد العناية، حتى تمكن من الولاية، وطابت له الأيام، وبلغ القصد والمرام، وكان دأبه الاهتمام بإقامة العمار، وتحصين عكا بالأبراج والأسوار، وجمع الأموال من جميع الأقطار، وكان قد استولى عليه الطيش، واستخفه البطر وطيب العيش، حتى حاد عن الطريق المحمود، وتجاوز في الأحكام الحدود، وأشهر العصيان على الدولة، ذات الشوكة والصولة، أملاً بالاستقلال، وطمعاً في الجاه والأموال، ولما بلغ حضرة السلطان محمود خان، ما هو عليه من الجنون والهذيان، والتمرد والعصيان، وارتكاب الظلم والعدوان، غضب من سوء فعاله، وأرسل عسكراً لتربيته وقتاله، تحت راية البطل الهمام، درويش باشا والي دمشق الشام، فحاصره زمناً طويلاً، وأذاقه عذاباً وبيلاً، ولما اشتد عليه القتال، وأحاطت به الأهوال، وانقطع عنه الإمداد، من سائر البلاد، صحا من غفلته، واستفاق من سكرته، وداخله الخوف والفزع، واضطرب من الهلع، وأيقن أنه إذا طالت عليه تلك الحالة، يؤخذ أسيراً لا محالة، فابتدر بالعجل، لاستدعاء الأمير بشير حاكم الجبل، وكان من أفراد الرجال، موصوفاً بالفضل والكمال، وحسن التدبير وجميل الخصال، ولقد أجاد من وصفه فقال: إنما أنت واحد غير أني ... لست أعطيك منزل الآحاد فبماذا يبالغون وهم لا ... يبلغون الإنصاف بعد الجهاد لك خوف لو صادف العين في م الحلم لصارت تخاف طيب الرقاد تفخر الناس بالجدود ولكن ... أنت فخر الآباء والأجداد وأرسله إلى الديار المصرية، ليستميل له خاطر الحضرة الخديوية، لإصلاح أمره مع الدولة العلية، وكان محمد علي باشا له وجاهة كبيرة، ومنزلة عند الدولة رفيعة خطيرة، فلبى دعوته، وأجاب طلبته، وكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 في شأنه إلى القسطنطينية، واسترضى الدولة بموجب إرادة سنية، ورفع عنه تلك الشدة، بعدما أقام في الحصار مدة، وصار له عليه حق الجميل والإحسان، على مدى السنين والأزمان، غير أن عبد الله باشا كبرت نفسه بعد ذلك عليه، وجحد فضل محمد علي باشا وإحسانه إليه، وحصول العفو له على يديه، وسلك معه سلوك اللئام، الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وتكلم في حقه بما لا يليق من الكلام، فلما بلغ محمد علي باشا هذا الخبر، زاد به الغيظ والكدر، وكتب إلى حضرة السلطان محمود خان، يعلمه بهذا الشأن، ويلتمس من جلالته، خلع عبد الله باشا عن ولايته، فلم يكترث بخطابه، ولا أجابه على كتابه، واستعظم منه ذلك الأمر، ورآه من عجائب الدهر، ولم يعد يمكنه الاصطبار، على ذلك الذل والعار، فجهز ولده المعلوم بالعناد، والمبغوض لدى العباد، إبراهيم باشا رأس الفساد وخراب البلاد، أن يسير لحرب الديار الشامية، وأردفه بالعمارة البحرية، وأصحبه بثلاثين ألفاً من العسكر، الذين لا يبالون بالخطر، ولا يهابون الموت الأحمر، فسارت العساكر، بالمهمات والذخائر، قاصدة الديار الشامية، على طريق البرية، وأما القائد العام، لهؤلاء العساكر الطغام، وهو إبراهيم باشا فإنه نزل في العمارة البحرية، مع باقي الجيوش العسكرية، وكان من جملة معاونيه، عباس باشا ابن أخيه، وإبراهيم باشا الصغير، وغيرهما من القواد المشاهير، وكانت العمارة المصرية، مؤلفة من ست عشرة قطعة حربية، وسبع عشرة سفينة وسقية، تحت رياسة أحد القوادين من الضباط المصرية، عثمان بك نور الدين، وكان خروجه من بغاز الإسكندرية، في غزو جمادى الأولى سنة 1247 هجرية، فوصل في خمسة أيام، إلى حيفا إحدى أساكل بر الشام، وهي بلدة تبعد عن عكا ثلاث ساعات، وأهلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 يبلغون نحو ثلاثة آلاف من النسمات، ولما ألقت المراكب مراسيها نزل إبراهيم باشا إليها وخيم في نواحيها، فتزلزت بقدومه الديار الشامية، وارتجت من هيبته رجة قوية، وأما باقي الجيش والعسكر، الذي سار على طريق البر الأقفر، فإنه كان قد واصل التسيار، وجد في قطع البراري والقفار، فأشرف على عكا من الجهة الجنوبية، في عشرين من تشرين الثاني " سنة 1831 مسيحية "، وانضم إلى باقي الجيوش المصرية، وكان لما بلغ عبد الله باشا هذا الخبر، وأبصر الجيش والعسكر، أحاط به الخوف وانذعر، وطار من عينيه الشرر، ففرق الأموال، وجمع الفرسان والأبطال، وشرع في تحصين القلع والأسوار، واستعد للقتال والحصار، وأرسل يستدعي من حوله من الأكابر والأعيان، وكتب بخط يده إلى الأمير بشير حاكم لبنان، يستنجده لهذا الأمر، ويقول له: إن المشايخ بني الجرار وبني صقر وعرب السلط وبني صخر ينتظرون قدومه إليهم، ليكون رئيساً عليهم. وفي أثناء ذلك يذكره بالصداقة القديمة والمحبة، ويثنى على أمانته وحفظه المودة والصحبة، متمثلاً بقول الشاعر: وأنت الخالص الذهب المصفى ... بتزكيتي ومثلي من يزكي وكانت عكا في تلك الأيام، من أشهر مدن بر الشام، وكرسي الولاة والحكام، ذات أبراج حصينة، وقلاع متينة، مشحونة بالذخائر والمهمات، وآلات القتال والجباخانات، وفيها من رجال الحرب، وفرسان الطعن والضرب، نحو خمسة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، وكان إبراهيم باشا صاحب الهمة العلية، قد تقدم نحو عكا في فرقة قوية، من الفرسان والطوبجية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 وبنى أتراساً متينة، على تل هناك تجاه المدينة، ويقال له تل الفخار، ووضع عليه المدافع والقنابل الكبار، وأرسل إلى عبد الله باشا يقول، ضمن كتاب مع رسول، أن يسلم المدينة، بطريقة أمينة، ويربح دم العباد، وسلامة البلاد، ويبادر إلى ملتقاه، ويعتذر مما جناه، ويدخل تحت لواء الحضرة الخديوية، ويعيش باقي أيامه في عيشة رغد ورفاهية، وعين له أجلاً للحضور وتسليم الحدود والثغور، إن تجاوزه ولم يخضع لأمره، يضربه بالمدافع ويجعل كيده في نحره، وحينئذ يأخذ أسيراً، ويرسله إلى مصر ذليلاً حقيراً، ولا يعود يفيده الندم، بعد فوات الفرصة وزلة القدم، فلما وقف على كتابه، وفهم فحوى خطابه، شق ذلك عليه، وعظم الأمر لديه، وحدثه عقله السقيم، بعدم الطاعة والتسليم، وتصلب على المحاصرة والمقاومة، وأصر على المدافعة والمصادمة، ورفض أمر الصلح والمسالمة، وسعى بسوء تدبيره، على خرابه وتدميره، ولم يعلم أن أيامه قد مضت، ومدة أحكامه زالت وانقضت، واستمرت بينهما المخابرة نحو عشرة أيام، وعبد الله باشا يحاوله بالكلام، ولا يقدر عواقب الأيام، وكان مستر بيتر أبوت، قنصل دولة الإنكليز في بيروت، لما بلغته هذه الأخبار، سار قاصداً تلك الديار، واجتمع في إبراهيم باشا في الخيام، بعد مسيرة ثلاثة أيام، وأخذ يلومه بالكلام، على قدومه إلى بر الشام، بدون رخصة سنية، من الدولة العلية، بقوله له أن هذا العمل، لا توافق عليه بقية الدول، لا سيما الدولة الإنكليزية، المتحدة مع الدولة العثمانية، على حفظ الصداقة وإخلاص الطوية، فاغتاظ إبراهيم باشا منه وتأثر، غير أنه لم يظهر له من غيظه ما أضمر، وقال له اعلم، أيها الصديق الأكرم؛ أني حضرت بالعساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 الجهادية، لاستخلاص الديار الشامية، انتقاماً من عبد الله باشا بأمر الحضرة الخديوية، فإن كان ذلك لا يوافق دولة الإنكليز، فعليها أن تخاطب به جناب والدي العزيز، فمتى أمرني بالرجوع، عدلت عن هذا المشروع، وإلا فلا أرجع بدون ذلك، ولو قامت علي جميع الممالك، ثم نهض على الأثر وتوجه قاصداً المعسكر، ولم يلتفت إلى حديث مستر أبوت وكلامه، ولا اكترث بتعنيفه وملامه، واستمر على ما كان قد قصد. من ضرب الأسوار وهدم البلد، فلما انقضت مدى الميعاد المعهود، وفات وقت الأجل الموعود، وعبد الله باشا ما زال مصراً على عدم تسليم المدينة، معتمداً على قوته وعلى أسوارها الحصينة، استعد إبراهيم باشا وتأهب، في اليوم الرابع من شهر رجب، إلى ضرب المدينة، وهدم أبراجها المتينة، فأرسل إلى رؤساء الطوبجية، وقائد العمارة الحربية، يأمرهم بإطلاق النار، على الأبراج والأسوار، فامتثلوا ما أمر، ولم يمض إلا لمحة بصر، حتى أطلقت المدافع والقنابل، على الحصون والمعاقل، وكان الضرب متواصلاً من الخارج والداخل، كالغيث الهاطل، وكان قد أرسل إلى الأمير بشير حاكم الجبل، كتاباً يستدعي حضوره بالعجل، ليقرره في مركز حكومته، ويعيش في ظل نعمته، فلما وقف على هذا الخطاب، داخله الخوف والاحتساب، وجمع أكابر لبنان، ومن يعتمد عليهم من الأعيان، واستشارهم في هذا الشأن، فاستقر رأي الجمهور، على عدم التسليم والحضور، خوفاً من عواقب الأمور، فلما أبطأ في قدومه، وأصر على عدم تسليمه، استشاط إبراهيم باشا غضباً، وتبدل واسع حلمه لهباً، وكان قد صمم النية، على أن يدهمه بالعساكر النظامية، ويقبض عليه جبراً، ويستولي على لبنان قوة وقهراً، ثم توقف وعدل، عن هذا العمل، لأن أباه كان أوصاه به قبل خروجه من القاهرة، وبالعساكر الظافرة، نظراً لما كان وقع له عنده، من التقرب في المودة، وذلك عند زيارته الديار المصرية، وتمثله أمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 الحضرة الخديوية، في طلب العفو والأمان، حسبما قررناه قبل الآن، فكتب إلى والده بمصر، يعلمه بهذا الأمر، فلما وقف العزيز على هذا الخبر، داخله الغيظ والكدر، وتأثر من مخالفة الأمير، وكتب إليه كتاباً على سبيل التنبيه والتحذير، يعاتبه على ذلك القصور ويتهدده بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر، لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية. هـ بسوء العاقبة إن تأخر عن الحضور، ومن جملة فحواه، ومضمون ما حواه إن لم تحضر إلى خدمة ولدي إبراهيم باشا سريعاً، وتكون لأوامره سريعاً مطيعاً، فليكن عندك يقيناً، أني سأخرب مساكنك وأغرس أرضها عنباً وتيناً، وقد بالغنا في النصيحة، وحذرناك بأقوالنا الصحيحة، فاستيقظ من رقادك، واحذر عاقبة عنادك، قبل أن تهجم العساكر عليك، وتأخذ ولايتك من بين يديك. فاضطرب الأمير بشير، من هذا التهديد والتنذير، وأثر فيه هذا الكلام، وخاف عواقب الانتقام، فصمم على التأهب والمسير، للورود على إبراهيم باشا من غير تأخير، وركب من يومه، في مائة فارس من قومه. ولما أقبل على المعسكر، خرج إلى ملتقاء أميرالاي العسكر، وتبعه بحري بك رئيس الكتيبة ومصطفى آغا بربر، وبعض رؤساء العساكر والجنود، بالموسيقى وإطلاق البارود، فدخلوا به الأوردي بموكب عظيم، ونزل في الخيمة المعدة له قرب خيمة إبراهيم. وكان إبراهيم باشا حينئذ يجول بين الجيوش والقواد، ويرتب الصفوف والأجناد، وينشطهم على الهجوم والثبات، والحرب قائمة على عكا من جميع الجهات. وعند رجوعه في المساء استدعى الأمير إليه، فطيب قلبه وصفى خاطره عليه، ولاطفه بالحديث والكلام، وأجلسه معه على سفرة الطعام، وفوض إليه أحكام جبل لبنان، واتخذه من جملة الحواشي والأعوان، وكان قد أرسل فريقاً من العساكر، بالمهمات والذخائر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 954 لاستخلاص الثغور والأساكل، تحت قيادة حسن بك المناسطرلي الرجل الباسل، فاستولى على صيدا وصور، وبيروت وطرابلس وباقي الثغور، وكانت العمارة الرابطة تجاه عكا قد تعطل بعضها من شدة العواصف والأنواء ووقوع الكلل الكبار، التي كانت تسقط عليها كالأمطار، من الأبراج والأسوار، في الليل والنهار، فأقلعت بأمر إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، في آر كانون الثاني سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين هجرية، وألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين رومية. ولما بلغ السلطان محمود خان، قدوم إبراهيم باشا إلى عربستان ووضع يده على المدن والبلدان، استولى عليه الغيظ والغضب، وكتب إلى محمد باشا والي حلب، يقول له من جملة الكلام: اعلم أيها الوزير الهمام، قد انتهى إلينا في هذه الأيام، مجيء إبراهيم باشا بالعساكر المصرية، لفتح البلاد الشامية، والاستيلاء على ولاياتها، ومدنها وباقي ملحقاتها، واستولى على أطراف البلاد، وانقادت إليه العباد، فلذلك قد أصدرنا الأوامر والمراسيم، بتجهيز العساكر وإرسالها إلى تلك الأقاليم، تحت راية السردار الأكرم، حسين باشا الأفخم، فيجب عليكم، بوصول أمرنا هذا إليكم، أن تحصنوا القلاع والمعاقل، وتجمعوا العساكر والجحافل، وتستخلصوا منه تلك الأساكل، قبل قدوم الجيوش المذكورة، والعساكر المنصورة. فلما وصل هذا المنشور، إلى الوالي المذكور، شرع في تحصين البلد، بالسلاح والعدد والعدد، وجمع العساكر والجنود، وعقد الرايات والبنود، وسار إلى حمص من غير توان، في سبعة آلاف عنان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 من الأرناؤوط والهواري والعربان، وعند وصوله إلى المدينة، حصن قلاعها بالمدافع والأبنية المتينة، وأقام بفرسانه فيها، وعسكر في جهاتها ونواحيها، منتظراً قدوم العساكر العثمانية، ومجيء حسين باشا من القسطنطينية، وأرسل أمامه عثمان باشا كامل، في أربعة آلاف مقاتل، بين فارس وراجل، لقتال العساكر المصرية، واستخلاص المدن البحرية، فسار بهمة وحمية، واستولى على اللاذقية، ثم تقدم بعزم وثبات، إلى نواحي طرابلس وتلك الجهات، فالتقاه من عساكر مصر شرذمة، نحو خمسمائة نسمة، وكان في مقدمتهم الأمير خليل الشهير، ابن الأمير الشهابي بشير، وبمعيته ستمائة بطل، من عسكر الجبل، ولما وقعت العين على العين، اشتعلت نيران الحرب بين العسكرين، والتقت الفرسان بالفرسان، والأقران بالأقران، واختلف الضرب والطعان، وسالت الدماء على أديم الصحصحان، وأخذ حده السيف والسنان، ولم تكن إلا ساعة من الزمان، حتى تضعضعت من عثمان الأركان، فولى الأدباء، واستنجد بالفرار، ورجع بمن معه من الفرسان والأنفار، إلى قلعة الحصن وبلاد عكار، وهو في حالة الذل والانكسار، وحينما بلغ إبراهيم باشا هذا الخبر، ومجيء محمد باشا إلى حمص بذلك العسكر، وهو إذ ذاك محاصر عكا الحصينة، وقد كاد أن يفتحها ويهدم أسوارها المتينة، تجهز من يومه وسار، في أربعة آلاف فارس كرار، قاصداً تلك الديار، وترك عكا تحت الحصار، ثم عجل في السير، وسابق بمسيره الطير، فأدرك عثمان باشا في أرض الزراعة بقرب القصير، وكان محمد باشا قد أمده بالمهمات والذخائر، وأضاف إليه فرقة من العساكر، فناوشه الحرب، وبادره بالطعن الضرب، فقهره وكسره، وفرق جيشه وعسكره، وفر عثمان باشا من ساحة المعمعة، وترك الذخائر والمهمات والأمتعة، ولجأ إلى حمص بمن سلم من جنده معه، بعدما قتل من عسكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 نحو ألف قتيل، ومن المصريين نفر قليل، ثم رجع إبراهيم باشا على الأثر، بعدما غلب وقهر، وفاز وانتصر، وغنم وأسر وبلغ القصد والوطر، وأتى دير القمر، وترك فيها ألفاً وخمسمائة نفر، من شجعان العسكر، وعاد إلى عكا بعد ذلك الانتصار، وشدد عليها الحصار، وكان قد أرسل عباس باشا إلى بعلبك في اليوم الخامس عشر من نيسان، وأصحبه بألابين من الفرسان، ليقيم محافظاً في ذلك المكان، وكانت الحرب على عكا قائمة، والمدافع على أبراجها متصلة دائمة، حتى هدم أكثر حصونها وأسوارها، وسقط رونق مجدها وفخارها، من وقوع الكلل والقنابل، وهجوم الأبطال والجحافل، وكانت سكان البلد، من الشيخ إلى الولد، في خوف واحتساب، وقلق واضطراب، من سقوط الكلل وأصوات البارود، فكانوا يستترون تحت العقود، واستمر القتال، على هذا المنوال، مدة سبعة شهور، بلا انقطاع ولا فتور، وكان المصريون في أثناء الحصار، يحفرون حفراً تحت أساسات الأسوار، ويضعون فيها البارود ويضرمونها بالنار، فتهدم ما فوقها من البنيان. ولما كان يوم الجمعة الموافق من ذي الحجة سنة 1247 هجرية، صمم إبراهيم باشا النية، بقيام هجمة قوية، لينتهي بها الحال، وتكون واقعة الانفصال، فجمع أركان حربه إليه، وأخبرهم بما قد عول عليه، وأعطاهم الأوامر والإرشادات اللازمة، المتعلقة بكل واحد منهم في تلك المهاجمة، وعين لها اليوم الثاني من ذلك النهار، وهو السابع والعشرون من ذي الحجة والثامن والعشرون من أيار، ولكن لما كان الأحسن قبل القتال طلب التسليم على أحسن حال، أرسل إلى عبد الله باشا قائداً من العمد، يطلب إليه أخيراً أن يسلم البلد، قبل أن تفوته فرصة الأمان، ويقع في قبضة الأسر والهوان، وأنه غير منفك عن هذا الشأن، ولو تخربت عليه جبابرة الأرض ومردة الجان، فلم يلتفت عبد الله باشا إلى هذا التحذير والتنذير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 وعده من باب الخوف والتقصير، وقال للقائد المذكور: إن مدة الحصار لم تتجاوز بعد سبعة شهور، والمدينة بحمد الواحد الأحد، مشحونة بالسلاح والعدد، وفيها من الجبخانات، والذخائر والعلوفات، ما يكفيها خمس سنوات، فمتى جاء الوقت المعهود، وفرغ الزاد والبارود، وانقطع عنها الإمداد والإسعاف، ننظر حينئذ في إنهاء هذا الخلاف. فلما عاد القائد إلى مولاه، وبلغه جواب عبد الله، تعجب من وقاحته وحار وأمر بإطلاق المدافع على الحصون والأسوار، فأطلق طول ذلك الليل، وانصبت على البلد كعارض السيل، ولما كان الصباح، تأهب العسكر للهجوم والكفاح، فقرعت الطبول، ولمعت النصول، وخفقت الرايات ونفخ النفير، وانقسمت الآليات إلى فرق وطوابير، وسارت العساكر، كالأسود الكواسر، بحسب صدور الأوامر، طالبة القلاع والأبراج، بدون خوف ولا انزعاج، وفي مقدمتها هاتف السعد والإقبال، ينشد قول من قال: هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا نحن الأسود الكاسرة ... نحن السيوف الباترة من أرض مصر القاهرة ... سرنا وقد نلنا المنى هيا بنا هينا بنا ... للحرب نلقى ضدنا نحن الجهاديون لا ... نخشى غباراً إذ علا ولم ندق في البلا ... صدراً إذا الموت دنا هيا بنا هيا بنا ... للحرب نلقى ضدنا بارودنا شراره ... يشوي الوجوه ناره وسيفنا بتاره ... من العدى تمكنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 ولم تكن إلا ساعة من النهار، حتى أشرفوا على الأسوار، واندفقوا عليها كالبحار، وكان أول من هجم بأمر إبراهيم، طابور من الألاي العاشر على برج كريم، الكائن في الجهة الغربية، من الأسوار الشمالية، ثم أتبعه على الأثر ثلاثة طوابير أخر، تحت قيادة الشجاع الشهير، إبراهيم باشا الصغير، وهو والد جناب حيدر باشا وخليل باشا يكن، أصحاب الخلق الجميل والصيت الحسن، وانعطفوا بحملاتهم أسرق من البرق، على الكائنة تجاه الشرق، وكانت أكثر هذه المواضع، مثقوبة بكلل المدافع. وأما أسد الآساد، وسيف الجهاد، وقائد القواد، فكان سائراً على أثر العساكر، وبمعيته طابوران من الألاي الخامس والعاشر، وكان يجول على ظهر جواده، بين صفوف فرسانه وأجناده، وهو يشجعهم بالكلام، وينشطهم على الهجوم والاقتحام، ويعدهم بالمكافأة والإنعام، فلله درهم من فرسان وأبطال، ما أشدهم في الحرب والقتال، وأثبتهم في ميدان النزال، على المخاطر والأهوال. وكان الرصاص يتناثر عليهم كالبرد، من الأبراج ومتاريس البلد وهم ثابتون ثبات الجبابرة، أو الأسود الكاسرة، غير مبالغين بالخطر، طمعاً بالنصر والظفر، وبلوغ القصد والوطر، بل كانوا يهجمون، على الأسوار والحصون، بهمم وعزائم، أمضى من الصوارم، وينصبون عليها السلالم، ويتسلقون فوقها كالضراغم، هذا ولم ينتصف النهار، حتى تمكنوا بالقوة والاقتدار، على أكثر الحصون والأسوار، ونشروا عليها بيارق الانتصار، فاستولى الطابور الثاني، على المراكز والمباني، التي في الناحية الشرقية، المتصلة بأطراف الأسوار الشمالية، واستولى الطابور السادس، من الألالي الخامس، على جميع الصوايح، التي في جهة النبي صالح، وهكذا استولى الألالي الاحتياطي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 على المتاريس الواقعة بقرب الشاطئ، فلما رأى عبد الله باشا ذلك الهول العظيم، والخطب الجسيم، ندم على عدم الطاعة والتسليم، وعلم أن نجمه قد سقط، وعقد عزه قد انحل وانفرط، وأنه عما قريب يؤخذ أسيراً، ويقاد أمام عدوه ذليلاً حقيراً، بعد أن كان والياً ومشيراً، ولكنه أظهر الصبر والجلد، وسار بالعسكر إلى خارج البلد، بقصد المدافعة والممانعة، وسد أبواب الهجمات المتتابعة، فخاض ساحة المعركة، وجرت بينهم وقعة مهلكة، قتل فيها من قواد المصريين، وأبطالها المشهورين، الشجاع المقدام، إسماعيل بك القائم مقام، وبموت هذا الأسد الغضنفر، ارتد جيش المصريين وتأخر، وضعفت عزيمته وتقهقر، فلما رأى إبراهيم باشا أن العسكر، قد أمسى في ارتباك منكر، خشي من الهزيمة والانكسار، بعد ذلك الفوز والاستظهار، فتقدم نحو جنوده بحرسه، وهو راكب على ظهر فرسه، وجعل يحرضهم على الثبات والجهاد، ويحثهم على الصبر والجلاد، ويقول هذا يوم الانتصار، هذا يوم الافتخار، هذا يوم بلوغ الأوطار، فكانوا تارة يتقدمون وتارة يتأخرون، فعند ذلك سل سيفه من غمده، وانعطف بالحملة أمام جنده، واقتحم مواكب الأعداء فشق الصفوف والكتائب، وأظهر بشدة شجاعته وبسالته العجائب، فتشجعت عزيمة العساكر، من هيبة هذا البطل الكاسر، وداخلتهم الحماسة والفتوة، وكروا على أعدائهم بكل نشاط وقوة، فسدوا عليهم الطرق والطرائق، وأثخنوهم بضرب السيوف والبنادق، وأزاحوهم إلى ما وراء الخنادق، ثم قويت عزيمة المحصورين، وانعطفوا بالحملة على المحاصرين، وحينئذ اختلط الرجال بالرجال، والأبطال بالأبطال، والتحم القتال، واتسع المجال، وعظمت الأهوال، وجرى الدم وسال، وتمكنت الصوارم، في الرقاب والجماجم، والحراب والخناجر، في الصدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 والخواصر، وكان يوماً من أعظم الأيام، وساعة يشيب من هولها رأس الغلام، لأن الدماء كانت تسيل كالمطر، والجثث تتساقط على الأرض كأوراق الشجر، والسهول والتلال، تهتز من ضجيج الرجال، وأصوات المدافع التي تزعزع الجبال، حتى خيل للنظار، في ذلك النهار، أن الساعة اقتربت، والأرض ارتجت واضطربت، والسماء غابت واحتجبت، والمدينة احترقت وانقلبت، ولقد أحسن المقال، وصدق من وصف عكا في ذلك وقال: قد قيل أن جهنماً تحت الثرى ... مالي أراها فوق عكة تضرم لو لم تكن دار الشقاوة عكة ... ما أضرمتها بالشرار جهنم واستمرت تلك المعاركة، والمهاجمة المتداركة، من الصباح إلى بعد العصر، حتى هبت ريح النصر، وكانت قد كلت جموع عبد الله باشا، وانحل عزم نشاطها وتلاشى، وعجزت عن حماية البلد، ولم يعد لها أدنى ثبات ولا جلد، فألقوا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، خوفاً من حلول البوار، ونزول الدمار، وطلبوا لأنفسهم الأمان، واختاروا الأسر والهوان، وانصبت العساكر المصرية كالسباع، واندفعوا على البلد أشد اندفاع، بقلوب لا تخشى الموت ولا ترتاع، وتسلموا باقي الأبراج والقلاع، واستولوا على مدينة عكا عنوة وقهراً، بعد انحصار سبعة أشهر براً وبحراً، وتسلم إبراهيم باشا زمام تدبيرها، وقبض على عبد الله باشا وزيرها، وألقاه تحت الحفظ والترسيم، بعدما وبخه على فعله الذميم، وسلوكه الغير المستقيم. وفي اليوم الثاني وهو يوم الأحد، نزل في قصر البهجة خارج البلد، وهو أحد القصور، المختص بعبد الله باشا المذكور، ولما استقر في ذلك المكان، خرج إليه الأكابر والأعيان، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى ذلك الشان، وعاملهم باللطف والإحسان، ثم أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 بكتابة الأوامر والمراسيم، إلى ولاة المدن والأقاليم، يعلمهم بذلك الفتح والنصر، وأنه استولى على عكا بالقوة والقهر، فكتبت في الحين، وأرسلت إلى الولاة والمحافظين، وهذه صورتها: بعد السلام عليكم، المنهى إليكم، إنه نهار أمس، عند طلوع الشمس، زحفت عساكرنا المصرية الظافرة، بالقوة والسطوة القاهرة، واندفعوا على مدينة عكا اندفاع الأسود الكاسرة، وبادروها بالمهاجمة، واقتحموها بالمصادمة والمقاومة، إلى أن فتحوها بقوة الحرب والنار الدائمة، وصعدوا أسوارها الرفيعة، ووطئوا أبراجها المنيعة، وغدت عساكر الأعداء مقهورة، أما عساكرنا المنصورة. ولما تضعضعت منهم الأركان، ورأوا ما جرى وكان، ورفعوا الرايات وطلبوا الأمان، فأجبناهم إلى سؤالهم، وبلغناهم غاية آمالهم، وعاملناهم بالرفق والإحسان، شفقة على الأهالي والسكان، ورأفة بالبنات والصبيان، والأطفال والنسوان، وأخرجنا عبد الله باشا وكتخداه، وقواد عسكره وزعماه، واستولينا على عكا قهراً بإذن الله، ولأجل إعلان هذه البشرى حررنا لكم هذا المنشور، من ديوان عسكرنا المنصور، لتعلنوا مضمونه بالشنلك والسرور وتواظبوا تأدية الدعوات الخيرية، إلى حضرة باري البرية، بدوام بقاء سعادة ولي النعم، جناب والدنا المعظم. حرر في 28 ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين وختمه تحت الإمضا: سلام على إبراهيم. وبعد ذلك استدعى بعبد الله باشا فحضر بين يديه، وسلم عليه، واعتذر إليه، وتصور الموت نصب عينيه، فلاطفه وطيب قلبه، وسكن روعه ورعبه، وأجلسه بالقرب من حضرته، وقابله بما يليق بمقامه ورتبته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 ثم أرسله إلى أبيه أسيراً، وعند دخوله على أبيه وقع على قدميه مستجيراً، ملتمساً منه الرضى، والعفو عما قد مضى. فلما رأى حاله، صفح عنه وأذهب أوجاله، وأنزله في أحسن السرايات، وأجرى له ما يلزمه من الحوائج والنفقات، ثم أرسله بالتكريم إلى دار السعادة، فبعد وصوله أرسلته الذات الشاهانية شيخاً على حرم المدينة الشريفة ذات السيادة. ولم يزل في المدينة عدة سنين، حتى توفي بها سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين. الشريف عبد الله باشا بن الشريف محمد بن الشريف عبد المعين ابن الشريف عون بن الشريف عبد المعين بن الشريف عون بن الشريف محسن المكي. بدر فضل قد ترقى على مدارج الصعود، ومشكاة أصل قد اقتبس من نورها طالع اليمن والسعود، وبحر نوال قد احتوى على أفنان الرغائب، وجد كمال قد استوى على عرش المناقب، سرى في معارج السعادة حتى وقف على الأعلى، وجرى في مناهج السيادة إلى أن كشف الجلي منها والأجلى: طيب النبوة فيه عنه يخبرنا ... بأنه ثمر من دوح طوباها كريم نفس من الإحسان قد جبلت ... منه الطباع وإن الفضل أعلاها ذات من اللطف صاغ الله عنصرها ... وقد كساها حلاها حين سواها لم يظفر الوهم يوماً في تصورها ... ولا يزور خيال الوهم مغناها تردى برداء الفضائل فكان لها مظهراً، وتصدى لورود الأفاضل فكان لها مورداً ومصدراً، وجمع المحاسن الداعية لطواف الأحاسن حول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 كعبة ذاته، وطبع القلوب على الشغف بمديح أفعاله ومليح صفاته، واشتهر قدره في العالم اشتهار الحسن للقمر، وانتشر ذكره بين الأنام انتشار العبير في حدائق الزهر، وتسامى علاه بالمجد إلى أن سما فوق المجرة، وترامى على أقدامه فرقد السعد وحفه بأنواع المسرة، وبسم له ثغر الدهر مبشراً له بنوال مناه، ورسم له من جلي القدر وعلي الذكر ما تقر به عيناه، ولاحظته عين الإمداد بإيثار البر والندى، وصافحته يد الإسعاد براحة الإرشاد والهدى: انظر إليه ترى بدراً وشمس علا ... وقطب فهم وعلم زان بالعمل وليس يشبه هطل السيل نائله ... هذا الذي جوده قد جل عن ملل هيهات يحصي ذوو الأقلام ما اجتهدوا ... أوصافه الغر ذات العز والجزل حقق ترى جملة الأوصاف شيمته ... كأنه قد براها الله في رجل قد ألبسه الفخار تاج التوقير والإجلال، وحرسته عين الحماية عن معاكسة الآمال، وجذبته يد الأماني نحو كل مطلوب، وجبذته يمين التهاني إلى كل محبوب ومرغوب، وتهادت بنشر أريجه زهر الربا، وتوالت بنقل عطر أخباره نسمات الصبا، وتبدى في أفق السمو فكان شمسه المنيرة، وتردى بموجب الثناء فاستوجب قليله وكثيره، وتكلل بإكليل المعالي فكان لإمارة الحجاز لي عهدها، وتسلسل نسبه الشريف في الأعالي فكان لراية الاعتزاز علي مجدها: هذا هو الشهم الذي حاز العلا ... وجلت لنا الألطاف رفعة قصده والماجد البطل الذي للارتقا ... لا زال يرفعه الزمان بجده تالله هذا للفضائل حلية ... ولجيد هذا العصر لؤلؤ عقده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 فلعمري لقد أنار الله به ربوع الفضائل، وأدار على محور عليائه مدار شمائل الأفاضل، ونشر للخافقين أجنحة الثناء عليه، وجمله بما كمله به من العواطف النبوية الآيلة بالإرث إليه، وخفضت هيبة جلالته العيون عن النظر في محياه، وحجبت عظمة ذاته المصطفوية الظنون عن توهمها إحصاء نعمته وحلاه: فهو الهمام الذي صحت سيادته ... واشتق من خير خلق الله عنصره مهذب فطن كادت فراسته ... عما بقلبك قبل القول تخبره من معدن المجد حقاً كان هيكله ال ... عالي وكاد فؤاد اللطف يضمره هذا وإن غوامض فكره تحكي الدراري عداً، وفرائض شكره لم تبلغ الألسنة لها حداً، فاق على الكرا بكرمه المشهور، وراق لديه الإنعام حتى صار به كالعلم المنشور، ونحته المعالي إلى أن وقفت ببابه وتخيرته لأن تكون مقصورة على سموها بجنابه: ربيع إذا ما زرته زرت روضة ... يفتح فيها جوده حدق الزهر إذا يده البيضاء أخرجها الندى ... فقد نلت ما ترجوه من وافر البر فكم من بيوت شادها فيض كفه ... فأضحت تجيد المدح بالنظم والنثر فحدث وقل ما شئت في شأن فضله ... فقد صح عندي أنه زينة الدهر فلا ريب أنه عماد بيت قد ارتفعت بالشرف علائمه، ومفرد وقت قد ارتقت على ذروة المجرة دعائمه، وملاذ يمن لمن أم ساحة إشراق بدره، ومعاذ أمن لمن يممه مشفقاً من إملاق دهره، كيف لا وهو الذي استرق الأفئدة نوالاً، واستحق الأثنية جمالاً وكمالاً، مع كونه مجلي دقائق العلوم، ومولى من تحلى بفهم حقائق المنطوق والمفهوم: من كان يجهل في الأنام كماله ... فأنا الذي أرويه من أنبائه فيمينه كنز العطية والغنا ... وشماله لم تدر جود عطائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 وصفاته نجم السماء يعدها ... وجبينه للدهر بدر سنائه وكلامه الدر الثمين وعلمه ... قد فاق ضوء الشمس في إهدائه ولد حفظه الله تعالى وأبقاه، وأعلى في معارج السعادة والسيادة مرتقاه، في أوائل ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وتسع وخمسين من هجرة جده سيد الأنام، فبسمت له ثغور الأفراح، وحل طالع سعده في برج الإقبال والنجاح، ولحظته عين الرئاسة منذ كان طفلاً، ونظرته حدقة الفراسة فوجدته لكل رفعة أهلاً، ولقد تمثل الدهر لوالده المعظم بين يديه، وغدا يشدوه مهنئاً له بما لديه: بملاذنا غوث الأنام لك الهنا ... أبداً وقابلك الزمان بسعده قد خصك المولى الكريم به وقد ... ود الهلال يكون خادم عبده فرفع قدم الصعود منذ كان صبياً، وارتفع على كاهل السعود فكان من ابتداء أمره علياً. ولم يزل مذ كان في حجر أبيه، تنميه يد الإجلال وتربيه، وهو يعرج على مدارج الكمال، وينتقي أعلى الشمائل والخصال، ويتخلق بأخلاق السادة ممن سلف، ويتحقق بحقائق ذوي السعادة والشرف، وذلك في البلدة المكرمة، والبقعة الشريفة المعظمة، مكة التي بها أميطت عنه التمائم، وتحلت بعقود حلاه أجياد الفضائل والمكارم، محوطاً بسور إمارة والده على الأقطار الحجازية، وكان الذي ولى والده هذه الإمارة العلية، حضرة المرحوم السلطان محمود سنة ألف ومائتين وسبع وستين. وحينما انفضل والده من الإمرة توجه إلى الآستانة العلية بطلب أمير المؤمنين، فتوجه معه المترجم وكان عمره ثماني سنين، فقرأ القرآن العظيم وأجاده، ثم أقبل على طلب العلم فوق العادة، ونهج مناهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 الصدور والأعيان، وعرج معارج السادة ذوي الفضل والشان، واستدام حفظه الله على ذلك، سالكاً في مستقيم هذه المسالك، إلى أن عاد والده الشريف إلى الإمارة العلية، سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين هجرية، فعاد مع والده لوطنه وبلدته، ومحل ولادته ونشأته، فنما بها ونحا نحو المعالي والصعود، وسما إلى أن استوى على مطالع اليمن والسعود، ولازم أهل العلم والفضل، وتحلى بالعبادة واللطافة والعقل، متكللاً بإكليل النباهة والأدب، متكملاً بجميل المجد وجليل النسب، حاسماً مادة الخروج عن المنهج الأكمل، راسماً على نفسه أن يترقى في أطواره عن كل جميل إلى أجمل، ولم يزل إلى أن طلع في سماء الهداية بدراً، وارتفع على أسره العناية فكان لها هامة وصدراً، وزرع في القلوب حب المحبة، فأثمرت سنابلها كل سنبلة ألف حبة. وفي سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين في شهر شعبان، توفي والده الشريف وانتقل لأعلى الجنان، وكان قد بلغ من العمر سبعين سنة، جعل الله ذروة الفردوس مقره ومسكنه، وكانت مدة إمارته أولاً أربعة وعشرين عاماً، وثانياً سنتان وجملة إمارته ستة وعشرون عاماً تنقص أياماً، وبقي المترجم بعد موت والده مستقيماً في البلد الحرام، وكان له بها التقدم ورفعة المقام. وفي سنة سبع وتسعين توفي أخوه الشريف حسين باشا وكان بعد موت والده على الحجاز أميراً، فمات شهيداً وفاز مع الذين جزاهم بما صبروا جنة وحريراً، فتولى حضرة المترجم الإمارة بطريق الوكالة، إلى أن حضر الشريف عبد المطلب إلى الحجاز أميراً بالأصالة، ثم في السنة المذكورة في رجب، توجه إلى الآستانة وكان قد توجه له من الخليفة الأعظم طلب، وفي ذي الحجة من السنة المذكورة، عاد بالرخصة إلى وطنه وبلدته المشهورة، وبقي هناك إلى سنة تسع وتسعين، فانفصل الشريف عبد المطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 آخر شوال فكان المترجم لوكالة الإمارة خير أمين، ولم يزل إلى أن شرف أخوه عون الرفيق باشا من الدار العلية، فاستوى من إمارة الحجاز على سدتها السنية، وفي أواخر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وألف، عاد سيدنا المترجم إلى دار السعادة بكل تكريم ولطف، فعينه مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان، عضواً في شورى الدولة مع توجيه الوزارة ذات القدر والشان، وهو بحمد الله لم يزل عالي القدر، رفيع المرتبة عميم الشهرة والذكر، وافر العلم والعمل، نائلاً من الرغائب كل مرام وأمل. وفي سنة ألف وثلاثمائة وسبع في ذي القعدة الحرام، حينما توجهت لدار السعادة دار العز والاحترام، تشرفت بالحضور لديه، والمثول بين يديه، فأفرغ علي حلة سروره، وقابلني ببشره وحبوره، وأنالني من إقباله فوق ما يتعلق به الأمل، وأولاني من أفضاله والتفاته ما ألبسني ثوب الخجل، وحباني من رعايته ما أغرقني ببحر فضله، ولا غرو إن الشيء لا يستكثر على أهله. الأمير عبد الله باشا فكري بن الأمير محمد أفندي بليغ بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد المصري رحمهم الله تعالى أجمعين هذا الأمير حيا الرضوان منه تلك الشيم، وعامله بالمن والإحسان والجود والكرم، إن لم يكن فوق أبي تمام، فهو نظيره في النثر والنظام، وإن كل ناطق بلسان، وعارف بحسن واستحسان، مجمع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه والجاهل قال بالتقليد وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وحل نجم سعوده في برجه، يطير صيته في الأقطار، ويسير ذكره في البلاد والأمصار، وحينما شرف إلى الشام هو وولده أمين بك الهمام حصلت بيني وبينه مودة، ومجالس اجتماعات لمذاكرة الأدب معدة، ولقد رأيت من فضله ما لم أكن رأيته قبل ذلك، وشاهدت من بديع كمالاته ما لم أكن شاهدته من قبله لسالك. فلعمري هو المعروف بأصله وفصله، والمشهود له بنبله وفضله، له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا، وهو منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه مخطوب الحظوة عند الأنام، مطلوب الاتصاف بكل فضل ومرام. تروى محاسن لفظه وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري ومآثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرار ولد رحمه الله في أوائل شهر ربيع الأول، من شهور سنة ألف ومائتين وخمسين من هجرة السيد المكمل، ومن غريب الاتفاق الموقع في العجب العجاب، أن تاريخ ميلاده وافق جمل قوله تعالى: " قال إني عبد الله آتاني الكتاب " وجمل ذلك ألف ومائتان وخمسون، وهذه الموافقة المتفاءل بها على كماله من أعجب ما يكون، وكان له في الكتابة النفس العال، ولأسلوب الذي ليس له مثال، حتى قيل فيه أنه لو تقدم به الزمان، لكان له بديعان، أعني المترجم وعلامة همذان، مع الديانة والعبادة، والورع والزهادة، والصلاح والتقوى، والإخلاص في السر والنجوى. ولقد حفظ القرآن المجيد، وأتقنه وجوده غاية التجويد، ثم اشتغل في طلب العلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 الجامع الأزهر، والمكان الأنور، وتلقى العلوم المعروفة المنقولة، والرياضيات المشهورة المعقولة، عن سادة أفاضل، معروفين بالفضائل، كالشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد عليش والشيخ حسن البلتاني وغيرهم من السادة العظام والعلماء الأعلام، من أهل الفروع والأصول، والمعقول والمنقول، ثم اتصل بخدمة الحكومة السنية، بعد أن أتقن اللغة التركية، وذلك في أوائل جمادى الآخرة، سنة ألف ومائتين وسبع وستين من الهجرة الفاخرة، ولم يزل ينتقل من مكان إلى أعلى، ومن محل إلى أولى، إلى أن توفي وزير مصر سعيد باشا رحمه أرحم الراحمين، وذلك سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين، وخلفه الوزير إسماعيل باشا على البلاد المصرية فذهب المترجم المرقوم معه إلى الآستانة العلية، لاستلام تقليد الولاية وأداء التشكر للحضرة السلطانية. وفي عام اثنين وثمانين ترقى إلى رتبة " بيك " المعروفة بالرتبة الثانية، ولم يزل بعد ذلك يتنقل إلى المقامات السامية، وفي سنة ست وثمانين نقل إلى ديوان المالية، وفي سنة ثمان وثمانين جعل وكيل ديوان المكاتب الأهلية، وفي سنة أربع وتسعين وجهت إليه رتبة المتمايز، وفي سنة ست وتسعين صار وكيلاً لنظارة المعارف العمومية فكان لها حائزاً وأي حائز، وترقى إلى رتبة ميرميران، ثم ضمت إليه وظيفة الكاتب الأول بمجلس النواب مع بقاء الوظيفة المتقدمة الذكر العالية الشأن، وفي سنة تسع وتسعين فوضت إليه نظارة المعارف العمومية، في ضمن النظار الذين كان منهم عرابي باشا صاحب الوقعة المصرية، وفي سنة تسع وتسعين استقال من وظيفته، مع بقية النظار الذين كانوا في معيته، بناء على ما حصل من الفتنة والاضطراب، والخلف بين العرابيين وحضرة الخديوي فخيم الجناب، أثناء الحادثة العسكرية المشهورة، وفي أواخر السنة المذكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 عقب الثورة العرابية، طلب المترجم في الضبطية، وسجن مع المتهمين من العلماء، وغيرهم من الأكابر والأمراء، ومنعوا عنه معاشه، وتكلم فيه بعض حاسديه بكل قباحة ووحاشه، بما ليس له حقيقة، ولا أصل ولا طريقة، وتكرر عليه السؤال، وتكدرت عليه الأحوال، ولما ظهرت براءته، وانفرجت عنه مساءته، خرج من السجن المعلوم، وظهرت براءته لدى العموم، فنظم قصيدة بارعة سارت مسرى الأمثال، يمدح بها الجناب الخديوي ويتبرأ مما افتراه عليه الجهال، ولما عرضت على حضرة الخديوي أجلها، وأحلها من القبول محلها، وطلبه للمثول بين يديه، وأقبل عليه بكليته وأعاد معاشه إليه، فنظم قصيدة ثانية ضمنها واقعة الحال، مع التنصل مما نسب إليه والتشكر على ما نال، وفي سنة ثلاثمائة واثنتين توجه إلى الأقطار الحجازية، لأداء فريضة الحج الشرعية، فاجتمع بأكابر علمائها، وأفراد فضلائها وأدبائها، فاعترفوا له بقدره، وصدق كل منهم على ارتقائه في سره وجهره، وله في هذه السفرة رحلة جليلة، قد احتوت من بديع النظم والنثر على كل نكتة جميلة. وفي سنة ثلاثمائة وثلاث سافر من مصر لزيارة بيت المقدس والخليل والشام، ومعه حضرة نجله عز تلو أمين بك الشهم الهمام، فحينما حضر اعترف له الجميع بكماله، وأنه يندر في هذا الوقت وجود مثاله، وشهد له فقاؤهم بالتضلع من علوم الشريعة، وفصحاؤهم بالبراعة في كل بديعة، ومحدثوهم بصحة الرواية، وعقلاؤهم بكمال الدراية، ولا يزال أثره بينهم مأثوراً، وفضله على ألسنتهم مذكوراً، ثم رجع من دمشق إلى بعلبك وأخذ طريق الجبل إلى بيروت، وألوان الزهور في طريقه وأرجها يغني عن الشراب والقوت. وقد كان رحمه الله من الطبقة الأولى في النظم والنثر، ومن الفرقة الذين انفردوا بالجاه والرفعة والقدر، قد اشتهر ببراعة القلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 ريعان شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام. شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام. وكان من حال شبابه له في أكثر العلوم تضلع وإلمام، فكان يكتب للملوك والأعيان، على لسان الدولة المصرية ذات القدر والشان، ولا يقدر أحد من أهل الأدب، أن يقلده إذا أنشأ أو كتب، فكأن هذا الأمر قد انتهى إليه، ودار مدار قطبه عليه، وقد نوه بفضله وعلو قدره، كثير من ذوي مصره وأهالي عصره، منهم الأديب الماهر، والناظم الناثر، أحمد أفندي فارس صاحب الجوائب والرأي العال، فقد ذكره في كتابه سر الليال، حين تكلم على السجع فقال: وممن برع فيه في هذا العصر، وحق لديه العلو والفخر، في الإنشاءات الديوانية، وهي عندي أوعر مسلكاً من المقامات الحريرية، الأديب الأريب الفاضل العبقري، عبد الله بيك فكري المصري، فلو أدركه صاحب المثل السائر، لقال كم ترك الأول للآخر. فسبحان المنعم على من يشاء بما شاء، ومن أجل تلك النعم الإنشاء. ومن إنشائه كتاب له في زمن جناب إسماعيل باشا الخديوي السابق على لسان سعادة علي باشا مبارك ناظر المعرف العمومية إلى المرحوم سلطان باشا حين كان مفتش الأقاليم الصعيدية يستحثه فيه على ترويج جريدة روضة المدارس وهي صحيفة استحدثت إذ ذاك في ديوان المدارس. قال رحمه الله بعد ديباجة الكتاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972 لا يخفى أن تقدم الأمة في طريق التمدن، ورسوخ أقدامها في ذروة التمكن، إنما يكون بواسطة عظمائها وعلمائها، وفضلائها ونبلائها، وهذا إنما يمكن الوصول إليه، والحصول عليه، بنشر آثار بيانهم، واستفادة العامة من استفاضة أنوار أذهانهم، وهذا أيضاً لا يتأتى إلا بالوسائل النشرية، أي بوسائط الصحف الدورية العلمية والخبرية، وهذه إنما تستقيم سوقها، وتنفق سوقها، بواسطة أعيان الأمة الكرام، وترويجهم لها عند الخاص والعام، وهذا كما يقال تشبيب بعده مديح، وتلويح يعقبه توضيح وتصريح، والغرض من هذه الوسائط المتصلة، والوسائل المتسلسلة، إنما هي روض المدارس وهي روضة ابتدئ غراسها، وجنة أنشئ أساسها، فإن ساعدها الإقبال بإقبال سعادتكم عليها، وتوجيه نظر أولي العوارف والمعارف إليها، رويت بماء الفضل والإفضال، وانتعشت بنسمات الكمال والجمال، فعند ذلك تتنوع أشجارها، وتتضوع أزهارها، وتينع ثمارها، وتثبت أصولها، ويكثر محصولها، وتتسع مزارعها، وتعم الأمة منافعها، وإن نالها من الإغماض سموم الإدبار، وأصابها من الإعراض إعصار فيه نار، خصوصاً وهي قريبة العهد بالوجود، عاطشة لماء الفضل والجود، ذبلت أغصانها، وذوت أفنانها، وانتثرت أوراقها، وسقطت ساقها، وأنتم أولى من يغار للفضل وأسبابه، وينهض ويستنهض غيره لفتح بابه، لا سيما وإقليم الصعيد، أول ما عمر من هذا القطر السعيد، وقد صار والحمد لله سلطان الفضل به ظاهراً، وصادف من العناية العلية الخديوية قوة وناظراً، والمرتب فيه الآن، من روضة المدارس نسختان لا غير، وهو أقل القليل بالنسبة لمن به من أهل الفطنة والخير " إلى آخره ". ومن إنشائه مقدمة وجيزة له، في محاسن آثار الداروي المعظم محمد علي الكبير وأخلافه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 973 قال: بك اللهم نستفتح باب النجاح، ونستمنح أسباب الفلاح، وبالثناء عليك بجلائل أسمائك، نستوهب المزيد من جزيل نعمائك، وباستدعاء صلات صلاتك على خير الشفعاء لديك، نتقرب به ونستشفع به إليك، فإنه أكرم الخلق عليك، باسطين على أبوابك أكف السؤال، متوسلين إلى جنابك ببضاعة الرجاء وضراعة الابتهال، أن تديم دولة أمير المؤمنين، وأمين أمور المسلمين، خليفة رسولك الأمين، على من استرعيته من العالمين، وتعز به الملك والدين، أبد الآبدين، وأن تمتع بطول الدوام، وحصول المرام، حضرة عزيز مصرنا، وغرة وجه عصرنا، وتحفظ له أنجاله الأمجاد، وتبلغه من حسن أمرهم ما أراد، وأن تديم توفيقه لما فيه صلاح حالنا ومآلنا، ونجاح أعمالنا وآمالنا، وفوز أوطاننا بأوطانا، وسمو أقدارنا بأقطارنا، وأن تعين أمراءه وعماله وأمناءه، على معاضدته في أعماله الناجحة، ومساعدته على آماله الراجحة، وأن توزعنا شكر نعمك، وتودعنا بر كرمك، وتهدينا سبيل الرشاد، وتوفقنا للخير والسداد، " كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً ". وبعد فلما كان التحدث بالنعمة طاعة، والشكر عليها واجباً على قدر الاستطاعة، كان علينا أن نحلي بنان البراعة، ونطلق في ميدان البلاغة عنان اليراعة، بذكر ما أنعم الله به على هذه الديار السعيدة الجد في عهد عزيزها الأسعد، ووالده الماجد وجده الأمجد، وقد أفادت التواريخ العظيمة بإجماعها، وشهدت الآثار القديمة بلسان إبداعها، إن هذه الديار، كانت في سالف الأعصار، قدوة الأمصار، في المجد والفخار، وكعبة الفضل التي يحجها كل ناجب، من كل جانب، ومدينة العلم التي يقصدها كل طالب، من الأجانب، ليستفيدوا من أهلها عوارف معارفهم، ويستزيدوا في طرائف لطائفهم، ويتعلموا عليهم، ما لم يكن إلا لديهم، من الصنائع العجيبة، والبدائع الغريبة، فهم الذي سهلوا سبل البراعة لسالكيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 974 وذللوا أعنة الصناعة لمالكيها، على حين كان غيرها لم ينشق عن صبح المعارف ظلامها، ولا انزاح عن وجه التمدن لثامها، فكانت مصر أم الدنيا تقدماً وتقديماً، وأهلها آباء الناس تربية وتعليماً، وكان الكل عيالاً عليها، وأطفالاً بالنسبة إليها، وناهيك دلالة على فضلها القديم، ما حكاه أفلاطون الحكيم، أن سولون الفيلسوف الكبير، أحد حكماء اليونان المشاهير، لما قدم إلى إقليم الغربية، ليمارس العلوم والمعارف الحكمية، وذلك قبل المسيح عليه السلام، بنحو من سبعمائة عام، قال له قسوسها: يا سولون إنما أنتم معاشر اليونان بالنسبة إلينا أطفال، ليس فيكم من شيخ يعد في الرجال، إلى آخر ما قال. وحسبك من بقاياها، ما تراه في خبايا زواياها من بدائع الأسرار المرموزة، في روائع الآثار المكنوزة، التي سارت بأحاديث فضلها الأيام فهي نجائب، وعقمت عن إنتاج مثلها حبالى الليالي التي تلد العجائب، فهي أحدوثة الزمان، وأعجوبة الإمكان، وبكر الفلك الدائر، ويتيمة الدهر الداهر، وقد طالما حاولت يد الزمان الغالب أن تعفي آثارها، وطاولت همم المتغلبين عليها من الملوك الأجانب دمارها، فلم تزل منها بقية يغالبهم إفناؤها، ويعاندهم بقاؤها، حتى شلت عنها يد الأعادي، وملت منها غوادي العوادي، وحتى خضعت لديها أرباب الأفكار العالية، وتقطعت عليها رقاب الأمصار الخالية، وحتى لقد هرمت الأيام، وهي متباهية بشبابها، وتصرمت الأنام، وهي باقية بين أترابها، ناطقة ببراعة عبارتها، شاهدة في إشارة حسن شارتها، شاهدة لمصر بما لها من قدم المجد المؤيد، وقدم الصدق في السبق إلى كل سؤدد، على أنها لو جحد الخصم دعواها وهيهات، وطالبها خصمها في محافل الفخر بإثبات ما فات، لكفاها أن تقيم شاهديها الكريمين، من هرميها الهرمين، فيخبرا بما كان، من قبل الطوفان، ويشهدا بما علم من فضلها، وما كان من مجد أهلها، وأنهم كانوا أثبت الناس في التمدن قدماً، وأسبقهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 975 التفنن قدماً، وأطولهم في محاسن الفضائل باعاً، وأميلهم إلى محاسن الشمائل طباعاً، ثم تناولتها الأيادي المتطلبة، وتداولتها الأعادي المتغلبة، فنددوا فضلها، وبددوا شملها، وأتلفوا ما استطاعوا من تلك المعالم، وتفننوا في أنواع المظالم، حتى أصبح مزاج الفضل بها فاسداً، وسوق العلم فيها كاسداً، وربع المعالي خالياً، وبيت الأماني على عرشه خاوياً ولم تزل كذلك إلى أن انتهت إلى المرحوم محمد علي علي الشان، سقى الله ضريحه سحائب الغفران، وأحل روحه رياض الرضوان، فخلصها من مصاعب المصائب، واستخلصها من نيوب النوائب، وصيرها موطنه ومأمنه وحماه، ومنع جانبها من صنوف الصروف وحماه، وبذل الجد في لم شعثها، ولم يأل الجهد في تسهيل دعتها، وأعاد ما سلب الفقر من نضارة نضارتها، ورد ما غصب لدهر من غضارة حضارتها، حتى زهت بحسن علاها وحلاها، ونسيت ما كان من بلائها وبلاها، إلى آخر. ومن كلام هذا الشهم المصان عليه سحائب الرحمة والرضوان مقالة تليت يوم توزيع المكافأة على تلامذة المدارس والمكاتب بحضور الخديوي السابق إسماعيل باشا المعظم تلاها أحد التلامذة بحضوره وقد جعل في أثناء المقالة أبياتاً مرتبة في مواضع منها، فكلما وصل التالي إلى موضع ترنم بما فيه من النظم جماعة من التلامذة بألحان معجبة، وأنغام مطربة، صنع ذلك حسب الاقتراح، والمقالة المذكورة هي هذه " قال ": يا مفيض الجود على الوجود، ويا جامع الناس ليوم مشهود، نحمدك اللهم حمداً يكافئ مزيد نوالك، ونشكرك اللهم شكراً يستتبع دوام أفضالك، ونسألك أن تهدي لسيد الشاكرين، وأشرف الأولين والآخرين، صلة صلاة تليق بجنابه، وتعم جميع آله الكرام وأصحابه: أزكى صلاة وأسناها يرادفها ... أزكى سلام على المختار هادينا وآله الطهر والصحب الأماجد من ... بهديهم قد أقاموا للهدى دينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 976 ونتوسل اللهم بهم لديك، باسطين أكف الضراعة إليك، سائلين من فضل كرمك، متمسكين بحبل نعمك، أن تديم عزة عصرنا، وقرة عين مصرنا، من أعاد لهذه الأوطان العزيزة قديم اشتهارها، وجدد ما اندرس من معالم فخارها، وأجرى ما نضب " قوله نضب أي غار " من منابع يسارها، فأضحت تباهي سائر بلاد الدنيا وأمصارها، ونشر أنوار الفنون والمعارف بين أبنائها، بما أنشأ من المدارس والمكاتب في جميع أنحائها، وما صرف من جزيل كرمه عليها، وما عطف من جليل هممه إليها، حتى أصبح نور العلم والعدل في ظل أيامه فاشياً، وظلام الظلم والجهل بحكمة أحكامه متلاشياً. في ظل دول إسماعيل قد ظهرت ... في مظهر الشرف الأعلى معالينا وساعدتنا الليالي وازدهت فرحاً ... أوطاننا وسعدنا في أمانينا أدامه الله محفوظ الجناب على ... طول الزمان وهناه المنى فينا ودام أنجاله في عز دولته ... مدى الليالي فهم عز لوادينا فحق على جميع أهل الوطن الكريم، شكر هذا الجناب الخديوي الفخيم، على ذلك الخير العظيم، والبر العميم، ولا سيما نحن أبناء المدارس الميرية، والمكاتب المحلية، الأهلية والخيرية، فقد نشأنا في ظل عدله، وربينا على موائد فضله، وتعلمنا كل ما تعلمنا بحسن إرشاده، وتقدمنا فيما تعلمنا بمساعدته وإسعاده، فنحن صنائع كرمه، وربائب نعمه، وغرس أياديه الكريمة، وثمرات مساعيه الجسيمة، غرسنا في أرض أفضاله، وسقانا زلال نواله، وتولانا بكامل عنايته، وتعهدنا بعلي رعايته، وسنكون بمشيئة الله وعونه أرواح نجاح، ونثمر بمنه ويمنه للوطن حسن صلاح وفلاح، وها هو أدام الله أيامه، وبلغه من جميع الخير ما رامه، شرع يكافئنا على نعمه بنعمه، وشرفنا في هذا المحفل الباهر بنقل قدمه، كرماً على كرم، ونعمة على نعم، فعلينا من الواجب البين، وجوب الفرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 977 المتعين، أن نجعل أيامناً ظرفاً لشكر نعمته، وأجسامنا وقفاً على حسن خدمته، وألسنتنا مدى الدهر ناطقة بمدحته، وقلوبنا مدة العمر متفقة على طاعته، ومحبته، وأن نبذل في تحصيل رضاه غاية إمكاننا، ونجاري إن شاء الله مقاصده الكريمة في نفع أوطاننا، وحق لنا الآن أن نتهادى بيننا علائم التهاني. ونبشر نفوسنا وأوطاننا بغايات الأماني، وعلينا أن نعلن بعد شكره وشكر حضرات الأمراء العظام، وإعلام علماء الإسلام، وسائر الحضائر الكرام، أدام الله معاليهم، وأسعد بهم أيامهم ولياليهم، وعلينا أيضاً أن نعترف بحسن اجتهاد رؤسائنا معنا في التربية والتعليم، على وفق مقاصد الجناب الخديوي الفخيم، ونقوم لهم بواجبات الشكر والتكريم، شكر الله أياديهم، وتقبل مساعيهم، وأعاد لنا وللجميع في مثل هذه الأيام، عيد هذه العادة الحسنة الخديوية كل عام، ببقاء ولي النعم، الخديوي الأفخم، متعه الله بدوام توفيقه وإقباله، وكامل أشباله الأماجد وأنجاله، وسائر ذويه الكرام، وبلغه غاية المرام. ندعو له وإله العرش يسمعنا ... فضلاً ويعلن بالإخلاص داعينا دعاء صدق إذا الداعي استهل به ... يقول سامعه آمين آمينا ومن كلامه رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ما كتبه لبعض أصحابه ذكر فيه من أحوال الذين يلبسون لباس العلم على تماثيل الجهل، وينتحلون النسبة إلى الفضل، وليسوا منها في كثر ولا قل، وقد جاء في ذلك الكتاب على ذكر اللغة العربية وقواعدها، وآدابها وفرائدها، بما فيه تنبيه لغافل، وعظة لعاقل، بعبارات تأخذ بالألباب، إلى جادة الصواب، قال رحمه الله في وصف أشخاص: أما فلان وأترابه، وفلان وأضرابه، فهم أعجوبة الأيام، وأحدوثة الأنام، أحوال متناقضة، وأفعال متعارضة، فكبر وفقر، وعجز وفخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 978 وأنف في السماء، وقدم في الماء، وحال تحت التراب، ونفس فوق السحاب، إن صدقتهم كذبوا، وإن أرضيتهم غضبوا، وإن تباعدت عنهم لاموا وعذلوا، وإن تقربت منهم سئموا وملوا، كلاب في جلود أسود، وجوه بيض وقلوب سود، صغيرة السيئة عندهم كبيرة، وكبيرة الحسنة لديهم صغيرة، عيون منتقدة، وقلوب متقدة، وألسنة حداد، وأفئدة شداد، وأجسام صحيحة وقلوب مريضة، وجهل طويل ودعاو عريضة، النصح لديهم خيانة، والسوء عندهم ديانة، وقد بذلت في مرضاتهم جهدي، وأجنيتهم مري وشهدي، وقابلتهم باللطف والعنف، وعاملتهم بالنكر والعرف، فلا وأبيك ما زادوا إلا فجورا، وعتوا عتواً كبيرا، ومكراً وشرورا، وكبراً وغرورا، ولو وقف عليهم ليلتي ويومي، وهجرت لديهم راحتي ونومي، وفديتهم بعشيرتي وقومي، ثم أطعمتهم من جسمي، وآثرتهم من العافية بقسمي، لما بلغت من نفوسهم رضاها، ولا أديت من حقوقهم على زعمهم مقتضاها، بل ولو صاحبهم جبريل، وخاطبهم بالتنزيل، وأهداهم الجنة في منديل، وأنزل الشمس إليهم في قنديل، ونظم لهم النجوم عقودا، وشق لهم من المجرة برودا، وصير الأنس والجن لهم عبيدا، وجعل الملائكة لهم بعد ذلك جنودا، وأطلعهم على غيب السماء والأرض، وخبرهم بما كان وما يكون إلى يوم العرض لما أصبح عندهم إلا مذموما، ولا أمسى لديهم إلا ملوما، ولكان منسوبا للقصور والتقصير، والإخلال بالقليل والكثير، قوم هذه طباعهم وتلك أوضاعهم، من ذا يرضيهم بحال، ولو فعل لهم المحال إلى آخر ما قال. ومن ذلك ما كتبه رحمه الله تعالى إلى الأديب الفاضل، والأريب الكامل الشيخ عبد المجيد أفندي الخاني، يصف له رحلته من الشام إلى بعلبك وما رآه من الرياض البديعة، والمناظر الرفيعة، والمياه الصافية الجارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 979 والنسمات العليلة السارية مما يشرح الخاطر ويسر الناظر، فقال: أهدي إليك من منعشات التحية والسلام، وأتلو عليك من مدهشات الشوق والغرام، ما يجمل أجماله لواصفه، ولا يلزم تفصيله لعارفه، وأحمد إليك الله سبحانه على كرامة السلامة، ومنحة الصحة، حمداً أستفيض به غمام عطائه، وأستفيد به دوام نعمائه، وأقص عليك من أمر الرحلة البعلبكية، نظير ما سلف من خبر الرحلة المكية، وذلك أنا سرنا، يوم ثرنا، من دمشق في طريق دمر، نستحث إليها الضمر، بين مياه تتكسر في مجاريها، ونسائم تتعثر في مساريها، وأشجار تميد بأغصانها، كما تميس الخود بين أخدانها، وأحاديث عن الشام ومبانيها وبهجة مغانيها، ولطف أهليها لا سيما بيت خانيها، تستطيبها الشفاه، وتتعطر بها الأفواه: فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم وأقول: يا أهل جلق لا زالت مفاخركم ... في المجد تسمو علاها فوق كيوان أغنت مكارم خانيها نزيلكم ... عن أن يعرج في المثوى على خان ورب واصف خان لي ألم به ... فقلت حسبك ما قصدي سوى الخاني فلما جاوزنا دمر عرجنا تعريجة، نبتغي الطريق إلى الفيجة، وبين يدينا مكار، جاهل بها ممار، لا يهتدي إليها سبيلا، ولا يستهدي عليها دليلا، فمشى يخبط بنا خبط عشواء، في بهماء دهماء، لا يدري في أي أنحائها يسير، ولا إلى أي أرجائها يصير، فما زال يخطونا ويخطي، ويسرع ويبطي، حتى وافينا على طريقنا شجرا، ألفينا عنده نفرا، فسلمنا عليهم، وجلسنا إليهم وعرفناهم ما نحن فيه، وعرفونا الطريق الذي نقتفيه، ثم أكلنا ورحلنا، وانبرى معنا شاب منهم خفيف الخطا، وأهدى من القطا، فمضى يتخلل بنا شجر التين، ذات الشمال وذات اليمين، حتى وصل بنا إلى درب دمأته الأقدام، وقال لنا الأمام الأمام، فقال المكارى عرفت الدرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 980 بشارته، وفهمت إشارته، فلا تخافوا دركاً ولا نضل من بعد مسلكاً، فلم يكن إلا أن غاب الشاب، في خلال الغاب، وسرنا نحو ما قصدنا قاب قوسين أو أدنى، وتفرقت على المكاري الشعاب، فأخطأ صواب الصواب وأضل الأسباب، فسلك ذات اليمين طريقاً ترجح عنده، وانقلب على عقبه فسلك ضده، ثم ارتد ثانياً، ولوى عطفه ثانياً، ولعن الحصان الذي تحته وسبه، وألحق به دينه ومذهبه، ومن باعه ومن ركبه، وأمواته وأحياءه، وعشائره وأحياءه، ووقف بين الطرق وقفة المتخير، والأحرى في العبارة أن نقول وقفة المتحير، يتنفس حسرة، ويتلفت يمنة ويسرة، بنفس يائسة بائسة، بين جبال يابسة عابسة، في معطشة تجفف الريق في الحلوق، وتكاد تسيل الدم من العروق، فصرنا نتردد بين تلك الجبال، تردد الحب بين جوانب الغربال: كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق ثم جاز بنا إلى طريق توخيناه، " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "، فوافينا خضرة ونضرة، وجمال سعة ونظرة، وأشجاراً وأنهاراً، وأثماراً وأزهاراً، وحدائق ذات بهجة، وحقائق تنعش المهجة، حتى انتهينا إلى موضع غدير، من ماء نمير، غزير الموارد، عذب بارد، غير مزدحم بالصادر والوارد، ونهر أحلى من لمى العذراء، يعرف بالعين الخضراء، وجدناه أبهى من العين السوداء، وأشهى من الوجنة الحمراء، وأغلى من البيضاء والصفراء، وأحسن ما تحت الزرقاء، وفوق الغبراء، تحف حافتيه أشجار بديعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 981 الائتلاف والاصطفاف، مكللة بآلاف من الفاكهة متنوعة الأصناف، عليها من رونق الورق المونق، ثياب سندس خضر واستبرق، ومن الثمر والزهر، أنواع زمرد وجوهر، والنهر بفرط صفائه، ورقة مائه، ينم على ما بأسفل أجزائه، من رحله وحصبائه، كأنها در منثور، في باطن بلور، أو كافور مذرور، في غلائل من نور، يظفر فيه كل من الحواس الخمس بحصته، من نعيمه ولذته، فالباصرة بحسن رؤيته وبهجته، واللامسة بطلف ملمسه مع برودته، والذائقة بعذوبته، والسامعة بخرير تياره، والشامة بعبير أشجاره وأزهاره، فلم نتمالك أن ملنا إليه، وترامينا عليه، لائذين من خطر ما مر، عائذين به من ضرر الظمأ والحر، لنتبوأ به مقيلا، ونتفياً منه ظلاً ظليلا، ونتلو " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا "، ونتمثل بقول الأول: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم يرد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم إلى آخر ما قال وبالجملة فلا عيب يذكره لهذا المنظر، سوى إعجاز واصفيه، عن وصف ما فيه. فلما أخذنا بغيتنا من الراحة والاستقرار، وخشينا أن ينهار جرف النهار، نهضنا إلى الترحال فشددنا الرحال وملأنا المزاود من ذلك الماء الزلال، ونزعنا عنه والنفس نازعة إليه، حائمة عليه، مرفرفة حواليه، ثم سرنا نخبط، ونصعد ونهبط، والنهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 982 يبعد ويقرب، ويشرق نوره ويغرب، حتى وصلنا الفيجة فوجدناها مغلقة الأبواب، خالية الدروب والشعاب، لا يرى سالكها من أنيس، ولا اليعافير ولا العيس، إلا كما قال الأعرابي: عجائزاً مثل السعالى خمسا ... يأكلن ما يلقى لهن همسا لا ترك الله لهن ضرسا كأن الإنسان يمر بها في جبانة قبور، وأرض متناسقة الصخور، أو مساكن قوم بور فجاوزناها واستمر مريرنا في المسير، وإن كنا لا ندري كيف يكون المصير، نسأل عن الدرب والسؤال ذل، إن وجد في طريقنا من يدل، وما زلنا في صعود وهبوط، ورجاء وقنوط، حتى وصلنا إلى رأس السوق، وكأنا قد ظفرنا ببيض الأنوق، فصادفنا بها مجمع فئام، بين قعود وقيام، فزعموا أن ليس بها دار للمقام، غير ما سبق إليه بعض مأموري الحكام، فأخبرناهم بأنا لسنا من أولئك الأقوام، وأنا لا نبخل ببذل الحطام، فمضى معنا بعضهم إلى دار لبعض أهاليها، من خير مبانيها على ما فيها، وسألنا عما ينبغي للمأكول، من اللحم والبقول، فلم نجد غير دجاجات أضلتهن أيدي الحدثان، وأفلتتهن مخالب أنسر لقمان، قد وعين الطوفان وتطاول عليهن تقادم الزمان، فما زلن يصاولن الأيام، ويواصلن الصيام، حتى يبسن وسمجن، وفني عليهن الحطب ولم ينجضن، فرغبنا عنهن، ويئسنا منهن، وملنا على بقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 983 ما معنا من الزاد، وسارعنا بعد ذلك إلى الرقاد، فهاجمتنا بالسير الحثيث، جيوش البراغيث، تدب الضراء، وتمص الدماء، ولله در القائل: وليلة بتنا لدى معشر ... قد غرت الناس أحاديثهم فما أكلنا عندهم قدر ما ... قد أكلت منا براغيثهم ولكن غلب علينا النوم، من تعب ذلك اليوم، حتى عطس الفجر بالأذان، وتنفس الصبح بأذن الرحمن، وأقبلت جيوش النهار من شرقها، وولت رايات الليل إلى غربها، وأشرقت الأرض بنور ربا، فبادرنا إلى المسير، يدل بنا على الدرب فارس خبير، جمعنا معه في الطريق لطف التقدير، لا عمل التدبير، حتى انفصل عنا منحرفاً لبعض القرى، بعد أن أشار لنا إلى طريق واضحة المسالك لمن يرى، فمضينا حتى انتهينا إلى الزبداني وهي قرية كثيرة الغراس، عامرة بالناس، فمكثنا بها حيناً للاستراحة من تعب السفر، وأخذها منها للوازم الغذاء بعض ما حضر، وأردنا أن نستأجر من أهلها من يرشدنا إلى المسالك، فكأن المكاري أنف من ذلك، فزعم أنه لن يضل بعد الآن، وأنه يعرف باقي الطريق حتى العرفان، وأكد الكذب بالأيمان: وأكذب ما يكون أبو المثنى ... إذا آلى يميناً بالطلاق فخرجنا، حتى وصلنا، رأس عين سائغة صافية، لدى ظلال سابغة ضافية، فنزلنا وأكلنا، واسترحنا وانشرحنا، ثم سرنا أميالاً، نعدها طوالاً، فصادفنا رجلين من السفار، من أهل تلك الأقطار، فعرفنا منهما أننا قد انصرفنا عن القصد ببعد، وانحرفنا بالكلية عن الطريق ولله الحمد من قبل ومن بعد، فاستصحبنا منهما من ردنا إلى الطريق المقصود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 984 بعد بذل المجهود، في الهبوط والصعود. ثم وصلنا سرغاية فنزلنا واسترحنا، وبتنا حتى أصبحنا، فاتخذنا دليلاً من أهلها لما عرفناه مما أسلفنا، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين بل مرارا، ولا يلقي المرء بيده إلى مهالك التيه اختيارا، والحاصل أن مشى معنا ساعات من الزمان، بين جبال ووديان، في طريق تتلوى تتلوي الأفعوان يضل فيها الخريت، ويخاف بها العفريت، إلى أن وصلنا إلى الصراط المستقيم، بعون الله الكريم، فقال من هاهنا طريق بعلبك واضحة الأعلام. ثم ودعنا وانصرف بسلام، وسرنا حتى وصلناها بنية المقام فيها عدة أيام، وأعدنا المكاري بالدواب وباقي الأجرة إلى دمشق الشام، وتلونا بعد مفارقة طلعته، " وأن يتفرقا يغن الله كلا من سعته "، وفي العزم الجولان، أياماً في جبل لبنان ثم العودة لبيروت ومنها إن شاء الله للأوطان. ومن توسلاته العلية حين زيارته للذات النبوية قوله: يا أكرم الثقلين دعوة آمل ... عان ضعيف جاهد مجهود يا أكرم الثقلين ضيف وافد ... ونداك أجدر بالقرى لوفود يا أكرم الثقلين هذا سائل ... وافى لسدة بابك المقصود يرجو لبانته ويشكو ضره ... ويرى منال السول غير بعيد ويمد كف الذي روما للعطا ... وللاعتصام بحبلك الممدود فامدد إليه يداً تعود جودها ... أن لا يرد يداً لطالب جود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 985 ومن غرر قصائده ودرره وفرائده، تهنئته السنية ومدحته البهية، يمتدح ويهني بها الحضرة التوفيقية يوم جلوسه على الأريكة الخديوية، وهي بنت ليلتها مع عذوبتها وبلاغتها، وسهولتها وسلامتها، وذلك أنها بعد الموكب التوفيقي بليلة عرضت على مسامعه الشريفة الجميلة وهي: اليوم يستقبل الآمال راجيها ... وينجلي عن سماء العز داجيها وتزدهي مصر والنيل السعيد بها ... والملك والدين والدنيا وما فيها قد أطلع الله في سعد السعود سنى ... بدر بلألائه ابيضت لياليها وقام بالأمر رحب الباع مضطلع ... بالعبء جم شؤون النفس ساميها ذو همة دون أدنى شأوها قصرت ... غايات من رام في أمر يدانيها وراحة لو تحاكيها السحائب في ... فيض الندى هطلت تبرا غواديها يزهو بها قلم سام يسوس به ... أمر الأقاليم نهائيها ودانيها يجري بما شاء من حكم ومن حكم ... يصبو لحسن معانيها معانيها ورأفة بعباد الله كافلة ... بخير ما حدثت نفساً أمانيها مؤيد بالهدى والحق ملتمس ... رضا البرية لاسترضاء باريها تربو على وصف مطريه محاسنه ... وهل يعد نجوم الأفق راعيها توفيق مصر ومولاها وموئلها ... وركنها ومفداها وفاديها وغصنها النضر أنمته منابتها ... من دوحة أينعت فيها مجانيها خديوها، ابن خديويها ابن فارسها ... أميرها البطل الشهم ابن واليها رأى الخليفة فيه رأي حكمته ... وللملوك صواب في مرائيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 986 رآه أجدر أن يرعى رعيته ... وأن يقوم بما يرجوه راجيها وأن ينحي عنها ما أحاط بها ... من الخطوب التي هالت أهاليها فجاء مرسومه السامي تطير به ... نجائب البرق يطوي البر ساريها لله يوم جلا عن نور غرته ... كالشمس مزق برد الغيم ضاحيها في موكب مثل عقد الدر في نسق ... أو كالنجوم الدراري في مساريها يسير في مصر والبشرى تسابقه ... من حيث سار وتسري في نواحيها يحفه أخواه الماجدان به ... مع الوزير شريف النفس عاليها مشير صدق بحزم الرأي قد غرفت ... أفكاره بين باديها وخافيها لا تنثني عن صواب الرأي رغبته ... لرهبة كائناً ما كان راعيها حتى أتى القلعة الفيحاء فانطلقت ... فيها المدافع بالبشرى تواليها واستقبلته صفوف الجند قد نظمت ... نظم القلائد زانتها لآليها داعين تعلن ما في النفس ألسنهم ... بدعوة الخير والتأمين تاليها فلتفتخر مصر إعجاباً بحاضرها ... على محاسن ماضيها وآتيها إيه لقد أبدت الأيام سر منى ... طالت عليه الليالي تماديها وأسعد الطالع الميمون أنفسنا ... بخير أمنية كانت تناغيها هذا الذي كانت الآمال ترقبه ... دهراً وتعتده أقصى مراميها ما زال في قلب مصر من محبته ... سر تبوح به نجوى أهاليها تصبو له وأمانيها تطاوعها ... في حبه ولياليها تعاصيها وترتجيه من الرحمن سائلة ... حتى أستجيب بما ترجوه داعيها فالحمد لله شكرانا لأنعمه ... فالشكر حافظ نعماه وواقيها يا ابن الذين لهم في المجد قد عرفت ... أخبار صدق لسان الحمد راويها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 987 قادوا الجنائب من مصر مسومة ... إلى الحجاز إلى أقصى أعاليها غرا سوابق مشهوراً سوابقها ... مقرونة بأعاليها عواليها قباً ضوامر كالآرام يكنفها ... ليوث حرب بأيديها مواضيها تموج في زرد الماذي سابحة ... تحدي بأرجلها عدواً أياديها رموا بهن صدور البيد معنقة ... على نحو أعاديها عواديها قد عددوهن أن لا ينثنين عن الهيجاء إلا إذا كفت عواديها وإن يطأن على هام الكماة إذا ... لف الوغى بهواديها تواليها فاستنفذوا حرم الرحمن من عصب ... لم يرع حرمة بيت الله راعيها وأوردوا الخيل نجداً فاستبوه ولم ... تعسر عليها عسير في مساعيها وكان تأييدها أمر الخلافة في ... مواطن الحرب من جلى معاليها مولاي دعوة إخلاص يكررها ... داع أياديك أرضته أياديها هنئت علياء قد وافتك خاطبة ... تختال تيهاً وتزهو في تهاديها علياء فاقت علواً كل منزلة ... فلم يكن في سواها ما يساويها رأت علاك فشاقتها حلاك فلم ... تسمح لغيرك من خل يخاليها وكم سمت نحوها نفس تؤملها ... من قبل لكنها ضلت مساعيها تجاذبوها فرثت في أناملهم ... حبالها وتمادت في تنائيها قضوا غراماً ولم يقضوا بها وطراً ... فكان أصل مناياهم أمانيها فاسلم أقر بك الرحمن أعيننا ... ولا برحت لها مولى تواليها وأقر سمعك من حلو الثناء حلى ... يلهو بلحن المثاني صوت شاديها حلى كما انتظم العقد الفريد على ... لبات حسناء تجلوه تراقيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 988 وهاك غراء من حر القريض إذا ... ما أنشدت خلب الألباب تاليها وفخرها أنها في المدح قد صدعت ... بقول صدق فلا حي يلاحيها يسهو بها الراكب المزجى مطيته ... عن حاجة راح يغدو في تقاضيها يسائل الناس أي الناس قائلها ... وأي بر به الممدوح جازيها وإنما حسبها براً وتكرمة ... منه قبول وإقبال يوافيها تدري القصائد أني لست أقصدها ... إلا وللحب داع من دواعيها ولا تجافيت عنها قبل من حصر ... بحمد ربي ولا ضنت قوافيها لكنها نفس حر لا تهم بما ... لا يستوي فيها باديها وخافيها تسعى إليك وفرط الشوق قائدها ... إلى رحابك والإخلاص حاديها وافت تهنئ مولاها مؤرخة ... توفيق مصر بأيد الله راعيها سنة 1296 وله أيضاً رحمه الله تشكراً للحضرة الفخيمة الخديوية بناء على إحسان سموه إلى حضرة نجله عز تلو أمين بيك فكري بالنيشان العثماني من الدرجة الرابعة قوله: لمولاي العزيز علي فضل ... بنعمته على ولدي الأمين تحقق في مقام الشكر عجزي ... فآثر أن أرى ولدي معيني ومن ذلك قصيدته التي تلاها يوم فتح المؤتمر العلمي السويدي بحضرة جلالة الملك اشكار المعظم وأمراء دولته، ووجهاء الوفد المذكور، وقبل ذكر هذه القصيدة نذكر فصلاً خفيفاً مما حصل قبل فتح المؤتمر في السويد والنرويج فنقول: أنه لما وصل الوفد العلمي إلى استكلم ونزلوا الأوتيل " الفندق " وكان هناك الكونت لاندبرج فحضر وسلم عليه ومضى بهم إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله، فأطلعهم على المحل المعد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامة والخاصة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 989 وموضع كل من الوافدين فيه، وفي ذلك الموضع محل معد للوفد المصري، وهو في جزء مرتفع عن باقيه بدرجة، وبه كرسي الملك، وخلف ظهره كراسي العائلة الملوكية، وعن يساره موقف من يخطب، وكراسي لجلوس الوفد المصري، وهو الجزء المذكور، وعن يمينه بعض وزرائه، وسفير العجم في الآستانة العلية محسن خان، والوفد العثماني وبقية وفد العجم، وبين يديه الكتب المهداة إليه، وفي باقي المحل أسفل من هذه الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر، والمحل يسع الخمسمائة نفس، وفي أعلاه محل مرتفع مشرف عليه لجلوس النيابة، يسع نحو مائة وخمسين. وقد حضر جلالة الملك في أثناء وجودهم في المحل المذكور، فرآهم وعرفه بهم الكونت لاندبرج، فسلم عليهم بيده واحداً واحداً، وقابل الجميع بغاية البشاشة، ولما سلم على سعاد تلو المرحوم عبد الله باشا فكري المترجم أظهر له محبته الزائدة، ومحبة جناب الخديوي المعظم، وشكره على إرسال هذا الوفد للمؤتمر العلمي الذي كان سبباً لحضور المترجم، ولما سلم على حضرة نجله عز تلو أمين بك فكري وكان أحد أعضاء الوفد المصري، قال له أنت ترجماني لوالدك مما دمتما هاهنا، ولم تكن مقابلتهم هذه رسمية. وفي ثاني يوم طلبهم الملك إلى سرايته وأرسل إليهم عربات مخصوصة حضرت إليهم لمقابلة جلالته المقابلة الرسمية فتوجهوا بالكساوي التشريفية والنيشانات فأعلن المسرة والمنونية، والثناء على الجناب الخديوي الفخيم، فسلم إليه المترجم المحرر الكريم الذي أرسله الخديوي لجلالة الملك، وأجاب رحمه الله قائلاً: مولاي أقدم لجلال مقامك الرفيع الشان تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لدن مولاي خديوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 990 مصر المعظم، مؤيداً ذلك بتقديم محرر سموه المنطوي على خاص المودة، المتضمن تعييني وتعيين رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم للحضور في المؤتمر العمومي العلمي الذي توجهت خواطركم الملوكية لانعقاده في هذه المملكة العامرة، لما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدمه واتحاده باشتراك القريب والبعيد والشرقي والغربي فيه، ولم يكن ذلك ليأتي إلا بتوجيه همة الملك إليه. فلك يا مولاي الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل، وأختم قولي بتقديم واجب تشكراتي لما نلت من لطف الرعاية الملوكية في هذا الموقف النبيل، لا زال موقع إجلال ومنتهى كمال. وكان ذلك يوم الأحد غرة سبتمبر سنة 1889 وانصرفوا. وفي ثالث يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر، وحضر الملك وحضر الناس، وأخذ كل موضعه، فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن أدائها، قال في ضمنها: إن السلطة قبل كانت للقوة والاستبداد، وليست الآن إلا للعلم، ومضى فيها حتى أتمها واقفاً، والناس بين يديه وقوف، ثم جلس، وخطب بعده المسيو كريمر وافد النمسا، ثم سفر العجم، فخطب خطبة باللغة الفارسية، ثم وافد السلطنة العلية العثمانية أحمد مدحت بك، فتلا مقالة باللغة التركية. ثم أشير إلى سعادة المرحوم المترجم، فأنشد قصيدة وهي بألفاظها الرائقة، ومعانيها الشائقة، قوله: اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس سمائها أنوار وزهت فنون العلم وازدهرت به ... أفنانها وتناسقت أزهار وغدت لأرباب المعارف دولة ... غراء صاحب ملكها أسكار اسكار الثاني الذي اعترفت به الأقطار وارتفعت به الأقدار ورعى حقوق العلم يعلي قدره ... فنما بهمته له مقدار ودعا له الفضلاء دعوة ناصر ... للعلم فهو بهم له أنصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 991 هي دعوة طنت بآذان العلى ... وتناقلت أخبارها السمار عرفت بقيمتها البلاد وأهلها ... وملوكها وتسامع الأقطار أمر أمير المؤمنين أعاره ... نظراً وأنظار الكبار كبار فسرى به في مصر من توفيقه ... نور ومن بركاته أسرار وإذا المليك أراد ينجح مقصداً ... نالته من توفيقه آثار مولى له في كل مكرمة يد ... ولكل موقع مقصد أنظار وأعان كل زعيم مملكة له ... بشؤون أهل بلاده استبصار يحدو إلى أرض السويد أماثلاً ... من قومه أمثالهم أخيار مستظهرين بدعوة الملك التي ... عمت وما لسماعها إنكار فتسارع العلماء تلبية له ... بالطوع تسبقهم له الأخيار بفنائهم صيت يشوق سماعه ... ويسوقهم شوق إليه مثار سمعوا بشهرته وصيت ثنائه ... سمعاً يذكرهم به التكرار وسما بهم في استكلم بأمره ... ناد تشاخص دونه الأبصار جمعته من شرق البلاد وغربها ... وجنوبها وشمالها الأقدار ألقت بأفلاذ الكبود إليه من ... أبنائها في حبه الأمصار ناد به احتفل الأفاضل حفلة ... بحديثها تتقادم الأعصار جمعت لنا من مرة معدودة ... في الدهر لا ينسى لها تذكار جمعتهم الأقدار جمع سلامة ... والله في أقداره مختار متآلفين بعيدهم بقريبهم ... والفضل أقرب وصلة تمتار من كل فياض القريحة ورده ... عذب وبحر علومه زخار تتدفق الأفكار نحو يراعه ... فيفيض من أنبوبه تيار من كل معنى شف عنه لفظه ... كالخمر نم بها الزجاج تدار ومؤزر بالفضل مشتمل به ... منه شعار زانه ودثار حبر إذا ولى اليراع بنانه ... زان الطروس بوشيها الأحبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 992 ويغوص أعماق المباحث باحثاً ... عن كشف كل فريدة تختار درر يروق الطرف منها رونق ... بهج تحار بوصفه الأفكار لذوي المفاخر من حلاها زينة ... تبقى ولا يبلى لهن فخار لا زال ملك الفضل معمور الذرا ... بذويه ممدوداً له الأعمار ولما فرغ رحمه الله من قراءتها، كل من في المؤتمر استحسنها وصفق، وخاطبه ناس منهم في ذلك اليوم باستحسانها، وحضر إليه كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها وساره بطلب نسختها، فأخذها في الحفلة وخطب بعد ذلك أناس منهم الموسيو شفر وافد فرانسا، وغيره، وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية، وبعد ذلك صارت الناس تجتمع في المؤتمر في أوقات مخصوصة، ويقدم كل واحد ما أراد تقديمه، وقدم المترجم ما أعده لذلك، فقوبل منه بغاية الاستحسان والاعتبار، وأعطي للمترجم نيشان " وسام " من النوع المسمى " وازا " من الدرجة الأولى، فشكر الملك على ذلك. وبعد انتهاء المؤتمر والمأمورية، ورجع كل إلى بلاده، نظم رحمه الله تعالى قصيدة غراء قالها في البحر، وهم عائدون إلى وطنهم العزيز، وهي مدحة سنية لمآثر الجناب الخديوي المعظم، ويقص على مسامعه الزكية بعض أحوال هذا المؤتمر، وهي: دنت الديار ودانت الأوطار ... هذا المنار وهذه الأنوار هذا المنار يلوح نجم هداية ... للناظرين تؤمه الأنظار والثغر وضاح المباسم باسم ... للبشر في قسماته آثار فرح يبشرنا ببشر سروره ... إن الخديو له به استقرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 993 فاليوم نلثم من بنان يمينه ... سحباً موارد فيضهن غزار من كف فياض اليدين يمينه ... يمن ويسراه ندى ويسار ونشنف الأسماع من ألفاظه ... دراً غدت أصدافه الأفكار ونرى منار الحق فوق جبينه ... كالشمس ليس وراءها أستار نور تلألأ في جبين موفق ... للحق في توفيقه أسرار مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي ... لرضاك ما تسمو به الأقدار نصل المغارب بالمشارق والسرى ... بالسير لا ملل ولا إقصار ونلف أذيال الأباطح بالربى ... تنتابنا الأنجاد والأغوار لا البحر ذو الأمواج نخشى بأسه ... يوماً وليس البر فيه نضار البحر بر في رضاك بمن به ... والبر من جدوى نداك بحار ومدى النهار صباح خير كله ... بسعود جدك والدجى أسحار نطوي البلاد بطيب ذكره نشره ... عبق ونفحة ريحه معطار ونؤرج الأرجاء باسمك مدحة ... طابت بها الأسحار والأسمار يهتز سامعها بحسن سماعها ... طرباً ويخبر غائباً حضار ويروح سامعها يميل بعطفه ... ثملاً كأن دارت عليه عقار نفشي بها صدر الندي ندية ... يحلو بها الإيراد والإصدار نتلو مديحك معلنين بنشره ... جهراً فلا كتم ولا أسرار لا يعتري فحواه وصمة ريبة ... تخشى ولا رد ولا استنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 994 ثم امتطينا للسويد ركائباً ... لا الركض يجهدها ولا التسيار تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه تيار سرع الخطى لا السوط حل بجلدها ... يوماً ولا شدت به أكوار تذر الرياح إذا جرين وراءها ... حسرى طلابح جريهن غبار سرنا بهن على العشي فأصبحت ... في أستكلم وقد بدا الأسفار ولقبت صاحب تاجها في قصره ... والوفد ثم بصحبتي نظار فدنا وصافح باليمين مردداً ... شكر الخديو يزينه التكرار فشرعت مقتصداً أجاوبه بما ... أرضاه لا قل ولا إكثار ونحوت مؤتمر العلوم أؤمه ... بالوفد تهوي نحونا الأبصار حتى إذا احتل الندي وأقبل العظماء والعلماء والأخيار وتلا به اسكار رب سريره ... قولاً به لذوي النهي اسكار وأجابه الخطباء كل محسن ... يزري بنظم الدر منه نثار ودعيت باسمي للمقال موفياً ... حق الوفادة والوفاء شعار أقبلت أبتدر القريض يزينه ... مولاي باسمك بهجة ووقار حتى استتم الشعر فاصطفقت له الأيدي وذاك بمدحه أشعار وتشعبت شعب الفصول مقرراً ... في كل فصل للعلوم قرار فنحوت بالوفد الذين بصحبتي ... خير الفصول وصحبتي أخيار ما فيهمو وهل الفؤاد يهوله ... حفل ولا واهي القوى خوار كل أعد من المعارض ما اصطفى ... للعرض ثمة جملة تختار وأجاد فيما قد أفاد بمنطق ... طوع المراد أمده استحضار في لهجة العرب الفصيحة لفظهم ... حر، وهم في نفسهم أحرار لا في مقالة قائلينا وقفة ... عرضت ولا لمقولنا إنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 995 كالقطر جاد به غمام مبرق ... دانى الهيادب عارض مدرار نبدي الذي نبدي وكل مطرق ... سمعاً ومنطق ذي المقال جهار حتى نتم كما نشاء القول في ... أمد أعد لوقته مقدار فيقول صاحبهم أما من باحث ... فيما يقول وقوله استفسار وتصفق الحضار لاستحسان ما ... قلنا ويظهر فيهم استبشار هاهم رجالك أيها المولى ولا ... من عليك ونعم من تختار لا أبتغي مدحاً لنفسي أنني ... بعلاك أفخر لا عداك فخار هذي محاسن يمن طالعك الذي ... بسعوده قد ساعد المقدار ثم انثنينا راجعين يسوقنا ... لحماك أشواق لهن أوار نأوي لخير حمى بظلك كله ... أمن وما للجور فيه جوار فاسلم لمصر وأهلها ليرى بها ... لنماء غرس يمينك استثمار واسلم لأنجال وآل كلهم ... خير وآل الخيرين خيار وإليكها مولاي صنعة ليلة ... لحق العشار بوشيها الأسحار حتى كساها الصبح رونق وجهه ... حسناً وألبسها الضياء نهار إلى هنا اقتصرنا على بعض غرره وفرائده، من شائق نثره ورائق قصائده، وإلا فرحمه الله، درره لا تحصى، وجواهره لا تستقصى، وكم له من نثر فائق، ونظم رائق، والحق يقال أنه لغني بشهرته في الآفاق عن التعريف، وكيف لا وقد سبق رحمه الله فرسان التصنيف والترصيف، وبالجملة فإنه لا يماثله بكل فن مماثل، ولا يعادله في الفضل معادل، وحيث أنه قد أصيب هذا القطر بفقده وهو من أجلائه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 996 لوذعي فاضل من أكابر فضلائه، وعالم من أجل علمائه، وأمير من صفوة أمرائه، وأديب حاز السبق في مضمار الفضل والأدب، وحسيب نسيب زينت أردان فضله سجايا المجد والحسب، رثاه بعض فضلاء العصر وأدباء مصر بقصائد طنانات يلوح عليها من قائليها الحسرات والزفرات، فقد فقد هذا القطر بل الدنيا هذا الحبر الفخيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولنذكر الآن بعض قصائد أولئك الفضلاء، تتميماً لترجمة من حلت روحه بالملأ الأعلى. ومن ذلك ما كتبه حضرة العالم الأديب، والفاضل الأريب، أخونا عبد المجيد أفندي الخاني، أناله الله أحسن الأماني. حجب البدرالذي أد ... رك في العلياء ما أدرك هو عبد الله فكري ... فاختبر في وصفه فكرك إذ غدا في كل علم ... غاية بالسعي لا تدرك يا أمين المجد صبراً ... طول الله لنا عمرك عظم الخطب فأرخ ... عظم الله به أجرك ومن ذلك قصيدة حضرة الأستاذ العلامة، والحبر البحر الفهامة، الشيخ علي الليثي: نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... غداة انتقت مولى به الفضل يكمل تخطت أناساً من كثير نعدهم ... وغالت وحيداً من قليل يحصل ونحن بني الدنيا نباين فعلها ... فلا ننتقي حراً عليه يعول كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل فتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلوي أنساً يهلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 997 وتم نظام العقد وأزينت به ... نحور بدور الحور وهو مفصل وكل بعبد الله فكري مهيم ... ينافس فيه غيرة حيث ينزل ومنها: لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالها لديه تمثلوا لقد كان ذا بر عطوفاً مهذباً ... سجاياه صفر القطر بل هي أمثل رقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل كريم السجايا لا الدنايا تشينه ... عظيم المزايا إذ يقول ويفعل شمائله لو قسمت في زماننا ... على الناس لازدانوا بها وتجملوا إلى أن قال بعد كلام نفيس: ولولا " أمين " المكرمات الذي إلى ... مخايله سر الأبوة ينقل فتى المجد والعلياء والصدق والحيا ... وأوفى أمين يرتجى ويؤمل يشم شذى المرحوم منه ويجتلى ... بغرته اليمن الذي يتهلل لذبنا أسى مما عرانا من النوى ... ونحنا كما ناح الهديل المبتل ومنها: ومذ سمت نفسي الصبر وارتحت للقضا ... تنفست والمخبوء في النفس أجزل فخذها أمين الله ما شابها الريا ... ولا عابها إلى امرؤ يتقول وقل لمشير الحزن عني مؤرخاً ... ألا في جنان الخلد فكري المبجل وقال حضرة أستاذنا العلامة الفاضل، واللوذعي الكامل، الشيخ سليمان العبد أحد أفاضل الجامع الأزهر: نضا ثوب الحياة وسار " فكري " ... وكدر بالفراق صفاء فكري تكبدت القلوب ضرام حزن ... عليه يذيب وجداً كل صخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 998 ومصر بموته ارتعدت وضجت ... وقد شقت عليه دروع صبر وصار دم الدموع لها خضاباً ... على كف الأسى يا ويح مصر إلى أن قال: أمين لك المعالي في صعود ... وسر أبيك منه إليك يسري فحسن نفسك العليا بصبر ... فمثلك قدوة بجميل صبر سقى الرحمن قبر أبيك غيثاً ... من الرحمات عصراً بعد عصر ورضوان لصفو قال أرخ ... بجنات النعيم مقر فكري وقال حضرة الفاضل الزاهد، والإمام النحرير العابد، الشيخ أحمد موافي يرثي المترجم رحمه الله تعالى: ما العيش يحلو والتفرق مشرب ... سبل الفراق بها العيون تسيل ما العيش في دار الغرور بمشتهى ... وصخور أعمال الجبال تهيل من يوم غزو البحر بحر علومنا ... لم أرج أن يشفى إلي غليل ودعته وأنا الموافي صحبة ... أخذت لتغرب والفؤاد عليل ومنها: في يوم نيخت للرحيل مطية ... صدعت قلوب فالبعاد طويل عزريل نادى يا جنود ترحموا ... رفقاً بفكري للعلوم خليل لولا الإرادة ما نزلت لقبضه ... إني برفق العاملين وكيل ومبشرات الحق وافت نحوهم ... من قبل قبض والبشير دليل في لمحة البصر الخفيف أزورهم ... وفراقهم أبدا علي ثقيل ومنها: ففوارس العلم الشريف تصرعت ... بالنحو جرح والأصول قتيل جيش المجاز مع المعاني أدبرا ... والفحل من فقه البديع فصيل سبيت لغات والعلوم أسيرة ... ويرق حر الفهم وهو جزيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 999 ولت مسائل قد تقادم عهدها ... فاليوم عقل للغبي يحيل دار العلوم على الهمامة كئيبة ... والقبر مسرور به وخميل ومنها: لاقت لعبد الله باشا حوره ... كانت تئن لبعدها وتطيل قد كان في الدنيا يحاسب نفسه ... فهو الذي عند السؤال نبيل قال الثرى أرخته وداً به ... أهلا به ظل الجنان مقيل سنة 1307 وقال حضرة العالم الفاضل الأديب، والأمير الأفخم الحبيب، عز تلو علي بيك رفاعة: دنياي لم تبدلين المدح تأبينا ... وتمنعين الوفا ظلماً وتأبينا وتظهرين إزاء العجز مقدرة ... وإن نويت لنا خباً تناوينا إذا وعدت وأعددت الصفاء لنا ... تلوين وعدك بالأكدار تلوينا في روضة العيش كم تدنين من ثمر ... لمن إذا حان أن تجنيه تجنينا إلى أن قال بعد كلام تركناه خوف الإطالة: مصاب مثلك عبد الله سيء له ... كل الأنام وملك حل عبدينا فما مصاب أخي صهطا برزء أخي ... دار المعز فيا مولاي عزينا من خال بعدك عبد الله أن له ... جواً خلا عنك كنا عنه خالينا ومنها: أللبيان نرجي أن يشاد له ... بيت وبعدك سد الباب بانينا سل دولة هي إنشاء ومقترح ... أمضى يراعك فيها أم مواضينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1000 هل فوق نثرك ما نزهى بنثرته ... أو فوق شعرك شعري أو يمانينا من للمطول أو جمع الجوامع أو ... من للمواقف توقيفاً وتبيينا من للتفاسير تأويلاً لمشتبه ... أو للتواريخ توقيتاً وتأوينا هل للشفا وحديث المصطفى طرق ... بها طبيب النهى يأتي بشافينا ومنها: سل آستانة عن تركي منطق من ... سما عشائرها وهو ابن عشرينا لو كان فيها لجارى كل ذي قلم ... يختال بالفكر ترصيفاً وترصينا ينشي القوافي فتحلو في مباسمنا ... ذوقاً كأن بها الصهباء تنشينا إلى أن قال: وأنت يا نفحات البرزخ اتجهي ... لوجهه وانفحي ورداً ونسرينا وأنت يا حور جنات زففن له ... تبارك الله هاك المهر " ياسينا " وأرخيه فما كفؤ يؤرخه ... في رحمة الله عبد الله فكرينا سنة 1307 أصيب رحمه الله بداء السكتة بعد ظهر الخميس في اليوم السابع من ذي الحجة الحرام، وفي الساعة الثانية من صباح يوم الأحد عاشر الشهر المذكور وهو يوم النحر وافاه الأجل المحتوم، والقضاء المعلوم، وذلك سنة ألف وثلاثمائة وسبع، فنحرت عليه في يومه القلوب، وشقت المرائر وازدادت الكروب، وامتلأت مصر بالأحزان، وأظلم العصر في كل مكان، وشيع محمولاً على هامات الوقار، والسكينة والتبجيل والاعتبار، والمحاجر تودعه ودموعها تتحدر، والقلوب تكاد من شدة تألمها إذ ذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1001 تتفطر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عوضه الله الجنة وأسكنه دار النعيم. السيد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى هو من رجال البدر الطالع: ولد سنة ستين ومائة وألف، وبرع في جميع العلوم، وهو أحد علماء العصر العاملين بالأدلة الراغبين عن التقليد لمذهب من المذاهب، مع قوة ذهنه وجودة فهمه، ووفور ذكائه، وحسن تعبيره وصدق وفائه، وخبرته بمسالك الاستدلال، ومتانة دينه وصيام نهاره وقيام الليال، وله شعر كثير، قد جمع في مجلد كبير، وبلغني أنه نظم بلوغ المرام، وشرحه فوق المرام، وليس له شغل سوى العلم والحديث والقرآن، وتحرير المسائل وتقرير الدلائل وإقامة البرهان، ومن نظمه في مطلع قصيدة: لله درك أيها البدر الذي ... يهدي إلى نهج الصواب الظاهر أبرزت من تيار علمك درة ... في سلك تبرقعه بحر زاخر انتهى. قال في النفس اليماني في ترجمته: ومنهم ولد شيخنا السيد الجليل، العالم النبيل، فخر الإسلام، وزينة الليالي والأيام، السيد عبد الله صار من العلماء الأعلام، والنبلاء الفخام، أحد أئمة العصر، وحامل لواء الفضل والفخر، له اليد الطولى في العلوم النقلية والعقلية، وجودة النظر والنقادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1002 في الأحاديث النبوية، مشتغلاً بذلك غاية الاشتغال، حتى نال من العلم الشريف أعلى منال، مواظباً على الإفادة في جميع أوقاته، مقبلاً على الطالبين في حركاته وسكناته، تاركاً للتعصبات المذهبية، والانتصارات التعصبية، يدور مع الحديث حيث دار لا يعتريه ملل، ولا يجنح نحو راحة ولا يميل نحو كسل، فاكهته النظر في الزبر والأسفار، والمطالعة عنده أعذب من نسمات الأسحار، جعل العلم له جليساً، وفي الخلوة نديماً وأنيساً، فهو فارس ميدان العلوم، ولحائز قصب السبق إن تأخرت الفهوم، مع أخلاق شريفة، وشيم لطيفة، يسمح بها للمتعلمين، ويمنحها للمتفهمين، فهم لها عاشقون، وبها متخلقون، وعليها معولون، مع حسن نية، وسلامة طوية، وهمة علية، يحلو منه الإطناب والإيجاز، وإبداء فصيح الحقيقة والمجاز، وطاعته تسر الودود، وتسوء كل هماز حسود، حاز من الرتب الشريفة أعلاها، ومن الأوصاف السنية أغلاها وأحلاها، من رآه أحبه بمجرد النظر، فكيف إذا خالطه في الحضر والسفر، تالله لقد أقر الله به عين كل وافد، وكبت بطلعته البهية عين العدو والمعاند، وأطلع شمس معرفته على كل جاحد، فغط بكفك على الشمس أيها الحسود، ولم نفسك أيها المعاند لأنها لام الجحود، توفي رحمه الله، وأحسن مثواه، سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين. الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الكزبري الشافعي الدمشقي عالم أوحد، وفاضل مفرد، من أهل بيت قد نشأوا على العلم والعمل، وبرعوا فيه حتى صار لهم عوضاً عن المال والخول، فما منهم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1003 من هو محدث فاضل، متورع زاهد عابد كامل، قد افتخر بهم مصرهم على الأمصار، وتاه بهم عصرهم على غابر الأعصار. ولد رحمه الله سنة ألف ومائتين وإحدى وعشرين، ونشأ من أول عمره على الطاعة والدين، ناهجاً منهج والده الهمام، إلى أن صار معدوداً من أفراد العلماء الأعلام، وبعد وفاة والده جلس في مكانه تحت قبة النسر، يقرأ صحيح الإمام البخاري في شهر رجب وشعبان ورمضان كل يوم بعد العصر، ولم يزل مثابراً على ذلك، سالكاً أعلى المناهج والمسالك، إلى أن سقته المنية كأس الحمام، وجرحت بفقده قلوب أهالي الشام، وذلك سنة ألف ومائتين وخمس وستين ودفن بتربة باب الصغير، رحمة الله تعالى عليه. الشيخ عبد الله بن مصطفى بن عبد الله بن محمود العبدلاني الكردي الدمشقي كان حسن الأوصاف، جميل الإنصاف، يميل إلى الحق ميل الصب الهائم، ولا تأخذ في الله لومة لائم، قرأ على العلماء الأفاضل، إلى أن حاز على أجل الفضائل، ولازم والدي مدة طويلة، واستجازه فأجازه إجازة عامة جليلة وكان محبوباً بين الناس، مشهوراً بالجمال والكمال والإيناس، كثير الطاعة والعبادة، حريصاً على الإفادة والاستفادة، مات في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ودفن بمقبرة باب الصغير قرب قبر الصحابي الجليل سيدنا بلال بن رباح الحبشي رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1004 السيد عبد الله بن عابدين الدمشقي الحنفي الماتريدي إمام قد تحلى بالفضائل، وارتدى بأجمل الشمائل، وأكب على العلم والطلب، إلى أن نال المرام والأرب، وكان شهماً فاضلاً، عالماً عاملاً، حسن الاعتقاد، جميل المعاملة والوداد، ذا تقوى وعبادة، وصيانة وزهادة، وكان مقدم الطريقة النقشية، في جامع بني أمية، وله أحوال عجيبة، ومكاشفات غريبة، وكرامات مشهودة، وصفات محمودة. توفي يوم الجمعة في صلاة العصر في السجدة الثانية من الركعة الثانية في اليوم التاسع عشر من شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير قرب قبر المرحوم السيد محمد عابدين المشهور. الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد أبي العباس إمام السادس الحنفية في جامع بني أمية كان رجلاً صالحاً تقياً نقياً، عابداً زاهداً، متباعداً عن الناس، له في التمسك بطاعته تعلق وإيناس، وكان مقدم الطريقة الشاذلية بعد موت والده رحمه الله. فأرشد كل سالك، ونهج بالمريدين أحسن المناهج والمسالك، وكان كثير الوداد، معتصماً بحبل الصواب والسداد، دائم الإقامة، على حالة الاستقامة، حسن السيرة، صافي السريرة. مات رحمه الله سنة ستين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي العلامة النحرير، والفهامة الشهير، والأصولي الفقيه، والفاضل النبيه، شيخ الإسلام، وعمدة الأنام، من طلع في فلك الأزهر بدراً، وتقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1005 على صلة الأفاضل ذوي الفضائل علماً وجلالة وقدرا، فكان في جبهة الدهر غرة، ولأهل العصر روضة فرح ومسرة. ولد ببلدة تسمى الطويلة بشرقية ببلبيس في حدود الخمسين بعد المائة والألف، ونشأ على غاية الكمال واللطف، فلما ترعرع وحفظ القرآن، قدم إلى الجامع الأزهر المصان، وسمع من الملوي والجوهري الحفني والدمنهوري ومن الشيخ يوسف الحفني والبليدي ومحمد الفارسي وعلي الصعيدي وعمر الطحلاوي وعطية الأجهوري، وسمع الموطأ على علي بن العربي الشهير بالسقاط، وأخذ الطريقة على الشيخ محمود الكردي بكمال الاحتياط، ودرس الدروس بالجامع الأزهر، وقرأ بغيره أيضاً وتحقق ودقق وحرر، وله تأليفات دالة على علو قدره، ورفعة مقامه وسمر ذكره، من ذلك حاشية على التحرير، وشرح نظم الشيخ يحيى العمريطي وشرح العقائد المشرقية والمتن له أيضاً، وشرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف مشهور في بلاد داغستان، وشرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد، ومختصر الشمائل وشرحه له، ورسالة في لا إله إلا الله، ورسالة في مسألة أصولية في جمع الجوامع وشرح الحكم والوصايا الكردية في التصوف وشرح ورد السحر للبكري، ومختصر المغني في النحو، وغير ذلك. وبعد موت الشيخ العروسي حولت إليه مشيخة الأزهر إلا أنه كان له معارضون كثيرون فلم يتركوا له راحة لدعوى استحقاقها للشيخ مصطفى الصاوي، وبقي هذا الاختلاف وعدم الراحة إلى أن توفي الشيخ مصطفى الصاوي فسلمت للمترجم من غير منازع. ولم يزل في منصبه مع اختلاف وشقاق من واقعات اقتضاها الحال، إلى أن مرض مدة، ومات يوم الخميس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1006 ثاني شهر شوال سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن في مدفنه الذي بناه لنفسه ومقامه شهير رحمة الله تعالى عليه. الشيخ عبد الله بن محمد بن عيسى بن سعيد الدمشقي الصالحي الشهير بالكناني شيخ الطريقة الخلوتية، وإمام ذوي إرشادها في دمشق المحمية، وكان يغلب عليه في بعض الأيام، غيبة وجذبة واصطلام، فكان في تلك الحالة يتكلم بما هب ودرج. وليس عليه في كلامه حينئذ ملام ولا حرج، وله كشوفات كلية عجيبة، وإخبارات صائبة غريبة، ولي والحمد لله منه إجازة في إذكار الطريقة المرقومة وأذن عام في إعطاء الطريق لأهل الإعطاء المستحقين. وشاهدت كثيراً من كشوفاته، وسمعت منه كثيراً من إخباراته الخارقة للعادة، التي لم يتخلف منها شيء عن ما أفاده، وكنت أطالع لديه بعض عبارات في كلام السادة الصوفية، فيسمع ولكنه لم يتكلم بشيء بالكلية. ولد في صالحية دمشق الشام سنة ثمان ومائتين وألف، ونشأ بها، وأخذ الطريق عن جده الشيخ عيسى، وكان يقيم الأذكار بزاويتهم الكائنة في صالحية دمشق. مات رحمهه الله يوم الاثنين بعد الظهر في عشرين من ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ودفن بقاسيون قرب مقام الشيخ محمد بن مالك صاحب الألفية. الشيخ عبد الله المعروف بالمرادي بن طاهر بن عبد الله بن مصطفى بن القطب مراد الدمشقي الحنفي الشهير بالمرادي النقشبندي صدر صدور الشام، وبدر العلماء الأعلام، الشهم الكبير، والهمام الشهير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1007 ولد بدمشق ونشأ بها، وقرأ على علمائها، إلى أن صار من أوتادها وأقطابها، فسعى منصب الإفتاء إليه، وعول في أمره عليه، ودام له أحد عشر شهراً ثم فصل عنه ولم يزل على تقواه وعبادته، وتقدمه بين الناس ورئاسته، إلى أن نشبت به أظفار المنية، فحالت بينه وبين المرام والأمنية، فمات مخنوقاً في قلعة دمشق الشام سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله بن سعيد بن حسن بن أحمد المشهور بالحلبي فرد الشام وعالمها، وصدرها وفاضلها، قد طلع في أفقها بدراً تحرس مجده الثواقب، وارتفع في أهلها قدراً تتنافس به ذوو المعالي والمناقب: إذا ما بدت للطرف غرة وجهه ... رأيت بها الشمس المنيرة والبدرا وإن رمت أن تدري علاه فإنه ... هو الغاية القصوى هو الآية الكبرى له خلق كالروض يزهو بزهره ... وكيف يساور الزهر أخلاقه الزهرا فهذا الذي فوق السماكين قد رقى ... واحرز من دون الورى الفخر والقدرا لقد انفرد بعلو الهمة، واقتصر عليه الخاص والعام في الأمور المهمة، وكانت الحكام تفضله وتهابه وتعظمه، وترفع مكانه وتجله وتحترمه، وتعتمد في المهمات عليه، وتستند في حل المشكلات إليه، فقوله في المهمات فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1008 الخطاب، وحكمه مدار الحق على مركز الصواب، قد طار صيته وفاق وملأ ذكره الأقطار والآفاق، فلا ريب أنه عين الأعيان، وفرد الدهر والزمان، قد تصدر بعد موت والده للإقراء والتدريس، فما عداه في الشام مرؤوس وهو بمفرده الرئيس، ولم يزل في كل يوم يسمو مقامه إلى العلا وينمو قدره وفخره بين الملا، ويقصده الناس من كل جانب، لقضاء الحوائج ونيل المآرب، فليس من عظيم ولا كبير، ولا حاكم ولا وزير إلا وينقاد لكلامه، ويعترف بعلاه واحترامه. وكان يقرأ صحيح الإمام البخاري تحت قبة النسر في جامع بني أمية في كل يوم جمعة من شهر رجب وشعبان ورمضان، إلى سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فوقعت في الشام حادثة النصارى، التي جعلت الناس سكارى وما هم بسكارىن فتبدل النهار على الشام ليلاً، ومال الغم والهم عليها ميلاً، وانفرط نظامها وتشوش قوامها، واختل تشييدها، واعتل رشيدها، وانحطت في فلكها إلى الحضيض، ورقعت في النكد الطويل العريض، وتلا قارئها على أهلها من كبير وصغير، " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "، فارتجت من المترجم جوانب ناديه، وارتبطت في عنقه طوال أياديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت بهجتها عنها ساعد الصبا وكف الدبور، فبكت العيون عليه دماً، وعاد قدره ومقامه عدماً، وصار بعد أن كان مخدوم أحرار الدهر لا يخدمه من كان لهم خدماً، فسحقاً لزمان لم يرع حقوقه، ولم يحفظ عليه شروقه، فنفاه فؤاد باشا المرسل من جانب السلطان لهذه القضية، إلى المغوصا قلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1009 في قبرص أعدت لذوي الجنايات الكلية، ومعه جملة من ذوات الشام، من أهل القدر والاحترام، واستقام إلى سنة ألف ومائتين وثمانين منفياً، ثم عاد إلى الشام رفيعاً علياً، إلا أنه قد تولى الدرس في جامع بني أمية، صاحب الأصالة محمد أفندي المنيني ذو النسب العثمانية، ولم يزل المترجم في رفعة وعلو، وقدر ذي سمو، إلى أن دعته المنية للدار الآخرة، والمنزلة الفاخرة، وذلك في ثالث ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانين ومائتين وألف. توفي في قرية برزة قرية من قرى دمشق الشام، وفي صبيحة تلك الليلة أحضر إلى الشام، وصلي عليه في جامع بني أمية ودفن عند قبر أبيه في مرج الدحداح بمشهد عظيم، وكانت ولادته في دمشق الشام سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وكان عمره ثلاثاً وستين سنة رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله بن صالح بن حيدر الكردي الأشكتي ثم الدمشقي الشافعي الحبر الفقيه، والبحر المحقق النبيه، ولد بدمشق سنة ثمان وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر أبيه وأخذ عنه وعن العلامة الشمس الكزبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1010 واستفاد وأفاد، وارتفع مقامه وساد، توفي رحمه الله تعالى سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. عبد الله بن إبراهيم ن حسن بن محمد أمين بن علي ميرغني بن حسن بن مير خودر بن حيدر بن حسن ن عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد ببن علي بن إبراهيم بن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن إسماعيل بن مير خودر البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادري بن محمد الجواد الحسيني المتقي المكي الطائفي الحنفي الملقب بالمحجوب. نقل الإمام الجبرتي أنه ولد بمكة وبها نشأ وحضره في مباديه دروس بعض علمائها كالشيخ النخلي وغيره، واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف، فانتسب غليه ولازمه، وبعد وفاته جذبته عناية الحق وأرته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فحينئذ انقطعت الوسائل وسقطت الوسائط فكان أويسيا تلقيه من حضرة جده صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة ثلاث وستين ومائة وألف وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق. قال وطلبت منه الإجازة وإسناد كتب الحديث فقال: غني عنه قال: فعلمت أنه أويسي المقام، ومدده من جده عليه الصلاة والسلام. وانتقل إلى الطائف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثره شهيرة، ومفاخره كثيرة، وكراماته كالشمس في كبد السماء، وكالبدر في غيهب الظلماء، وأحواله في احتجابه عن الناس مشهورة، وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنه الناس مذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1011 ومن مؤلفاته كتاب فرائض وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين، وقد كتب على ظهرها بخطه الشريف: فروض الدين أنواع ... وهذا الدر هافيها فعض بناجذ فيها ... وقل يا رب صافيها وهذه النبذة عجيبة في بابها جامعة مسائل العقائد والفقه، وشرحه شيخنا المذكور شرحاً نفيساً، ومنها سواد العين في شرف النبيين، ولها قصة في ضمنها كرامة قال في آخرها أنه فرغ من تأليفها في رجب سنة سبع وخمسين ومائة وألف، ومنها السهم الداحض في نحر الروافض، وهذه ألفها بعد خروجه من مكة لقصة جرت بينه وبين أهلها في جمادى سنة ست وستين ومائة وألف، ومنها الفروع الجوهرية في الأئمة الاثني عشرية، ومنها الدرة اليتيمة في فضائل السيدة العظيمة ألفها سنة أربع وستين ومائة وألف، وكتب بخطه الشريف على ظهرها: لله در مؤلف ... درست به درر الملا كم درة يتمت به ... حتى أفاقت للألى يا رب فاعل مقامه ... كالدر في تاج العلا ومن مؤلفاته الكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكبب الثاقب، وله ديوانان متضمنان لشعره أحدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم، والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر، ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز صلى الله عليه وسلم اختصره من الجامع وذيله، وكنوز الحقائق والبدر المنير وهو في أربعة كراريس، وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقرأ دروساً، ومنها شرحه صيغة القطب ابن مشيش ممزوجاً وهو من غرائب الكلام، ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار. توفي رضي الله عنه سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1012 الشيخ عبد الله أبو محمد بن محمد بن رجب الحلبي الحنفي الشهير بالفرضي العالم الحيسوب، والفاضل الذي هو لكل كمال منسوب، والعامل الهمام التقي، والكامل الإمام النقي. ولد سنة أربع وأربعين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وأخذ الفرائض عن صهره الشمس محمد بن حسين الفرضي وأبي اليمن تاج الدين محمد بن طه العقاد، وقرأ عليه وسمع منه في الحديث والنحو وغيره، وتفقه على أبي محمد عبد الوهاب العداس وأبي عبد الله محمد بن يوسف الأسبيري المفتي وأبي محمد مصطفى بن أبي بكر الكوراني الحلبي، وكان أحسن أهل بلدته وأمهرهم علماً في وقته، وكان في الفرائض متقناً ماهراً حفاظاً. توفي رحمه الله تعالى بحلب ليلة الأحد الثالث والعشرين من رجب الفرد سنة ألف ومائتين وخمس. السيد عبد الله الكيلاني نسباً السمزيني الهكاري النقشبندي الخالدي الحبر العلامة، والولي الفهامة، المرشد الكامل، والمقصد لكل آمل، صاحب الأخلاق المصطفوية، والشمائل المرضية، الفاضل الذي لا يبارى، والهمام الذي لا يجارى، كان من أهل الإقبال، والتجرد إلى ما ينفعه في المآل، ولما أتى حضرة الأستاذ مولانا خالد إلى بغداد دار السلام، رحل المترجم إليه، وأخذ الطريقة العلية عليه، فجاهد في الله حق جهاده، واجتهد فيما يوصله إلى مراده، حتى فاز بالفتوحات الربانية، والأسرار القدسية الرحمانية، وخلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وإفادة العلم للعباد، ثم رجع إلى وطنه بأمر حضرة مولانا قدس سره وشرع في الإرشاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1013 وسلك منهج السداد، وانتفع به الناس في تلك البلاد، وله من الخوارق والكرامات العظام، ما شهد له بها الخاص والعام، ولم يزل مثابراً على دعوة الناس إلى الله، وإرشادهم إلى ما يوصل كلاً منهم إلى مناه، إلى أن توفي رحمه الله في سنة ألف ومائتين وفوق الخمسين تقريباً. الشيخ عبد الله الأرزنجاني المكي الخالدي النقشبندي الفاضل العالم العامل، والولي المرشد الكامل صاحب الأنفاس القدسية، والإلهامات الربانية، مربي السالكين، ومذهب الواصلين، المتوجه بكليته إلى مولاه، والمعتمد عليه لا على سواه، قد أعرض عن الدنيا وما فيها لعلمه بأنها على شفا جرف هار، ولم يزل من المستغفرين بالأسحار، وترك الأوطان مع الجلالة والاحترام، واختار التذلل في المسجد الحرام. ذكر السيد إبراهيم الحيدري بأن المترجم سلك على يد حضرة مولانا خالد قدس سره ورباه أحسن التربية ولازم خدمته، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد. وكان قدس الله سره من أكابر الأولياء والخلفاء، وله مقام الصحو والبقاء، سلك على يد كثير من الأعلام، واشتهر بالولاية بين الأنام، وكان حضرة مولانا خالد ملتفتاً إليه بالتوجه التام، وكان كثير المودة له حتى إنه قدس سره في بعض حجاته قال له إني أتيت هذه المرة لأجلك يا عبد الله فانكب على قدميه. توفي سنة ألف ومائتين وبعد الأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1014 الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن الكردي الخالدي النقشبندي العالم الفاضل النحرير، والمرشد الكامل الكبير، مالك أزمة التقرير والتحرير، جامع المعقول والمنقول، حاوي الفروع والأصول، فهو الكامل العابد، والولي بن الولي الناسك الزاهد، أخذ الطريقة الخالدية أولاً وسلك فيها ثم سافر إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وبعد عوده من الحجاز، خلفه شمس الحقيقة في الحقيقة لا المجاز، وعلم الشريعة الواضحة، وقطب الطريقة الناجحة، قطب العارفين بالله شيخنا ومولانا خالد قدس الله تعالى سره خلافة مطلقة في الطريقة النقشبندية وأذن له بالإرشاد العام، ونشر العلم بين الأنام، ولم يزل على وصيته عاملاً بها في ظاهره ونيته، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين وزيادة على الأربعين رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي الألاني الخانلي الشافعي نشأ في بيتوش وقرأ فيها القرآن، وحصل العلم على أجلاء علماء بلاد بابان، فممن أخذ عنه الإمام ابن الحاج، وعني بالأدب فنفق به وراج، ثم رحل من بلاده إلى بغداد، ثم إلى الشام فاستفاد وأفاد، وكان في أول أمره على أقدام الطلب ساعياً، ولطاعته وعبادته وإقباله على الله مراعياً. وكان كثير المطالعة في كتب الحقائق، شديد التمسك بأسفار الوعظ والرقائق. ثم آثر الاشتغال بالعلوم الرسمية، وأكثر من الالتفات إلى العلوم الآلية واللغوية، وله شعر يسحر الألباب برقته، ويدع الأديب مشتغلاً بحيرته، جمع إلى الرقة الجزالة، ونزل من البلاغة منزل البدر من الهالة، ألف المؤلفات الجمة الفوائد، وانفرد بأبحاث هي لعمري الفرائد، توطن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1015 هجر البحرين، فدعي في علمائها عين الإنسان وإنسان العين، وأهدى الأعيان والملوك كواعب العذارى من بنات الأفكار، فحير في بداعتها مصاقع هاتيك الأقطار، ونظم أيام محاصرة صادق خان للبصرة تراجم الزواجر نظماً ضاهى به عقود الجمان، وشرحه شرحاً حل من البنيان محل الروح من الإنسان، ولما خرج من الأحساء فاراً بدينه توطن البصرة، ولم يزل في رفعة وقدر، له بين العلماء والأعيان من أرفع الأماكن الصدر، إلى أن توفي رحمه الله سنة عشرين ومائتين وألف. الشيخ عبد الله أفندي بن عيسى أفندي الكردي الشافعي الحيدري العالم العامل الورع الزاهد العابد المعتزل عن الناس والمقبل على الله. ولد في بغداد، وطلب العلوم على العلماء الجهابذة الأمجاد، وجنى ثمر الفوائد ببنان فكر وقاد، وتعطر به من الفضل الحيدري كل محفل وناد، وكان في المعقول والمنقول، آية الفروع والأصول، ولي تدرسي المدرسة العلوية، أواخر أيام دولة سعيد باشا فقرت به عيون العلماء ذوي المراتب العلية، توفي بعد الألف والمائتين وثلاث وثلاثين كما ذكر ذلك عثمان أفندي سند رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الله الهراتي النقشبندي الخالدي العالم العامل، والمرشد الكامل، صاحب الأنفاس القدسية، والمعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1016 الأنسية، والكلمات العالية، والتحقيقات السامية. قال في المجد التالد: أن المترجم قد لازم حضرة مولانا خالد النقشبندي وخدمه حضراً وسفراً ولم يتخلف عن أمره وأدى حق السلوك والخدمة في مرضاته، وكان من أخص خدامه ومريديه في حياته وبعد مماته، وكان قد اختار مقام التجريد ولم يتزوج لأنه كان على قدم الغوث الأعظم حضرة شاه عبد الله الدهلوي قدس سره، فإنه لم يتزوج إذ كان على قدم رسول سيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم في مقام التجرد كما أن حضرة مولانا خالد قدس سره كان على قدم خاتم النبيين وسيد المرسلين، نبينا وسيدنا حبيب رب العالمين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، فإن كل ولي من الأولياء على قدم نبي من الأنبياء على ما ذكره السادة الصوفية، أفاض الله علينا وعليهم من بركاته القدسية. ولما سافر حضرة مولانا خالد إلى الهند ومر ببلدة هرات لقي الشيخ عبد الله الهراتي هناك فقال له إلى أين تذهب فقال مولانا خالد: إلى سلطان الأولياء شاه عبد الله الدهلوي لإصلاح حالي، فقال الشيخ عبد الله الهراتي: وأنا معك، فأجابه مولانا خالد بقوله انتظر رجوعي، فقال الشيخ عبد الله المذكور: أذهب إلى العراق وأنتظرك هناك، فجاء إلى الموصل وقرأ بعض العلوم، فلما سمع برجوع حضرة الشيخ مولانا خالد أتى إلى السليمانية ولازم خدمته، وذهب معه إلى بغداد والشام، وسلك أحسن السلوك وتخلف خلافة مطلقة. وبعد وفاة حضرة مولانا خالد قدس سره بمدة زمان، توجه حرمه مع ولده الشيخ نجم الدين طاب ثراه إلى بغداد، وتوجه الشيخ عبد الله معهم بخدمتهم، ولم يزل مع سلوكه في الطريق على أحسن سلوك ملازماً لخدمة من يلوذ بالأستاذ، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1017 السيد عبد الله بن محمد بن عبد الله أسعد نجيب أبدى المحاسن وأبدع، ومن سلسال حياض النباهة تضلع، ولبيب سلك مسالك المعارف، فملك منها كل تليد وطارف، بعزم غير ذي كلال، وجد وجد به مكنون در الأفضال، تابعاً في ذلك آباءه، وجاعلاً في الاستفادة آناءه، وله الذهن الوقاد، والذكاء الذي أورده على الأدب حسن إيراد، فمن نظمه الأنيق المطلع، وشعره الذي من روض فكره اطلع، قوله: يا ساكنين المنحنى من أضلعي ... منوا على قلبي وعظم توجعي بالله إن جزتم بوادي رامة ... ورأيتم تلك الظباء بلعلع ونظرتم تلك الأثيلات التي ... بين العقيق وبين ذاك الأجرع ووجدتم تلك الأحبة عندها ... ردوا السلام عليهم بتوجع قولوا لهم عبد الإله معذب ... يبكي الفراق يصب سيل الأدمع وقوله مادحاً الشيخ عمر بن عبد السلام الداغستاني: أشذى نسيم في سحر ... حاكت روائحه الزهر من ظبي حسن آنس ... أنست محاسنه تتر رشأ رقيق خصره ... ككلامه مهما نثر ذو رقة من دونها ... غنج الحبوش إذا خطر كم رمت ألثم ثغره ... من فوق أسنان درر فحمى عقيق شفاهه ... بسهام أهداب النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1018 يا حسنه من أغيد ... أسر الأحبة بالحور شهدت ملاحته له ... مذ قلت هذا كالقمر لكنه مذ قسته ... بمحاسن المولى الأبر أرخى حجاب خفائه ... وأجاب ما هذا بشر لله در كماله ... وبهائه ذاك الأغر بهر العقول بسحره ... وبيانه المنشي سور ما خلت لباً في الورى ... تتلى عليه ولا انبهر فكأنما إنشاؤه ... آي الشفا لمن استغر واهاً له هلا رقى ... مضنى بها بين البشر كم أشتكى لمسامري ... ذاك السراج المفتخر رب الفضائل من له ... في الشعر نظم معتبر مولى النجابة والفصا ... حة والبلاغة إن شعر دامت لنا أوقاته ... في نشأة تجلو الكدر ما غردت ورق اليرا ... ع بمدحه بين الغرر المرحوم عبد الله البري بن يحيى بن إبراهيم البري من أفاضل هذا البيت الكمل، والمتقدم من جوامع فضلهم في الصف الأول، حاز بنبله لطائف أجداده، وفاق على أقرانه وأنداده، أثره كالبدر مشرق، وكالقصر مغدق، ينبي على أنه في حلبة المجد لم يقصر، وأنه في الكمالات متقدم وإن كان ظهوره في العصر المتأخر، فمن محاسن نظامه، ومستعذب كلامه، قوله: ما عذب قلبي وما أثار به النار ... إلاك أيا من يفوق ضوء الأقمار كم أسهد طرفي لذا تزايد وجدي ... بالسقم فحسبي من المحبة أكدار يا مالك قلبي ومن تحكم فيه ... رفقاً بمحب سوى جمالك ما اختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1019 أواه إلى كم أبيت منك بقلب ... في الناس وحق الهوى تلهب بالنار لو شمت غرامي لجدت لي بمرامي ... يا برء سقامي ولم تزدني أضرار من لي بغزال إذا بدا كهلال ... قد صاد فؤادي ولم ينلني أوطار دع عنك عذابي ولا تمل لبعادي ... يا كل مرادي ويا نزيهة أبصار ناهيك بأني إذا أطلت صدودي ... سلسلت دموعي على خدودي أنهار يا بدر فهل كان في لقاك وصول ... بالله فقل لي ولا تدعني محتار وهذا الوزن من بحر السلسلة ووزنه فعلن فعلن فاعلن فعو فعلاتن كما ذكره السيد كبريت والسيوطي ورشيد الدين الأسواني في شرح مقامته الحصيبية رحمهم الله تعالى. المرحوم عبد الله بن عبد الكريم بن محمد الخليتي فرع زكي من طيب مغرس، وحديقة مجد بالفضل تنفس، شبيه أبيه مهابة وجلالة، وتابع سلفه إصابة وكمالة، وله ابن سامي الذكر، مثله في علاء القدر، فهو درة بين جوهرين، وقمر حف بفرقدين، كلل هام مجده بجواهر أدبه، وأتى من حديقة فكره بنظم لا بأس به، فمن ذلك قوله: لقد وافى لزورة قبر طه ... أخو العليا وأهل للصدارة ونال شفاعة الهادي المرجى ... وكانت عنده أسنى تجارة هو المولى عزيز الله خان ... ومن أضحى الفخار له شعاره رئيس ماجد فرد همام ... بليغ في الفصاحة والمهارة مقام قدومه عام شريف ... غدا تاريخه حسن العبارة بتاج للهنا يزهو ببيت ... وفيه من المسرة والبشارة ينادينا لسان الحال جهراً ... عزيز الله مقبول الزيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1020 السيد عبيد الله كدك المدني ماجد الكمال قرينه، والوقار خدينه، صاحب فصاحة ولسن، ومكانة في الأدب منها تمكن، ومشاركة في فنون المعارف، ومطارحة في فنون اللطائف، فمما صدحت به عنادب قريحته وإفهامه، في غياض طروسه على أملد أقلامه، قوله من قصيدة مجيباً بها حضرة الأديب السيد عمر بن عبد السلام المدرس، مكللة بدرر غزلها ونسيبها وهي قوله بقوله: ولى زماني وانقضى منعمي ... لم يبق لي ذوقي ولا منعمي كلا ولا قلبي يعي ذرة ... حتى ولا سمعي ولم أعلم من مربع قد زرته إذ عفا ... خلي منه ليت لم أقدم إن الزمان المعتدي قد رمى ... قلبي بسهم صائب مسهم بالعضب بل بالرمح مع خنجر ... أومى إلي ليت لم يعزم لو كان رمحاً لاتقيت التي ... يا هل ترى عن أيها أحتمي قالوا تصبر وارتجز واحتسي ... صرفاً عقاراً خلصت عن دم قد عتقت من كرمة زانها ... كأس من البلور في معصم تتسقي الأخلا من رحيق غدا ... ممزوجها مسك رضاب الفم فصحت واشوقاً لذاك الرضا ... ب المشتهى من لي بذا المبسم إني لمن قد خانه دهره ... من للحزين المسهد المعدم قالت أنا الخود التي جاد بي ... حبي لا أصغي إلى لومي لا أختشي قول العذول الغبي ... كلا ولا أرجع عن مغرمي إني إلى مغناك مأمورة ... بالسعي كي أحظى فقلت اسلمي أهلاً وسهلاً قد صفا وقتنا ... يا حبذا الحظ السني فاقدمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1021 إن أقبلت كغصن بان النقا ... والنهد باد فوق صدر سمي أو ادبرت فخصرها ناحل ... من عظم ردف تحته مرتمي عيناني من أعينها قد رأت ... سحراً لهاروت غدا ينتمي والقوس من حاجبها حاجب ... عين الرقيب الأعين المقحم لا عذر لي إن لم أبس فاهها ... وإن أغض الطرف لم أسلم كيف وهي بنت لفكر الأديب اللوذعي البارع الأكرم مغني اللبيب البارع المقتدى ... وابن الهمام الفارس الضيغم سراجه الوهاج مستوضحاً ... إيضاح تلويح لمستفهم ومنها أهدى إلى ذي ورم عاجز ... رهين غم في الحشا مؤلم سليل نظم رائق ينتقي ... در المقال الأعذب الأفخم مستمهراً كشف نقاب لها ... من نظم در فائق أقوم يا أيها المفضال يا ذا النهى ... إني لما كلفت لم أقحم لكنني ألفت نظماً جرى ... من غير ما قصد ولم يسلم موجود هذا الخل أبذلته ... فاقبل وعامل بالرضا واحلم واسلم ودم في عيش عز علا ... أعلى مقام دائم مكرم وهذه قصيدة السيد عمر بن السيد عبد السلام المدرس: زار عذيب القلب والمبسم ... عشاقه في الحلك المظلم وشرف المجلس من وصله ... في غفلة الحراس واللوم ذو طلعة تخجل بدر الدجى ... قد سلبت عقل الشجي المغرم كأنه ظبي النقا إذ رنا ... يسبي بلحظ فاتر أحوم يهتز تيهاً كالقنا قده ... من طعنة العاشق لم يسلم وجنته ورد وقد عمها ... خال إلى العنبر قد ينتمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1022 قد صانها خشية عشاقه ... بسحر طرف للنهى موهم وجيده أزرى بجيد الظبي ... لما بدا في حسنه الأقوم في صدره رمان نهد حلا ... غض الجنى مستعذب المطعم ودونه أسود خال له ... به عن القطف ولمس حمي منعطف الأعطاف ذو رقة ... ذل لها كل فتى ضيغم فقلت أهلاً يا بديع الحلا ... ومرحباً بالزائر المكرم أنعمت بالوصل على عاشق ... ذي صبوة للعشق مستسلم يا أبيضاً حل سويدا الحشا ... حبك والله ثوى أعظمي فهش ضحكاً بشفاه حوت ... راحاً حلت طيبة المنسم فبان من ياقوتها لؤلؤ ... منتسق في سلكه الأنظم وأنعش الأحباب من ليلة ... طابت لنا من وصله المنعم في ساعة أحبب بها ساعة ... شفت فؤاد المدنف المسقم فانشرح الخاطر شوقاً إلى ... مدح أخي المجد العلي المحكم غواص بحر الفضل بالفكر من ... يرفل في برد العلى المعلم شهم إذا ما ذكرت ذا رفعة ... تراه أسنى طالب مقدم منها: يا أيها الماجد يا من له ... نظم إلى الدر غدا منتمي دونكم نظماً غدا فاتراً ... من أحقر عن فضلكم معدم يرجوكم نظماً لكي يغتدي ... وجه كتابي منه في مبسم فعاملوه بالرضا إنه ... هدية الأدنى إلى المقرم وقابلوه بقبول ولا ... تلقوه إذ لبس بمستعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1023 لا زلتم في رفعة دائماً ... ما أخفت الشمس سنا الأنجم وما تجلت غادة في الحمى ... بين الصفا والحوض من زمزم السيد عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم بن حيدر الحيدري النقشبندي الخالدي مفتي الحنفية العام بمدينة السلام الحبر العلامة، والنحرير الفهامة، جامع المعقول المنقول، محرر الفروع والأصول، زمخشري زمانه، وحريري وقته وأوانه، الفصيح البليغ الهمام، والجهبذ اللوذعي الإمام، الذي هو كأحد فصحاء العرب العرباء، والأديب الذي فاق المتأخرين والقدماء، الشاعر المفلق في اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية، والولي النبوي المرشد الكامل ذو الأخلاق الأحمدية، العارف بالله، والمتوجه بكله إلى مولاه، صاحب الأنفاس القدسية، واللطائف الأنسية، فاته منذ نشأ وميز، فاق على أقرانه وتميز، وأقبل على التحصيل والطلب، وجعله لفوزه عند الله أقوى سبب، وتمسك بالتقوى والعبادة، وسرى في مناهج السيادة والسعادة. وفي سنة ست وعشرين ومائتين وألف لما عاد حضرة الأستاذ، والعمدة الملاذ، مرشد الأمة المحمدية، للطريقة العلية النقشبندية، مولانا خالد إلى الأراضي العراقية، من الأماكن الهندية، تشرف المترجم بخدمته، وانتسب إلى طريقته، وتحمل مع حضرة الشيخ المشاق، في الرحلة إلى الآفاق، ولازم خدمته، وبذل في مرضاته همته، وقرأ عليه حتى اعترف بالمنن، وترقى على يديه حتى ترك الأهل والوطن، وذهب مع حضرة الشيخ الإمام، إلى السليمانية وإلى دمشق الشام، وسلك السلوك التام، وهجر المآكل والملابس والراحة والمنام، وأمره حضرة الأستاذ بحمل الماء على ظهره وتسبيله في أسواق بغداد وأزقتها وسقي العطاشى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1024 من حاضر وباد، فامتثل الأمر العالي، وفعل ذلك مدة عشرين يوماً على التوالي، ثم أمره ببيع الماء من دون تسبيل، ففعل ذلك عشرة أيام من البكرة إلى الأصيل، مع كونه أجل العلماء، وأفضل الفضلاء في الأماكن البغدادية، والنواحي العراقية، ثم بعد مدة رأى الأستاذ عليه لوائح الإسعاد، وأمر في باطنه أن يخلفه في مكانه وأن يفوض إليه أمر الإرشاد، وأكثر خلفاء بغداد سلكوا أولاً على يديه ورباهم، ثم خلفهم حضرة الأستاذ وحباهم، وكان حضرة الشيخ قدس سره يثني على المترجم أحسن الثنا، ويقول بأنه وصل إلى غاية درجة الفنا، وأنه من جملة أفراد لا يوجد لهم نظير، إلا في حلقة شاه نقشبندي ذي القدر الكبير، وناهيك بهذه الشهادة من هذا السيد ذي المكارم، الذي لا تأخذ في الله لومة لائم، وله من الخوارق والكرامات أشياء كثيرة، معروفة في محلة شهيرة، كما ذكر ما يدل على ذلك صاحب المجد التالد. ولم يزل المترجم يترقى في درج الكمال، ويكرع كؤوس الصفا من دنان الجمال، إلى أن دعاه داعي المنون إلى من أمره بين الكاف والنون، وذلك في سنة ألف ومائتين وزيادة على الأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1025 الشيخ عبيد الله بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم الحيدري العالم الذي ترك الدنيا وراءه، وطوى على محبة الآخرة أحشاءه، أعمل نفسه في المجاهدة والرياضة، لكي يروي من ماء الوصول إلى الله رياضه فمنع الطرف الكرى، وحمد مع القوم السرى، وتعانى العلوم الرسمية، ثم أقبل على العلوم الإلهية، قرأ القرآن وهو ابن ثمان أو سبع، وتعانى تحصيل الفضائل فاجتمعت عنده أي جمع، وأخذ عن نادرة الزمان، وشيخ الوقت والأوان، مولانا الشيخ خالد الطريقة النقشبندية، فنال منها غاية المراد والأمنية، إلى أن صار خليفة شيخه في زورائه، وعين وجوه أتباعه وأوليائه، يدعو إلى طريقته الخالدية، واقتفاء آثاره المرضية، مع تواضع وأدب، وهمة في الإقبال والطلب، ولقد مدحه عثمان أفندي سند سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين بقصيدة أولها وهي طويلة: أناس دعاهم للمعالي عليهم ... وأخلصهم للعلم موسى وجعفر إذا افتخروا فالفخر فيهم ومنهم ... ومن جده المختار لا شك يفخر توفي رحمه الله تقريباً سنة ألف ومائتين ونيف وأربعين. الشيخ عبد اللطيف بن مصطفى بن حجازي بن محمد بن عمر الحلبي الحنفي أبو محمد زين الدين الفقيه الصالح الدين، مولده سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وتلاه مجوداً واشتغل بالأخذ والقراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1026 والسماع، والحضور على الأجلاء، والسادة الفضلاء، منهم أبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار والبدر حسن بن شعبان السرميني وأبو الثنا محمود بن شعبان البزستاني وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبو الصفا خليل ابن مصطفى الغنجراني وغيرهم. وارتحل إلى قسنطينية في أوائل سنة ستين ومائة وألف، وقرأ بها نخبة الفكر في أصول الحديث على المحدث الشهاب أحمد بن علي الغزي الشافعي نزيل القسطنطينية، وسمع منه الكثير ولازمه وحضر بقراءة الغير صحيح البخاري والبعض من صحيح مسلم في جامع أيا صوفيا الكبير، وأجاز له بخطه في السنة المذكورة بما تجوز له روايته؛ وقرأ الفقيه وسمع بقسطنطينية على الشهاب أحمد السليماني المصري وأجاز له بخطه في عاشر شعبان سنة إحدى وستين، وسمع الأولية من المذكورين ومن أبي عبد الله محمد بن أحمد الأريحاوي شارح الكنز والشمس محمد بن حسن ابن همات الدمشقي وآخرين. وأخذ عنه خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس وسمع منه حديث الأولية بسماعه من أشياخه وأجازه بالإجازة العامة، كما رأيت ذلك بخطه. وتوفي المترجم سنة ألف ومائتين ونيف. عبد اللطيف بن عبد السلام بن عبد القادر بن محمد الحلبي الشافعي الإمام أبو محمد علم الدين المسند المعمر البركة التقي الصالح العمدة الهمام. مولده في حلب في شهر رجب الفرد سنة عشرين ومائة ألف، وسمع الكثير من الفنون والعلوم على الكثير من الأفاضل السادات كمحمد أبي عبد الفتاح الزمار وأبي الفتوح علي بن مصطفى الدباغ والبدر حسن بن شعبان السرميني وأبي عبد الكريم محمد بن عبد الجبار الواعظ وأبي السعادات طه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1027 ابن مهنا الجبريني وأبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وعبد الرحمن البكغالوني وأخويه عد الوهاب وياسين أولاد مصطفى البكغالوني وأبي المحاسن يوسف بن الحسين الدمشقي المفتي والنقيب في حلب وروى عالياً عن الشمس محمد بن هاشم الدري وأبي داود سليمان بن خالد النحوي وأبي الحياة خضر ابن محمد بن عمر الفرضي وأبي محمد عبد القادر بن عمر الإمام الحلبي وقد أخذ عنه واستجازه خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام حينما كان في حلب سنة ألف ومائتين وخمس وتوفي بعدها ولم أقف على تاريخه وفاته رحمه الله تعالى. الشيخ عبد اللطيف بن الحاج حسين بن الشيخ عطية بن الشيخ عبد الجواد القاياتي من أولاد الشيخ ياسين القاياتي ينتهي نسبه إلى سيدي أبي هريرة الصحابي الجليل رضي الله عنه المرشد الكامل المشهور، والفاضل الذي هو بكل فضيلة مذكور، نسل السادة الأمجاد، ونخبة القادة الأجواد، من ارتفع قدره في الأنام وسما، وطلع بدر علاه في أفق السما، وتوجهت له في المحبة القلوب، وتوسلت به ذوو الحوائج لنوال المطلوب، ودفع الكروب، فهو العامل الكامل، والفاضل المعروف بالفضائل. ولد رضي الله عنه ببلدته المعروفة بالقايات، فلما صار عمره سبع سنين، وميز الشمال من اليمين، أقبل على قراءة القرآن، إلى أن أتمه بالتجويد والإتقان، وجه إلى الجامع الأزهر، والمحل الأنور، ثم دأب على الطلب، تمسك للتقدم بأقوى سبب، فأخذ العلم عن جملة أجلاء، وسادة قادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1028 علماء، منهم الإمام عمدة الأنام، العالم التقي، والعامل النقي، المرشد إلى الله، والمعتمد على ملاه، الشيخ عبد العليم السنهوري نسبة إلى سنهور بلدة بالفيوم، ومنهم الهمام العلامة، والإمام الفهامة، الورع الزاهد، والناجح العابد، الشيخ محمد الشنويهي المدفون ببلدة شنويه من أعمال القليوبية وأخذ عن غيرهما من السادة الأعلام والقادة الكرام، وأجازوه بكل ما تجوز لهم روايته، وتعزى إليهم درايته، وكتبوا له خطوطهم، وقد شهدوا له بالكمال، وأنه من الأفاضل ذوي الرفعة والإجلال. ثم بعد تضلعه من العلوم، وتمكنه من تحقق المنطوق والمفهوم، رجع إلى بلدته القايات لإرشاد أهلها، وإبعادها عن جهلها، ونصرة الدين، وإرشاد الواردين والقاصدين، وزجر العصاة والمفسدين، فبذل جهده في العبادة والتقوى، وانتهت إليه في تلك الأماكن رئاسة العلم والإرشاد والفتوى، وسلك أحسن المسالك في الإرشاد، وعمر أماكن العبادة وشاد، وأقبل عليه الناس من كل جانب، وامتثلوا أمره امتثال الفرض والواجب، ومع كونه مطبوعاً على اللطف والجمال، كان كل من رآه ينظر إليه بعين الهيبة والإجلال، وكان شديد الغيرة إذا انتهكت المحارم، فلا تأخذه في الله لومة لائم، متمسكاً بالتقوى، والسبب الأقوى، ثم أنه اجتمع بقطب زمانه، وفرد وقته وأوانه، الولي الأمي، والعالم العامل اللدني، الشريف الصمداني، واللطيف الرباني، العارف بالله سيدي إبراهيم الشلتامي العمراني، فطلب منه الطريق فدله على أستاذه عبد العليم فرحل إليه في الحال، وطلب منه أن يتكرم عليه بطريق السادة ذوي الكمال، فلقنه الذكر وأمره بالتردد على الأستاذ الشلتامي لتقارب بلديهما فجد واجتهد، إلى أن حصل له الفتح والمدد، في مدة يسيرة وبرهة قصيرة، ثم أذن له بالتلقين، وإرشاد المريدين، فاشتهرت الطريق به الشهرة التامة، وحصلت منه الهداية العامة، وظهرت كراماته، وبهرت إشاراته، وكان في الكرم بحراً، وفي العلم والفضائل حبراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1029 ورعاً زاهداً، تقياً عابداً، متخلقاً بالأخلاق الأحمدية، متحققاً بالحقائق المحمدية، كثير التواضع والحلم، غزير العمل والعلم، حسن الخلق والخلق، جميل اللطافة والرفق. وقد أفرد مناقبه بالتأليف، ولده الروحي الجامع بين الشريعة والحقيقة، والناهج منهج السنة والطريقة، العالم الإمام، والجهبذ الهمام، سيدي الشيخ خليفة السفطي، أحسن الله قراه، وجعل الجنة مأواه ومثواه، ولم يزل يعلو مقامه، ويسمو احترامه، إلى أن دعاه داعي المنون، لمقامه العالي المصون، وذلك في رابع عشر صفر سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف ودفن ببلدة القايات وبني لها بها مقام كبير، ومسجد عظيم شهير، بمنارة عالية، وعمارة سامية، والقايات " بقاف بعدها ألف ثم ياء بعدها ألف فتاء مثناة من فوق " بلدة من بلاد الصعيد تابع القطر المصري. السلطان الغازي عبد المجيد خان بن السلطان الغازي محمود خان ولد سنة ألف ومائتين وسبع وثلاثين، وجلس على تخت السلطنة بعد موت والده السلطان محمود تاسع عشر ربيع الأول سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين، فجهز الجيوش لقتال عساكر محمد علي باشا وإخراجها من الشام، وأعانه على ذلك دولة إنكلترا، وكانوا عرضوا على السلطان محمود الإعانة فأبى، فلما توفي وتسلطن ولده السلطان عبد المجيد قبل إعانتهم فأعانوه، وسير جيوشه إلى الشام فهزموا عساكر إبراهيم باشا وأخرجوهم من الأراضي الشامية، وأرادوا التوجه إلى مصر والإسكندرية لإخراج محمد علي باشا فتوسطت دولة إنكلترا بالصلح إلى أن أتموه بشرط أن تكون الإسكندرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1030 ومصر وأقطارهما لمحمد علي باشا ولأولاده من بعده، وضربوا عليه خراجاً معلوماً يدفعه في كل سنة، ويرجع إلى الدولة الشام والحجاز وتم الأمر على ذلك. وكانت مدة تملكه الأقطار الشامية قريباً من تسع سنين وفي مدة السلطان المترجم المومى إليه قوي الاتحاد مع دولتي فرنسا وإنكلترا، فحسنوا له إحداث القوانين المسماة بالتنظيمات الخيرية، فصدر منه الفرمان السلطاني بذلك سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، وهي سنة جلوسه على تخت السلطنة. وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف كانت الحروب العظيمة بين السلطان عبد المجيد والروسيا المسماة بحرب القرم، وسببها أنه وقع اختلاف بين طائفتي الروم واللاتين في القدس من عدة سنين بسبب كنيسة القيامة وبعض الأماكن المقدسة، فكانت كل طائفة منهما تدعي لنفسها حق الرياسة والتقدم على الأخرى بالاستيلاء على مفاتيحها، ثم أخذت هذه المسألة تتعاظم بينهما وتمتد يوماً بعد يوم إلى أن آل الأمر إلى النزاع والجدال في سنة ثمان وستين ومائتين وألف، فوقع الباب العالي في ارتباك وحيرة من جهة تسكينها وإخماد نارها، لأن الروسيا كانت تحامي عن حقوق الروم، وفرنسا تحتشد لطرف اللاتين، فتداخل سفر إنكلترا في صرف هذا المشكل ورسم ترتيباً لائتلاف الملتين والمتخالفتين، فقبلته فرنسا ولم تقبله الروسية، لأن مقصدها التوحد، ولم يكن مقتصراً على المحاماة عن حقوق الروم بل كان لها غايات أخرى طالما كانت تجتهد على نوالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1031 وتترقب الفرص لاستحصالها، وهي إبعاد الدولة العثمانية من قارة أوروبا والاستيلاء على أقاليهما وولاياتها، فانتهز إمبراطورها نقولا تلك المنازعة فرصة مناسبة لنوال بغيته وبلوغ أربه، فبعث سفيراً إلى القسطنطينية لمقابلة السلطان عبد المجيد، بعد أن كان بعث جيشاً يبلغ مائة وأربع وأربعين ألفاً إلى نهر الطونة ليكون مستعداً لوقت اللزوم والحاجة، فلما وصل السفير المذكور إلى القسطنطينية رفض مواجهة فؤاد باشا وزير الخارجية، ودخل رأساً على الحضرة الشاهانية، وعرض عليه مطالب الأمبراطور نقولا في المسألة المتعلقة بالأماكن المقدسة، وأن جميع الروم الذين هم من تبعة الدولة العلية تكون تحت حمايته من الآن وصاعداً، وأن بطرك الروم القسطنطيني وباقي أساقفة الطائفة يكون انتخابهم وتغيرهم منوطاً به، وأن الشكاوى والدعاوى التي تصدر عليهم من جهة تصرفاتهم تعرض عليه لينظر فيها، ومغايرة للأصول وقوانين الدول، فانثنى السفر راجعاً من حيث أتى، وأعلم الامبراطور نقولا بواقعة الحال، فاستشاط غضباً وأصدر أمراً إلى العساكر التي أرسلها إلى أطراف الطونة أن تعبر النهر وتستولي على تلك الأطراف، فاجتازت النهر وشنت الغارات على إمارات الأفلاق والبغدان، واستولت عليها، ولما تحقق الباب العالي قدوم ذلك الجيش إلى أطراف بلاده علم أن مقاصد الروسية في تطلبها لم تكن إلا وسيلة لإشهار الحرب، فجهز جيشاً وأرسله إلى تلك الحدود تحت قيادة عمر باشا المجري لردع الروسيين، ولما تأكدت الدول الأرباوية بغية الروسية ومقاصدها بادرت إنكلترا وبروسيا والنيمسا إلى عقد جمعية للنظر بإجراء الوفاق بين الدولتين، وأرسلت كل دولة منهما معتمداً من طرفها إلى مدينة آثينا حيث وافاهم سفير من طرف الروسية وآخر من طرف الدولة العلية، وعقدوا هناك مجلساً في سنة ألف ومائتين وسبعين لم يأت بالمرغوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1032 فلما لم يكن سبيل للصلح أشهر الباب العالي الحرب، وصدم سليم باشا العساكر الروسية في الأناطول، وانتصر عليهم في عدة مواقع، وهاجمهم عمر باشا في الروم ايلي وانتصر عليهم أيضاً، وأما العمارة التي للروسية في البحر الأسود فصدمت العمارة العثمانية واستظهرت عليها بعد حرب شديد فأتلفتها، وكانت مؤلفة من سبعة فركاتات وباخرتين وثلاث مراكب حربية، ثم أن إنكلترا وفرانسا لما تيقنتا سوء نتائج هذه الحرب احتشدتا لمعونة السلطان وأعلنتا الحرب على الروسية، وفي سنة إحدى وسبعين ابتدأتا في نقل رجالهما ومهماتهما إلى ساحة الحرب، واشتبكتا في القتال، وأما باقي دول أوروبا فكانت محافظة على الحيادة، وكانت دولة إنكلترا قد أرسلت عمارة بحرية إلى بحر بلتيك فاستولت على قلعة بومارستود ثم على جزيرة ألاند ولكنها لم تقدر على استخلاص القلعة نظراً لحصانتها. وإذ كانت سيواسطبول أعظم قوات الروسية التي يعول عليها في البحر الأسود، ووجهت إنكلترا وفرانسا قواتهما لافتتاحها والاستيلاء عليها فأرسلتا فرقاً من عساكرهما يبلغ عددها ستين ألفاً وكان أكثرها فرنساويين، فنزلوا في بوباسرايا، وبينما كانوا يتقدمون إلى سيواسطبول صادفهم العساكر الروسية فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً إلى أن دارت الدائرة على الروسيين، فانهزموا عند نهر الماء، وكان جيش عساكر الروسية يحاصر مدينة سليسترة، ولم تقدر على أخذها، فخرجت عليهم العساكر العثمانية من المدينة واقتحمتهم فانتصرت عليهم وفرقتهم، فذهبوا عن المدينة خائبين وانضموا إلى آخرين، وقصدوا القرم لنجدة حصار قلعة سيواسطبول التي إليها وجهت الروسية كل قوتها من المهمات والعساكر والذخائر، وصادم جيش من الإنكليز جيشاً للروسيين عند بالاكلا فانتصروا عليهم بعد ما فقد منهم خلق كثير، فكان جيش للروسية محاصراً في الكرمات وعددهم ستون ألفاً، فخرجوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1033 مكان حصارهم واقتحموا العساكر العثمانية والإنكليزية والفرنساوية، ودارت بينهم معركة شديدة الخسران على الفريقين، وانجلت بانهزام الروسية وألزموهم حصن يكن حينئذ في قوة الدول المتحدة الاستيلاء على سيواسطبول مع أنهم كانوا يزيدون في قوتهم الحربية ويكثرون هجماتهم وقنابرهم، ولم يقدروا على استخلاص تلك القلعة أو أن يمنعوا المساعدات التي كانت تأتيها من داخل البلاد، ولقد قاست العساكر المتحدة لا سيما الإنكليز في شتاء سنة إحدى وسبعين وشتاء اثنتين وسبعين أهوالاً وشدائد يكل اللسان عن وصفها وتعدادها، فإن الأمراض والأوجاع قد أخذت في العساكر كل مأخذ، وأهكلت كثيراً منهم فضلاً عن الجوع والتعرض لبرد تلك البلاد، والأبخرة المنتنة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى والحيوانات. أما إيطاليا فقد هيأت جنودها للحرب وانضمت إلى الدول المتحدة، فأرسلت خمسة عشر ألف مقاتل بعدما تعهدت لها إنكلترا بدفع مبلغ مليون ليرة على سبيل الإعانة واشتهرت رجالها في تلك المجامع بالشجاعة والثبات، وفي خلال ذلك هلك الإمبراطور نقولا سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، وجلس ولده إسكندر الثاني مكانه، وفي خلال ذلك وقعت وقعة هائلة بين الروسية والعساكر المتحدة، كانت الدائرة فيها على الروسية، واستولت جيوش فرانسا على قلعة ملاكوف، وإذ لم يبق للروسية استطاعة على حفظ مراكزهم تركوا سيواسطبول في مساء ذلك النهار، وعولوا على الهزيمة والفرار، ودخلت العساكر المتحدة إلى القلعة وامتلكتها، فانفتحت حينئذ مخابرات الصلح، وعقدت جمعية في باريز سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف حضرها اثنان من طرف كل دولة من الدول الست المتحاربة، وهي إنكلترا وفرانسا والعثمانية والنمساوية وروسيا وسردانيا، وأمضت شروط الصلح متضمنة أربعة وثلاثين بنداً أخصها أن الدولة العلية يكون لها الامتيازات التي لباقي دول أوروبا من جهة القوانين والتنظيمات السياسية، وأنها تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1034 مستقلة في ممالكها كغيرها من الدول، وأن البحر الأسود يكون بمعزل عن جولان مراكب حربية فيه من أي جنس كان، ما عدا الدولة العثمانية والروسية فإن لهما حقاً في إدخال عدد قليل من المراكب الصغيرة الحربية لأجل محافظة أساكلها، وأن لا يكون للدولة العثمانية ولا الروسية ترسانات بحرية حربية على شواطئ البحر الأسود إلى مواطنها، وانتهت الحرب التي لم يكن لها داع سوى المطامع. وفي سنة اثنتين وسبعين كانت فتنة عظيمة بمكة المشرفة بين أهالي مكة وعساكر الدولة بسبب ورود أمر يمنع بيع الرقيق، وانتهت في رمضان بالقبض على الشريف عبد المطلب بن غالب أمير مكة، وتولية الشريف محمد بن عون، والكلام عليها طويل. وفي سنة أربع وسبعين وقعت فتنة في جدة بين أهالي جدة والنصارى الذين بها، بسبب اختلاف بعض أهل المراكب في وضع بنديرة الإسلام والإنكليز على بعض المراكب والكلام عليها أيضاً طويل. وفي سنة سبع وسبعين كانت فتنة بالشام بين النصارى وأهل الشام الكلام عليها أيضاً طويل، قد ذكرت بعضه في ترجمة أحمد باشا الشهيد، وكان ابتداء الفتنة في هذه السنة بين النصارى والدروز في جبل لبنان فآل الأمر إلى وقوع حرب بين الفريقين، وكانت النتيجة ردية على النصارى بسبب اختلافهم وعدم انضمام بعضهم لبعض، وعدم انقيادهم لبعضهم، ففتكت بهم الدروز، ثم ما زال الأمر يتفاقم إلى أن وقع الأمر في الشام، وكانت فتنة كبرى، وداهية عظمى، فأرسل الباب العالي فؤاد باشا ليمهد الأمور وينتقم من المذنبين، وأرسلت فرانسا عشرة آلاف جندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1035 للمحافظة ومنع التعدي، وكذلك باقي الدولة الإفرنجية، منها من أرسل مراكب حربية، ومنها من أرسل نواباً لإصلاح الحال وتمهيد الأمور، وغب إجراء ما لزم إجراؤه استحسنت الدولة العلية باتفاق الدول وضع نظامات جديدة لأهل هذا الجبل، وأن تتحول أحكامه لمشير من الطائفة النصرانية من غير أهالي الجبل، ليكون متصرفاً بها ويخابر رأساً الباب العالي، فتوجهت المتصرفية لداود باشا الأرمني. ومن خيرات السلطان عبد المجيد وفتوحاته المعنوية تجديد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة فإنه كان على بناء السلطان قايت باي، وكان مسقفاً بالخشب، فطالبت مدته وحصل فيه خراب، فصدرت إرادة مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان بهدمه وتجديده سنة ألف ومائتين وسبعين، فهدم وجدد وجعل سقفه قبباً وطواجن كالمسجد الحرام، وتممت عمارته بعد مضي أربع سنين، فجاء على صفة لم ير الراؤون أحسن منها، وله عمارات كثيرة في الأماكن المأثورة بالحرمين الشريفين، وله تجديد ميزات للكعبة المشرفة سنة خمس وسبعين ومائتين وألف. وتوفي السلطان عبد المجيد في سابع عشر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين وعمره أربعون سنة ومدة سلطنته ثنتان وعشرون سنة وستة أشهر. الشيخ عبد المجيد بن الشيخ محمد صلاح الدين بن الشيخ عبد الله الحنبلي الشهير بأبي شعر الدمشقي شهم سما في سماء المكارم، وطلعت شمس فضائله في أفلاك الأكارم، فكان فرد ذوي الذكر والتقوى، والعبادة في السر والنجوى، والطاعة في كل أحيانه، والإقبال على الله في سره وإعلانه، كثير الطواف والسعي ببيت الحمد والشكر، دائم التوجه إلى مولاه كأن كل لياليه ليلة القدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1036 مع عشق بالله وهيام، وولوع ومحبة وغرام، قد شرب من صافي الشراب، فسكر وعن الأغيار غاب. مات رحمه الله سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير وقبره ظاهر. الشيخ عبد المجيد بن الشيخ محمد بن الشيخ محمد الخاني النقشبندي همام حظه من الأدب وافر، وإمام وجه أمانيه طلق سافر، ما زال من الرفعة في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة، له في اللطائف والطرائف من الروضان روضان، ومن بداعة النظم والنثر من المرجان مرجان. ولد في حدود الستين والمائتين والألف. وبعد أن أتم القرآن وجوده قرأ النحو والصرف، وحضر جملة من العلوم على سادة لهم اليد الطولى في المنطوق والمفهوم، منها الأمير الكبير، والفاضل الشهير السيد عبد القادر الجزائري، ومنهم علامة الشام الشيخ محمد الطنطاوي، ومنهم والده، واشتغل في علم الأدب إلى أن حاز على الأرب. وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1037 عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر سافر إلى الآستانة وكان لجده معاش مقداره ألف وخمسمائة قرش في كل شهر، وبعد موت جده انتقلت لأبيه وما زالت تتناقص إلى أن صارت تسعمائة وخمسين قرشاً، فأراد المترجم إرجاعها إلى أصلها فلم يمكن، غير أنهم وجهوا على والده ثلاثمائة قرش قيد حياة، فجاء المترجم إلى الشام بعد ما مكث في الآستانة نحواً من سنتين، ولم يمض مدة بعد حضوره إلا وقد توفي والده، فانقطعت الثلاثمائة، وأما المعاش الأول فإنه تخاصم مع عمه الشيخ أحمد عليه، وكل منهما يدعيه لنفسه وأنه أحق به، وطال الخصوم إلى أن أصلح بينهما مفتي الشام صالح أفندي قطنا مناصفة، فيه وفي مشيخة التكة النقشية. وللمترجم نظم ونثر كثير، ومن ذلك قصيدته الرائية المؤرخة في كل شطر، التي بارك بها لسمو خديوي مصر، بمسند الخديوية. ومطلعها: اللطف في أرجاء مصر يشير ... أني بتوفيق العزيز بشير 1296 1296 - وما أرشق ما قال منها: دانت إليه الآصفية منصباً ... ودنا سروراً منبر وسرور 1296 1296 - ومن القصائد الحماسية، قصيدته البهية البائية، ومطلعها: تجلى من العلم الإلهي كواكبه ... لنا وبنا سارت إلينا مواكبه ونحن وإن جر الخمول ذبوله ... علينا فإنا للوجود مناقبه وما الكون إلا شاعر وصفاتنا ... مشارقه تشدو بها ومغاربه وما أعلى ما قال منها: توهم أهل الجهل إدراك شأونا ... ومن نال هذا الفضل تسمو مراتبه وهب أنهم قد أمطروا منه قطرة ... فمن بعد ما انهلت علينا سحائبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1038 ومن ذلك قصيدته الغراء الرائية ومطلعها: نحن الملوك على الأسره ... في دولة الفقر المسرة م ساح في ساحاتنا ... نحمي من الأغيار سره أو غاب عن غاباتنا ... حرم الحماة من المعرة ومن غزلياته وحسن اقتباساته: أما وليال من ذوائبها عشر ... وما نسخت بالفرق من صورة الفجر وما كتبت بالمسك في وجناتها ... فخالاتها تختال بالشفع والوتر وسين جبين فوق نون حواب ... على قمر والليل فيه إذا يسري وما نفثت بالسحر من لحظاتها ... وذا قسم لا ريب فيه لذي حجر إذا كان من أهواه عني راضياً ... فلا رضيت عني الأنام إلى الحشر ومن موشحاته وطيب رشحاته: سلم الله غزالاً سلما ... بعيون كحلت بالنعس وفم أتقنه الله فما ... فيه عيب غير طيب اللعس دور ربرب ربي في وادي زرود ... ما لوى الجيد إلى ماء اللوا لو رآه البدر يهوى للسجود ... وهو لا يعلم ما معنى الهوى ذو محيا خاله فوق الخدود ... ملك الزنج على العرش استوى كل من علمه منع اللما ... جاهل قدر حياة الأنفس ما له من مشبه نفسي وما ... لي فدا ذاك الرضاب الأنفس ومن مقطفاته ما كتب به إلى أحد الفضلاء الكرام، وقد ذهب إلى بيت المقدس ووعده بالعود إلى دمشق الشام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1039 أسرت بآية الإسراء عبداً ... تلهى بالعهود إذا تلاما وما قالوا له إيه إذا ما ... تحدث عنك إلا قال آها ومن ذلك وقد عارض صاحب العقد الفريد في قوله: إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق فقال: من تمنى الممات قبل الفراق ... ما له في شرع الهوى من خلاق كيفما كان قد تصبر حتى ... ذاق يوف الفراق بين الرفاق لو يكن صادق المحبة مثلي ... مات خوفاً من ذكر يوم الفراق ومن تطريزه في كل كلمة ما كتب إلى رئيس كتاب ولاية سورية الجليلة: سلام على أقمار دهر ترى لهم ... وضاءة حسن ساطع يوم تلمح حرقت لهم مستعطفاً يوم أقبلوا ... فؤادي نداً دائماً يتفوح ومن ذلك ما أنشده عند دخوله إلى بيروت مقرظاً جرائدها السبع عام ثلاثمائة وألف فقال: ثمرات مقتطف الجنان بشيرها ... بلسان مصباح التقدم قائل ظل المعارف وارف في روض بيروت وحزب الفضل فيه قائل وكان والده رحمه الله يقرأ في كل يوم ثلاثا وجمعة صحيح البخاري صباحاً في حجرته في جامع السويقة وبعد موته جلس المترجم في مكانه. ثم بعد موت عمه الشيخ أحمد سافر المترجم إلى الدار العلية لتكون المشيخة والمعاش له بمفرده فلم ينجح ووجهت المشيخة على الجامع والمعاش على عمه الشيخ عبد الله، وتوفي المترجم في الآستانة وذلك سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1040 الشيخ عبد العزيز بن أحمد ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى. سلطان إقليم المعاني، ومالك أزمة البيان وبديع الزمان الثاني، ومؤيد مذهب النعمان، ومسدد أقوال ذوي المعرفة والشان، مصنفاته لا تحصى، ومؤلفاته تجل عن أن تستقصى، فمن نظمه ما كتبه إلى السيد العلامة حسين اللندني الهندي وهو هذا: هنيئاً قد أقر الله عيني ... بأخبار أتتني من حسين فتى إن عدت الأعيان قالت ... له الأعيان إنك أنت عيني فدام بقاؤه ما لاح برق ... واطرب صوت قمري وعين ثم أتبعه بهذا النثر: روض ممطور، ودر منظوم في رق منشور، وقراضات ذهب ساقطها اليراع من الأحرف النورانية فهي نور على نور، وشمس من الكلام، أطلعها أفقها في بروج من القراطيس، وكواكب من حسن الانتظام تبلجت في سماء البلاغة وتدبجت فما هي إلا أجنحة الطواريس. وردت من تلقاء قطب فلك الكرم، ينبوع مكارم الأخلاق والشيم، ربيع الوفاد، وثمال المرتاد، ومقصد الحاضر والباد، ربوة الفخر العليا وبهجة الحياة الدنيا، دوحة المجد التي سقاها ماء النبوة ريا، من كرم جده وسما في سماه المعالي جده، وتغلغل في الشرف صيته وشرف مجده، لا زال للصريح نصرة، وللعصر البهيم غرة، ما جن غاسق وجن عاشق وطلع نجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1041 ولاح في برجه، ونجم طلع وفاح في مرجه، على محب حل حبه منه محل الروح وملك ما يغدو منه وما يروح، بل حب مازج القلب فما تشابها وتشاكل الأمر، بل اتحدا فلم يقل: " رق الزجاج ورقت الخمر " إلى غير ذلك، والسلام. ألا وإن هذا الهمام له من النظم أعلاه، ومن النثر أجمله وأجله وأحلاه، لقد سرى في الناس حسن معناه، وسلم له الكل بأنه نال من الكمال مناه، فظهر ظهور القمر، ومهر في المعارف حتى بهر. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف. السيد عبد المحسن بن حمزة بن السيد علي الدمشقي الحنفي الشهير بابن عجلان الشريف الحسني نقيب الأشراف بدمشق الشام. ونخبة أعيانها وأشرافها الكرام، المتحلي بحلى الأدب والكمال، والمستوي على عرش اللطافة والجمال، أحد فضلاء الأفاضل المعروفين، وأوحد السادات الأوائل المشهورين، المشار إليهم بعلو الذكر، وسمو القدر، فلا ريب أنه ممن علا قدره وفاق، وعم ذكر النواحي والآفاق. ولما توفي والده السيد حمزة ولي نقابة الأشراف مكانه ومشى على نسق والده من التقوى والديانة والصيانة. فائدة النقابة معناها الرئاسة قال في القاموس: النقيب ضمين القوم وعريفهم وقال في مادة عرف: والعريف كأمير من يعرف أصحابه، والعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1042 رئيس القوم. وقيل إن النقيب دون الرئيس، وعلى كل حال فنقيب الأشراف رئيسهم. نقل صاحب الشرف المؤبد أن هذه النقابة على الأشراف وضعت في الأصل لصيانتهم عن أن يتولى عليهم من لا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف، ويختار لها أجلهم بيتاً وأكثرهم فضلاً وأجزلهم رأياً، لتجتمع فيه شروط الرياسة والسياسة، فيسرعوا إلى طاعته برياسته، وتستقيم أمورهم بسياسته، ويلزمه لهم بتقلدها اثنا عشر حقاً " أحدها " حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس منها أو خارج عنها وهو منها. " والثاني " معرفة أنسابهم وتمييز بطونهم ويثبتهم في ديوانه على التمييز. " والثالث " معرفة من ولد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ومعرفة من مات فيذكره. " والرابع " أن يحملهم على الآداب التي تضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موفورة، وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم محفوظة. " والخامس " أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم عن المطالب الخبيثة حتى لا يستقل ولا يستضام منهم أحد. " والسادس " أن يكفهم عن ارتكاب المآثم ويمنعهم من انتهاك المحارم ليكونوا على الدين الذي نصروه أغير، وللمنكر الذي أزالوه أنكر، فلا ينطلق بذمهم لسان ولا يشنؤهم إنسان. " والسابع " أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ويبعثهم على المناكرة والبعد وأن يندبه إلى استعطاف القلوب وتألف النفوس ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى. " والثامن " أن يكون عوناً لهم في استيفاء حقوقهم حتى لا يضعفوا عنها وعوناً عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا أهلها منها، ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين وبالمعونة عليهم منصفين، فإن من عدل السيرة فيهم إنصافهم وانتصافهم. " والتاسع " أن ينوب عنهم في حقوقهم في بيت مال المسلمين. " والعاشر " أن يمنعهم نساءهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء لشرفهن على سائر النساء صيانة لأنسابهن وتعظيماً لحرمتهن. " والحادي عشر " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1043 أن يقوم ذوي الهفوات منه ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته ويغفر بعد الوعظ زلته. " والثاني عشر " أن يراعي وقوفه بحفظ أصولها وتنمية فوعها ويراعي قسمتها عليهم بحسب الشروط والأوصاف ويزداد على ذلك في النقابة العامة خمسة أشياء أخرى: " أحدها " الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه. " والثاني " الولاية على أيتامهم فيما ملكوه. " والثالث " إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه. " والرابع " تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أولياؤهن أو قد تعينوا فعضلوهن. " والخامس " إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه وفكه إذا أفاق ورشد انتهى ملخصاً من الأحكام السلطانية للإمام الماوردي. ثم أن المترجم كان مستقيماً، وكان لأهل النسب والشرف قدر عظيم في أيامه لملاحظته لهم بعين الإجلال والتعظيم. مات عقيماً في شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن في مدفنهم المعروف بمدفن بني عجلان. الشيخ عبد الملك القلعي الحنفي مفتي السادة الحنفية بمكة المشرفة وهو الشيخ عبد الملك بن القاضي عبد المنعم بن القاضي تاج الدين محمد القلعي، فارس ميدان الأفاضل، وعنوان شرف الفضائل، عمدة الأعيان، ونخبة ذوي القدر والشان، فقيه السادة الحنفية، ومحدث الديار الحجازية، ومدار كرة المعقول والمنقول، ومنار فلك القادة الفحول. ولد في مكة سنة ألف ومائة ونحو الخمسين وأخذ عن والده وعن العلامة السيد سعيد سنبل. وعن الفهامة الشيخ عبد الله الشبراوي االأزهري وغيرهم، وولي الإفتاء بمكة المكرمة وكانت له الصدارة في العلوم، من منطوق ومفهوم، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في مقبرة المعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1044 الشيخ عبد المنعم بن شيخ الإسلام الشيخ أحمد العماوي المالكي الأزهري المصري شيخ الإسلام والمسلمين، وعمدة الأعلام المتقدمين، ينبوع العلم والعرفان؛ المطبوع على الفضائل والإحسان، من افتخرت به الأفاضل وهرعت إليه الأكابر والأماثل، آخر طبقة الأشياخ من أهل القرن الثاني عشر، تفقه على الشيخ الزهار وغيره من أهل مذهبه المعتبر، وحضر الأشياخ المتقدمين كالدفري والحفي والصعيدي والشيخ سالم النفراوي والشيخ الصباع الإسكندري والشيخ فارس وأمثالهم من الموجودين، وانتفع الناس بعلمه الأنور، ولم يزل ملازماً لإقراء الدروس في الأزهر، مع العفة والديانة، والمروءة والصيانة، والانزواء عن الناس والرضى بحالته، والقناعة بما لم يشغله عن ديانته، ليس بيده من التعلقات الدنيوية سوى النظر على ضريح سيدي صفوة الأكابر، أبي السعود المعروف بأبي العشائر، ولم يتجرأ على الفتيا مع أهليته لذلك، وسلوكه في أحسن المسالك، ولم تمل نفسه لزخارف الدنيا وسفاسف الأمور، مع التجمل في الملبوس والمركوب وإظهار الغنى والحبور، وكان يصدع بالحق ولا يلتفت إلى مكابره ولا يتردد إلى بيوت الحكام والأكابر، إلا لضرورة داعية، فيدخل مع مروءة وهمة عالية، ولم يزل كذلك حتى دعاه الحمام، إلى دار السلام، وذلك ليلة الخميس حادي عشر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف وعاش أربعاً وثمانين سنة، وصلي عليه في الأزهر ودفن في تربة المجاورين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1045 عبد الهادي بن السيد سليم الدمشقي الفاروق الشهير بالعمري الحنفي كان من مشاهير صدور الشام، وأعيانها العظماء الفخام، له صولة عظيمة، وهيبة جسيمة، وجلالة في قلوب الناس سامية، وشهرة في الأماكن جميلة وافية. ولد بدمشق الشام، ونشأ على أتم مرام، حتى ساد وبرع، وسما على كاهل الكمال وارتفع، وصار عضواً في المجلس الكبير، وكان عليه تولية وقف سيدي علي بن عليل الفاروقي العمري ذي المقام الشهير، ثم بعد ذلك ترك الاختلاط بالأكابر وذوي السياسة والأعيان، وانزوى في بيته للصلاة والعبادة وتلاوة القرآن، إلى أن توفي في شهر ربيع الثاني سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. الشيخ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوي الساري المعروف ببشناق ترجمه الجبرتي بقول: العمدة الفاضل الواعظ، قدم مصر سنة تسع وستين ومائة وألف ووعظ بمساجدها وأكرمه العلماء للجنسية، ثم توجه إلى الحرمين وقطن بمكة ورتب له شيء معلوم على الوعظ والتدريس، ومكث مدة، ثم حصلت فتنة بين الأشراف والأتراك فنهب بيته وخرج هارباً إلى مصر، فالتجأ إلى علمائها فكتبوا له عرضاً إلى الدولة، بمعرفة ما جرى عليه، فعين له شيء في نظير ما ذهب من متاعه، وتوجه إلى الحرمين فلم يقر له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1046 بمكة قرار، ولم يمكنه الامتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه واستطالته في كل ما دب ودرج، فتوجه إلى الروم ومكث بها أياماً حتى حصل لنفسه شيئاً من معلوم آخر، فأتى إلى مكة، وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على أشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى أتباعهم، وذكر مساويهم وظلمهم، فأمره شريف مكة بالخروج منها إلى المدينة فخرج إليها، وقد حنق غيظاً على الشريف، فلما استقر بالمدينة ضم إليه بعض الأوباش ومن ليس له ميل إلى الشريف، فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهراً، وغره مرافقة أولئك معه وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة، فتعصبوا وزادوا نفوراً، وأخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف، وكاتبوا إلى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقاً، وأنه لا يحكم فيهم أبداً، وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط، وأرسلوا بالمعروض مفتي المدينة إلى الدولة العلية، فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطاباً إلى أمير الحاج الشامي وإلى الشريف، ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة وعرف أن أصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم، واستعد للقاء أمير الحاج بعسكر جرار على خلاف عادته، ورام مناوءته إن برز منه شيء خلاف ما عهد منه، فلما رأى أمير الحاج ذلك الحال كتم ما عنده، وأنكر أن يكون عنده شيء من الأوامر في حقه، ومضى لنسكه، حتى إذا رجع إلى المدينة تنمر وتشمر وكاد أن يأكل يده من التندم والحسرة، وذهب إلى الشام. ولما خلت مكة من الحجاج جرد الشريف عسكراً على العرب فقاتلوه، وصبر معهم حتى ظفر بهم، ودخل المدينة فجأة، ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقائه، فآنسهم بأنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام، وليس له غرض سواه. فاطمأنوا بقوله، وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده، حتى دخل من باب السلام، وتملى من الزيارة، وأقبلت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1047 الوظائف مسلمين، فأكرمهم وكساهم، فلما آنس منهم الغفلة أمر بإمساك جماعة من المفسدين فقبض على بعضهم، واختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم جماعة بالليل خفية، وكان المترجم أحد من اختفى في بيته ثلاثة أيام، ثم غير هيئته وخرج حتى أتى مصر، ومشى على طريقته في الوعظ، وعقد له مجلساً بالمشهد الحسيني، وخالط الأمراء، وحضر درسه الأمير يوسف بك، ومال إليه، وألبسه فروة ودعاه إلى بيته وأكرمه، وتردد إليه كثيراً، وكان يجله ويرفع منزلته، ويسمع كلامه وينصت إلى قوله، واستمر بمصر، وسكن في حارة الروم، ورتب له الضربخانة كل يوم مائة نصف فضة، وعلا جاهه وارتفع قدره عند أبناء جنسه، إلى أن وقع له ما وقع مع إسماعيل باشا، تغير خاطره بسببها عليه فحبسه ثلاثة أشهر ثم أخرجه بشفاعة الدفتردار وانزوى خاملاً في داره إلى أن مات في أوائل شعبان في الطاعون سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري الإمام العمدة الفقيه الصالح، والهمام النخبة النبيه الفالح، تفقه على أشياخ العصر، وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الأجهوري وغيرهم، وتصدر للإقراء والتدريس والإفادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني وحضر درسه الجم الغفير من العامة، واستفاد منه الكثير من الناس، وقرأ كتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكان حسن الإلقاء سلس التقرير جيد الحافظ جميل السيرة مقبلاً على شأنه، ولم يزل ملازماً على حالته حتى اتهم في إثارة الفتنة وقتل في القلعة شهيداً بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى سنة أربع عشرة ومائتين وألف ولم يعلم له قبر رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1048 الشيخ عبد الوهاب بن أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي السعدي أحد المشايخ السعدبة بحلب، مولده بها بعد الخمسين ومائة وألف، وقدم دمشق الشام سنة ثمان وسبعين ومائة وألف، وأخذ الطريقة السعدية عن الشيخ الكامل والعمدة الفاضل، أبي عبد الله محمد سعد الدين بن مصطفى بن البرهان إبراهيم السعدي الجباوي الدمشقي الميداني، وكتب له الإجازة على عادتهم، وخلفه وأمره بالإرشاد والتسليك، وكتب له العلماء خطوطهم على الإجازة، وكان صالحاً عابداً زاهداً تقياً مرشداً نقياً مشتغلاً بالخلوات والرياضات والتسليك للمريدين من القاصدين والمريدين، سالكاً للطريق على منهم التوفيق. وفي سنة ألف ومائتين وخمس، اجتمع به في حلب حضرة العالم الفاضل خليل أفندي المرادي وتبرك به وشهد كل بكمال الآخر، ومات بعد ذلك، ببضع سنين في حلب، ولم أقف على تعيين تاريخ وفاته. الشيخ عثمان بن إبراهيم الشامي الدمشقي صدر العلماء، وخاتمة السادة الفقهاء، وبدر سماء الزمان، وشمس إشراق الأفاضل الأعيان، الإمام الكامل، والهمام الفاضل، كعبة المكارم، ونخبة الأكارم. ولد سنة تسع وأربعين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة الملوي والإمام الطحاوي والهمام الدمنهوري وحضر دروس الشمس محمد الأيوبي الأنصاري الشهير بالرحمتي. مات سنة تسع عشرة ومائتين وألف وبلغ سنه سبعين سنة رحمه الله تعالى. السيد عثمان بن أحمد الصفائي المصري الحبر الفريد، والبحر الوحيد، والنبيه اللبيب، والوحيد الأديب، والكامل النادر، والناظم الناثر، نشأ في ظل النعمة والرفاهية، وقرأ النحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1049 والمنطق وبقية الفنون بهمة متعالية، ولازم الشيخ علي الطحان والشيخ مصطفى المرحومي وغيرهما حتى مهر، وتاه به عصره وافتخر، وكان يباحث ويجادل، ويناقش في مشكلات المسائل. ويورد من الأبحاث العقلية، ونوادر الفروع النقلية، ما يشهد له بكمال علمه، وتمام فهمه، وقرأ العروض والقوافي وأحسن النثر والنظام، وحكى شعره بدائع أبي الطيب المتنبي ونوابغ أبي تمام، وكان فيه نوع من اللهو والخلاعة، وأشعاره لها ميل إلى البلاغة والبراعة، وله تخميس على البردة ومن قوله: نظرت إلى حبي وكنت مفلساً ... فلم أر فيه للفلوس سوى السوى فقلت له أين الدراهم قال لي ... على أنني راض بأن أحمل الهوى ومن نظمه تشطير البيتين لعثمان الشمس وهما: وأغيد لؤلؤي الجسم ذي هيف ... بوجنة أشرقت منها الفؤاد صبا البدر طرته والغصن قامته ... متمم الحسن فيه كم أرى عجبا كأنما خاله من نار وجنته ... قد زاد حسناً ومن أعلى الخدود ربا وحين خاف اللظى في الخد يحرقه ... انقض يرشف شهداً جاوز الشنبا وله رحمه الله تعالى: ليس لي في القريض يا قوم رغبة ... بعد هذا الذي كساني رعبه أشهد الله أنني تبت عنه ... توبة حرمت علي المحبه حيثما فيه شعر نائب قاض ... ابعد الناس بالفصاحة نسبه كان فيه جزاؤه صفع وجه ... أو قفاء أو كان قتلاً بحربه لا جزاء الإله في الناس خيراً ... لا ولا فرج المهيمن كربه حيث أهدى إلى البرية داء ... مستمراً أعيا فحول الأطبه يا عديم الآراء ما أنت إلا ... آدمي بؤرية البغل أشبه كيفما تدعي الفصاحة جهلاً ... أو ما تدر أنها دار غربه عش جهولاً ومت بجهلك حتفاً ... يا خبيثاً بأخبث الأرض تربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1050 فلعمري ما قلته ليس شعراً ... بل نباح وأنت كلب بن كلبه ثم أستغفر الله مما ... قد جناه اللسان إن كان سبه وله في إسماعيل أفندي الكدار: يا خليلي أفديك من كدار ... كوسج الذقن عاري الذقن شعرا من يكن قرنه كقرنك هذا ... فليكن بيته كإيوان كسرى ولم يزل رافلاً في حلل السعادة، حتى حلت بساحة شبابه الشهادة وتوفي مطعوناً بمليج وهو ذاب لموسم المولد الأحمدي بطندتا في شهر رجب وقد ناهز الأربعين، وحضروا به إلى مصر محمولاً على بعير، فغسل وكفن ودفن بها عند والده سنة أربع ومائتين وألف. الشيخ عثمان بن محمد الحنفي المصري الشهير بالشامي الإمام الكامل، والهمام الفاضل، قال الجبرتي: ولد بمصر وتفقه على علماء مذهبه كالسيد محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ حسن المقدسي والشيخ الوالد حسن الجبرتي، وأتقن الآلات، ودرس الفقه في عدة مواضع وبالأزهر وانتفع به الناس، وقرأ كتاب الملتقى بجامع قوصون، وكان له حافظة جيدة واستحضار في الفروع، ولا يمسك بيده كراساً عند القراءة، ويلقي التقرير عن ظهر قلب مع حسن السبك، وألف متناً مفيداً في المذهب. ثم حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقطن بالمدينة، وطلب عياله في ثاني عام وباع ما يتعلق به وتجرد على المجاورة، ولازم قراءة الحديث والفقه بدار الهجرة، وأحبه أهل المدينة وتزوج وولد له أولاد ثم تزوج بأخرى، ولم يزل على ذلك حتى توفي في السنة العاشرة والمائتين والألف، ودفن في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1051 الشيخ عثمان الكردي الطويلي الخالدي النقشبندي مركز دائرة الإرشاد، الراقي في درجات السداد، المولى المرشد الكامل الأحوال، والهمام المعدود من أكابر الرجال، صاحب الكرامات الظاهرة، والأنفاس القدسية الزاهرة، هو أول خليفة خلفه حضرة مولانا خالد قدس سره وفاز بنظره وأنفاسه القدسية، وصل إلى مقام الفناء وحاز الأسرار الربانية، وله كرامات كثيرة باهرة، وخوارق عجيبة ظاهرة، شهد بولايته الخاص والعام، واشتهر قدره ومقامه بين الأنام وسلك على يديه كثير من العلماء الأعلام، وأكابر أهل التقوى والفضل ذوي الاحترام، وقد أسلم كثير من اليهود والنصارى على يده، وحازوا بالتفاته ونظره التنوير والاستمداد من مدده، وسلكوا في زاويته ونالوا مقامات الرجال، وكان الغالب على المترجم حال السكر والجلال، وعدم الصحو إلا في نوادر الأحوال، وبقي على حاله، مترقياً في كماله، إلى أن اخترمته المنية، ودعاه الأجل إلى الدار السنية، سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين وهو من رجال المجد التالد. الحاج عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان ويشتهر بالحافظ عثمان الموصلي المولوي ترجمه أحمد عزت باشا العمري الموصلي في كتابه العقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية، فقال: ولد في بلدة الموصل الخضراء سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1052 إحدى وسبعين ومائتين وألف، وقبل أن يبلغ من العمر سبع سنين توفي أبوه وبقي يتيماً وفقد نور بصره على صغره، فرآه والدنا المرحوم محمود أفندي الفاروقي وكان إذ ذاك طفلاً، وتغرس به أن يكون للتربية أهلاً ومحلاً، أخذه إلى بيته العامر، وأعطاه منها إلى أحد الدوائر، وخصص له فيها من يحفظه القرآن، بصورة الإتقان، مع ما ينضم إلى ذلك من طيب الألحان، فأتقنها كلها، وحفظ أيضاً جانباً وافراً من الأحاديث النبوية، والسير المصطفوية، ورتب له من يلقي عليه علم الموسيقى حيث أنه قد رزق الصوت الحسن، وحفظ إذ ذاك من رقائق الأشعار، وغرائب الآثار، ما جمع فأوعى لأنه كان سريع الحفظ، لكيف اللفظ، فنشأ قطعة من أدب، وفرز دقة من لباب العرب، لأنه في الحقيقة ضرير، لكنه بكل شيء بصير، ينظر بعين الخاطر، ما يراه غيره بالناظر، وبقي بخدمة المرحوم الوالد إلى أن توفاه الله، وجعل الجنة مثواه، فتوجه إذ ذاك إلى بغداد، وكنت إذ ذاك فيها فنزل عندي، يعيد ويبدي، وفاء للحقوق التي لا زال يبديها، ولا يخفيها، متردياً بظاهرها وخافيها، فتلقيته ملاقاة الأب والأخ، وقلت له بخ بخ، فتهادته فيها أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، فأصبح في بغداد فاكهة الأدباء، ونقل الظرفاء، وشمامة الأوداء، واشتهر بحسن قراءة المولد الكريم، على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، فأومض فيها برق اسمه، وعلا مبارك كعبه ورسمه، فتركته على هذه الصورة في الزوراء، تهب عليه ريح الرخاء، حيث يشاء، وأمسى عند كل ذي عين، جلدة ما بين الأنف والعين، وحفظ فيها نصف صحيح الإمام البخاري على المرحوم الشيخ داود أفندي، وبعد وفاته أكمل حفظ النصف الثاني على بهاء الحق أفندي الهندي مدرس الثاني في الحضرة الأعظمية. ثم أنه بعد ما قضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1053 الحج، وفاز بالعج والثج، رجع إلى مسقط رأسه الموصل الخضراء وقرأ فيها القراءات السبع على حيدرة الوطن، محمد أفندي الحاجي حسن، وأخذ الطريقة القادرية من حضرة المرشد الكامل العارف الفاضل المرحوم السيد محمد أفندي النوري، وبرخصته بل بعد استشارته واستخارته توجه راحلاً منها إلى مركز الخلافة العظمى وخصص له ببلدته خير معاش، يستوجب الانتعاش، وأخذ فيها الطريقة الرفاعية، من حضرة صاحب السماحة الصارم الهندي، الشيخ أبي الهدى السيد محمد أفندي، وهو لم يزل إلى الآن، على ما عليه كان، من انقياده في زمام الوفا، واستناده لسواري الأنس والصفا، تتجاذبته أيدي الكبراء، وتتهاداه قلوب الأوداء، وتتلاعب به أفكار الشعراء، وترتاح معه أذهان البلغاء، وتصغي إلى نغماته أسماع الخطباء، فهو بالليل أريب، وبالنهار خطيب، يرقى ذروة المنابر، فتهرع إليه الأكابر والأصاغر، فيسيل جامد دموعها، ويهيج كامن ولوعها، ويمنعها لذيذ هجوعها، خوفاً من رجوعها، وأما شعره فمثل شعوره، يتساقط فراش المضامين على مشكاة نوره، يذوب نظمه حلاوة، ويكتسي نشره طلاوة، فليس على عينه غشاوة، وإذا غنى ظننت الموصلي إبراهيم، أو قرأ حزباً من القرآن الكريم، تخيلت أبياً يترنم بصوته الرخيم، وبالجملة فهو نسخة جامعة، وكرة لامعة، مع ما ينضم إلى ذلك من الوفاء، وكرم الطبع والصفاء، ومن نظمه يمدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1054 السيد الرفاعي: بباب الرفاعي بت أستبق الركبا ... ليصبح جفني لاثماً ذلك التربا إمام له في الخافقين مفاخر ... بها امتاز بين الأولياء ولا ريبا فمنها إذا نادى محبوه باسمه ... على النار أطفوها ولو أوقدت لهبا ومنها سيوف الهند تنبو لبأسه ... وأسد الشرى ترتاع من ذكره رعبا وأعظمها تقبيل يمنى نبينا ... بها لم يكن من قومه غيره يحبى أمدت له في محفل خير محفل ... وقد صيرت كل الكرام له حزبا تردى بأثواب المحبة والحجا ... ومن شرع طه المصطفى أخذ اللبا أرى ذل حالي فيه خير معزتي ... وأبكي وتعذيبي أراه به عذبا لقد جئته مستبقياً سبب جوده ... أناديه يا من قد شغفت به حبا بجدك ذي الخلق العظيم ومن سما ... على الرسل إذ كل لدعوته لبا بوالدك الكرار باب علوم من ... أماط عن التوحيد في بعثه الحجبا بريحانتي خير الوجود وفاطم ... وما قد حواه ذلك البيت من قربى أتيتك يا شيخ العواجز راجيا ... منائحك العليا التي تنعش القلبا أيدعشني يا آل طه بحيكم ... خطوب وإني قد عرفت بكم صبا أحبة قلبي ما لعثمان ملجأ ... سواكم وأنتم ملجأ الكون في العقبى عليكم صلاة الله ما انهل وابل ... بواسط أو هبت بأرجائها النكبا وأبياته كثيرة، وقصائده شهيرة، أطال الله بقاه آمين انتهى. هذا ولما سافرت إلى الآستانة العلية، في أوائل ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وست هجرية، اجتمعت بهذا المترجم ذي الشمائل البهية، فرأيته شاعر الزمان، وناثر الأوان، يصبو القلب إليه ويحن، وينثني له غصن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1055 البراعة ويرجحن، ففي أوصافه للروح عبق، ومن ألطافه يروق كأس المصطبح والمغتبق، وله أخلاق أقطعها الروض أنفاسه، وشيم يتنافس بها المتنافسون لطافة ونفاسة، وقد أنشدني أفانين من غزلياته، تعزل برونق الصدغ في لباته، وأطربني في ألحانه، ولا إطراب الخمار بحانه، يتلاعب بصوته تلاعب الأنامل بالأوتار، ويحرك القلوب إلى أن تكشف عن محيا غرامها حجب الأستار، وكانت أريحيات غرامه تستفزه وصبوة مدامه تستهزه، فلا يزال، هائماً بغزال، ولا يريم، عن عشق ريم، وشعره يشعر بأنه حليف الجوى، ويعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى، ولطفه أرق من العتاب بين الصحاب، وأوقع من الراح ممزوجاً بماء السحاب، ولله در حينما شكالي العذول والهجر والصدود وشداني على صوت الكمام وصوت العود: لو أن بالعذال ما بي ... ما عنفوني بالتصابي كلا ولو ذاقوا الهوى ... مثلي لما ملكوا خطابي ويلاه من بعد المزا ... ر فإنه شر العقاب قسماً بخلوات الحبيب ... وطيب وقفات العتاب وتذللي يوم النوى ... لمنيع ذياك الجناب وبوقفتي أشكو هوا ... ي له بألفاظ عذاب أبكي وأسرق أدمعي ... خوف العواذل في تباب ما للمحب أشد من ... نار التباعد من عذاب بأبي غزال لين الأ ... عطاف معسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1056 مياس غصن قومه ... يزري ببانات الروابي ريان من ماء الصبا ... سكران من خمر الشراب جعل التجافي دأبه ... وجعلته وهواه دابي قال العواذل عندما ... أبصرن بالأشواق ما بي قد كنت من أهل الفصا ... حة لا تحول عن الصواب فأجبتهم والقلب من ... نار الصبابة في التهاب الحب قد أعيا فصيح القول عن رد الجواب وتراه إن حضر الحبيب لديه يأخذ في اضطراب وغير هذا كثير، لا يكاد يحصيه قلم التحبير، وعلى كل حال فهو حلية العصر، ونادرة الدهر، قضي له بالأدب الوافر منذ طلع من مهده طلوع البدر السافر، فظهر رشده قبل أوانه، ولا ريب أن الكتاب يعرف بيانه من عنوانه. وقد أسمعني من نثره خطبته التي ابتدأ بها تخميسه لقصيدة المرحوم عبد الباقي أفندي العمري المسماة بالباقيات الصالحات وهي: أحمد من أسبغ علينا من سوابغ المانحات نشبا، وبلغنا بالباقيات الصالحات أربا، ونظمنا في سلك مدائح أهل العبا، وأصلي وأسلم على حبيبه المجتبى، وآله الذين تمدهت بهداهم فدافد وربا، وصحبه الذين بمجاراتهم جواد الضلال كبا، وبعد فيقول العبد العاجز الفقير، ذو الباع القصير، المتوسل لعلاه بحب آل علي، عثمان بن الحاج عبد الله الرفاعي الموصلي: لما كانت مدائح آل المصطفى هي من أعظم الوسائل، للنجاة يوم العرض والمسائل، وكان ممن أحرز قصب السبق في هذا المضمار، الجدير بأنواع الفضائل والفخار، فاروقي الأرومة والنجار الذي اشتهر بالآفاق، وفاق أدباء عصره على الإطلاق، المرحوم عبد الباقي أفندي الموصلي وذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1057 قصيدته البائية الموسومة بالباقيات الصالحات التي تنشر لديها برود القصائد، وتنثر عندها أفئدة الفرائد، وكانت كالعروس العذراء، ما اقتضها شاعر، ولا اقتحمها ناثر، لما تحصنت به من حسن السبك والإنشاء، خصوصاً فيما أثارته من مؤثرات الرثاء، والمعفر بغباره وجه الغبراء، قدمت على تخميسها مقراً بعدم استطاعتي، وقلة بضاعتي، وذلك لكوني محب بيتهم، ومقتبساً من نور زيتهم، فهذا شمرت ساعد الجد لتسميطها طلباً للثواب، ومحبة لآل النبي الأواب، وأسأل المولى جل وعلا، أن يتقبل منا قولاً وعملاً، ويجعلنا مظهر قوله تعالى: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً "، ثم قال التخميس العبهري على بائية العمري، وهو: مذ شب زند الفكر بعد أن خبا ... قمت لمدح آل طه معربا مسمطاً أوصافهم فيما احتبى ... هذا الكتاب المنتقى والمجتبى في نهت آل البيت أصحاب العبا تجلب للكونين أوفى غيرة ... بشرح رزء نال خير عترة من قبل أن تحويه أغلى فكرة ... بالقلم الأعلى بيمنى قدرة في لوح عزة بنور كتبا روض معانيه غدا مؤرجاً ... مذ جدولت أسطره نهر الحجا جبينه بالحسن قد تبلجا ... لاح به فرق العلا متوجا مرصعاً مكللاً مذهبا ... وقد غدا حاجبها مزججا وطرفها أمسى كحيلاً أدعجا ... وثغرها أضحى بسيما أفلجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1058 وكمهاً مطرزاً مدبجا ... وعقدها منقحاً مهذبا عذب على التالي يسوغ حفظه يلتذ مهما جال فيه لحظه ... صفا وطاب واستلان غلظه فرق معناه وراق لفظه ... يحكي صفا الودق إذا ما انسكبا حور معانيه الحسان لم تزل ... تلبس من مدائحي أبهى الحلل إذ صغت من تفصيل هاتيك الجمل ... ثنا إذا أنشدته له ثنى ال وجود عطفاً وتهادى طربا ... غصن مديحي ماس في رطيبه كأنما نشر الكبا يسري به ... مذ فاح نفح الطيب من ترتيبه ريح الصبا تضمخت بطيبه ... بطيبه تضمخت ريح الصبا قاضي القضاة سراج الدين علي خان الذي تقلد أمر القضاء في بندر كلكته سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين قدوة المحققين ونخبة المدققين، الفالق بعلمه وعمله والواثق من الله بنواله بغية أمله، قد برع في زمانه حتى صار مقصد أهل عصره وأوانه، وقصده الناس للاستفادة من كل جانب وكان أجل راغب في عمل الرغائب، وكان أديباً ماهراً ناظماً ناثراً، قد أتقن العربية مع لغته الفارسية والهندية. ومن جملة نثره الدال على كمال علوه وقدره، تقريظه على كتاب الحديقة ذات المعاني الرقيقة: يا من ذكر اسمه الأسمى خير الأذكار، والفكر في أسمائه الحسنى خير الأفكار، صل على مذكرك الأقدم الأول، وكلمتك الأتم الأكمل، محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1059 المبعوث إلى كافة الأمم، وآله وصحبه الذين نبغوا من ضئضئ الكرم، وفازوا بأعلى درجات الحكم. وبعد فهذا الكتاب المسمى " بحديقة الأفراح لإزاحة الأتراح " المحتوي على مباهج قرائح البلغاء، المشتمل على نتائج أفكار الفصحاء، تذكرة لأولي الألباب، وتبصرة لذوي الآداب، قد ألفه الإمام البارع اللوذعي الألمعي، وحيد عصره وفريد دهره، العالم الرباني الأوحد الأديب الأمجد، الشيخ الأجل أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني، لا زالت إفادته شاملة للخواص والعوام ما دامت غياهب الليالي وأنوار الأيام. وله نثر فائق وشعر رائق، غير أني لم أقع منها إلا على ما كان باللغة الفارسية فلم أكتبه. توفي المترجم المرقوم رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين. علي بن محمد العنسي جمال الدين اليمني هو من رجال الحديقة وأهلها ذوي الآداب الأنيقة، فقال في ترجمة المرقوم الذي هو في سلك الأفاضل منظوم: علي المجد والمقام واحد في صناعة النثر والنظام، ثمرات أفنان نفائس آدابه فرائد، وجداول طيباته جارية بالجواهر لكل ملم بغياض فنونه ووارد، ألفاظه بخندريس الرقة وشراب الجزالة ممزوجة، ومعانيه الباهرة يبهر حسنها عقل من شاهد مروجه. فمن لطائفه قوله مجاوباً الفقيه الأديب أحمد الرقيحي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1060 كذا يتجنى في الهوى فارغ القلب ... إذا رحت أشكو العتب غالط بالعتب أيا ملزمي ذنباً وليس بمذنب ... سواه ألا اصفح عن شج مغرم صب رضيت بما ترضى علي ولم أقل ... جرى الدمع ياقوتاً ولا قلت ما ذنبي فديتك لولا أن لي فيك صبوة ... لما شرقت عيني من المدمع الغرب لقد آن أن ترضى عن المغرم الصب ... وتصفح عما قد أتيت من الذنب فلولاك لم أبكي بمحمر أدمعي ... عقيقاً ولا أشتاق للرمل والكثب ولا بت في دهم الليالي لشهبها ... سميراً دموعي الحمر يا منيتي شربي ولا رحت مسلوب الكرى واجب الحشى ... أعذب بالإيجاب منك وبالسلب أما وجفون منك تلتذ بالكرى ... وتنشد أجفان الأنام ألا هبي ونور جبين تحته نون حاجب ... وقد على ردف كغصن على كثب لقد تركت قلبي عيونك في الهوى ... رهين غرام لا يفيق عن الحب عجبت لها وهي التي بفتورها ... على ضعفها تضني وإن صحفوا تصبي أتدعى عيوناً وهي في فعلها بنا ... أسود وما غاباتهن سوى الهدب وأعجب من ذا أن خصرك ناحل ... وفيه شفاء الواله المغرم الصب لي الله ما لي في الهوى من مساعد ... أبث إليه ما ألاقي من الكرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1061 ووا حزني من تائه في جماله ... علي ومن أسياف عينيه واحزني فتنت ببدر كمل الله حسنه ... منازله في الطرف مني وفي القلب وظبي كناس بالغضا من جوانحي ... له مرتع لا بالغضا موضع السرب يقولون صحبي هل سلوت وقد نأى ... فقلت نعم عن صحة الجسم واللب وقالوا وهل تقضي لبانة عاشق ... فقلت نعم أقضي ولكن به نحبي رعى الله دهراً كان لي فيه مسعداً ... بلقياه ما خمري سوى لفظه العذب ويجمعنا روض به الطير مطرب ... وساقيه نهر فوقه راقص القضب تراه بأنواع الزهور مطرزاً ... كنظم صفي الدين طرز بالكتب وقوله مكاتباً الفقيد أحمد الرقيحي: تبدت فغاب البدر بالأفق واستخفى ... وماست فكاد الجو يسرقها لطفا وأرخت دجى شعر فقلت لصاحبي ... أليلتنا قد أرسلت وارداً وجفا ولاح عليها قرطها وهو خافق ... فبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا حبابية الألمى مدامية اللمى ... يدير الحميا كأس أجفانها الوطفا أغالط فيها واشياً ومفنداً ... لأكتم حبي والصبابة لا تخفى فإن قلت آهاً للعذيب فإنما ... أردت الشنيب العذب لهفاً له لهفا وإن همت في بان الحمى وكثيبه ... فما رمت إلا قدها اللدن والردفا أما وأبيها ما رأتني بخالها ... أخا لوعة إلا زهت وانثنت عطفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1062 ومال بها خمر الشبيبة والصبا ... فصدت ولولا الصد لم تعرف الحتفا أتوردني من طعن عسالها الردى ... وتمنعني من طعم معسولها الرشفا ولولا حلى نظمي وأحمر مدمعي ... لما طوقت جيداً ولا خضبت كفا أرى خدها يا طرف للحسن جامعاً ... فأجري عليه مدمعي أبدا وقفا ويا فرعها قد كنت أصل ضلالتي ... وكم ضل سار في الظلام إذا التفا لئن ضعفت خصراً وجفناً وموثقاً ... فقد زاد ذاك الضعف جسمي به ضعفا نديمي قد بان الفريق وفرقت ... يد البين عن ألف معنى الحشا إلفا فعلل بذكراها فؤادي واسقني ... سلافاً يحاكي شعر شمس الهدى لطفا وقوله مكاتباً بعض خلانه عوفيت من نار أشواقي ومن كلفي ... ماذا تريد بهذا البين من تلفي يا نازح الدار والذكرى تقربه ... أضنيت نازح در الدمع بالذرف ويا حبيباً همى دمعي لفرقته ... والغيث إن تحتجب شمس الضحى يكف سل الدجى هل رآني راقداً وسل العذال هل شهدوني خالي الأسف تركتني ما لسقم في من طمع ... قد صرت للبين ذا روح تردد في كم قلت بعدك للطرف القريح وقد ... رمته يا بدري العذال بالسرف انفق ولا تخش إقلالاً فقد كفلت ... لك الصبابة والأشواق بالخلف يا من إذا قال ظبي البيد يشبهه ... جيداً قضينا لظبي البيد بالخرف مالي ودهم الليلي فيك أسهرها ... تطول عمداً لتضنيني على كلفي والله ما أنصفتني في معاملة ... أحببتها وتجد السعي في تلفي بالله أين ليال باللقا قصرت ... يكاد دمعي بها يا بدر يعثر في تلك الليالي التي يرتاح إن ذكرت ... قلبي الكليم ارتياح المجد بالشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1063 أعني به شرف الدين المعد إذا ... عد الكرام كبسم الله في الصحف وقوله مكاتباً أحد الأئمة الأعلام: لو فتشوا عن قلبي المرهون ... وتحرشوا جمر الغضا المكنون لتيقنوا أني حفظت وضيعوا ... عهد الهوى وابنت خير أمين فعلام قالوا مال عنا وارعوى ... عنا وخان وكان غير خؤون ما ملت لا والله بل مالوا وقد ... شهدت ركائبهم بصدق يميني هزت قدودهم وقالوا للصبا ... هزؤاً أعند البان ميل غصون هل أنكروا ميل الغصون فيطلبوا ... برهان دعوى العاشق المفتون فإذا شرى برق الغوير وبعته ... دمعي رجعت بصفقة المغبون ولفرط أشواقي وشدة لوعتي ... وتهتكي في حبهم وجنوني لا بد لي من أن أقول صدقتم ... والله يعلم حرقتي وأنيني وإذا بكيت على الربا فتضاحكت ... أنفاسها بمباسم النسرين قالوا عيون السحب ترسل دمعها ... والدمع دمعي والعيون عيوني أحبابنا والله ما صنع العدى ... ما تصنعون بقلبي المحزون أيصيبني كيد الأعادي عندكم ... أسفي وإخلاص الهوى من ديني ولشقوتي قد كنت أعتقد الهوى ... هذا الذي أخلصت فيه يقيني لولا هواكم لم أقل جنح الدجى ... والبرق يذكي لوعتي وشجوني يا بارقاً ألقى سناه على الربا ... ولهيبه في قلب كل حزين قف بالحمى الغربي لكن واضعاً ... خداً ومن لي إن وضعت جبيني واسأل بروج الحي عن أقمارها ... وبرغم أنفي إن تراها دوني وبمهجتي البدر الذي لو قسته ... بالشمس لا يرضى ولا يرضيني لم يكفه سهري فعلم طيفه ... ظلماً وقد غضب الكرى يشكوني خذ في التجني كيف شئت تحكماً ... وامطل وإن كنت الملي ديوني لا أستطيع أقول لست بمنصف ... يا بدر إجلالاً لبدر الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1064 الشيخ علي بن أحمد المغربي اليشرطي الشاذلي الترشيحي شيخ الطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة، ولد في بيزرت من أعمال تونس الغرب، سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة. ووالده الحاج أحمد اليشرطي، قيل نسبته إلى بني يشرط قبيلة بالمغرب، قيل إنها تنسب إلى سيدنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قائداً كبيراً للجيش التونسي، ولم يترك ولداً غير المترجم المشار إليه، فالتفت المترجم من صغره إلى الطلب وحضور دروس العلماء والفضلاء إلى أن نال مطلوبه وملك مرغوبه. ثم أخذ الطريقة الشاذلية عن أستاذ العصر، وفرد الدهر، الأستاذ الكبير والعالم الشهير، أبي محمد بن حمزة ظافر المدني، فاشتغل بهمة قوية وسيرة مرضية، ودأب على الذكر في السر والجهر، وكان مقدماً عند الشيخ على الجماعة لما شاهده منه من كمال الانقياد والطاعة، ولم تزل مرتبته تتعالى، وخوارقه في الطريق تتوالى، إلى أن تأهل للإرشاد وارتقى مقامه وساد، وبعد وفاة شيخه وأستاذه وعمدته وملاذه، قصد مكة المكرمة للنسك، وبعد أن أتم حجه وعجه وثجه، توجه لزيارة أشرف إنسان، وأفضل مخلوق من ملك وأنس وجان، وجاور في تلك البلدة الشريفة ذات الرتبة العالية المنيفة، أربع سنوات، وكان يحج في كل عام، بعد التمام يرجع لمدينة خير الأنام، ثم قصد زيارة القدس الشريف، فلما وصل يافا في مركب شراعي تعسر عليه النزول إليها لأن النور كان شديداً غير لطيف، فطلع إلى عكا وكان قد مرض لشدة ما أصابه من الأهوال والعناء، فذهب منها إلى ترشيحا لتبديل الهواء، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وست وستين، وأخذ أمره من ذلك العهد بالانتشار، فقصدته الناس من القرايا والأمصار، وأخذوا عنه الطريق باذلين همتهم في حفظ فلك العهد الوثيق، وف كل يوم يشتهر أمره ويزداد علوه وقدره، إلى أن انتشر الطريق في الآفاق، فلم يدخل الإنسان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1065 البلاد السورية إلى محل إلى ويجد مرشداً منهم قد وقف للترغيب على ساق، وفي حدود سنة ألف ومائتين وثمانين أيام ولاية رشدي باشا الشرواني رأى منهم اجتماعاً منافياً للسياسة العثمانية، فنفاه هو وبعض جماعته إلى الجزيرة القبرصية، ولم يزل بها ثلاثة أعوام إلى أن تداخل في الرجا في إحضاره الأمير عبد القادر الجزائري فاستجلبه إلى الشام، وقد أجرت الحكومة عليه شديد التنبيهات في ترك ما كانوا يفعلونه من الاجتماع وأنه من الممنوعات. ثم عاد إلى عكة ورجع، بعد أن أعطى المواثيق بأنه ترك ما كان عليه ونزع، ثم بعد أن انفصل ذاك الوالي المشار إليه رجع المترجم إلى ما كان من الظهور عليه، إلى أن وجهت الولاية على رشدي باشا وكان قد حصل من جماعته في بعض المحلات أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة، فاستحضر الوالي المترجم تحت الحفظ إلى الشام وأراد نفيه إلى فزان، وقبض على نحو عشرين شخصاً من جماعته المعدومين من خلاصة الإخوان، فبذل الأمير عبد القادر رجاه لحضرة الوالي المرقوم أن يجعله محبوساً في داره، وأن يسمع عن نفيه رحمة لذله وانكساره، فحقق الوالي رجاه لما له عنده من الفضل والجاه، وأما جماعته فإنه نفاهم إلى فزان وأذاقهم بذلك الذل والهوان، ثم إن حضرة الأمير بعد مدة أطلقه من حبسه، وأرجعه إلى محله مشمولاً بسروره وكمال أنسه. وحاصل الكلام في سيرة هذا المترجم المفضال فإنها اختلفت فيه أقوال الرجال، فمنهم من طعن به وزاد، ومنهم من برأه من كل ما يوجب الملام والفساد، وأن الحق يقال ما علمنا عليه سوى ما يوجب الكمال، غير أن بعضاً من جماعته قد خرجوا في الظاهرة عن دائرة الأدب، وتكلموا بما هو لكل ملام سبب، وتركوا في الظاهر كل مأمور، وارتكبوا أقبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1066 الأمور. ثم أن المنفيين إلى فزان أحسنت عليهم الدولة بالإطلاق فرجعوا إلى الشام، ولم يزل بعض أهل هذه لطريقة يفتخرون بمخالفة الشريعة الغراء، وبترك كل مأمور به وبفعل كل ما يوصل فعله إلى كل شقاء، ويقولون بأن الشريعة حجاب، وفعل المنكرات موصل إلى رب الأرباب، فلاطوا بالأبناء وزنوا بالأمهات، وأكلوا الحرام وانهمكوا في المنكرات، واعتقدوا بأنفسهم أنهم صوفية الزمان، وأن من سواهم قد ألبس نفسه ثياب الحرمان، ويفسرون كلام الله ورسوله بكل تفسير فاسد، ويقولون بأن هذا التفسير قد ألقاه إليهم الوارد، فما أعظمها مفسدة في الدين، وما أجسمها فتنة على المسلمين، فيا عباد الله من يقول بأن المنهي عنه طريق الوصول، وهو المرضي عند الله تعالى وعند الرسول؟ وأما المأمور به فهو حجاب، ولا يتمسك به إلا المحجوبون عن طريق الصواب!! فإننا نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد، ونعوذ به مما يوصل إلى كل شر وفساد، ونتمسك بما جاء به النبي الأمين ونقول " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " ثم أن كثيراً من الناس قد شكا هؤلاء الجماعة إلى المترجم، فيقتصر على قوله عظوهم وعرفوهم أن هذا أمر محرم وإذا وعظهم إنسان، يسخرون به ويعدونه من أهل الجهالة والخسران، نسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة والنعمة الوافية، وأن يحفظنا والمسلمين من مخالفة الملة والدين. وفي ليلة الأربعاء التاسع عشر من رمضان المبارك توفي هذا المترجم عام ألف وثلاثمائة وستة عشر رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1067 الشيخ علي بن محمد القناوي المصري الشافعي الخلوتي العالم الفاضل، والحبر البحر الكامل، صاحب الكشوفات والأحوال والثبات في طريق السادة الرجال، والسياحات الطويلة، والإرشادات الجليلة، نشأ في طلب العلوم، إلى أن صار يعتمد عليه في المنطوق والمفهوم، ثم أخذ الطريقة الخلوتية عن العارف بالله شيخ الشيوخ في مصر محمد بن سالم الحفناوي الآخذ لها عن إمام أهل الوجدان السيد مصطفى البكري الصديقي الآخذ لها عن كعبة ذوي العرفان السيد الشيخ عبد الغني النابلسي. وكان المترجم المذكور يكرر التردد إلى زبيد وصنعاء اليمن وفي كل مرة يتلقونه بالإجلال والتكريم والمهابة والتعظيم، ويجتمع عليه في كل ليلة من الخاص والعام، جمعية كبرى مع معاملتهم بالأدب التام، ويدخلون معه في حلقة الذكر، مع اعتقادهم لولايته وإخلاصه في السر والجهر، ولقد اتفق له أنه وصل في بعض وفاداته إلى زبيد وأقام الذكر المذكور على الصفة المذكورة من اجتماع الناس بغاية الخضوع والانقياد والتسليم، وكان عنده من يقف في الحلقة وينشد من كلام القوم بالنغمات الرائعة، والحركات في الصوت الفائقة، بحيث يغيب الإنسان عن شعوره، ولا يفرق بين آصاله وبكوره، بل تأخذه نشأة وجدانية، وغيبة عرفانية، وكان من جملة الحاضرين، رجل من أكابر العلماء المتصوفين، المشغولين بذكر الله، المعرضين عما سواه، فلما حدا الحادي وشدا ذلك الشادي، ولم يكن ذلك الرجل من قبل قد عرف في الذكر طريقة الإنشاد، فحينما سمع ذلك وقع في الأرض يرتعد أشد الارتعاد، ولم يزل يبكي بكاء غزيراً، حتى أحدث له ذلك رعافاً مسترسلاً كثيراً، فكان ذلك سبب انعدامه، وشربه كأس حمامه. قال صاحب التاج المكلل وقد اختلف العلماء في حكم النغم والغناء على أحد عشر قولاً، ومذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1068 الإمام العلامة ابن حزم الظاهري الحل مطلقاً، قال لأن التحريم لا يثبت إلا بنص صحيح صريح ولم أقف عليه، وخالفه الجمهور، والمسألة فيها رسائل مضبوطة مبسوطة من علماء المذاهب. انتهى كلامه ناقلاً عن النفس اليماني. ثم قال: والذي ترجح عند المحققين من أهل الحديث أن الذكر بالصفة المذكورة بدعة وأي بدعة، وفيها من إساءة الأدب مع الله سبحانه والتشبه بالفرق الذين يذكرون الله في معابدهم على نغمات العود والوتر ما لا يقدر قدره، فلم يثبت حديث واحد ولو ضعيفاً في جواز ذكر الله تعالى على هذه الصفة المشار إليها فلا خير فيه ولا أجر عليه، بل هو ضرر محض ووزر صرف، ومنكر واضح. نعم لا دليل على تحريم السماع من السنة فهو باق على أصله من الحل حتى يقول دليل صحيح يدل على حرمته ودونه خرط القتاد، ورحم الله القناوي أي المترجم المذكور فقد اجترأ جرأة عظيمة على فعل الذكر بهذه الصفة من الحادي وإنشاد الأشعار مع كونه من أهل العلم الممتازين، وهذا الصنيع منه دليل على أن الإنسان لا يخلو من عصيان، ولو بلغ من العلم والعمل نهاية الإمكان. هذا وقد نشر هذا المترجم هذه الطريقة على هذه الصفة بأمر شيخه الحفناوي في الآفاق، فدخل خراسان وأطراف الهند والعراقين وصنعاء اليمن وغير ذلك من المحلات، وهو في الجميع متلقى بالإعزاز والإكرام، والقبول والاحترام، وكلامه مقبول، على العيون والرؤوس محمول، وكان حلو العبارة، لطيف الإشارة، لا يفتر في وقت من الأوقات، عن الأخذ بنوع من أنواع العبادات، وكان إذا تكلم في تفسير حديث أو آية قرآنية، يتكلم من الفتح الإلهي والواردات العرفانية، ثم قال: وعندي أن الذكر الإلهي، والفكر القدسي لا يجتمعان مع شيء من البدعة، وإن اجتمعا كان ذلك من تلبيس إبليس، وتدليسه لأهل التدريس، ولهذا قال في النفس اليماني بعد المبالغة في الثناء عليه: وغير خاف أن الفقهاء لا سيما أهل مدينة ذمار ينكرون بعض ما يقع من طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1069 السيد المذكور انتهى. قلت: ولكن الحق معهم في ذلك وإن قيل فيهم ما قيل انتهى كلام صاحب التاج المكلل. أقول: لقد سقط التاج، وتجاوز معتدل المنهاج، إذا كان ما ثبت على قوله حديث واحد ولو ضعيفاً في جواز ذكر الله تعالى على هذه الصفة، فليت شعري أين الحديث المثبت حرمة ذلك ومنعه ألم يدر أن الأصل في الأشياء الإباحة فمن أين له هذا الإنكار، وعلى أي مذهب استند من مذاهب الأئمة الأخيار، والأغرب من ذلك دعواه أن السماع مباح ولكن وقوعه على الذكر ليس من الفلاح، مع أن الذكر من أفضل مطلوب فهل إذا اقترن به الإنشاد المباح خرج عن دائرة المندوب، وإن اجتماع ذلك من تلبيس إبليس وتدليسه لأهل التدريس، مع أن الحرمة لا تثبت إلا بدليل ذي رفعة وهو قد قال بأنه لا دليل على تحريم السماع من السنة فكيف يحكم بحرمته في الأذكار، وعلى كل حال فهو كلام لا يلتفت إليه، ولا يعول أهل الإنصاف عليه، وإن قاله كثير من الناس، الواقعين في غفلة الالتباس، ولو كان هذا المحل يحسن فيه إطالة الكلام، وذكر أدلة المجوزين وإبطال قول المعترضين لقمنا بواجب حق المقام، خصوصاً وقد ملأت هذه المسألة بطون الدفاتر، وقام ببيان حكمها كثير من السادات الأكابر، خصوصاً في كتب الصوفية الفضلاء، ذوي الكشف عن حقائق الأشياء، فالأولى التسليم لذوي الكمال، وعدم التعرض لهم بحال، وإلا فاللائم مطرود، وعن موائد الإكرام مبعود. توفي المترجم المرقوم سنة ألف ومائتين وزيادة لم أقف على تعيينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1070 الشيخ علي بن محمد بن علي الشوكاني ولد يوم عاشوراء من محرم عامة سبعة عشر ومائتين وألف، قال في البدر الطالع: هو حسن الفهم جيد التصور قوي الإدراك. وكان لا يقول بالتقليد، بل يعبد الله بالاجتهاد والأخذ من الدليل من غير تقييد بمذهب إمام مجيد، وله مطالعة في الكتب الحديثية، والسنن المحمدية ولا يميل إلى سواها، ولا يلتفت لما عداها، ومن مؤلفاته: كتاب الدرة الفاخرة، الشاملة سعادة الدنيا والآخرة، وجمع فتاوى والده في مجلدين وسماه الفتح الرباني، في فتاوى الشوكاني، وهو مجموع مشتمل على أبحاث شريفة، ورسائل مجموعة لطيفة، ومسائل مفيدة، ومذاكرات فريدة، تتعلق بالفروع والأصول، من معقول ومنقول مات سنة ألف ومائتين. الشيخ علي بن محمد الشوكاني جد الشيخ علي المتقدم والد والده ترجمه بعضهم فقال: هو والد قاضي القضاة الشيخ محمد بن علي الشوكاني وقد ترجمه في البدر الطالع ترجمة حافلة، حسنة نافعة، وأوصل نسبه الشريف بعد التنقيح الكامل، والتصحيح الشامل، أباً عن جد إلى سيدنا هود عليه السلام. وقال أن الشوكاني نسبة إلى شوكان اسم موضع. وبعدما بسط الكلام في هذا المقام، قال أنه من قرية هجرة شوكان، وهذه الهجرة قرية معمورة بأهل الفضل والصلاح، والدين والفلاح، ولهم عند سلف الأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1071 جلالة عظيمة، ورئاسة في العلوم جسيمة، منهم العلامة حسين بن علي الشوكاني وأحمد بن سعيد الهبل ومحمد بن أحمد الهبل وحسن بن صالح الشوكاني وغيرهم. وقد برع في علم الفقه والفرائض وكان من بقية السلف الصالح في التفسير والحديث، ودرس وأفتى وولاه الإمام المهدي العباس ابن الحسين القضاء بالجهات الخولانية، ثم اعتذر عنه فولاه القضاء بصنعاء. قال في البدر الطالع: ولقد كان رحمه الله من عجائب الزمن، ومن عرفه حق المعرفة تيقن أنه من أولياء الله تعالى. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة. الشيخ علي بن قاسم بن حنش وزير الإمام المهدي قال في التاج المكلل: ولد سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين، وسكن بصنعاء، وهو من نوادر الدهر في جميع أوصافه، وله في العلم حظ وافر، وفي الأدب قدر باهر، وقد رأى نفسه أميراً، وكما رآها فقيراً، تارة في اليفاع، وتارة في أخفض البقاع، ومن محاسن كلامه: الناس على طبقات ثلاث فالطبقة العليا العلماء الأكابر، وهم يعرفون الحق من الباطل، وإن اختلفوا لم ينشأ عن اخلافهم فتنة لعلمهم بما عند بعضهم بعضاً، والطقة السافلة العامة وهم على الفطرة لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به إن كان محقاً كانوا مثله وإن كان مبطلاً كانوا كذلك، والطبقة المتوسطة هي منشأ الشر وأصل الفتن الناشئة في الدين، وهم الذين لم يكبوا على العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة العليا، ولا تركوه حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة، فإنهم إذا رأوا أحداً من أهل الطبقة العليا يقول بقول لا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور، فوقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1072 إليه سهام التقريع، ونسبوه إلى كل قول شنيع، وغيروا فطرة أهل الطبقة السفلى عن قبول الحق بتمويهات باطلة، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق انتهى. قال صاحب التاج: وقد صدق، فإن من تأمل ذلك وجده كذلك مات رحمه الله تعالى عام تسعة عشر ومائتين وألف. السيد علي بن عبد الله بن أحمد جلال الصنعاني قال في التاج: ولد سنة تسع وعشرين ومائة وألف، وقرأ على علماء صنعاء كصحاب البدر التمام والسيد عبد القادر الكوكباني. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: برع في الحديث والتفسير وشارك في الفروع مشاركة قوية وتتبع الأدلة فعمل بها ولم يقلد أحداً، وانتفع به الطلبة في جميع الفنون، وأخذوا عنه جميع العلوم الميسرة للاجتهاد، وفيهم من النبلاء جماعة كثيرون، وهو من محاسن العصر ونوادر الدهر، مكب على العلوم في جميع الأوقات قوي الحفظ سريع الفهم، جعله مولانا الإمام من جملة قضاة صنعاء وعظمه بما يستحقه، بعد أن عرفته بجلالة مقداره وأشرت إليه بتوليته، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1073 دار بيني وبينه مباحثات نافعة ومراجعات جيدة واسعة، ومطارحات أدبية ومذاكرات علمية، وترافقنا في القراءة على شيخنا المغربي في الكشاف وفي شرح بلوغ المرام. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وأربعين انتهى ببعض التصرف. أمير المؤمنين علي بن الإمام المهدي العباس بن المنصور الحسين بن المتوكل خليفة العصر ونتيجة الدهر، تولى إمارة اليمن بالعدل والإنصاف، وسار فيهم سيرة ذوي الكمال والعفاف، وأفرغ عليهم حلة الأمان، ورفع عنهم يد الظلم والطغيان، وترجمه العلامة الشوكاني وأطال بما هو بعض صفات هذا الإمام المفضال، وذكر في ضمنها بأنه بعد وفاة قاضي القضاة يحيى بن صالح السحولي عرض على العلامة الشوكاني تولية القضاء في مكان يحيى المرقوم فقال الشوكاني يذكر عبارة المترجم بنفسها ونص قوله: بينما كنت مشتغلاً بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منزوياً عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائناً من كان، ولم تكن لي رغبة في سوى العلوم، كنت أقرأ للطلبة في اليوم الواحد ثلاثة عشر درساً منها ما هو في التفسير كالكشاف وحواشيه، ومنها ما هو في الأصول كالعضد وحواشيه والغاية وحاشيتها وجمع الجوامع وشرحه، ومنها ما هو في المعاني والبيان كالمطول والمختصر وحواشيهما، ومنها ما هو في النحو كشرح الرضي والمغني، ومنها ما هو في الفقه كالبحر وضوء النهار، ومنها ما هو في الحديث كالصحيحين وغيرهما، مع ما يعرض من تحرير الفتاوى ويمكن من التصنيف، فلم أشعر إلا بطلب من الخليفة بعد وفاة القاضي السحولي بنحو أسبوع، فقصدت مقامه العالي فذكر لي أنه قد ترجح عنده وضعي في مقام المرحوم القاضي السحولي، فاعتذرت إليه بما كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1074 فيه من الاشتغال بالعلم، فقال القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصوات إلى ديوانه العالي في يومي اجتماع الحكام فيه، فقلت له ستقع مني الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله فالخير فيه ففارقته، وما زلت متردداً نحو أسبوع، ولكنه وفد إلي كل من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وإنهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه وأكثروا من هذا، ووجهوا إلي الرسائل المطولة بطلب القبول، فقبلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل استغرقت الدعاوى جميع الأوقات إلا قليلاً، قد أفرغها للنظر في شيء من كتب العلم أو لشيء من التحصيل في تتميم ما كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلاً كبيراً وتكدر الخاطر كدراً كثيراً، ولا سيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاض في خصومة ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي رحمه الله تعالى من أيام الصغر فما بعدها، ولكن شرح الله الصدور وأعان على القيام بحق الأمور. ثم إن الخليفة حفظه الله تعالى ما ترك شيئاً من التعظيم والإجلال إلا وفعله، وكان يجلني إجلالاً عظيماً، وينفذ حكم الشريعة على قرابته وأعوانه بل على نفسه. وفي رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين وألف توفي السلطان المذكور بدار الإسعاد، وقمت إماماً عليه بالناس، ووقعت البيعة لولده مولانا الإمام المتوكل على الله أحمد بن المنصور في الليلة التي مات فيها الإمام، وكنت أول من بايعه، ثم كنت المتولي لأخذ البيعة له من إخوته وأعمامه وسائر أقاربه وجميع أعيان العلماء والرؤساء، وكانت البيعة منهم في أوقات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1075 والله المسؤول أن يجعل فيه للمسلمين صلاحاً وفلاحاً انتهى كلامه. قال صاحب التاج المكلل: إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل سلكنا الله على الطريق المستقيم، وهدانا لما يرضيه إنه هو البر الرحيم. وكانت وفاة المترجم المذكور قريباً من ألف ومائتين وثلاثين. الشيخ علي بن حسين السقطي الدمشقي الصالحي العالم النجيب، والفاضل الأديب، زبدة ذوي الكمال، ونخبة أهل الصدق في الأقوال والأفعال، ولد بصالحية دمشق سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف ونشأ بها، وقرأ على عمه العلامة الشيخ عبد الغني السقطي وعلى والدي المرحوم الشيخ حسن البيطار وعلى الشيخ عبد الرحمن الطيبي وعلى الشيخ سعيد الحلبي وعلى الملا أبو بكر الكردي. وكانت عليه خطابة العمرية والتدريس والإمامة، توفي سنة تسع وثمانين ومائتين وألف ودفن بقاسيون في مقبرة أسلافه. الشيخ علي بن محمد سعيد بن عبد الله بن الحسين بن مرعي بن ناصر الدين الدوري الشافعي البغدادي المعروف بالسويدي ولد سنة سبعين ومائة وألف، وكان رحمه الله شيخ القراء والمحدثين، وإمام العلماء المتورعين، السيد المفضال المتحلي بالأدب والكمال، الصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1076 الرئيس العلامة البارع الناهج منهج سيد كل نبي شارع. انتفع به جل من كان في عصره، واعترف الجميع بسمو مقامه وقدره. أخذ عن الشيخ العجلوني وأخذ هو عنه، وأخذ كذلك عن والده الشيخ محمد سعيد، وعن العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري الكبير، وعن السيد مرتضى الزبيدي. مات رحمه الله سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف. علي بن عبد الرحمن بن علي بن مرعي الطيبي الشافعي الدمشقي ولد بعد المائتين والألف، ونشأ في حجر والده وأخذ عنه ما عنده من العلوم، حتى فاق عليه كما هو مشهور ومعلوم، وتمكن في الآلات خصوصاً في علم الفلك والميقات، والمساحة والحساب والمواريث، والفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1077 والتفسير والتوحيد والتحديث. مات في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة سيدي ارسلان على جادة الطريق. علي بن عثمان الطوالقي من أعمال الجزائر الشريف المشهور، ذو العمل المبرور، والسعي المشكور، والأفعال الحسنة والأحوال المستحسنة، مقدم الطريقة الشافعية الرحمانية للقائم بوظائفها طبق السنة المحمدية، ومربى المريدين على النهج القويم المتين، مع الأعمال الصالحة والأفعال الناجحة، والأطوار المستقيمة والأوراد المستديمة والأذكار المتوالية والرياضات المتتالية، هذا هو الخليفة في الطريق والمرشد الكامل على التحقيق، كيف لا وهو العالم العامل المتصف بأعلى الفضائل والشمائل. ولما كان فرد المعقول والمنقول وأوحد ذوي الفروع والأصول، طلبه إفتاء الناحية الشمالية من دائرة بسكره، لأن يكون مفتياً بها لكمال علمه وإدراكه في فهمه، وسخائه وجوده وشرف آبائه وجدوده، لأنه من سلالة عائلة فضائلهم لا تحصى، وهم من شرفاء الساقية الحمراء في المغرب الأقصى، وكانت ولادته عام ألف ومائتين واثنين وثلاثين. وإنه من حين تمييز التفت إلى جهة الكمال وتأدب بآداب أفراد الرجال، وأخذ عن مشايخ زمانه إلى أن اشتهر في فضله وشأنه، ولم يزل يسمو وقدره ينمو، إلى أن خطبته المنية عام ألف وثلاثمائة وستة عشر عن أربع وثمانين سنة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1078 الشيخ علي بن عمر بن أحمد بن عمر بن ناجي بن قنيش العوني البهي الشافعي المصري الإمام الفاضل الفالح والهمام الناسك الصالح القانع المتجرد والتقي المتعبد. ولد بالمنية إحدى قرى مصر وأول من قدمها جده فنيش، وكان مجذوباً من بني العونه العرب المشهورين بالبحيرة، فتزوج بها. وحفظ المترجم القرآن وقدم الجامع الأزهر وجوده على بعض القراء، واشتغل بالعلم على مشايخ عصره، ونزل طندتا ودرس العلم بالمسجد المجاور للمقام الأحمدي، وانتفع به الطلبة وآل به الأمر إلى أن صار شيخ العلماء هناك، وتعلم غالب من بالبلد علم التجويد منه، وهو فقيه مجود ماهر حسن التقرير جيد الحافظة، يحفظ كثيراً من النقول الغريبة وفيه أنس وتواضع وتقشف وانكسار. وكان كفيف البصر لا البصيرة، وورد مصر أيضاً في المحرم من سنة وفاته، ثم عاد إلى طندتا وتوفي باه في ثاني عشر ربيع الأول، ولم يمرض كثيراً، وذلك سنة أربع ومائتين وألف، ودفن بجانب قبر سيدي مرزوق من أولاد غازي في مقام مبني عليه، رحمه الله تعالى ونفعنا به. الأمير علي بن عبد الله الرومي ثم المصري مولى الأمير أحمد كتخدا صالح الأمير المبجل والنبيه المفضل، قال الجبرتي: اشتراه سيده صغيراً وأقرأه القرآن وبعض متون الفقه، وتعلم الفروسية ورمي السهام، وترقى حتى عمل خازندار عنده، وكان بيته مورداً للأفاضل، فكان يكرمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1079 ويحترمهم ويتعلم منهم العلم، ثم أعتقه وأنزله حاكماً في بعض ضياعه، ثم رقاه إلى أن عمله رئيساً في باب المتفرقة، وتوجه أميراً على طائفته صحبة الخزينة إلى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة، ثم عاد إلى مصر، وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيراً، وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع. وأتقن في رمي النشاب إلى أن صار أستاذاً فيه وانفرد في وقته في صنعة القسي والسهام والدهانات، فلم يلحقه أهل عصره. ثم أن المترجم حصل له ضرر بعينيه فعالجهما كثيراً فلم يفد فصبر واحتسب، ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله ويجيد القسي تركيباً وشداً، ولقد أتاه وهو في هذه المضرة رجل من أهل الروم اسمه حسن فأنزله في بيته وعلمه هذه الصنعة، حتى فاق في زمن قليل أقرانه، وسلم له أهل عصره، وحينئذ طلب منه أن يأذن له فيها، واجتمع أهل الصنعة في منزله لحضور هذا المجلس، فأرسل إلى السيد محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس، وطلب منه أن يكتب له شيئاً يناسب المجلس، فكتب عن لسانه ما نصه: الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وهدى بفيض فضله إلى الطريق الأقوم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأكرم، الناصر لدين الحق بالسيف والسنان المقوم، وعلى آله وصحبه ما رمى مجاهد في سبيل الله سهماً وإلى الجنة تقدم. أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى علي بن عبد الله مولى المرحوم أحمد كتخدا صالح غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، ورحم من مضى من سلفه وجعل البركة في عقبه وخلفه. اعلموا إخواني في الله ورسوله أن كل صنعة لها شيخ وأستاذ وقالوا صنعة بلا أستاذ يدخلها الفساد، وإن صنعة القوس والنشاب بين الأقران والأصحاب على ممر الأحقاب شريفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1080 وطريقة بين السلف والخلف مقبولة منيفة، إذ بها تعمير باب الجهاد، وفتح قلاع أهل الكفر والفساد. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الكتب بإعداد القوة، وفسر ذلك برمي النشاب حيث قال جل ذكره " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " وروى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في تفسير هذه الآية، ألا إن القوة الرمي فكرره ثلاث مرات، وذلك زيادة لبيانه وتفخيماً لشانه، والأمر من الله يقتضي الوجوب، وهو فرض كفاية على المسلمين لنكاية أعداء الدين، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بالقوس وتقلد بالسيف وطعن بالرمح، وكانت عنده ثلاث قسي معقبة تدعى بالروحاء وقوس من شوحط تدعى البيضاء وأخرى تسمى الصفراء، وثبت أن كل شيء يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاثاً، فذكر إحداهن الرمي بالقوس، وفي الأخبار الصحيحة أن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب فيه الخير والرامي به والممد له ومنبله، فارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا. وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نفر من أسلم ينتضلون فقال ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً. وورد في فضل الرمي أحاديث كثيرة، منها في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا وقد عصى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة سلبها. وروى النسائي عن عمرو ابن عقبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1081 في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو متكئ على قوس، وجاء جبريل عليه السلام يوم أحد وهو متقلد قوساً عربياً، ويروى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ قوساً عربياً نفى الله عنه الفقر. والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي الكتب شهيرة. وقد ثبت أن أول من رمى بالقوس العربية آدم عليه السلام نزل جبريل عليه السلام من الجنة وبيده قوس ووتر وسهمان فأعطاها له وعلمه الرمي به، ثم صار إلى إبراهيم عليه السلام ثم صار إلى ولده إسماعيل عليه السلام وإليه ينتهي إسناد شيوخ هذا الفن. ولما كان الأمر كذلك رغبه الرغبون في صنعة القسي واجتهدوا في تركيبها وأبدعوا في إتقان السهام التي يرمى بها، امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإسعافاً لإخوانهم المسلمين من الغزاة والمجاهدين، وكان من بينهم الرجل الكامل الحسن السمت والشمائل، حسن بن عبد الله مولى علي، قد طال اجتهاده في هذه الصنعة من مد القوس وإطلاقها والاختلاس وحمل الأوتار والجلة والكشتوان وفرض سية القوس من سائر أنواعها العربية والمعقبية والواسطية والخراسانية والشامية، وما يتعلق بها من تنجير الخشب وتركيبه، ونشر اللحام وتوقيعه، والتوقيع والحزم والرقع والتنوير والدهان مما عليه عمل الأستاذين من سالف الزمان، فلما رأيت منه هذا الإتقان في صنعته والإذعان بحسن معرفته، والإحكام مع التفقه في سائر الأوقات لأصول صناعته، صدرت مني هذه الإجازة الخاصة له بشهادة الإخوان في هذه الصنعة الشريفة البيان، كما أجازني به الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1082 الصالح الكامل الماهر البارع المرحوم عبد الله أفندي بن محمد البسنوي، بحق أخذه لذلك عن شيخه المرحوم الحاج علي الألباتي، عن شيخه محمد الاسطنبولي، بإسناده المتصل إلى عبد الرحمن الفزاري، والإمام صاحب الاختيار مؤلف الإيضاح المعروف بالطبري، بحق أخذهما عن أئمة هذا الفن المشهورين طاهر البلخي وإسحاق الرفاء وأبي هاشم البارودي، بأسانيدهم المتصلة عن شيخ إلى شيخ إلى أن ينتهي ذلك إلى سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وحسبك من علو سند ينتهي إلى هذا الإمام. وأوصيه كما أوصي إخواني ونفسي المخالطة بالأدب الجميل، وتواضع النفس وحملها على مكارم الأخلاق، وأن لا يرفع نفسه على أحد، وأن لا يحقر أحداً من خلق الله، وأن يجعل دأبه لزوم الصمت والإدمان، والقناعة بالقليل مع المداومة على ذكر الله بالسكينة والوقار، وأن يسمى الله في أول مسكه في صنعته، ويستمد من الله القوة والحول ولا يضجر، ولا ييأس من روح الله، ولا يسب نفسه ولا قوسه ولا سهامه، ولا يحدث نفسه بالعجز فإنه يصل إلى ما وصل إليه غيره فإن الرجال بالهمم، ففي الحديث: " المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " وأن يديم النظر إلى معرفة العيوب العارضة للقسي والسهام وعقد الأوتار، ويتعاهد لذلك وكيفية إزالة العيب إن حدث، وأن لا يبيع سلاح الجهاد لكافر، ويفتش دين من يشتري إن كان رجلاً، أو صبياً فيحتاج ذلك إلى إذن والده، فإذا علم إسلامه ووثق به فيأخذ عليه العهد أن لا يرمي به مسلماً ولا معاهداً، ولا كلباً ولا شيئاً من ذوات الأرواح إلا أن يكون صيداً أو ما يجب به قتله، وأن لا يعلم صنعته إلا لأهله الذي يثق بدينه، فقد روى أن لا يحل منع العلم عن مستحقه ويجب إعطاؤه بحقه، لا سيما إن كان عارفاً بقدر العلم راغباً فيه طالباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1083 لوجه الله تعالى، لا للمباهاة والمفاخرة، ويجب عليه أن يروض تلامذته ويؤلف بينهم ويحرضهم على العمل، ولا يعاتبهم إلا في خلوة، وهو مع ذلك لازم الهيبة كثير السكوت متأن في الأمور غير عجول للجواب، والتقوى أصل كل شيء وهو رأس مال الإنسان. ونختم الكلام بالحمد والثناء للرب المالك المنان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، على آله وصحبه الأعيان انتهى. وسمع المترجم على السيد المرتضى المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد، وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل، وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه، وحديثين مسلسلين بيوم عاشوراء تخريج السيد المذكور. وأشياء أخر ضبطت عند كاتب الأسماء، وأخذ الإجازة من الشيخ إسماعيل بن أبي المواهب الحلبي، وكان عنده كتب نفيسة في كل فن من الفنون، وكان لطيفاً رقيقاً حسن المعاشرة، مات سنة خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى. السيد علي البكري المصري قال الإمام الجبرتي ما ملخصه: كان مجذوباً أقام سنين متجرداً ويمشي في الأسواق عرياناً ويخلط في كلامه، وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته، وكان يحلق لحيته. وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون إلى تخليطاته، ويوجهون ألفاظه ويؤولونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقائعهم. وكان له أخ من ذوي الكمال فحجر عليه في داره ومنعه من الخروج، وألبسه ثياباً ورغب الناس في زيارته، وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1084 فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة، وأتوا إليه بالهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد، وازدحم عليه الخلائق وخصوصاً النساء، فراج بذلك أمر أخيه واتسعت دنياه، ونصبه شبكة لصيده، ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت، وسمن بدن وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة، وقد كان قبل ذلك عرياناً شقياناً تعباناً، غالب لياليه بالجوع طاوياً من غير أكل، بالأزقة في الصيف والشتاء، وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته، وقضاء حاجته، ولا يزال يحدث نفسه ويخلط ألفاظه وكلامه، وتارة يضحك وتارة يشتم، ولا بد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات، فيعدون ذلك كشفاً واطلاعاً على ما في نفوسهم، ولا يبعد أن يكون كذلك لأنه كان من المجاذيب المستغرقين. وسبب نسبتهم إلى البكري أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكريةن ولم يزل هذا حاله حتى توفي سنة سبع ومائتين وألف، واجتمع الناس لجنازته من كل جهة، ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي، وعملوا على قبره مقصورة ومقاماً يقصد للزيارة نفعنا الله بعباده الصالحين. الشي علي بن محمد الأشيولي الشافعي المصري العالم الهمام والفاضل عمدة العلماء الأعلام، حفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم، وحضر الدروس وتفقه على أشياخ الوقت، ولازم الشيخ عيسى البراوي، ومهر في المعقول وأنجب وتصدر ودرس، وانتظم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1085 سلك الفضلاء والنبلاء، وصار له ذكر وشهرة ووجاهة. وحدثته نفسه بمشيخة الأزهر، وكان بيده عدة وظائف وتداريس مثل جامع الآثار والنظامية، ولم يزل حتى تعلل، وتوفي سنة إحدى عشرة ومائتين وألف، انتهى من الجبرتي ملخصاً. الشيخ علي المعروف بالخياط الشافعي الأزهري الشيخ الإمام العمدة الهمام، الفقيه النبيه الفالح. حضر أشياخ الوقت وتفقه على الشيخ عيسى البراوي ولازم دروسه وبه تخرج، واشتهر بالعلم والصلاح، وأقرأ الدروس الفقهية والمعقولية وانتفع به الطلبة، وانقطع للعلم والإفادة. ولما وردت ولاية جده محمد باشا توسون طلب إنساناً معروفاً بالعلم والصلاح، فذكر له الشيخ المترجم، فدعاه إليه وأكرمه وواساه وأحبه وأخذه صحبته إلى الحجاز وتوفي هناك سنة ثماني عشرة ومائتين وألف. الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني الشافعي مذهباً المكي مولداً الإمام العمدة المحقق والهمام النخبة المدقق، والفاضل العامل والزبدة الكامل. وهو ابن أحمد تقي الدين بن السيد تقي الدين، ينتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة البخاري أحد بطون الخزرج وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك ابن عبد الله بن إدريس بن عبد الله بن الحسن الأنور بن سيدنا الحسن السبط رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1086 ولد المترجم بمكة سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين ومائة، فليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتوفي صبح ثالث يوم، فجزع والده لذلك جزعاً شديداً وتشاءم، وعزم على السفر إلى مكة ثانياً، ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة، وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشراء الكتب النافعة واستكتابها، ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة، مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة، وشراء ما يشتري وإرساله لهم، إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريباً من الأستاذ الحنفي، سنة تسع ومائتين. وكان عالماً ماهراً وأديباً ناثراً شاعراً، تخرج على والده وعلى غيره بمكة، وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين، كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم، وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المسكي وعلى الشيخ عبد الله الأتكاوي وغيرهم. وله مؤلفات: منها نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام، ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم، ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج، وله ديوان شعر صغير غالبه جيد وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة، وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم، وولده السيد أحمد بملازمته واستماعه فيما يريد مطالعته، وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين، إلى أن توفي ليلة السابع والعشرين من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، وعمره سبع وثمانون سنة وصلي عليه في الأزهر ودفن بمقبرة أخيه بباب الوزير، وتأسف عليه الناس لكرمه وعلمه وزهده وورعه ولين جانبه ولطافته وكثرة حب الناس له، رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1087 الشيخ علي الحصاوي الشافعي الأزهري نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحصة الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي النبيه، حضر إلى الجامع الأزهر صغيراً وحفظ القرآن والمتون، وحضر دروس الأشياخ ذوي القدر المصون، كالشيخ علي العدوي الشهير بالصعيدي والشيخ عبد الرحمن التحريري الشهير بالمقري ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج، وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث، وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلى في الأصول ومختصر السعد، ويقرأ الدروس ويفيد الطلبة، وكان إنساناً حسناً مهذباً متواضعاً، ولا يرى لنفسه مقاماً، عاش معانقاً للخمول في جهد وقلة من العيش مع العفة وعدم التطلع لغيره، صابراً على مناكدة زوجته، وأصيب بداء الفالج وانقطع بسببه عن الدروس أشهراً، ثم انجلى عنه يسيراً مع سلامة حواسه، وعاد إلى الإقراء والإفادة، ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للناس، إلى أن توفي في شهر جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف. الشيخ علي المعروف بأبي زكريا البولاقي الأزهري الشافعي الورع الفقيه والزاهد النبيه، علم العلماء وراية الفضلاء، كان ملازماً لإقراء الدرس ببولاق، ويأتي إلى الجامع الأزهر في كل يوم يقرأ الدروس ويفيد الطلبة، ويرجع إلى بولاق بعد الظهر. وكان له حمار يركبه، فلما مات حماره صار يأتي ماشياً، ولم يتخلف عن عادته إلى أن تعوض عنه غيره، وكان متواضعاً ذليلاً خاشعاً، لا يرى لنفسه قدراً ولا يترك شيئاً ولا يفعله ترفعاً وكبراً، ناهجاً منهج السنة مربياً لنفسه إلى أن عادت مطمئنة، توفي يوم الخميس ثامن شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1088 الشيخ علي أفندي بن أبي الفضائل الشيخ علي أفندي العمري الفاروق كان عالماً أديباً وشاعراً لبيباً، وفاضلاً إماماً وسيداً هماماً. ولد سنة ثمانين ومائة وألف، قال السيد عبد الباقي أفندي العمري: لما حاولت الاطلاع في أثناء مطالعتي بعد إمعان النظر وأعمال الفكر، بكتاب الروض النضر، في ترجمة أدباء العصر، المنسوب لحضرة عم والدي المرحوم عثمان عصام أفندي الدفتري بن أبي الفضائل علي أفندي العمري، على ما يعجبني فيطربني، فما وقفت على أجمل وأحسن وألطف وأرق وأجزل وأبلغ وأفخم وأدق من هذه المقطوعات العلية الشان، عند أرباب هذا الشان، التي ذكرها في ترجمة صنوه وشقيقه المبرور، علي أفندي سليل المذكور أبي الفضائل، فما ترك بها قولاً لقائل وهي قوله: طرة النهر سرحتها النسائم ... وعلت منبر الغصون الحمائم ساجلتها بلابل الدوح حتى ... شق ورد الربا جيوب الكمائم ما ترى الشرق سل مرهف فجر ... فقد تعرى براحة الأفق قائم وساطا في الظلام حتى تبدى ... فلقاً فالدماء فيه علائم فاختلس فرصة الزمان بروض ... يضحك الزهر من بكاء الغمائم وتنبه لساعة الأنس وانهب ... صفوة العيش واطرح كل لائم واجتلي كأس مبسم من غزال ... بابلي اللحاظ حلو ملائم مائس العطف كلما راح يخطو ... وده الصب فوق جفنيه دائم ذي دلال تمهد الحسن حتى ... قلدته زهر النجوم التمائم نفثت مقلتاه سحراً فأمسى ... كل صب محلول عقد العزائم وعلى غصن قده كم تمنى ... طائر القلب لو غدا فيه حائم جال ماء الجمال في روض خد ... فيه إنسان مقلتي ظل عائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1089 لا تلمني إن سمته بيع روحي ... فعلى كل حالة أنا سائم فسقى الله ملعباً قد تقضى ... حادث الدهر كان لي عنه نائم بعتاب أرق من خد ورد ... نبهت جفنه أيادي النعائم وله قصائد وأشعار، أرق من نسمات الأسحار. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين. السيد علي الخزام بن حسين برهان الدين بن عبد العلام بن عبد الله شهاب الدين المبارك بن السيد محمود الصوفي الصيادي الرفاعي كان رجلاً تقياً صالحاً نقياً، خاشعاً عابداً متواضعاً زاهداً، كريم الطبع علي القدر لين الجانب رحب الصدر، مقبلاً على الطريق إقبال الشفيق على الشفيق. ولد رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، سنة ست وثلاثين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وقد لاحظته عين العناية والعطف، وبعد موت والده علا قدره وعظم أمره بين الناس واعتقدوه وحصل لهم به كل إيناس، وجذبته يد العناية وأكرمه الله بالولاية، ورزقه الكشف والتمكين والقوة واليقين، والتصرف الخارق والسر البارق. توفي رحمه الله سنة سبع وأربعين ومائة وألف ودفن بمقبرة خان شيخون. الشيخ علي بن إبراهيم الإمام الإمام الفاضل والسميدع الكامل، قطب العلوم ومحور المنطوق والمفهوم. قال صاحب التاج المكلل: لا أعلم أنه غضب قط ولا خاصم في شيء منذ عرفته إلى أن مات، وليس له نظير في حفظ الأشعار لأهل الجاهلية والإسلام الأخيار، وكتب من نفائس الكتب بخطه شيئاً كثيراً، وكنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1090 أعجب من سرعة ما يتحصل له من ذلك مع شغله بالتدريس، فسألته في بعض الأيام عن ذلك، فقال إنه لا يترك النسخ يوماً واحداً، وإذا عرض له ما يمنع فعل من النسخ شيئاً يسيراً ولو سطراً واحداً أو سطرين فلزمت قاعدته هذه، فرأيت في ذلك منفعة عظيمة انتهى. مات المترجم المذكور سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ علي بن إبراهيم حفيد صاحب سبل السلام ذكر له الشوكاني ترجمة حسنة وقال: له مصنفات، منها " السر المصون في نكتة الإظهار والإضمار " ولد سنة ألف ومائة وإحدى وأربعين ونشأ من أول أمره على الطاعة والعبادة والتقوى والزهادة، وله في التصوف اليد العالية والمعارف السامية، ودأب على السلوك في أول أمره إلى أن حصل على مطلوبه وحاز على مرغوبه. وكان له في الوعظ أسلوب حسن له في القلوب تأثير يسري على الكبير والصغير. توفي رحمه الله عام ألف ومائتين وثلاثة عشر. القاضي علي بن أحمد بن عطية من علماء الذمار قال صاحب التاج المكلل: ولد عام ألف ومائتين وثمانية. قال العلامة الشوكاني: له ميل إلى العمل بالأدلة وفهم ثاقب وإدراك تام. مات في ذمار سنة ألف ومائتين واثنتين وخمسين. الشيخ علي بن إسماعيل فهمي عالم عامل وزاهد فاضل، قال صاحب التاج: كان من علماء صنعاء من تلامذة أحمد قاطن وغيره، بارع الذكاء فائق بين النبلاء، جيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1091 الإدراك حسن الأخلاق، كريم الصحبة. كان له معرفة تامة بغرائب المسائل. قال الشوكاني: وكان مجتهداً يميل إلى الدليل، ولا يعمل إلا بمقتضى السنة والتنزيل. مات سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين. السيد علي بن إسماعيل من نسل الإمام المتوكل على الله كان من أكابر العلماء وأحاسن الفضلاء، قال الشوكاني: وفد إلى صنعاء وسمع مني رسالتي المسماة " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وكذلك حضر معنا في قراءة مؤلفي المسمى " إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر " وكتب المؤلفين بخطه، وبالجملة فقد دار بيني وبينه من المساجلات الأدبية والمكاتبات الشعرية، ما يكثر سرد بعضه، وقد رقمت بعض ذلك في مجموع شعري، مات سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين رحمه الله تعالى. الشيخ علي خضري الدمشقي كان من الأولياء الصالحين وأهل الكرامات الناجحين، وللناس به اعتقاد جميل وكانوا يحلونه لمحبته كل محل جليل، ولد بقرب الألف والمائتين، ونشأ على أحسن حال وأتم منوال، تسعى الناس إليه ويتبركون بلثم يديه، وكثيراً ما يتكلم بالكلام، وكل من كان حاضراً يحمل كلامه على ما قصده من مصلحته ورام، وربما أن سألوه أجاب ولم يخطئ الواقع والصواب، ولم يزل مقبولاً معروفاً لا مجهولاً، مقصوداً في قضاء المآرب من كل ناحية وجانب، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين وستين تقريباً، ودفن في زاويته المعروفة به على جادة طريق سويقة ساروجا، وقبره بها مشهور معروف والتبرك به كثير مألوف، مقصود للزيارة رحمه الله رحمة واسعة على ممر الأوقات والساعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1092 الشيخ علي أفندي الحسبي ولد سنة ألف ومائة وخمس وخمسين، ونشأ ناهجاً منهج الكمال إلى أن بلغ أوج الاعتدال، وكان عالماً لطيفاً فاضلاً شريفاً، من أكابر الأعيان ذوي القدر والشان. مات رحمه الله سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة الدحداح وكتب على قبره: حسب الحسيبي الانتماء لمن غدا ... يغدو شفيع المنتمي والأجنبي لا سيما وهو السمي لجده ... صنو النبي الهادي علي المنصب بوفاته وافته رحمة ربه ... وحباه مولاه الرضى مع من حبى مذ للبقاء الداعي دعاه مؤرخاً ... جنات عدن قد زهت بابن النبي الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري قال الجبرتي: الإمام العلامة الفقيه، النحوي الأصولي الجدلي، النحرير الفصيح المتقن المتفنن حضر شيوخ العصر، ولازم الشيخ الملوي والجوهري، وكان معيد الدروس الأخير وبه تخرج، وكان يقرأ الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة، إلا أن كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب أيامه، ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان، ويطلبها وإن قلت، وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1093 وله منظومة في الفقه، ومنظومة في المنطق، ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى، ومنظومة في العروض، ومنظومة في البيان، ومنظومة في الطب، وله لاميتان على محاكاة لامية ابن الوردي كبرى وصغرى، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية. توفي في أواخر شعبان سنة سبع ومائتين وألف. الشيخ علي الحصاوي الشافعي المصري الأزهري الفقيه الفريد والعلامة المفيد، كريم الأوصاف جميل الإنصاف، حسن الشمائل المعروف بالفضائل، مفيد الطلبة بالفقه والمعقول ومقيد أركان الفروع والأصول، مع شهادة الشيوخ بفضله، ووثوقهم بعلمه ونقله، وكان على طريقة المتقدمين في الانقطاع للإفادة والاستفادة مع التقشف وعدم الرفاهية والرضى بما وجد من غير زيادة، وتمرض بالحمى ولم ينقطع عن ملازمة الدروس، حتى توفي في منتصف جمادى الثانية سنة خمس وعشرين ومائتين وألف وصلي عليه في الأزهر، ودفن في تربة المجاورين في الصحراء رحمه الله تعالى. الشيخ علي بن محمد بن أحمد بن علي الديركوشي الشافعي العالم الإمام والفقيه الفرضي الورع التقي الصالح الكامل، ولد بديركوش قرية من أعمال حلب عام ستة وثلاثين ومائة وألف، وقرأ على والده وعلى الشهاب أحمد بن محمد بن الحسن الديركوشي المفتي، وتفقه وأحسن الأخذ، وأفتى بديركوش وراجعه أهاليها بأمورهم، وكان صالحاً أديباً ديناً قليل المعاش قانعاً بما يحصل له من زراعته، راضياً بالكفاف والراحة، له تعشق بالعلم والعمل والمطالعة والإفادة والاستفادة، وكان ممن أخذ عنه العالم الفاضل محمد خليل أفندي المرادي سنة خمس ومائتين وألف كما نقلت ذلك من خطه، ولم يزل على ترقيه إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ودفن في محلته رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1094 الشيخ علي أفندي الشافعي بن الشيخ محمد سعيد بن أبي البركات الشيخ عبد الله السويدي البغدادي قطب مدار العلماء في زمانه وعمدة السادة الفضلاء في وقته وأوانه، خادم السنة والكتاب مع تقوى وزهادة وخضوع وخشوع وعبادة، وجود وسخاء وكرم واتصاف بمعالي الشيم. قال صاحب جلاء العينين قال في النزهة من ترجمة طويلة ما نصه: وكان لأهل السنة برهاناً وللعلماء المحدثين سلطاناً، ما رأيت أكثر منه حفظاً ولا أعذب منه لفظاً ولا أحسن منه وعظاً، ولا أفصح منه لساناً ولا أوضح منه بياناً، ولا أكمل منه وقاراً ولا آمن منه جاراً، ولا أكثر منه حلماً ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علماً، ولا أغرب منه عقلاً ولا أوفر منه في فنه فضلاً، ولا ألين منه جانباً ولا آنس منه صاحباً. اختارت روحه وهو في دمشق الشام من الملأ الأعلى فريقاً، وهو يقرأ قوله تعالى " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " وجاء تاريخ وفاته: - أسكنه الله تعالى أعلا جنانه -: " إن المدارس تبكي عند فقد علي " انتهى، وذلك سنة الألف والمائتين والسابعة والثلاثين في السابع والعشرين من رجب الأصم، أحله الله تعالى دار النعيم الأتم. وله تأليفات مفيدة ورسائل عديدة، ومن أجلها كتاب " العقد الثمين في بيان مسائل الدين " وقد شرحه ولده الفهامة محمد الأمين، أسكنه الله في جنته وأسبغ عليه سوابغ نعمته، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1095 السيد علي خزام بن السيد خزام ببن السيد الكبير الشيخ علي الخزام بن السيد حسين برهان الدين الخزامي الصيادي الرفاعي الخالدي قد ترجمه السيد أبو الهدى أفندي الصيادي في تنوير الأبصار فقال: ولد عام ستة وثمانين ومائة وألف، وأمه من بني العابد، وهم عائلة لهم نسب صحيح للسيد محمد أبي عابد الخابوري الحسيني رضي الله عنه، وهو صاحب المرقد العامر بدير الخابور، وأصل عشيرة آل العابد بحران الرها، يقال لهم عبادده معروفون بصحة النسب للإمام زين العابدين رضي الله عنه، ويقال لما ولد السيد علي كان عمر أبيه إحدى وعشرين سنة، فكان بعد أن كبر إذا مشى مع أبيه يظن أنه أخوه. نشأ ببني خالد ربيب الكرم والتقوى، ورضيع الصدق والطريق الأسوى، بيته منهل الواردين ومرجع الوافدين: لا عيب فيه سوى السخا وطباعه ... بذل الوجود كسائر الموجود لم يبغ غير الله في أعماله ... وكذا طباع الآل أهل الجود وقد اشتهر في قبيلتنا وثبت عند فصيلتنا، أن من ضاع له شيء وأكل من زاد المترجم بالنية، يرد الله عليه ضائعه، والسارق إذا أكل من طعامه وذهب لشغله لا يتيسر له سرقة شيء بإذن الله تعالى. ولما بلغ الأربعين داوم على صيام الأشهر الحرم وست شوال، إلى أن توفاه الله تعالى. تزوج بامرأتين الأولى خالدية والثانية عبادية من أخوال آل العابد. مات المترجم المرقوم سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، رحمه الله تعالى ودفن بمقبرة خان شيخون عند أقاربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1096 السيد علي بن السيد خير الله الصيادي شيخ المشايخ بحلب الشهباء رحمة الله عليه قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار فقال: شيخنا الكامل الفاضل الصالح الناجح، الحسيب النسيب الشريف الغطريف، ابن عمنا وأحد أعيان بيتنا رفيع المنزلة مقبول الجاه، وهو السيد علي بن السيد خير الله بن السيد محمد بن السيد خير الله المتصل النسيب بسيد من رقي أعلى الرتب. ولد رحمه الله تعالى بحلب ونشأ بحجر والده، رضيع ثدي الولاية ربيب مهد السيادة والعناية، ولا زالت تحفه الوقاية الربانية وتشمله الأنظار المحمدية، حتى كبر وأحرز مشيخة المشايخ بعد أخيه السيد رحمه الله تعالى، وظهر واشتهر وعلا شانه وقدمه أقرانه، وطاب قلبه وعذب لسانه، وحسنت إشاراته وتواترت بالديار الحلبية كراماته. كان جمالي المشرب جلالي الجناب، رفيع المكانة، رقيق الطبع سليم القلب، مبارك المال، جليل المقام، له أحوال قدسية ومحاضرات أنسية، وكلمات شريفة ونكات لطيفة، وسريرة عامرة وسيرة زكية طاهرة. يسر الله توبة كثير من العصاة على يديه، وقاد قلوب العامة والخاصة إليه. وروى له الجم الغفير الكرامات الكثيرة، " منها " أن رجلاً معروفاً من أهل حلب رد شفاعته في نازلة وأغلظ الجواب، فخرج من مجلسه مغير الخاطر فقبل أن يصل المترجم قدس الله روحه إلى بيته، ألم بالرجل ماغص عظيم، فما مضى ذلك اليوم إلا وتوفاه الله تعالى. وهذه قصة متواترة في الشهباء أشهر من أن ينبه عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1097 " ومنها " أنه صب ماء في قنديل نفد زيته فأضاء إلى الصباح بإذن الله تعالى. " ومنها " أن رجلاً من ذوي البيوت يقال له عبد الكريم، مازح المترجم بكلمة أخذ منها شيئاً من نفسه، فقام من المجلس ولم يشعر أحد أنه اغبر خاطره، ففي الحال أصابت الحمى عبد الكريم المومى إليه، فعالج نفسه بالأدوية مدة فما أفاد، فألهمه الله تعالى بعد تلك المدة أن اغبرار خاطر صاحب الترجمة هو السبب فيما ألم به، فذهب لحضرته المباركة وقبل يديه وسأله العفو، وذكر له القصة فعفا عنه، وأمر له بماء فشربه، وانصرفت عنه الحمى ليومها بقدرة الله سبحانه وتعالى. " ومنها " أنه كان خارج داره ورجع ليلاً وخادمه أمامه بيده القنديل، فوجدا عند الباب شخصاً من الجن وصل رأسه إلى قرب حائط الدار ارتفاعاً، فخاف الخادم خوفاً شديداً، فقال له لا تخف وأخذ القنديل وضرب به الشخص، فسقط، وفي الصباح جاء أتباعه فوجدوا رماداً أمام الباب، فعرفوه أنه الجني. وهذه من غرر كراماته، وكراماته كثيرة لا تعد. لبس الخرقة من أبيه العارف بالله السيد خير الله الثاني، وسند خرقتهم معروف، وقد أخذ منه الإجازة بالطريق السيد أبو الهدى أفندي صاحب " تنوير الأبصار " توفي السيد المترجم قدس الله روحه بحلب سنة تسع وثمانين ومائتين وألف، ودفن بزاويته المباركة التي أنشأها بمحلة يانقوسا، وقد أرخه الكثير من الفضلاء منهم الحاج مصطفى الأنطاكي الحلبي وبيت التاريخ قوله: ولدى زيارتنا له أرخ نرى ... نور الرفاعي من مقام علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1098 الشيخ علي الخاتمي الأدلبي الشاعر المشهور أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ونظامه ببلاغة قس وفصاحة سحبان، وأريب جرت في بحوره سفن الأذهان فلم تدرك قراره، وعجزت أفكار النظراء والبلغاء عن أن يدركوا تياره، فلا ريب أنه الفصيح الذي إن تكلم أجزل وأجز، وأسكت كل ذي لسان ببلاغته وأعجز، ما برز في موطن شعر إلا وكان فارس ميدانه، ولا في محفل إنشاء نثر إلا وكان المشار إليه في بديعه وبيانه، فهو للأدب حدقة الإنسان ومن رآه علم أنه ليس الخبر كالعيان، كيف لا وهو الفريد الذي تلألأت بمعاني بيانه السطور والطروس، واهتزت لبديع براعته وعبارته الأعطاف والرؤوس. ولد سنة ألف ومائتين وست عشرة. وكان جواداً كريماً، مهاباً بين الناس عظيماً، جميل المعاملة والإحسان، كثير التودد للأحباب والإخوان. ومن نظمه هذا الموشح، الذي تردى بكل جمال وبكل حسن توشح، وهو: طالع الإسعاد باد عندما ... ضم شمس الحسن برج الأطلس وجلا صبح جبين أنجما ... فوق بدر تحت فرع حندس دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1099 راحة الأرواح في أيدي الصباح ... قهوة الراح كأقداح الصبوح في رياض باغتباق واصطباح ... للشجي راح وريحان وروح هاتها بكراً إذا ما الفجر لاح ... عتقت في دنها من قبل نوح بنت شمس زوجت ماء السما ... ولدت منه الجواري الكنس فانتشائي كان منهما مغنما ... وبذكراها نديمي مؤنسي دور حي من صافي الحميا يا نديم ... وامل بدر الكأس من شمس المدام وانشد الألحان بالصوت الرخيم ... واترك العذال تهذى بالملام إنها العيش الرغيد المستقيم ... غادة تمحي شموساً في الظلام مزجها الصهباء من عذب اللما ... تنهل الصب حياة الأنفس فابسطن للجيد منها معصما ... عندما تسهو عيون الحرس دور والثمن أنفاس عطر يستطاب ... من خديد خاله المسكي طيب وتنزه ناظراً تحت النقاب ... جنة تزهو على رغم الرقيب واغتنم وقتاً من الهجران تاب ... حبذا وقت إلى الوصل منيب واغتباق الغيد فيه خيما ... في ربا ضم القدور الميس نم هنيئاً في حراس حيثما ... حاجب الهيفاء رام عن قسى دور لذ في العذراء لي خلع العذار ... واطراحي في خبا ذات الخدور منشدي في الحان ألحان الهزار ... في رياض نجمها زهو الزهور وردها يروي حديث الاحمرار ... عن شقيق الخد عن بسم الثغور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1100 طرف حور العين أمسى مغرما ... في رباها في عيون النرجس عنبرت نفح الشذا بل إنما ... عطرت من عرف عطر النفس وله أيضاً رحمه الله، وحباه في دار الرضوان مرامه ومناه. حتى م يا ظبي الكناس ... احنو إليك وأنت ناسي أغريت بي سقم الجفو ... ن فحل منى كل آس ونسيت عهداً لم أكن ... أبداً له وأبيك ناسي مولاي لا تمتد في ... هجري فقد عجز المواسي مرني فأمرك بالذي ... تهوى على عيني وراسي هذي الرياض قد انجلت ... في حلتي ورد وآس فاجل المدام أخا الهلا ... ل وحيني منها بكاس واستنطق الوتر الرخيم عن الفؤاد وما يقاسي وله أيضاً: يا صاحبي عج بالمطي على الحمى ... فعسى تلوح لناظري شموسه فهناك يستملي ابن مقلة فضة ... مني فيكتب والخدود طروسه وأريك شوقاً لو يقاس بغيره ... بتوقد الجمرات كنت تقيسه بان الخليط فلا تسل عن حالتي ... ما حال من قد بان عنه أنيسه ودعته ورجعت عنه كأنني ... ذو نشوة دارت علي كؤوسه لم أنس إذ غنى له الحادي ضحى ... وتراقصت تحت الهوادج عيسه ورمى ابن عم الظبي لي بإشارة ... أخذ الفؤاد بها فهاج رسيسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1101 وله: يا وردة من فوق بانه ... سر الأحبة من أبانه؟ أخفيته جهدي وقد ... علقت في قلبي مكانه وكتمت أمر صبابتي ... وسدلت أستار الصيانه ما كنت أحسب أن يكو ... ن الدمع يوماً ترجمانه لولا وضوح الأمر ما ... أغرى بنا الواشي لسانه ولوى عنانك عن شج ... شوقاً إليك لوى عنانه يا ظبية البان الذي ... عند القلوب لها مكانه قد أسكرتني مقلتا ... ك كأن في الخمار حانه وكرعت من ماء الصبا ... ففضحت لين الخيزرانه أجريت ذكرك بالحمى ... وقد اجتلى طرفي جنانه فلوى القضيب معاطفاً ... نظم الندى فيها جمانه واحمر خد شقيقها ... وافتر ثغر الأقحوانه وله: قد نضى طرفه الكحيل حسامه ... فسل الله يا فؤادي السلامه فاتك قد سطا بألحاظ ريم ... بلغته من القلوب مرامه ناقض للعهود ليس يراعي ... ذمة للذي يراعي ذمامه قد تعشقته بديع جمال ... يملأ العين بهجة ووسامه ما تذكرت عيشه الغض إلا ... أهطلت أدمعي عليه غمامه يا نسيماً من عنبر اللطف أهدى ... طيب أنفاسه إلينا شمامه هي عني أقاح تلك الروابي ... ثم قبل ثغوره البسامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1102 وألو عطف القضيب نحو أخيه ... ليطيل اعتناقه والتثامه واقتطف من حديقة الحسن ورداً ... نقطت فوقه من المسك شامه وارتشف من خلال تلك الروابي ... قاطر الشهد قطرته مدامه واعتنق في منمنم البرد خوطا ... رنحت خمرة الشباب قوامه ثم لاعب له ذؤابة شعر ... قد تدلت فقبلت أقدامه وله: يا زورة سمح الخيا ... ل بها فبات معانقي خاض الدجنة طارقاً ... أكرم به من طارق وأتم ساحة عاشق ... في جنح ليل غاسق وأتى يجدد بالصبا ... بة عهد صب شائق فجرت لطائف بين معشوق هناك وعاشق وخلالها قبل تلذ ورشف ريق رائق وسألت ذاك الريم عن ... سبب الصدود السابق فانهل منه ما يريك الطل فوق شقائق وافتر لي ياقوته ... عنه لؤلؤ متناسق وصفا هنالك مورد ... بين العذيب وبارق وله: بروحي ساق قد جلا تحت فرعه ... جبيناً كبدر التم عند شروقه سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى ... فأسكرني أضعاف سكر رحيقه وقال افترع بكر الأماني تغزلاً ... فلي منظر يهديك نحو طريقه فوجهي مثل الروض باكره الحيا ... جني أقاحيه وغض شقيقه وإن أشبه التفاح خدي حمرة ... فلي نونة تحكي مناط عروقه النونة طابع الحسن ويسمى أيضاً جب يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1103 وله: رشق الفؤاد بأسهم لا تخطه ... ريم يشوق الريم مهوى قرطه من ذا عذيري من هوى متلاعب ... قد راح يمزج لي رضاه بسخطه أعطيته قلبي وقلت يصونه ... فأضاعه يا ليتني لم أعطه وثناه عن محض المحبة رهطه ... فعناء قلبي في الهوى من رهطه وقد اشترطنا أن ندوم على الوفا ... ما كنت أحسبه يخل بشرطه كيف الخلاص ركب بحراً من هوى ... شوقاً إليه فشط بي عن شطه علقته ريان من ماء الصبا ... كالروض أخضله الغمام بنقطه غض الشباب وهذه وجناته ... قد كاد يقطر ماؤها من فرطه يجلو عليك صحائفاً وردية ... رقم الجمال بها بدائع خطه وتريك هاتيك المعاطف بانة ... تهتز ليناً في منمنم مرطه وتخامر الألباب منه فكاهة ... تلهي حليف الكأس عن اسفنطه لو بت أستملي لطائفه التي ... ضاهت برونقها جواهر سمطه لدهشت إعجاباً بلؤلؤ لفظه ... ومددت كفك طامعاً في لقطه وله: لا تكن ويك طامعاً في سلوي ... فالهوى قد نما أشد نمو شفني ذلك الشويدن حباً ... ورماني بسهم ذاك الرنو قمر في ابتدائه تم حسناً ... وسما في الكمال أوفى سمو وقضيب غض النبات رطيب ... عل من خمرة الشباب وروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1104 حبه خط في فؤادي سطراً ... أمد الدهر ليس بالممحو يمزج الصد بالوصال دلالاً ... فترى منه قسوة في حنو وهواه ما زال يوري لهيباً ... بين جنبي ما له من خبو يا سقى الله عهدنا في ليال ... قد جنينا بها ثمار الدنو جمعت شملنا بكأس سلاف ... هي أصفى من دمعة الممحو كلما قلت يا بن ودي خذها ... قال لي هات يا عدو عدوي وفي سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين امتدح المترجم متسلم حمص محمد آغا خير الله، وكان رجلاً كريماً حسن السيرة جميل الشهرة، إلا أنه لم يجازه عليها، فبحسب التقدير لم يمض على ذلك مدة حتى قتل الممدوح في شوارع البلد، وأما المادح فإنه قد تمرض وتحول فمه والعياذ بالله تعالى. وهذه القصيدة التي مدح بها الممدوح المرقوم أعلاه مضاهياً بها بانت سعاد لكعب بن زهير الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه: أسيف لحظيك تجلوه الصياقيل ... أم مشرفي ابن خير الله مسلول منه رأينا لديك الأسد صاغرة ... منهم حلا لك بعد العز تذليل لله ريم بدا من ليل طرته ... بدر تلالا به بشرى وتهليل حكى الغزالة منه الالتفات حكت ... منه المحيا سناماً فيه تأفيل كم من كمي له ما بين معترك ال ... أحداق والقلب متبول ومبتول ما السحر والخمر بالألباب أفتك من ... فنان طرف به هاروت مشغول فرح معافى سليم القلب من حرق ... والجفن من قرح فالحب قتيل ولا تعرض إذا هز القوام رشا ... من شك أحشاءه الخطي مقتول ودم خلياً وإن تعشق فدم هدفاً ... لناقد فسهام الطرف مرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1105 إليك نصحي ولكن من وعاه فبا ... م لإنعام يزدان عندي فيه تمثيل بآية النور من صبح الجبين إلى ... رب المحاسن لي بالليل تبتيل إلى أن قال متخلصاً إلى المدح: كأنه موج هندي يهز به ... محمد ودجى الهيجاء مسدول لعضبه ومض برق والغبار حكى ... مزناً وقطر دم العاصين مهطول يلقى الكماة ابن خير الله يتركهم ... بلها ولب عميد الجيش مذهول بغير درع يلاقي الدارعي ولا ... تهوله بعواليها الجحافيل فصاله فصل الأكباد فيه وما ... ردت مضاربه تلك السرابيل عليه ما شق أن يلقى الألوف به ... وشق قلب خميس فهو مغلول بالبيض صلت ظباه عندما ركعت ... فأسجدت هامها الشم البهاليل فيهم يذكرنا أقوام أبرهة ... لما رمتهم مراميها الأبابيل صدورهم في لظى من نار لهزمة ... من حرها فلهم بالويل تعويل برد وسمر القنا جمر وقائعه ... سود لها في بياض الطرس تسجيل بهامهم أسمرت لما استقت بدم ... فهامهم لعواليه أكاليل كأن عنتر يعني في مقالته ... هذا الأمير ما في الصدق تأميل له النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللفرسان ما نيلوا إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة ولولا سآمة خطها المنقول عنه مع تحريفها لنقلتها بتمامها وكمالها هذا وإني لم أقف على تاريخ موت المترجم رحمه الله تعالى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1106 السيد الحاج عمر لطفي أفندي بن الحاج محمد أفندي بن الحاج عمر أفندي بن الحاج علي أفندي، شيخ الإسلام ومفتي السادة الأنام، أدام الله وجوده وأغدق عليه أنعامه وجوده. فهو قمر رفعة قد طلع في أفق الشريعة بدرا، وقطب مدار ملة قد اجتبته أن يكون لها هامة وصدرا، وسماء فضل إشراق نجومها بالهداية موصوف، وشمس عدل لا يعتري سناها مدى الدهر كسوف، قد تحلى به جيد الأبد فكان له عقد انتظام، وتجلى على كرة الأمد فكان لها غاية المرام، أورق عوده في رباض دار السعادة وأزهر، وارتقت سعوده في سماء السيادة فأشرق نجمها وأزهر: لما بدا خفيت له شمس الضحى ... في ثوب غيم ترتديه وتكتسي نطقت فضائله فأخرس دونها ... نطق الفصيح وحار فكر الكيس ولد هذا السيد الهمام، وكانت ولادته لهذا الدهر بمنزلة شهر رمضان إذا ظهرت به ليلة القدر: بمولده طاب الزمان وأهله ... ولا ريب قرت مقلة المجد والعدل وذلك في سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين أطال الله بقاه وأدامه نعمة للعالمين. وكانت ولادته الشريفة في قرية صنديمة " قري من قرى بودروم " لا زالت عين العناية ترعاه بما يقضي له بالقدر الموسوم. وإن جده الأعلى كان قد هاجر من أغريبوز من بلاد المورة، إلى بودروم المعلومة المشهورة، فصارت نسبتهم إليها بين الناس مذكورة. ثم أن المترجم حفظه الله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1107 من أحفاد القابودان الأسبق المرحوم سليمان باشا المعظم، وإن والدته هي المصونة فاطمة خانم بنت الحاج عمر أفندي المفتي المكرم. فلم تزل التربية في حجور السمو ترقيه ترقية الذهب الإبريز، وتربيه تربية النمو إلى أن زكا إدراكه وبلغ سن التمييز، فنهج على قدم الهمة منهج التقديم، وقرأ على شيخه محمود أفندي كتاب الله العظيم، ثم حضر على الحاج علي أفندي العلائيه لي، مقداراً من علم الصرف، باذلاً همته في الطلب حتى كأنه لم يغمض له خوف التقصير طرف: تكهل في علم العلا وهو يافع ... وجاز بلوغ الرشد وهو رشيد وأفصح عن فصل الخطاب بمنطق ... لديه لبيد ضارع وبليد وفي آخر سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين غرة رجب، قدم به المرحوم والده إلى دار السعادة لأجل التحصيل والطلب، فوضعه في مدرسة الطب من مدارس حضرة المرحوم السلطان سليمان، عليه أكمل الرحمة وأتم الرضوان، عند خاله أبي بكر أفندي عليه رحمة المعيد المبدي، ثم رجع والده إلى دار إقامته وترك المترجم في دار السعادة ليفوز بسعادته، ففي السنة المذكور في غرة شوال، ابتدأ في قراءة الصرف وعلم الحال، على الحاج مصطفى أفندي القسطموني الهمام، وكان في كل فن إماماً وأي إمام! فاستعمل لعظيم المجد همته الكبرى، وأدرك في جده واجتهاده الأنجم الزهرا: ومن يسعى إلى طلب المعالي ... فلا عجب إذا ركب البحارا وفي سنة ألف ومائتين وأربع وستين، من هجرة رسول الأنبياء ونبي المرسلين، أيام شيخه شيخ الإسلام وعمدة السادة وإمام الأنام، حبر الأفاضل وبحر الفضائل، عارف حكمت بك قد فتح للتلامذة باب الامتحان، في مدرسة مولانا المرحوم السلطان بايزيد خان، فكان له في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1108 الامتحان المقام الأول، وفي الامتحان العسكري كان له المحل الأرقى الذي عليه المعول، ولا زال مجتهداً في تحصيل العلوم، مكباً على أسباب التوصل إلى دقائق المنطوق والمفهوم. وفي عام ألف ومائتين وستة وستين حصل امتحان الرؤوس الهمايوني وكان هذا الهمام، من جملة مائة وخمسة عشر عالماً من العلماء الكرام، فكان له من بينهم الفضل الأعلى والقدر الأتم الأجل الأجلى، والجواب الصائب السديد والرأي الفائق الرشيد، مع لطيف خلق يسعى اللطف لينضم إليه، وشريف صدق يقف الكمال متحيراً لديه، وجميل طبع أرق من نسيم الصبا في الصباح، وأعذب من مذاق الظفر على مناهل النجاح: همام جد في طلب المعالي ... ونال من العلا جل الأماني فبدر علاه مكتمل منير ... وشمس نداه دائمة التداني فدام ممتعاً بدوام عز ... وإنعام على طول الزمان وفي شوال من السنة المذكورة، تعين في سنجاق سيروز مأموراً للامتحان في أخذ العساكر المنصورة. وفي سنة ألف ومائتين وسبع وستين قرأ علم الصرف لجم غفير في جامع المرحوم السلطان بايزيد خان ذي المقام الشهير. وفي سنة تسع وستين دخل في سلك المأمورين في الفتوى خانه الجليلة. وفي أربع وسبعين تعين نائباً في محكمة الغلطة الجميلة، فاحتاط غاية الاحتياط وعن كل مخالف تحاشى، وفي سنة ثمان وسبعين تعين نائباً في محكمة المرحوم داود باشا. وفي زمان المرحوم حسام الدين أفندي شيخ الإسلام، تعين نائباً في محكمة جلبي أفندي فأجرى الأحكام على أوفق مرام. وفي أثناء ذلك تعين مقرراً في الدرس الذي يقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1109 في حضور الحضرة السلطانية، وقد نال في قراءته الخط الوافر وتمام الالتفات من الذات الشاهانية. وصدرت الإرادة بتعيينه مفتياً في المجلس العسكري في الطوبخانة العامرة وترفيع رؤوسه إلى حركة التمشي المعروفة الباهرة. وعند رجوع الشهيد المرحوم حضرة السلطان عبد العزيز خان من سياحته الأورباوية، عينه أستاذاً لابنه يوسف عز الدين أفندي ولمن معه من أشبال الذات الشاهانية. وبعد سنتين أحسن إليه بباية أدرنه وحاز من الالتفات الزيادة. ونظراً لمحظوظية الذات الشاهانية من درسه أحسن إليه بخمسة وعشرين ألفاً غير العطية المعتادة. وبعد ثلاث سنين ونصف من إفتائه في الطوبخانة تعين مفتياً في دار الشورى العسكرية، وبقي في الشورى أربع سنين مع مشيخة أولاد الذات السلطانية، ثم انفصل حسب الإيجاب من الوظيفتين المذكورتين، وتعين عضواً في التدقيقات الشرعية فكان لوظيفته قرة عين. وبعد أربعة أشهر لما تشكلت العدلية تعين رئيساً في مجلس الحقوق باسكدار وبقي إلى سنة اثنتين وتسعين وعليه أمورها تدار، فتعين حسب الطريق قاضياً في اسلامبول، وبعد مرور ثلاثة أشهر أحيلت لعهدته باية أناطول. فترك الرياسة من نفسه، وكانت مدة قضاء اسلامبول قد ختمت فانفصل منها وجعلها من فكره كأمسه. وعند محاربة الروسية بقي مدة في قصره الموجود في الشاملجة البهية، وفي أثنائها كان يتعين تارة رئيساً وتارة عضواً في المجالس التي تشكل في باب المشيخة الإسلامية. وتعين كذلك مأموراً في المجلس الذي تشكل في سراية يلدز العالية. وفي ألف وثلاثمائة نال عطية عظمى من صاحب المقام الشامخ العظيم الشان، مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1110 عبد الحميد خان، مع الإذن له بأداء فرض الحج الشريف، فتوجه مصحوباً بجميع عائلته إلى وطنه ومحل ولادته، لكي يغنم دعاء والدته ويدخل عليها السرور بزيارته، ومن هناك توجه إلى مكة ذات القدر السامي والاحترام فأدى فرائض الحج. ثم في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام، توجه مع المحمل الشامي نحو المدينة المنورة لزيارة خير الأنام، فوصل إليها في عاشر المحرم سنة ألف وثلاثمائة وواحدة، وزار أشرف قبر وصلى لديه الجمعة مرتين وأثنى على الله تعالى وحمده بأعظم المحامد. ثم توجه براً مع المحمل المصري فاستقام بمدينة مصر للزيارة خمسة عشر يوماً، ثم توجه إلى الإسكندرية فمكث بها ستة عشر يوماً، ومنها ركب في الوابور النمساوي فأجرى الكرانتينة في بلدة بيرة، ثم توجه إلى أزمير واستقام بها اثنين وعشرين يوماً بكل تعظيم وتوقير، وفي ثالث شهر رجب توجه في الوابور قاصداً الآستانة العلية، وعند وصوله توجه رأساً إلى السراية السلطانية، للتشرف بتلك الرحاب، والتشكر لحضرة ذلك المقام المهاب. ثم رجع لمنزله الذي كان استأجره بجهار شنبه إلى أن مضى الشتاء، وفي الصيف عاد إلى الشاملجة لقصره، وما زال داعياً لمولانا أمير المؤمنين بدوام تأييده ودوام بقائه ونصره. وفي سنة ألف وثلاثمائة وثلاث صار بالفعل قاضي عسكر أناطول البهية، وحسب الطريق عند ختام المدة كانت الحضرة المعظمة تدعوه للعطايا الخاقانية. وفي الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ست دعي في الساعة الخامسة ليلاً بواسطة أحد المقربين، إلى الحضور لدى سيدنا الأعظم أمير المؤمنين، فعندما دخل السراية العالية بشر بمشيخة الإسلام، فوجهت في الحال عليه بتمام الفضل وجزيل الإنعام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1111 وفي الصباح توجه بموكب حافل إلى باب المشيخة الإسلامية، فاستوى على منصتها وكان لها به تمام البشرى والأمنية، ودارت كؤوس التهاني بين الأنام، وأشرق بدر الأماني على كرة الإسلام. وارتشف ثغر السرور كأس حمياه وأزاح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد: اح بدر الحبور اللثام عن محياه، وشدا شادي الفخار والإرشاد معلناً بوصفه على رؤوس الأشهاد: شهم له شيم يريك إذا انجلت ... في ليلك الداجي شموساً تشرق ومكارم فيه تدلك أنها ... خلق وفي طبع الغمام تخلق أولى الملا عزاً وأعلاهم علا ... وأبرهم للمسلمين وأرفق سبق الكرام وقد تأخر عصره ... عن عصرهم فهو الأخير الأسبق فهيهات لمثلي أن يستقصي صفات هذا الفرد الهمام، وإن كان البحر مداداً والشجر أقلام. ثم أنني في عام ألف وثلاثمائة وسبعة حينما تشرفت بزيارة الدار العلية، كحلت بصري باثمد النظر لذات هذا المترجم البهية، فرأيت إنساناً قد صاغه الله من جوهر الكمال، وأفرغ عليه حلة البها والجمال، ومن عليه بالشمائل ذات الفضائل، وأجلسه على ذروة الرفعة فكان لكل سائل من أعظم الوسائل، وحينما رآني قام وبش إلي، وحياني أجمل تحية وسلم علي، وأولاني من معروف إقباله ما أولى، وحياني بما أحياني به وإن لم أكن أهلا، وسمعت منه ما يشهد له بأنه شيخ الكل في الكل، ولم يسعني حينما رأيت ما رأيت سوى بذل جهد المقل، ولم تزل تتكرر زيارتي لحضرته، وإذا مدة تساهلت بالزيارة أخجلني بشديد معاتبته، أدام الله تعالى وجوده، وأغدق عليه إنعامه وجوده، وقد كنت حين وفودي على كعبة علاه الشريفة، مدحت سيادته بهذه القصيدة فأحببت إثباتها في ترجمته المنيفة، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1112 تجلت فلاح البدر من خلل الشعر ... فتاة سبت عقل الشجي ولم تدر وحدثنا عن نشرها مسك ثغرها ... حديثاً رواه الخال عن خدها البدر وورد محياها البديع حكى لنا ... بأن رضاب الثغر يغني عن الخمر عذولي لحاك الله دع عذل مغرم ... إلى الحشر حاشا أن يفيق من السكر وكن عاذري في حب عذراء لو ترى ... سناها لأوضحت الدليل على عذري بروحي فتاة حسنها فتنة الورى ... ولكن في أحداقها آية السحر وفي مهجتي من صدها وبعادها ... حرارة ملتاع حكت لهبة الجمر ممنعة ما نال منها محبها ... وصالاً سوى ما كان في الوهم والفكر ولو شامها في النوم مغرى بحبها ... لأيقظه من نومه صادح القمري أما وسيوف باترات بجفنها ... واسمر قد يزدري طعنة السمر وشامات حسن قد بدت فوق وجنة ... وجيد به صدري غدا عادم الصبر ورمان صدر قد حمته أراقم ... تقول لحظي أنت أسود من شعري وتيه دلال زانه ميل قامة ... وحسن تثن قد ثنى للفنا صبري لقد سلبت تلك الفتاة حشاشتي ... وصدت، وسيف الصد قلب الشجي يفري وقبل هواها كنت لا أعرف الهوى ... ومذ شمتها أصبحت في قبضة الأسر وذقت كؤوس الهون منذ علقتها ... وما نلت منها بعد صبري سوى هجري فيا طلعة البدر المنير أما كفى ... محباً تمنى الموت من شدة الجور لقد طال ما أولاه هجرك من عنا ... وإن الهوى ألقاه في لجة البحر فقالت وما تبغي، أجبت وأدمعي ... على صفحات الخد تنهل كالقطر أروم اقترابي منك عطفاً ومنة ... فحسبي الذي قد ذقت من صبري المر أجابت وقد شامت بياض عوارضي ... أما آن بعد الشيب ترك الهوى العذري إلام ترى حب الغواني فضيلة ... وأنت تجيد المدح في النظم والنثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1113 عليك بمدح الشهم فرد أولي العلا ... حمى من به قد لاذ من نوب الدهر إمام الهوى مردي العدا فائق الندى ... مهاب جليل فاضل واسع الصدر غدا عمري الاسم والعدل في الورى ... فمن ذا الذي يحكيه في السر والجهر ومن لطفه لطفي تلقب ياله ... هماماً له باللطف مستحسن الذكر تولى على الإسلام شيخاً لفضله ... فباهت به أيامنا سالف العصر ملا ذكره الآفاق شرقاً ومغرباً ... فليس له ند بشام ولا مصر تنافس هذا العصر فيه وكيف لا ... ينافس فيه كل عصر مدى العمر تدانت له زهر الأماني لكي ترى ... له الشرف الأعلى على كرة البدر فما هو إلا مظهر الحلم والنهى ... وما هو إلا منبع الجود والبر سليل التقى والعدل والعلم والنقا ... فريد الذكا والمجد والرشد والقدر فقل مكثراً ما شئت في نظم مدحه ... ومالك إن قصرت وجه إلى العذر أياديه يحكي البدر جود نوالها ... وراحته تسمو حباء على البحر لقد فاق أهل العصر علماً وحكمة ... وقلد جيد الدهر عقداً من الشكر أخو همة فاقت على همم الملا ... وأوصافه تسمو على الأنجم الزهر أخال بأن الأرض جهلاً بقدره ... لدى سيره لم تبدل الترب بالتبر أرق من الماء الزلال شمائلاً ... وألطف من جسم النسيم إذا يسري إذا ازدان ذو قدر عظيم بقدره ... ففيه وفي آبائه زينة الدهر وإن مر ذكر الأكملين فذكره ... كبسملة التالي غدت مبدأ الذكر به ضاء وجه الدهر وازداد بشره ... فحقاً هو الموسوم بالكوكب الدري ودانت له الأيام تحبوه ما يشا ... وكل ليالي عمره ليلة القدر لقد ضاق صدر الدهر عن كتم فضله ... وهيهات يخفى البدر في ليلة البدر فيا سيداً ساد الورى بجميله ... وأوصافه الحسنى وأخلاقه الغر لك الراية البيضاء في كل موكب ... كذا السيرة الحسناء بالحمد والشكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1114 وإني على مر الزمان لكم فتى ... دعاء بما ترجون في السر والجهر فجد واعف عن عبد أتاك مقصراً ... وإن صاغ للمدح الثريا مع الزهر فلا زلت مرفوع المقام مدى المدى ... ولا زال من عاداك في الذل والقهر ولا برحت آيات مجدك ترتقي ... لها الموضع الأعلى على هامة الدهر توفي هذا الفرد الكامل والأوحد الفاضل، في الدار العلية عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر. السيد عمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني صاحب اللآلئ الثمينة في أعيان شعراء المدينة أديب لأشتات الفضائل جامع، وأريب إشراق بدره في سماء المعارف لامع، شمائله تزري بأنفاس الشمول والشمال، وفضائله قد تحلت بأنواع الحسن وأفنان الجمال، لا تسأم أصحابه لطيف مؤانسته، ولا تمل أحبابه ظريف مجالسته، مع فصاحة وبلاغة ولسن، وتجمل بكل خلق جميل حسن، ورقي من معالي المكارم ذراها، وتمسك من أعالي العزائم بأوثق عراها، دأب في كسب المآثر فتى وكهلا، وسلك من مسالكها حزنا وسهلا، حتى قيد منها كل شاردة، وشيد مبانيها فكانت لطلابها أبهى عائدة، ولله در نثره الرائق، ونظمه البديع الفائق. فمن لطائفه العالية، وطرائفه السامية، قوله مخاطباً الأديب الكامل، السيد عمر حيدر المدني بهذه المسمطة: يوم عيد الوصل إذ ... أوفى لنا الحب الوعود وتبدى بالحميا ... من محياه يجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1115 حل في منزل أنسى ... مسعداً سعد السعود وتثنت في رياض الصفو أغصان القدود وغدت ضاحكة بالأنس أزهار الخدود دور بالتلاقي والوفا قد ... أحسن الدر المسي يا خليلي فامل من دن التهاني اكؤسي لا تؤخر مطلبي ... عجل بها كي نحتسي نمزج الأفراح بال ... أرواح ثم الأنفس ما علينا من عذول ... هان أو واش حسود دور عاتها صفراء مثل التبر في كأس اللجين ليس يحلو مزجها ... إلا بريق الشفتين من لمى ذاك الرشا ... النفار ساجي المقلتين كم له قد قلت أو ... ف الوعد إن الوعد دين وهو نفار عن الوصل ... كما الظبي الشرود دور ما ترى طير الصفا يشدو على غصن السرور ونسيم القرب قد هبت وفاحت بالعطور ومن البشر غدا مبتسماً ثغر الزهور أنس المجلس إذ ... واصلنا ذاك الغرور وهو في تم البها كا ... لبدر بل أضحى يسود دور يا لها ساعة إقبا ... ل بها جاد الزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1116 وبلغنا القصد والمأ ... مول مع حور الجنان فاختلع فيها عذاراً ... واغتنم وقت التهاني لا تؤخر ساعة الأنس إذا وافت لآن إنما الدهر هبات ... قل فاحرص أن تعود دور وانشدن لي مدح حاوي ... الفخر والعز النبيل الأديب الماجد الأر ... وع ذي الفضل الأثيل عامر الأفضال محمو ... د البها الندب الكميل حيدر العليا سراج الفضل والشهم الفضيل دام في عيد المسرا ... ت وفي عيش البرود فأجابه بقوله: أم قلبي كعبي الريم المفدى في زرود عرفات البعد طالت ... وهواه لي يقود بمناه بت في نسك الهوى أو في الصدود جمرات الهجر منه ألهبت ... قلبي الوقود ليته يوفي ضمان القرب يولي بالسعود دور راح يسعى نحوه ... قلب المعنى المستهام وغدا فيه جسيمي ... لابساً ثوب السقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1117 وحطيم البعد أضحى ... يحطم القلب دوام قد جرى زمزم دمعي ... وانتهى في الانسجام عل أوقات اللقا من ... فاتني يوماً تعود دور قيدوا قربان قلبي ... بعد أن حلوا المدى أضجعوه كي يريقوا ... نفسه يوماً سدى غاب شخصي عن عياني ... ما تراه إن بدا إن تراه لائحاً ما ... ذاك إلا للردى حشوه صار خيالاً ... مذ غدا رهن الصدود دور ليس يدري شخص جسمي ... مذ فني إلا الهوى وكذاك السقم يدري ... حيث فيه قد ثوى مازجت روحي هواها ... والهوى بي قد هوى لست أصغي لعذول ... بملام لي كوى جار عذري غرامي ... أرعدت منه الرعود دور هذه حالة خل ... قد توالاه السقام ما له إلا سراج الفضل والشهم الهمام بحر آداب وفهم ... شمس آيات النظام عقد أجياد المعالي ... تاجها بين الأنام يا سمياً ساعد المضنى ... على رغم الحسود دور فانتخب لي فرصة نحسو بها كأس الأدب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1118 من صبوح وغبوق ... وخلاعات الطرب يا سراجاً للتهاني ... يا ضيا عين الأرب امزج الكأس بماء البشر واطفي ذا اللهب واجل عن قلب صداه ... خلني من ذي القيود وله رحمه الله أيضاً من الموشح: قل لأحباب لنا رقدوا ... والشجي أودى به السهد زاد منه الوجد والكمد ... صد عنه الشادن الشرد ساعدوا المضنى ... في هوى لبنى وافهموا المعنى ... ولي اسعدوا دور كم تكونوا في الكرى يا نيام ... وتروموا وصل بدر التمام أنا والنجم وورق الحمام ... حالنا في الليل مطرد لا نعي لو ما ... في هوى الألمى لا نرى نوماً ... ولا نجد دور وسميري البدر في الأفق ... إذ تجلى في دجى الغسق حوله الأنجم كالفرق ... وهو فيهم ملك سيد في الورى مطلوب ... وجهه محبوب حسنه المرغوب ... لا يجحد دور ليس إلا أنهم ضعفوا ... عن غرام ليس يتصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1119 تركوا العشق وما ألفوا ... ما لهم مثلي أنا جلد فأنا الصبار ... في الدجى سهار وصبا الأسحار ... لي تشهد دور خافق القلب صريع الهوى ... قد وهى مني قوي القوى من جفا ظبي سبا وثوى ... في كناس حوله أسد وصله قصدي ... قربه سعدي بعده يردي ... وقد يجهد دور كيف أسلو لغزال سكن ... وسط قلب بهواه افتتن حجبوه فانتمت بي المحن ... ليتهم لي باللقا بعدوا ونقضي الوعد ... بالهنا والسعد والأسى من بعد ... لا يرد دور هات روح مهجتي يا نديم ... واملأ الكأس براح قديم كيف لا أصبو لها وأهيم ... ولها القلب متقد هاتها حمراً ... خمرة بكرا تنعش السكرى ... وقد تبرد دور والدجى ذو شعر أجعد ... مائساً في ردنه الأسود في رياض ذات زهر ندي ... عرفها للهم قد يطرد غصنها ممشوق ... ماؤها مدفوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1120 والرشا المعشوق ... لا يبعد دور هي حقاً راحة الأنفس ... فارتشفها جذلا واحتسي من يدي ذي هيف ألعس ... إن تثنى زانه الميد حسنه باهر ... خده ناضر ثغره زاهر ... ومنتضد دور قده كالغصن في ميله ... لحظه كالسحر في كحله وهو مثل الشمس في حلله ... خصره في الردف مستند جفنه قتال ... كالظبا يختال عنبري الخال ... منفرد وقال هذه الموشحة والحديث شجون هملت سحب دموعي عندما ... طرز البرق ذيول الحندس فأسالت من بكاها عندما ... مقطراً من صاعدات النفس دور تتصابى بلييلات اللقا ... حيث مرت مثل نسمات البكر يا ليالي سلفت لي بالنقا ... وهي شامات بوجنات السحر إذ بها بدر السما قد أشرقا ... وهو محمر على بدر البشر وعيون النجم في شزر اللمى ... نظرت أنجم تلك الأكؤس فشفيت الجرح من راح اللمى ... بالتشامي للغزال الألعس دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1121 أحور يخجل بالطرف الظبا ... وعجيب من سقيم في كحل قده ريان من ماء الصبا ... يتثنى في كثيب من كفل لطفه ألطف من ريح الصبا ... ظلمه عندي أحلى من عسل قلت يا ظبياً سباني ورمى ... بعيون نعس كالنرجس أورثت بالنبل قلبي ورما ... فاطف عنه لهباً ذا قبس دور فانثنى عني نفوراً معرضاً ... بعد ذاك الأنس منه والطرب مذكياً في منحنى ضلعي الغضا ... وأدام الصد من غير سبب وقلاني وملاني مرضا ... فلذا أمسيت منه في تعب مغرماً في ذا الذي فاق الدمى ... مسهداً في الليل حتى الغلس فكأني ودموعي كالدما ... قد توكلت بحفظ الكنس آه من حال التجافي والنوى ... قد رمى البعد فؤادي بالقلق أعرض الحب وهجراني نوى ... ما أمر الصد من ساجي الحدق هو في أنس بجيران اللوى ... وأنا صب بوجدي في حرق أذكر الوصل وأيام الحمى ... قائلاً قولي الكئيب الموئس يا زماناً كان سعدي قد حمى ... فيه أنسي عن رقيب انحس وله مجاوباً الشيخ عابد السندي عن قصيدته وهي: قد صحا الجو والربى قد تبسم ... زهره والنسيم عنه تنسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1122 إلى آخرها وهي قصيدة طويلة فأجابه المترجم المذكور بقوله: جاد غيم السما لنا وتبسم ... عن سنا بارق له غير جهم وغدا في الهواء يسحب برداً ... بطراز البروق أصبح معلم واختفت تحت ذيله الشمس حتى ... أصبحت لا ترى كمثل الملثم فتراه يجري وللرعد سوق ... خلفه كالحادي إذا ما ترنم فكأن السماء غارت فغطت ... وجهها حينما الربى قد تبسم فانظر الروض في حلاه نحلى ... لابساً سندساً عليه منمم وكأن الأغصان يا صاح أعطا ... ف عليها خدود الأزهار تلثم ذاك قد لاح أحمراً وترى ذا ... أصفراً فاقعاً وأخضر أدهم أو كمثل الأجياد يبدو عليها ... عقد ودق من غير سلك منظم فتهب الصبا عليها فتأتيها بأخبار كل عطف منعم فترى ذا يميل شوقاً لهذا ... كقدود ببعضها تتلزم ولصدح الحمام في القلب صدع ... إن بدا شادياً بعود وزمزم وخصوصاً إذا تغنى بترقيق سجوع منه القلوب تهيم يذكر الصب عهد ما كان منه ... مع صحب له يزيلون للهم فإذا ما بكى الحمام تراني ... باكياً والدموع كالسحب تسجم قائلاً آه يا حمام أفدني ... هل رجوع لعهد أنس تقدم ما أظن الرجوع إلا محالاً ... أي ورب بحق علياه يقسم فانهضن بي يا صاح نحو عقيق ... ماؤه يذهب الأسى مثل مرهم واملأن لي من مائه كل كأس ... إنه مخجل العتيق المختم واروني إن في حشاي أموراً ... من أمور منها أخو الصبر يهتم وأغثني بوجه كل مليح ... مخجل الشمس بالجمال المتمم إن تثنى تقول للبان بن عنه فإني أخشى قوامك يقصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1123 أو تبدى تقول للبدر بادر ... لاختفاء فوجه ذا البدر أعظم وإذا هش قلت للدر حو ... ل ثناياه إنها منك أنظم وله مبسم حوى خمر ريق ... خمرة الكرام عنده ليس تكرم إن رآه الأقاح ظل حياء ... ذابلاً خاملاً من الصمت أبكم وهلال السماء لما رآه ... بات يحكي قلامة منه تقلم وجنتاه كالورد كالزهر كالنسرين مثل الشقيق والجمر مضرم فاعجبن من جمع اللظى مع زهر ... كيف حلا بها وكل منقم ومياه الجمال جالت عليها ... وهي تحكي من التودد عندم كم قلوب تروم منها وروداً ... مثل صاري القطا إذا هو حوم فترى أسهم اللواحظ تبدو ... من حنايا حواجب وتقوم فتقول الأمان من هذه الأجفان إن المنون فيها مكتم ذي عيون كالسحر تخلب للألباب كالخمر تسكر العقل الأحزم كم بكى النرجس الغضيض عليها ... غيرة بالندى الهمي وتظلم الفرار الفرار من قبل طحو ... في الهوى إنه لدى الناس معظم عن قتال يا أعين الظبي كفى ... واتركي الحرب إنما السلم أسلم كم معنى في حب ذا الظبي أضحى ... منجداً يطلب الوصال وأتهم فترى البعض منه يحظى بقرب ... وترى البعض بالتباعد مغرم فهو كالشمس كل شخص تراه ... مبصراً حسنها الذي الكون قد عم عوذوه بالطور والنجم حفظاً ... وبطه كذا تبارك مع عم ثم خطوا من الشوارب خطاً ... فوق كنز اللمى يلوح كطلسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1124 أو كمسك الختام فوق رحيق ... في شفاه منها الشفاء تنسم ليت جيداً له كما الظبي جيدا ... بات من فوق ساعد لي ومعصم وفمي فوق خده تارة أو ... فوق ثغر يقول يا عطر من شم وعلى نحره أمرغ نحري ... وأداوي مكسور قلبي بالضم وبزندي منه أمنطق خصراً ... مثل عود فيه غرامي خيم قانعاً عن نجد الروادف إني ... لست حقاً ممن بذلك يتهم إنني في الهوى عفيف سليم ... انعش الروح بالجمال وأسلم حبذا حبذا المحيا إذا ما ... لاح لي وهو في ابتهاج ومبسم فتراني أصبو إليه اشتياقاً ... لا لقصد من الخنا أو لمأثم غير أني أهوى بأني أجلى ... لمراة الفؤاد بالحسن عن غم هكذا هكذا المحب وإلا ... عاد ما كان مغنماً منه مغرم أفعار علي إن كنت أهوى ... رشأ ناعس المحاجر أحرم فاتهامي بحبه غير عيب ... إنه منجح لدي ومغنم كل من لم يحب الغيد لم يعرف صفاء الهوى مما هو مذمم حيني يا أخا المحبة واسند ... لي حديثاً من الصبابة محكم واشرحن لي متن الغرام وأظهر ... لي ما كان منه مخفي ومبهم وأفدني بوصف كل مليح ... بارع الحسن بالجمال معمم حسن الجيد والشمال كريم ... خيمه منه بالمحاسن أكرم مثل خيم الأديب رب المعالي ... والمعاني التي بها قد تقدم مفرد العصر جيد الشعر رب النثر كالزهر لاح غير مكمم بارع من خزائن الفضل والمجد كذا العلم صار أغنى وأغنم نظمه في الأذواق والخلق منه ... ذاك أحلى وذاك باللطف أحلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1125 عابد الله بالخلوص صديق ... صادق الود طرسه عنه ترجم ماهر في الآداب نابغة الوقت وكل بأنه الفرد يعلم وذكاء في النور مثل ذكاء ... إن تجلى وقت الضحى لا تغيم حاذق دافق القريحة حبر ... كم أديب منه الفنون تعلم شاعر أظهر البدائع لما ... في رقاب الألفاظ حقاً تحكم وغدا معدن المعارف بحر الظرف باللطف والتحايف قد طم ومن قوله مراسلاً والده من الصعيد: سهرت على الأحباب شوقاً لياليا ... فهل بهم من شدة الشوق ما بيا وهل عندهم مثلي غرام ولوعة ... ووجد ببحر القلب قد صار طافيا وهل هم كمثلي في الظلام تدرعوا ... ثياب سهاد غادر النوم جافيا سقى الله جيران العقيق ولعلع ... ملث سحاب هامع القطر هاميا وحيا مغاني الأنس أوفى تحية ... تدوم لهم ما دام شوقي وافيا سقى ورعى أيامنا ولياليا ... تمضت بوصل في حماها حواليا لقد هاجني التذكار نحو ربوعها ... كما هاجت الأرواح ورقاً شواديا تبيت على الأغصان تصدح سحرة ... بمحسرة شوق تترك الصب باكيا فهل منزل الأحباب بعدي عامر ... وإلا كجسمي صار بالبين باليا وإلا كصبري شفه الافتراق بل ... أدام إلهي منزل الأنس عاليا فإني لمشتاق إلى لثم سوحه ... لأني أراه من هيامي شافيا متى أكحل الأجفان من تربه متى ... أشم ثرى يغدو به العقل صاحيا متى عيني السكرى بدمع وحرقة ... تقر بقرب يترك العيش هانيا إذا هب من أرض الحجاز نسيمها ... يظل كنيران الغضا لي صاليا وقد كنت أرجوه يبرد لوعتي ... ويطفي لظى شوق لقلبي كاويا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1126 سلوا الفرقدين النيرين سلوا السهى ... كذا اسألوا عني السهيل اليمانيا سلوا أنجم الجوزا سلوا القطب بل سلوا ... سماكا، سلوا عني النجوم الدراريا أردد فيها الطرف في غسق الدجى ... وأرقبها في طول ليلي مراعيا وأشكو إليها ما بقلبي من جوى ... وأشهد أن العهد ما زال باقيا وأذكر ساعات اللقا ومضيها ... كوامض برق في الدجى كان شاريا وأذكر قربي من ديار أحبتي ... فقد صرت عنهم بالتباعد نائيا رماني زماني بالتفرق والنوى ... وبالبعد عنهم بعد ما كنت دابيا لعل الذي قد دبر الكون أمره ... يقصر أيام النوى واللياليا ويجمع كلا عن قريب فإنه ... سميع مجيب للذي بات داعيا فلا تقطعوا عني دعاكم فإنه ... لإكسير سعد يترك العبد واليا وحياكم المولى بأزكى تحية ... تفوق من العرف الشذي غواليا ومن قوله مجاوباً العلامة الشيخ علي الفرضي: أبا الحسن اعذرني فإني آيب ... وسامح محباً للسماح يراقب فإنك أهل الحلم والفضل والنهى ... وذو همم تحكى بذاك السحائب بعثت بأبيات إلي كأنها ... من الحسن في أفق البيان كواكب زعمت بها أني سلوت الوداد إذ ... تأخرت عنكم لا، ومن هو واهب فكيف معاذ الله أصبح سالياً ... لخدني الذي لي معه تصفو المشارب ولكن صروف الدهر أضحت تعوقني ... بأن التقي معكم وتقضى المآرب وإني لمشتاق إليكم ومهجتي ... وحق إلهي للقاء تطالب وما كان تأخيري من الهجر والقلا ... ولا القلب في إخلاصه الود كاذب وكل الذي أبصرتمو من تأخري ... لأمر به عقلي من الهم غائب وهذي الدنا ليست تجيء على الهوى ... ولا تشتهي أن قد تنال المطالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1127 تكدر ما بين الأحبة إن رأت ... على راح صفو قد تصافت حبايب وقولي صدق ليس فيه تخالف ... لأني امرؤ قد طال مني التجارب فسامح ولو أخطأ يا خير صاحب ... فذلك عند الأكرمين مناقب فإني خجول منك أقوى خجالة ... وفي أضلعي من شدة الشوق واجب فلا زلت أهلاً للسماحة والعلا ... ورب البها والعز ما حن صاحب ومن قوله: يا ساكني وادي الأجارع جودا ... بلقاكم فتصبري مفقود جودوا علي مع الصبا برسائل ... تطفي فؤاداً في حشاه وقود فلعله يأتي يشنف أدمعاً ... بلت بواكفها الهمي خدود وعساه أن يطفي لهيب أضالع ... نحلت فشابهها انتحالا عود لأشم منها نفحة عطرية ... بشميم أزهار الحجاز تجود كيف اصطباري عن تنشق عرفكم ... أظننتم أن الحشا جلمود أم تحسبوني بالسوى متبدلاً ... لا والذي بحقيقة معبود أم غير ذكركم ثوى في خاطري ... أم غير قربكم الهني أرود أم غير حب لقائكم أهوى منا ... يا منيتي إلا اللقاء فجودوا إني إذا جن الظلام يزورني ... وجد وسهد للسها مشهود ومسامري وجد مقيم مقعد ... وله حديث من جوى مسرود وقريحة الأجفان تبكي حسرة ... إذ فر عنها النوم فهو شرود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1128 وتقول أين النوم قلت لها سرى ... ليرى حبيباً قد حوته زرود فتجيب ما هذا السرى جنح الدجى ... في الصبح قد قيل السرى محمود إني مريض هواكم هل طيفكم ... يأتي إلي يعودني ويعود ليكون للنوم الهني وسيلة ... كيف الهناء لمن جواه شديد كيف الهناء لمن رمته يد النوى ... عن ربعه المأنوس وهو بعيد والبين أبعده وبين مرامه ... لجج بحار بل مفاوز بيد لكنني أرجو المهيمن عودتي ... فهو الكريم وبابه مقصود لأفوز في يوم اللقاء بجيرتي ... فيكون عيداً كملته سعود وإن قصائد المترجم كثيرة، ومعروفة وشهيرة، وفي سنة ألف ومائتين وواحدة قد رحل إلى الآستانة العلية، دار السلطنة السنية، وألف بها كتابه " الللآلئ الثمينة، في أعيان شعراء المدينة " ولم أقف على تاريخ مماته، أسبغ الله علينا وعليه جميل هباته. الشيخ عمر بن الشيخ طه بن الشيخ أحمد بن عبيد الله بن عسكر بن أحمد الحمصي الأصل الدمشقي المشهور بالعطار إمام عالم متقن، وهمام فاضل متفنن، قد ساد أهل عصره بعلومه، وزاد على أهل مصره بإدراكه لمنطوق العلم ومفهومه، فألف وصنف، وقرط المسامع وشنف، وتذاكر مع علماء الأمصار، فاتفقت على فضله أسماعهم والأبصار، ووضعته علوم المعقول على مفرقها تاجاً، وأطلعته في شامها سراجاً وهاجاً، وتبسم به ثغر التصوف والحقيقة، فكان لذوي المعارف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1129 حديقة وأي حديقة، مع أخلاق لو مزج بها البحر لطابت عذوبته، ولطافة لو توجهت على الصخر لظهر ليونته، وشيم هي في المكارم غرر وأوضاح وهمم كادت أن تتناول بساعد سموها البدر الوضاح. وكان ولوعاً بالمحادثة والمذاكرة، مطبوعاً على شغل المجالس بالمحاضرة، كثير السياحة والجولان، في الأمصار والبلدان، وقد أخذ عن عدة أفاضل ما منهم إلا من سما وترقى في الفضائل، من دمشقيين ومصريين. ومدنيين ومكيين، وغيرهم من فرس وأغوان وأتراك وداغستان. وكلهم أجازوه وشهدوا بفضله وذكائه ونباهته ونبله، غير أن عبارته كانت أحسن من كتابته وإن كان كل منهما دالاً على فضالته. وله عدة تصانيف وجملة تآليف، قد شرح الفصوص شرحاً غير مغموص، وله رد متين على منتقص العارف محي الدين، وله عدة رسائل هي للمقصود من أعظم الوسائل. وكان حسن الصورة والكلام لا يمله جليسه مدى الأيام، وله شجاعة مشهورة وجسارة على المدح مقصورة. قد لازمه في آخر عمره المرض وجعله لسهامه الصائبة كالغرض، ولم يزل ملازماً له حتى وافاه حمامه، وترنم على أفنان الجنان حمامه. وذلك عام ألف وثلاثمائة وثمانية من الهجرة الشريفة السامية، بلغ من العمر نحو السبعين، رحمه الله وبلغه مرامه ومناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1130 الشيخ عمر المجتهد بن الشيخ أحمد المجتهد الدمشقي الميداني الحنفي شيخ حرم العلم وإمامه، ومن في يديه ناصيته وزمامه، لديه تنشد ضالة مشكل المسائل، وتوجد شوارد الفواضل والفضائل، فليس يباريه في التحقيق مبار، ولا يجاريه في التدقيق مجار، إلا وقف حسيراً، ووعى عنه أخيراً، ولو لم يكن لمآثره ولمفاخره ناشر، سوى شيخيه الإمامين الجليلين والعالمين الفاضلين، الشيخ عمر اليافي الخلوتي والشيخ خالد النقشبندي العثماني لكان ذلك كافياً، وبمقامه وعلاه وافياً، وقدمه على السادة الأفاضل، وأغناه عن قول كل قائل، فإنهما شهدا له بالعلم والإجادة، والتقوى والعبادة. ولد رضي الله عنه سنة تسع وستين ومائة وألف، ونشأ في حجر العلم والعبادة، والفضل والزهادة، والإفادة والاستفادة، وكان من صغره تلوح عليه لوائح السعادة، أخذ الفقه عن شيخه السيد محمد هبة الله أفندي التاجي، والنحو عن السيد محمد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد، والحديث عن عمدة السادة الأخيار، الشيخ أحمد العطار، وقرأ كثيراً من العلوم، على مشايخ سوى هؤلاء كما هو في ثبته معلوم، وكان رضي الله عنه دائم الأذكار، في الليل والنهار، حسن الأخلاق والشمائل، حفاظاً لأحكام مشكلات المسائل، كثير العبادة والتقوى، دائم الالتفات إلى الله في السر والنجوى، قد علا صيته وفاق، وملأ النواحي والآفاق، وقد طلب لأمانة الفتوى في دمشق مرتين فلم يقبل، ويقول دعوني مما أحاسب عليه وأسأل وكان مهاباً معظماً عزيزاً مفخماً، يهابه كل من يراه، ويتبرك به كل من قصده ونحاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1131 توفي رضي الله عنه في اليوم السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وصلى عليه الفاضل المقدام، والعالم الهمام الشيخ سعيد الحلبي وحضر جنازته عدد لا يحصر ولا يحصى، ولا يعلم ولا يستقصى، ودفن بتربة باب الصغير، وكان قد أوصى قبل موته أن يكتب على ضريحه البيتان المنسوبان للإمام الشافعي قدس الله سره، وهما: ولما دنا عمري وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك رب كان عفوك أعظما الشيخ عمر أفندي الديار باكرلي والد طاهر أفندي مفتي دمشق الشام إمام العلوم العربية وعلامها، والمنشورة به في الخافقين أعلامها، منهج السالك، لأرقى المسالك، وملهج البيان، في بديع التبيان، خطيب منير المعقول والمنقول، وكعبة طواف حجاج بيت المعاني والأصول، العابد الورع الزاهد، وعموم الناس له ما بين شاكر وحامد، خاتمة المحققين، ونخبة المدققين دليل أهل الفضل واليقين، إلى الزهد والصلاح، والتقوى التي أشرق نورها في أسرة وجهه ولاح، وله إلمام بالمعقول وافر، طلع في المنقول بأفق بدره السافر، وكان لا يجيل ذهنه وفكره، في غير مسائل العلم التي خلدت في صحائف الأيام ذكره، توفي رحمه الله نهار الأحد في ثامن رجب الفرد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح. الشيخ عمر بن السبيعي الشافعي الأشعري الدمشقي كان رجلاً من أهل العبادة، والطاعة والزهادة، كثير الصيام، مواظباً على التهجد والقيام، له شغف بتلاوة القرآن، والأذكار الواردة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1132 عن السيد المصان، ملازم على دروس العلم من صغره، وعلى العمل بمقتضاه إلى نهاية عمره، وله شهرة بين الناس بالتقوى والصلاح، والاستقامة على نهج الفلاح، محبوب في القلوب، مؤتمن في كل مطلوب ومرغوب، مستقيم الأطوار، معدود من الأخيار، توفي رحمه الله يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الثاني سنة ألف وثلاثمائة وألف من غير مرض، بل كان في حانوته مشتغلاً في تجارته ليس به أدنى مرض بل صحته في كمالها فأصابه وجع قليل في معدته فذهب إلى بيته فصادفته المنية عند وصوله ودفن يوم موته في مقبرة باب الصغير. وكان مشهد جنازته غريباً في كثرة الحاضرين وازدحام المشيعين، رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين. الشيخ عمر أفندي بن عبد الغني بن محمد شريف بن محمد الدمشقي العامري الشهير بالغزي مفتي السادة الشافعية بدمشق الشام. ولد بدمشق الشام ليلة الاثنين ثاني ذي الحجة الحرام سنة مائتين بعد الألف، ونشأ في حجر والده وقرأ القرآن، وبعد إتقانه حضر على العلماء، والسادة الفضلاء، منهم الشيخ حسن المكي والسيد محمد شاكر العقاد وغيرهم من الأفاضل الكرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1133 والسادة العظام، إلى أن صار من أفراد ذوي التحقيق على التحقيق، وساد أرباب التدقيق بنظره الدقيق. مد للرياسة كفاً وساعداً، فصادف الدهر له على مرامه مساعداً، وتبرجت له هيفاء المعالي والمعارف، من بروج مجده العريق بكل فضل تالد وطارف، فهو الطود الشهير والعمدة الكبير، عين أعيان دمشق الشام ونخبة ذوي المقامات العالية والاحترام. وفي سنة ألف ومائتين وست عشرين وجه عليه إفتاء الشافعية بدمشق والتدريس في المدرسة الشامية مكان أسلافه، وشرح منظومة جده البدر الغزي في النحو، وسماها " الكواكب الدرية شرح الدرة المضية " وبلغ من الفضل والجاه ما تقدم به في دمشق على من سواه. وصار عضواً مقدماً بمجلس شورى الشام نيفاً وعشرين سنة بدون انفصال، واشتهر بالآفاق وانعقد على جلالته الاتفاق، ونبل قدره وارتفع صيته وذكره. وكان مفرداً بالذكاء والمعارف وموصوفاً بالشمائل العالية واللطائف، مهاباً جسوراً لا يهاب حاكماً ولا وزيراً. دخلت مرة مع والدي إلى المجلس الكبير وكنت غلاماً صغيراً، فوضعني المترجم بجانبه وجعل لي قدراً كبيراً، وكان المجلس قد غص بأهله واجتمع فيه أعيانه من فرعه إلى أصله، ولم يكن في البلدة مجلس سواه، يجلس فيه الوالي وحاكم الشرع والمفتي وسائر الأعيان ذوي القدر والجاه، فبعد أن جلسنا قليلاً وجدت أوراقاً كثيرة قد أهملت في زوايا الإهمال ولم ينظر إليها بحال، فقلت له سراً سيدي ما هذه الأوراق المعرض عنها أنظرتم بها وتم الشغل منها، فرفع صوته وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1134 ولم يخش من كبير ولا وال، هذه الأوراق الواردة من السلطان، المشتملة على أوامر لا تناسب الأوان، فألقيناها في البطال ولم نعمل بها بحال، ولم يخش من حاكم ولا كبير ولا قاض ولا وزير. وفي اليوم الخامس من ربيع الثاني سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، نفي من دمشق إلى جزيرة قبرص ووضع في قلعة الماغوصة أيام حادثة النصارى، ومات بهم ثاني رمضان في السنة المذكورة ودفن في جامعها، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة رحمه الله. الشيخ عمر التغلبي بن عبد القادر بن عمر بن علي ابن سعد الدين بن محمد ابن محب الدين بن سعد الدين بن محمد بن الشيخ محمد أبي تغلب بن سالم بن محمد بن نصر بن منتصر بن علي بن عثمان بن حسين بن قاسم بن محمد بن سيف الدين الرجيحي بن سابق بن هلال بن الشيخ يونس الشيباني الكبير والد السيد سعد الدين الجباوي المدفون في قرية جبا من أعمال دمشق الشام ابن الشريف عبد الله بن الشريف سعيد بن السيد عبد الرحمن بن السيد أحمد بن السيد إدريس الأكبر بن السيد محمد بن السيد عبد الله بن السيد حسين بن السيد علي بن السيد عبد الله بن السيد عمر الغازي بن السيد موسى بن السيد يحيى بن السيد الإمام الكامل علي الهادي بن السيد محمد الجواد بن السيد علي الرضى بن السيد موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي الأصغر زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي زوج فاطمة الزهراء بنت سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولد بدمشق سنة ألف ومائة وعشر ونشأ في السلوك والطريق والعلم والتحقيق والبراعة والتدقيق، وأخذ عن العلماء العظام والسادة الأعلام، وكان شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1135 السجادة التغلبية في دمشق المحمية، واشتهر وفاق وعم ذكره الآفاق، وأخذ عنه الكثير والجم الغفير، وله كرامات وأخبار غيبية ومكاشفات، مات سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح. الشيخ عمر بن عمر بن عبد القادر بن عمر التغلبي الدمشقي ولد الشيخ عمر المتقدم كان شهيراً في الأمور الخارقة للعادة، كثير التقوى والعبادة، حسن الإرشاد ظاهر الإمداد. ولد بدمشق ونشأ بها وصار من أجلائها وأعيانها، ذا هيبة وجلالة، وعظمة وفضالة، عفيفاً ديناً صالحاً توفي ثاني عشر رمضان المبارك سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودن في مرج الدحداح عند قبور أسلافه رحمهم الله تعالى. الشيخ عمر بن محمد بن محمد بن عمر الدمياطي الأصل اليافوي الشهرة والمولد الغزي الوطن، الحنفي الخلواتي البكري شيخ الطريقة الخلوتية بالشام. ولد بثغر يافا في ساحل الشام سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف ونشأ بها، ثم قدم دمشق واستوطنها وأقام بها الأذكار، وأخذ عن قطب الوجود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1136 وصفوة أهل الشهود، شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة، القطب الرباني والهيكل الصمداني، السيد مصطفى البكري الصديقي، قطب الديار المصرية والشامية، وعن العلامة الشيخ السفاريني والعلامة البخاري والعلامة الشيخ أحمد الباقاني وصار عمدة الأولياء، وزبدة الفضلاء. ومن نظمه في مدح الشيخ الأكبر قدس سره: أقبل إلينا صادقاً ... وبعهدها كن واثقا نسقيك كأساً رائقاً ... صرفاً تصفى من كدر سلمى السحارى تنجلي ... في المشهد الأسنى العلي وقد تحلت من حلى ... عقد اللآلي والدرر يا حبذا ذاك الجمال ... الحاوي أنواع الكمال قد جل حسناً عن مثال ... وعز عن درك البصر فانهض وجرد همما ... وللتداني يمما وارتع بروضات الحمى ... واقطف لمى ذاك القمر وغب بوجد عن وجود ... وطب إذا طاب الشهود إن اللقا عذب الورود ... فلا تكن ممن صدر فاحرم وزمزم واستلم ... للكعبة الحسنا التزم يا سعد عبد قد غنم ... وحج شوقاً واعتمر ما الكون يا ذا غيرها ... إن رمت فادخل ديرها وإن تغنى طيرها ... ألفيت عيناً في الأثر إن رمت تدنو للطريق ... باكر لها تسقى العقيق إن انتسابي للصديق ... وأنا عمر توفي رحمه الله في ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف ودفن في مقبرة الدحداح وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به. وقد رثاه العالم الأديب والماهر اللبيب الشيخ أمين الجندي الحمصي رحمه الله بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1137 قسي المنايا ما لأسهمها رد ... فما حيلتي والصبر قد دكه البعد دهيت برزء لا يطاق غناؤه ... وكرب وحزن ما لغايته حد غرام وحزن واحتراق ولوعة ... وتذكار عهد يستغر به الوجد وشوق إذا ما الدهر أطفأ حره ... تزايد ما بين الضلوع به الوقد ونفس لفقد الألف أمست جزوعة ... إذا ما نحاها البين أتلفها الصد وقلب على جمر الأسى متقلب ... وطرف كليل حله الدمع والسهد حمام الحمى هل أنت بالنوح مسعفي ... فإني لفقد الألف أشدو كما تشدو لقد كان شملي كالثريا فأسرعت ... بتشتيته الأيام وانتثر العقد أخلاي صرف الحادثات أراعنا ... فعادت علينا عاديات الأسى تعدو انطمع في دار سريع زوالها ... وكأس المنايا منه ليس لنا بد فيا عين لا تبقي من الدمع طارفاً ... ولا تالداً وابكي وإن مسك الجهد ويا نفس لا تبغي الإقامة بعدما ... ترحل عن أوج العلا العلم الفرد هو ابن رسول الله والعلم الذي ... لسؤدده السامي انتمى الفخر والمجد هو البحر إلا أن تيار لجه ... يفيض فيهدي دره الجزر والمد هو الروض أنساً والنسيم لطافة ... هو الطود هو السيف لا تخفى مقاتله على ... خبير ولا ينبو لقائمه حد إمام يحاكي ليلة القدر فضله ... ببرهان صدق لا مراء ولا جحد همام لقطبانية العصر حائز ... وفي المنصب الأعلى له الحل والعقد فتي لبني الصديق أضحى خليفة ... إلى الحق يدعونا ونحن له جند نشا بحجور الخلوتية راضعاً ... لبان المعالي والكمال له مهد إلى أن كساه الله أفخر خلعة ... تجسم فيها العلم والحلم والزهد هدانا لورد المنهل العذب منة ... فيا حبذاك المنهل العذب والورد فطبنا بذكر الله في حال سيرنا ... سميراً وحادي الشوق ما بيننا يحدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1138 وهممنا بدعد ثم هند زينب ... وسلمى ولا هند لدنيا ولا دعد تعاظم عن بث المقال مقامه ... فحسبي لديه الذكر والشكر والحمد لئن ختمت فيه ولاية عصرنا ... فإن ختام المرسلين له جد وإن غاب منه الجسم عنا فسره ... مدى الدهر فينا أن نروح ومذ نغدو ففيه لمن عزى يقال لك البقا ... قضى العارف اليافي والجوهر الفرد أقام على نهج الطريقة وهي في الحقيقة عن نهج الشريعة لم يعد ومات شهيداً وهو حي بمالنا ... بناه من المجد الذي ما له حد وهل مات من ألقى علينا كواكباً ... من الهدي يزهو في مطالعها السعد فقل لجهول راح ينكر فضله ... ثكلتك فالجعلان يقتله الورد أيبصر خفاش الضلال الضيا وهل ... ترى الشمس إذ لاحت عيون الورى الرمد فيا بحر فضل كيف وارتك حفرة ... ويا بدر هدي كيف غيبك اللحد لقد ثلم الإسلام بعدك ثلمة ... مدى الدهر والأعوام ليس لها سد رعى الله أمراً كان بالأمس صادراً ... عن السيد البكري لم يحكه عهد وعز بشارات أتت منه لي على ... لسانك تتلوه العناية والرفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1139 ولي منك وعد أخروي مقرر ... بحضرة سيف الله ما فوقه عهد يكاد له الإنجاز يسبق بالوفا ... نعم هو آس في الحقيقة لا ورد أمولاي هب أني عبيد مقصر ... وأن ذنوبي ليس يحصرها العد أما عنكم أخذي وأنتم وسيلتي ... إلى الله وهو الغوث في كل ما يبدو وكيف ولا أرجو بلوغ مقاصدي ... وراجي نداكم لا يخيب له قصد دنوت فأقصاني النوى عن ظلالكم ... فأبت فأدناني التحبب والود جعلتم لي الإطلاق قيداً بحبكم ... فذلي بكم عز وغيي بكم رشد وإني وإن أدعى على سر سركم ... أميناً ولكني لعبدكم عبد فلا زال هتان الرضى هامياً على ... ضريح به الفيض الإلهي يمتد وأرواح غفران وعفو ورأفة ... يروحه من نشره المسك والند لمن كان في العش اصطفاه مؤرخاً ... بباء بها حسن الختام به يبدو وصل بتسليم على الرحمة التي ... بها في التنادي يرحم القبل والبعد مع الآل والأصحاب من في سما العلا ... مناقبهم بالفضل لم يحصها العد مدى لدهر ما الجندي صاح من الأسى ... قسي المنايا ما لأسهمها رد الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد بن أبي العباس ابن إبراهيم بن عبد الرحمن السفرجلاني الدمشقي الشافعي الشاذلي. ولد سنة ألف ومائة و ... وأخذ الطريق عن والده وبعد موت والده كان شيخ الطريقة مكانه وأخذ عن عمه أيضاً توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة ودفن بباب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1140 الشيخ عمر البابلي الشافعي المصري الأزهري قال الجبرتي في ترجمته هو: الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة، ذو الفضائل والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحو الفقيه، البياني المنطقي الأصولي النبيه. تفقه على علماء العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني وتمهر في العلوم، وقرأ الدروس وأخذ الطريقة الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء ولازمه في مجالسه وأورداه، ملازمة كلية ولوحظ بأنظاره، وتزوج بزوجة الشيخ أحمد أخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي، وكانت مثرية فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس، وماتت زوجته المذكورة لاعن عصبة فحاز ميراثها، والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها دار البقر، فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا وسكن داراً واسعة، واقتنى الجواري والخدم ومواشي وأبقاراً وأغناماً، واستأجر أرضاً قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع، ثم تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته، وأقام منعماً معها في رفاهية من العيش مع ملازمته للإقراء والإفادة إلى أن أدركه الأجل المحتوم. توفي سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون. الشيخ عمر بن مصطفى الحلبي الولي المستغرق المجذوب صاحب الأحوال والكرامات، مولده بعد الأربعين والمائة والألف، ونشأ بكنف والده من صغره مجذوباً، وشوهدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1141 له كرامات وأشياء غريبة في أول أمره، ثم نما حاله وترقى، واعتقده الخاص والعام من الناس، وظهرت له كرامات يطول تعدادها، وكأنه لا يشك في ولايته، وكان يدور في شوارع حلب ويطلب من الناس الدراهم ويعطيها لأمهات الأولاد اللاتي مات عنهن أزواجهن لا عن شيء، فسخره الله تعالى لهن، وكانت هؤلاء النساء تكلفه الزيادة عن وسعه فيتحمل ويأتيهم بالمطلوب، وكان الناس يعرفون له هذه الحالة فيعطونه ولا يبخلون عليه، مع اعتقادهم غاية الاعتقاد، ويطلبون رضاه ودعاه، وكان مقبول الأطوار مستعذب الحركات والأحوال. مات رحمه الله بعد خمس ومائتين وألف. الشيخ عمر الحريري الرفاعي شيخ السجادة المباركة الرفاعية بحماة الشام قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار السيد أبو الهدى أفندي فقال: هو السيد عمر بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد عبد الباسط بن السيد محفوظ بن السيد عبد الباسط بن السيد عبد الدائم بن السيد الكبير إبراهيم بن السيد ارسلان بن السيد أبي بكر منصور بن السيد إبراهيم بن السيد علي بن السيد حسن بن السيد خميسي بن السيد سعيد بن السيد داود بن السيد مطر شيخ الخرقة بحماه، بن السيد الزاهد محي الدين الحريري نزيل حماه بن السيد يحيى النجاب بن القطب الكبير السيد أبي الحسن برهان الدين علي الحريري نزيل بصرى بحوران الشام بن السيد عبد المحسن بن الحسن سبط النفس النفيسة الرفاعية بن القطب الأجل السيد ممهد الدولة عبد الرحيم الرفاعي الحسيني الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1142 ولد بحماه ونشأ بحجر والده الشيخ الكامل الفاضل السيد حسن الحريري وقرأ القرآن وشيئاً من العلوم العربية والفقه والحديث، ولبس الخرقة الرفاعية من أبيه، واجتهد وخلف والده بالمشيخة في روايته، وعلا أمره وشاع في البلاد ذكره، وكان كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أسخى من الغيث الهاطل، حسن الأخلاق غيوراً في الله، صاحب دين وعزم مكين، وحسن وفا، وجمال لطف وصفا، عذب المكالمة رقيق المنادمة، وبه انتشرت الطريقة الرفاعية وأخذ عنه جماعة من الأفاضل الأكابر، منهم السيد ياسين بن السيد حسين الرفاعي شيخ مشايخ الطريقة الرفاعية بمحروسة مصر، وغيره من السادات. وكان يقيم الذكر بزاويته بحماه يوم الخميس بعد العصر، فيجتمع عنده عالم عظيم، ويمد لهم السماط ويستمر إلى الليل. وقد ألقى الله محبته في القلوب، وجمع عليه كلمة الناس واعتقده الخاص والعام، وكان له خوارق عادة، وكرامات بلغت في العد الزيادة، توفي المترجم بدمشق الشام سنة ثمانين ومائتين وألف ودفن بزاوية بني الحريري بصالحية دمشق انتهى ملخصاً من الكتاب المذكور أعلاه مع اختصار وبعض تصرف. بحمده تعالى: قد انتهت تعليقاتي على هذا الجزء الثاني من " حلية البشر " بعد صلاة العشاء من يوم الجمعة في 18 شوال سنة 1383هـ و23 - 3 - 1963م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1143 1 62 - // بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. حرف الميم السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد إسماعيل بن الشهاب أحمد المنيني قدس الله سره، مفتي السادة الحنفية بدمشق المحمية بحر كمال لاستمداد جداول الفضائل، وروض جمال قامت له أغصان المعارف على سوقها في الخمائل، إذا جلى كواعب كلماته فضحت الكواكب نورا، وإذا أديرت كؤوس مذاكراته كان ما سواها هباء منثورا. أطلع في سماء الشام قمر الهداية، وسور حصون طلابها بالوقاية والنقاية، وغاص لجج البحر المحيط فاستخرج لهم فرائد الدرر، وكحل عيونهم بإثمد تنوير الأبصار فالتقطوا عوائد الغرر. إذا نثرت عقود طبعه وانتشر أرج شميمها بن الطلول، ترنحت غصون الدوح وتاهت بما يزري بالشمائل والشمول: شمائل لا جيب الزمان معطراً ... حكاها ولا خد الشمول موردا فلا ريب أن قدره أعلا من النجوم العالية، ومسك مداده يرخص شذاه الغالية. فاخرت مصره الأمصار بإشراق شمسه، وعصره الأعصار بتحليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1183 بجمال أنسه، فهو روض تقبل الأرض فيه ثغور الزهور، وتطرز برود آدابه مع كونها تنسب لنفسها القصور. فحق لنا أن ننعته بأنه إنسان عين الزمان، بل عين إنسان نوع الإنسان، وسل الليالي المضمر في خاطر الدهر، بل بدرها الذي طلع في أفق هذا العصر. كشاف رموز الحقائق عن كنوز معاني الكشاف، وصاف شمائل ذوي الرقائق بما اشتمل عليه من بديع الأوصاف، كعبة طواف علماء القطر بل الأقطار فلذلك انتسب الإفتاء إليه، ومحراب اعتكاف ذوي القدر والاعتبار فمحور قطبهم دائر عليه. فلا غرو أنه وجيد الآفاق بالاتفاق، وفريد أولي الأخلاق بالاطلاق، وقد بوأه الله في الحديث تكرمة رفيعة الرواية والسند، وبرأه الله من نسبة الكلالة حيث ورث المجد عن أكرم أب وجد: يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار ولد حفظه الله في دمشق الشام في رمضان، من سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين من هجرة سيد الأنام. وبعد أن أتم قراءة القرآن بالإتقان، أقبل على العلم بهمة ذات قدر وشان. ولازم دروس الأفاضل، إلى أن تحلى بالفضائل والفواضل، ورقى معارج السيادة ولاحظته عيون السعادة، وخطبته المناصب ليكون لها سيداً ولتكون له مولى، ورفعته المراتب على كاهلها حيث وجدته لها أهلاً. ولم يزل يصعد سلم الكمال، إلى أن استوى على عرش الرفعة والإجلال، فقيل لمنصب الإفتاء ائته طوعاً أو كرهاً فأتاه طوعاً من غير مهلة وقال إني أقسم بمن قسم له بي ما أعطيتم الشيء إلا أهله، ولقد رجع الأسد إلى غابه، وجلس الإمام في محرابه، وقال لسان الحال هذه بضاعتنا ردت إلينا، فلا عتب لنا ولا ملام علينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1184 وكان ذلك بعد وفاة العلامة السيد محمود أفندي حمزه ووقوع اضطراب عظيم بين الناس، إلى أن استند الإفتاء إليه بعد مدة وزال الخلاف والبأس، وذلك في السنة الخامسة بعد الثلاثمائة والألف، فلا زال العلم له أعلا حلية وهو للعلم أحسن حصن وأمتن كهف. وأنه قد حاز على ما كان لجده الشهاب من الخطبة في جامع بني أمية ذات الجلالة والقدر، وإقراء صحيح البخاري بعد صلاة الجمعة تحت قبة النسر. فهذا الدرس وهذه الخطبة كان أولهما في هذا البيت لجده حضرة الشهاب، ولم تزل فيهم إلى أن آلت إلى هذا المترجم المهاب، قال الشهاب المنوه به عليه رضوان ربه في كتابه المسمى بالقول السديد في اتصال الأسانيد: إعلم أنني أنا العبد الحقير العاجز الكسير، فقير رحمة ربه وأسير وصمة ذنبه، أحمد بن علي بن عمر بن صالح بن أحمد الطرابلسي الأصل المنيني المولد الدمشقي المنشأ العدوي الحنفي: ارتحل والدي من طرابلس الشام إلى صالحية دمشق، وبعد أن استعد لإقراء العلوم، وصار حجة في معرفة المنطوق والمفهوم، رحل إلى قرية منين قرية من قرى دمشق، واستمر بها إلى أن توفي في سنة ثمان ومائة وألف، ودفن بها وقبره معروف ظاهر مشهور. واشتهر أنه كان من ذرية العارف بالله عدي بن مسافر، من ذرية ذي النورين عثمان بن عفان، هكذا اشتهر في هذه البلاد، وفي وطنه الأصلي بين أقربائه في مدينة طرابلس الشام انتهى ملخصا. ونقل العالم المؤرخ خليل أفندي المرادي بأن الشهاب المذكور بعد وفاة شيخه أبي المواهب درس بحجرته داخل مدرسة السميساطية إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1185 أن توجه عليه تدريس العادلية الكبرى، فانتقل إليها ودرس بها، وأقام على الإفادة في المدرسة المذكورة والجامع الأموي مدة عمره، فدرس في الجامع المذكور في يوم الأربعاء في البيضاوي، وفي يوم الجمعة بعد صلاتها صحيح البخاري، وبين العشاءين في بعض العلوم، إلى أن قال: وأعطي رتبة السليمانية المتعارفة بين الموالي، وصارت عليه تولية السميساطية العمرية، وأحدث له في الجامع الأموي عشرون عثمانياً وربط عليه خطابة في الجامع المذكور، وصار بينه وبين الخطيب محمد يعيد بن أحمد المحاسني المجادلة في ذلك والشقاق وشاعت في وقتها، إلى أن استقر أمرها على الشهاب المرقوم انتهى بتصرف. أقول: أن تقييد العادلية بالكبرى هو احتراز عن الصغرى فإنها في الصالحية في سفح قاسيون غربي دار الحديث الناصرية، وأما هذه فإنها تعرف بالعادلية الجوانية الكبرى تجاه المدرسة الظاهرية قال الأسدي في تاريخه: في سنة خمس عشرة وستمائة: الملك العادل أبو بكر بن أيوب بن محمد بن شادي بن مروان بن يعقوب الرويني، ثم التكريتي ثم الدمشقي السلطان الملك العادل: ولد ببعلبك سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقيل أول سنة أربعين، ثم نشأ في خدمة نور الدين الشهيد مع أبيه وإخوته وحضر مع أخيه صلاح الدين فتوحاته، وقاتل وفتح فتوحات كثيرة، وتوفي عن خمس وسبعين سنة. وكانت وفاته سنة ستمائة وخمس عشرة خارج دمشق، فحمل إلى قلعة دمشق وبها أظهروا موته ودفنوه بها، ثم نقل إلى تربته بمدرسته العادلية المرقومة التي وجه تدريسها على الشهاب أحمد المنيني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1186 المومى أتليه، وانتقل إليها ولم تزل تحت توليته ومحل إقامته وتدريسه، إلى أن توفي يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن في تربة مرج الدحداح وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به، وخلفه في التولية على المدرسة المرقومة والتدريس بها أولاده السادات عبد الرحمن أفندي وعلي أفندي وإسماعيل أفندي، ولم يزل ذلك ينتقل في أولاده إلى أن آل ذلك إلى المترجم المومى إليه أطال الله بقاه، فلقد أحيا مآثر من سلف، وكان لهم خير خلف، ولقد كنت مدحته بهذه الأبيات وإن كانت بمقامه فير وافية، فأحببت ذكرها في هذه الترجمة السامية وهي: يا عذولي إليك عني فدائي ... بهوى الغيد قد غدا متنائي خل عذلي واعذر فتى ذا عناء ... بفتاة تسبي النهى عذراء قد سئمت الغرام بعد هيامي ... ونبذت الهوى لجلب هنائي إن أهل الهوى لكل هوان ... وامتحان ونكبة وبكاء وحنين وزفرة وصدود ... وعذاب لاذقته وشقاء ليت شعري وهل ترى كل هذا ... ذات حسن شيئاً من الأشياء ظن قومي بأن داء غرامي ... مستديم إلى حلول عزائي مذ رأوا علتي وقد لاح للمو ... ت عليها أدلة الحكماء فغدا يخلص الغرام إلى أن ... بت منه مجملاً بشفائي إن هذا لمذهب فيه قلبي ... قد تهنى وذاك فيه بلائي طالما نصلة القدود فرتنى ... وسيوف اللحظ اعترت أحشائي قل لساجي للعيون يعنى معنى ... بورود الخدود ذات الصفاء ولذات الدلال تختار صبا ... ما صبا للتأنيب والنصحاء قد كفاني ما ذقت من حر وجدى ... وشفاني الإله من لأوائي يا شبيه القناة قداً ولينا ... كم أطلت الجفا تروم شقائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1187 إنني كنت للجمال رقيقاً ... لست أرجو ما دمت منه شفائي ثم أصبحت رق حب إمام ... ذي كمال ورفعة وبهاء من حباه الإله كل حباء ... منه قلب الحسود في برحاء وتعالت به دمشق وتاهت ... ثم قالت ذا سيد الفضلاء هو حبر الأنام مفتي دمشق ... ثاقب الفهم نافذ الآراء مذ دعته الأيام للدين تاجا ... حسد الأرض فيه أوج السماء رتبة فد لاذت به وتحلت ... بالمنيني محمد العلماء لو أعار الظلام أخلاقه الغ ... ر لأغنت به عن الأضواء ذي يراع يبدي إذا أمطر الطر ... س فنوناً جلت عن الإحصاء بمعان تحكي جمال لآل ... كنجوم في الليلة الظلماء لو نظمت النجوم فيه عقوداً ... ماقضيت من الحقوق منائي عاتبي دع لوم المحب وسر بي ... لهمام ذي رتبة علياء فعليه أني قصرت ثنائي ... وإليه وجهت كل ندائي ليس يحلو الثناء إلا على من ... نال فضلاً مستوجباً للثناء إن لي في مدحيه حسن وفاء ... منقذ لي من شدتي وبلائي واقتراب قد نلت منه ابتعاداً ... عن همومي وكربتي وعنائي دام مادام يشرق البدر ليلاً ... عالي القدر قاهر الأعداء بنبي قد فاق كل نبي ... ورسول قد فاز بالإسراء فعليه السلام ما جن ليل ... وأنار الصباح أفق السماء توفي رحمه الله في ظهر يوم الأربعاء غرة شهر شعبان المبارك عام ألف وثلاثمائة وسنة عشر ودفن في تربة مرج الدحداح رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1188 السيد محمد أفندي بن السيد عمر أفندي شيخ السجادة الرفاعية بحماة المحمية ابن السيد حسن بن السيد محمد الحريري الرفاعي. وينتهي نسبه إلى " إمام الأولياء وتاج العرفاء مولانا " السيد أحمد الكبير الحسيني الرفاعي رضي الله عنه. من حفيده القطب الكبير السيد علي أبي الحسن الرفاعي رضي الله تعالى عنهم أجمعين قال صاحب العقود الجوهرية، في مدائح الحضرة الرفاعية: ولد المترجم المومى أتليه سنة أربع وسبعين ومائتين وألف في بلدة حماة، وتوفي والده وهو صغير، وكفله أخوه لأبيه الرجل الكامل السيد الشيخ أحمد أفندي، ونشأ على حال من الكمال والأدب، وتلقى علوم العربية عن علماء حماة الشام، وحضر إلى دار السعادة اسلامبول وأكرم في رتبة الموالي المعروفة برتبة أزمير، وأجيز في الخلافة في الطريقة العلية الرفاعية من صدور الصدور والفائض النور، حضرة السيد محمد أبي الهدى أفندي نقيب أشراف حلب المقيم بدار السعادة، وتربى بتربيته وسلك على يديه واستفاض من معارفه وله فيه المدائح الجميلة والقصائد الجزيلة وهو من بيت في الديار الحموية والبلاد الشامية، غني عن التعريف لاشتهاره كالشمس في رابعة نهاره، وهو الآن مقيم في بلدته حماه، مواظب على قراءة الأوراد والأذكار أطراف الليل وآناء النهار، مشتغل بإعلاء كلمة الإرشاد الرفاعية في زاويتهم الزاوية الحريرية. لا زال موفقاً لخدمة الشريعة الغراء مدى الآناء. ومن نظمه مشطراً أبيات سيدي أبي الهدى أفندي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1189 شيخ الورى غوث الخليفة أحمد ... سامي الذرا الفرد الأجل الأوحد فجر العراق وصبحه البادي ومن ... كالشمس مظهر فضله لا يجحد ذاك الرفاعي الحسيني الذي ... من ذكره النار الوقودة تخمد والطائل الباع الذي في حجه ... مدت له من حجرة الهادي اليد وتنور الحرم الشريف براحة ... من أجلها خلق الوجود الموجد تلك اليد العليا التي لقبوله ... برزت له بعد المكانة تشهد الله أكبر ذلك المجد الذي ... من دونه حط العلى والسؤدد شرف عظيم ليس يدرك حده ... أولاه أحمدنا الحبيب محمد رفع الله مقامه ورفع في مدارج التوفيق أعلامه آمين. محمد سعد بن محمد سعد الشهير بالمصري صاحب تحفة أهل الفكاهة: إمام علي القدر والمقام، همام قد انقاد له هام النثر والنظام، لآلئ أفنان آدابه فرائد، وحدائق فنونه مفتحة الأزهار لكل قاصد ووارد، ألفاظه بزلال الجمال ممزوجة، ومعانيه الباهرة في قراطيس الأفئدة مدروجة. فمن لطائف هذا البليغ الماهر، المزري دره الثمين بالجوهر الباهر، ما كتبه على طرة كتابه المسمى بتحفة أهل الفكاهة، في المنادمة والنزاهة: إذا ما شئت أن تحيا سعيداً ... وتظفر باللطافة والنزاهه فطالع سفرنا السامي المسمى ... بتحفة من هموا أهل الفكاهة وكان فراغه حفظه الله من تأليف هذا الكتاب في شهر رجب الحرام سنة ألف ومائتين وخمس وتسعين. ومن قوله حفظه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1190 نادمتني ضحى وكان عليها ... حلة تشبه السماء صفاء فتوهمت أن مجلس أنسي ... زاد فيه لنا السماء ضياء وقال أيضاً: منجم الحسن لما أن رأى قمري ... واستكسف القد منه قاس بالملك وقال دائرة الخصر النحيل به ... موهومة ولذا قامت على الفلك وقال أيضاً: ألا إن أنسي وابتهاج أحبتي ... هما مطلبي الأعلا وغاية بغيتي وظني لأنسي حيث بان منغص ... فلا كان من أخشاه عند مسرتي وكتب إلى بعض الأحباب، وكان ذلك جواباً لهم على مراسلتهم: كتبت أشكوك بينا ... مستصعبا من ملالك وليتني كنت رقماً ... حتى أمر ببالك أما بعد فقد ورد كتابك الكريم المشحون باللطائف، ويا حبذا ذاك الرقيم، فقمت له إجلالاً على قدم الفرح، وزال إذ ذاك ما كان عندي من الترح، وها أنا أرسلت جوابه في غاية الإجادة لأشكر مآثر السيادة، والتمس رسالة هي نصف المشاهدة وزيادة، أراني الله ضياء محياك الباهر وأنشقني عرفك العاطر، بمنه وكرمه آمين. ومن قوله في اسم اسمعيل تطريزاً: الخد فيه الورد والنسرين ... والثغر منه اللؤلؤ المكنون سمحت بك الدنيا وضن بك الوفا ... فانا الحزين الساهر المفتون ما بالني أخلصت فيك مودتي ... وتقول لي لا خنتني وتخون إن كنت قد أخطأت سبل بني الهوى ... في أي مؤتمر عليك تبين عنفتني فازددت فيك تولها ... وأذعت أسراري وكنت أصون يحلو فمي أني ذكرتك مرة ... ويشوقني لحديثك التلحين لم يحكني قيس غراماً والذي ... أنا مرتجيه على هواك يقين أنت الذي يا ظبي قد علمتني ... بين الأنام الشعر كيف يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1191 من لي بان ترضي الرقاد لناظري ... وإلام أنت به علي ضنين يا حسنه الراقي الكمال محله ... في الخلق ولدان وحور عين نادي وقل هذا الذي قد صانني ... ما كل اسمعيل عز أمين وله في اسم أحمد لطيف: أيها الظبي المفدى ... منعش القلب الحزين حبذا فيك التصابي ... يا ابن أنس العاشقين ما لكي قد كان مني ... سفه فيك يقين داره منك بعفو ... واصفح الصفح المبين لا تكن مر التجافي ... متن أشواقي متين طالما أنفقت شعراً ... فيك حيناً بعد حين يا ترى أحظى بوصل ... منك أو أبقى رهين فتدارك نار شوقي ... يا لطيف العالمين ومن لطائفه قوله في عواد وعوده: وعود في يدي رشأ كسته ... وضاءة وجهه نوراً بهيا إذا ما خلته يحنو عليه ... تقول البدر يختطف الثريا وقال الصفي الحلي في العود: غنى على العود شاد سهم ناظره ... أمسى به قلبي المضني على خطر دنا إلي وجست كفه وتراً ... فراحت الروح بين السهم والوتر وقال أيضاً: فتن الأنام بعوده وبشجوه ... شاد تجمعت المحاسن فيه حتى كأن لسانه بيمينه ... طرباً وإن يمينه في فيه وقال أيضاً: وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدما وهو ريان ناعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1192 ليطرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم وقال برهان الدين القيراطي: أقول إذ جس عوداً مطرب حسن ... يريك يوسف في أنغام داوود من ضوء وجهك تبقى الأرض مشرقة ... ومن بنانك يجري الماء في العود وقال شرف الدين القيرواني: سقى الله أرضاً أنبتت عودك الذي ... ذكت منه أغصان وطابت مغارس تغنت عليه الورق والعود أخضر ... وغنت عليه الغيد والعود يابس وقال الرهان القيراطي: سمع غنى فأغني ... بصفات الحسن ذاتي قلت إذ حرك عوداً ... عارف بالنغمات أنت مفتاح سروري ... يا سعيد الحركات وقلت ونحن على مائدة السماع، متناولين من ألوانه الشهية ما يغذي الأرواح والأسماع، وكانت واقعة الحال، مناسبة لهذا المقال: عجباً لعواد على العود انحنى ... وغدا يتيه تواجداً وهياما وتكلما حتى فؤادي كلما ... وتشاكلا لذوي السماع كلاما وتراقصا رقص المشوق لألفه ... والحب أثر فيهما الأسقاما وتعانقا وتشاكيا أمر الهوى ... حتى بكينا رحمة وغراما وقلت أيضاً: وعواد بحب العود أضحى ... معنى ليس يصغي للمليم بديع مغرد ظبي رشيق ... سما لطفاً على مر النسيم فلما جسه أبدى حنيناً ... وقال ارحم ضنا جسم سقيم تعطف ضاربي كرماً وجوداً ... فقلبي بات ملقى في الحميم لعمر قد أذاب القلب وجدا ... وأبكانا وحقك يا نديمي وضاربه انحنى وحنى عليه ... حنو الثاكلات على اليتيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1193 محمد بن محمد يوسف بن عبد الكريم الأنصاري أديب ماجد، ولبيب قد أقام على أدبه آلف شاهد، وهو من رجال اللآلئ الثمينة في أعيان شعراء المدينة، فقال في ترجمة هذا الكامل والجهبذ الفاضل: الشبل بن الليث والقطر بن الغيث، الصادقة نجابته والفائقة لبابته، الذي اقر عين أبيه ببنائه في المكارم على مبانيه، وارتدائه برداء معانيه، فلله دره من نجل أفرح والده وأبكت حاسده. وأخبرني بعض بني عمه أن له كتاباً في محاسن الحبوش على منوال كتاب الطراز المنقوش، لم أقف عليه لأنقل منه بعض نظمه. ولكن رأيت له هذه الأبيات الدالة على وفور حظه في الأدب وسهمه، وهي قوله: سبت عقلي مهفهفة بنجد ... فتاة من بني شرف ومجد تمايل في مزعفرة عليها ... يفوح عبيرها مسك بند فقلت أيوسف في الحسن أنتي ... فقالت يوسف في الحسن ندي فقلت لها رشا أنتي فقالت ... أراك تعرض الغزلان عندي حكيت من الظبا عيناً وجيداً ... ولكن ما لهم قد كقدي فقلت لها أخد مثل ورد ... فقالت لا يحاكي الورد خدي فكيف تقول خدي مثل ورد ... يباع مع الوصايف بيع زهد وحقك ليس يشبهني فاني ... جميع الحور والولدان جندي وأهل الحسن كلهم عبيدي ... ويشهد لي بذا ثغري وخدي فبادر بالتحية قلت أهلاً ... ببدر زارني من غير وعد فبت ملذذاً في طيب عيش ... ونجمي طالع في برج سعدي إن هذه القصيدة قد أذكرتني بقصيدة كنت أنشأتها لواقعة لطيفة فأحببت ذكرها هنا لأدنى مناسبة وهي: مربى محبوب قلبي ... وانثنى وهو يهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1194 قلت قف يا نور عيني ... أنني مضنى محب قال لي أية شيء ... ترتجي ممن تحب قلت خل صبا معنى ... قال وصل الصب صعب قلت عدني قال دعني ... وعد من تهواه عيب قلت في أحشاي نار ... قال لي دعها تشب قلت ما تصبو لحالي ... قال لي هيهات أصبو قلت أحشاك حديد ... قال ذا سهل ورطب قلت هل تهوى هواني ... قال أهوى وأحب قلت قلبي ذاب وجداً ... قال هل عندك قلب قلت خف يوم حساب ... قال ذا والله قشب قلت ما لي فيك طب ... قال ما للحب طب قلت قتل الصب صعب ... قال بل سهل وعذب قلت ما هذا التجافي؟ ... قال لي تيه وعجب قلت هل ذنب لهجري ... قال لي كلك ذنب قلت هل تدري بعيشي ... قال أحزان وندب ثم ولى وزفير ال ... وجد في الأحشا يهب من لولهان مهان ... عمره هم وكرب خانني بدري ودهري ... يا إلهي أنت حسب ثم إن هذا المترجم له أبيات كلها درر، وقصائد لها غرر. توفي في أوائل القرن الثالث عشر، ولم أقف لتعيين وفاته على أثر. محمد أمين الزللي المدني الخطيب ناظم جواهر الكلام، وناثر أزهار البيان بأنامل الأقلام، تقدم في مضمار البلاغة وما تأخر، وذلل صعاب البراعة بأدبه وما تعذر، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1195 العالم بشعار الأشعار والمقتنص لأبكار الأفكار، فمن بديعه المستجاد وصنيعه الذي أبدع فيه وأجاد، قوله: أنا في الحب معنى ... والذي أهوى مهنى ولسان الدمع أبدى ... من غرامي ما استكن وفؤادي قد وها وج ... داً وعظمي زاد وهنا واشتياقي قد براني ... وحشى الأحشاء حزنا وزفيري وشهيقي ... أحرق الجسم وأفنى وجفا النوم جفوني ... فغدت للسهد سكنى يا لودي من لقلبي ... من مليح يتجنى من مجيري من مليك ... أسر القلب وعنى آمر في الحب ناه ... فرض الحب وسنا ونضى سيف جفاه ... وبما أرجوه ضنا ليت شعري ما عليه ... لو شفا بالوصل مضنى وعفا عن شؤم ذنبي ... كرماً منه ومنا وتلافى بالتلافي ... مبتلى فان معنى ورضي عني فإني ... صرت كالعبد وأدنى أيظن الهجر يسلى ... ويظن القلب يثنى لا ومن قدر في الح ... ب بأن يبقى وأفنى ما تسليت ولو أمس ... ت لي الجفوة سجنا لا ولا أهوى سواه ... إن دنا أو صدعنا كيف أسلوه وقلبي ... نحوه حن وأنا واصطباري فر من بي ... ن يدي والعقل جنا يا حبيبي هات قل لي ... أي ذنب كان منا الذي أغراك حتى ... ملت عما قد عهدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1196 ما الذي أوجب هذا ... هات بالله أفدنا إن يكن ذاك دلالاً ... ما أحيلاه وأهنا أو لذنب كان أنا ... عنه تبنا ورجعنا أو وشى واش مريب ... أو حسود قد تعنى فلقد أبلغته بالهج ... ر فينا ما تمنى حبذا أن كان ير ... ضيك ولو أنا تلفنا ومن الاقتباسات الشعرية الدالة على رفعته العلية قوله: يا معشر العشاق أوصيكم ... حقاً وإني لمن الناصحين والنجح في نصحي لكم فاسمعوا ... وصية العاني حليف الأنين ومن قوله: سواي محب للمواثيق ناكث ... وإني على عهد الصبابة ماكث وإن تنس عهد الحب إني لحافظ ... لود قديم لم يغيره حادث وأقسم أني لا أميل عن الهوى ... وما أنا في هذي الألية حانث فكيف سلوي واشتياقي دائم ... إذا رث منه باعث جد باعث وإن عقد العذال في كتب لومهم ... فصولاً فلي في حلهن مباحث وإن سلموا حال الجدال تركتهم ... وإلا فلم أبرح بعلم أباحث وشتان ما بيني وبين مؤنبي ... لأني مجد في الهوى وهو عابث وإن كان صبري عن فؤادي راحلاً ... فجيش غرامي في سويداه لابث فيا يوسفي الحسن يا من محبه ... غدا وهو من يعقوب للحزن وارث ويا ناهبا عقلي وسالب صحتي ... بطرف مريض الجفن للسحر نافث رويدك لا تصدع بصدك مهجتي ... فقد أزعجتني من جفاك الحوادث وصلني ولا تصغي لقول عواذلي ... فما هم وما قالوه إلا خبائث وذرهم يخوضوا في الملام فإنما ... عداوتهم للعاشقين توارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1197 ومن قوله: ما أبصر الطرف بمصر وشام ... في الظرف والبهجة والاحتشام مثل رشيق صاد أحشاي إذ ... صادفته يعطف غصن القوام ما بين سلع ورياض بها ... قد رقص الغصن وغنى الحمام وصفقت أوراقه فرحة ... إذ نثر الدر عليها الغمام فصرت مبهوتاً لما عاينت ... من حسنه عيناي والقلب هام ولم أطق تأخير رجل إلى ... خلف ولا تقديم أخرى أمام فمذ رأى من حالتي ما رأى ... أيقن أني دنف مستهام وجاء نحوي مقبلاً مسرعاً ... مبتسم الثغر وأدى السلام فقلت يا أهلاً ويا مرحبا ... بمخجل الشمس وبدر التمام وكان أن يعطف عطفاً إلى ... روض لشمل الأنس فيه انتظام لولا صديق ظنه إذ بدا ... له رقيباً فتوقى الملام وراح عني خجلاً مفزعاً ... وخلف الأحشاء فيها ضرام لا توقعوا أنفسكم في الهوى ... فهو هوان وعذاب مهين فامتثلوا الأمر وعنه انتهوا ... إني لكم منه نذير مبين وقال: تبدى لنا ملفتاً جيده ... ومن عادة الظبي أن يلتفت ومر وأسرع في مشيه ... فخلناه من شرك منفلت غزال غزاني وأبدى السرو ... ر لذلك حتى عذولي شمت وصال بأسمر من قده ... وأبيض من جفنه منصلت فلا بدع إن صرت من لحظه ... جريحاً وعقلي به قد بهت وأمسيت لم أدر أين الطر ... يق ولا الفرق ما بين سبع وست وأسرعت إن سار في خطة ... إليه وإن يلتفت التفت فكل يميل إلى حسنه ... إذا ما بدا وإذا ما نعت فيا ليته جاد لي باللقا ... على رغم أنف الزمان المشت وإن سمح الدهر يوماً به ... فلم التفت طول دهري لست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1198 وقوله: مذ غبت يا بدر عن هذي المطالع ما ... أبقيت إلا غراماً في الضلوع نوى فالجسم عندي وعيني في الطريق وها ... قلبي لديك يعاني حرقة وجوى والشوق ولى علي الحزن إذ عزل ال ... صبر الجميل ونومي للفرار نوى والدمع خطط لي ثوب الضنى بيد ... حمراء لما رأى جسمي سليب قوى فكم يقاسي العنا قلبي وقلبك يا ... روحي مهنا لأنواع السرور حوى وإن هذا المترجم من أعيان حديقة الأفراح لإزالة الأتراح. وقد ترجمه مؤلفها فقال: صاحبنا الأديب، محمد أمين الزللي المدني الخطيب، وأحد أدباء العصر، والجوهر الفرد الذي ما ظفر بمثله جوهري في الدهر، اجتمعت به عام ألف ومائتين واثنين وعشرين في بندر جدة، فرأيت من أخلاقه ما أوجب علي حمده، شمائله تدل على اللطافة ورقته أرق من السلافة، ما الدر النظيم بأفخر من عقد نظامه الثمين، وما أرج النسيم بأضوع من روائح منثوره الذي هو في الحقيقة سحر مبين، فمن لطائفه قوله: لاح الصباح براية بيضاء ... وسطا ففرق عسكر الظلماء والروضة الغناء قام هزارها ... يشدو فأشجانا بطيب غناء والغصن لاح لنا بتاج أزاهر ... متكلل بجواهر الأنداء فانهض وبادر للخلاعة واغتنم ... صفو الزمان ولا تكن متنائي واقرن صبوحك بالغبوق ولا تدع ... فرص السرور بغدوة ومساء واعقد ببنت الحان واجعل مهرها ... عقلي وأشهد سائر الندماء واستجلها بكراً تقلد جيدها ... بعقود در بل نجوم سماء واشهد محاسنها إذا ما أهديت ... من كأسها في حلة اللألاء وافضض ختام كؤوسها واكشف لثا ... م عروسها وانشق لطيف شذاء واعدل عن العيدان وارشفها على ... رقص الغصون ونغمة الورقاء وإذا سألتك ما اسمها متلذذاً ... قل لي فديتك في جواب ندائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1199 هي راحة الأرواح والروح التي ... قامت بها أجساد كل هناء لا بل هي الراح التي من شأنها ... جلب السرور ودفع كل عناء راح تشابه لونها وإناؤها ... وتشاكلا في رقة وصفاء راح إذا ظهرت بيوم مشرق ... أخفت أشعتها ضياء ذكاء راح إذا ما أبرزت من خدرها ... في ظلمة لم تفتقر لضياء راح يفوق المسك طيب شذائها ... يغنيك عن ند ونشر كباء فاشرب هنيئا واسقنيها قهوة ... حمراء وسط زجاجة بيضاء من كف ساق في لماه ولحظه ... وحديثه نوع من الصهباء وبخده ورد حماه بأسهم ... عن قطفه باللحظ والإيماء فإذا رنا هش العيون أو انثنى ... فضح الغصون بقامة هيفاء وإذا بدا والبدر حال تمامه ... لم يدر أيهما رآه الرائي فعليك يا هذا بها وإليك عن ... قول العواذل يا أخا السراء واركض بميدان الخلاعة والهوى ... طلق العنان برغم كل مرائي ودع المساجد عنك والزم عادة الأ ... دبا وخل ثقالة الفقهاء واصرف زمانك كله في شربها ... صرفاً وحاذر مزجها بالماء وامزج زجاجتها إذا ما عفتها ... بلماه فهو دواء هذا الداء أو من لمى عذراء ذات مقبل ... عذب شهي فيه برء ضنائي تسبي وتستلب العقول إذا رنت ... للعاشقين بعينها الكحلاء واعص النصيح ولا تخف أحداً سوى ... مولاك في السراء والضراء واخضع وذل له ولذ بجنابه ... ينجيك من سوء وشوم بلاء واعد نوبة مخلص من قبل أن ... يزف الرحيل وأنت في الأهواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1200 فلعل أن يمحى بصادق فجرها ... ديجور ليلة جرمك الليلاء إن هذا المترجم قد توفي بعد الألف والمائتين والاثنين والعشرين ولم أقف على تعيين وفاته، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. السيد محمد يوسف البلجرامي الحسيني هو من رجال الحديقة وقد ترجمه بها فقال ومن قوله أيضاً: اعطف ورق لحاليه ... يا ذا الشفاه الحاليه لا تبل قلبي بالتجني ... فهو نار حاميه خذ يا حبيبي ما ملكت ... وإن أردت فؤاديه واحيرتي واحرقتي ... إن زدت في هجرانيه ارحم فديتك ذلتي ... وكآبتي وبكائيه جرعتني غصص الجفا ... وتركت روحي باليه ها حالتي يامنيتي ... تنبيك عن أشجانيه يا من حفظت وداده ... وأضاعني ووداديه حرمت طيب النوم يا ... تياه عن أجفانيه يكفيك إني مدنف ... حتى العذول رثى ليه أراه مما نابني ... آه وآه ثانيه ما ضر لو أطلقتني ... من لوعتي وعنائيه سوفت بي ومطلتني ... وجحدت دين وصاليه عرج علي ولا تعذبني ... وشرف داريه والله روحي عن غرا ... مك قط ما هي ساليه داوي بوصلك مهجتي ... لا ذقت مثل غراميه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1201 قال حسان هندوستان المعروف بازاد، في كتابه سبحة المرجان: هو قسطاس المعقولات، ونبراس المنقولات، بل هو ملك كريم، وعلى الخزائن حفيظ عليم. علمه الله من تأويل الأحاديث، وأدار عليه كؤوس العناية بالتثنية والتثليث فمن لطائفه قوله فيمن ورد روضه. قد شرف سيدي رفيع المقدار ... روضي ليرى به جمال الأزهار رحبت به وقلت أهلاً سهلاً ... حياك الله أنت نور الأنوار ويعجبني قوله: سرت إلي وكان البدر ملتمعاً ... وكابدت في سراها أي معسور فقلت أهلاً بمن جلت عنايتها ... بها تيسر لي نور على نور انتهى. توفي في القرن الثالث عشر ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله. الشيخ محمد علي الجيلاني المعروف بالحزين نزيل نبارس هو من رجال حديقة الأفراح، قد ترجمه مؤلفها بقوله: عالم توجه الله بتاج الكمالات وألبسه حلى الشرف والكرامات، عارف أوضحت شمس معارفه البازغة منهج الفلاح، عابد صرف شريف عمره في طاعة ربه المناح. أديب، ديوان نظمه باللسان الفارسي نزهة الأبصار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1202 بليغ، لطائفه باللسان العربي درر وأنوار. فمن جيد شعره قوله من لاميته المشهورة التي مدح بها الإمام المرتضى كرم اله وجهه: وليس عنك سواد العين منصرفاً ... مهما تشاهد بالتدعيج والكحل اسمع كلامي ودع لامية سلفت ... الشمس طالعة تغنيك عن زحل فمن أنيني حمام الأيك في طرب ... قد افتدى بزفيري واقتفى رتلي مني الأنين ومنكم ما يليق بكم ... بذلت جهدي لكم لا بد من بدل فو الذي حجت الزوار كعبته ... وكم هنالك من داع ومبتهل جرى مجاري دمعي حب حضرته ... وأشرق الشوق في صدري بلا طفل ليس اصطباري ببعد الدار عن سكن ... بل من نحولي يا غوثي ومن فشلي وكم دعوتك يا كهفي ومعتمدي ... مستنصراً فأتني بالنصر عن عجل توفي في القرن الثالث عشر، ولم أعلم تاريخ موته رحمه الله. قاضي القضاة الأمجد محمد نجم الدين خان هو من أفراد أعيان الحديقة، وإنسان حدقة أهل المجاز والحقيقة، قد ترجمه صاحب الكتاب المذكور وإن كان فضله بين الأنام مشهور، فقال: نجم الهداية الثاقب مظهر المكارم والمناقب، غطمطم العلوم العقلية والنقلية، وسفينة النجاة لمن اهتدى بأنجم فضائله الجلية. نثاره شذور المسجد، ونثاره من وقف عليه لم يلهج بغير الصلاة والسلام على محمد. فمن لطائفه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1203 لسلمى جمال كشمس الضحى ... لها جبهة قل هلال بدا لها قامة مثل سروة تميل ... يداها كأغصانه بالصبا وكانت لها حلة مع صفا ... عن القلب ما زال تجلو الصدا لقد فارقتني بلا باعث ... وداع إلى نقض ذاك الهوى وما لاحظت خدمتي كالعبيد ... ولم توف أصلاً عهود الحمى ولي دونها هيأة الاضطراب ... كحوت عن الماء جاز الثرى جرى من عيوني سيول الدما ... إلى الله أشكو جرى ما جرى فيا ثاقب اصبر ولا تجزعن ... لأن النسا قل فيها الوفا انتهى. مات المترجم عي أوائل القرن الثالث عشر. المولوي محمد باقر النوايتي المدراسي قد ترجمه صاحب الحديقة فقال: نابغة الدكن وجريرها، وريحانة الظرائف وزهيرها، بقر الفنون بأنفاسه الطويلة في النثر والنظم، وذبح الطروس بنفائس المدائح وزخارف الذم، فأهدى إلى السواد الأعظم المدح المليح، وأزجى إلى الفرقة الإمامية الذم القبيح. فمن لطائف نثره ما كتبه إلى السيد العلامة الأديب صفي الإسلام، مفتي الشافعية بالمدينة المنورة أخبرنا بن علوي باحسن جمل الليل: سلام به نور المحبة لامع ... ونشر تباشير الهوى منه ساطع على من جميل خلقه الذكي هو المسك ما كررته يتضوع، وحسن صيته العلي كبرق بدا من جانب الغور يلمع، المتروي بمنهل المجد الروي والمتحلي بملبس الشرف الجلي، الرافل في مطارف النسب الفاخر والحافل بطرائف الحسب الزاهر. المتسم ذروة العز الشامخ المتسلم لصفوة الفخر الباذخ، المتميز بمزايا الشيم الرضية والمتحيز بزوايا الهمم السنية، نخبة الفضلاء الأمجاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1204 ونقاوة الأدباء الأجواد المنسوب إلى اليمن الميمون كالسهيل، مولى السيد أحمد باحسن جمل الليل، أنار الله مهجته وأدام بهجته. وبعد فلا يخفى على ضميركم الذي هو ملواح كل فلاح ومصباح كل صلاح، إن التعارف المتحقق في معهد الأرواح، يورث التحالف في مشهد الأشباح، ويثبت تارة مضمون الغرام الأيمن بالخط الشعاعي المتصل بالوجه الحسن، ويجدد أخرى تلك النسبة المتناهية الكتمان، بإبلاغ المحاسن إلى مسامع الخلان. وإن اشتهر انتشاء الحب من العين سراً وعيانا، فالإذن تعشق قبل العين أحياناً. إلى غير ذلك والسلام انتهى. توفي المترجم المذكور في القرن الثالث عشر ولم أقف على تعيين وفاته. السيد العلامة محمد بن إسحاق هو من زهرات أفنان حديقة الأفراح، ترجمة صاحبها مع السادة الملاح، فقال: باب مدينة العلم ومعدن الكرم والحلم، نثره أبهى من الدر المنثور، ونظمه أفخر من قلائد النحور. فمن لطائفه قوله: أيا بارق الجرعا هل الجزع ممطور ... وهل بالغواني ذلك السفح معمور وهل ذلك الروض لنضير نضارة ... بعين الرضا من ساكن السفح منظور وهل كسيت فيه الغصون قطيفة ... مطرزة خضرا وأزرارها نور أزاهير تغدو بعد حين كأنها ... دراهم في حافاتها ودنانير فلله ذاك الروض كم عبرت به ... نسيم الصببا في طيها المسك منشور يكبر من يأتيه حتى طيوره ... لها فيه تهليل كثير وتكبير إذا رقصت أغصانه فحجامه ... مزامير في أرجائه وطنابير سقاها الحيا طول المدى فهي جنة ... لأن الحسان اللاعبات بها حور كواعب لا تفتر عن حرب عاشق ... بتدبير رأي فيه للصب تدمير يجهزن جيش الانكسار لحربه ... وما هو إلا لحظ عين وتفتير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1205 وغيداء أما اللحظ منها ففاتك ... وأما اريج الثغر منها فكافور إذا ابتسمت أو كلمت مغرماً يرى ... من الدر منظوم بغيها ومنثور يحافظ مضناها على حبه لها ... وياليت مضناها على ذاك مشكور لها في الجفا جزم على رغم أنفه ... وفي وصلها تقديم رجل وتأخير بطول تجنيها وتفتير لحظها ... فؤادي مسجور هناك ومسحور شكوت لها هجري وقلت لها متى ... بطيب التداني منك يسعد مهجور فيا هذه عطفاً على ذي صبابة ... له في الهوى شأن لحسنك مشهور أسرت منامي بعد اطلاق مدمعي ... وكم في الهوى يشكو طليق ومأسور وأرسلت قلبي المستهام مع الصبا ... إليك فعاد القهقري وهو مقهور هبي أنه ضيف ألم بداركم ... وللضيف إكرام عليك وتوقير على كل حال أنت عندي حبيبة ... وعذرك مقبول وذنبك مغفور انتهى كلام الحديقة. ثم إن المترجم المذكور رحمه الله تعالى قد كانت وفاته في أوائل القرن الثالث عشر لكنني لم اقف على تعيين تاريخها. محمد الجرموزي قال في حديقة الأفراح لإزالة الأتراح: بليغ ماهر يزدري دره الثمين بالجوهر الباهر، فمن لطائفه قوله مكاتب حسين بن علي الوادي وهو إذ ذاك بصنعاء: الغيم أرخى أدمعاً لاتفيق ... وألبس الأغصان ثوباً انيق ودبج الأرض فمن أخضر ... أو أصفر أو أحمر كالعقيق وكلما مرت بنا نفحة ... أهدت من الأزهار مسكاً سحيق روت حديثاً عاد دمعي له ... مسلسلاً بالود لما يستفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1206 إن الربا قد كللت بالندى ... وانتظم المنثور بين الشقيق يا أيها الوادي الذي نشره ... قد ملأ الأرجاء نشراً فتيق بعدك عني والوفا شيمتي ... مالي إلى السلوان عنه طريق انتهى. مات المترجم بعد الألف والمأتين ولم أقف على تاريخ موته. السيد محمد بن صلاح الهادي قال أحمد بن محمد الأنصاري اليمني الشرواني في حديقته المشمولة بأنواع الأماني: علم الهدى، والإمام الذي ما ضل من تبعه واقتدى، فمن لطائف قوله: لست أنسى رقة العيش الذي ... زاد في الرقة حتى انقطعا في ربا الشجعة كنا جيرة ... وأخلائي وأخداني معاً جنة عندي رباها زخرفت ... سيما والكرم فيها أينعا وسقى الله لييلات الحمى ... وكلاه وحماه ورعا وصديقاً زارني من بعد ما ... بجلابيب الظلام ادرعا قطع البيداء نحوي مسرعاً ... والفيافي والموامي قطعا زار كالطيف اختلاساً ومضى ... ثم ما سلم حتى ودعا أودع القلب أسى إذ ودعا ... فجميل الصبر مني امتنعا وسعى الحادي به مستخفرا ... بعد أن فاقتكم لأسمعا أو ظننتم أن جفني هاجع ... فلعمري بعدكم ما هجعا عيل صبري إذ رحلتم جزعا ... وفؤادي ذاب فيكم ولعا كان ينهاني الحيا أن أشتكي ... فغرامي لحيائي منعا انتهى. مات في القرن الثالث عشر في أوله رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1207 القاضي محمد بن أحمد مشحم ممن تزينت الحديقة بطلعته وتحلت بصفته وحسن ترجمته، قال منشيها وبطراز البراعة موشيها: عدل عن الجور وفيما حكم عدل، وأتقن فن البلاغة بصائب رأيه الأكمل، فمن لطائفه قوله مجاوباً الفاضل الأديب محمد ابن خليل السمرجي الجداوي: أزهر الربا أهديت أم لؤلؤ العقد ... أم الزهر جاءت في بديع من السرد أم الروض لا، فالروض ماء وتربة ... وعشب وذا شئ يجل عن الحد أم النسمات العاطرات تأرجت ... بأعبق من مسك فتيق ومن ند أم الخمر في كأس الطروس أدرتها ... أم الشهد أم أحلى من الخمر والشهد أم الريق من فتانة الثغر والرنا ... بعيدة مهوى القرط مياسة القد أم الطرس وافى أم بدا قمر الدجى ... أم الشمس قد لاحت على شرف السعد أم الغادة الهيفاء في الحلي أقبلت ... تميس بأزهى من مرنحة الملد وجاءت بخل لا يخل بوده ... ولا يرتضي إلا الثبوت على العهد بثغر كما يزهو الأقاح ملاحة ... وخد كما التف الشقيق على الورد وجيد كما تزهو ظبا السفح لفتة ... وطرف كما تبدو الظباء من الغمد أم السحر لا استغفر الله إنه ... حرام وذاحل فيا طيب ما أهدي وما هي إلا بنت فكر فريدةتبختر من وشي البلاغة في بردنفائس أفكار أتت لم أجد لهاجزاء سوى الشكر المكلل بالحمد ودر قريض رمت أدراك شأوه ... فقصر عنه في تطلبه كدي حلى صاغها من حاز كل فضيلة ... بها قد حلا جيد المكارم والمجد أخو الأدب الغض الذي جمعت به ... المحاسن حتى صار يعرف بالفرد أديب أريب ألمعي مهذب ... ذكي، سجاياه تجل عن الحد له خلق أزهى من الروض باسما ... وذهن دقيق الفكر أمضى من الحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1208 أعيذ سجاياه التي طاب ذكرها ... بآي المثاني السبع من سورة الحمد لأنفاسه في الطرس أي تضوع ... تصعد منه دائماً عبق الند فلله ما أهديت يا بدر من يد ... وكم لك أيضاً قبلها من يد عندي أياد توالت منك عجلى كأنها ... شرار أطارته الأكف على الزند وإني في عجزي عن الشكر سائل ... مسامحتي فيما أعيد وما أبدي بمالك في سمعي وطرفي وخاطري ... من الصيت والمرأى المعظم والود فودك في قلبي ألذ من المنى ... وذكرك أحلى في لساني من الشهد قدم زينة الآداب بدر كمالها ... ودرة تاج العصر واسطة العقد انتهى. توفي رحمه الله تعالى في القرن الثالث عشر. عز الإسلام محمد بن محسن القرشي كاتب بندر المخا هو ممن احتوت الحديقة عليه ووجهت وجهة الترجمة إليه، فقال مصنفها وجامعها ومؤلفها: مصدر الغرائب ومظهر العجائب، منهل أدبه صافي ومختصر المطول من بدائعه مغني اللبيب وكافي، فمن لطائفه قوله: لقد نثرت أيدي السحائب لؤلؤا ... فنظمها كف الرياض بلا شك وقلد أجياد الغصون عقوده ... فشاكلها نظم الأديب بلا شك كذلك ألفاظ الحبيب وقد دنا ... بمستلطف الأعذار بعد الجفا يحكي انتهى. توفي المترجم رحمه الله في أثناء القرن الثالث عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1209 الشيخ محمد بن عبد الله بن مصطفى الخاني الشافعي النقشبندي الخالدي عالم غير أنه بعلمه عامل، ومرشد إلا أنه بإرشاده كامل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة من موت الجهل أقوى سبب. له فضل قد اعتلا على هام المناقب، وأدب نبوي تتوقد به نجوم الليل الثواقب، وشمائل قد كاثرت رمل النقا، وفضائل قد أربت على الجواهر في الرونق والنقا. مع ماله من كرم يخجل الأجواد، وسخاء هو في الأعناق كالأطواق في الأجياد. لم ترو صحاح التواريخ كأحاديثه الحسان، ولم تحرر كآثاره في صحائف الحسن والإحسان، وجاه قد استوى على سماء القبول، وقدر قد احتوى على ما يفوق المأمول. وهو من رجال الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية، لحفيده الأديب الكامل والأريب الفاضل، عبد المجيد أفندي فقال في ترجمة هذا السيد الأستاذ والسند العمدة الملاذ: فاتحة الأتقياء المهتدين، وخاتمة الخلفاء المرشدين، وقبلة أولياء العلماء، ورحلة علماء الأولياء، روض المعارف الوارف، يأوي إلى ظل فضله وفضل ظله كل عارف، جامع فرق الإرشاد، وفارق جمع الأمداد، منهل أنواء الأنوار الشعشعانية، ومظهر إسراء الأسرار الربانية. إلى رقيق أخلاق يعرفها كل من له في الطريق خلاق، وأنفاس تشف عن علو كشف وأذواق، ربى بها من السالكين نفوساً شموساً، فأشرقوا في فلك الهداية أقماراً وشموساً، وكرم وكرامات تثبت ماله من جلالة الهمم والمقامات، فهو الكوكب الذي قابل بقابليته المحمدية ضياء شمس الذات الخالدية، فانطبعت في لوح مرآته الصقيلة كافة صفاته الجلية الجليلة، فأشرق في سماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1210 الولاية بدراً وفي دولة الهداية صدراً، وأصبح منه فصلاً في وصل، والنسخة الثانية المقابلة على الأصل، وورثه رشداً فرضاً وردا. ولد قد وأناله بقربه تمام المسرة، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف في خان شيخون، محل مشهور في طريق حلب على مرحلة من حماه، منه سيدنا العارف الكبير الشيخ قاسم الخاني صاحب كتاب سير السلوك إلى ملك الملوك، وشرح عنقاء مغرب لخاتمة الأولياء المحمديين الشيخ الأكبر محيي الدين، قدس الله سره ورزقنا نظره وبره، آمين. وكان أبوه عبد الله معززاً في قومه موقراً في أهله، دمث الأخلاق حسن الأوصاف. توفي هذا العزيز، والجد الأمجد في سن التمييز، واشتغل بقراءة القرآن والكتابة وهو في حجر والدته الصالحة التوابة الأوابة، الصوامة القوامة، الذاكرة الشاكرة. ثم ارتحل قدس الله سره مع والدته إلى حماة المحمية، واشتغل بتحصيل العلوم الشرعية والآداب المرضية. فتفقه في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه على العالم الفاضل الشيخ خالد السيد، والعالم الفاضل الشيخ عبد الرحيم البستاني، وقرأ النحو وطرفاً من الآلات على العالم الفاضل الأديب الشيخ حمود زهير، ولازم العبد الصالح الشيخ فارس - الذي كان في حلبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول فارس - مدة ست سنين، ثم أخذ الطريقة العلية القادرية من السيد الشيخ محمد الكيلاني الأزهري قدس سره، واشتغل بها وبتعليم الناس الأحكام الشرعية، وصرف قصارى الهمة لإحياء السنة السنية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفسه، فكم أزال من بدعة ومحا من ضلالة، حتى كان يحضر الناس قهراً إلى المسجد ويعلمهم فرائض الدين، والتوبة من المعاصي وتجديد الإسلام والعقود، فحصل على يده نفع عظيم، واشتهر في أرجاء حماة اشتهار الشمس في رابعة النهار، وصار يعبر عنه بمهدي الزمان، وكان جلوسه في جامع الجامع للعلوم والعرفان، الولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1211 الكامل بلا دفاع الشيخ علوان الحموي قدس الله سره، وإقامته كانت في زاويته، وحصل له بذلك مدد عظيم من روحانيته، ولم يزل كذلك إلى أن شرف الديار الشامية قطب دائرة الإرشاد وبحر الهداية والإمداد، ذو الجناحين وعلامة الثقلين، أبو البهاء ضياء الدين، حضرة سيدنا ومولانا الشيخ خالد قدس الله سره العزيز، فتشرف بأخذ الطريقة العلية النقشبندية عنه، كما ذكر ذلك في البهجة السنية، ودخل الرياضة حالاً في جامع العداس، فأدركته جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين، فحصل له بعد ثلاثة أيام النسبة المعبر عنها بالوصول والفناء، وهو دوام مقام الإحسان، ولم يزل في ذكر وفكر يترقى إلى أعلا المقامات، حتى أتم الأربعينية، فاستأذن بالذهاب إلى أهله في حماة فأذن له، ثم لم يبرح أن عاد فأدخله الرياضة ثانياً، فلما تمت عاد إلى أهله أيضاً ثم رجع فدخل الرياضة ثالثاً ونفسه متشوقة إلى ختم المقامات والترقي في مقام الأولياء، فبعد أن أكمل الرياضة انقلب إلى أهله فمكث غير بعيد، إذا بأمر من حضرة مولانا قدس الله سره بحضوره وعائلته إلى دمشق الشام، فلم يتأخر عن الإجابة لحظة، وذلك سنة إحدى وأربعين، فأقبل عليه قدس الله سره، لما رأى من علو همته وصفاء فطنته وفطرته، ووفور علمه وتوقد ذكاء ذكائه وفهمه، وكان قد ابتدأ يقرأ النهاية شرح المنهاج في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه، لعلامة الدنيا شمس الدين الشيخ محمد الرملي الأزهري نور الله مرقده، صباحاً في مدرسة داره، ويعيد له الدرس سليل العلماء عمر أفندي الغربي رحمه الله، فلما حضر الجد الأمجد جعله محله وسر به سروراً عظيماً، وبشره بأنه سيصير شيخ الشام، وقد حقق الله بشارته كما سبق الألماع بذلك. في ترجمة حضرة مولانا قدس الله سره العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1212 ولما توفي خليفة جامع المرادية المشهور بالسويقة، العالم الفاضل والمرشد الكامل، ملا خالد الكردي قدس الله سره، عينه لمكانته عنده مكانه وخلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد وتلاوة الذكر الخوجكاني والتوجه للإخوان في الجامع المذكور، وكتب له صك الخلافة وختمه بخاتمه الشريف انتهى. ولم يزل في ذلك المكان المذكور يرشد الناس إلى فضائل الأمور، مع تقوى وعبادة وقناعة وزهادة، وذكر وقيام وصلاة وصيام، إلى أن توفي رحمه الله وأعلا في مدارج السعادة مرتقاه، وذلك سحر يوم الاثنين تاسع عشر صفر الخير سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، ودفن أعلا الله مقامه وبلغه في دار الجزاء مرامه، بتربة كعبة الإسعاد وختم الإرشاد سيدي الشيخ خالد الحضرة في صالحية دمشق، وقد رثاه حفيده عبد المجيد أفندي بهذه المرثية الجليلة وإن كانت في حقه حقيرة وقليلة: متى يسعف الصبر الجميل ويسعد ... وحزن على حزن يقيم ويقعد أثار بقلبي ما أثار من الجوى ... فنيرانه بين الجوانح توقد ورزء يذوب الصخر من صدماته ... ويرجف قاف منه والبحر يجمد فكم أورث الألباب بحران دهشة ... إلى أن غدت في صدقه تتردد وشق قلوباً لا جيوبا مشقة ... ومزق أكباداً له تتكبد وأرسل من أهواله سحب عبرة ... بلا فترة بل حين تصدر تورد على فقد جد طالما جد في العلا ... وأصبح للدين الحنيف يجدد على العلم والإرشاد والزهد والتقى ... على الجود والإمداد والخير يفقد على الأمر بالمعروف والنهي زاجراً ... عن المنكر المطلوب فيه التقيد على بحر عرفان موارده صفت ... لكل مريد فيه لله مورد على شمس أسرار تضيء هداية ... وتحيي الطريق المجتبى وتؤيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1213 على صائم الأيام وهي هواجر ... يجاهد في الله ولله يجهد على قائم الليلات وهي دياجر ... يقسمها ذكراً وفكراً ويسجد على مرشد يهدي إلى الحق نوره ... فمن جاءه يسعى فبالله يسعد على وارث القطب المعظم خالد ... بصدق له الذكر الجميل يخلد فمن لدروس العلم يحيي دروسها ... بتحرير تقرير يحل ويعقد ومن لعلوم القوم يظهر سرها ... بذوق له العلم اللدني مسند ومن للطريق الخالدية بعده ... يشيد من أركانها ما يشيد فيا طالما أحيا مآثر قطبه ... وآثاره الكبرى بذلك تشهد وعزز من قاموا بحق مقامه ... فكانت بهم تحمى الطريق وتحمد كواكب إرشاد أضاءت على الورى ... إذا غاب منهم مرشد لاح مرشد هم الشيخ إسمعيل قدس سره ... وحضرة عبد الله والجد الأمجد محمد الخاني والمظهر الذي ... له في مقامات الولاية مشهد له العلم في هلك الطريق وملكه ... وما يصلح الأحوال فيه ويفسد تفرد عن أقرانه بمناقب ... كبار وهم الأولياء التفرد فقد كان في علم الحقيقة مفرداً ... كما هو في علم الشريعة مفرد فطوبى له من عارف جد عارف ... إلى الله يهدي السالكين ويرشد له مسجد بالذكر والفكر عامر ... وقوم كرام ركع فيه سجد له الجود والإيثار والزهد والتقى ... له الورع الأولى به والتجرد صبورعلى التقوى غفور لمن أسا ... شكور إذا أقوى وقور ممجد تقلد في الإرشاد أكبر منصب ... بهمته الكبرى التي لا تقلد كراماته في كل ملك شهيرة ... وخيراته في كل وقت تجدد بديع بيان في حديث تصوف ... بتفسير فقه نحوه الحق يقصد وبهجته أسنى كتاب مؤدب ... فآياته تتلى لنا وتجود ولا عيب فيه غير أن وجوده ... عزيز فمن أمثاله ليس يوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1214 أعد له الله مقام شهوده ... جزاء شهادات له تتعدد وأحيا الليالي ساهد الطرف ساجداً ... فأضحى له دار النعيم تمهد بنفسي أفدي فرقداً حل مرقدا ... وأعظم به من مرقد فيه فرقد عجبت لقوم وسدوه بلحده ... وما فتتت منهم قلوب وأكبد وأعجب منه أن بحراً يقله ... سرير ويحويه من الأرض مرقد علوم وعرفان وزهد ورحمة ... وجود وإرشاد وتقوى وسؤدد فيا ليتني ما ذقت صاب مصابه ... ولا كان لي في عالم الكون مولد عليه من الله تحية رحمة ... وهتان رضوان وعفو مسرمد ومني له حسن الثناء لأنه ... هو السيد المنشي الفخار المشيد فلا أثمرت في روض طرسي يراعة ... براعة لفظ كاللآلي ينضد إذا كنت لا أبكي دماً لفراقه ... وأندبه ما زلت أنشي وأنشد وأشكره ما دمت حياً لعلني ... أكافي أياديه الكبار وأحمد وأنى لذهني أن يكافئ فضله ... وإن عليه كل آن له يد عهدت إليه أن يجيد رثاءه ... وعهدي به عند المهمات ينجد فحال الجريض اليوم دون قريضه ... لعمرك إن الحزن للذهن يخمد فصادمت أحزاني وقلت مؤرخاً ... توفي حصن الأتقياء محمد وإلا فما دام المصاب مصاحبي ... متى يسعف الصبر الجميل ويسعد الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله الخاني الشافعي النقشبندي الخالدي شمس معارف العوارف، المشرقة في أفق سماء العواطف، والكوكب الذي به يستنار ويهتدى، والمرشد الذي به الوصول إلى المأمول يقتدى، من أطلع الآمال في أفلاك المنى، وأظهر الأفضال في عالم الدنا، واستوى على أوج الرفعة متوجاً بالفضائل، واحتوى لله دره على أعلا الأوصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1215 والشمائل، ومعاليه فوق السماك ذراها، وكمال علمه لا يبارى ولا يضاهى، ولأتباعه باتباعه الحظ الأوفر، واليد البيضاء التي دونها المطاول قصر، ولقد أدرج ترجمته ولده الفاضل، وشبله الماجد الكامل، عبد المجيد أفندي في كتابه الحدائق الوردية، في حقائق إجلاء النقشبندية، بقوله: الإنسان الكامل بالكمالات الإلهية، في مواقف فتوحات الأسرار القدسية، مفتاح غيب عروش الكلم، المكنونة في نقوش فصوص الحكم، بيت قصيد نظم السلوك، إلى ملك الملوك، قوت قلوب الطالبين، وقوة سامع الراغبين، الكبريت الأحمر الموزون بالموازين الذرية لفضله المتكفل بكشف السر الغامض، في قرب النوافل ومكتوبات الفرائض، المضنون به على غير أهله، قاموس لغة الخواص، فيه من منن اليواقيت والجواهر بلغة الغواص، من آل إليه عهود إحياء العلوم، بتنزلات الوجود لتدبيرات مواقع النجوم، وانتهت بمعرفة منطق الطير وترجمان أشواق الحضرة الإشارة إليه، وامتاز بتمييز اصطلاحات وإرادات طريق الخلوة في الجلوة عما لا يعول عليه، كشاف أسرار التنزيل الجامع، المؤيد من فتح الباري بالآيات البينات المطالع، القائمقام الرابع، سيدي الوالد الماجد، لا زال مقامه مظهر جمع الفوائد، ومشكاة مصابيح سنن المقاصد، ومغناه مغني اللبيب القاصد، بإرشاده إلى الطريق المحمدية، ومنهج روضة السيرة الخالدية المحامد. ولد أدامه الله تعالى في دمشق الشام خلال شهر رجب، عام سبعة وأربعين ومائتين وألف، وقرأ أوائل القرآن المجيد صحبة نجل حضرة مولانا الشيخ نجم الدين على والده، وأتمه عند العبد الصالح المرشد الفالح، الشيخ علي الجزوري أحد خلفاء والده قدس الله سره، وكان سنه وقتئذ خمس سنين، وأجاز له بركة عصره وعالم مصره، المحدث الحجة الثبت الشيخ عبد الرحمن الكزبري نور الله ضريحه، جميع ما تجوز له وعنه روايته بعد ما أسمعه طرفاً من دلائل الخيرات، وهو في تلك السن ودعا له بالفتوح والبركة، وحضر دروس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1216 والده كلها من نحو وفقه وحديث وتفسير وكلام وتصوف وحساب وفرائض، وتخرج على يد شيخ الكل في الكل المرحوم شيخنا الشيخ محمد الضندتائي، فقرأ عليه حاشية الخضري على ابن عقيل وحاشية الصبان على الأشموني في النحو، والتحفة في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه بحواشي ابن قاسم العبادي، وجمع الجوامع بحواشي البناني، والآيات البينات لابن قاسم المشار إليه، مع مراجعة الأطول في الأصول، وأشكال التأسيس في الهندسة، وتشريح الأفلاك للبهاء العاملي في الهيئة، والشنشوري في الفرائض، وشرح المختصر بحواشيه، وطرفاً من المنهج بحواشي البجيرمي، وشرح الملوي على السلم بحواشي الصبان، وبعض ابن قاسم الغزي بحواشي الباجوري في الفقه، وشرح الجوهرة بحواشي الأمير الكبير، وشرح العقائد النسفية للسعد بحواشي الكمال بن أبي شريف، وشرح المسايرة للمشار إليه في الكلام، وشرح الملوي على السمرقندية بحواشي الخضري، والأمير، ورسالة الوضع بحاشية العصام، وآداب البحث والكافي في العروض بحواشي الدمنهوري، والرقائق في الدرج والدقائق، ورسالة الربع المجيب، وشرح اللمعة في الكواكب السبعة، وحضر دروساً من البخاري تحت قبة النسر لدى المحدث المشهور الشيخ عبد الرحمن الكزبري وأجاز له يوم ختم الدرس بالإجازة العامة، وقرأ عليه شرح العقائد النسفية وغيره، وسمع حديث الأولية من العلامة المرشد الكامل أحد خلفاء حضرة مولانا خالد قدس الله سره، الشيخ إسماعيل البرزنجي قدس الله سره، وأجاز له بالإجازة العامة، وسمعه أيضاً من الإمام الكامل والهمام الفاضل الشيخ محمد التميمي أحد العلماء الأزهريين، وتلقى الطريقة العلية النقشبندية عن والده سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، ولما حضر إلى الشام حضرة العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري الحسني لازمه ملازمة كلية، وحضر دروسه في الحقائق، وكان له منه الالتفات التام، أطال الله عمره مدى الليالي والأيام، وأحسن إليه في البدء والختام، انتهى ما نقلته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1217 ترجمة هذا الهمام من الحدائق الوردية باختصار. ومن أراد الزيادة فعليه بذلك الكتاب فإنه نهاية الأوطار. المرحوم محمد سعيد بن حماد الحمادي المدني هو من الكمل الأمجاد، الذين أصبح لسان الفضل وهو لعلاهم حماد، فالحق أنه في الأقدمين، من النفر الأكرمين، و " السابقون السابقون، أولئك المقربون "، فقد أتى في الأدب بمحاورات، كالأنجم الزاهرات، ومحاسن، ماؤها العذب غير آسن، فمما نطق به لسان يراعه، وأبداه فم محبرته من محبر إبداعه، قوله: يا سعد عرج على سكان ذي سلم ... ينبوك عن جيرة حلوا حمى الحرم فسل خبيراً بهم ينبيك عن ثقة ... ليس المعبر عن رؤيا بمتهم فكم ترعرع في بحبوح روضتها ... غصن تروحه الأرواح بالنعم تكسو معاطفه أنوار بهجتها ... مطارفاً حكتها في صنع محتكم كأنها الزهر في الزرقاء إذ برزت ... في هيكل بالبها والزين منتظم وقوله من أخرى: فاح نشر الربا وقد عم طيبه ... وتغنى بغصنه عندليبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1218 مذ تراءت أنامل السحب تولي ... من نثار الحيا فحيا خصيبه وتمشت أرواحه ساحبات ... من ذيول البلال ما تستطيبه في بساط يريك أنوار بسط ... فوق متن الوهاد ماس قضيبه وعليه من أبدع الله منها ... كل وصف فلا يرى ما يعيبه تتهادى بقامة مثل بان ... وعليه بالجور يجنى كثيبه ذات فرق يلوح كالصبح لما ... شق عنه الدجا فبان مشيبه قد أماطت نقابها عن محيا ... أي لب يسبى به لا يذيبه فاسقني صاح صرف راح التصافي ... كي يداوى من الحشا ما يريبه وله من موشحة: شعشعت أرجاء ذي سلم ... حين حيت من حمى الحرم غادة تسبي حجى الأمم ... مثلها في الخلق لم يشم من رآها يقسم ... بر فيها القسم إنها في الحسن قدس الله سره برعت ... إذ لأسباب البها جمعت أفرغت في الزين مذ طلعت ... بدر تم حف بالأنجم ثغرها المبتسم ... لؤلؤ منتظم ذات فرق صبحه انبلجا ... تحت فرع خلته السبجا في محيا يخطف المهجا ... إن بدا للشمس تنكتم وصفه المستعظم ... ليس يحصيه فم يا له لما انجلى فجلا ... عن فؤادي الهم والوجد رونق للطرف منه جلا ... جل من أنشاه من عدم روضة المزدحم ... ناضر معتصم بت تحييني رواسمه ... وتحييني بواسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1219 وترويني مباسمه ... وعيون الصفو لم تنم والوفا منسجم ... ما حكته الديم حيها من ليلة سلفت ... عن وجوه قط ما انكسفت سجها بالفيض لي وكفت ... من صنوف البسط والنعم لم يعبها ندم ... لم يرعها سدم وله من قصيدة يمدح بها السيد عمار المغربي رحمهما الله تعالى: تسعى إلي بمنظر متبلج ... الشمس تدهش من سناه وتفقد ذي ناظر ساج كحيل فاتر ... فعل الظبى يعزى إليه ويسند ناشدتها بالود هل أنت التي ... يا هذه الأرواح فيكي تنقد أم أنت يا بدر البيسطة من غدت ... أحرارنا وهم لحسنك أعبد فرنت بصارم لحظها ذاك الذي ... أبداً بغير قلوبنا لا يغمد ثم انثنت تختال في حلل الصبا ... تيهاً يذوب لها الأصم الجلمد وتبسمت عن مبسم عذب الجنا ... يفتر عنه لؤلؤ متنضد تشدو بلفظ رق حتى خلته ... سحراً ينفثه الحيا ويعقد تبدي من القول البديع بدائعاً ... جيد الزمان بعقدها متقلد مفهوم ما تبديه يا هذا استفق ... ألمثل فضلي في البرية يجحد وله مخمساً قمر تلألأ في الدجى من حجبه ... يزهو على الغيد الحسان بعجبه رفقاً بصب قد أقر بذنبه ... يا محرقاً بالنار قلب محبه مهلاً فإن مدامعي تطفيه من أجل من أهوى تركت مصالحي ... أعرضت عن قول العذول الناصح إن شئت تقتلني وأنت مسامحي ... أحرق بها جسدي وكل جوارحي واحذر على قلبي فإنك فيه توفي رحمه الله في أوائل القرن الثالث عشر ودفن بالمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1220 الحكيم محمد مؤمن بن محمد بن قاسم الجزائري الشيرازي الماتريدي أديب لبيب ماهر، سيف ذهنه صقيل باتر، وحكيم حاذق، ثاقب فهمه كاشف عن دقائق الحكمة والحقائق، حاز من الكمالات الحظ الأوفر، وحير الأفكار بما انتخبه في نظمه ونثره من كل معنى نادر وأندر، مجاميعه كنوز الفوائد، ورسائله بين الرسائل فرائد. فمن شعره الدال على فكره الثاقب، قوله مادحاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأعلا مقامه وقدره: دع الأوطان يندبها الغريب ... وخل الدمع يسكبه الكئيب ولا تحزن لأطلال ورسم ... يهب بها شمال أو جنوب ولا تطرب إذا ناحت حمام ... ولاحت ظبية وبدا كثيب ولا تصبو برنات المثاني ... وألحان فقد حان المشيب ولا تعشق عذارى غانيات ... يزين بنانها كف خضيب ولا تلهو بحب صبيح وجه ... شبيه قوامه غصن رطيب ولا تشرب من الصهباء كأساً ... يكون مديرها ساق أديب ولا تصحب حميماً أو قريباً ... فكل أخ يعادي أو يعيب ولا تأنس بخل أو صديق ... وذرهم إنهم ضبع وذيب ولا تفرح ولا تحزن بشيء ... فلا فرح يدوم ولا خطوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1221 ولا تجزع إذا ما ناب هم ... فكم يتلو الأسى فرج قريب وسكن لوعة القلب المعنى ... وأنشده إذا غلب الوجيب عسى الهم الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب ولا تيأس فإن الليل حبلى ... فعل ليومها شأن عجيب وحسبك في النوائب والبلايا ... مغيث مفزع مولى وهوب جواد قبل أن يرجى يواسي ... غياث قبل أن يدعى يجيب تكلمت الظبا معه وشمس ... وثعبان وحيتان وذيب وردت بعد ما غربت وغابت ... له شمس السماء ولا عجيب كريم يستحي من مؤمن قد ... رجاه أن يماطل أو يخيب أمير المؤمنين أبو تراب ... علي المرتضى البر الحسيب عليه تحيتي ما جن ليل ... وجن من النوى دنف غريب وله في رثاء الحسين سلام الله عليه قصيدة مخمسة وهي من غرر قصائده والمذكور هنا بعضها: جاء شهر البكاء فلتبك عيني ... بحنيني على مصاب الحسيني وإمام الأنام من غير مين ... وابن بنت الرسول قرة عيني آه واحسرتا لرزء الحسين آه فلنبك من دم قد أراقوا ... وبدور قد اعتراهم محاق وسقوا طعم علقم لا يذاق ... خير رهط على البرية فاقوا آه واحسرتا لرزء الحسين خطفتهم بروق بيض المنايا ... وأصابتهم سهام البلايا عن قسي القضا فدعني ألا يا ... لائمي في البكا لعظم الرزايا آه واحسرتا لرزء الحسين هم بدور وغربهم كربلاء ... هالهم كرب أرضها والبلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1222 خسفوا إذ لهم سنا واعتلاء ... ما لهذي البدور منها انجلاء آه واحسرتا لرزء الحسين كم بها صادت البغاث نسورا ... كم بها صارت السروج قبورا كم بها استوسد الكرام صخورا ... كم بها رضت الخيول صدورا آه واحسرتا لرزء الحسين وردته الخطوط منهم وقالوا ... مل إلينا بسرعة ثم مالوا عنه إذ حل في فتاهم فحالوا ... بينه والفرات ثم استطالوا آه واحسرتا لرزء الحسين وعدوا النصر ثم خانوا عهودا ... أوثقوا عقدها وصادوا أسودا بذلوا دونه النفوس سعودا ... حينما شاهدوا الجنان شهودا آه واحسرتا لرزء الحسين غاب فتيان أهله والكهول ... فغدا السبط يشتكي ويقول وله مدمع عليهم همول ... هل بقي من يعين يا قوم قولوا آه واحسرتا لرزء الحسين لست أنسى الحسين فرداً وحيداً ... ورضيعاً له سعيداً مجيدا قصدوا بالنصال منه وريدا ... وسقوه الردى فأضحى شهيدا آه واحسرتا لرزء الحسين ومن جملة قوله ونظامه وبديع شعره وكلامه: معاشر إخواني سلام عليكم ... لقد دمعت عيناي شوقاً إليكم ولا غرو إن جسمي ثوى أرض غربة ... فروحي وقلبي ثاويان لديكم ومن مقاطيعه قوله: علا هلالي على تلال ... فضاء منه فضاء مهمه فقيل نور فقلت نور ... وقيل نجم فقلت مه مه توفي رحمه الله في القرن الثالث عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1223 أبو مفلح محمد بن عبد الله البيلولي عالم قد استوى على ذروة الكمال، وأديب قد اكتسى شعره ونثره حلة الجمال، قد فاق في عصره الأفاضل، واشتهر بالكمالات والفضائل، فمن بديع كلامه ورفيع نظامه، قوله: عطر الأرجاء لما نسما ... شمأل الصهباء عند الغلس وأتت شمس الضحى تنسخ ما ... يقرأ الليل لنا من عبس دور طاف بالكاس من الغيد فتى ... وعلى نهج التجني ما فتي فتن الألباب لما التفتا ... وحسا الكأس بطرف الشفة وأنا ما بين حتى ومتى ... صده تيه الهوى عن الفتي وكؤوس الراح بين الندما ... عبقت بالعرف أفق المجلس خمرة صفراء في البلور ما ... أشبه ألحان بروض النرجس دور بادر اللذة واجمع شملها ... بمدام وغلام مطرب ذي لحاظ ناعسات كم لها ... من فنون السحر ما يلعب بي ترف الأرداف عانى حملها ... دنف الخصر وذا من عجب كلما أترع كأساً قال ما ... أنت بالشاري حياة الأنفس فابذل الجهد وكن مغتنما ... لنفيس الوقت طيب الأنفس دور فرص الأيام كن منتهزاً ... مبتداها قبل قطع الخبر ورحاب الأنس عج منتجزاً ... قبل أن تمضي كلمح البصر واجن من زهر الهوى محترزاً ... من جنايات هجوم الكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1224 لا تخف لوماً ويمم حيث ما ... لاحت اللذات كالمختلس ما مضى أنس ووافى مثل ما ... كان فالدهر لنا بالحرس قال صاحب الحديقة: وهي طويلة لم أقف إلا على هذا القدر. توفي المترجم في ألف ومائتين ونيف رحمه الله تعالى. المرحوم السيد محمد بن سهل العلوي المدني رحمه الله تعالى سهل الخلق والكلام سامي الرفعة والمقام، علوي المجد والنسب من قوم رفعهم الفضل على كاهل الحسب، فلا ريب أنه نال من العلوم أقصى مرامه، وتوطد من الفخار أعلا مقامه، وقد رأيت أن هذه الأبيات إليه منسوبة، وعلى رفيع ذكائه محسوبة، فدونكها فاجتل جمالها، فإن نسيم اللطف إلى صوب الحسن أمالها: سلام من المضنى الذي ما سلاكم ... ولا قصده في الدهر إلا لقاكم سلام عليكم في سلام مضاعف ... سلام محب قصده أن يراكم سلام محب ماله من يعينه ... ولا مال عنكم قلبه لسواكم بعثت سلامي نحوكم وتشوقي ... أسلي به نفسي وأرجو رضاكم خيالكم في العين ما زال حاضراً ... وإن غبتم عني فقلبي فداكم جفا جفن عيني فيكم لذة الكرى ... فلا العيش يهنا لي إذا لم أراكم أروم اللقا والبعد يمنع دونكم ... فهيهات عيني عمرها أن تراكم وإني على العهد القديم لثابت ... وما لي في الدنيا حبيب سواكم مات في القرن الثالث عشر ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله. السيد العلامة محمد بن إسحق بن محمد اليمني باب مدينة العلم ولباب الكرم والجود والحلم، نثره أبهى من الدر المنثور ونظمه أفخر من قلائد النحور، فمن جميل لطائفه وأحاسن طرائفه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1225 أيا بارق الجرعا هل الجزع ممطور ... وهل بالغواني ذلك السفح معمور وهل ذلك الروض النضير نضارة ... بعين الرضا من سكان السفح منظور وهل كسيت فيه الغصون قطيفة ... مطرزة خضراً وأزرارها نور أزاهير تغدو بعد حين كأنها ... دراهم في حافاتها ودنانير فلله ذاك الروض كم عبرت به ... نسيم الصبا في طيها المسك منشور يكبر من يأتيه حتى طيوره ... لها فيه تهليل كثير وتكبير إذا رقصت أغصانه فحمامه ... مزامير في أرجائه وطنابير سقاها الحيا طول المدى فهي جنة ... لأن الحسان اللاعبات بها حور كواعب لا تفتر عن حرب عاشق ... بتدبير رأي فيه للصب تدمير يجهزن جيش الإنكسار لحربه ... وما هو إلا لحظ عين وتفتير وغيداء أما اللحظ منها ففاتك ... وأما أريج الثغر منها فكافور إذا ابتسمت أو كلمت مغرماً يرى ... من الدر منظوم بفيها ومنثور يحافظ مضناها على حبه لها ... ويا ليت مضناها على ذاك مشكور لها في الجفا جزم على رغم أنفه ... وفي وصلها تقديم رجل وتأخير يطول تجنيها وتفتير لحظها ... فؤادي مسجور هناك ومسحور شكوت لها هجري وقلت لها متى ... يطيب التداني منك يسعد مهجور فيا هذه عطفاً على ذي صبابة ... له في الهوى شأن لحسنك مشهور أسرت منامي بعد إطلاق مدمعي ... وكم في الهوى يشكو طليق ومأسور وأرسلت قلبي المستهام مع الصبا ... إليك فعاد القهقرى وهو مقهور هبي أنه ضيف ألمّ بداركم ... وللضيف إكرام عليك وتوقير على كل حال أنت عندي حبيبة ... وعذرك مقبول وذنبك مغفور المرحوم محمد بن أمين بن عبد الله جلبي المدني رحمه الله هو من رجال اللآليء الثمينة وذوي المعارف المكينة، ولقد قيل في وصفه تنبيهاً على شذرة من كماله ولطفه، أقسم بالقمر إذا اتسق وحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1226 في داره الصفا آمنا من كدر السحب والشفق، أنه لهو البليغ الذي أتى بالكلم المعجز السمين، والفصيح الذي لم يعارض لمعانيه ما يخل ولا يشين. فمن بديع كلامه وبديه نظامه، قوله: أحب العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبيبي معي ومن هذا المعنى قول الأديب أحمد بن القاسم الجداوي: من أجل ذكرك لذّ لي التفنيد ... قل للوائم في الملامة زيدوا أهوى اللوائم كالرقيب فرؤيتي ... وجه الرقيب لرؤيتي لك عيد من ذا رأى صبا يحب عذوله ... ورقيبه ويرى هو المحمود ومن كلامه: تزايد بي الأنين فليت شعري ... أأحبابي بما ألقاه تدري فكم آه يصعدها فؤادي ... ويشفعها بآه الموت صدري ومنها: فساعات التداني من حبيب ... ألذ لدي من نغمات زمر ولا شيء يعادل ذاك أصلاً ... إذا ما كان وصلاً بعد هجر وهي قصيدة طويلة، سوى أن الكاتب قد حرفها فتركت بقيتها. مات رحمه الله أوائل القرن الثالث عشر. الشيخ محمد الكزبري بن الشيخ عبد الرحمن الدمشقي الشافعي قال السيد محمد عابدين: مدرس الحديث الشريف تحت قبة النسر في جامع بني أمية في دمشق المحمية، نفعنا الله تعالى بصالح دعواته وأعاد علينا من بركاته، وأدام به النفع العميم أنه جواد كريم. ولد في ثالث عشر شعبان سنة ألف ومائة وأربعين ونشأ في جحر والده جامعاً لطارف مجده وتالده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1227 مرتضعاً من ثديه لبان العلوم، محلياً جيده من دره المنظوم، مع عفة وصيانة وورع وديانة، وتقوى وعفاف وحلم وإنصاف. وتفقه عليه وعلى خال والده الإمام الشهير الشافعي الصغير، الشيخ علي بن أحمد الكزبري وأخذ الحديث عنهما وعن العلامة الشهاب أحمد المنيني، ثم لزم الإمام العلامة الثاني علي أفندي الداغستاني، وقرأ عليه في أنواع العلوم من معقول ومنقول، وفروع وأصول، والعلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن جعفر الكردي وغيرهما حتى نبه ونبل وتجمل واكتمل، وفاق أقرانه وشرف زمانه. ولم يزل مثابراً على تعلم العلم وتعليمه وتوضيحه وتفهيمه، مكباً على الطاعات والعبادات مثابراً عليهما في جميع الأوقات، محباً للمساكين والفقراء والمنتمين إلى السادة الكبراء، كثير الصدقات والمبرات، متواضعاً للصغير والكبير، لين الجانب للعظيم والحقير. ذا هيبة ووقار يعلو وجهه نور أهل الآثار، كثير البكاء والخوف من مولاه، أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر لا يخشى لومة لائم في الله. محيياً لبقع المدارس والمساجد بالدروس والعبادات، وأنواع الطاعات، ذا إتقان وتحقيق وترقيق وتدقيق، بذهن سيال ولسان فصيح المقال، مقصوداً من جميع الجهات والأقطار، مشهوراً بها كالشمس في رابعة النهار. قد انتفع به الجم الغفير والخلق الكثير، من قاطنين وأغراب، قد ارتكبوا لأجله غارب الاغتراب، حتى أنه لم يوجد الآن في دمشق من طالب، إلا وهو من فيض بحره كارع وشارب. وهو إمام دمشق الكبير وكوكبها الذي به تنير. حج مرتين الأولى سنة ألف ومائة وثمان وتسعين، والثانية عام ألف ومائتين وعشرة. وكان والده قد أذن له بإفادة الطالبين في حياته، وجلس مكانه بين العشائين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1228 في الأموي سنة ألف ومائة وخمس وثمانين بعد وفاته، فأقرأ في ذلك الوقت كتباً عديدة يأتي ذكرها، آخرها صحيح مسلم، قرأ منه نحو الثلثين، ثم قطع لضعف عرض له في بصره، ثم أتمه في داره. وكانت عليه وظيفة التدريس في مدرسة سليمان باشا العظم، فأقرأ فيها كتباً كثيرة، منها صحيح مسلم وسنن أبي داود وتفسير البيضاوي والتحفة على المنهاج وغير ذلك. وفي سنة عشر جاءته قبة النسر تسعى من غير طلب وفوق منبرها بلبل فصاحته خطب. فشرع بقراءة الجامع الصحيح، ورشح جيد الفضلاء بأجيد توشيح، وأنار مصابيح الجامعين، وأبدى ما تشنف به الآذان وتقر به العين. وهو في الثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان من كل عام. وكان درساً عظيماً جامعاً لكل خاص وعام، مضماراً لفرسان أذهان الأعلام، وقد أشرت إلى ذلك في ضمن موشحة كنت تطفلت بها على مدح جنابه، والوقوف في أبوابه وأعتابه. حيث قلت: من به قبة ذاك الجامع ... لم تزل في كل عام تسعد حين يروي في الصحيح الجامع ... لحديث المصطفى أو يسند يا له من خير درس جامع ... ولأهل العلم فيه مشهد فكأن الوجه منه حينما ... ينثر الدر على الملتمس قمر عن جانبيه العلما ... كنجوم أشرقت في الغلس وقد وصل الآن فيه إلى باب الشهادات، وذلك مقدار ثلث الكتاب توفي رضي الله تعالى عنه ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف في داره الكائنة في محلة الشاغور، وصلى عليه ولده ضحوة النهار من ذلك اليوم في الجامع الأموي المعمور، ودفن بتربة باب الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1229 السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم عابدين الدمشقي هو الشيخ الإمام العالم العلامة، والجهبذ الفهامة، قطب الديار الدمشقية، وعمدة البلاد الشامية والمصرية. المفسر المحدث الفقيه النحوي اللغوي البياني العروضي الذكي النبيه. الدمشقي الأصل والمولد، الحسيب النسيب الشريف الذات والمحتد، ابن السيد عمر الشهير بابن عابدين الحسيني إمام الحنفية في عصره، والمرجع عند اختلاف الآراء في مصره. صاحب التآليف العديدة والتصانيف المفيدة، منها حاشيته الشهيرة رد المحتار على الدر المختار، التي اشتهرت في سائر الأقطار، في خمس مجلدات كبار. ومنها ثبته المشهور الفائق. ومنها منحة الخالق على البحر الرائق، وحواشيه على شرح الملتقى للعلائي، وحواشيه على النهر الفائق، وحواشي على القاضي البيضاوي التزم أن لا يذكر فيها شيئاً ذكره المفسرون. وحواشي على حاشية الحلبي على الدر تتبع فيها المحشي المذكور، سماها رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار. والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية. وحاشية على المطول. والرحيق المختوم شرح قلائد المنظوم في الفرائض، وتنبيه الولاة والحكام في حكم شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام. وشرح على رسالة البركوي سماها ذخر المتأهلين، وشرح على منظومة رسم المفتي. وله من الرسائل في تحرير المسائل نيف وثلاثون رسالة معلومة في ثبته فمن أرادها فليراجعها. وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسلها ضمن مكتوب للحضرة الشريفة النبوية صحبة ركب الحاج الشريف سنة عشرين ومائتين وألف، لكي تقرأ أمام الحضرة الشريفة المحمدية، وهي: لبيك يا قمرية الأغصان ... فلقد صدعت القلب بالألحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1230 لبيك يا من بالبكا أشبهتني ... لكن بلا فقد من الخلان نوحي فنوحي في بحار مدامعي ... تعلو سفينته لدى الطوفان وترنمي واحيي فؤاد معذب ... بتذكر الأحباب في نيران إن رمت كتمان الهوى متكلفاً ... هيجت مني بالبكا أشجاني حتى حكت مني الدموع سوافحا ... غيثاً همى بدعاء ذي عرفان يا صاحبي أليس يعذر بالبكا ... صب كئيب نازح الأوطان يقضي الليالي بالهموم وبالأسى ... مكسور قلب زائد الأحزان أي والذي هو عالم بضمائري ... ليحق لي أبكي مدى الأزمان فلقد مضى عمري القصير ولم أفز ... بزيارتي أرض اللوى والبان بالله هل تريان أسعد لحظة ... وأخوض رمل أولئك القيعان وأشم نفح الطيب من أرض الحبي ... ب وترجع الأرواح للأبدان وأخب في أرض الحجاز ويا رعى ... مولاي عهد أولئك الكثبان أرض من المسك العبير تكونت ... والنور جللها كما الهيمان وازم مع حادي المطي قلائصا ... إشراقها تغني عن الأرسان سكرت بترنام الحداة فما درت ... كم مهمه قطعت من الوجدان عنقاً فسيحاً سيرها من وجدها ... وتحنّ باكية بدمع قان وتكاد تستبق الهوادي أرجل ... منها تسير بسيرة العجلان لم تعرف الإدلاج والتعريس مذ ... كانت تئن بأنة اللهفان حتى طوت أرض الحجاز وشاهدت ... أنوار طيبة مورد الظمآن وأتت إلى أرض السفوح ترومها ... وتطيبت بالروح والريحان يا نوق سبحان الذي أدناك من ... أرض الحبيب وجل من أقصاني في كل عام تبلغين مقاصداً ... وتشاهدين منازل القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1231 والحظ يقعدني وسوء الفعل ير ... ميني بإشراك الزمان الجاني أواه من جور الزمان وظلمه ... فلقد تجاوز غاية الطغيان كيف السبيل إلى النجاة ونيلها ... من شر دهر غادر خوان مالي من الأهوال حسن تخلص ... إلا بمدحي المصطفى العدنان خير الخلائق سيد الرسل الكرا ... م وما له في فضله من ثاني يا خير من ركب المطي وأكرم ال ... كرما ببذل الجود والإحسان يا منبع الأنوار يا شمس العلا ... يا منبع الإسلام والإيمان يا من رقى أوج السما وعلا على ... أعلا العلى بترفع جثماني ودنا الرحمن عز وجل قر ... ب مكانة من غير قرب مكان والجذع حن تشوقاً لفراقه ... والضب جاء مسلماً بلسان تالله مثلك ما رأت عين ولا ... أذن وعت في حادث الأزمان قد كان جيد الدهر قبلك عاطلاً ... حيناً وقد حليته بجمان قد جئت فرداً والأعادي جمة ... وأتيت بالتمييز والرجحان لم تخش في التبليغ لومة لائم ... حاشاك من زيغ ومن نقصان وترى إذا حمي الوطيس مشمراً ... عن ساق عزم فارس الفرسان أطدت أركان الشريعة بعد ما ... هدمت فعادت أعدل الأركان وبنيت بنياناً رصيناً محكماً ... وهدمت أس عبادة الأوثان وهديت أهل الأرض بعد ضلالة ... كانوا بها من نزغة الشيطان وجليت سحب الفكر عن أفق الهدى ... ومحوت ليل الزور والبهتان تالله ما الشمس المنيرة في الضحى ... والبدر ليلة سبعة وثمان بأجل هدايا أو سنا مما به ... قد جئت أو يدنوه بالبرهان لا تدرك الألفاظ منك مدى ولو ... أبدى الثناء عليك كل لسان هل تدرك المداح وصف من الذي ... أثنى عليه الله في القرآن هذا الكريم بن الكريم بن الكر ... يم بن الكريم عطية المنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1232 هذا نبي الله خير عباده ... زين الخلائق نخبة الأعيان هذا شفيع المذنبين ملاذهم ... يوم القيمة صفوة الرحمن وبه تلوذ الأنبياء جميعهم ... حتى الكليم ومكرم الضيفان كن لي مغيثاً يا شفيعاً بالورى ... يوم الزحام وخفة الميزان إن لم تكن لي يوم لا مال ولا ... ولد ولا من والد يرعاني فلباب من آتي وليس مشفعاً ... إلا جنابك يا مغيث العاني فلأنت باب الله واسطة الرجا ... أنت الوسيلة والقريب الداني أنت الملاذ لنا وأنت عياذنا ... أنت المشفع بالمسيء الجاني أشكو إليك قساوة القلب الذي ... كالصخر في لج الردى أرساني أرجوك تلحظني ختام الأنبيا ... ء بلحظة أغدو بها بأمان وكذاك لي أبوان مع شيخ غدا ... لي ناصحاً بالجهد قد رباني يرجون منك تسامحاً وشفاعة ... تنجيهم من لاعج النيران وصلاة باريك المهيمن والسلا ... م كما الغيوث عليك كل أوان مع آلك الغر الكرام وحزبهم ... من قد علوا شرفاً على كيوان وعلى ضجيعيك الإمامين الجلي ... لين اللذين هما لنا شمسان السيد الصديق ذي الفضل الذي ... ترك اللذائذ في رضى الديان والأشجع الفاروق قهار العدا ... ليث الحروب وقامع العدوان وعلى ابن عفان الذي حاز العلى ... حاوي الفضائل جامع القرآن وعلى علي ذاك عالي القدر من ... قد كان بحر العلم والعرفان وعلى بقية صحبك الغر الكرا ... م وتابعيهم في مدى الأكوان وأبي حنيفة ذي الفخار ومالك ... والشافعي وأحمد ذي الشان ولاتابعين لهم وأقطاب الوجو ... د وصاحب الوقت القريب الداني لا سيما ختم الولاية من به ... فاز الوجود معطر الأردان واختم لناظمها إلهي بالرضى ... والعفو والإحسان والغفران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1233 وقوله أيضاً يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أشكو إلى الله ما ألقاه من نصب ... مستشفعاً بشفيع الخلق كلهم محمد من محا المولى ببعثته ... ليل الضلال يصبح طارد الغسم فقام يدعو بأمر الله مبتدراً ... بالنصر متزراً في أرفع الهمم حتى غدت ملة الإسلام ظاهرة ... ظهور نار بدت ليلاً على علم مؤيداً بكتاب باهر عجزت ... عنه ذوو اللسن مثل الدر منتظم ومعجزات توالت قبل مبعثه ... فكان يبصرها بالعين كل عمي فالضب كلمه والجذع حن له ... والبدر شق له من باهر الحكم والشمس قد وقفت من بعد ما غربت ... والسحب قد وكفت لما دعا بفم والماء من كفه قد طاب منبعه ... فكان أعظم ماء سائغ شبم بتفلة لعلي مذ شكا رمداً ... لم يشك من بعدها في العين من ألم وقد كفى الألف من صاع الشعير وقد ... حلا وزاد بتفل ماء بئرهم أروى ثلاثين ألفاً في تبوك بما ... ء ليس يروي سوى شخص من الأدم سراقة خلفه ساخت قوائمه ... وكم أباد من الأعداء كل كمي وفي حنين رمى بالترب أعينهم ... ففر جحفلهم مع جملة الريم كذا رمى ملأ راموا المحال فمن ... أصيب كان ببدر آخر العصم ومذ حكى بعضهم بالهزؤ مشيته ... ما زال مرتعشاً للموت ذا ندم ومذ أوى الغار والصديق صاحبه ... فالعنكبوت غدا بالنسج ذا همم وبين قوم ذراع الشاة حدثه ... عن سمه بكلام غير منبهم وعن مصارعهم في القتل أخبر في ... بدر فكان كما قد قال ذو العصم وعاش فرداً أبو ذر ومات كذا ... طبقاً لأخباره الخالي عن التهم نعى النجاشي وكسرى يوم موتهما ... وقد كفى عدداً من كف تمرهم وقد رأى أنس طبقاً لدعوته ... مالاً وعمراً وأولاداً من الخدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1234 قتادة عينه من بعد ما سالت ... عادت بأحسن ما كانت من القدم كذاك عين علي مذ شكت رمداً ... بالتفل في دهرها لم تشك من ألم ورب كف له فيها الطعام غدا ... مسبحاً والحصا من أعظم الشيم وكم له معجزات غيرها ظهرت ... تربو على النجم في عد وفي عظم فاق النبيين في علم وفي عمل ... لذا غدا بينهم كالمفرد العلم من مثله وإله الخلق خاطبه ... فوق الطباق وجبريل من الخدم ولا يفي عشر ما قد حاز من شرف ... ذوو المديح وما قد نال مكرم كالدهر في همم والطود في عظم ... والبحر في كرم والدر في كلم منيع حصن ولو البدر استجار به ... في ليلة التم بالنقصان لم يضم لو كان في فضله شخص يشابهه ... لقلت مثل كذا للسائل الفهم يكاد من يمنه يجلي الظلام به ... ولو من الدهر من ضر ومن نقم فليس بعد الذي في النجم من عظم ... ومبعد ما في الضحى مع نون والقلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم فيا رسولاً به الرحمن أنقذنا ... وقد حمانا بركن غير منهدم يا خاتم الأنبياء الغر يا سندي ... يوم الزحام إذا ما الخلق في غمم يا من إذا لاذ مأسور الذنوب به ... غداً، غدا آمناً كالصيد في الحرم وإنني بت في كرب بنازلة ... غدت بكلكلها تسطو على سقمي ألم بي بأسها الضاري فآلمني ... وجل صبري غدا من أوهن الرمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1235 والدهر جار على ضعفي ولا جلد ... به يكون اتقاء الحادث العمم قرعت بابك أرجو الله يرحمني ... فأنت غوث الندا حصن لمعتصم وقد رجوتك في التفريج من كرب ... فأنت بر رؤوف ظاهر الشيم وأنت أقبل من ترجى شفاعته ... عند الإله وأرعى الناس للذمم حاشا يخيب رجائي من جنابك يا ... من عم بعثك جوداً سائر الأمم أعطيت جاهاً عريضاً لا مرام له ... وعم بعثك جوداً سائر الأمم والكون من أجلك الرحمن أبرزه ... وجعل جودك فينا غير منفصم إني محب وإن قصرت من طمعي ... وحسن ظني برب واسع الكرم وقد غدوت من الزلات في خجل ... وقد قرعت عليه السن من ندم بلغت جهدي بمدح فيك أنظمه ... أرجو شفاعتك العظمى بمزدحم عساك تحنو على ضعفي إذا نشرت ... صحيفتي عند ربي بارئ النسم حيث النبيون في رعب وفي وجل ... جثوا على ركب من بطش منتقم وأنت تسجد حتى أن يقال فقم ... سل تعط واشفع تشفع نافذ الكلم فتخرج الناس من حر الزحام ومن ... حر السعير وقد صاروا كما الحمم إقبل هدية نجل العابدين فقد ... غدا بمدحك معدوداً من الخدم صلى عليك إله الخلق ما كشفت ... بك الكروب وزاحت ظلمة الغمم وآلك الغر والأصحاب أجمعهم ... من ارتجي بنداهم حسن مختتم وله معمى في عبد الغني يا بديع الجمال يا ذا التثني ... لحظك الجؤزري سبا العقل مني إنني فيك لم أزل ذا هيام ... وأنا رقك الغ هجري وصلني وله في سعيد رب حسناء ما لها من شبيه ... حين ترنو بالعارض المصقول أسعدت أرباب الهوى بوصال ... يوم عيد من بعد سلب العقول وله في نار سباني كحيل المقلتين بلحظه ... وما زال من حظي بوصلي ضنينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1236 فيا نفس صبراً من قساوة قلبه ... فبدري بلا يد عسى أن يلينا وله في غلام بأبي أحور اللواحظ ألمى ... ما روى لي من الوصال غليلا مال بالقلب بعد لثغة راء ... تيمتني وصيرتني عليلا وله في دخان قهوة بعذار له وخال سباني ... وسقاني فوق الضنا كأس صده عم دون العذار بالند خالا ... فهو بالخال حاز غاية قصده وله: يا ذا القوم السمهري ومن ... قد زال من شغفي به رسمي أمنن علي بضم خصرك إذ ... ضمي له يحيا به جسمي جسمي كخصرك في النحول وذي ... جنسية هي علة الضم وله مرت مواشط نسمة الأسحار ... كيما ترجل جمة الأشجار والقطر جللها بسندس برده ... وتزينت بلآلئ الأزهار والنهر صفق والطيور ترنمت ... في غصنها من نغمة الأوتار وله ملغزاً فما اسم ثلاثي إذا عد لفظه ... قريب بعيد يختفي ثم يظهر له رتبة علياء عزّ ارتقاؤها ... وحسن بلا غين له العين تبصر وفي محكم القرآن قد جاء ذكره ... بوصف به قد جاء يزهو ويزهر ومن ضل عن رشد له كان هادياً ... ويسلو به ذو لوعة حين يسمر ويسحب ذيلاً حين يسطو على العدا ... كرمح به نار الحشاشة تسعر إذا ما تهجيت الحروف فصدره ... ومبدؤه عن عجزه متأخر ويبدو لنا من قلبه جنة العدا ... بها نتقي المكروه منهم وننصر ويبدو لنا أيضاً حديث عن الذي ... غدا لا يبالي بالذي منه يصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1237 وإن كنت يوماً طارحاً ثلث أصله ... ففي غور نجد ما بقي منه ينظر وإن قلب الباقي تراه حديث من ... به لعب الشيطان أو كان يسخر ويبدو إذا صحفته فعل من غدا ... عطوفاً على صب له كان يهجر ومن أصله إن كان قد بال صدره ... تراه أتى جما من الناس يكثر وله ومن عادة الأيام رفعة جاهل ... وما حقت العلياء إلا لعارف عفونا عن الأيام عن كل ما مضى ... بعصمة أفعال تسامت بعارف وله غير ذلك من النظم والمراثي والتهاني والمديح والقواعد والضوابط رحمه الله تعالى آمين ولنكتف بهذا المقدار وإن كان قطرة من بحر أو شذرة من عقد نحر. ولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائة وألف بدمشق ونشأ بها وقرأ القرآن ثم جوده على الإمام القدوة الشيخ سعيد الحموي شيخ القراء بها، وقرأ عليه الميدانية والجزرية والشاطبية بعد ما حفظها قراة تدبر وإمعان وبحث وإتقان، وحفظ القرآن العظيم عن ظهر قلب، وتلقى منه القراءات بأوجهها وطرقها حتى جمع عليه. وقرأ عليه طرفاً من النحو والصرف وفقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وحفظ متن الزبد وكان شافعي المذهب وقتئذ، ثم لزم شيخه الشيخ شاكر العقاد رحمه الله تعالى وقرأ عليه في المعقولات، وألزمه شيخه المذكور بالتحول لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عليه الرحمة والرضوان، فتفقه عليه، وقرأ عليه الفرائض والحساب حتى مهر في فن الأصول والحديث والتفسير والتصوف والمعقول، وقرأ عليه في الفقه الملتقى والكنز والبحر لابن نجيم وصدر الشريعة، والدراية والهداية وبعض شروحها وغير ذلك، ثم شرع في قراءة الدر المختار على شيخه المذكور مع جماعة، من جملتهم علامة زمانه وفقيه عصره وأوانه الشيخ سعيد الحلبي، وبقي ملازماً له إلى أن اخترمته المنية رحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1238 الله، ولم تتم قراءة الدر فأتمه مع بعض من حضر معه من إخوانه على الشيخ سعيد الحلبي المذكور، ضاعف الله تعالى لنا وله الأجور، وقرأ على الشيخ سعيد غير ذلك من الفقه وغيره من الفنون. وحين أتم الدر عليه استجازه فأجازه. هذا وكان شيخه السيد شاكر يتفرس فيه الخير ويأخذه معه ويحضره دروس أشياخه ويستجيزهم له فيجيزونه، وكان ذلك بإشارة حصلت له من الشيخ عبد النبي أحد علماء الهند وصلحائها المشاهير حين قدم إلى دمشق، فذهب مع شيخه لزيارته، ولما دخلا عليه جلس شيخه وبقي المترجم واقفاً بين يدي شيخه كما هو دأبه معه، فطلب الشيخ عبد النبي من شيخ سيدي المترجم أن يأمره بالجلوس، وقال له: إني لا أجلس إلا أن يجلس هذا الغلام، وقال إني أشم منه رائحة أهل البيت، وأنه ستقبل يده ويظهر فضله بين الناس وينتفع بفضله. فأمره شيخه حينئذ بالجلوس، فجلس، ومن وقتئذ زاد اعتناء شيخه به. وأحضره مرة درس شيخه العلامة شيخ الحديث الشيخ محمد الكزبري واستجازه له فأجازه، وكتب له الإجازة، وكذلك حضر دروس الشيخ أحمد العطار مع شيخه فاستجازه له فأجازه عام ستة عشر وألف ومائتين. وفضائله لا تنكر وشمائله لا تحصى ولا تحصر، وعباداته وورعه وإقباله على الله، يقضي له بالسعادة والفوز عند مولاه. توفي رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، عن أربع وخمسين سنة، وأقيمت عليه صلاة الموت في جامع سنان باشا، وتقدم للصلاة عليه إماماً العلامة الهمام والعمدة النخبة الإمام، علامة العصر وفرد القطر، الشيخ حامد العطار رحمه الله تعالى. ودفن بمقبرة باب الصغير بالتربة الفوقية إلى جانب قبر الإمام أبي حنيفة الصغير، العمدة العلائي صاحب الدر المختار، وقبره مشهور هناك، عليه جلالة يقصد لطلب الحوائج ويزار. رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1239 الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله المغربي الأصل المدني المالكي الفاضل الذي خفقت رايات علمه، واستخرج دقائق مشكلات المسائل بثاقب فهمه، وانتفع بفضله الخاص والعام، وكان له في جميع العلوم مشاركة وإلمام. فهو المحدث الفقيه، العالم العلامة النبيه، أوحدي العصر ألمعي الدهر، عمدة الأمثال ونخبة ذوي الكمال، من استوى على عرش الأفضال ودار عليه مدار ذوي اللطف والجمال. ولد عام تسعة عشر ومائة وألف. وصار علم المدينة ومنارها وشمس تلك الأقطار ونهارها. وقد أخذ عنه بركة الشام وعمدة الأنام، ولوذعي السادة النقاد السيد شاكر العقاد، في مكة المشرفة، فأجازه بجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه الأمجاد. وكانت وفاته رحمه الله تعالى نهار الجمعة حادي عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ودفن في تربة المدينة المنورة المعروفة بالبقيع. وكان رضي الله عنه قد أقعد قبل موته بسنتين وأربعة أشهر واستمر إلى أن مات. محمد علي باشا الأرنأوطي خديوي مصر القاهرة كان أصله من الأرنأوط، وقدم عسكرياً مع عساكر الترك القادمين لأخذ مصر من الفرانسيس لما استولى الفرانسيس عليها وكان الفرانساويون قاصدين التوصل من هناك إلى افتكاك الهند من الانكليز لما كان بينهم من الحروب والعداوة، بل وكانت سائر أوربا إذ ذاك ضد الفرنساويين حسبما تقدم ذلك في محله. فحينئذ عاضدت انكلترا الدولة العثمانية على حرب فرانسا وإخراجها من مصر، وكان المترجم كامل الأوصاف للرياسة فتقدم إليها بنفسه على بني جنسه، وانقاد له الجميع. وقررت ولايته الدولة على دفع خراج معلوم سنوياً وذلك سنة 1219، فوجد مصر في نهاية درجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1240 الفقر والبربرية والجهل، بل حتى أن الأمراض الوبائية من الطاعون قد تمكنت فيها وصارت عادية تفني من الناس سنوياً خلقاً كثيراً، حتى قل العمران ولم يبق من مآثر تقدم المصريين سوى الاسم في التواريخ. نعم وجد للعلوم الشرعية بقية آثار في الجامع الأزهر من العلماء، وذلك كله لما مر عليها من تقلبات الدهر والظلم والجور والاستبداد والحروب في الأيام الخالية. فشمر عن ساعد الجد ووافقه البخت وفتح لمصر عصراً جديداً، فنظم فيها جيشاً نظامياً من أهلها، ورتب الأداء على الأهالي على قانون غير مجحف، وألزمهم بتعمير الأرض وفتح الترع وإنشاء المدارس العلمية للعلوم الرياضية والحربية، وأحضر المعلمين من أروبا وأحيا المارستانات وألزم الأهالي بالنظافة، وتوسيع الطرقات والبناءات، وأرسل التلامذة إلى أروبا لتعلم الفنون، وأحيا نمو العلوم الشرعية، وسهل أبواب التجارة، وأنشأ معامل السلاح والسفن، وترجمت الكتب النافعة في فنون شتى من لغات شتى إلى العربية، فنشأ في مصر جيل جديد وعصر جديد، بسطت فيه طرق العمران والتمدن والقوة في مدة يسيرة، فافتتح النوبة وسنار واستولى على الشام والحجاز، وافْتَكّهُ من الوهابي، بل امتد بالاستيلاء إلى قرب الآستانة في الأناطولي، وخشيت شوكته من عصيانه على الدولة العثمانية، فتعصب الانكليز إلى الدولة في الظاهر لتوطيد أركانها، وفي الباطن خشية من إنشاء دولة إسلامية شابة ذات قوة مثل تلك ومركزها مصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1241 فتخشى أن تمتد من هناك إلى الهند الذي هو روح الانكليز، لا سيما إذا عاضدته إحدى الدول الأروباوية مثل فرنسا، فلذلك حاربته مع الدولة العثمانية التي هي إذ ذاك على ضعف شديد من حرب الروسيا والثورات الداخلية واستقلال اليونان وغير ذلك، فقهروا محمد علي، ولكن لإتمام مقصد انكلاتيرة لم تسمح للدولة بالاستيلاء التام على مصر لمراعاة المقاصد المشار إليها أيضاً، فكان الأوفق لها إبقاء مصر على شبه إستقلال ليضعف كل من الجهتين، وبقي محمد علي والياً على مصر على أن تكون الولاية في ذريته من أكبر إلى أكبر، ويؤدي خراجاً سنوياً للدولة، ويعينها عند وقوع حرب معها بالعساكر الذين يبلغ عددهم الأربعين ألفاً، وكذلك يعينها بالسفن، وإن الرتب العالية في مصر يعين هو أصحابها، وتوليهم الدولة، والسكة والخطبة تكون باسم السلطان العثماني أيضاً، وأخرج الحجاز عنه إلى الدولة، وكذلك الشآم، وبقي على ذلك إلى أن ضعف بالسن، فتنازل عن الولاية لابنه الأكبر وهو رئيس جيوشه وحروبه إبراهيم باشا سنة 1265، وكان على قدم أبيه، وتوفي المذكور في تلك السنة. الشيخ محمد سعيد بن حمزة بن طالب بن عبد الله بن الشيخ الإمام الفاضل الهمام فريد السادة الأعلام شمس الدين محمد الشهير بابن المنقار الحنفي الدمشقي الميداني عالم ذو صلاح وبركة وفلاح، من أصول علماء وأسلاف فضلاء، قد اشتغل من أول عمره في العلم والطاعة حسب القدرة والاستطاعة ولوائح البركة تظهر عليه وتشير كمال الإشارة إليه، وله تأليفات كثيرة، وتقريرات هي بمعرفة بركته جديرة. ولد في ثمانية عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف، ومات تاسع وعشرين شوال سنة ألف وثلاثمائة وأربعة ودفن بتربة باب الصغير رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1242 محمد سليم باشا الصدر الأعظم والي دمشق الشام عوضاً عن رؤوف باشا وهو الصدر الذي اشترك في إهلاك الانكشارية في الآستانة وتنظيم العسكر الجديد، دخل الشام في سنة ألف ومائتين وست وأربعين، وأخاف الناس وفعل موجبات الإرهاب، وذلك بسبب حادثة وقعت هذه السنة قبل مجيئه مع سلفه رؤوف باشا الصدر، وهي أن السلطان أمر بأن يضع الصليان على حوانيت البلد. فنزل جماعة من مشايخ الطريق ومعهم راية وأولاد وغيرهم لأجل أن يشفعوا عند الباشا في ذلك، فلما وصلوا إلى باب السرايا خرج جماعة من التفنكجية من أهل الموصل وكركوت الذين أظهروا أنواع الفساد والفسق في هذه البلاد، فضربوا الناس فمات منهم جملة جماعة، فقام عليهم أهل البلد وصاروا كلما رأوا منهم واحداً قتلوه، وأمر رؤوف باشا بخروجهم من البلد لعلمه بفسادهم، وعظم أمر الصليان على أهل البلد وكان الوزير رجلاً له من اسمه مظهر من الرأفة والحلم، فكتب للدولة يستعطفها في رفع الصليان عن أهل الشام، فعزله السلطان بسبب ذلك، وأمر سليم باشا بوضع الصليان فلما دخل إلى البلد مكث نحو شهر وهو يحصن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1243 القلعة ويجمع العساكر، ثم جمع أعيان البلد وذكر لهم أمر الصليان، فأطاعوه بعد تمهيد العوام وتخويفهم من مخالفة أمر السلطان لكونه محتاجاً إلى جمع المال بسبب ما حصل له في العام الماضي من قتاله مع المسكوب، ووصولهم إلى قرب اسلانبول، وأخذهم كثيراً من بلاد الإسلام، وصلحه معهم على أن يدفع لهم أموالاً بليغة، مما يطول شرحه فأطاع غالب أهل البلد، فخرج جماعة من أتباع الباشا مع كتبة في نهار الجمعة التاسع من ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وأربعين، وصاروا يكتبون عدة الحوانيت حتى وصلوا إلى محلة العمارة والعقيبة بعد العصر، فقام جماعة من الأسفاه فأغلقوا الحوانيت وقالوا هذه جزية ونحن لا نقبلها، وقفلوا حوانيتهم، وكان ذلك سبب الفتنة. فلما سمع الباشا بذلك وكان رجلاً أحمق سفاكاً للدماء ليس له تبصرة في الأمور، أمر في الحال بجمع العساكر وغلق أبواب القلعة، وصار يضرب المدافع على البلد، وغالب أعيان هذا البلد عنده، فطلبوا منه التؤدة في الأمر وإنهم يظفرونه بمن خالف أمره، فلم يقبل منهم حتى خرج العسكر يوم السبت من السرايا، وتغلبوا على بيوت القنوات الجوانية وجامع العداس ونهبوها، وصاروا يطلقون الرصاص على الناس من البيوت. وفي ليلة الأحد صار يضرب المدافع والقنابل على البلد، فاجتمع أهل البلد وأشقياؤهم وحاصروه في السرايا إلى بعد العصر، فاستعان أهل البلد بحرق المواضع التي تغلب عليها العسكر، وتوصلوا إلى السرايا، فلما تيقن أنه مأخوذ لا محالة، خرج بعد المغرب ليلة الاثنين من السرايا مع العسكر، وأحرق سوق الجديد وسوق الأروام، حتى وصل الحريق إلى قريب من ضريح سيدي خليل، ودخل هو مع بعض العسكر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1244 القلعة، وبعض العسكر دخل إلى خان الدالاتية، وجامع المعلق الذي قبالة الخان تحت القلعة، فحاصرهم أهل البلد، وذلك بعد أن نهب أهل البلد ما في السرايا والكلار والدوالك، وأحرقوهم، واحترق معهم بعض البيوت المجاورة للسرايا، ولم يزالوا محاصرين لهم في الموضعين حتى فني الزاد من عند من كان في الجامع، فطلبوا الأمان، فأخرجوهم بأسوء حال من شدة الجوع والنتن من الأموات عندهم، وقتلوا بعضاً منهم. ثم تفرغ أهل البلد إلى حصار الباشا في القلعة بضرب المدافع والقنابر، كما فعل معهم أولاً وحاصروه حصاراً شديداً، وقتل من الفريقين خلق كثير، ونصبوا المدافع قبالة حمام الملكة في الدرويشية، وعند باب الحديد المقابل لباب السرايا وتحت القلعة، وهدموا جانباً عظيماً من البرج المقابل لباب السرايا بالمدافع واللغم، إلى أن فني الزاد من القلعة وأكلوا خيلهم، فطلب الباشا الأمان وأنه ينزل ويجلس إلى أن يأتي الأمر من السلطان كيف يفعل، فخرج من القلعة في تاسع عشر جمادى الأولى ومعه نحو ألف رجل من عسكره، اجتمعوا بأهل البلد مدة أيام قليلة، ثم سافروا ونزل الباشا مع بعض خواصه في دار بني الكيلاني التي في العصرونية، وجعلوا عليه حجبة من أهل البلد. ثم ليلة الجمعة في ثالث وعشرين من جمادى الأولى في نصف الليل، دخل عليه تلك الحجبة فقتلوه وقتلوا خمسة ممن معه كالكيخية والخازندار وخاله، ونهبوا ما معهم وجردوا بقية جماعته من ثيابهم وأطلقوهم بلا قتل، وألقوا الباشا في سوق العصرونية على خشبة، وحمل بعض السفهاء رأسه ودار به في البلد، نسأله سبحانه السلامة. وأما قاضي قران فنجا بمن معه، وكان قد لجأ هو وجماعة تحت قيادته إلى الجامع المعلق، وكان من القواد الأشداء، ودافعوا عن أنفسهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1245 حال كون سليم باشا كان يطلق المدافع على المدينة من القلعة، ووقع الخوف في قلوب النصارى أثناء تلك الحوادث، فأمنهم علي آغا خزنة كاتبي وصانهم مع الاسرائيليين من تعديات الجهال. ولما قتل سليم باشا أقام الدمشقيون حكومة مؤقتة، وأخذوا يتوقعون بطش الدولة بهم، على أنها اشتغلت عنهم بمحاربة إبراهيم باشا ابن الخديوي محمد علي باشا، وعدلت عن تأديبهم، وولت على دمشق علو باشا، فاطمأن القوم وقصة إبراهيم باشا تقدمت في ترجمته في حرف الألف مع الباء. لامة. وأما قاضي قران فنجا بمن معه، وكان قد لجأ هو وجماعة تحت قيادته إلى الجامع المعلق، وكان من القواد الأشداء، ودافعوا عن أنفسهم، حال كون سليم باشا كان يطلق المدافع على المدينة من القلعة، ووقع الخوف في قلوب النصارى أثناء تلك الحوادث، فأمنهم علي آغا خزنة كاتبي وصانهم مع الاسرائيليين من تعديات الجهال. ولما قتل سليم باشا أقام الدمشقيون حكومة مؤقتة، وأخذوا يتوقعون بطش الدولة بهم، على أنها اشتغلت عنهم بمحاربة إبراهيم باشا ابن الخديوي محمد علي باشا، وعدلت عن تأديبهم، وولت على دمشق علو باشا، فاطمأن القوم وقصة إبراهيم باشا تقدمت في ترجمته في حرف الألف مع الباء. الشيخ محمد بن الشيخ عبد الجليل بن الشيخ مصطفى بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ القدوة الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الإمام العالم العامل، والجهبذ الفاضل الكامل، خاتمة المتعبدين، وكهف السلف الصالحين، حصل أنواع العلوم، وأتقن سبيل الأخذ من المنطوق والمفهوم. ولد في دمشق الشام، ولم يزل مثابراً على الإفادة والاستفادة إلى أن توفي نهار الخميس في 20 شعبان سنة 1252 ودفن بقاسيون في مدفن بني النابلسي. الشيخ محمد أفندي بن الشيخ عبد الله أفندي الرومي الحنفي الدمشقي الإمام العمدة العارف الذي هو من بحر المعارف غارف، صاحب الآثار الحسنة والشهرة العالية المستحسنة. كان إمام أهل التحقيق وكعبة طواف ذوي التدقيق، زاهداً في الدرهم والدينار كثير الخوف حسن الأطوار، دائم البكاء والايتهال لا يلتفت لجاه ولا لمال. تهدى إليه الهدايا الفاخرة فلا يقبلها ويقول من أكرمني فليدلني على ما ينفعني في الآخرة. وكانت تشهد له المشايخ بالمقام الكبير، ويقولون على رؤوس الأشهاد هذا الفاضل في زمننا ليس له نظير. توفي رحمه الله في عشرين رمضان سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1246 اثنتين وخمسين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير بقرب مقام سيدنا عبد الله بن زين العابدين من جهة الغرب. وبقرب قبره أم سلمة وأم حبيبة زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما وعنا بهم أجمعين. الشيخ محمد أفندي بن الشريف إسماعيل أفندي العجلاني الدمشقي الميداني مفخر الشرفاء الكرام ونخبة ذوي النسب العظام، يتصل نسبه الشريف بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان ذا أخلاق كريمة ومروءة عالية فخيمة، وشمائل جميلة، وله التفات إلى اكتساب ما يحصل به أنواع الفضيلة. ولا ينكر ذلك عليه لأنه من نسل من ينسب كل كمال إليه. توفي يوم الأربعاء عند الضحوة الكبرى ثالث عشر شوال سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن بمدفنهم المعروف بمدفن بني العجلاني. وهو في سوق الغنم تجاه مقبرة باب الصغير. الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ محمد المغربي الأزهري المالكي عالم وقته وأوانه وجهبذ عصره وزمانه، المحدث العمدة في العلوم والفاضل الذي تحل لديه مشكلات المنطوق والمفهوم، محط رحال السادة وكعبة طواف القادة، وحرم اعتكاف ذوي المعارف ومحراب توجه أهل الملح واللطائف. من سار في الآفاق ذكره وشاع في الناس علاه وقدره، الناهج في الكمال منهج الأوائل واللاهج بالأدب والتقوى وأنواع الفضائل. حضر من الغرب سنة ألف ومائة وإحدى وستين تقريباً، ونزل في الجامع الأزهر والمقام الأبهى والأبهر، فتعلق بأذيال العلم تعلق الوالدة بالولد إلى أن امتزج به امتزاج الروح بالجسد، وأخذ عن الشيوخ الأكابر والجهابذة الذين حازوا المعالي كابراً عن كابر، ولم يزل معتكفاً على الطلب والاستفادة، إلى أن شهدوا له بأنه صار مستحقاً للتأليف والإقراء والإفادة، فخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1247 الأزهر بعد الاستئذان وطاف في الأمصار إلى أن وصل إلى حلب ذات القدر والاعتبار، فوجد الناس في قيل وقال وجدال كاد أن يوقع أصحابه في حيز الوبال، فقال ما هذا الأمر الذي دهى ودهم فقالوا اختلفنا في حديث ذكره صاحب المختار وليس له غيرك من حكم، فإن صاحب المختار قد ذكر في مادة عكك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال طوبى لمن رأى عكّا، وبعض الناس قد سلمه اعتماداً على ناقله وبعض الناس قد رده ولم يعتمد على مثبته وقائله. وقال بأنه ليس إسماعيل كلام الذات المحمدية، ولا عليه طلاوة الأحاديث النبوية، فاحكم بيننا بالإنصاف فورودك علينا من كمال الإسعاف، فقال لهم دعوني الآن وسأكتب رسالة في هذا المرام، تزيل عنكم بعون الله الشكوك في هذا الحديث وأمثاله والأوهام. وقد ألف لهم رسالة قاطعة بأن هذا الحديث ليس من كلام النبوة، بل هو كذب مختلق مصنوع، وقد ذكرت هذه الرسالة بتمامها آنفاً لداعية دعتني إلى ذلك، وهي أن كثيراً من الجهال وبعض من يدعي الطلب، قد تداولوا هذا الحديث وهو طوبى لمن رأى عكة، وذلك سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وحكموا بصحته اعتماداً على ناقله وهو محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي في كتابه مختار الصحاح، مع أن ذكر المرقوم لذلك لا يدل على أنه حديث لأنه نقل من هو أعلم منه وأفضل، أحاديث كثيرة حكم عليها أهل الإسناد أنها موضوعة، لغايات قصدوها فأرادوا ترويجها فوضعوا لها أحاديث مكذوبة. قال ابن الجوزي ما أحسن قول القائل إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع ومعنى مناقضة الأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة. ثم إن الواضعين للحديث أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة أي احتساباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركوناً إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح، ولهذا قال يحيى القطان ما رأيت الكذب في أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1248 أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير أي لعدم علمهم بتفرقة ما يجوز لهم وما يمتنع عليهم، أو لأن عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب، ولكن الواضعون منهم وإن خفي حالهم على كثير من الناس فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ونقاده، وقد قيل لابن المبارك هذه الأحاديث المصنوعة فقال تعيش لها الجهابذة " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ومما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا، فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، قال ابن حبان جمع كل شيء إلا الصدق. وروى ابن حبان في الضعفا عن ابن مهدي قال قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا، قال وضعتها لأرغب الناس فيها، وكان غلام خليل يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، وغلقت أسواق بغداد لموته، ومع ذلك كان يضع الحديث، وقيل له عند موته حسن ظنك، قال كيف لا وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثاً، وكان أبو داوود النخعي أطول الناس قياماً بليل وأكثرهم صياماً بنهار، وكان يضع، قال ابن حبان وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه في السنة وأذبهم عنها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث، وقال بن عدي كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحداً وكان يكذب كذباً فاحشاً، وجوزت الكرّامية وهم قوم من المبتدعة نسبوا إلى محمد بن كرّام السجستاني الوضع في الترغيب والترهيب، دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1249 ترغيباً للناس في الطاعة وترهيباً لهم عن المعصية، واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث من كذب علي متعمداً ليضل به الناس، وحمل بعضهم حديث من كذب علي أي قال إنه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم إنما نكذب له لا عليه، وقال محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الوضاع: لا بأس إذا كان كاملاً حسناً أن يضع له إسناداً! وجميع ذلك خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم، بل بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فجزم بتكفير واضع الحديث، ووضعت الزنادقة جملاً من الأحاديث يفسدون بها الدين، فبين جهابذة الحديث أمرها ولله الحمد، روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث منهم محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، فروى عن حميد عن أنس مرفوعاً أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله، وضع هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التنبي. ومن الواضعين من يضع الحديث انتصاراً لمذهبه كالخطابية والرافضة وغيرهم، وروى ابن حبان في الضعفاء بسنده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً. وقسم من الواضعين وضعوا أحاديثهم تقرباً لبعض الخلفاء والأمراء موافقة لفعلهم وآرائهم، أو ترغيباً لهم في بلاد يعدونها لا قدر لها، فيضعون لهم أحاديث دالة على فضلها ورفعة قدرها، ترغيباً لهم بها، كالأحاديث الموضوعة في عكا على اختلاف أنواعها، وقسم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون منه في قصصهم كأبي سعيد المدايني. فائدة قال النسائي الكذابون المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام. ومن الموضوع الحديث المروي عن أبيّ بن كعب مرفوعاً في فضل القرآن سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1250 سورة من أوله إلى آخره، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين في تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي، قال العراقي لكن من أبرز إسناده منهم كالأولين فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه. تنبيه ورد في فضائل السور مفرقة أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف وليس بموضوع، وإنما ذكرت هذا التنبيه لئلا يتوهم أنه لم يصح في فضائل السور شيء. واعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها الفاتحة، والزهراوين، والأنعام والسبع الطوال مجملاً، والكهف ويس والدخان والملك والزلزلة والنصر والكافرون والإخلاص والمعوذتان وما عداها لم يصح فيه شيء. ومن الموضوعات أيضاً أحاديث الأرز والعدس والباذنجان والهريسة، وفضائل من اسمه محمد وأحمد، وفضل عين سلوان، وعسقلان، ووصايا علي، وضعها حماد بن عمر، والنصيبي ووصيته في الجماع، وضعها إسحق بن نجيح الملطي. والحاصل أن الموضوع تحرم روايته مع العلم بوضعه، وإثباته في كتاب مع عدم التنبيه عليه بأنه موضوع في أي معنى كان، سواء كان في حكم من الأحكام، أو في قصة أو في ترغيب أو في ترهيب، وسواء كان معناه صحيحاً أو باطلاً، لحديث مسلم: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين. ويعرف الوضع للحديث بإقرار واضعه أنه وضعه، كحديث فضائل القرآن فإن ميسرة قد اعترف بوضعه، وقال البخاري في التاريخ الأوسط حدثني يحيى اليشكري عن علي بن حدير قال سمعت عمر بن صبح يقول أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالوضع بإقرار من ادعى وضعه، لأن فيه عملاً بقوله بعد اعترافه على نفسه بالوضع، قال بعضهم: وهذا ليس باستشكال منه إنما هو توضيح وبيان، وهو أن الحكم بالوضع بالإقرار ليس بأمر قطعي موافق لما في نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1251 الأمر، لجواز كذبه في الإقرار. ويعرف الوضع أيضاً بغير ذلك مما هو مذكور في كتب مصطلح الحديث، كركاكة اللفظ أو المعنى، قال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوء كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره، وقال ابن الجوزي: الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب، قال الترمنيني: والكذب المختلق الموضوع ... على النبي فذلك الموضوع أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو مختلق ومبتكر من عند واضعه فهو موضوع ومحطوط المنزلة فلا معول عليه بالمرة لأنه من جملة الأكاذيب، ولا تجوز روايته إلا لتعريف حاله، لا بنحو قال النبي صلى الله عليه وسلم، بل بنحو: هذا الكلام موضوع وليس بحديث، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر ولو في ترغيب أو ترهيب، ويعرف الوضع بإقرار أو بركاكة. وإنما أطلت الكلام في هذا المقام، لئلا يظن الإنسان أن نقل من هو معروف بالعلم والفضل لكلام مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه حديث ولا يحتاج إلى نظر ولا إلى استدلال، فهذا قصور لا ينبغي التعويل عليه، لأن كثيراً من أفاضل العلماء قد نقلوا أحاديث في الترغيب والترهيب وفضائل القرآن سورة سورة، وقد تناقله أصحاب التفاسير وأهل الرقائق في كتبهم، ومع ذلك قد نبه المحدثون النقاد عليها بأنها موضوعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فما كل ما صدر بقال صلى الله عليه وسلم يقتضي أن يكون حديثاً، إلا أن يجده الإنسان في كتب الحديث المسندة، وإن كان الناقل له عمدة كالواحدي والواقدي والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، وصاحب مختار الصحاح في نقل الحديث المتقدم، ونحن لا نقول بأنهم هم الذين وضعوا الأحاديث التي ذكروها في كتبهم مما نبه العلماء عليها بأنها موضوعة، بل نقلوها اعتماداً على قائليها من غير أن ينظروا بها، فقد تبين لك مما تقدم أن هذا الحديث الذي ذكره صاحب المختار موضوع ليس بحديث، وذلك لا يطعن في مقام ناقله كما عرفت ولا في علمه، وها هي الرسالة للمترجم المذكور بحروفها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1252 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي حَمَى حِمى السنة المحمدية بأئمة جهابذة نقاد، ونشر أعلامها وأسس بنيانها بأطواد الأفراد، وخص هذه الأيمة المصطفوية بشرف سلاسل الإسناد، ونضر وجوههم في الدارين فرقوا مراقي الإسعاد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بحفظ سنته، وصونها عن المحرف الوضاع وكل ذي إلحاد، وعلى آله وصحبه ما سلسل محدث وأرسل وعنعن وأفاد، وعلى التابعين لهم من كل حافظ متقن ضابط خبير بالمدارك نقاد. أما بعد فيقول فقير مولاه الغني، محمد بن محمد المغربي الأزهري منح فتح الجواد، لما وردنا موارد حلب العذبة الأوراد سنة 1173، لإزاحة ما على القلب من الإنكاد، وحللنا في منزل رحب في مقعد صدق يزري بإرم ذات العماد، عند جناب رفيع سيد طويل النجاد، باذخ شامخ الأوتاد، فرآه يسابق بشاشته كل وارد من الوراد، طيب الشمائل، عذب المناهل نخبة الأفراد، بيض الله غرة احواله وأثمر أغصان آماله، وألبسه حلل الإرشاد والسداد، ورد علينا سؤال حديث مضمونه التنويه بفضل عكا الشهيرة عن التعريف بين الحاضر والباد، فكتبت عليه بأنه موضوع وكل ما ورد فيها وفي عينها فهو مفترى عند أعلام الإسناد، ولما رأيت الجوهري وتابعه صاحب المختار أوردا طوبى لمن رأى عكا، هززت عطفي لتحقيق الحق وإرشاد الأمجاد، وسميت الرقيم: تحذير أعلام البشر من أحاديث عكا وعينها المسماة بعين البقر، وينحصر المسطور في مقدمة وخاتمة، فيها تمام المقصد، وقد لبست حلة الإنصاف التي هي سنة علماء السنة والله الهادي وعليه اعتمادي وبه الحول والقوة ومنه المنة. المقدمة لا يخفى على الممارس أن أئمة الذين ذكروا ضوابط يعرف بها وضع الحديث كسماجة ألفاظه أو برودة معانيه، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1253 مخالفة للمحسوس أو لظواهر النصوص، أو لبلوغه في الحد مبلغاً يخرجه عن حده، فإن لكل شيء حداً، صرحوا بأن أحاديث البلدان لم يثبت منها إلا نزر يسير، وحذروا من أحاديثها غاية التحذير، وصرحوا بأنه لا يجوز أخذ حديث من أي كتاب كان، بل اشترطوا شروطاً يعرفها النبيل الخبير، وفي هذا المقام مهامه فسيحة يتيه فيها القطا ويحتاج معانيها إلى عون الملك الخبير. القصد في ذكر الحديث الذي ورد علي في فضل عكا وليس هو عندي وقت هذه الكتابة، وإنما مضمونه أنها بلد على جبلين فمن دخلها رغبة فيها غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن خرج منها رغبة عنها لم يبارك له في خروجه، وبها عين من شرب منها أو اغتسل فيها فهو طاهر إلى يوم القيامة، أقول: أما أولاً فبرودة هذه المعاني لا تخفى على الممارس المعاني، وأما ثانياً فقد اشتمل هذا الحديث على أمور فاسدة، كونها على جبلين كذب ومين، فإني دخلتها وهي شهيرة عند الناس بينها وبين الجبال بون بعيد، وكون الداخل إليها رغبة فيها ينال تلك المغفرة التامة لا يصح، لأنه لم يثبت فيما هو أفضل منها بالنصوص القواطع، فكيف يثبت فيما لا فضل له أصلاً، ومما يؤيد ذلك قول المنلا علي القارئ في آخر كتابه في الموضوعات لما أورد حديثاً مضمونه أن الصلاة في بيت المقدس بخمسين ألفاً أن هذا الفضل محال، وإن روي في سنن ابن ماجه، فإن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت فيها هذا الفضل، فكيف يثبت في بيت المقدس، قال وإنما الذي ثبت في بيت المقدس أن الصلاة بخمسماية، فإذا تأملت ما قرره المنلا علي رحمه الله تعالى، علمت أن مدعي هذه المغفرة يحتاج إلى مغفرة لقرينه مكفرة، وأما دعوى أنه أمر جائز في العقول، وقد لا يثبت للأفضل شيء ويثبت للمفضول، فجوابه أن السنة وفضائلها لا تثبت بتجويز العقول، وشهد لما قلناه ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتحه، أن كل احتمال لا يقبل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1254 مدارك الحديث، ومما يدلك على رد قوله غفر الله له ما تقدم الخ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ألف رسالة في الفضائل المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ولم يعرج فيها على حديث عكا، وأما نقل الناجي له في رسالته إن صح نسبتها له، فالناجي ليس من أئمة هذا الِشأن، الذين لهم القدح المعلا كما لا يخفى على من عرف أهل هذا اللسان، وكون عينها من شرب منها أو اغتسل كان طاهراً إلى يوم القيامة، هذا أدهى وأمر، فما معنى طهور الشارب والمغتسل إلى يوم القيامة، فإن كان من الجنابة ولو أجنب من بعد، فهذا مذهب أهل المعمودية، وهو منابذ لصريح الشريعة المحمدية، وإن كان طاهراً من الذنوب، فهو شيء لم يثبت للشارب المغتسل من زمزم المرغوب، وإن كان غير ذلك فلا ندريه. والحاصل أنه لا معنى له فقبح الله واضعه، فإنه ما أراد إلا تنقيص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما جاهل مفسد، أو زنديق ملحد. وأما حديث الجوهري وصاحب المختار: طوبى لمن رأى عكا فهو من وادي الأول فإن المساجد الثلاثة التي شرفها الله تعالى بالنص والإجماع لم يرد فيها طوبى لمن رآها، ولا يغتر بذكره في الكتابين المذكورين، فإن أصحابهما ليس لهما قدم في السنة، ولا يجوز أخذ حديث من كتاب إلا بعد مراجعة أصوله المعتمدة، والقاعدة السابقة في البلدان ترده، والبينة على المدعي، فإن قواعد الأئمة لا تعارض إلا بثقل ثابت عن أثبات الأمة، وهذا الإمام الرافعي إمام السنة والتفسير والفقه المجمع على جلالته، أورد أحاديث في كتاب: التدوين، في مناقب قزوين ومرو وبخارى ونصيبين، فأقامت عليه علماء الأمة القيامة، ورموه بقوس واحدة مع أنه إمام علامة. والاغترار بكل ما سطر ليس على الفضل علامة، وطوبى هذه ليست طوبى الجنات بل هي طوبى تحتها عقارب وحيات، وكم من حديث فيه طوبى لا يساوي عند الأعلام طوبى، وأما عينها عين البقر، ففضلها مفترى منكر، غير معتبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1255 وأما الحديث الطويل الذي آخره: واختار من العيون أربعاً، فذكر فيها عين عكا، فقد قال السيوطي وابن عراق وصاحب مثير الغرام منكر بالمرة. وهذا صاحب مثير الغرام وصاحب الأنيس الجليل، قد ذكرا فضائل مدن الشام على ما فيها، ولم يذكرا لعكا فضيلة مع أنهما بهذا الصدد، فلو ثبت لها أدنى فضيلة لطرزا بهما كتابيهما، فإنهما لم يصنعا كتابيهما إلا لنشر المحاسن الشامية، وأي محاسن أعظم من غفران الذنوب وطهارة الأبد؟ لا جزى الله الواضعين خيراً في الدنيا والآخرة، الذين ينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصب الفضلاء، فضلاً عن مقام سيد الأنبياء. الخاتمة: لا يهولنك ويعظم عليك قولنا سابقاً لا يغتر بذكر الجوهري وصاحب المختار فتقول هذه جرأة على الجهابذة الأخيار، فاعلم أنه ليس كل قيل يقال، ولا كل ميدان تجول فيه الرجال، فكم من همام جهبذ في علم لا قدر له في علم الآخر، وهذا القاضي البيضاوي سيد المحققين قد أودع تفسيره أحاديث السور، وغالبها موضوع بإجماع المحدثين أهل النظر، وهذا الجلال المحلي على جلالة محله، نقل حديث أنا أفصح من نطق بالضاد، وكذا شيخ الإسلام تلميذه، وهو موضوع عند النقاد، ولو تتبعنا أمثال هذه لأسهبنا وأبعدنا كل الابعاد. ولقد كنت نظمت أبياتاً قبل هذه الرسالة، فأحببت ذكرها لتتميم المقالة وهي: أقول لأرباب الحديث تبصروا ... حديثي فقولي عندكم غير مفترى أحاديث عكا لا يشك بأنها ... أباطيل لا تعزى إلى سيد الورى كقزوينهم السكندرية مثلها ... ومرو، ولو كان الحديث مسطرا وما صاحب المختار يروى حديثه ... ولا الجوهري من بالصحاح تجوهرا وأما الإمام الحال مجد زمانه ... فذاك من الحفاظ ممن لها درى وها الرافعي مع مجده ورسوخه ... بتدوينه المعروف يرويه من قرا أفاد أحاديثاً لقزوين مدحة ... فزيفها الأعلام ممن رقى الذرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1256 ومن شرطه لا اغترار بكل ما ... يسطر في كتب إلى أن ينقرا فهذا سبيل الراسخين سلكته ... مخافة يوم العرض من وصمة الفرى وأهدي صلاة من سلام لأحمد ... وآل وصحب ما رياض تعطرا تذييل: لا يغتر بأحاديث الخطب ولا كتب التواريخ ولا القصص ولا الرقائق ولا كتب اللغة حتى تراجع أصولها، وتحقق فصولها، وهذا المقام واسع المدى فياض الندى، وفي هذا القدر كفاية والله ولي العناية، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ما طابت بذكره الأفواه، قال مؤلفها رحمه الله: تمت في ذي القعدة سنة 1172 وقد تم نقلها من نسخة منقولة عن نسخة مؤلفها. توفي المترجم المرقوم رحمه الله تعالى بعد المائتين بقليل ولم أقف على مكان موته ودفنه. الشيخ محمد سعيد أفندي بن الشيخ عبد الستاربن الشيخ إبراهيم الأتاسي الحنفي مفتي مدينة حمص الشامية عالم لا يبارى وفاضل في ميدان الفضائل لا يجارى، ولد سنة أربع عشرة بعد المائتين والألف ونشأ في حجر والده المرقوم، فأخذ عنه أكثر المتداول من الكتب والفنون، إلى أن صار كعبة المسائل وبغية المقاصد والوسائل، نافذ القول، قوي القوة بالقوي المتين والحول. وكان رحمه الله مهاباً جسوراً فصيح اللسان، وولي منصب الإفتاء في حمص عن أهلية واستحقاق. وله شعر أرق من نسيم الصبا ونثر ألطف من خلع العذار في زمن الصبا، وتحقيقات أنيقة وأبحاث رقيقة، وتقييدات علية وتدقيقات سنية. ولم يزل مثابراً على السلوك في منهج الفضائل مقصوداً لحل مشكلات السادة الأفاضل، إلى أن ألحقته المنية بمن مضى وأحلته في ساحة العفو والرضى. وذلك غرة محرم الحرام سنة ست وسبعين بعد المائتين والألف من هجرة سيد الأنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1257 الشيخ محمد الخشني الشافعي المصري الأشعري الأزهري العالم المشهور بالصلاح والفاضل المعروف بالتقوى والفلاح، نزل في الجامع الأزهر والمكان الأرفع الأنور، فحفظ القرآن الشريف وأتقنه غاية الإتقان، ثم التفت إلى طلب العلم مع العمل والإذعان وقد لاحظته عين الرعاية والإسعاد وألبسته ثوب العناية والإستعداد فتخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر، كالحفني والعدوي من أفاضل شيوخ مصر. وكان مسكنه في خطة السيدة نفيسة، ويأتي في كل يوم إلى الأزهر فيقرأ دروسه، ثم يعود إلى داره متقللاً في معيشته، متمسكاً بتباعده عن الناس وعزلته. وهو آخر الطبقة العالية والمشيخة السامية، ولما نزلت به دواعي المنية وأرادت أن تلحقه بالعصابة العلية، تمرض شهوراً بمنزله الذي في المشهد النفيسي ذي الشأن، وكان دائماً يسأل عن الشيخ البجيرمي سليمان، يقول لا أموت حتى يموت هذا الهمام، لأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له أنت آخر أقرانك موتاً، فعلمت أن موتي قبله لا يتأتى، ولم يكن بقي من أقراني سوى هذه الذات العلية فلذلك أسأل عنه أهو حي أم اخترمته المنية؟ ثم مات البجيرمي بقرية مصطية ومات هو بعده بثلاثة أشهر عددية، وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس وعشرين من ذي الحجة الحرام سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام. ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر، بل صلي عليه في المشهد النفيسي ودفن في ذلك المقام الأنور. الشيخ محمد بن يوسف بن بنت الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي الأزهري العمدة الفاضل حاوي الكمالات والفضائل، عين الأعيان ونخبة الأقران. وله سنة ثلاث وستين ومائة وألف وترى في حجر جده وتخلق بأخلاقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1258 وحفظ القرآن والألفية، وأكثر المتون المتداولة. وحضر دروس جده وأخي جده الشيخ يوسف الحفناوي، وحضر أشياخ الوقت كالشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الدردير والشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي وغيرهم، وتمهر وأنجب، وأخذ طريق الخلوتية عن جده ولقنه الأسماء. ولما توفي جده ألقى الدروس في محله بالأزهر، ونشأ من صغره على أحسن طريقة وعفة نفس، وتباعد عن سفاسف الأمور الدنيئة، ولازم الاشتغال بالعلم، وفتح بيت جده وعمل به ميعاد الذكر كعادته، وكان عظيم النفس مع تهذيب الأخلاق والتبسط مع الإخوان والممازحة، مع تجنبه ما يخل بالمروءة، وله بعض تعليقات وحواش وشعر مناسب، ولم يزل على حالته إلى أن توفي يوم السبت رابع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في مشهد عظيم، ودفن مع جده في تربة واحدة بمقبرة المجاورين ولم يخلف ذكوراً. الشيخ محمد الحصافي المصري الأزهري الشافعي الفقيه النحوي الفرضي فقيه عصره نبيه مصره، ونحوي زمانه وفرضي وقته وأوانه، من ارتقت في معالي الفضائل ملكته وافتخرت به أقرانه وطبقته، وعرف بالزهادة والعبادة واستوى على منصة السيادة، حضر أشياخ الطبقة الأولى، ودرس العلوم في الأزهر وبلغ به الطلبة مراداً ومأمولاً، وأجاد في الإفادة من معقول ومنقول، وكان متباعداً عن الاختلاط منعكفاً في زوايا الخمول، منعزلاً عن الدنيا كما أنها منعزلة عنه. قانعاً بما قسم الله له راضياً منه، لا يدعى إلى وليمة، ولا يفرح بمادحه ولا يلوم مليمه، ولا ينهمك على شيء من الأمور. ولم يزل على حالته حتى جاءه الأجل المسطور. توفي يوم الاثنين ثالث عشر شوال سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1259 الشيخ محمد بن عبد الفتاح المالكي الأزهري من أهالي كفر حشاد بالمنوفية مدار العلوم والمعارف ومنار الآداب واللطائف، العمدة المفضل والصفوة المكمل، ذو التقوى والعبادة والرفعة والسيادة. قدم من بلده صغيراً فجاور بالأزهر المنير وحضر على أشياخ الوقت ولازم دروس الشيخ الأمير. وبه تخرج وتفقه ونال درجة علية، وقرأ على غيره من السادة لمالكية، وأنجب في المنقولات وتمهر في المعقولات، وصارت له ملكة واستحضار وشهرة كلية في الأماكن والأمصار. ثم رجع إلى بلده فأقام بها يفيد ويفتي في كل واقعة كلية أو جزية، ويرجع إليه في القضايا والدعاوى ولا يقبل جعالة ولا هدية. فاشتهر ذكره في الإقليم واعتقدوا فيه الزهد والعفاف، وأنه إذا أفتى أو قضى لا يحول عن الحق والإنصاف، لأنه لا يقبل شيئاً بحال ولا يروم سوى رضا الحق المتعال، فهرعت الناس إليه وصاروا لا يعولون في قضاياهم إلا عليه، ولا يعتمدون على سواه ولا يرومون إلا إياه، ولم يزل على هذه الحالة المرضية والمنقبة السامية العلية، حتى كان المولد المعتاد بطندتا فذهب الشيخ إلى هناك، فأتى المترجم لزيارته والسلام عليه، ونزل في الدار التي هو نازل فيها، فانهدمت جهته التي هو بها وسقطت عليه، فمات شهيداً مردوماً ومعه ثلاثة أنفار من أهالي قرية العكروت، فسبحان الحي الدائم الذي لا يموت، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة الحرام، سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف رحمهم ذو الجلال والإكرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1260 الشيخ محمد بن عبد الرحمن اليوسي المغربي المالكي الناسك العابد والصالح الزاهد، والعالم العامل والفاضل الكامل. ورد إلى مصر وحج ورجع، فهرعت الناس إلى زيارته والتبرك به، وكان قليل الاختلاط بالناس كثير المذاكرة العلمية محفوظ المجلس مما لا يعني، متمسكاً بالسنة والعمل بها، متواضعاً متذللاً لين الجانب حسن المعاشرة جميل المجاوبة. ولم يزل عالي الهمة وافر المروءة ملازماً للطاعة والتقوى، والأعمال الجميلة العالية، إلى أن تعلل وتمرض ولازمه المرض سنين، وتوفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين المحرم وصلي عليه في الجامع الأزهر في مشهد عظيم، ودفن بجانب الخطيب الشربيني بتربة المجاورين وهي القرافة الكبرى رحمه الله تعالى وذلك في سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف من هجرة من له الفضل والشرف. الشيخ محمد الأسناوي الشهير بجاد المولى الأزهري العالم المجيد والكامل المفيد، جاور بالأزهر وحضر دروس الشيوخ الأفاضل، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي، فحضر دروسه ومجالس أذكاره، وتلقى عنه الطريقة الخلوتية، وألبسه التاج وتقدم في خطابة الجمعة والأعياد في الجامع الأزهر، بدلاً عن الشيخ عبد الرحمن البكري، عندما رفعوها عنه، وخطب بجامع عمرو بمصر العتيقة يوم الاستسقاء عند ما قصرت زيادة النيل سنة ثلاث وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه، ولما حضر محمد باشا خسرو والي مصر وصلى صلاة الجمعة في الأزهر في سنة سبع عشرة، خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور، فكان في كل جمعة يلبسها للخطبة فقط وفي الأعياد، وكان ملازماً على إقراء الدروس للطلبة، واشتهر ذكره ونما أمره في أقل زمن، وكان فصيحاً في التقرير والإلقاء لتفهيم الطلبة، ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة، إلى أن توفي في شهر ذي الحجة سنة تسع وعشرين ومائتين وألف وقد ناهز الأربعين رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1261 الشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي الأزهري العلامة الأوحد والفهامة الأمجد، محقق عصره ومدقق دهره، الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم، بقية الفصحاء ونخبة الفضلاء، والمتميز بالفضائل وجميل الشمائل. ولد ببلدة دسوق من قرى مصر، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير، ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير، وتلقى الكثير من المعقولات عن الشيخ محمد الخفاجي ولازم الشيخ حسنا الجبرتي في مدة طويلة، وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت أيضاً، وحضر عليه أيضاً في فقه الحنفية، وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر، وتصدر للإقراء والتدريس وإفادة الطلبة، وكان فريداً في تسهيل المعاني وتبيين المباني، يفك كل مشكل بواضح تقريره، ويفتح كل مغلق برائق تحريره، ودرسه مجمع أذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب، مع لين جانب وديانة وتواضع وحسن خلق وصيانه، وجمال وتلطف وعدم تكلف، جارياً على سجيته الأصلية وطريقته الفطرية، لا يرتكب ما تكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ في التكلم، ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه، وله تأليفات واضحة العبارات، سهلة المأخذ كاشفة لغوامض الإشكالات. فمن تآليفه حاشية على مختصر السعد على التلخيص، وحاشية على شرح الشيخ الدردير على سيدي خليل في فقه المالكية، وحاشية على شرح الجلال المحلي على البردة، وحاشية على الكبرى للإمام السنوسي، وحاشية على شرحه للصغرى، وحاشية على شرح الرسالة الوضعية. هذا ما عني بجمعه وكتابته وبقي مسودات لم يتيسر له جمعها ولم يزل على حالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1262 في الإفادة والإفتاء والإلقاء، إلى أن مرض وتوفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر بيع الثاني سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل أنور، ودفن في تربة المجاورين في المدفن الذي بداخل المحل الذي يسمى بالطاولية، وقام بمؤنة تكفينه وتجهيزه ومصاريف جنازته ومدفنه السيد محمد المحروقي، وكذلك مصاريف منزله في ثلاثة أيامه، وأرسل من قيده لذلك من أتباعه بإدارة المطبخ ولوازمه من الأغنام والسمن والأرز والعسل والحطب والفحم، وجميع ما يحتاجون إليه للمقرئين والمعزين وغير ذلك مما يحتاج إليه. وقد رثاه عمدة الأخيار الشيخ حسن العطار رحمه الله تعالى بقوله: أحادث دهر قد ألم فأوجعا ... وحل بنادي جمعنا فتصدعا لقد صال فينا البين أعظم صولة ... فلم يخل من وقع المصيبة موضعا وجاءت خطوب الدهر تترى فكلما ... مضى حادث يعقبه آخر مسرعا وحل بنا ما لم نكن في حسابه ... من الدهر ما أبكى العيون وأفزعا خطوب زمان لو تمادى أقلها ... بشامخ رضوى أو ثبير تضعضعا وأصبح شأن الناس ما بين عائد ... مريضاً وثان للحبيب مشيعا لقد كان روض العيش بالأمن يانعاً ... فأضحى هشيماً ظله متقشعا أيحسن أن لا يبذل الشخص مهجة ... ويبكي دماً إن أفنت العين أدمعا وقد سار بالأحباب في حين غفلة ... سرير المنايا عاجلاً متسرعا وفي كل يوم روعة بعد روعة ... فلله ما قاسى الفؤاد وروعا عزاء بني الدنيا بفقد أئمة ... لكأس مرير الموت كل تجرعا يميناً لقد جل المصاب بشيخنا ال ... دسوقي وعاد القلب بالهم مترعا وسابت قلوب لا مفارق عندما ... تنكرت الأسماع صوت الذي نعا فللناس عذر في البكاء وللأسى ... عليه وأما في السواء فتجزعا وكيف وقد ماتت علوم بفقده ... لقد كان فيها جهبذياً سميذعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1263 فمن بعده يجلو دجنة شبهة ... ويكشف عن ستر الدقائق مقنعا وإن ذو اجتهاد قد تعثر فهمه ... فيا ليت شعري من يقول له لعا يقرر في فن البيان بمنطق ... بديع معانيه يتوج مسمعا وسار مسير الشمس غر علومه ... ففي كل أفق أشرقت فيه مطلعا وأبقى بتأليفاته بيننا هدى ... بها يسلك الطلاب للحق مهيعا وحل بتحريراته كل مشكل ... فلم يبق للإشكال في ذاك مطمعا فأي كتاب لم يفك ختامه ... إذا ما سواه من تعاصيه ضيعا ومن يبتغي تعداد حسن خصاله ... فليس ملوماً إن أطال وأشبعا فللصدق عون للمقال فمن يقل ... أصاب مكان القول فيه موسعا تواضع للطلاب فانتفعوا به ... على أنه بالحلم زاد ترفعا وكان حليماً واسع الصدر ماجدا ... تقياً نقياً زاهداً متورعا سعى في اكتساب الحمد طول حياته ... ولم نره في غير ذلك قد سعى ولم تلهه الدنيا بزخرف صورة ... عن العلم كيما أن تغر وتخدعا لقد صرف الأوقات في العلم والتقى ... فما أن لها يا صاح أمسى مضيعا فقدناه لكن نفعه الدهر دائم ... وما مات من أبقى علوماً لمن وعى فجوزي بالحسنى وتوج بالرضا ... وقوبل بالإكرام ممن له دعا الشيخ محمد المهدي الحفني الأزهري الأستاذ الفاضل الفريد والملاذ الكامل المجيد، الإمام العلامة والهمام الفهامة، والجهبذ الفقيه والسميدع النبيه، علامة عصره وفريد مصره، كان والده من الأقباط فأسلم قبل بلوغه على يد الشيخ الحفني، فحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره، فحضنه الشيخ ورباه وزاد في وداده، وأنزله بمنزله مع خاصته وأولاده، ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وكان جيد الهمة حسن الفهم، فلازم دروس الشيخ وأخيه الشيخ وغيرهما من السادة الأعلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1264 كالشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدردير والبيلي والجمل والخرشي والشيخ عبد الرحمن المقري والشرقاوي وأمثالهم من القادة الفخام، واجتهد في التحصيل وجد في منهج التوصيل، ولازم مجالس الذكر بعد وفاة الشيخ الحفني خليفة الدردير المكين، وتصدر للتدريس سنة ألف ومائة وتسعين، ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه في الأزهر، وقرأ شرح الألفية لابن عقيل وغيره من العلم الأنور، ونما أمره واشتهر ذكره، وبعد صيته في الآفاق وطار قدره وفاق، ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو، مع حسن السمت ووجاهة الطلعة، وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب، واستحضار الصواب في ترداد الخطاب، ومسايرة الأصحاب، وصاهر الشيخ محمد الحريري على ابنته، وأقبلت عليه الدنيا وتداخل في الأكابر ونال منهم حظاً وافراً بحسن معاشرته، وعذوبة ألفاظه وتنميق كلماته، ومعاملة كل إنسان بما يليق به. ولما وقع الطاعون في مصر سنة خمس ومائتين وألف خصه إسماعيل بك كتخدا حسن باشا الجزائرلي بما أحبه مما انحل عن الموتى من إقطاعات ورزق وغيرهما، فزادت ثروته وتمن شهرته، ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر واستولت عليها خافتهم الناس وهرب كثير من العلماء والأعيان، فكان للمترجم عندهم قدر عظيم وجاه جسيم، فلا تهان جماعته ولا ترد شفاعته، ولا زالت تعلو شهرته في مصر حتى صار يلقب عند الأجانب وعند الأهالي بكاتم السر، وجعلوه رئيس الديوان، إذا حكم قابله الجميع بالرضى والأذعان، وكان يخدمه كبراء الناس وعظماؤهم، ويلتجئ إليه أعيانهم وعلماؤهم، وكان يؤمن من أراد ويرده إلى الوطن والبلاد، فلا يعارضه أحد ولا يصل إلى من احتمى به هم ولا نكد، فحسن صنعه وعم نفعه. ولما انتقل الحكم إلى العثمانيين، بقي على حاله وقدره المكين، ولما كان آخر المحرم سنة ثلاثين ومائتين وألف توعك المترجم أياماً، ثم عوفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1265 وذهب إلى الحمام وهنأه الناس بالعافية، وذهب إلى جيرانه يتحدث عندهم كعادته، فخرج ليلة الجمعة الثاني من شهر صفر ودخل عند عثمان بن سلامة السناري، فتحدث عندهم حصة من الليل، ثم قام ذاهباً إلى داره ماشياً على أقدامه حتى وصل إلى داره ومضى نحو ساعة، وقد جامع زوجته واضطجع فحركوه فإذا هو ميت فجهزوه وصلي عليه في الأزهر ودفن عند الشيخ الحفني بجانب قبره، فسبحان الحي الذي لا يموت، وكان عمره نحواً من خمس وسبعين سنة. وحاصل أمر المرحوم المترجم أنه كان من فحول العلماء يدرس الكتب الصعاب في المعقول والمنقول، بالتحقيق والتدقيق، وانتفع عليه الكثير من الطلبة إلى أن صاروا مدرسين مميزين على أقرانهم من أهل العصر، ولو أنه استمر على طريقة أهل العلم السابقين وبعض اللاحقين، ولم يشتغل بالانهماك على الدنيا وكثرة المداخلة مع الأكابر وذوي الحكومة، لكان نادرة عصره ونقطة مدار مصره، ولكن ذلك أداه إلى قطع الاشتغال، حتى أنه إذا ابتدأ كتاباً كان في الغالب لا يتمه، ولا ألف كتاباً ولا رسالة في فن من الفنون مع كمال أهليته لذلك. ثبت الله قلوبنا على التقوى وحفظنا من كل تقصير في السر والنجوى، وعصمنا والمسلمين مما يضر ويشين. الشيخ محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز المالكي الأزهري الشهير بالأمير الكبير العالم العلامة الفاضل الفهامة، صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة، شيخ شيوخ أهل العلم وصدر صدور أهل الفهم، المتفنن في العلوم كلها، نقليها وعقليها وأدبيها. إليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1266 المصرية، وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية. استنبط الفروع من الأصول، واستخرج نفائس الدرر من بحور المعقول والمنقول، وأودع الطروس فوائد وقلدها عوائد وقرائد. وشهرته بالأمير إنما جاءته من جده الأدنى أحمد، وسببه أن أحمد وأباه عبد القادر كان لهما أمرة بالصعيد، وأخبر المترجم عن نفسه أن أصلهم من المغرب، نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب أبي التخصيص كما أخبر عن ذلك وثائق لهم. ثم التزموا بحصنه بناحية سنبو وارتحلوا إليها، وقطنوا بها وبها ولد المترجم. وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة وألف بإخبار والديه، وارتحل معهما إلى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القرآن فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطبية والدرة، وحبب إليه طلب العلم، فأول ما حفظ متن الآجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط، وحضر دروس أعيان عصره، واجتهد في التحصيل، ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول، وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي، والأربعين النووية، واستمع الموطأ على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الأزهر سنة وروده بقصد الحج، ولازم المرحوم حسنا الجبرتي سنين، وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والأوفاق والحكمة، بواسطة تلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي المالكي، وكتب له إجازة مثبتة في برنامج شيوخه، وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث وبانت سعاد، وعلى الشيخ محمد الحفني أخيه مجالس من الجامع الصغير والشمائل والنجم الغيطي في المولد، وعلى الشيخ أحمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وسمع منه المسلسل بالأولية، وتلقى عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف، وشملته إجازة الشيخ الملوي، وتلقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1267 عنه مسائل في أواخر أيام انقطاعه بالمنزل، ومهر وأنجب وتصدر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه، ونما أمره واشتهر فضله، خصوصاً بعد موت أشياخه، وشاع ذكره في الآفاق وخصوصاً بلاد المغرب، وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام، ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه، وتوجه في بعض المقتضيات إلى دار السلطنة، وألقى هناك دروساً حضره فيها علماؤهم، وشهدوا بفضله واستجازوه فأجازهم بما هو مجاز به من أشياخه. وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بأيدي الطلبة وهي في غاية التحرير، منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل، جمع فيه الراجح في المذهب وشرحه شرحاً نفيساً، وقد صار كل منهما مقبولاً في أيام شيخه العدوي، حتى كان إذا توقف شيخه في موضع يقول هاتوا مختصر الأمير، وهي منقبة شريفة، وشرح مختصر خليل، وحاشية على المغني لابن هشام، وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر، وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة، وحاشية على شرح الشذور لابن هشام، وحاشية على الأزهرية، وحاشية على الشنشوري على الرحيبة في الفرائض، وحواش على المعراج، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية، ومؤلف سماه النيرين فيما يتعلق بالقدرتين، وإتحاف الإنس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس، ورفع التلبيس عما يسأل به ابن خميس، وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والإفهام، وحاشية على المجموع، وتفسير سورة القدر. ومن نظمه قوله متغزلاً: أيها السيد المدلل ضاعت ... في الهوى ضيعتي وأنسيت نسكي يا لك الله لا تمل لسوائي ... وتحكم ولو بما فيه فتكي وانظر الحق في علو غناه ... كل شيء يمحوه غير الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1268 يا حسن لون الشمس عند غروبها ... في روض أنس نزهة للأنفس فكأنه وكأنه في ناظري ... ذهب يجول على بساط سندس وله أيضاً تخيلت أن الشمس والبحر تحتها ... وقد بسطت منها عليه بوارق مليح أتى المرآة ينظر وجهه ... ففي وجهها من وجهه الضوء دافق وله أيضاً: يا مالك القلب من بين الملاح وإن ... توهم الغير أن القلب مشترك إني أغار على حظي لديك فغر ... أيضاً على قلب صب فيك مرتبك وقل لهم ينتهوا عما تسوله ... نفوس سومهم طرق الردى سلكوا توهموا أنهم حلوا وقد ملكوا ... ويعلم الله ما حلوا وما ملكوا يا سيد الكل يا قطب الجمال ومن ... في دولة الحسن يروى أنه الملك ما كان قلبي يهوى الغير يا أملي ... فابعث رميمي إذ أهل الهوى هلكوا واسقط البين وارفع حجب شأنك لي ... ليشتفى خاطر الفكر يعترك بلطف ذاتك لا تقطع رجاء فتى ... على عيوب له بالعهد يمتسك وله أيضاً دع الدنيا فليس بها سرور ... يتم ولا من الأحزان تسلم ونفرض أنه قد تم فرضاً ... فغم زواله أمر محتم فكن فيها غريباً ثم عبي ... إلى دار البقا ما فيه تغنم وإن لا بد من لهو فلهو ... لشيء نافع والله أعلم وله غير ذلك من النظم المليح والذوق الصحيح، واللسان الفصيح، وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج، ينزعج طبعه من غير انزعاج، يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنفر يوهنه ويسقمه. ولا زال تضعف قواه وتتراخى أعضاه وتزيد شكواه، ويتراخى ويتعلل ويزداد أنينه ومرضه ويتحمل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1269 وداعي المنون يدعوه ولا يدعه ويرفعه على كاهل الرحيل ولا يضعه. إلى أن توفي يوم الاثنين عاشر ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، وكان له مشهد قد انتهى فيه الاجتماع والازدحام، ودفن في الصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي بالقرب من عمارة السلطان قايتباي وكثر عليه الأسف ولم يكن مثله فيمن خلف. الشيخ محمد الشنواني الأزهري الشافعي حبر العلماء الأعلام وبحر الفضلاء الفخام، شيخ الإسلام وعمدة الأنام، الفقيه العلامة والنحرير الفهامة، شيخ الجامع الأزهر والمكان الأبهى الأنور، النحوي الأصولي الفقيه والمحدث المفسر النبيه، حضر الأشياخ الأوائل والسادة الأفاضل، كالشيخ فارس وكالصعيدي والدردير والقرماوي، وتفقه على الشيخ عيسى البراوي، ولازم دروسه وبه تخرج، وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة بالجامع المعروف بالفاكهاني، مهذب النفس كثير التواضع والانكسار والبشاشة لكل أحد من الناس، ويشمر ثيابه ويخدم بنفسه ويكنس الجامع ويسرج القناديل. ولما توفي الشيخ عبد الله الشرقاوي اختاروه للمشيخة فامتنع وهرب إلى مصر العتيقة، فأحضروه قهراً عنه وولوه المشيخة. ولم يزل ملازماً لجامع الفاكهاني كعادته وأقبلت عليه الدنيا فلم يتهن بها. واعترته الأمراض ولازمه داء الزحير أشهراً، ثم عوفي ثم لازمته الحمى وانقطع بها في داره، إلى أن توفي يوم الأربعاء رابع عشرين محرم الحرام سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1270 ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، وصلى عليه في الأزهر في مشهد عظيم، ودفن في تربة المجاورين. وله عدة تآليف منها حاشية جليلة على شرح الشيخ عبد السلام على الجوهرة وتقلد مشيخة الأزهر بعده الشيخ محمد بن الشيخ أحمد العروسي من غير معارض ولا منازع. الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالدواخلي الأزهري الشافعي العمدة الكامل والعالم العامل. ولد بمصر وتربى في حجر أبيه وحفظ القرآن واجتهد في طلب العلم، وحضر الأشياخ من أهل وقته كالشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ عبد الله الشرقاوي. وبرع في المعقول والمنقول، وأقرأ الدروس من سائر الفنون، وتداخل في قضايا الدعاوى بين الناس، واشتهر ذكره وعلا قدره، وكان له لدنياه والمال والجاه ميل كثير، ولا يقنع بالكثير فضلاً عن اليسير، وتقلد النقابة بعد موت الشيخ محمد بن وفا، وركب الخيول ولبس التاج الكبير، ومشى أمامه الخدم والمقدمون، وازدحم بيته بأرباب الدعاوى والتشكيات، وعمر داره وأنشأ تجاهها جامعاً عظيماً، وداخله الغرور، وظن أن الدهر يديم له المسرة والحبور. فأول ما ابتدأه الدهر من نكباته أن مات ولده أحمد، وقد ناهز البلوغ ولم يكن له من الذكور غيره، فاختل نظام معاشه ولازمه الكدر ودفنه في جامعه الذي بناه تجاه بيته، وبنى عليه بناء ومقصورة مثل المقامات التي تقصد للزيارة، ثم إنه التفت إلى مناصبه، ورجع إلى سلوك مذاهبه، وخالط الوزراء وتداخل مع الكبراء، إلى أن صار من أعيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1271 الرؤوس ورؤوس الأعيان، يشار إليه، ويعتمد في جليل الأمور عليه، ويفصل القضايا والخصومة، ولا يعارضه الباشا ولا غيره من ذوي الحكومة. وتطاول على رؤوس الكتبة الأقباط. وسلك في غروره جهة الإفراط، إلى أن ضاق صدر الولي منه وأعرض بالكلية عنه، وأمر بنفيه إلى دسوق. وذلك سنة إحدى وثلاثين فأقام بها أشهراً، ثم توجه بشفاعة السيد المحروقي إلى المحلة الكبرى، فلم يزل بها منحرف المزاج مستعملاً للعلاج، مع كونه يراجع السيد المحروقي في أن يشفع له عند الباشا في الإذن بالحج أو بالعود إلى مصر، فلم يؤذن له، ولم يزل في المحلة إلى أن توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه بمنه وكرمه. الشيخ محمد سعيد بن إبراهيم الحموي العلامة الفاضل والجهبذ الكامل، وله في حماة سنة ألف ومائة وخمس وخمسين، وبعد بلوغه أكب على طلب العلم الشريف ذي المقام السامي المنيف، إلى أن حصل منه مطلوبه واقتطف من ثمراته مرغوبه، وقد أخذ عن سادات أكابر وقادات على مثلهم تجتنى المفاخر، منهم الشيخ حسن الحموي بن كديمة والشيخ منصور الحلبي الخلوتي وأبو الطيب المغربي المدني والشيخ صالح الجينيني والشيخ عبد الرحمن العيدروسي والشيخ أحمد الملوي والشيخ محمد الحفني والشيخ أحمد الجوهري والشيخ عمر الزاهد الدمياطي والشيخ حسن الرشيدي والشيخ عبد الله الحواط الحموي والشيخ فرج الحموي والشيخ يوسف الفقيه والشيخ عمر الكردي وعلي أفندي الداغستاني والشيخ محمد التافلاتي المغربي وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1272 وأخذ عنه غب أن توطن دمشق الشام سيدي من لنا إليه شريف القرابة، السيد محمد عابدين، وأجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه المرقومين وغيرهم. ولا زال على إفادته واستفادته وتقواه وطاعته، إلى أن توفي خامس عشر ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن محمد الجديني الشافعي خطيب قرية كفرسوسيا فقيه زاهد وفقير صابر عابد، ذو تقوى وصلاح وسكينة ونجاح، نشأ في العلم والطلب ولم ينظر في تحصيل الدنيا إلى سبب، قرأ على كثير من العلماء والسادة الفضلاء، لكنه لازم شيخنا العلامة الفاضل والجهبذ الكامل، الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي، فانتفع به كثيراً إلى أن صار حقيقاً بالعلم وجديراً، وحينما فصل الشيخ سعيد الخالدي من خطابة القرية المرقومة تولى خطابتها المترجم، فترقى على سلفه وتقدم، وكان كثير التردد إلي ويعتمد في بعض أموره المهمة علي، وقرأ عندي رسائل الربع المقنطر والمجيب إلى أن صار به كما رام وأحب، وكان فقير الحال ظاهر اللطف والجمال، جميل العشرة نظيف القشرة. ولم يزل على منهاجه القويم إلى أن خطبته المنية إلى جوار الكريم، فتوفي ليلة الجمعة ثاني وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وأربع. وفي ليلة الجمعة صلى العشاء بالجماعة بغاية الاعتدال، فتوعك في الليل قليلاً ومات في الحال، رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن مصطفى بن محمد الأنطاكي الحنفي السمرجي العالم العامل، الفقيه الورع المتدين، الفاضل الكامل الزاهد العابد المتفنن، ولد سنة سبع وعشرين ومائة وألف، قرأ على المحقق الشيخ حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1273 الأنطاكي، وأبي عبد الله محمودة بن محمد الأنطاكي ولازمه كثيراً وسمع عليه الحديث وغيره وأخذ عنه وانتفع به، وأجازه هو وغيره من أهل العصر، بخطوطهم، وفاق وتنبل وحصل الفضل الذي لا يجحد، وبرع في الفقه والأصول والفروع، ولازم العلماء واستفاد، ثم درس وأقرأ وأفاد، وكتب مسائل الفتوى وراجعته الناس، وأقبلت عليه العلماء والمفتون، وعليه قرأ جماعة من ذوي الطلب، وكان كثير الفضل والديانة، والزهادة والعبادة والتقوى وحسن السلوك، وجمال اللطف والمعاشرة، توفي سنة ألف ومائتين وبضع سنين رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن عثمان بن محمد بن عثمان الحلبي الحنفي الشماع فرد زمانه وعالم عصره وأوانه، زبدة الأفاضل وخزانة الفضائل، الفقيه الفرضي البياني، والأصولي المنطقي المعاني للمعاني، والمحدث الخبير والناقد الشهير. ولد بحلب سنة أربع ومائة وألف، وقرأ غالب الفنون على البرهان إبراهيم بن مصطفى الحلبي المداري، وأبي عبد الله جابر بن عودة الحوراني الشافعي، وأبي المحاسن بن حسين الدمشقي الحسيني المفتي، وأبي عبد الله محمد بن الحسن بن همات الدمشقي الحنفي وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلوسي ثم الحلبي وتفقه عليه، وتخرج في المسائل الشرعية والعقلية، وقرأ على غيرهم من الأجلاء، وروى بالسند العالي عن المعمر المسند الكبير زين الدين بن عبد اللطيف الشعيفي الجلوصي كاتب الفتوى الحنفي المتوفى سنة سبع وعشرين ومائة وألف، وكتب مسائل الفتوى وراجعه المستفتون واعتمدوه واعتبره العلماء المفتون. ولم يزل محترم القدر مرفوع الرتبة مشهور الذكر، علي المقام سني الاحترام، حسن الإفادة وافر العبادة صادق الزاهدة، لا يشغله هواه عن الإقبال على مولاه، إلى أن توفي سنة ومائتين وأربع رحمه الله تعالى ونفعنا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1274 الشيخ محمد بن حجازي بن محمد الحلبي الشافعي العالم الفاضل المتقن والعامل الجهبذ المتفنن، النظار الأصولي الفقيه، والنحوي الصرفي الجدلي النبيه. ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف، واشتغل بالأخذ والقراءة، فقرأء على أبي الثناء محمود بن شعبان البزستاني الحنفي، وأبي عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي، ولازم تاج الدين محمد بن طه العقاد وبه تخرج في أكثر العلوم، وسمع منه أكثر صحيح البخاري وشيئاً من صحيح مسلم وغيرهما من كتب الحديث، وأخذ عنه القراءات من طريق الشاطبية وانتفع به، وأخذها أيضاَ عن أبي عبد اللطيف محمد بن مصطفى البصري شيخ القراء بحلب، وأبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، وقرأ على أبي السعادات طه بن الجبريني شيئاً من أصول الحديث وشيئاً من صحيح البخاري، وحضره في دروسه الفقهيه، وقرأ المنطق وأخذه عن الشهاب أحمد بن إبراهيم الكردي الشافعي مدرس الأحمدية بحلب، وقرأ مختصر في المعاني والبيان على أبي الحسن علي بن إبراهيم العطار وألفية الأصول للسيوطي، وشرح السيراجية، وقرأ على أبي محمد عبد القادر الديري المنهاج بطرفيه، وشرح المنهج للقاضي زكريا الأنصاري وقرأ الكثير على الأجلاء وسمع منهم وأتقن وفضل ومهر ونبل، ودرس وأفاد، وأقرأ جماعة كثيرين وأخذوا عنه وما منهم إلا من انتفع به واستفاد، وكان من العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين، وكان يحترف ويأكل من شغله، ولا يقبل من أحد إلا ما دعت الضرورة إليه، يغلب على حاله الزهد والعفاف والرضى برزق الكفاف. وكان قليل الإختلاط بغيره لا يألف إلا ما يفوز منه بخيره، كثير العبادة والتقوى شديد الإقبال على عالم السر والنجوى، دائم التفكر بالله لا يشغله عنه سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1275 مات بعد سنة خمس ومائتين وألف. الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن فتيان بن محمد بن فتيان بن عثمان الحلبي الشافعي العقيلي الخلوتي العالم الفقيه الفاضل والألمعي اللوذعي الكامل، والعامل الهمام والجهبذ الإمام. ولد سنة سبع وأربعين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم وحفظه على شيخ القراء الشمس محمد بن مصطفى البصيري الحلبي، وعلى والده عبد اللطيف المقري، والشهاب أحمد البصراوي وغيرهم. وتفقه على أبي محمد عبد الهادي المصري، وعلى الشيخ أبي عبد الوهاب بن أحمد المصري وقرأ عليه التحرير والشربيني، وقرأ المنهاج والمنهج وغيره من كتب المذهب على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري. ولما قدم حلب أبو عبد الله محمد بن محمد الطيب الفلسي المغربي وعقد مجلس الإقراء والتحديث، سمع منه الصحيح للإمام البخاري وأجاز له، وسمع الشمائل على أبي محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأجاز له أيضاً، وسمع أيضاً على أبي اليمن محمد بن طه العقاد وغيره. وقرأ في العربية على أبي العدل قاسم بن علي التونسي المالكي وعلى أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد المكتبي وأخذ عنه بعض الطرائق، وقرأ في الفرائض على أبي الفضيل عثمان بن عبد الرحمن العقيلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1276 الحلبي، وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة، وأخذ الطريقة الخلوتية عن أبي الفتوح محمد كمال الدين بن مصطفى البكري الصديقي، والرفاعية عن قريبه الشهاب أحمد بن محلول الزنار والطريقة العقيلية عن أقاربه عن أسلافهم، وتفوق وفضل وتفقه ونبل، ودرس في جامع التوبة خارج باب النيرب، وأقام الذكر والتوحيد في مقام ولي الله تعالى جاكير، وكان بحلب من المشايخ المعروفين بالفضل والصلاح، وكان من جملة من أخذ عن المترجم وانتفع به وبعلومه مفتي دمشق الشام محمد خليل أفندي المرادي، وأجازه بما تجوز له روايته عن مشايخه، وذلك سنة خمس ومائتين وألف حين كان في حلب. وما زال المترجم على حالة صالحة واستقامة راجحة، إلى أن دعاه داعي المنون إلى دار من أمره بين الكاف والنون، وذلك سنة ألف ومائتين. الشيخ محمد بن عبد الكريم بن أحمد بن محمد علوان بن عبد الله الحلبي الشافعي الشهير كأسلافه بالشراباتي مفتي الشافعية بحلب. العالم المحدث الفقيه البركة الورع الصالح أحد الفقهاء المشهورين من المتأخرين. مولده سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، واشتغل بالقراءة والتلقي والسماع والاستفادة فقرأ على والده وعلى أبي السعادات طه بن مهنا بن يوسف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1277 الجبريني وغيرهم، وسمع صحيح البخاري على أبي عبد الله محمد بن صالح بن رجب المواهبي، وأخذ عن محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي عند قدومه إلى حلب وسمع منه، ومن أبي عبد الله محمد بن محمد التافلاتي المغربي، وأجاز له الأستاذ أبو الإرشاد مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي الدمشقي، وجمال الدين محمد بن أحمد عقيلة المكي وأبو البركات عبد الله بن الحسين السويدي البغدادي عند دخولهم حلب، وسمع منهم حديث الرحمة وأجازوه مع أخيه مصطفى، وسمع الكثير منهم، وحصل الفضل الذي لا ينكر ودرس وأقرأ الفقه والحديث وغالب الفنون. وكان يستقيم بجامع عبيس بساحة بزة وأفتى مدة سنين، وصار رئيس الشافعية بحلب، وتردد إليه الناس للاستفتاء، وكان متواضعاً صالحاً وعالماً فاضلاً، لين الجانب حسن المناقب، جميل المعاشرة حسن المحاضرة. توفي رحمه الله تعالى يوم السبت خامس عشر شوال سنة ثلاث ومائتين وألف. الشيخ محمد بن محمد الأريحاوي الحلبي الشافعي العالم المحقق العامل الإمام المدقق الكامل. مولده بأريحا سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، وقرأ بها بعض المقدمات، وارتحل إلى مصر وأقام بها ولازم الشيوخ، وقرأ على الكثير معظم الفنون، واشتغل بالأخذ والتلقي والسماع والتحصيل، وأخذ عن كثير، منهم النجم الحفناوي، والشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي، وأبو علي الحسن بن أحمد المدابغي، وأبو مهدي عيسى البراوي وغيرهم، ودأب واجتهد حتى أتقن وفضل ومهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1278 وأذن له شيوخه بالإفتاء والتدريس، وأجازوا له، ثم عاد إلى حلب بفضل وافر، وأقام بها ينشر الفضائل ويفيد الأفاضل، وتصدر للإفادة والإقراء، ولازمه جماعة كثيرون وانتفعوا به، ثم ضرب عن ذلك صفحاً ورام ما هو أعظم ربحاً، واعتزل الناس واشتغل بالعبادة والسكون، وانزوى في داره مع الورع والزهد التام، واعتقده الناس وأقبلوا عليه، وكانت فضائله مشهورة وأحواله مذكورة. ولم يزل على حالته الحسنة حتى مات في صفر سنة أربع ومائتين وألف ودفن بتربة الشيخ أبي نمير خارج باب قنسرين. الشيخ محمد مكي بن موسى بن عبد الكريم الحلبي الحنفي العالم الفقيه الأصولي المقري الضابط الصالح أبو الإتقان، أحد القراء والحفاظ المشهورين، والفضلاء البارعين بحلب. مولده بها سنة خمس وأربعين ومائة وألف، وكان جده من دمشق وارتحل إلى حلب، ومات بها قرأ القرآن العظيم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وحفظه على الأجلاء من القراء، كالشمس البصري ومحمد بن عمر الشاهين وعبد الغني المقري بمحلة الجديدة وعلي المصري وأتقن الحفظ وضبطه، وحفظ الشاطبية وقرأ السبعة من طريقها على الشمس البصري شيخ القراء المذكور، وشرع بالأخذ والاشتغال بالعلوم، فقرأ الفقه والأصول والعقائد والمنطق والنحو والصرف والمعاني والبيان وغالب الفنون على جماعة، وأسمع الحديث على جمع، منهم أبو عبد القادر محمد بن صالح بن رجب المواهبي، قرأ عليه الدرر وشرح النخبة في أصول الحديث والتوضيح لابن هشام وشرح الألفية للأشموني والشفاء للقاضي عياض، وعلى والده عماد الدين إسماعيل أكثر من نصف الهداية، وشرح الجوهرة في التوحيد، وسمع عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1279 صحيح البخاري، ومنهم قاسم بن محمد النجار قرأ عليه عدة كتب فقهية، وأبو الحسن علي بن إبراهيم العطار قرأ عليه الدر المختار للحصكفي والقدوري، وطالع عليه كتباً كثيرة كالبحر والذخيرة وشرح الكنز لابن سلطان والبدايع، وقرأ عليه النصف الأول من الهداية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي، وأخذ الأصول عن محمد حاجي بن علي الكليسي مفتي الحنفية بحلب، وقرأ على أبي محمد يوسف بن أحمد الجابري وعلى أبي الثناء محمود بن سفيان البرستاني وأبي محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني والشيخ رضي الدين بن عثمان الشماع. ودخل دمشق وسكن المدرسة المرادية في جوار الجامع الأموي، ولازم زين الدين مصطفى بن محمد بن رحمة الله الأيوبي الدمشقي، وحفظ عليه نصف الكنز، ثم لما عاد إلى حلب أتم حفظه على شيخه محمد المواهبي، وأجاز له غالب شيوخه بالإجازة العامة، وكتبوا له خطوطهم، وتفوق وضبط القراءة بوجوهها وحفظها وتلا ورتل القرآن العظيم أحسن ترتيل، وكان من القراء الموصوفين بالتقوى والديانة والفضل. واجتمع بالسيد خليل أفندي المرادي سنة خمس ومائتين وألف، وأخذ كل عن الآخر وأجاز كل الآخر بالإجازة العامة، ولم يزل على حالة صالحة وعبادة راجحة، إلى أن توفي سنة ألف ومائتين ونيف. الشيخ محمد بن عمر بن شاهين الحلبي الحنفي الرفاعي الشاذلي شهاب الدين أبو الفضل، الصوفي الزاهد الورع، العالم الفاضل المقرئ، أحد الأجلاء من القراء والمشايخ النبلاء. مولده سنة ست وثلاثين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1280 على أخيه عبد القادر، ثم جمع على أبيه وعلى الشمس البصيري بالروايات السبع وقرأ القراءات وأتقن وضبط، وقرأ الحديث والفقه على أبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري نزيل حلب، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وتخلف بعده. وقرأ على أبي السعادات طه بن محمد الجبريني وأبي محمد عبد الرحمن بن مصطفى البكفالوني وغيرهم، وأخذ الطريقة الرفاعية عن خير الله بن أبي بكر بن الصياد الرفاعي، والطريقة القادرية عن أبي علي عمر بن ياسين بن عبد الرزاق الكيلاني الحموي، والطريقة الخلوتية عن أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد البخشي. وأجازه الجميع وكتبوا له خطوطهم، وخلفوه وأذنوا له بالإرشاد، ولازم الطريقة الشاذلية بعد شيخه عبد الوهاب المذكور، وأقام الأذكار والتوحيد، واختلى كعادتهم، وأقرأ القرآن العظيم بالروايات، وأخذ عنه القراآت وبقية الفنون أناس كثيرون وانتفعوا به، وأخذ عنه الطريق جمع كثير. وبالجملة فقد كان من خيار الناس وعلمائهم وفضلائهم، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف. السيد محمد بن عبد الله الخالدي المالكي الجزائري العالم الأستاذ والعمدة الملاذ، ترجمه ولده الفاضل الشيخ محمد، وقد نقلت من خطه بأنه يتصل نسب المترجم بسيدنا الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ولد عام ألف ومائتين وثمانية عشر في جبل هلالة من جزائر المغرب، ونشأ بها وقرأ القرآن على والده، وكان رحمه الله تعالى عالماً عاملاً، تقياً فاضلاً، فلما حفظ القرآن وأتقنه مجوداً أبدع إتقان، توجه إلى بلدة مازونة سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين واشتغل بالعلوم الشرعية، وحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1281 متن الشيخ خليل في مذهب الإمام مالك وقرأ بعض شروحه، وبعدها توجه إلى قسنطينة سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين، وهي بلدة عظيمة بينها وبين مدينة الجزائر نحو خمس مراحل لطلب العلوم التي ترام، والأخذ عن علمائها الأعلام، وفي سنة ألف ومائتين وست وأربعين رجع إلى الوطن، واشتغل بنشر العلوم وفصل القضايا بين الناس، كما كان ذلك دأب والده قدس الله سره. وفي سنة اثنتين وخمسين توجه إلى أداء فريضة الحج الشريف، وجاور في المدينة المنورة سنتين، ثم قدم إلى مصر القاهرة للمجاورة في جامعها الأزهر، فأخذ عن أكابر علمائها المحققين كشيخ الإسلام العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ محمد عليش المالكي والشيخ السقا والشيخ المبلط وغيرهم، وأجازه كل منهم بما حواه ثبت الشيخ محمد الأمير أو صحت له روايته عن غيره إجازة عامة، وفي عام ثمانية وستين قصد دمشق الشام وجعلها له دار مقام، وعكف على التدريس في مدرسة دار الحديث، في المنقول والمعقول، وتصدر للإفتاء، وفصل القضايا بين المهاجرين من المغاربة بأمر سيدنا المرحوم الأمير السيد عبد القادر الحسني، وكان من قبل قد أخذ الطريق الخلوتية، وصاحب جملة من أهل الله تعالى منهم المرحوم سيدي علي بن عيسى البكري الخلوتي في بلاد الغرب، ولما توجه إلى مكة المشرفة تلقن الطريقة السنوسية الإدريسية على سيدي الشيخ محمد السنوسي، وفي الديار الشامية لازم سيدي الشيخ محمد المبارك البكري الخلوتي، حتى توفي قدس الله سره العزيز، ثم اشتغل بالطريقة الشاذلية وصحب بعض أهلها كالأمير السيد عبد القادر الجزائري، ولم يصده الاشتغال بالعلم الظاهر عن المجاهدة في علم الله تعالى، وكان لي معه حضور واجتماع، ومذاكرة وملاطفة وعشرة قوية، ومحبة كثيرة وتودد غزير، وكان عابداً صالحاً تقياً فالحاً، مكباً على العلم والعمل، وكان مقيماً في مدرسة دار الحديث في العصرونية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1282 دمشق المحمية، في الصف الشرقي من الطبقة السفلى، وكان كثير العزلة عن الناس مقيماً على المجاهدة والإقبال على ما يعنيه، إلى أن خطبته المنية لدار نوال الأمنية، في أواخر جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وثلاث وثمانين في دمشق ودفن بها. الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ حسن القبرستاني الشافعي مولده في قبر الست سنة ألف ومائتين وعشرين، والنسبة إليها قبرستاني على غير قياس، وأصل اسمها قبل دفن الست بها راوية، وهي قرية من جهة الشرق إلى القبلة من الشام، بينها وبين الشام نحو ثلاثة أميال، وقد دفن في هذه القرية السيدة زينب أم كلثوم بنت الإمام علي بن أبي طالب، أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعين ألفاً، ولدت له زيداً الملقب بذي الهلالين، ولم يبق للإمام عمر منها ولد، ودفنت بهذه القرية وسميت القرية باسمها، وقبرها في وسط القرية، داخل جامع عظيم معمور بالعمارة اللطيفة، وله شهرة عظيمة يقصد في كل وقت للزيارة، وينذر لها في الحاجات وما ذكره في محاسن الشام من أن قبرها الشريف في باب الصغير، غير معروف عند أهل دمشق، وكان المترجم المذكور خطيباً وإماماً في ذلك الجامع، وكان عالماً أديباً لطيفاً صاحب همة عالية، وكان قد قرأ على والدي التحفة لابن حجر الهيثمي من أولها إلى آخرها، وقرأ عليه أيضاً عدة فنون كالنحو والتوحيد والمعاني والبيان والفرائض والحساب وغير ذلك، وكان في كل يوم يحضر من القرية المرقومة إلى الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1283 لأجل الدرس ولا يقطع في صيف ولا في شتاء ولا في خريف ولا في ربيع، حتى أنه ربما يكون في بعض أيامه منحرف المزاج ولا يترك الدرس، وكان لطيف المعاشرة حسن العبارة كريماً في بيته بشوشاً كثير المذاكرة في المسائل العلمية خصوصاً في مسائل الفرائض والمناسخات، فإنه كان صاحب ولع عظيم في ذلك. وكان حسن الأخلاق طيب الأعراق، متواضعاً منقطعاً للطلب والعبادة والمطالعة والعمل، وكان يعتمد عليه في الاستفتاء فكانت أهالي القرايا القريبة إليه من أهل المرجين والغوطة يحضرون إليه ويعتمدون عليه، ويسألونه عن قضاياهم، ويأخذون منه الفتوى لإقناع خصمهم، فيقنع بها بعد تحققها ولا يردها. وكان لا يفتي في مسئلة سواء كانت مما يتعلق بالعبادات أو المعاملات إلا بعد المراجعة والوقوف على النص. وبالجملة فإنه كان قليل المثال خصوصاً في القرايا فإن وجود مثله نادر، وما زال على عبادته وتقواه وإقباله على مولاه في سره ونجواه، وتمسكه بالإفادة والاستفادة وسلوكه في مناهج السادة القادة، إلى أن دعاه إلى الآخرة والدار الفاخرة، هادم اللذات ومفرق الجماعات. وذلك قريباً من سنة ألف ومائتين وثمانين، ودفن هناك في القرية وقبره ظاهر معروف مشهور. الشيخ محمد بن الشيخ مصطفى بن الشيخ يوسف بن الشيخ علي الطنطاوي الأزهري إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه، زرت على الفضل أطوافه: وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه، ترقى في معارج العلوم إلى أن استوى على عرش المنطوق والمفهوم، فلا ريب أنه في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية، فكل خاطر ينفد إلا خاطره، وكل سحاب ينفد إلا سحاب يسح من فكره ماطره. تحلى بالصيانة والزهد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1284 وبذل في الإقبال على الديانة الجهد، أن أطلق لسانه في التقرير والبيان، تذكرت قول حجة الإسلام: ليس في الإمكان، وإن جلس في مجلس عمه السرور، وخاله الحاضرون أنه من اللطف والرقة مفطور. له من النباهة مكان مكين، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين، ومع وقاره الذي يعرف، يبدو له من النكات ما يستملح ويستطرف. ولد في طنطا سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، ومات أبوه وعمره أربع سنين، وماتت أمه وعمره ست سنين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، على الشيخ محمد الشبرويشي، ثم دخل جامع السيد البدوي للطلب، فقرأ على السيد محمد أبي النجا المشهور صاحب الحاشية والشيخ عبد الوهاب بركات والشيخ علي حمزة مدة، وانتفع بهم وأجازوه بالإجازة العامة، ثم سافر مع أخيه الأكبر إلى بلاد الروم وبلاد الترك، ثم دخل حلب وقرأ على الشيخ أحمد الترمنيني وغيره، وأجازوه، ثم رحل إلى الشام سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين، وقرأ على الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري، وأخذ طريقة النقشية على المرشد الكامل الشيخ محمد الخاني الخالدي، فانتفع به حتى صار إذا ذهب إلى مكان يجعله خليفة عنه، ثم إنه في سنة ألف ومائتين وستين عاد إلى مصر، ودخل الجامع الأزهر، وانقطع للطلب بهمة وجد واجتهاد، فقرأ على شيخ الأوان الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ إبراهيم السقا والشيخ عليش المغربي والشيخ مصطفى البلتاني والشيخ مصطفى المبلط والشيخ محمد الخضري، وأكثر قراءته عليه في العلوم الغريبة كالميقات والفلك والجبر والمقابلة، إلى أن صار إماماً في العلوم العقلية والنقلية، مع شدة ذكائه وحفظه، ثم رجع إلى الشام واستوطن دمشق في محلة الميدان سنة ألف ومائتين وخمس وستين، وجلس في حجرة في جامع سيدنا صهيب الرومي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1285 فأقبل عليه الطلبة، ولم يزل يقرئ الطالبين إلى سنة ألف ومائتين واثنتين وسبعين، توفي والدي فحضرت عنده في دروسه كلها، ولم أزل أقرأ عليه إلى سنة ألف ومائتين وثمان وسبعين. رحل المترجم المرقوم إلى داخل البلد بأمر حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري، فاستأجر له داراً وعين له معاشاً، وأرسل إليه جميع أولاده للقراءة عنده، فكان يقرؤهم ويقرئ غيرهم في حجرته في مدرسة البدرقية، وكان مع ذلك يشتغل بحساب جداول مما يتعلق بالجيوب وغيرها، مما له تعلق بعلم الفلك والميقات والربع المقنطر والمجيب والاسطرلاب، وقد قرأت عليه جملة رسائل مما يتعلق بذلك. وفي سنة ألف ومائتين وتسعين حصل خلل في بسيطة منارة جامع بني أمية المسماة بمأذنة العروس، فحسب المترجم سائر أعمالها وجعل لها جداول بعدة الأعمال، ورسم غيرها وأزالها، ووضع بسيطته في مكانها، وكنت في معيته حين رسمها من ابتدائها إلى انتهائها. وله أيضاً رسالة حسبها في رسم الربع المقنطر، لعرض دمشق لحل وقد رسمت عدة أرباع على حسابها. والحاصل أنه في كل علم عمدة ولكل مشكلة عدة، رقيق القلب رحيم، سخي الكف كريم، غير أن دهره قد عانده وعاكسه في آخر أمره وما ساعده، وهذا من دأبه مع أهل الفضائل، وذوي المآثر والشمائل، إلا أن المترجم يقابل ذلك بالتسليم والرضى، ويعلم أن ذلك مما جرى به القدر والقضاء. ومن نظمه في مديح راشد باشا والي ولاية سورية لأمر اقتضى ذلك: أضحت دمشق ببهجة ومسرة ... تزهو على كل البلاد بنضرة تهفو القلوب إلى محاسنها التي ... خصت بها من بين كل مدينة وغدت تطاول كل قطر بالذي ... حازته من مخزون أعلى رتبة فأقرت الأقطار طراً أنها ... من بينها خصت بكل فضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1286 وبلاد سوريا اكتست من حسنها ... حللاً فعمت أهلها بمسرة لا تعجبوا والي حماها راشد ... بل مرشد والرشد أعلى خلة ومحمدي الخلق وهو محمد ... ولذاته كل القلوب أحبت أحيا بها العدل الذي يا طالما ... تاقت له كل النفوس وحنت والأمن قد عم الأنام جميعهم ... فتقلدوا منه بأوفى منة شهم تهاب الأسد سطوته فما ... أبقى لأهل الشر أدنى شوكة وبحلمه وسع البرية كلها ... وله على الأعداء أعظم سطوة متهلل بالبشر تلقاه وقد ... ملئت قلوب الحلق منه بهيبة ورث المكارم كابراً عن كابر ... متحلياً منها بأعظم حلية سحبان عند بيانه هو باقل ... والبحر عند نداه أصغر قطرة لا عيب فيه غير أن نزيله ... لا ينثني إلا بأعظم غبطة لما خشيت الظلم لذت ببابه ... فظفرت من عدل بأعلى بغية وحباني من إكرامه ببشاشة ... ولطافة من غير سابق عرفة فأخذت في شكري لأنعمه فما ... أديت شكراً واجباً للنعمة فعلمت أني لا أطيق سوى الدعا ... لجنابه كيما أفوز بسنة فأقول يا رب العباد أدم له ... عزاً وجنبه لكل كريهة وافسح لنا في عمره يا ربنا ... وانله ما يرجوه من أمنية فإليك يا رب البيان قصيدة ... بصفاتكم جملت وإن تك قلت نرجو القبول تفضلاً وتكرماً ... والعفو عن تقصيرها بالمرة أبقاك ربي سالماً كل المدى ... ما غرد القمري فوق الأيكة ومحمد الطنطاوي أنشأ قائلا ... أضحت دمشق ببهجة ومسرة وله قصائد كثيرة وتقيدات شهيرة، لا يحسن استقصاؤها للخروج عن المطلوب من الاختصار، وكذلك لو أردت أن أذكر عفته وتفصيل تعيين الحكومة له مقادير من المعاش ولم يقبلها ورعاً وزهداً، لأدى المقام إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1287 الخروج عن المرام. وفي سنة خمس وثلاثمائة وألف رسم بسيطة في ميدان دمشق الشام في جامع الدقاق المعروف بكريم الدين إلا أن البسيطة التي في جامع بني أمية كان حسابها على الأفق الحقيقي، وأما هذه الثانية فإنها على الأفق المرئي، فلذلك كانت الثانية أحسن من الأولى، لأنها لا تحتاج إلى الالتفات لدقائق الاختلاف، وتم عملها ورسمها وحفرها، وصنع لها مكان في المنارة لوضعها فيه في أول برج الجدي، فعاجله المرض قبل ذلك، وتوفي غرة جمادى الأولى عام ألف وثلاثمائة وستة، ودفن في تربة باب الصغير قرب مدفن سيدنا بلال من جهة الغرب، ولم يتخلف عن جنازته إلا ما ندر من السوقة والأخيار والأعيان، سقى الله ثراه صبيب الرحمة والغفران، وبعد موته بقليل قد وضعت في مكانها، والأوقات تستفاد منها بغاية الضبط، جزاه الله خيراً وأعظم له منة وأجراً. محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد الأريحاوي الشافعي الشهير كوالده بالعاري أبو عبد الرحمن شمس الدين الشيخ العالم الفاضل المفتي الفقيه الشهير النسابة خاتمة أجلاء بلدته. مولده بها سنة ثمان ومائتين وألف، وقرأ على جده ووالده وانتفع بهما وأخذ عنهما الكثير وسمع عليهما، ورحل إلى إدلب وسمع بها الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1288 وغيره عن الشهاب أحمد الكاملي المفتي، وأخذ الطريقة الرفاعية القصيرية عن العماد إسماعيل بن محمد القصيري وحصلت له بركته، وأفتى بأريحا بعد والده وخطب، وأم بجامعها قدر ستين سنة، ودخل عام حجة دمشق الشام، وكان له نظر دقيق وشعر رقيق. فمن شعره محمساً قصيدة الإمام الشيخ عبد الرحيم البرعي: على الأحباب قلبي إن أنا ... وصرت بهم حليف ضنى معنى ولما أن بدا ليلي وجنا ... سمعت سويجع الأثلاث إنا على مطلولة العذبات رنا وأجرى دمعه من فوق خد ... على إلف له يبكي لفقد ولما بان منه عظيم وجد ... أجابته مغردةٌ بنجد وثنت بالإجابة حيث ثنى فزاد بي الهوا وجفوت قومي ... ولم أعرف متى أمسي ويومي وكيف العاذلون يرون لومي ... وبرق الأبرقين أطار نومي وأحرمني طروق الطيف وهنا وجهز فاتني للحرب جيشاً ... وعقلي زاده التعنيف طيشا ذكرت مغانيا جمعت قريشاً ... وذكرني الصبا النجدي عيشا بذات البان ما أحلى وأهنى وأنعش ذلك التذكار حسي ... وطابت بالتهاني منه نفسي ومذ راق الطلا وأدير كأسي ... ذكرت أحبتي وديار أنسي وراجعت الزمان بهم فضنا وأورثني عقيب البشر هما ... وأقلقني فزدت لذاك غما وصرت كأنني أسقيت سما ... وكاد القلب أن يسلو فلما تذكر أبرق الحنان حنا وعاد له سرور بعد ضيق ... يهيم بساكني وادي العقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1289 أنادي لا عدمتك من صديق ... ترفق بي فديتك يا رفيقي فما عين سويهرة كوسنا اعلل منك نفسي بالأماني ... لأحظى من حبيبي بالتداني فساعدني على ما قد دهاني ... وقف بي بالطلول وبالمغاني لأندب يا فتى طللا ومغنى فقد يجدي البكا لشج محب ... ويبلغ راحة من غير كرب فلا تلم الشجي بغير ذنب ... لعل النوح يطفي نار قلب يقلبه الهوى ظهراً وبطنا أقام بي السقام فلا تلمني ... ومن عذل فديتك خل عني فإن الحب فيهم صار فني ... أعيذك ما بليت به فإني على أثر الفراق شجي معنى ودمع العين فاض كفيض سحب ... وصرت مولعاً أبكي بندب قتيل صبابة وأسير حب ... أشارك بالصبابة كل صب إذا ما الليل جن عليه جنا متى ألقى السرور مع التهاني ... وأحظى بالذي حقا سباني وحين سكرت من صافي الدنان ... ولعت بجيرة الحي اليماني ولوعاً زادني كمداً وحزنا ومن عظم المصائب لست أدري ... وقد ضيعت في العصيان عمري ودائي موصل أبداً بدهري ... ولو بسط الهوى العذري عذري لما قاسيت سنة قيس لبنى وروحي لم تزل تهوى لربع ... تفرق أهله من بعد جمع وعادت عبرتي تجري بهمع ... أكاتبهم وقد بعدوا بدمع فرادى في محاجره ومثنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1290 وعيني لا يفارقها سهادي ... بعشق أحبتي منعوا رقادي أضر بي الغرام وكم أنادي ... فلا أدري أهم ملكوا فؤادي بعقد البيع أم ملكوه رهنا غدا شغفي بهم سراً وجهراً ... وفي حبي لهم شرفت قدرا فما لي غيرهم في الكون ذخرا ... ثملت بهم وما خامرت خمرا معتقة وما دانيت دنا لزمت حماهم فازددت فضلاً ... لأنهم زكوا فرعاً وأصلا ومنذ لقيتهم ناديت أهلا ... ألا يا ساجع الأثلات مهلا ففي الأيام ما أكفى وأهنا تقرب يا فتى لتنال نفعا ... من المحبوب وانح إليه سرعا ولا تندم على ما فات قطعا ... تأن ولا تضق بالأمر ذرعا فكم بالنجح يظفر من تأنى وكم رزق الإله لكل جان ... واحرم بعض ذي عقل وشان وليس لحكمه في الملك ثان ... فبالأرزاق يرزق كل عان بلا سعي ويحرم من تعنى ومن لم يشكر النعماء فظ ... غليظ الطبع لم ينفعه وعظ لأن الشكر للأنعام حفظ ... ولم يفت الفتى بالعجز حظ ولا بالجزم يدرك من تمنى فلا تعجل ولازم للتأني ... تنل ما تشتهيه من التمني وخذ مني النصيحة واحك عني ... وإن تر ما ترى مني فإني لهجت بمنصب الحسن المثنى أحاول مدح من جا بالمثاني ... ومن هو عمدتي فيما دهاني مدى الأيام في طول الزمان ... لساني ينتقي زبد المعاني ويودعهن شمس الكون ضمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1291 ومالي مسعف عند المصير ... سوى الماحي المظلل في الهجير به ألقى النجاة وكل خير ... ومدح محمد غرضي وغيري إذا غنى حكى الرشأ الأغنا فطه للنوائب أرتجيه ... ومن ألم وشر أختشيه لهجت بذكره فنشدت فيه ... رعى الله الحجاز وساكنيه وأمطره العريض المرجحنا وأكرم ساحة دامت صفاء ... بخير العالمين وازدهاء وأسعد بقعة كثرت رخاء ... وأخصب روضة ملئت وفاء ومرحمة وإحساناً وحسنا وأرضاً تربها خير البطاح ... وقاصدها يبشر بالنجاح نمت شرفاً بسلطان المدح ... وقبراً فيه من ملأ النواحي هدى وندى وإيماناً ويمنا أجل المتقين ومصطفاهم ... ملاذ العاجزين وملتجاهم ختام الأنبياء وقد علاهم ... إمام المرسلين ومنتقاهم وأكثر غيثهم طللا ومزنا وأجملهم خصالاً ثم وصفا ... وأكملهم نهى وسنا ولطفا غدا للواردين عليه كهفا ... وأسرعهم إلى الملهوف عطفا وأسمعهم لداعي الخير أذنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1292 وأفضل واطئ حزناً وسهلا ... وأفخر من نشأ طفلاً وكهلا وأطهر من زكا نسباً ونسلا ... وخير مفارس الأكوان أصلا وأطيب منشأ وأعز غصنا رسول الواحد الملك المهيمن ... غياث الخائفين بكل موطن من الأهوال ينقذ كل مؤمن ... نمته دوحة قرشية من مدائحها ثمار الخير تجنى شفيع الأنام بلا محال ... وركن للخلائق في مآل وكم في الحرب أردى من رجال ... أتى والجاهلية في ضلال وكفر تعبد الحجر الأصنا وكانوا غافلين وقد أضلوا ... وعن طرق السبيل الحق ضلوا وما قد حرم الباري أحلوا ... فجاء بملة الإسلام يتلو مثاني في الصلاة الخمس تثنى فحازوا منه تقريباً ووصلا ... وإيماناً ومطلوباً وسؤلا وعلمهم فروضاً ثم نقلا ... وبدلهم بجور الشرك عدلا وبالخوف الذي وجدوه أمنا فطاب لهم به إذ ذاك عيش ... وقد ألفته في البيدا وحوش ومدته ملائكة جيوش ... لقد خسرت بفرقته قريش وكان لهم لو اعتقدوه ركنا أتاهم منذراً فأبوا وهموا ... بإخراج له وطغوا فذموا وللإيمان أصلاً لم يؤموا ... دعاهم واعظاً فعموا وصموا فأعقب وعظهم ضرباً وطعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1293 فحينئذ أهابوه جهارا ... ومنهم من نأى عنه نفارا فولوا خوف سطوته فرارا ... وأمضى الحكم في القتلى بوارا وفي الأسرى مفاداة ومنا وأمسكهم جميعاً بالنواصي ... فلم يجدوا طريقاً للخلاص وأوثق منهم دان وقاص ... وأنزل باغضيه من الصياصي ولم يترك لهم في الأرض قرنا فلم يلقوا لمهربهم سبيلا ... وكم أدمى من الأعدا قتيلا وفوق الترب صيره جديلا ... غدا متقلداً سيفاً صقيلا ومعتقلاً أصم الكعب لدنا فقاتلهم وحاربهم بجد ... ويرمي بالنبال كقدح زند وأرعبهم وأذهلهم بجند ... وصابحهم وراوحهم بأسد على جرد طحن الأرض طحنا أذاقهم الهوان مع الربال ... وأثخنهم جراحاً بالقتال ونكس كل أعلام الضلال ... وكم رفعت له الهمم العوالي مراتب في عراص المجد تبنى فأحمد كان للأسرار معدن ... رفيقاً بالذي للحث يذعن فأنعم في المضيق به وأحسن ... وكم للهاشمي محمد من محامد عمت الأقصى وأدنى ولولا المصطفى ما كان ركب ... ولا كون ولا بعد وقرب ولا شمس ولا شرق ولا غرب ... ولو وزنت به عجم وعرب جعلت فداه ما بلغوه وزنا مغيث للعصاة لهم طبيب ... إذا ما الدمع منهمل سكيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1294 وذو قدر له جاه رحيب ... إذا ذكر الخليل فذا حبيب عليه الله في التوراة أثنى وكان لمن تولاه وَصُولا ... وحاز بليلة الإسراء وصُولا وكرمه وآتاه قبولا ... وبشرنا المسيح به رسولا وحقق فضله وسمى وكنى فكرر فضله تحظى وتظفر ... بكل القصد والإحسان وانشر ولازم دائماً للمدح وأشعر ... وإن ذكروا نجي الطور فاذكر نجي العرش مفتقراً لتغنى نبي قد سعى للحق سعياً ... حميداً مخلصاً أمراً ونهيا أبان الشرع إثباتاً ونفياً ... وإن الله كلم ذاك وحيا وكلم ذا مشافهة وإذنا وقربه وأدناه إليه ... ونور حارت الأفكار فيه فليس كصاحب الوجه الوجيه ... وموسى خر مغشياً عليه وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا وما أحد حوى شرف المعاني ... سوى المنعوت ذكراً في البيان ونال مسرة حين التداني ... ولو قابلت لفظة لن تراني بما كذب الفؤاد فهمت معنى كفانا المصطفى يوماً عبوساً ... بشير في الوجود بدا عروسا وللرسل الكرام غدا رئيسا ... وإن يك خاطب الأموات عيسى فإن الجذع حن لذا وأنا وشق البدر للمختار شقا ... وسبحت الحصا بيديه صدقا وجا بالمعجزات الغر حقا ... وسلمت الجماد عليه نطقا فأنى يستوي الفتيان أنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1295 أغثني في لمعاد بنيل ورد ... من الحوض المعد لخير وفد بك المسكين يبلغ كل قصد ... وصل بالأنس منك رجاء عبد بعيد الدار يطلب منك إذنا مدحتك راجياً أن لا تكلني ... إلى أحد فمدحك صار فني أنلني ما أريد من التمني ... وعجل بافتقادك لي فإني ضعفت جوارحاً وكبرت سنا وقد أصبحت مغموراً بسكري ... فلا أصغي لموعظة وزجر وعاندني الزمان وحط قدري ... حججت فلم أزرك فليت شعري متى بمزارك الجاني يهنى عظيم الشان لم أر بي شفوقاً ... سواك ولم أجد خلاً صدوقا فأدرك عبدك الراجي وثوقاً ... يكاد يذوب إن ذكروك شوقا إليك فهل بجاهك منك يدنى غريق في الذنوب له نحيب ... بجنح الليل مدمعه صبيب وللأشجان في الأحشا لهيب ... عسى عطف عسى فرج قريب فقد وصل الأحبة وانقطعنا يهيج حزنه لمعان ومض ... وقد هجر الكرى ولذيذ غمض فأتحفنا برفع بعد خفض ... وشرفنا بوطئ تراب أرض بزورتنا يحط الوزر عنا وأذهب كل ضر أشتكيه ... وباعدني عن الفعل الكريه وأوصلني مقاماً أرتجيه ... وقل عبد الرحيم ومن يليه معي يوم الخلود يحل عدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1296 سميك محمد يرجوك تدني ... له والناس في ضيق وغبن وبالعاري يلقب بالتكني ... ويوم الحشر إن سألوك عني فقل عدوه منا فهو منا وأبلغني المنى وافرج لكربي ... وأصلحني أيا قصدي وحسبي كذاك أبي وأهلي واشف قلبي ... وقم بجميع إخواني وصحبي وعم أباً من الأنساب وابنا إليك من التجا قد حاز فتحا ... وفوزاً في المآل ونال ربحا وظلاً في النعيم كذا وطلحا ... فما ضر امرؤ يرجوك نجحا لمطلبه ويحسن فيك ظنا حويت المجد في تنزيل وحي ... نفيت الإصر عنا كل نفي جمعت الخير في أمر ونهي ... وكل الأنبياء بدور هدي وأنت الشمس أشرقهم وأسنى وأنت إمامهم ذرب فصيح ... وسيدهم وذا خبر صحيح وهم بعض الرياض وأنت دوح ... وهم شخص الكمال وأنت روح وهم يسرى إليه وأنت يمنى وأمتك التي حقاً تباهت ... على من قد تقدمها وتاهت وفضلك فيه أقوالي تناهت ... عليك صلاة ربي ما تناغت حمام الأيك أو غصن تثنى توفي رحمه الله بعد الألف والمائتين ودفن خارج أريحا عند والده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1297 وكان عالماً بأنساب الناس وأصولهم حافظاً للأخبار والوقائع، قوي الحافظة حسن النادرة جميل الأخلاق كريم الأعراق خاتمة علماء وفضلاء أهل أريحا ونبلائها، ولم يترك مثله في نواحيه رحمة الله عليه. الشيخ محمد بن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أحمد العمري العقيلي الحلبي الشافعي وتقدم بقية نسبه في ترجمة أخيه عبد الرحمن أبي البركات وأبيه عثمان أبي الفضل في حرف العين وهو العالم الفقيه الفاضل الدين الصالح الورع الزاهد، المتفنن العابد، مولده سنة ثلاث وستين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاوته، وجوده وحفظ الشاطبية، وأخذ القراءات المرواة السبع بالإتقان من طريق الشاطبية، واشتغل بتحصيل العلوم، وأخذ وانتفع بوالده وتخرج عليه وأكثر من الاستفادة لديه وسلكه وأجازه بالإجازة العامة، ونشأ كما شاء وأجاز له جماعة من المحدثين غب القراءة والسماع، منهم عطا الله بن أحمد المصري نزيل مكة، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي الحلبي، والشهاب أحمد بن عبيد الله العطار الدمشقي، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني الحلبي، وآخرون، ولما مات والده في المحرم سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف قام خليفة بعده، كما خلفه ولزمه تلامذة والده وأحبابه، وأقام الأذكار والتوحيد واشتغل بإلقاء الدروس، واجتمع بالسيد خليل المرادي سنة خمس ومائتين وألف وأخذ كل منهما عن الآخر واستجاز كل الآخر، وكان على طريق مستقيم ومنهج قويم. ولم يزل على قدم التقوى والعبادة والإفادة والاستفادة وإقامة الأذكار وإرشاد الناس في الليل والنهار إلى أن اختار الآخرة والرحلة إلى الدار الفاخرة، وذلك في سنة ألف ومائتين و. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1298 الشيخ محمد الملقب بالجديد البغدادي الخالدي الحنفي النقشبندي الولي المرشد الكامل والعالم الفقيه الصوفي ذو الشمائل، العارف بالله المقبل عليه في شره ونجواه، صاحب العلوم الربانية والأنفاس الأنسية القدسية، كان عند مولانا خالد من أعظم الخلفاء وأكبر الفقهاء، المشهور في الفقه بأبي يوسف الثاني، صاحب التحقيقات والتدقيقات في مشكلات المعاني، وكان يرشد ويدرس الفقه والحديث والتفسير وكتب التصوف في الزاوية الخالدية في بغداد، وبيته ملتصق بها، ولا يخرج إلى بيته من الزاوية إلا بعد صلاة العشاء، وتأتيه الفقهاء أفواجاً أفواجاً للقراءة عليه، والاسترشاد به. سلك أولاً وتربى على يد عبيد الله الحيدري، ثم بعد كماله خلفه حضرة مولانا خالد خلافة مطلقة، وجعله قائماً مقامه في الزاوية البغدادية، وأمر جميع الخلفاء كالسيد عبد الغفور وموسى الجبوري وغيرهما من خلفاء العراق بأن يكونوا في طاعته ولا يعدلوا عن أمره، وكانوا يعدونه بمنزلة شيخ الطريقة بأجمعها مولانا خالد شيخ الحضرة، وكان يمنع المريدين بأن يدخل بعضهم في حجرة بعض، ويأمر كلاً منهم بالاشتغال بالذكر وحده، ولا زال يراقبهم ويأمرهم بطلب العلوم الشرعية، وجعل لهم وقتاً مخصوصاً لمذاكرة الفقه والتصوف والعقائد، وسائر الأوقات بعد أداء الفرائض للاشتغال بالذكر. وكان يأمر الخلفاء ويقول لا تخلفوا إلا العلماء، كما كان دأب شيخنا حضرة مولانا خالد قدس سره لا يخلف إلا العلماء الأعلام، ودام على حاله مترقياً في أحواله إلى أن سار إلى رمسه، وصار في حديقة قدسه، وكان ذلك في سنة ألف ومائتين وست وأربعين من الهجرة. الشيخ محمد حافظ الأرفله الخالدي النقشبندي العالم العامل والكامل الفاضل، قطب دائرة الإرشاد ومنهج الفضل وملهج السداد، من حسنت في العالمين سريرته وسمت أوصافه وسيرته، نشأ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1299 العلم والعمل ولازم الطلب حتى اكتمل، ثم لازم خدمة قطب الزمان ونادرة الأوان، مولانا خالد شيخ الحضرة النقشبندية في السليمانية وبغداد والشام، وأحسن الخدمة على وجه التمام، وسلك على يديه ورباه مع الالتفات إليه، ثم خلفه خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد، وخصه بأنه إن مر أحد غيره من الخلفاء في ارفه فلا يسوغ له أن يرشدوا أحداً في مكانه. وكان فصيحاً بليغاً شاعراً مفلقاً، مع علمه الغزير، وغالب أحواله الجلال. وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وله الهمة العلية والأنفاس الأنسية، ومقام التمكين والميل إلى عين اليقين، وهو لدى حضرة شيخه من المقربين، وله كثير من الخلفاء والمريدين، وقد حكى الشيخ محمد حافظ قدس سره أن حضرة مولانا خالد قدس سره قال للمترجم مرة: أي مقدار من الدراهم يكفيك كل يوم؟ فقال المترجم يكفيني كل يوم خمسون قرشاً، فقال له حضرة مولانا قدس سره ارفع البساط الذي تجلس عليه كل يوم ترى خمسين قرشاً خذها واصرفها في قضاء حوائجك، فبكى محمد حافظ وقال يا سيدي: ما تبعتك للدنيا وإنما تبعتك للآخرة، فازداد قبولاً لدى حضرة مولانا قدس سره، ولهذا المترجم أصول عجيبة ومآثر غريبة. توفي قدس سره سنة ألف ومائتين وقريب من الأربعين. الشيخ محمد الإمام البغدادي النقشبندي الخالدي العالم الورع العابد الهمام الناسك الزاهد، صاحب النفحات العلية والفيوضات الربانية، كان من الورع والتقوى والزهد والعبادة على جانب عظيم، ولازم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1300 خدمة مولانا خالد شيخ الحضرة وأخذ عنه، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، وقدمه على غيره للإمامة، وكان من الأولياء الكاملين وذوي الرفعة والتمكين، وهو لدى شيخه المرقوم من الواصلين والمقربين. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاثين تقريباً رحمه الله تعالى، ودفن في بغداد في جوار سيد الطائفتين سيدنا الجنيد البغدادي قدس سره. الشيخ محمد الفزلري الشهرزوري النقشبندي الخالدي العالم المحقق والفاضل المدقق، جامع المنقول والمعقول محرر الفروع والأصول، نشأ مكباً على الطاعة وطلب العلم إلى أن صار من ذوي البراعة، وأخذ الطريقة النقشبندية على إمام العارفين الشيخ خالد شيخ الحضرة العلية، واجتهد في أداء حق الخدمة وسلك على يده وأحسن عمله وعلمه، ثم خلفه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد فشرع في تسليك الطريق وبذل وسعه وأفاد، وأقر بولايته الخاص والعام واشتهر فضله في الأنام. توفي سنة ألف ومائتين ونيف وثلاثين. الشيخ محمد ناصح الخالدي النقشبندي العالم العامل والجهبذ الكامل، والمرشد الإمام والناصح الهمام. أخذ الطريقة النقشبندية على الإمام العارف بالله حضرة مولانا الشيخ خالد الحضرة وانتفع به واستفاد وأفاد، وأرشد العباد، وكان ذا دين وتقوى وعبادة وصيانة وديانة، ودام على ذلك إلى أن توفي في الشام سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين تقريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1301 الشيخ محمد المجذوب العمادي المشهور بسيد الخالدي النقشبندي إمام فاضل عالم عامل، ناسك عابد تقي زاهد، رفيع المقام جميل الكلام، ذو سيرة حسنة وأخلاق مستحسنة، اشتغل في العلم من زمن الصبا وما مال إلى غير الكمال ولا صبا، بل كان ولوعاً بالفضائل مقصوراً على خدمة الأفاضل، إلى أن أخذ الطريق على حضرة مولانا خالد ثم خلفه خلافة عامة فأرشد وأفاد وسلك وأجاد، مع تواضع وخشوع وتذلل كأنه عليه مطبوع. توفي رحمه الله سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين تقريباً. وكان أكثر أخذه عن خاتمة العلماء المحققين الشيخ يحي المزوري العمادي الخالدي، وكان غالب أحواله السكر والجلال وقلة الصحو، ولذلك حينما قوي عليه الحال قل إرشاده وإفادته العلوم الشرعية، وكان يوماً يدرس على رأس جبل وفي أثناء التدريس انجذب وصعق، ثم وقع من أعلى الجبل متدحرجاً إلى أسفله، وبعد نحو ساعة أفاق وقام، ولم يتألم. وله كرامات كلية وخوارق كثيرة سنية. نفعنا الله ببركاته وعلومه الربانية بجاه محمد وآله. الشيخ محمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد الصوي المغربي المالكي الشاذلي القسنطيني الإمام الفاضل والعالم العامل، والتقي العابد والتقي الزاهد، كان إمام عصره ونخبة أهل إقليمه ومصره. برع في سائر الفنون وفاق وطار ذكره في الآفاق. ولد سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، واشتغل في تحصيل العلوم، إلى أن صار مرجع أهل المنطوق والمفهوم، وقرأ على سادة أجلاء وقادة فضلاء. منهم الشيخ أحمد العباسي قاضي قسنطينة والشيخ محمد طبال مفتيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1302 ولما أخذت فرانسا إقليم الجزائر من أميرها الأمير السيد عبد القادر ونقله الفرنسيس إلى أمبواز بالتكريم، نظرت الحكومة الفرنساوية في إحضار من يكون للأمير المرقوم مؤنساً في محله فأرسلوا إلى الجزائر بذلك، فوقع الاختيار على المترجم المرقوم لعلمه وأدبه وعلو شأنه، وحين وصوله ووروده على الأمير عالي المقام دخل عليه من السرور ما لا يرام، وقال له في الحال على طريق البداهة والارتجال: أهلاً وسهلاً بالحبيب القادم ... هذا النهار لدي خير مواسمي وهي قصيدة طويلة أثبتها ولده الأمير محمد باشا في كتابه الذي جمعه في مناقب والده الأمير المرقوم، فجاوبه المترجم في الحال بقوله: سلام عليكم طال شوقي إليكم ... وقلبي سواكم في البرية ما أحب سلام يفوق المسك نشر عبيره ... يعمكم والآل يا سادة العرب أتيتكم عبداً وقصدي زيارة ... لعلي أؤدي ما علي لقد وجب فمنوا على العبد الذليل بدعوة ... ينال بها حسن الختام مع الأرب وكان مرادي أن ألاقيكم على ... بساط عزيز الملك والحرب في نشب وما كان في ظني أرى سيدي كما ... رأيت ألا لله ما تصنع النوب فصبراً لحكم الله راج ثوابه ... فإن ثواب الله يأتي على التعب وله قصائد كثيرة ومقاطيع شهيرة. توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين ومائتين وألف، ودفن في تربة أسلافه خارج قسنطينة. الحاج محمد بن الحروبي القلعي المغربي المالكي أحد وزراء الأمير عبد القادر العالم العامل والصدر الجهبذ الكامل، والتقي العابد والنقي المجاهد. كان كاتب الأمير السيد عبد القادر في بلاد الجزائر حينما كان الأمير بها خليفة، ثم جعله والياً في إيالة صطيف، ووقع في أسر الفرنسيس، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1303 أطلقوه وهاجر إلى الشام، وتوطن دمشق، إلى أن انتقل إلى بروسا لزيارة الأمير السيد عبد القادر حينما أطلقته فرنسا من أسرها، وهاجر إلى بروسه المعروفة الآن ببرصه، ولم يزل هناك مع الأمير إلى أن رحل الأمير من برسوه لكثرة الزلازل بها، وجاء إلى دمشق الشام فحضر المترجم معه إلى دمشق، واشتغل بالعلم والإفادة والتقوى والعبادة، وقد انتفع به كثير من الناس. وكان لطيفاً جميلاً حسن المعاشرة طلق اللسان، عالي المروءة واسع الهمة، حفاظاً كثير المحاضرة، حسوراً لا يهاب من شيء. وكنت أذهب إليه مع والدي للزيارة فأرى له من الهيبة والجلالة حظاً وافراً. وكان يزور والدي كثيراً، ولم يكن بينهما سوى المحاضرة والمذاكرة، والتأسف والاتعاظ، وذكر سير السلف وما كانوا عليه من العبادة. توفي رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح. الملا السيد الشيخ محمد صالح الكردي الشافعي الأشعري العالم الذي هو نهاية السول، في علمي المعقول والمنقول، والفاضل الذي لا يدرك غور أبابه والفاضل الذي تقتطف البلاغة من إيجازه وإطنابه، والمعلم الذي سلسال تحريره أزال عطاش الأفهام، وأوابد أمثال تقريره هي الأوراد ضاحكة في الأكمام. كم مشكل أميط بفكره جلبابه، وأفق أبحاث سقط منه على معارضيه شهابه، ودرس عاطل جملت بفرائده رقابه، ومعضل دعي له إذ كان ليث غابه، وبدر سمائه وقطر سحابه، بذل شبابه وسخا به في العلم ونظم سخابه وقرأ عليه الجهبذ الكامل والعالم العامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1304 من رفع الله في الأنام قدره مولانا الشيخ خالد شيخ الحضرة، فاستفاد وأفاد وسما قدره وساد، ولم يزل في عبادة وتقوى وزهادة، إلى أن زهد في الدنيا واختار عليها الأخرى، وذلك في ألف ومائتين ونيف وعشرين. الشيخ محمد بن قسيم السنندجي الشافعي الأشعري ترجمه الشيخ أسعد عثمان سند فقال: العالم الذي علت في العلوم قدمه، وزان بقلب تدقيقه من الدرس معصمه، نادرة الزمان وحسنته وبهجة صباحه وغرته، جقمينية وقوشجية عطر فنائه ونديه، مبدي خفيات إشاراته يتحقيقاته وتدقيقاته، إذا قرر أذاق أرباً وإذا أشكل أمر توقد رأيا، الفلكي الذي حقق علوم الفلك وأزال عن وجود معانيها كل حلك: سعى إلى العلم بالأفلاك مرتقيا ... لو لك يكن قمراً لم يسع في فلك يا قطب علم رأينا من معارفه ... شمساً إذا طلعت لم تبق من حلك سموت بالله نظاراً بطرف هدى ... قلباً من العلم كالإكليل للملك نالت سنندج إذ تسمو بها شرفا ... يقول للشمس هذا الفخر ليس لك الحقيق بالتصدير والحري على كل سيد وسري، الجاد في تحقيق المباحث العلمية، الشاد نطاق الفكر في خدمة الآثار المحمدية. لا غرو أن عُدّ ذكاء أفلاك المآثر السنية، جمع من العلم الزاخر عفة وبياض عرض وصفاء سرائر، ونشر من الإفادة ما كل لسان به دائر وروض كل جنان به ناضر: أشار إلى البحوث فقلن أهلا ... بواحد عصره أدباً وفضلا ومحيي سنة الهادي المقفى ... بتقرير أرانا الحزن سهلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1305 وأبدى الحق مغتر المحيا ... كروض جاده ودق وطلا بوجه سنندج أمسى منيرا ... كبدر لاح في أفق وهلا وسل على يد الإبداع سيفا ... فعادت بعد ذاك السل شلا فهو الإمام الذي له الإفادة أضحت في نحر الإصابة القلادة، والسيد المبرز فضلاً على أولئك السادة، والسامي مجداً قارنه إقبال وسعادة، والمدعو في تلك الأقمار السابق في مضمار العتبار، تعانى العلوم الرسمية بالقلب والقالب، وطار إلى النكت بجناح الفكر وغالب، ونظم في لبات الأيام عقوداً راق لها الانتظام، وحسن وجوه الآثار المحمدية، وحرر الأبحاث الفقهية تحريراً شكرته فيه الإفهام، وطار إلى دقائق الأصلين، وصار من تحقيقهما المعطس والعين. وسقى من التقرير المصفى ما أرانا منه المحصول والمستصفى، وأفاد من الإسناد، ما أرانا ابن الصلاح وفتح الجواد: ولقد طلبت من الزمان قرينه ... فضلاً فما اسطاع قرينا علم رأيت الفضل فوق صباحه ... أبداً يلوح لدى العيون مبينا ووجدت كل الناس في تشبيهه ... فرقاً كما استقرأتهم وتبيينا قوم رأوه البحر في تقريره ... لو لم يكن بالجزر يوصف حينا وسواهم خال الرياض علومه ... ولطالما من زهرهن عرينا توفي رحمه الله عام ألف ومائتين واثني عشر من هجرة سيد البشر. السيد محمد بن السيد إسماعيل بن السيد محمد بن السيد درويش الحسيني الحنفي الموصلي ولادة ومنشأ ومدفنا إمام حسنت به الأيام وهمام استوى من الفضل على السنام، شيخ المعارف وإمامها ومن في يديه زمامها، كعبة الأفاضل وقطب دائرة الفضائل، فارس العلم وحامل لوائه، وكوكب إشراقه وشمس سمائه، شرح الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1306 لمكارم الأخلاق صدره، وطاول به زمانه وعمره، وهو في كل علم وافر النصيب، وفي كل عمل عال روضه خصيب. ولد في سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ومنذ ميز شب أكب على الاستفادة والطلب، ولازم أكابر العلماء حتى ارتقى إلى رتبة الفضلاء، وكان له في الأدب اليد العالية والمعرفة السامية، فمن نظامه قوله: ما بين غرته والجيد والعنق ... نور يفوق على المصباح والشفق بدر إذا ما تجلى وانجلى كسفت ... شمس النهار وخرت أنجم الأفق في ثغره وعذاريه ووجنته ... شهد وآس وورد بالحياء سقي وفي الجبين هلال السعد منسطع ... والشعر كالمسك أو نوع من الغسق والطرف من نرجس والريق من ضرب ... والخال كالعنبر الملقى على الورق إذا تأملته ناديت معتجباً ... سبحان من خلق الإنسان من علق يا لائمي في الهوى أقصر ففي كبدي ... نار إذا لمتني تزداد بالحرق فالماء لم تطف ما في القلب من وهج ... لعل تطفى بدمع سال من حدق وله تخميساً أقبل الشيب والشباب تولى ... والحشا ذاب في الهوى وتسلى إن لي مانعاً لديك وإلا ... كل يوم أريد أن أتملى بك والدهر بيننا يتعذر ببياض خد نقي سباني ... وبخال وحمرة ومعاني كيف أسلو وقد سلوت جناني ... والليالي تقول لي بلساني لا تلمني فالاجتماع مقدر وله مخمسا جسدي غدا في الحب منعدم القوى ... وصدى الفؤاد زوى لدي وما ارتوى فأرى ألذ العيش وصلاً في الهوى ... وأمر ما لاقيت من ألم النوى قرب الحبيب وما إليه وصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1307 واحسرتي قلب المشوق تكلما ... ووشى العذول لدى الرشا وتكلما حالي وحالك يا منى قلبي هما ... كالعيس في البيداء تشكين الظما والماء فوق ظهورها محمول وله في مدح الإمام علي رضي الله عنه: أرى صفو عيشي بالخطوب تكدرا ... وأيسر أمري بالزمان تعسرا ولكن أنادي أن فؤادي تحيرا ... أيا سيدي أنجد عبيدك في الورى بهمتك العظمى جعلت فداكا يقينك لا يزداد إن كشف الغطا ... ورأيك حاشا منه أن يصدر الخطا أنادي إذا جار الزمان وإن سطا ... أيا حيدر الكرار يا وافر العطا فقير أتى يبغي جزيل عطاكا سموت علوماً في الملا ومناقبا ... وشيدت للدين القويم مراتبا وأصبحت صهراً للنبي وصاحبا ... فجد وأجرني كي أقول مخاطبا لقلبي لك البشرى بلغت مناكا وله أيضاً: هزوا القدود فخلتهن رماحا ... واستلوا من غمد العيون صفاحا ورموني عن تلك الحواجب أسهما ... تصمي ولكن ما ألقى قداحا آهاً على تلك الوجوه تحجبت ... عني وكانت كالصباح صباحا فلذا تذوب تكاد حبة مهجتي ... شوقاً إذا البدر استعار ولاحا يا قلب كيف وقد فقدت أحبة ... تركوك بعد بعادهم ملتاحا هم عودوا كبدي اللهيب وعلموا ... عيني النحيب وعذلي الإفضاحا وتحجبوا عن ناظري ولم أجد ... أبداً لباب لقاهم مفتاحا زعم الوشاة بأني بحت بسرهم ... حاشاي إلا أدمعاً ونياحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1308 وتحدثوا بسهام طرفي بعدهم ... إني وقد أجري دماً وقراحا وشاعوا إني قد سلوت ودادهم ... كذبوا وما قصدوا به إصلاحا لم أستطع ولو استطعت سلوتهم ... هلا يود ذوو الوثاق سراحا أني وأيم الله لست بناقض ... تلك العهود ولو ثخنت جراحا يا خاطفين من المحب فؤاده ... ومجرعين من الصبابة راحا عطفاً على ذي لوعة متحير ... هجر الديار وغادر النصاحا يهوى الغصون لأنها كقدودكم ... وإذا ترنمت الحمامة ناحا ذو غصة هجر القرار ولم يزل ... طول الزمان لأجلكم كداحا وجد الممات حياته في حبكم ... ويرى الخسارة في الغرام رباحا ولد دوبيت رأى الروض الخد يزهو فادعى ... وقال لعمري إنه لشقيقي فصاح به بدر السما وهو قائل ... تأن لقد أخطأت فهو شقيقي وله يقولون عذالي أخال بخد من ... بذلت له من قلبك الحبة السودا فقلت نعم قد حصن الحال خده ... كما حصن الكافور بالحبة السودا وله فتنت بمكحول فقلت لناصحي ... وفي السمع وقرعن نصوح وواعظ فما اكتحل المحبوب من أجل سنة ... ولكن لقتلي سن سيف اللواحظ وله أيضاً لما تزاهى بخال فوق وجنته ... وحكمته معاني الحسن في الناس أفتى بسفك دمي المضني محاسنه ... بنقطة من مداد فوق قرطاس وله أيضاً الجنبذ الورد في فيك ادعى شبها ... فقلت زورت فيما تدعيه فمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1309 فما ارعوى عن مقال في تزوره ... فشق من غيرة أيدي الزمان فمه وله أيضاً إذا التجأ اللهيف حذار خصم ... إلى باب الملوك يرى السكينة فكيف أخاف معتدياً وإني ... لملتجئ إلى باب المدينة وله أيضاً دع الدنيا وزهرتها لوغد ... وجانبها إذا كنت الرشيدا أترجو الخير من دنيا أهانت ... حسين السبط واختارت يزيدا توفي سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين ودفن بمقبرة الموصل رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن أبي بكر بن محمد المغربي الطرابلسي الشهير بالأثرم الشيخ الفاضل والعمدة الكامل، ولد بقرية انكوان من أعمال طرابلس في حدود سنة خمس وأربعين ومائة وألف وبها نشأ، وكان مبدأ أمره أنه توجه إلى تونس برسم التجارة، فاجتمع على رجل من الصالحين هناك ولازمه، فلما قربت وفاته أوصى إليه بلمبوس بدنه، فلما توفي جمع الحاضرين وأراد بيعه، فأشار إليه بعض أهل الشأن أن يضن به ولا يبيعه، فتنافس فيه الشارون وتزايدوا فدفع الدراهم من عنده في ثمنه وأبقاه، وكان المتوفي فيما قيل قطب وقته فلبسه الوجد في الحال، وظهرت له أمور هناك واشتهر أمره، وأتى إلى الاسكندرية فسكنها مدة، ثم ورد مصر في أثناء سنة خمس وثمانين ومائة، وحصلت له شهرة تامة، ثم عاد إلى الاسكندرية فقطنها مدة، ثم عاد إلى مصر، وهو مع ذلك يتجر في الغنم وأثرى بسبب ذلك وتمول، وكانت الأغنام تجلب من وادي برقة، فتشارك عليها مشايخ عرب أولاد علي وغيرهم، وربما ذبح بنفسه بالثغر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1310 فيفرق اللحم على الناس ويأخذ منهم ثمن ذلك. وكان مشهوراً بإطعام الطعام والتوسع فيه في كل وقت، وربما وردت عليه جماعة مستكثرة فيقر بهم في الحال، وتنقل له في ذلك أمور، ولما ورد مصر كان على هذا الشان لا بد للداخل عليه من تقديم مأكول بين يديه. وهادته أكابر الأمراء والتجار بهدايا فاخرة سنية، وكان يلبس أحسن الملابس وربما لبس الحرير المقصب، يقطع منها ثياباً واسعة الأكمام فيلبسها، ويظهر في كل طور في ملبس آخر غير الذي لبسه أولاً، وربما حضر بين يديه آلات الشرب وانكبت عليه نساء البلد، فتوجه إليه بمجموع ذلك نوع ملام، إلا أن أهل الفضل كانوا يحترمونه ويقرون بفضله وينقلون عنه أخباراً حسنة. وكان فيه فصاحة زائدة وحفظ لكلام القوم وذوق الفهم، ومناسبات للمجلس، وله إشراف على الخواطر فيتكلم عليها فيصادف الواقع. ثم عاد إلى الاسكندرية ومكث هناك إلى أن ورد حسن باشا، فقدم معه وصحبته طائفة من عسكر المغاربة، ولما دخل مصر أقبلت عليه الأعيان وعلت كلمته وزادت وجاهته، وأتته الهدايا، وكانت شفاعته لا ترد عند الوزراء، ولما كان آخر جمادى الأولى من هذه السنة توجه إلى كرداسته لإيقاع صلح بين العرب وبين جماعة من القافلة المتوجهين إلى طرابلس، فمكث عندهم في العزائم والإكرامات مدة من الأيام ثم رجع، وكان وقت شديد الحر فخلع ثيابه فأخذه البرد والرعدة في الحال، ومرض نحو ثمانية أيام، حتى توفي نهار الثلاثاء ثالث جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وسنة. وجهز وكفن وصلي عليه بمشهد حافل بالأزهر، ودفن تحت جدار قبة الإمام الشافعي في مدافن الرزازين، وحزنت عليه الناس كثيراً، وقد رآه أصحابه بعد موته في منامات عدة تدل على حسن حاله في البرزخ رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1311 الشيخ محمد بن علي بن عبد الله بن أحمد المعروف بالشافعي المغربي التونسي نزيل مصر العالم الفاضل والجهبذ الكامل، ولد بتونس سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، ونشأ في قراءة القرآن وطلب العلم، وقدم إلى مصر سنة إحدى وسبعين وجاور بالأزهر برواق المغارية، وحضر علماء العصر في الفقه والمعقولات، ولازم دروس الشيخ علي الصعيدي وأبي الحسن القلعي التونسي شيخ الرواق، وعاشر اللطفاء والنجباء من أهل مصر وتخلق بأخلاقهم، وطالع كتب التاريخ والأدب، وصار له ملكة في استحضار المناسبات الغريبة والنكات، وتزوج وتزيا بزي أولاد البلد وتحلى بذوقهم، ونظم الشعر الحسن، فمن ذلك ما أنشدني لنفسه يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا الحمى وعبيره المتعطر ... فعلام دمعك من جفونك يمطر وأنخ مطاياك التي أوصلتها ... إدلاجها بهجيرها إذ تعسر فلكم قطعت بها بساط مفاوز ... ونقطت أسطره التي تتعذر ودفعتها في كل حزن شامخ ... سامي السرى عنه البزاة تقصر حتى أتت بك قبر أفضل مرسل ... فلها عليك فضائل لا تنكر عين العناية مهبط الوحي الذي ... جاءت به الرسل الكرام تبشر ومنها ما نال معجزة نبي غيره ... إلا به فهو النبي الأكرم أدناه بالمعراج خالقه إلى ... حيث الأمين يقول: زد وأقصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1312 حتى رأى المولى بعيني رأسه ... أرأى السوى المولى بعين تبصر؟ وله يمدح الشريف مساعد شريف مكة سنة سبع وسبعين بقوله: لعلياك تأتي عليها ورجالها ... خفافاً وتغدو مثقلات رحالها ولولاك لم تعجم سطور سباسب ... بأقلام عبيس قد برتها جبالها إذا توج الحادي بمدحك لفظه ... نرى الأرض تطوى للركاب رحالها وإن فكروا في حسن معناك والدجى ... أضاءت لهم أيمانها وشمالها لعمري لقد أحببت ما كان دارسا ... من المكرمات المستطاب نوالها وقمت لدين الله خير معاضد ... فحاق لأعداك الغداة نكالها وله مضمنا بيت المتنبي وقالوا نأى من كنت مغرى بحبه ... وتزعمه خلا ونعم خليلي ولو كان خلا ما نأى عنك ساعة ... ولم يرض في شرع الهوى ببديل فقلت دعوني لا تهيجوا بلابلي ... بقال على ما نابني وبقيل وإن رمتموا رشدي فقولوا وأقبلوا ... فأي فتى يهدى بغير دليل فقالوا اقترح صبراً عليه أو البكا ... فقلت البكا أشفى إذاً لغليلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1313 وله أيد الحق بحده ... ملجأ في كل شده فكفى بالمرء إثما ... أن يضيع الحق عنده وله أطال اشتياقي قرقف الشفة اللعسا ... وأيقظ وجدي سحر مقلته النعسا وأخمد صبري حين شب جماله ... لهيباً نفت عني حرارته الأنسا فتنا به مذ صاغه الله فتنة ... وأصبح يحكي في سماحته الشمسا ومذ سأل العذال عنه لهوتهم ... ببيت به لغز به استخونوا الحدسا فآخره عشر لأوله كما ... بدا عد ثانية لثالثه خمسا واللغز في اسم محمد وله غير ذلك. توفي رحمه الله في يوم الجمعة ثالث شعبان من السنة الثانية بعد المائتين والألف. الشيخ محمد مصطفى بن جاد المصري الشاب الصالح والناجح الفالح العفيف الموفق. ولد بمصر ونشأ بالصحراء بعمارة السلطان قايتباي، ورغب في صناعة تجليد الكتب وتذهيبها، فعانى ذلك ومارسه عند الأسطى أحمد الدقدوسي، حتى مهر فيها وفاق أستاذه وأدرك دقائق الصنعة، والتذهيبات والنقوشات بالذهب المحلول والفضة والأصباغ الملونة والرسم والجداول والأطباع وغير ذلك، وانفرد بدقيق الصنعة بعد موت الصناع الكبار مثل الدقدوسي وعثمان أفندي بن عبد الله، عتيق المرحوم الشيخ حسن الجبرتي والشيخ محمد الشناوي. وكان لطيف الذات خفيف الروح محبوب الطباع مألوف الأوضاع، ودوداً مشفقاً، عفوفاً صالحاً ملازماً على الأذكار والأوراد، مواظباً على استعمال اسم لطيف العدة الكبرى في كل ليلة على الدوام صيفاً وشتاء سفراً وحضرا، حتى لاحت عليه أنوار الاسم الشريف وظهرت فيه أسراره وروحانيته، وصار له ذوق صحيح وكشف صريح ومراء واضحة. وأخذ على شيخنا الشيخ محمود الكردي طريق السادة الخلوتية، وتلقن عنه الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1314 والاسم الأول، وواظب على ورد العصر أيام حياة الأستاذ، ولم يزل مقبلاً على شأنه قانعاً بصناعته، ويستنسخ بعض الكتب ويبيعها ليربح فيها، إلى أن وافاه الحمام، وتوفي سابع شهر ذي القعدة من سنة سنتين ومائتين وألف. بعد أن تعلل أشهراً رحمه الله تعالى وعوضنا فيه خيراً. الشيخ محمد الكيالي الحلبي الأصل والمولد الحنفي القادري الحسني من أولاد سيدنا الغوث الأعظم والقطب الأكرم السيد عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، ولد المترجم رضي الله عنه بحلب سنة ألف ومائتين وأربعين تقريباً وبها نشأ، ثم هاجر إلى دمشق واستقام بها، وكان من الصالحين العابدين المعتقدين المواظبين على أذكار الطريقة. توفي أوائل ربيع الأنور سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين ودفن في تربة سويقة صاروجا وقبره هناك معروف اه. الشيخ محمد بن إسماعيل بن أحمد الربعي فاضل ألمعي وكامل لوذعي، ومرشد أستاذ وعارف ملاذ، قيل فيه من بعض واصفيه: ألمعي يرى بأول رأي ... آخر الأمر من وراء المغيب لوذعي له فؤاد ذكي ... ما له في ذكائه من ضريب لا يروي ولا يقلب كفا ... وأكف الرجال في تقليب ولد رضي الله عنه سنة ألف ومائة وثلاثين تقريباً ثم انكب على طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1315 العلوم إلى أن صار من أعيان العلماء والجهابذة النبلاء، له إجازة من العلامة عبد الخالق المزجاجي وقرأ عليه من الحديث كثيراً، منها سنن الترمذي من أوله إلى آخره، ولازم السنة وأخذ في الحديث، وله كتب ورسائل في علوم عديدة، وبالجملة فهو حقيق يقول الشاعر: لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام مات رضي الله عنه سنة ألف ومائتين ونيف. السيد محمد بن محمد الشامي الأصل الصنعاني الموطن والوفاة الحنفي العالم الذي لا يبارى والفاضل الذي في ميدان الفضل لا يجارى، أوحد النبلاء ومفرد العلماء، لا زال يكلف نفسه طريق الصلاح ويقودها إلى التقوى والنجاح، إلى أن صار ذلك له عادة وصار يعده الناس أوحد السادة، وتفنن في العلوم والمعارف وتكمل في الفنون والعوارف، لسانه رطب بذكر الله لا يعول على غيره ولا يعتمد على سواه، يكره الاجتماع مع الناس كراهة زائدة إلا إن كان لمذاكرة أو فائدة، مات سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين. الشيخ محمد بن علي بن حسين العمراني الصنعاني عالم أديب وجهبذ أريب، متمكن في المعقول ومتضلع في المنقول، ولد سنة ألف ومائة وأربع وتسعين، ثم اشتغل بالطلب إلى أن حصل منه على الأرب، فغب تمكنه من مطلوبه ووقوعه على أتم مرغوبه، سلك طريق الاجتهاد والعمل بالدليل، وترك التقليد والعمل بقول الأئمة ذوي القدر الجليل، وقد تخرج على يد الفاضل والجهبذ الكامل محمد بن علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1316 محمد بن عبد الله الشوكاني، وكان يقدمه على من عداه لقوة ذهنه وسرعة فهمه، وجودة إدراكه العالي وحسن لطفه الحالي، وسمع منه أكثر مصنفاته وغالب مؤلفاته، وكان أكثر اشتغاله في علم الحديث ورجاله إلى أن صار من أعظم أهل هذا الشأن، وله تأليف على سنن ابن ماجه جعله أولاً كالتخريج ثم تجاوز ذلك إلى شرحه، قال في الديباج: توفي المترجم المرقوم سنة ثلاث وستين ومائتين وألف رحمه الله تعالى ودفن بزبيد. السيد محمد بن السيد حسين حوتي الصنعاني أوحد العلماء والسادة الفضلاء، ذو المجد الظاهر والقدر الباهر، ولد سنة ألف ومائة وخمسين، وأخذ العلم عن جماعة، منهم العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير والقاضي أحمد قاطن وغيرهما، وصار أحد علماء صنعاء ذوي الإفادة، ودرس في فنون، وكان مائلاً إلى العمل بالأدلة تاركاً التقليد، له مباحث علمية جيدة، وكان حسن السيرة صافي السريرة، جميل الأخلاق لين المعاملة محبوباً بين الناس، مقبولاً مقدماً، اعترف شيوخه بفضله وكانوا يقدمونه في المجالس، ويحدثون الناس بكثرة علومه، وتخريجه ومعرفته واتساع ذكائه وفكره، توفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة سنة من الهجرة النبوية. الشيخ محمد بن حسن دلامة الذماري العالم الأستاذ والعمدة الملاذ، نخبة الأنام وحسن الليالي والأيام، ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1317 تقريباً سنة ألف ومائة وخمسين، وكان حسن المحتضرة عارفاً بالبحث والمناظرة، رقيق الحاشية ذا شهرة منتشرة فاشية، كثير الميل إلى النظر إلى الولدان ذوي الصور الحسان، مع عفة وصيانة وحماية من كل خيانة، ناهز الستين من الأعوام وهو كالشاب في الوجد والغرام، ويغلب على الظن أن العشق قتله وأورده منهله، لأنه إلى حين موته وهو يتهيم بالملاح والوجوه الصباح، ولذلك تسلط عليه السقم والمرض حتى كأنه لسهام الأسقام غرض، ومع ذلك فإنه كان لا يكره من نسبة ذلك إليه، ولا ينقبض إذا ذكر ذلك بين يديه، وكان كل من كاتبه يكاتبه بعبارة العشق والنوى، والوجد والهوى، ويذكر له الجمال وفعله والغرام وأهله، وهو يتلذذ بذلك ويجاوبهم سالكاً هذه المسالك، ومعلوم أن الموت بالعشق بشروطه شهادة وموجب للفوز والسعادة، وكان يعاتبه بعض الناس مزاحاً بقصد الهزل والمداعبة فيقول: لحظ النجوم بمقلتيه فراعها ... ما أبصرت من حسنه فتردت فتساقطت في خده فنظرتها ... عمداً بمقلة حاسد فاسودت ومقصوده بذلك أن اللائمين له يكلمونه حسداً وكلامهم لا يسري عليه فيخرجون ووجوههم مسودة، كما نظر هذا الناظم النجوم لما تساقطت في خد الحبيب نظرة حاسد فاسودت، إلا أنه فرق بين السوادين، مات المترجم سنة ألف ومائتين وتسع رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن الحسن بن عبد الله الظفري الصنعاني عالم صنعاء وفرد العلماء ونخبة الفضلاء وعمدة النبلاء، ولد في سنة ألف ومائة وست وسبعين. قال في البرج الطالع في ترجمته: برع في العلوم الآلية، وشارك في غيرها، وله فهم جيد وإدراك قوي، وسمت حسن وعقل رصين. وكان مجتهداً يعمل بالسنة والكتاب ولا يأخذ بقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1318 مجتهد ولا يعد التقليد من الصواب، بل يتقيد بالنصوص الصحيحة والدلائل الصريحة. توفي سنة ألف ومائتين وسنة واحدة. السيد محمد بن حسن المعروف بالمحتسب عالم زمانه العامل وفاضل أوانه الكامل، من استوى على عرش الفضائل واحتوى على سامي الشمائل، ولد سنة ألف ومائة وسبعين، وأخذ العلوم عن جماعة من علماء صنعاء المتقنين، فروى عنهم واستفاد وأعطى وأجاز وأفاد، وشارك في علم السنة مشاركة قوية حتى صار يعمل بالأدلة من الكتاب والسنة المحمدية، وكان حسن الطاعة بعيداً من الإضاعة، متعبداً صالحاً زاهداً ناجحاً، لين الجانب قريب الإجابة لكل طالب، توفي سنة ألف ومائتين وسبع وخمسين. القاضي محمد بن حسن بن علي الذماري الشيخ العابد والصالح الزاهد، العامل الهمام والألمعي الإمام، ولد سنة ألف ومائتين قال في البدر الطالع: له ذهن قوي وفهم سوي، وذكاء كأنه شعلة نار، وإدراك فاق به على الأخيار، وشعر رائق ونثر فائق، حضر الأكابر وأخذ عنهم كابراً عن كابر. وله مؤلفات عديدة، ومصنفات بكل حسن فريدة، وتقريرات فائقة وكتابات رائقة توفي سنة ألف ومائتين ونيف وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1319 الشيخ محمد بن أحمد مشحم الصفدي الأصل الصنعاني المولد قال في البدر الطالع: ولد سنة ألف ومائة وست وثمانين، وقرأ في سائر العلوم، وشارك في سائر الفنون، له ذهن قويم وفهم جيد مستقيم، وذكاء متوقد وحسن تصور باهر وقوة إدراك مفرط، وهو ممن لا يعول على التقليد بل يعمل بما ترجحه الأدلة، ولاه مولانا الإمام المنصور بالله القضاء بصنعاء من جملة قضائها، ثم حج ثم نقل إلى قضاء الحديدة، ثم رغب عن القضاء لما حصل من الفتن بتهامة، ورجع إلى صنعاء وأخذ في فنون الحديث، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في رجب سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن أحمد الشاطبي الصنعاني العالم العامل والجهبذ الكامل، شمس سماء العلوم وكوكب إشراق المنطوق والمفهوم، ولد سنة ألف ومائتين وعشرة وقرأ على المشايخ في الآلات والحديث، وله مشاركة في باقي العلوم، وهو قوي الفهم صحيح التصور من عباد الله الصالحين، ومن العاملين بالأدلة، السائرين على الطريقة النبوية، الموثرين لها على الرأي وكذلك والده العالم الفاضل، الزاهد العابد الشيخ أحمد الشاطبي المرقوم أكثر الله أمثالهما، وجعل الجنة مأواهما. قرأ نيل الأوطار وفتح القدير وإرشاد الفحول على مؤلفها، وقرأ في كثير من مجاميع الحديث من الأمهات وغيرها، وبالجملة فهو من أكابر العلماء وأحاسن الفضلاء توفي سنة ألف ومائتين و ...... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1320 الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري الإمام الألمعي والذكي االلوذعي، من عجنت طينته بماء المعارف وتآخت طبيعته مع العوارف، العمدة العلامة والنحرير الفهامة، فريد عصره ووحيد دهره، وهو أحد الإخوة الثلاثة وأصغرهم ويعرف هو بالصغير. ولد سنة إحدى وخمسين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف، وقرأ عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد، وعلى الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلاء الوقت، وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته. وحضر دروس الشيخ عطية الأجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك، فلازمه وبه تخرج في الإلقاء، وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي، وتلقى عن الشيخ حسن الجبرتي كثيراً من العلوم، ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفرداً، وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه. وحج مع والده في سنة ثمان وستين وجاور معه، فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله الميرغني صاحب اللطائف، واقتبس من فوائده واجتنى من ثماره، وكان آية في الفهم والذكاء، والغوص والاقتدار على حل المشكلات، وأقرأ الكتب وألقى الدروس بالأشرفية، وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس، والذهاب والترداد إلى بيوت الأعيان، والتزهد عما بأيديهم، فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون، وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وإقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيادته، وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاور لبيت والده بالأزبكية، واتخذ له مكاناً خاصاً بمنزل والده يجلس فيه في أوقات، وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة أو للتلقي، يأمره بزيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1321 ابنه المترجم والتلقي عنه وطلبهم الدعاء منه، ويحكي لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات، فازداد اعتقاد الناس فيه. وعاشر العلماء والفضلاء من أهل عصره ومشايخه وقرنائه، وتردد عليهم وترددوا عليه، ويبيتون عنده ويطعمهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال، ومجانبة الأمور المخلة بالمروءة. ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد وقد كان تصدر بعد والده في إقراء الدروس، أجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في إقراء الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان، فامتنع من ذلك، وواظب على حالة انجماعه وطريقته وإملائه الدروس بالأشرفية. وحج في سنة سبع وثمانين ومائة وألف، وجاور سنة وعقد دروساً بالحرم وانتفع به الطلبة، ثم عاد إلى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات، فعظمت رغبة الناس فيه، ورد هداياهم مرة بعد أخرى، وأظهر الغنى عنهم فازداد ميل الناس إليه، وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده. وتردد الأمراء وسعوا لزيارته أفواجاً، وربما احتجب عن ملاقاتهم، وقلد بعضهم بعضاً في السعي، ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط، أو أكل من طعام أحد قط، إلا بعض أشياخه المتقدمين، وكانت شفاعته لا ترد عند الأمراء والأعيان، مع الشكيمة والصدع بالأمر والمناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه، وازدادت شهرته وطار صيته، ووفدت عليه الوفود من الحجاز والغرب والهند والشام والروم، وقصدوا زيارته والتبرك به، وحج أيضاً في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمراء مصر، فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة، فجاور سنة وأقرأ هناك دروساً، واشترى كتباً نفيسة، ثم عاد إلى مصر واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس، بل بالغ في ذلك، ويقرئ ويملي الدروس بالأشرفية، وأحياناً بزاويتهم بدري شمس الدولة، وأحياناً بمنزله بالأزبكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1322 ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولى مشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي، باتفاق الأمراء والمتصدرين من الفقهاء، وهاجت حفائظ الشافعية، ذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة فأبى ذلك، ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه، فاجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك، وأرسلوا إلى الأمراء فلم يوافقوا على ذلك، فركب المترجم بصحبة الجمع إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلماء والأمراء، ورد المشيخة إلى الشافعية، وتولى الشيخ أحمد العروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي، ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غائباً عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي، فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي بإشارته. ولم يزل وافر الحرمة معتقداً عند الخاص والعام، حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء، وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها، وتراكمت عليه الهموم والأمراض، وحصل له اختلاط، ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر ذي القعدة الحرام عام ألف ومائتين وخمسة عشر بحارة برجوان، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة. وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر، ذهنه وقاد ونظمه مستجاد، وكان رقيق الطبع لطيف الذات، مترفهاً في مأكله وملبسه. ومن مؤلفاته مختصر المنهج في الفقه، وزاد عليه فوائد، واختصر الاسم وسماه النهج، ثم شرحه وهو بالغ في بابه، ومنها شرح المعجم الوجيز لشيخه السيد عبد الله الميرغني، وقد اعتنى به وقرأه درساً، ومنها شرح عقيدة والده المسماة منقذة العبيد في كراريس أجاد فيه جداً، ورسالة في تعريف شكر المنعم، وشرح الجزرية، والدر النظم في تحقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1323 الكلام القديم، ونظم عقائد النسفي، وعقيدة في التوحيد وشرحها بشرحين، واللمعة الألمعية في قول الشافعي بإسلام القدرية، وتحقيق الفرق بين علم الجنس وبين اسمه، وإتحاف الكامل ببيان تعريف العامل، وزهر الأفهام في تحقيق الوضع وما له من الأقسام، وحلية ذوي الأفهام بتحقيق دلالة العام، وإتحاف الطرف في بيان متعلق الظرف، والروض الأزهر في حديث من رأى منكم منكر، ورسالة في تعريف الشكر العرفي، وثمرة غريس الاغتناء بتحقيق أسباب البناء، والدر المنثور في الساجور، وإتحاف الآمال بجواب السؤال في الحمل والوضع لبعض الرجال، وإتحاف الأحبة في الضبة أي المفضضة، ورسالة في التوجه وإتمام الأركان، ورسالة في زكاة النابت، ورسالة في ثبوت رمضان، ورسالة في أركان الحج، ورسالة في مد عجوة ودرهم، ورسالة في مسألة الغصب، وحاشية على شرح ابن قاسم العبادي إلى البيوع، والروض الوسيم في المفتى به من المذهب القديم، ورسالة في النذر للشريف، ورسالة في إهداء القرب للنبي عليه السلام، ورسالة في الأصولي والأصول، ورسالة في مسألة ذوي الأرحام وإتحاف اللطيف بصحة النذر للموسر والشريف. وله غير ذلك منظومات وضوابط وتحقيقات رحمه الله تعالى. الشيخ محمد بن محفوظ بن منفاخ الدمشقي الصالحي المعروف بأبي تفالة قطب الشام وبركة الأنام، صاحب الكرامات الكثيرة والكشوفات الشهيرة، والإخبارات العجيبة الواقعة المصيبة، وكان كثير الأحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1324 مع الهيبة والجلال، دائم الاصطلام على ممر الأيام، لا يتقيد بلباس ولا بمعرفة قدر أحد من الناس، قد أسكره شراب المحبة، وقصره على الشخوص إلى الأحبة. وكان كثير القعود في الطريق أمام المحل الذي دفن فيه، ويطلب من المارين الدراهم فمن لم يعطه شتمه بملء فيه، ولكن من الغريب وأعجب العجيب، أن من مر عليه ولم يكن معه شيء من الدراهم لم يتعرض له بل يمر عليه وهو له باسم. ولد بدمشق الشام ونشأ بها وهو على حالة الجذب والاصطلام، ولم يزل يقوى عليه الحال ويترقى في مدارج الجلال، ويزداد تصديق الناس لحاله ويحكمون بنواله لمرغوبه حسب آماله، إلى أن مات رضي الله عنه يوم عيد عرفة سنة سبع عشرة ومائتين وألف، وحضر جنازته الجم الغفير والعدد الكثير، ودفن في حجرته في جامع السكة جانب حمام العفيف، ويعرف الجامع الذي دفن فيه بجامع العفيف، وعليه شعرية حائلة بين القبر ومصلى الناس، وهو مقصود بالزيارة يزوره الناس ويتبركون به، ومن جملة ما رقم عند قبره الشريف رفع الله قدره المنيف: أعط المعية حقها ... والزم له حسن الأدب واعلم بأنك عبده ... في كل حال وهو رب الشيخ محمد بن سعيد سنبل الدمشقي العالم العامل والفاضل الكامل. ولد بدمشق وبها نشأ وأخذ عن والده المذكور، وعن الشيخ سعيد سفر وعن العلامة أحمد الجوهري وأخيه محمد الطاهر ووالدهما وعن العلامة محمد عارف بن حجار وعن العجيمي والدمنهوري، واشتهر بالعلم والصلاح والفضل. توفي عام ثمانية عشر ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1325 الشيخ محمد المهدي المغربي الزواوي المالكي مقدم الطريقة الخلوتية شيخ الطريقة ومعدن السلوك والحقيقة، صاحب الفيوضات الإلهية والكشوفات الربانية، العارف بالله والمقبل بكليته على مولاه، المرشد الإمام والمسلك الهمام. ولد في المغرب سنة ألف ومائتين، ثم لما استولى الفرنسيون على الجزائر وتوابعها هاجر بعياله إلى دمشق الشام سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، واستقام في حارة الخضيرية، وكان يقيم الأذكار ويسلك المريدين في مدرسة الخضيرية. وقد أخذ عنه كبراء دمشق وعلماؤها وحكامها وفضلاءها. وأخذ عنه الوزير الكبير والمشير العظيم الخطير، صاحب الدولة أحمد عزة باشا، وكان والي دمشق ومشير الأوردي الهمايوني الخامس ولم يزل ملازماً للطريق على أتم حال وأكمل منوال، إلى أن دخلت سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين، فكان ما كان من حادثة النصارى المعروفة بفوق العادة، وقد أمرت الدولة بإطلاق الرصاص على الوالي المرقوم لنسبتها القصور إليه، وترتب هذه الفتنة على إهماله وعدم مدافعته، ولم تتمكن الدولة من إطفاء نار الفتنة إلا بإعدامه كما ذكرت ذلك بأطول من هذا الكلام في ترجمة الوالي المذكور، فمات شهيداً مظلوماً ودفن بمقبرة بني الزكي بصالحية دمشق، جوار سيدي محي الدين قدس سره. ومن المشهور أن صاحب الترجمة كان يقول له يا أحمد ستموت شهيداً، ولما أرادوا قتله عرضوا عليه الماء فلم يقبل وقال أنا صائم ولم أفطر إلا في الجنة، مات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1326 المترجم سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، وحضر غسله الأفاضل والأعيان والأمائل وذوو الشأن، ولما وضع نعشه على الأعناق ازدحم عليه الناس حتى صارت كالبساط تحته، وانسدت الطرقات فلم يجد الإنسان طريقاً للسلوك، وصلى عليه الألوف من الناس في جامع بني أمية، ودفن في قاسيون في مقبرة سيدنا نبي الله ذي الكفل، وقبره معروف مشهور عليه مهابة ونور. الشيخ محمد أبو القاسم بن عربي المغربي الفلالي الأسمر المشهور بالشرف، الصوفي الصالح والمرشد الناجح، بركة الأنام وعمدة الإسلام، القدوة الكامل والنخبة الفاضل، معتقد الصالحين ومعتمد الناجحين. كان إماماً في القراآت السبعية، وكان ملازماً لتلاوة الدلائل في الصلاة على خير البرية. وكان كثير التواضع مهاباً مقبول الدعوة مجاباً، له اليد الطولى في كلام القوم، ومواظبة كلية على القيام والصوم، وكان أسمر اللون طويل القامة، ذا هيئة حسنة جميلة، ملازماً لمقام الشيخ الأكبر. وكانت وفاته في منتصف رمضان المبارك سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، ودفن في تربة ابن الزكي جوار جامع سلطان العارفين الشيخ الأكبر قدس سره. الشيخ محمد بن صالح بن عبد القادر بن إبراهيم بن السيد شرف الدين الحنفي الشهير بالكيلاني نسبة إلى سيدنا عبد القادر الكيلاني الحسني، ولد المترجم سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، ونشأ في حجر والده واجتهد في العلم والطلب ونال بحمد الله غاية الأرب، وأجازه السادة الأفاضل والقادة ذوو الشمائل، واستفاد وأفاد، وألف الكتب والرسائل وأجاد. ومن جملة تأليفاته نسمات الأسحار في فضائل العشرة الأبرار والحاصل أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1327 كان من السادات الصالحين والأفاضل المعتقدين، ناهجاً منهج أسلافه مشهوراً بين الناس في حسن أوصافه، وكان خاشعاً متواضعاً مهاباً مقبول الكلمة، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في دمشق سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون بتربة سيدنا ذي الكفل. الشيخ محمد أنيس بن حسن بن مصطفى الطرابلسي الأصل الدمشقي المولد الحنفي أحد أمناء الفتوى بدمشق الشام لدى مفتيها العالم العلامة السيد محمود أفندي حمزة كان المترجم المرقوم على قدم صالح ودين راجح، وتقوى وعبادة وصلاح وزهادة، وحلم وعمل من غير ملل ولا كسل، مات في الخامس والعشرين من رمضان سنة خمس وتسعين ومائتين وألف ودفن قرب تربة بني حمزة. السيد محمد نسيب بن السيد حسين بن السيد يحيى نقيب الأشراف بن السيد حسن نقيب الأشراف بن السيد عبد الكريم نقيب الأشراف الحسيني الدمشقي الحنفي المشهور بابن حمزة. من أفاضل الصدور، والأعيان ذوي القدر العالي المشهور، الإمام الشريف والعالم العامل الزاهد العفيف، صاحب الفواضل والعرفان فريد العصر والأوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1328 ولد بدمشق خامس عشر صفر سنة إحدى ومائتين وألف، ونشأ بها معتكفاً على الطلب والعلم والأدب، مع العفة والصيانة والتقوى والديانة، أخذ عن السيد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد، وعن الشمس محمد الكزبري وعن الشيخ محمد عبد العاني والشيخ عبد الكريم الطاراتي وعن الشيخ أحمد المخللاتي وعن غيرهم، وله من النثر والنظام ما يزدري بكلام ابن نباتة وأبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1329 مات غاية ذي الحجة الحرام سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن بمقبرة مرج الدحداح بجوار أجداده قرب مزار سيدنا أبي شامة المقدسي. الشريف محمد بن محمود بن حسين بن محمد بن أمين الدمشقي الحنفي المعروف بمحمد أفندي الشريف المكي، ولد بدمشق سنة ثلاث ومائتين وألف، ونشأ بها واشتغل مدة بالطلب على العلماء الدمشقيين، كالشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الله الكردي وغيرهم، وأخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ خالد الحضرة الكردي، وكان يشتغل خياطاً مدة طويلة، ثم تركها لضعف في بصره ولكبره، وكان فقيراً صالحاً. ثم وضع نائباً في المحكمة الكبرى بدمشق، فكان بعد ذلك عرضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1330 للكلام، وكثر عليه الانتقاد ونسب إليه ما لا يليق بمقام من يتولى الأحكام. مات يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة مرج الدحداح رحمنا الله وإياه. الشيخ محمد بن عمر البرجكلي ثم الدمشقي الحنفي الشهير بالصوفي ولد في برجيك سنة ثلاث ومائتين وألف ونشأ بها، وفي سنة ثلاثين ومائتين وألف قدم الشام واستوطنها. وكان زاهداً عابداً متفقهاً في دينه حسن الكتابة في أنواع الخطوط، وكان له محل في حارة حمام القاضي يأخذ الناس عنه الكتابة فيه، وكان جميل المنظر ذا هيبة ووقار، لا يتكلم إلا في الوعظ والرقائق والمذاكرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنواع الأذكار. وكان معتقداً عند الخاص والعام يتبرك به ويطلب دعاه، وكان شافعي المذهب صوفي المشرب، مات في اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح. الشيخ محمد كمال الدين بن محمد شريف بن أبي المعالي محمد الغزي الدمشقي الشافعي مفتي الشافعية في دمشق الشام. حامل علم العلم الباذخ، وحامي حمى الفضل الذي هو فيه راس وراسخ، منبع الكمالات والفضائل، ومربع ذوي المعارف والفواضل، من ارتوى من نمير العوارف، وتحلى بحلية الجمالات واللطائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1331 ولد في دمشق في اليوم السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، واشتغل عليه وعلى غيره من السادة الفضلاء والأئمة النبلاء، منهم الشيخ أحمد البعلي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق والعلامة صالح الأزهري والعلامة محمد البخاري ومحمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز الحنبلي والعلامة البصير عن محمد سفر وعن العلامة أبي الطيب أحمد بن عبد الله السويدي وأخته أم الخير رقية وعن محمد سعيد السويدي ويوسف الزرقاني ومحمد بن علي الشنواني وإبراهيم بن خطاب البجيرمي الشافعي والعلامة عبد العليم المالكي والسيد مصطفى الأيوبي الأنصاري الرحمتي والشيخ التافلاتي مفتي القدس ومحب الله الهندي وابن منجا الطرابلسي وإسماعيل القاضي وإسماعيل أبو الفدا المواهبي. وله تأليفات منيفة ورسائل شريفة، منها التذكرة الكمالية، المسماة بالدر المكنون والجمان المصون من فرائد العلوم وفوائد الفنون، ومنها الورد الأنسي والوارد القدسي، في ترجمة العارف عبد الغني النابلسي. وشاعت فضائله في أقطار البلاد وانتفع به الحاضر والباد، حتى ذاع ذكره بين أكابر الحكام، وشاع قدره بين الخاص والعام، مات في السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة، ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1332 الشيخ محمد أمين الكردي الشافعي المجاور في مسجد جامع الأقصاب عالم عامل وزاهد فاضل، معتكف على التقوى والديانة متصف بالخلوة والصيانة، له شهرة عالية وآثار في الكمال وافية، ذو هيبة وجمال ولطف وكمال، له مواظبة على التفكر والمراقبة، مات في دمشق سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1333 الشيخ محمد بن أحمد وهبي الحنفي الدمشقي المعروف بابن سنان الحائز حميد الخصال والمستوي في المكان على منصة الاعتدال، والمحتوي من العلوم علىالمرام وكان له ذكر جميل في كل مقام، وكان له حظ وافر وقبول عال وكان معدوداً من ذوي الكمال، مات بدمشق سنة أربعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة مرج الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1334 السيد محمد علاء الدين بن السيد محمد عابدين بن السيد عمر بن السيد عبد العزيز ابن السيد أحمد بن السيد عبد الرحيم بن السيد نجم الدين بن السيد الشريف العالم العامل والولي الفاضل، محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، ابن السيد نجم الدين الثاني بن السيد محمد كمال بن السيد تقي الدين الشهير بالمدرس، بن السيد مصطفى الشهابي بن السيد حسين بن السيد رحمة الله بن السيد أحمد الثاني بن السيد علي بن السيد أحمد الثالث بن السيد محمود بن السيد أحمد الرابع بن السيد عبد الله بن السيد عز الدين بن السيد عبد الله الثاني بن السيد قاسم بن السيد حسن بن السيد إسماعيل بن السيد حسين بن السيد أحمد الخامس بن السيد إسماعيل الثاني بن السيد محمد بن السيد إسماعيل الأعرج بن السيد الإمام جعفر الصادق بن السيد الإمام محمد الباقر بن السيد الإمام علي زين العابدين بن حضرة السيد الإمام سيد الشهداء حسين بن السيدة الطاهرة البتول فاطمة الزهراء بضعة سيد المرسلين وزوجة سيدنا علي بن عم سيد الأولين والآخرين. ولد المترجم المرقوم في دمشق الشام في ثالث ربيع الأول سنة أربع وأربعين ومائتين وألف، ومن حين تمييزه اشتغل في قراءة القرآن، إلى أن أتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل في الطلب ونال منه ما رام وطلب، وقصد البيت الحرام للنسك والعبادة، أربع مرات وهو عازم على الزيادة، وأخذ عن جملة من العلماء، وعصبة من الفضلاء، ما بين دمشقيين ومصريين وروميين وحجازيين. من أجلهم سيدي والده السيد الشيخ محمد أمين عابدين وسيدي والدي الشيخ حسن البيطار، والشيخ سعيد الحلبي، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، وشيه الأزهر الشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ عليش والشيخ إبراهيم السقا والشيخ المبلط والشيخ المنصوري وغيرهم من السادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1335 المصريين، وعن الشيخ جمال والمرغني والشيخ محمد الكتبي وعن الشيخ دحلان مفتي الشافعية بمكة المكرمة، وعن الشيخ يوسف الغزي رئيس المدرسين بالمدينة المنورة، وعن كثير من الواردين من عراقيين وروميين، ومن جملة من أخذ عنه في الشام أيضاً الشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ حسن الشطي والشيخ حامد العطار والشيخ هاشم التاجي، وغيرهم من السادات الأجلاء العظام والقادات الفضلاء الكرام، وأفاد واستفاد وحصل ما رام وأراد. وله من التأليفات الشريفة: كتاب معراج النجاح على متن نور الإيضاح في مجلد كبير، وكتاب قرة عيون الأخيار تكملة حاشية رد المحتار على الدر المختار، لوالده العلامة السيد محمد أمين عابدين، ورسالة إغاثة العاري لزلة القاري، وكتاب الهدية العلائية، وكتاب مثير الهمم الأبية إلى ما أدخلته العوام في اللغة العربية. وقد سافر إلى الأستانة العلية دار مملكة الدولة الإسلامية، ووظف بها عضواً في الجمعية العلمية، الشعبة من ديوان أحكام العدلية، سنة خمس وثمانين ومائتين وألف. ثم بعد ثلاث سنين قدم استعفاء، وحضر للشام بمعاش شهري، ونيشان وسام من الرتبة الرابعة وباية إزمير، ثم تعين رئيساً للجمعية الخيرية في الشام، ثم صار نائباً في طرابلس الشام سنتين ونصفاً، أولها شوال سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ثم أرسل إليه من الدولة فرمان مولوية ادرنه من بلاد الخمسة باية مجردة سنة أربع وتسعين ومائتين وألف، ثم في سنة إحدى بعد الثلاثمائة والألف أرسل له فرمان باية بورسه من بلاد الخمسة موصلة الحرمين الشريفين. ثم في ثامن محرم الحرام سنة أربع بعد الثلاثمائة والألف وجهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1336 عليه باية مكة المكرمة والنيشان عالي الشان المجيدي من الصنف الثالث، وهو إلى الآن رئيس ثان في مجلس معارف ولاية سورية الجليلة. ولم يزل مشتغلاً في الإفادة، والإرشاد مع التقوى والعبادة، وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج. ولم يزل يترقى في درج الكمال ويتعلق بأسباب النجاح والنوال، ويشتهر في الآفاق ذكره ويعلو في الأنام قدره، إلى أن مرض في يوم الجمعة مستهل شوال ولم يزل يزداد مرضه إلى أن توفي يوم الاثنين حادي عشر شوال قبيل طلوع الشمس، وذلك سنة ست وثلاثمائة وألف، وصلي عليه الظهر في الجامع الأموي. وحضر جنازته جم غفير وجمع كثير، حتى كاد أن يقال حضر جنازته أهل البلد ولم يتخلف عنها كبير ولا ولد، فغصت الطرقات من الازدحام وعلت الأصوات بالبكاء الذي لا يرام، ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من والده رحمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين أجمعين. الشيخ محمد شمس الدين بن حسن بن يوسف الدمشقي الحنفي الخلوتي المعروف بالطباخ شيخ الطريقة الخلوتية وعين الحقيقة الجلوتية، المربي الناصح والمرشد الناجح، ولد بدمشق ونشأ بها في حجر والده بالأدب والصيانة والعفة والأمانة. أخذ الطريقة الخلوتية عن والده وهو أخذها عن السيد نصري عن الشيخ مرجان، عن القطب عيسى بن كنان، عن القطب الكبير الشيخ العباسي، عن الهيكل الصمداني الشيخ أحمد العسالي الرباني، واشتغل المترجم في الطريق والأذكار. والإرشاد في الليل والنهار، إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد حجازي الشافعي البقاعي الشهير بالكفرسوسي أحد العلماء العظام وأوحد الفضلاء الكرام، العالم الفاضل، والعامل الكامل، كان من الأماجد الأعيان والمقدمين ذوي القدر والشان، توفي يوم عاشوراء سنة تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1337 الشيخ محمد الزهري بن عمر بن محمد بن محمد بن عمر الدمياطي الأصل الدمشقي الحنفي المعروف باليافي الخلوتي، شيخ الطريقة الخلوتية بدمشق المحمية الشيخ الصالح المؤدب المرشد الناصح، الورع الزاهد والناسك العابد، الخاشع. ولد بدمشق ونشأ بها، وأحيا الطريقة الخلوتية وأقام الأذكار، واشتهر صلاحه وزهده وورعه وتقواه في هذه الديار، وشاع صيته في سائر الأقطار، وكان ذا هيبة ووقار، أخذ الطريقة الخلوتية عن أبيه وألبسه الخرقة وأذن له في الأذكار، وأعطاء الطريق لمستحقه، ولا زال عاملاً بما أوصاه به والده إلى أن خطبته المنية سنة سبعين ومائتين وألف، ودفن في تربة الدحداح عنده والده. السيد محمد سعيد أفندي الكيلاني بن السيد محمد بن السيد صالح بن السيد عبد القادر بن السيد إبراهيم ابن السيد شرف الدين بن السيد أحمد بن السيد علي الهاشمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1338 بن السيد أحمد شهاب الدين بن السيد قاسم شرف الدين بن السيد يحيى محي الدين بن السيد حسين نور الدين بن السيد علي علاء الدين بن السيد شمس الدين بن السيد يحيى سيف الدين، وهو أول من نزل حماه واستوطنها، ابن السيد أحمد ظهير الدين بن السيد محمد أبو النصر بن قاضي القضاة السيد عبد الرزاق أبو صالح بن القطب الأعظم، والغوث الفرد الأفخم، السيد عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه. ولد المترجم سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف في دمشق الشام، ونشأ في الطاعة والتقوى والصيام والقيام، إلى أن جلس على سجادة المشيخة العلية في الطريقة القادرية، وأرشد وأفاد وخدم طريقة جده حسب المراد، وجعل داره مورد المريدين ومأوى القاصدين، وهو من أعيان دمشق الشام وصدورها ذوي القدر والاحترام. ومن حين أن شب خطبته المناصب ورفعته على أعلى المراتب، إلى أن صار عضواً في مجلس إدارة ولاية دمشق ذات الرعاية والحفظ والحماية، ومع ذلك فهو لطيف متواضع ليس على طالبه حاجب ولا مانع، حسن العبادة كثير الوداد، مساعد لمن يقصده على المراد، سيرته حسنة وشمائله مستحسنة، حاتمي الكرم علوي الهمم، صحيح النسب رفيع الحسب أعلا الله علاه ورفع على درجات القرب مرتقاه. الشيخ محمد عيد بن محمد بن محمد أحمد العاني الدمشقي الشافعي ولد بدمشق الشام ونشأ بها في حجر والده، وكان شهيراً في العلم والصلاح وسلوك منهج السعادة والفلاح، مستقيم الأطوار أشهر من الشمس في رابعة النهار. مات غرة جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ودفن في تربة الدحداح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1339 الشيخ محمد بن مصطفى بن محمد بن رحمة الله بن عبد المحسن بن القاضي جمال الدين الأيوبي الأنصاري الدمشقي الحنفي المعروف بالرحمتي نسبة إلى جده رحمة الله. ولد بدمشق سنة ست وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وكان حسن المجالسة لطيف المؤانسة، مفنناً في العلوم دقيق النظر ما بين المنطوق والمفهوم. رحل إلى المدينة المنورة واستقام بها وأخذ عن فضلائها، ومن أجلهم صهره العلامة أحمد أفندي إلياس مفتي المدينة المنورة، وأخذ أيضاً عن محمد أفندي ميرغني مفتي مكة المكرمة، وقرأ الشفا الشريف للقاضي عياض درساً عاماً تجاه الحجرة الشريفة بتوجيه من السلطان محمود، وأقام في المدينة المنورة إلى سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، ثم عاد إلى دمشق الشام. وقد أخذ عن والده لحديث المسلسل بالحنفيين، ورواه عنه، ووالده يرويه عن الأستاذ عبد الغني النابلسي، عن والده الشيخ إسماعيل، عن والده عن الشيخ إسماعيل عن شمس الدين بن طولون عن لسان الدين محمود عن والده سري الدين عبد البر بن الشحنة عن زين الدين بن قطلوبغا عن أمين الدين القاهري عن موفق الدين محمد بن محمد الأكفاني عن عز الدين أحمد بن المظفر عن حافظ الدين محمد بن محمد عن شمس الأئمة محمد بن عبد الستار عن بدر الدين عمر بن عبد الكريم عن ركن الدين عبد الرحمن الكرماني عن شمس الدين محمد بن الحسن عن عبد الرحيم بن عبد العزيز عن القاضي أبي زيد عبد الله بن عيسى الدبوسي عن أبي جعفر السمرقندي عن أبي الحسن علي النسفي عن الإمام الكبير أبي بكر بن محمد بن الفضل عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب السندموني عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1340 أبي حفص عن أحمد أبي حفص الكبير عن أبي عبد الله محمد بن الحسين الشيباني عن تقي الدين أحمد بن محمد الشمني عن محمد بن الحسن عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عن عبد الله بن أبي حبيبة عن أبي الدرداء قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا الدرداء من شهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وجبت له الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال فسار ساعة فأعاد الكلام علي فقلت وإن زنى وإن سرق قال ص وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء، قال فكان أبو الدرداء يحدث بهذا الحديث جميعه، ويضع إصبعه على أنفه ويقول: وإن رغم أنف أبي الدرداء. مات المترجم بدمشق سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في الدحداح. الشيخ محمد نجيب بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد الدمشقي الحنفي الشهير بالقلعي البدر الذي سرى في سماء المعارف فاهتدى بنوره كل مريد صادق عارف، وحيد الفضائل والكمال محمود الشمائل والخصال، من سمت أوصافه وخلائقه وزكت شيمه وطرائقه. وساد على أقرانه وأحرز قصب السبق في ميدانه، وتحلى بأحاسن الشيم وتوشح بجلباب الفضائل والكرم، فهو الأوحد البارع في الكمال والأمجد السامي ندوة الأفضال، العلامة العارف الحائز رتب المعارف، قطب الدائرة الكونية وفقيه الديار الشامية، وإمام مذهب النعمان ومعتمد هذا الشان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1341 ولد بدمشق سنة ستين ومائة وألف، ونشأ متطوراً بطور الكمال متحلياً بأنواع الجمال، واشتغل بأنواع العلوم من فروع وأصول، ومعقول ومنقول، وأخذ عن جملة من العلماء الأعلام، والأئمة الكرام، من دمشقيين، وحجازيين، ومصريين، وعراقيين، ومن أجلهم السيد مصطفى بن شمس الدين محمد بن رحمة الله بن السيد عبد المحسن الأيوبي الأنصاري الدمشقي الحنفي، وعن السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس والشيخ مصطفى بن إبراهيم الحلبي محشي الدر المختار، وأعلا أسانيده في أخذ الأحكام الفقهية عن السيد مصطفى الأيوبي المولود سنة 1135 المتوفى سنة 1205 عن العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي المولود في ذي الحجة سنة 1050 المتوفى سنة 1143 عن والده الشيخ إسماعيل النابلسي المولود سنة 1017 المتوفى سنة 1163 عن الشهاب أحمد الشوبري المولود سنة ...... المتوفى سنة 1066 عن عمر بن نجيم المولود سنة .... المتوفى سنة 1005 عن الشهاب أحمد بن يوسف الشلبي المولود سنة 880 المتوفى سنة 947 عن الثر بن عبد البر بن الشحنة المولود سنة 851 المتوفى سنة 921 عن الكمال محمد بن عبد الواحد المولود سنة 788 المتوفى سنة 861 عن علاء الدين اليرامي المولود سنة ... المتوفى سنة 770 عن السيد جلال الدين الكبير المولود سنة؟ المتوفى سنة 745 عن الإمام أبي عبد الستار محمد بن عبد الستار الكردري المولود سنة 559 المتوفى سنة 643 عن البرهان علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني صاحب الهداية المولود سنة؟ المتوفى سنة 593 عن فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين البزدوي المولود سنة 400 المتوفى سنة 483 عن شمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني المولود سنة .... المتوفى سنة 448 عن القاضي أبي علي الحسين بن الخضر النسفي المولود سنة 344 المتوفى سنة 424 عن الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري المولود سنة 307 المتوفى سنة 388 عن عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1342 بن محمد بن يعقوب السيدموني المولود سنة 258 المتوفى سنة 340 عن الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي حفص أحمد بن محمد البخاري ولد سنة ..... وتوفي سنة 272 عن والده أبي حفص المولود سنة 150 المتوفى سنة 217 عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني المولود سنة 131 المتوفى سنة 189 عن سيدنا سراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت المولود سنة 80 المتوفى سنة 150 عن حماد بن مسلم المولود سنة ..... المتوفى سنة 120 عن إبراهيم النخعي الكوفي المولود سنة ... المتوفى سنة 96 عن علقمة بن قيس بن مالك النخعي الفقيه، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي سنة 63 عن عبد الله بن مسعود بن الحارث بن غافل بن حبيب المتوفى سنة 32 عن النبي صلى الله عليه وسلم المولود عام الفيل والمتوفى سنة 11 بعد الهجرة. هذا وإن والدي يروي عنه ما تجوز له روايته عن مشايخه، ويروى عنه بالسند الحديث المسلسل بالأولية، كما يرويه هو عن الشيخ محمد عقيله قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الشيخ محمد بن عبد العزيز المنوفي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي الخير بن عموس قال وهو أول حديث سمعته منه، عن شيخ الإسلام الشريف زكريا بن محمد الأنصاري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ ابن حجر العسقلاني قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم العراقي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الصدر أبي الفتح محمد بن محمد الميدومي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني قال وهو أول حديث سمعته منه، عن الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي سعيد إسماعيل النيسابوري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي طاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1343 قال وهو أول حديث سمعته منه، عن أبي حافد أحمد بن محمد بن يحيى البزار قال وهو أول حديث سمعته منه، عن عبد الرحيم بن بشر بن الحاكم النيسابوري قال وهو أول حديث سمعته منه، عن سفيان بن عيينة قال وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " قال الترمذي حديث حسن صحيح. توفي المترجم المرقوم في اليوم السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير قرب قبر سيدنا أوس بن أوس الثقفي الصحابي الجليل رضي الله عنه. السيد محمد عطا الله الأيوبي، بن محمد سعيد، بن الشهاب أحمد، بن محمد نجيب، بن إبراهيم، بن القاضي عبد المحسن، بن القاضي جمال الدين يوسف، ابن شهاب الدين أحمد، بن ولي الدين محمد، بن شهاب الدين أحمد، بن يوسف جمال الدين بن تقي الدين، بن أبي بكر عين الملك، بن رمضان الأخلاطي، بن زين الدين عبد القادر أبي عبد الله محمد، بن محمد بن إبراهيم، بن يوسف، بن عبد الرحمن، بن عمير، بن كثير بن زيد، بن حسان، بن سالم، بن عبد الرحمن، بن إبراهيم، بن الأشعث، بن ثعلبة، بن سهل بن سهيل، بن أبي القاسم الجنيد، بن مقدم، بن شرحبيل، بن عمير بن نظير، بن مطعم اليثربي، ابن الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن زيد الخزرجي الأنصاري، رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم أجمعين. ولد يوم الثلاثاء غاية جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ يتيماً، وعند بلوغه سبع سنين اشتغل بقراءة القرآن إلى أن أتقنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1344 ثم اشتغل بطلب العلم إلى أن وقع على مقصوده منه، على أفاضل دمشق الشام، وفي سنة الألف والمائتين والخمسين خدم الشريعة المطهرة في محكمة الباب مدة سبع سنوات، ثم خاف على نفسه من وقوعه بالغلط فخرج منها، وأقبل على مولاه وأدبر عما سواه، مات يوم الخميس في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف. الشيخ محمد المغربي السوسي ثم الدمشقي المالكي ولد بسوس سنة نيف وثمانين ومائة وألف، وقرأ وأتقن، ثم انتقل إلى دمشق واستوطنها وحضر على علمائها، وكان صالحاً معتزلاً عن الناس مشتغلاً بنفسه، وكان فقيهاً عالماً بفن القراءة مات بدمشق نهار السبت سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير. الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ محمد الكزبري الشافعي الدمشقي ولد سنة ألف ومائتين وتسع وأخذ عن والده ونشأ في حجره، وأخذ عن غيره من العلماء، إلى أن فاق والده كما قيل، وصار له ذكر بين الناس جميل، وقصده الناس للطلب والحيازة على الأرب، إلا أن المنية قد استعجلته ومن بين الناس قد أخذته، سنة ألف ومائتين وتسع وأربعين ودفن بباب الصغير. الشيخ محمد بن سليمان الجوخدار الدمشقي الحنفي وله سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين تقريباً، وأخذ عن شيخ الشام الشيخ سعيد الحلبي، وعلى الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وعلى غيرهم من الشيوخ، حتى برع واشتهر وعد من العلماء الأعلام والسادة الكرام، وكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1345 طالبوه حتى أن صار من أكثر العلماء طلبة وفي سنة ثمان وسبعين بعد المائتين والألف صار نائباً بمحكمة الباب بدمشق الشام، فتغير طوره وتكدر ذكره، وانكشف شمس إقباله وظهر الناس تبدل أحواله. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ولم يزل نائباً في محكمة الباب إلى أن نعق عليه غراب المنية بالذهاب، مات رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير قرب قبر الشيخ هاشم التاجي. الشيخ محمد بن سعيد المنير بن محمد أمين الحنفي الدمشقي الشهير بالمنير ولد بدمشق سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ونشأ بها وأخذ العلوم عن السادة الفحول، ونال مرامه فوق المأمول، من أجلهم الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي، والشيخ إبراهيم الباجوري، وعن الشيخ عبد اللطيف أفندي مفتي بيروت، وكان نبيل المحاضرة جميل المعاشرة، كثيراً ما أقرأ الطلبة في جامع بني أمية دروساً عامة وخاصة، وكذلك في جامع السنانية، وحج ثلاث مرات وقرأ الشفا درساً عاماً في حرم النبي صلى الله عليه وسلم. مات في الساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1346 الثانية من ليلة الاثنين في الليلة التاسعة والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير. القاضي شمس الدين محمد أفندي الجابي الحنفي العثماني الدمشقي عين أعيان الذوات الدمشقية، وحلية سادات الأقطار الشامية، روض المعارف والإجلال وروح دوح المطارف والأفضال، ذو الأوصاف العلية والأحوال الجلية، بدر ذوي التحقيق المستضاء بنور أفضاله، وشمس أولي التدقيق المستنار بإشراق سناء كماله، الجامع بين طرفي المنقول والمعقول، والقاطف بأنامل إفهامه ثمرات الفروع من رياض الأصول، ولد عام مائتين وثمانية بعد الألف. وقرأ على والدي المرحوم كتباً جمة، وفنوناً عديدة بكل جد وهمة، وكان جل انتفاعه عليه، وأكثر تردده إليه، ثم توجهت إليه عين عناية المناصب، وخطبته لترتفع به على أعلى المراتب، فذهب إلى بغداد قاضياً، ثم بعدها توجه إليه قضاء المدينة المنورة. وفي شوال عام اثنين وتسعين ومائتين وألف وجه عليه قضاء الاستانة العلية، وأرسل لحضرته الفرمان العالي الشان مع نيشانين فاخرين، وألبسة رسمية، وعند حضور ذلك حضر الوزراء الفخام والأعيان الكرام، للتبريك له بذلك، فكان فرد الشام وعمدة الأعيان العظام، مات رابع شهر رمضان المبارك سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين، ودفن في مقبرة باب الصغير رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1347 وقد مدحه أديب عصره ولبيب إقليمه ومصره، عبد الباقي أفندي الفاروقي العمري حينما شرف المترجم إلى بغداد قاضياً فقال: لما شرف من دمشق الشام إلى دار السلام، جناب قاضيها السيد المولى محمد أفندي جامع أشتات الفضائل وابن جابيها، وذلك بواسطة مشيرها وواليها، وبالإشارة العلية من حضرة شيخ ملة الإسلام ومفتيها، واستبشرت بمبارك قدومه أهالي الزوراء قاصيها ودانيها، وقصدته مصاقع شعراء العراق بقصائدها المشحونة بتهانيها، قلت مهنئاً ومؤرخاً عام تشريفه بغداد وحلول ركابه بناديها، بهذه القصيدة المزرية بتأليف جواهرها وتنظيمات لئاليها، مرصعاً مصارعها بنعت ولي نعم هذه الأمم ومولى مواليها. شاكراً من تلك الأيدي على هذه النعمة فضل أياديها، فقال: ظهر الدين طالعاً من أكنه ... كهلال عنه أميطت دجنه وحمدنا عند الصباح سراه ... حيث قد جاء مطلقاً للأعنه ونفى الجور عدل قاض بحق ... وقع آرائه كوقع الأسنه ولأهل الزوراء من غير زور ... كم وكم منحة أتت إثر محنه فأذاقت قطر العراق على مر ... الليالي أحلى من المن منه وقضت حاجة ليعقوب كانت ... من قديم بنفسه مستجنه بقضاء المولى محمد هذا ال ... عصر لما لربه بث حزنه وشقيق النعمان جاء من الشا ... م فخلناه شامة فوق وجنه وإذا جاء الحق من بعد يأس ... ذهب الباطل المورث هجنه يا لندب رد الشريعة بكراً ... فغدت شبة وكانت مسنه جبر الكسر من قلوب اليتامى ... فهي لم تخش بعد ذلك وهنه وقد انتاش الشرع شرع أبيه ... من يدي هاتك من الشرع صونه ثاقب رأيه بنصل حجاه ... شاهد الزور ليس يأمن طعنه غوث أهل الكمال بل هو غيث ... كم بيوم النوال جاد بمزنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1348 خلقه كالنسيم والعقل منه ... مستقيم ونفسه مطمئنه حسن كله تقول المعالي ... لا تلمني إذا تعشقت حسنه لم نخف وهو عندنا من سوى سح ... ر عيون المها، لك الله، فتنه بيض الله وجهه ما ازدهته ... من سواد العراق خضراء دمنه أخذ الزهد والتقى عن أويس ... والهدى عن سفيان بن عيينه صام عن أكل السحت حتى وقا ... هـ شر يوم الحساب والصوم جنه شهد الحق أنه مثل ما قد ... قلت فيه ويشهد الله أنه ويح قوم من قبله سجنوا الح ... ق وفيه قد أطلق الحق سجنه وتعاطى إظهاره من خفاء ... بعد ما أدغموه من غير إنه فيه شيخ الإسلام ما ضن لكن ... ظن خيراً فأحسن الله ظنه ومنها كنز فقه بصدره درر البحر الذي فيه غنيتي مستكنه ومنها ذو فنون أفنان دوح علاها ... فوقها العندليب أظهر فنه ومنها بيته بيت عصمة وفناه ... حرم فيه يبلغ الدين أمنه بابه باب حطة رفع الل ... هـ على عاتق السموات ركنه هو للدين حصنه وحري ... بالمعالي من شاد لله حصنه طود فخر رأس تطاول حتى ... طاولت منه قنة العرش قنه ومنها وإشاراته العلية تكسو ... شامخات الرؤوس أسنى مئنه ومنها خصه الله بالكمال فأعطي ... للزبرقان ليلة التم ثمنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1349 إلى أن قال عش مدى الدهر كم أمت بهذا ال ... قطر من بدعة وأحييت سنه ولسان الدين انتضى ينشد الح ... ق بثغر قد أضحك البشر سنه من يدي قاضي النار بشراك أرخ ... أنجد الحق حكم قاضي الجنه 1265 - الشيخ محمد بن أحمد بن محمد أبي الفتح العجلوني الجعفري الشافعي الدمشقي ولد بدمشق يوم الاثنين في اليوم العشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ بها بالأدب والصيانة والزهد والقناعة والديانة، أخذ عن والده المرقوم، وعن عمه الشيخ صالح بن محمد أبي الفتح، وعن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وعن الشهاب أحمد العطار، وأخذ الطريقة الشاذلية عن والده وعن عمه المرقوم الشيخ صالح، وأخذ الطريقة المحيوية عن ابن عمه الشيخ عبد الحليم العجلوني وكان مهاباً محترماً من أعيان دمشق الشام. مات في الليلة الأولى من ذي الحجة الحرام سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ محمد المصري المجذوب كان مقيماً في مدرسة الشميصانية شمالي جامع بني أمية في الأودة الحجرة التي عند المطاهر ويصعد إليها بدرج، كان ملازماً لهذه الحجرة لا يخرج منها في ليل ولا نهار، وكان لا يقبل من أحد شيئاً سوى الطعام في بعض الأوقات، مع أنه كان محبوباً عند الناس، وله هيبة وجلالة، إذا كان طوره متغيراً لا يجسر عليه أحد إجلالاً له وخوفاً منه. وكان له إخبارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1350 غيبية وكشوفات علية، وظهر له كرامات تثبت أنه عند الله من ذوي الرتب والعنايات، وعلى كل حال فإن أطواره كانت غريبة وأحواله كانت عجيبة، واستقامته لا يقدر عليها أحد إلا من لاحظته عين المدد. توفي رحمه الله ثاني عشر رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، وحضر غسله وجنازته والصلاة عليه الأعيان والكبار والأصناف والتجار، فكانت جنازته من أعجب العجائب وأغرب الغرائب، وما ترى من أحد إلا ودموعه تتساقط من عيونه تساقط البرد، كأنه له والد أو ولد، ودفن في باب الصغير عند قبر سيدنا بلال رضي الله عنه. الشيخ محمد بن محمد بن محمود بن جيش المقدسي المعروف بابن بدير الإمام الصالح العالم العامل الناجح، الورع الناسك العابد التقي النقي الزاهد، الفاضل المتقن واللوذعي المتفنن، أخذ عن الشيخ محمد الميهي والشيخ عيسى البراوي المتوفى سنة 1183 وعن الشيخ محمد الرزي والشيخ محمد الفارسكوري والعلامة الملوي والعلامة الشيخ أحمد الجوهري والشيخ محمد الحفني والشيخ أحمد الراشدي والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي الصعيدي والعلامة محمود الكردي والشيخ مصطفى أبو النصر وغيرهم. مات رحمه الله تعالى في الثامن والعشرين من شعبان سنة عشرين ومائتين وألف عن نيف وستين سنة، وقد أخذ عنه الشيخ محمد الكزبري وابن فتح الله البيروتي وغيرهما، ولا ريب أنه كان أوحد الفضلاء ومفرد العلماء ونخبة الصلحاء. الشيخ محمد بن عثمان أفندي العقيلي أحد شيوخ دمشق الشام ونخبة السادة العلماء الأعلام، بحر الحقائق وكنز الدقائق، الفقيه ذو العرفان كعبة طواف أهل مذهب النعمان، أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1351 على والده عثمان أفندي، وهو عن الشيخ طه بن مهنا الشافعي الحلبي الشهير بالجبريني، وهو عن علامة الزمان سيدي عبد الله بن سالم البصري، وانتفع به خلق كثير وجم غفير، فأخذ عنه الشيخ سعيد الحلبي الدمشقي وأجازه، والشيخ مصطفى الأيوبي الأنصاري الحنفي الشهير بالرحمتي، وغيرهما من العلماء والسادة الفضلاء. مات رحمه الله تعالى سابع جمادى الأولى سنة تسع ومائتين وألف. الشيخ محمد بن أحمد الحلواني مفتي ثغر بيروت شيخ الإسلام مفتي الأنام، التقي الزاهد والهمام الماجد، نخبة الأئمة الكرام وعمدة السادة الأعلام، المتقن المحقق والمتفنن المدقق، الجامع بين طرفي المعقول والمنقول، والمتضلع في معرفة الفروع والأصول. أخذ عن الفضلاء الأفراد وشاع ذكره في الأمصار والبلاد، ثم ترك الإفتاء وقدم إلى الشام، واشتغل في الإفادة والطاعة والصلاة والصيام والقيام، ولقد قرأ على سيدي الوالد، وتلقى عنه الفنون والفوائد. مات رحمه الله تعالى سنة أربع وسبعين ومائتين وألف. ودفن بجبانة باب الصغير قرب ضريح سيدنا أوس الثقفي رضي الله عنه. الشيخ محمد الدسوقي الدمشقي إمام علم رقى في الأنام مناره، وارتفعت على طود الإقبال ناره، وهمام طيب الكون أرج نشره، وملأ الآفاق جميل ذكره، وتعلم الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1352 منه حقيقة التقوى والعبادة والعفة والزهادة. مات رحمه الله تعالى في شهر محرم الحرام سنة تسع عشرة ومائتين وألف، ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ محمد بن شاكر بن محمد بن إسماعيل الدمشقي الحنفي الشهير بالسكري الإمام الهمام الفاضل الكامل، ولد بدمشق الشام، ومذ نشأ شرع في تحصيل العلوم، ثم سافر إلى مصر ودخل الجامع الأزهر، فأخذ عن العلماء المصريين كالشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ السقا والشيخ عليش وأمثالهم، ثم بعد أن علا قدره وأشرق بدره، عاد إلى وطنه دمشق الشام، وأخذ عن فضلائها الفخام، كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والسيد محمد عابدين وسيدي الوالد، ثم تولى إمامة جامع المرحوم درويش باشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1353 وخطابته، وكان ملازماً لحجرته في الجامع المرقوم لإقراء الدروس ولإفادة الطالبين، ثم قبل وفاته بثلاثة أشهر ولي تدريس التكية السليمية بعد موت المرحوم عبد الرحمن أفندي البوصنه لي، فقرأ الدرس مدة ثلاثة أشهر ثم مرض مرض الموت، وكانت وفاته يوم عيد الأضحى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير. الشيخ محمد الدمشقي الحنفي المعروف بسكر أحد الأفاضل وأوحد الأماثل، ولد في دمشق ونشأ بها، وكان عالماً عاملاً متفنناً فاضلاً، له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية، خصوصاً في المعاني والبيان، فإنه كان مرفوع الرتبة على الأقران، غير أنه قد أخره الدهر لفقره، وخفض له أعلام تعظيمه وقدره، وكان ذا طاعة وعبادة وتقوى وزهادة. توفي بدمشق سنة نيف وستين ومائتين وألف ودفن بباب الصغير. الشيخ محمد بن الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي الدمشقي كعبة الأفراد الآتي من الإبداع بما أراد، والناظم لمنثور الأدب والراقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1354 في كتاب دلائله على فضائله ما يقضي له بأسمى الرتب. ولد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، وقرأ على السادة الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، إلى أن برع وفاق، واشتهر في الآفاق، وأتى من المنظوم والمنثور بما يدهش العقول ويشرح الصدور، ومن جملة ذلك مقامته التي توصل بها إلى مديح من كانت ذاته الشريفة مطلعاً للهمم ومشرعاً للكرم، حضرة مولانا الأمير السيد عبد القادر الحسني الجزائري التي سماها غناء الهزار في محاورة الليل والنهار، والسجعة الأولى من التسمية يؤخذ من حساب حروفها تاريخ إنشائها وترصيفها، وهي بحروفها لتدل على قدر مبدعها وموصوفها: حمداً لمن فتح أبواب الخير في جميع الأوقات، ويسر أنواع البر وقد أصناف الأقوات. وصلاة وسلاماً على من واظب على بث الحكمة ودأب، وعلى آله الذين تنافسوا فيما جاء من العلم والأدب، ما تعاقب الغدو والمساء، وضحكت الأرض من بكاء السماء. وبعد فإني تفكرت ذات يوم في اختلاف الليل والنهار، وما أودع الله فيهما من لطائف الحكم والأسرار، مصغياً لما يترجمه لسان الحال، لأسند ذلك إليه دون انتحال، فرويت عنه من أنبائهما بدائع وغرائب، وقد قيل إن في الليل والنهار عجائب: من لم يؤدبه والداه ... أدبه الليل والنهار فصغت تلك المعاني، في مقامة رقيقة المباني، مشحونة بغرر من نتائج الأفكار، ودرر تزهو على البنات الأبكار، يزداد بها الأديب علماً وتبياناً، ويرتاد منها الأريب أدباً وعرفاناً. وأبرزتها في معرض المحاورة، لتجنح إليه أرباب المحاضرة، فهي فكاهة أحلى من عيش الصبا، ونفثة أرق من نفحة نسيم الصبا، وشحنتها بمدح أمير تتحلى بوصفه البراعة، وتنطلق في تقييد شمائله الشريفة أيدي اليراعة. فلله فوائد كفرائد اللؤلؤ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1355 في السلك، أو رحيق مختوم ختامه مسك، وذلك أنه أبدى الضياء والدجى ما هو للعين قرة، فكلما أسفر ذاك عن بياض الغرة، قابله هذا بسواد الطرة، ثم استنجد كل منهما صاحبه، بعد أن رشق خصمه بسهام صائبة. وإذا بالليل حمل على النهار، فجعل حمرة وردته كصفرة البهار. وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه، مرصعاً تيجان مفاخره بدرر شهبه، وقد كساه بدر الكمال برد الجمال، ولوائح الهيبة والجلال، تلوح عليه في ذلك المجال، فصدر النقول بأحاسن رواياته، وحير العقول بمحاسن كناياته. ثم قال: " والليل إذا يغشى " " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " ففتح باب المفاضلة في هذا الفصل، وعقد أسباب المناضلة بقوله الفصل، فإن الحرب أولها كلام، ثم تنجلي عن قتيل أو رهين كلام. فانتدب إليه النهار، ممتطياً صهوة الفخار، وقد ازورت مقلتاه، واحمرت وجنتاه، وصاح إذا أديرت كؤوس المنايا، أنا ابن جلا وطلاع الثنايا فأدهش الأفكار بعظيم وثباته، ورسوخ قدمه في الهيجاء وثباته، وتقدم في ذلك الميدان وجلى، مترنماً بقوله تعالى: " والنهار إذا تجلى " واستدل على كماله من الفرقان بسورة النور، والشمس ترسم آية جماله بالذهب على رقه المنشور، ولما استوى على عرش سنائه، واطلع أنوار طلعته في أرضه وسمائه، أعرب عن مكنون الحقائق، وأغرب في كشف الأسرار والدقائق، فابتدر إليه الليل، ومال عليه كل الميل، وجعل النجوم له رجوما، وما غادر من مغانيه إطلالاً ولا رسوما، ثم صعد على منبره ثانياً، وقد أمسى الفخر لعطفه ثانيا، وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً " فأسدى إلي من عوارفه براً ونيلاً، أحمده على أن جعلني خلوة للأحباب، وجلوة لعرائس العرفان بين أولي الألباب، وخلقني مثوى لراحة العباد، ومأوى لخدمة المقربين والعباد، أتردد على أرباب المجاهدة بفنون الغرائب، وأتودد إلى أصحاب المشاهدة بعيون الرغائب، تدور عليه مبدور الإنس والسمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1356 وتحييهم بشذا نفحاتها نسمات السحر، فأحيان وصلي بالتهاني مقمرة، وأفنان فضلي بالأماني مثمرة: وما الليل إلا للمجد مطية ... وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى فوجم النهار لبراعة عبارته، وبلاغة معنى رمزه وإشارته، وتنفس الصعداء بنفح الصبا في الصباح، فأطفأ بأنفاسه العاطرة نور المصباح، ثم خرج للمبارزة من بابها، إذ كان من فرسانها وأربابها، فشمر للحرب العوان، غير ناكل ولا وان، ناشراً راية مجده البيضاء، وأسنته لامعة بين الخضراء والغبراء، وقال له أيها الليل، هلا قصرت من إعجابك الذيل، ولئن دارت رحى الحرب، واستعرت نار الطعن والضرب، فلأبرزن مخدراتك وهي عن الوجوه حاسرة، وأنت تتلو " تلك إذاً كرة خاسرة " وهل دأبك إلا الخداع والمكر، وترقب الفرصة وأنت داخل الوكر، إن كنت تجمع المحب بالحبيب، إذا جار عليه الهوى وحار الطبيب، فكن يقاسي منك في هاجرة الهجر، ويئن أنين الثكلى حتى مطلع الفجر. ولله در القائل: اقضّي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع وإن كنت مغنى الأنس والراحة، تفعل بعقول الناس فعل الراحة، فهل حسبت أن السكون خير من الحركة، وقد أجمع العالم أن الحركة بركة، وإن افتخرت ببدرك الباهر الباهي، فإنما تنافس بوزير شمس وتباهي، وهل له عند إشراق بهجتي من نور، أو لطلعته من خدور البطون ظهور، فأنشدك الله أينا أحق بالفخر، فقد حصحص الحق ووضح الفجر، أما لك في قوله تعالى بينة وتبصرة " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " وهل يستوي الأعمى والبصير والظلمات والنور، أم هل يستوي الأحياء وأصحاب القبور، ولقد أبدع من قال: لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1357 ألم تعلم أينا أبهى محيا، وشتان ما بين الثرى والثريا، ولا ريب أن الحسن في الجميل، عنوان على أنه رب الإحسان والجميل، وقد قال من نؤمل بره ونرجوه اطلبوا الخير عند حسان الوجوه فأنا مفتاح خزائن الأرزاق، وبي يستفتح باب المنعم الرزاق، وهل يخفى حسني وجمالي على إنسان، أو يحتاج فضلي وكمالي إلى برهان، وعرضي عار عن الدنية والعار، ونور البدر من ضيائي مستعار، ولولاي ما تميز الحسن من القبح، ولا أحيا ميت الكرى نسيم الصبح، وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وإن ذكرت الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً معرضاً بكل غافل لاه، فلي في كل مجال، " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "، وأين من احتجب بظلمات بعضها فوق بعض، ممن أضحى ينظر في ملكوت السموات والأرض، فإن أولي الألباب، رأوا الدنيا دار الأسباب، فلزموا الأدب مع الله باستعمالها وقلوبهم عاكفة على الباب، وقد أتحفني بالصلاة الوسطى فأوتر بها صلواتي، وشرع فيها الإسراء لأسرار اختصت بها أهل جلواتي، وكفاني شرفاً شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، فيا له من شهر أيامه للخيرات مواسم، وهي للجباه غرر وللثغور مباسم، فمآثري مشهورة في القديم والحديث، وبها نطق الكتاب العزيز والحديث، ومحاسني واضحة لأولي الأبصار، وهل تخفى الشمس في رابعة النهار؟ ثم انحدر من منبره، وقد أيد حديث خبره بآية مخبره، ولما جن الليل، اجلب عليه بالرجل والخيل، فسد ما بين الخافقين بسواده، وطفق يرمي بسهام جداله وجلاده، مقدماً بين يدي نجواه سورة القدر، آية على ما حازه من كمال الرفعة والقدر، ثم قال سحقاً لك أيها النهار، لقد أسست بنيانك على شفا جرف هار، تناضلني ومني كان انسلاخك وظهورك، وتفاضلني وبي أرخت أعوامك وشهورك، كيف أطعت هواك في عقوقي، وأضعت جميع مطالبي وحقوقي، ألم يأن لك أن تخشع للذكر، فتعترف لي برتبة التقديم في الذكر، وهل الأعمى سوى المحجوب عن المحبوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1358 فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، كيف تعيرني بلون السواد، وهل يقبح السواد إلا في الفؤاد، أم كيف تعيبني بالخداع والحرب خدعة، مع أنك تعلم أني في عز ومنعة، أما تشهد الأنام من هيبتي حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى فأنا البطل الذي لا يصطلى لي بنار، ولا يؤخذ لقتيلي مدى الدهر بثار، فكم أرقت أسوداً كاسرة، وأرقت دماء ووجوه يومئذ باسرة، وكم أوريت نار الوغى تحت العجاج، وقد اكفهرت الوجوه واغبرت الفجاج، وليت شعري أنى لك بالحياة دون الورى، والحي من أحياه الله ولو كان تحت أطباق الثرى: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيباً ... كاسفاً باله قليل الرجاء وافتخارك بالصلاة الوسطى، ليس إنصافاً منك ولا قسطاً، وهب أنك انفردت بتلك الصلاة، فأين أنت مما اشتملت عليه من وافر الصلات، أما علمت أن الركعة في تضاعف أجورها، ويعظم فضلها ويزهو نورها، وهل فرضت في زمنك منها فريضة، حتى تطاولت علي بدعواك الطويلة العريضة: وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد وأما افتخارك بفضيلة شهر رمضان، وما نزل فيه من السبع المثاني والقرآن، فهل صح لك صيامه إلا بي بدأ وختاماً، وقد اختصصت بإحياء لياليه تهجداً وقياماً، على أني محل النية ونية المرء خير من عمله، لأنها بمثابة الروح له وبها يحظى الراجي ببلوغ أمله، فكيف تدعي التفرد بجمع فنون المجد والفضل. ولم تخف يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل، هل في مطالع سعودك أشرقت بدور العيدين، أم على جناح جنحك أسرى بنور طلعة الكونين، وهل في أسحارك يقول الرب هل من سائل، ويجود على أهل مناجاته بأعظم الوسائل، أم فيك نزل الكتاب المنزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1359 في فضله عن المشاركة، والحق تعالى يقول: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وحسبي من المفاخر أول ليلة من رجب التي تأكد مبتدأ فضلها بالخبر ووجب، وكيف لا وفيها قد حملت آمنة بمن به الأمة من العذاب آمنة، فهي فاتحة الليالي النيرة الزاهرة، وواسطة عقدها بحسن خاتمة النبوة الباهرة، فاكفف عن الجدال وأمسك، ولا تجعل يومك مثل أمسك، وسالم من ليس لك عليه قدرة، فإنه ما هلك امرؤ عرف قدره، وإني أستغفر الله عز وجل، وأسأله الأمن من كل وجل، فبرز إليه النهار بروز الأسد من غابة، وقد استل سيف سطوته من قرابه، وقال ما كل سوداء تمرة، ولا كل صهباء خمرة، فوالذي كساني حلل الحسن والجمال، وخلع علي خلع الفضل والكمال، لأمحون طرة الدجى بغرة الضياء، ولأثبتن ما خصصت به من السنا والسناء، ألست مظهر الهداية والدلالة، وهو مظهر الغواية والضلالة، فكم أظهرت منه عيباً كان غيباً، فابيضت عينه حزناً واشتعل الرأس شيباً، وما ارعوى عن ظلمة ظلمه، ولا رجع إلى الإنصاف في نثره ونظمه، ثم أقبل عليه، وأنشد مشيراً إليه: يا مشبهاً في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمه كيف تزعم أيها العبد الآبق، أنك لي في حلبة الشرف سابق، وقد قال الواحد القهار: " ولا الليل سابق النهار " متى قام على منابر العلا بنو حام، أن جلس أحدهم في ديوان الفخر بين أبناء سام، إن أنت ورب البيت إلا كافر، وبشموس أنوار الشهادة غير ظافر، لو كنت من السعداء لفزت بدار النعيم، ولولا شقاؤك لما شابهت سواد طبقات الجحيم، فكيف جعلت في الفضل حالي دون حالك، وأي فخر لمن وجهه اسود حالك. لقد سمعت أقاويلك التي قدمتها بين يديك، وأتيت بها حجة لك وهي حجة عليك، ولا جرم أن لسان الجاهل مفتاح حتفه، وكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1360 من باغ قتل بسيف بغيه وحيفه، أما انسلاخي منك فمن أبدع الطرف لي والطرر، وهل يحق للأصداف أن تفتخر على الدرر، وأما تقدمك علي فمن العادة، تقدم الخدم بين يدي السادة. أو ما ترى أن النبي محمداً فاق البرية وهو آخر مرسل. وأما حديث الإسراء ففي مجلسي روته الأمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، فما لاحت أسراره إلا في مرآة مطالعي، ولا زاحت أستاره إلا بأنوار طوالعي، وما أشرت إليه من بقية لياليك، التي سطعت بها نجوم معانيك ومعاليك، فأين أنت من يوم عرفة، الذي أفرده بالمزايا من عرفه، وأين أنت من يوم عاشوراء، الموسوم بأزكى الفضائل دون مراء، وناهيك بسمو شأن العيدين، فما أعظمهما من موسمين سعيدين، وكيف تباهيني بظهور ليلة القدر منك مرة في كل عام، ولي في كل أسبوع يوم تمتد فيه موائد الجود والإنعام، وهو معلوم شهير، يعرفه الكبير والصغير، وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، ويستجاد الثناء على رب العزة والسناء، هذا ولو تأملت ما لي من المناقب والمآثر، لما تجارأت على مجاراتي في معترك المفاخر، أفي معاهدك كانت الصحابة تتلقى القرآن، وتتملى بأنوار رسول الله في كل آن، أم في مشاهدك وردت وقائع الجهاد، وعبد الله تعالى على رؤوس الأشهاد، فأحاديث فضلي سارت بها الركبان، وماست بنسيم لطفها معاطف البان، وقدري فوق ما تصفه الألسن، وفي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاضرب صفحاً عن تمويهك وغشك، فإن هذا ليس بعشك، ودع عنك قول الزور والمين، فقد بان الصبح لذي عينين، فوثب إليه الليل، وهجم عليه هجوم السيل، وقد امتطى جواده الأدهم، وتعمم بعمامة سوداء وتلثم، فأنسى بفتكاته عنترة بني عبس، إذ أمسى يتوعد عمارة بالأسر والحبس، ثم ضرب خباء عزه الباذخ، وقدح زناد عزمه الراسخ، وقال: " فلا أقسم بالخنس، الجواري الكنس " لقد تزيا المملوك بزي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1361 الملوك، وادعى مقام الوصول صاحب السير والسلوك، طالما منحته جميل ستري، وهو لا يبالي بهتك أستاري، وأودعت سره في خزانة سري، وهو يبوح بمصون أسراري، أف له من فاضح، أما يكفيه ما فيه من الفضائح: انمّ بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن وعلام جعل السواد على النقص علامة وهو مشتق من السؤدد لدى كل علامة، أما درى أني حزت من الكمال الحظ الأوفر حتى تحلى بوصف العنبر والمسك الأذفر، وهل يزري بالخال سواده البارع، أو يغري بالبرص بياضه الناصع، وفي لون المشيب عبرة وأي عبرة، فكم أجرت من الآماق أعظم عبرة، فما كل بيضاء شحمة، ولا كل حمراء لحمة، على أن السواد حلية أهل الزهد والصلاح، وهل يسترق الأسود أحداق الملاح، بيد أن الحر لا يبالي بالجمال الظاهر، وإنما يباهى بالفعل الجميل والقلب الطاهر، ثم أنشد، وزفيره يتصعد: وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق فأفاض النهار، في حديث يفضح الأزهار، وقال ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، كم تدعي يا هذا أعلا المقامات، وأنت كثيف الحجاب أسير المنامات، وهل يقرن أوقات الغفلة بأوقات الحضور، إلا من ليس له في الحقيقة أدنى شعور، إنك لفي واد وأنا في واد، ولكم بين لئيم وجواد، تجمع بين المعشوق والعاشق، وتسترهما بردائك عن الرقيب والطارق، ولقد قال مترجماً عن ذلك من سلكت به هاتيك المسالك: بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح وهل يترنم بذكرك إلا غافل، وأنى يغتر بك عاقل ونجمك آفل، وقد قدمت أني لك فاضح، وماذا علي في ذلك والحق أبلج واضح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1362 فإني نظرت إليك بنور علام الغيوب، فظهر لي ما بطن في سرك من العيوب، فجعلت مطوي معايبك كتاباً منشوراً، ومنظوم كواكبك هباءً منثوراً، فأنا الناقد البصير، والله الولي لي والنصير، وتعرضي لمحو دعاويك، وإثبات جرائمك ومساويك، من الواجب علي يا حليف الكرى، لخبر من رأى منكم منكراً فإلى متى تتبجح بما لا طائل تحته ولا معنى، اسمع جعجعة ولا أرى طحناً، وحتى متى تعنف من لامك عن اتباع هواك، وأنت تدعي رتبة الكمال فهلا نهاك نُهاك، فتنبه من غفلتك أيها الليل، قبل أن تدعو بالثبور والويل، وإلا فرقت طلائع سوادك في كل طريق، ومزقت سوابغ دروعك أي تمزيق! فاسود وجه الليل، وانقلب بحشف وسوء كيل، وندم على مناقشة النهار، ندامة الفرزدق على النوّار، ولما سقط في يده، ورزئ في عَدَده وعُدده، قال من ينصفني من هذا الجاني، فإنه اضطرني إلى الجهر بالسوء والجأني، حتى يرمقني بلحظه ازوراراً، ويرشقني بسهامه عتواً واستكباراً، وعلام يخفى دلائل فضلي وهي ذات وضوح واشتهار، ولقد صدق من قال كلام الليل يمحوه النهار، وما نم بسره وباح، حتى عطس أنف الصباح، فأسفر عن محاسن غرته، وقد برقت أسارير مسرته، وطلع بين يديه حاجب الشمس، فاستنقذ من الليل ما استأسره من الحواس الخمس، وقال له كم ذا تدعي أنك غبين، وتتشكى مني وأنت المفتري المبين، وهب أني ظلمتك فأنت البادي، وهل قابلتك إلا بما واجهتني به في المبادي، وإن رمت التقاضي، لدى الحاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1363 أو القاضي، فهلم إلى حضرة الأمير، ولا ينبئك مثل خبير فإنه لا زالت عين العلا به قريرة، موسوم بحسن السيرة وطيب السريرة، فقال له على الخبير سقطت، وضالة الحكمة لقطت، وإني معترف بعدله في فصله، مغترف من بحر جوده وفضله، فهو الإمام العادل، والعالم العامل، فأمليا عليه سورة الواقعة والمجادلة، فحضهما على حسن المعاملة ودوام المجاملة، وقال لهما جانحاً إلى الصلح في جواب سؤاله: بعد حمد الله والصلاة على محمد وآله، إنكما كفتا ميزان أصحاب الرقائق، ودفتا كتاب أرباب الحقائق، بكما يتحلى المرء بحلا سعادته، ويتخلى من فضول طبيعته وعادته، فأنتما في الشرف رضيعا لبان، وفي مضمار المجد والفخر فرسا رهان. هذا وإن كنتما ابني ضرتين ظلمة ونور، فأبوكما هو الزمان الذي عليه أفلاك الوجود تدور، وعليكما باطراح رداء الافتخار، فإن العبد لا يسود إلا بالافتقار، بارك الله فيكما وبلغكما المرام، ومنحكما كمال التوفيق وحسن الختام. ولما أصلح ما بين الليل والنهار، وبوأهما مهاد الألفة بعد الوحشة والنفار، وردا من رشده موارد الائتلاف، وطرحا أعباء التعصب والاختلاف، فقلت مادحاً لحضرته الشريفة، مستمداً من علومه وأسراره المنيفة: قد أسفرت بين العذيب وحاجر ... خود سبت أهل الهوى بمحاجر هيفاء طرتها غدت تحكي دجى ... ليل وغرتها كصبح زاهر يفتر جوهر ثغرها عن لؤلؤ ... أجريت منه عقيق دمع هامر لله خال عم روضة خدها ... لطفاً على ورد جني عاطر لما بدت تختال تيهاً خلتها ... بدراً على غصن رطيب ناضر أسرت فؤادي في الغرام وأطلقت ... دمعي ومالي في الهوى من ناصر ضنت بحسن وصالها يا ليتها ... منت علي ولو بطيف زائر أنى يشاهد طرف صب ما درى ... طعم الكرى طيف الغزال النافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1364 يا عاذلي كن عاذري في حبها ... فالوجد أفنى مهجتي وسرائري قد طاب فرط تهتكي في الحي بع ... د تنسكي والذل لذ لخاطري هيهات يصحو من سلافة عشقها ... يا صاح صاح أسكرت بنواظر أربت على كل الملاح لطافة ... وتفردت ببديع حسن باهر كالشمس إن سفرت وغصن البان إن ... خطرت وإن نظرت فأخت جآذر يصفو بطيب وصالها وقتي كما ... يحلو المديح بذكر عبد القادر مولى حكت أخلاقه في لطفها ... مسرى النسائم في رياض أزاهر بزغت به شمس المعارف بعد ما ... أفلت فأرشد كل لاه حائر أكرم به براً غدا بحراً طما ... في كل علم باطن أو ظاهر إن عدت العلماء فهو إمامهم ... ويرى لدى الأمراء أعظم آمر إن الكمال بأسره في أسره ... والفضل طوع يديه دون تناكر إن رمته في حل مشكلة جلا ... سر الحقيقة في أرق مظاهر وإذا سألت عن السماحة كفه ... أنباك عن قطر وبحر زاخر ولو اطلعت عليه في يوم الوغى ... لرأيت ليثاً أي ليث كاسر قد حاز أنواع المعالي جملة ... بوراثة من كابر عن كابر وعليه أسرار الكتاب تنزلت ... فغدا يحررها بأيدي شاكر فانظر مواقفه وحسبك أنها ... تروي حديث صحيحه المتواتر الله أكبر كم بها من آية ... شهدت له بفضائل ومآثر يا مفرداً في جمع أشتات العلى ... قد فقت كل مفاضل ومفاخر لله درك سيداً أوصافه ... عزت وجلت عن وجود نظائر ته يا زمان به وطاول إن تشأ ... نجم السها بمناقب ومفاخر فهو ابن طه خير من وطئ الثرى ... فبخ بخ شرف وطيب عناصر سعدت بسيرة فضله أوقاته ... فتقلدت منه عقود جواهر أيامه جمع كما أمست ليا ... ليه ليالي القدر ذات بشائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1365 من أمه في حاجة يحظى بوق ... ت إجابة ومديد فضل وافر لا زال بدراً في سماء المجد محف ... وفاً بغر كالنجوم زواهر ما قال ممتدحاً مؤرخ شكره ... هام الوجود بسر عبد القادر وجملة ذلك خمس وتسعون ومائتان وألف ومن قوله مهنئاً أخاه الشيخ محمد الطيب بولده جعفر مؤرخاً ولادته: نجم بدا في طالع الإسعاد من ... أفق الهنا يزهو بأبهى منظر أم ذا هلال هل أول ليلة ... باليمن من ثاني ربيع الأنور أم ذا غلام لاح يا بشراي في ... مهد الهنا يرنو بطرف أحور رشق الحشا بسهام قوس حواجب ... وسطا وصال من القوام بأسمر وأماط عن وجه البهاء لثامه ... فسبا النهى يا حسنه من جؤذر وافتر ثغر جماله متبسما ... فروت ثناياه صحاح الجوهر أفديه من نجل كريم قد زكا ... فرعاً وطاب لطيب ذاك العنصر فاهنأ به يا ابن المبارك وارتشف ... راح التهاني من لماه الكوثري وانشق شذاه فإنه ريحانة ... تزري بنشر فتيت مسك أذفر لا غرو في طيب بدا من طيب ... وهو ابن فاطمة وبضعة حيدر قد لاح بين الشمس والقمر المن ... ير سناه منجلياً بأبهى مظهر لا زال قرة أعين لهما ومن ... ية أنفس ما فاح ريا العنبر وشدا لسان الحال فيه مؤرخا ... نيل المنى في رشف وجنة جعفر ومن قوله مشطراً أبيات الشاب الظريف، ابن العفيف التلمساني: للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... ولو أحلهم المحبوب نار غضا إن العذاب لعذب فيه عندهم ... فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... ميثاق ود عليهم كان مفترضا ما ضرهم لورثوا لي في الهوى ورعوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1366 قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... بأسهم ليس يخطي رشقها غرضا قد كان يرجو بأن يحظى بقربهم ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فبات يشكو زماناً بالبعاد قضى سقاه كأس النوى رغماً وجرعه ... فسام صبراً فأعيا نيله فقضى وقد كنت شطرت هذه الأبيات قبله وهي مع التشطير: للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... بما ارتضى لو عليهم بالحمام قضى والذل في الحب عز عندهم حسن ... فلا تكن يا فتى للعزل معترضا روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... زمام صب لذيذ العيش قد رفضا ماذا عليهم ترى لو أنهم حفظوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... من غير ذنب سوى حب له وفضا من بعد ما جرعوا كأس الهوى فطموا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا رأى فحب فسام الوصل فامتنعوا ... فاستعوض الدمع عند المنع والحرضا وحاول النفس سلواناً لهم فأبت ... فرام صبراً فأعيا نيله فقضى وكنت قد نظمت وخمسهما وهما مع التخميس يا صاح فزت بنجدة ... والأنس جاد بعودة فأدر كؤوس مودة ... وافى الحبيب بوردة وغدا يميس بقده نمت لآلي ومضها ... عن حسن مورد حوضها وروت شذا في عرضها ... فسألته عن روضها فأشار لي من بعده وقد خمسهما الأديب الشيخ محمد بهاء الدين بن أخي عبد الغني أفندي. حيا بزاهر طلعة ... والخال فاح بندة لما هممت بشمة ... وافى الحبيب بوردة وغدا يميس بقده صوب الحيا من فيضها ... يهمي بعنبر أرضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1367 لمع السنا من ومضها ... فسألته عن روضها فأشار لي من خده الشيخ محمد المصيلحي الشافعي المصري الإمام العلامة المتفنن المعمر الضرير، أحد العلماء العظام والسادات الكرام، قال الشيخ الجبرتي: أدرك الطبقة الأولى وأخذ عن شيوخ الوقت، وأدرك الشيخ محمد شنن المالكي وأخذ عنه وأجازه الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ عبد ربه الديوي والشيخ أحمد الملوي والحفني والدفري والشيخ علي قايتباي والشيخ حسن المدابغي، وفاضل ودرس وأفاد وقرأ وانتفع عليه الطلبة. ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري وانقرض أشياخ الطبقة الأولى نوه بذكره واشتهر صيته وحف به تلامذته وغيرهم، ونصبوه شبكة لصيدهم وآلة لاقتناصهم، وأخذوه إلى بيوت الأمراء في حاجاتهم، وعارضوا به المتصدرين من الأشياخ في الرياسة، ويرى أحقيته لها لسنه وأقدميته. وملا مات الشيخ أحمد الدمنهوري وتقدم الشيخ أحمد العروسي في مشيخة الأزهر، كان المترجم غائباً في الحج فلما رجع وكان الأمر قد تم للعروسي أخذه حمية المعاصرة، وأكثرها من إغراء من حوله، فيحركونه للمناقضة والمناكدة، حتى أنه تعدى على تدريس الصلاحية بجوار مقام الإمام الشافعي المشروطة لشيخ الأزهر بعد صلاة الجمعة، فلم ينازعه الشيخ أحمد العروسي، وتركها له حسماً للشر وخوفاً من ثوران الفتن، والتزم له الإغضاء والمسامحة في غالب الأطوار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1368 ولم يظهر الالتفات لما يعانونه أصلاً حتى غلب عليهم بحلمه وحسن مسايرته، حتى أنه لما توفي المترجم ورجع إليه تدريس الصلاحية لم يباشر التصدر في الوظيفة، بل قرر فيها تلميذه العلامة الشيخ مصطفى الصاوي، وأجلسه وحضر افتتاحه فيها، وذلك من حسن الرأي وجود السياسة. توفي المترجم ثاني عشر شوال سنة إحدى ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين رحمه الله تعالى. الشيخ محمد كاظم الأزري البغدادي أديب زمانه ولبيب وقته وأوانه. ولد سنة ألف ومائة وخمسين ومهر في علوم الأدب، ودلس من معرفته على أوج الرتب، وتوفي سنة ألف ومائتين وثلاثين ومن قوله: أي عذر لمن رآك ولاما ... عميت عنك عينه أم تعامى أو لم ينظر اللواحظ تهدي ... سقما والشفاه تشفي السقاما لا هنيئاً ولا مريئاً لقوم ... شربوا من سوى لماك مداما أتراهم توهموها عصيراً ... من محياك حين شبت ضراما ما لمن يترك السلافة في في ... ك حلالاً ويستحل الحراما إن للناس حول خديك حوما ... كالفراش الذي على النار حاما بأبي أنت من خليل ملول ... لم يدم عهده إذا الظل داما لك خد ومبسم علم الور ... د ابتهاجاً والأقحوان ابتساما أي وعينيك ما المدام مدام ... يوم تجفو ولا الندام نداما لا تقسني بالورق يا غصن إني ... أنا من علم النواح الحماما أيها الريم ما ذكرتك إلا ... واحتقرت الأقمار والآراما لست أدري والصدق بالحر أحرى ... إضراماً قد شب لي أم غراما إن تصلني فصل وإلا فعدني ... ربما علل السراب الأواما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1369 لم يكن طبعك الوشاة ولكن ... صلب الماء فاستحال ضراما لو ملكنا ملك العراق ومصر ... دون لقياك ما بلغنا مراما ألف الله فيك مختلفات ال ... حسن جمعاً وقال كوني غلاما وله أيضاً هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السيوف الأعينا وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب الأمان لنفسه إلا أنا وبخده وبثغره وعذاره ... حمر العقيق وبارق والمنحنا لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقاً ولا جسد تجافيه الضنا وأنا الفداء لبابلي لحاظه ... لا تستطيع الأسد تثبت إن دنا لما انثنى في حلة من سندس ... قالت غصون البان ما أبقى لنا يا قلبه القاسي ورقة خصره ... لم لا تقلت إلى هنا من ها هنا أقوى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير تراه غصنا ألينا شبهته للبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي والله ظلماً بينا من أين للبدر المنير ذوآبة ... أم شامة أو ورد خد يجتنى البدر ينقص والكمال بطلعتي ... فلأجل ذلك صرت منه أحسنا وله أيضاً هل بعد أندية الحمى من نادي ... يحمى النزيل به ويروي الصادي خلت الديار من الذين عهدتهم ... وتنافرت ظبيات ذاك الوادي طاروا بأجنحة الشتات كأنما ... نادى بتفريق الفريق منادي وعدوا الرحيل عشية ووفوا به ... بئس الوفاء لذلك الميعاد الشيخ محمد بن محمد الشهير بالحوت الشافعي الشامي البيروتي أحد العلماء الأفاضل والنبلاء ذوي الفواضل، ولد سنة ثلاث ومائتين وألف ونشأ في العلم والعبادة والتقوى والزهادة، وسار بين أمثاله واشتهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1370 في فضله وكماله. وأخذ عن الشيوخ العظام والسادة الكرام، وانتفع به الجم الغفير وعلى كل حال ففضله معلوم شهير. مات سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ودفن في تربة سيدنا عمر المشهورة الآن بالباشورة. الشيخ محمد الفيومي الشهير بالعقاد المصري الشافعي قال الجبرتي الإمام العلامة والجهبذ الفهامة الفقيه النبيه الأصولي المعقولي، الورع الصالح، أحد أعيان العلماء النجباء الفضلاء، تفقه على أشياخ العصر، ولازم الشيخ الصعيدي المالكي، ومهر وأنجب ودرس وانتفع به الطلبة في المعقول والمنقول، وألف وأفاد وكان إنساناً حسناً جميل الأخلاق مهذب النفس متواضعاً، مشهوراً بالعلم والفضل والصلاح، لم يزل مقبلاً على شانه محبوباً للنفوس، حتى تعلل بالبرقوقية في الصحراء وتوفي بها سنة اثنتين ومائتين وألف، ودفن هناك بوصية منه رحمه الله تعالى. السيد الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي ولد سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، ولدى تمييزه اشتغل بحفظ القرآن ثم في تحصيل ما لا بد منه من علوم الدين، ثم عكف على العبادة والتقوى في السر والنجوى، وكان في بداية أمره يأوي إلى غابة كثيرة الوحوش والسباع، يعبد الله فيها أياماً ثم يرجع إلى أهله يتزود لمثلها ويرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1371 لمكانه، حتى نادته هواتف العنايات بلطائف الإشارات، وطابت سريرته واستنارت بصيرته، وتخلى من أوحاله وتحلى بجميل أحواله، فأخذ الطريقة البكرية الخلوتية عن صاحب المآثر الأحمدية، المرشد الكامل والولي الفاضل، سيدي الشيخ علي بن عيسى، ولازم المجاهدة مدة على يده، فلما دنت وفاته أوصى به خليفته الأكبر سيدي الشيخ محمد المهدي السكلاوي، فتولى تربيته، حتى فتح الله عليه فاشتغل بالإرشاد ونفع العباد، وشهر الطريقة وشيد معالمها ونهج منهج الحقيقة وأرشد إليها رائمها، حتى سار صيته في الأقطار وقصدته الناس من صغار وكبار، فبذل في نصح الخلق همته وأحسن لهم نيته، وجمعهم على الملك الحق وسلك بهم مسلك الصدق، وتخرج على يده عدد كثير ووصل إلى مقصوده من لاحظته عين عناية اللطيف الخبير، وسمعت من كثير ممن كان له تردد إليه، أن طائفة من الجن أخذوا عنه واهتدوا على يديه، وكانوا يتلقون من حكمه ومعارفه ويأخذون عنه معالي نصائحه ولطائفه، وكان له في السخاء والكرم والعطاء، اليد الطولى والقدح المعلى، يعطي قاصده العطاء الجزيل ويغمر بوافر فضله ومديد إحسانه الوارد والنزيل، ينفق دائماً على جماعته المتجردين ويحسن إلى الفقراء والمساكين، منزله مأوى لليتامى والأرامل، تلتمس فيه أنواع الفضائل والفواضل. ولما قصدت الأمة الفرانساوية بلاد الجزائر جمع جموعاً من العباد وسار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1372 بهم إلى المدافعة عن الوطن والجهاد، وما زال يحرض الناس على القتال ويساعدهم في الهمة والنفس والمال، إلى أن ظهر الكفار على الإسلام لحكمة أرادها الملك العلام، فقصد بلاد الشام مهاجراً بأهله وقرابته، وتبعه خلق كثير من مريديه وأهل عصابته، واستوطن دمشق الشام، وكان له بها من الله زيادة فتح وإنعام، وأخبر أنه لما استشرف عليها شاهد أولياءها قد أقبلوا بسلمون عليه، وأظهروا الفرح والسرور بقدومه وقدموا أنواع التهاني إليه، وخرج لملاقاته جملة من أشراف البلدة وعلمائها، وتجارها وعوامها وعظمائها، فاستأنسوا به الاستئناس التام واشتهر فضله لدى الخاص والعام، واجتمعت عليه القلوب وصار مقصوداً في التوسل به بدفع الهموم والكروب، فأقام في دمشق عامين، ثم توجه لبيت الله الحرام لأداء فرض الحج وزيارة خير الأنام، وفي خدمته خمسة وأربعون نفراً من أحبابه ومريديه وأصحابه، وبعد رجوعه لداره، اتخذ لنفسه خلوة في منزله لا يخرج منها إلا لقضاء أوطاره، إلا يوم الخميس فإنه جعله لزيارة القاصدين ومذاكرة الواردين، وكثيراً ما يقرأ عليهم كتب الرقائق ويستخرج لهم من كنوزها لآلئ الدقائق، ليزيدهم في فعل المأمور ترغيباً، وعن المآثم ترهيباً، ثم يعود لخلوته ليلة السبت بالهمة العالية والقوة السامية، ولم يزل على ذلك حتى قدم على السيد المالك. وأخبرني ولده السيد محمد الطيب عن والدته بنت الشيخ محمد المهدي شيخ المترجم المرقوم، أنها دخلت عليه مرة في خلوته لتحظى برؤيته وتغنم جميل زيارته، فلما أشرفت عليه اعترتها هيبة عظيمة وقشعريرة جسيمة، حتى لم تطق أن تسلم عليه ولا أن تنظر إليه، وسمعته يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ويقول له اضمني يا رسول الله، ثم حمد الله وقال يا رسول الله اضمن أولادي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن أزواجي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن كل من تعلق بي وتلقى وردي وبقي طويلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1373 وهو يتضرع إليه صلى الله عليه وسلم في قبول مسئلته، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال هذا جل آمالي، وربحي منك يا رسول الله ورأس مالي. ثم سمعته يخاطب والدها ويذكر له بعض الأسرار والمكاشفات، وبعد فراغه من ذلك كله سرى عنها ذلك الحال وزال عنها الشتات، فأقبلت عليه فتلقاها بالرحب والبشاشة والسرور والهشاشة، وكان يعظمها جداً حرمة لأستاذه وقدوته وملاذه، ولما يرى فيها من الخير والصلاح والفوز والفلاح، وعزم عليها أن لا تحدث بهذا الحديث أحداً، ما دام موجوداً في قيد الحياة وإن طال المدى، فما ذكرت ذلك لسواه حتى توفاه الله. وأخبر الشيخ المحفوظ ابن عم الأستاذ الشيخ محمد المهدي وكان رحمه الله تعالى رجلاً صالحاً تقياً ناجحاً، إنه توجه يوماً مع المترجم وشيخه الشيخ محمد المهدي في بلاد المغرب من قرية إلى أخرى وهو ساع في خدمتهما لينال ثواباً وأجراً، فوقفت بغلة الشيخ قرب قبر في الطريق، فقال الشيخ ما أصابها من البلاء؟ فقال المترجم إن الله كشف لي عن صاحب هذا الضريح، وهو الذي استوقف الدابة يلتمس منك صالح الدعاء، فدعا له فانطلقت، وإلى نحو المطلوب توجهت، ثم مرا في طريقهما على شجرة عظيمة، فقال الشيخ للمترجم ليت شعري في أي زمان غرست هذه الشجرة الجسيمة، ومن غرسها في هذا المكان فهل من يعرف ذلك الآن؟ فأطرق المترجم غير طويل، ثم قال أيها الأستاذ الجليل: إن الله أنطقها لي فأخبرتني أنها غرست في التاريخ الفلاني وإن غارسها فلان ابن فلان الفلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1374 وأخبر عنه أيضاً هذا الرجل الصالح أن المترجم جاء يوماً إلى أستاذه المرقوم، يخبره بوفاة أخ له في الله من مكة من رجال الغيب الكرام، ويستأذنه في التوجه إلى بيت الله الحرام، للصلاة عليه وتشييع جنازته، وحضور دفنه في تربته، فأذن له فغاب، وبعد برهة رجع وآب. وطلب منه مرة بعض أصحابه زيارة الشيخ الأكبر والدعاء بالمرغوب في فسيح رحابه، فقال له: الرجل هو الذي يجتمع بالولي عند الوقوف بحضرته، وبعد انتقال المترجم إلى الدار الآخرة جاء بعض أولاده لزيارة جده والد والدته وشيخ المترجم المذكور الشيخ محمد المهدي، وفي يده كتاب الابريز في مناقب الشيخ الدباغ عبد العزيز، فأمره أن يسمعه منه شيئاً، فقرأ عليه جملة من كراماته وعلومه المستجادة، فقال له: لو سطر أحد مآثر والدك ومناقبه لبلغت هذا المبلغ وزيادة، وحدث ولده أنه كان يوماً عند الأمير السيد عبد القادر الجزائري، وعنده رجل من أهل فاس يسمى الشيخ عمر بن سودة، فقال له الأمير: إن والد هذا الشاب كان في المجاهدة من أضراب أبي يزيد البسطامي، وأبي سليمان الداراني. وبالجملة لو أردت أن أستقصي أحوال هذا السيد الجليل لأدى المقام إلى الإسهاب والتطويل، وما ذكرته يدل على بعض مقامه، وعلى رفيع رتبته ووجوب احترامه، مات رحمه الله تعالى سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن في سفح قاسيون في جوار نبي الله ذي الكفل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام. الشيخ محمد العطار بن .... بن الشيخ إبراهيم الحسيبي جد بني الحسيبي عالم عامل وهمام فاضل، قد أجمع الناس على طيب أصله وصحة كماله وفضله، قد اتصف بصفات من سلف وساد في معالي شمائله فيمن خلف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1375 وارتفع مقامه وعلا قدره واحترامه، وصار مقصوداً في مشكلات المسائل وموروداً في أخذ الفضائل. ولد سنة ألف ومائة ونيف وثلاثين، واشتغل في العلم والعبادة والتقوى والزهادة، إلى أن برع وفاق واشتهر في الآفاق. تولى القضاء بمدينة غزة هاشم، وكان في أحكامه تقياً بعيداً عن المحارم، وكان السيد محمد التافلاتي قاضي القدس الشريف، فوقع بينهما في مسألة من المسائل اغبرار اقتضى اللوم والتعنيف، فكتب السيد محمد التافلاتي رسالة في تعنيفه وأرسلها إليه، فغب وصولها شرحها وردها من غير مهلة عليه، وابتداء هذه الرساله قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " جناب الأخ الأمجد الشيخ محمد التافلاتي حفظه الله تعالى، وصلت مكاتبتك إلينا ولم يسبقها منا إليك كتاب، وابتدأتنا بمخاطبتك ولم يتقدم في هذه المدة منا إليك خطاب، فتلقيناها تلقي الأحباب بالسعة والترحاب، وحين رأيناها نزلت منا منزلة الأضياف، عجلنا قراها بما يجب لها عند أهل الإنصاف: سوداء شمطاء اللمم ... وافت بتيه وعجب لما علمت جهلها ... أنكحتها فحل الأدب فما مكثت إلا بمقدار ما يمكث الطيف، ولا لبثت إلا كم تلبث سحابة الصيف، حتى نهضت: مسرعة تقول قطني قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني وألبستها خلعاً حكت قطعاً من الليل مظلماً، كما يليق ذلك بشأنها فلم تكفر لنا أنعما، فالرجاء إذا وصلت أيها الشيخ إليك، وألفيت بكراً عذراء، بين يديك، أن تتقبلها بقبول حسن، وأن تكفلها وتهجر لأجلها الوسن، وإذا نسبتها فقل عربية قرشية، شامية قدسية، رملية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1376 غزية. وإياك أن تنسبها لأمها الغريبة ذات اللامة التي أكسبتك فوق ما اكتسب ببغلته أبو دلامة، وأزرت بك في الشرق والغرب، إزراء الطيلسان بابن حرب، وستشتهر بها عند كل قريب وبعيد، كما اشتهر بشاته سعيد، فإذا ورد عليك بذلك الخبر، فلا تلم سواك في البشر. وتذكر ما أنشده سيدي عمر: ولقد أقول لمن تحرش في الهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف وأنت حيث فتحت هذا الباب، وابتدأت هذا الخطاب، تكرمت عليك بالجواب، لئلا تحقر نفسك إذا لم تجاب، واعلم بأنني كما قيل: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا مبتغ للشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب ولا يظن أحد أن إقدامك على هذا الأمر لجرأة في الخلد، فالعير كما لا يخفى تقدم من خوف على الأسد، ولولا ما أرشدنا سبحانه وتعالى إليه بقوله عز وجل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وخشية ما قيل: إذا المرء لم يكرم كريماً ولم يهن ... لئيماً ولم يبرز إلى من يجاوبه فذاك الذي إن عاش لا يعتنى به ... وإن مات لا تبكي عليه أقاربه لما فوقت من قسي الملام نحوك سهماً، ولا أفدتك من شهب الكلام رجما، على أنني أتيقن الملامة، وأتحقق على ذلك الندامة، إذا طاشت السهام في ظلك الزائل فلم تر فيه مرمى، وتساقطت شهب ثواقب الكلام عليك فلم تجد لك رسما، غير أني أخلص بقوله تعالى في محكم التنزيل " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1377 وإن كان يقع لا على شيء منك الفند، لأنك ما تحت الواحد في العدد، فالوهم يصورك وتشير إليك الأفكار، ليعتبر بذلك غيرك من ذوي الأبصار، وقد حملني على ذلك قول من تقدم: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يتهدم، وكيف لا أناضل المناضل، وأنازل المنازل، وقد أعددت بحمد الله للكفاح أتم عدة وأمضى سلاح، ولكن أحببت أن أوضح لكل واقف على هذا المجال، ما حصل عليه وبسببه هذا الجدال، ليظهر لمتأمله حقيقة الحال، ويعلم أن الرجال تعرف بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، فأقول: ملخص ذلك أن الشيخ المذكور، هو مفتي القدس التافلاتي المشهور، ضاقت عليه في بيت المقدس الأحوال، واشتد الضنك عليه بها واستطال، فنزل إلى أسكلة يافا ليقرع باب الفرج وصار يدرج بها مع من درج، فما ترك باباً يتوهم منه حصول رزق حتى عالجه، ولا وجد إنساناً يظن خيره إلا خالطه ومازجه، فلما أعيته المطالب واستحالت عليه المآرب واستدت في وجهه المسالك وتقطعت أحبال ما نصب من الشبائك، ولم يصطد عقعقاً ولا بوما واصبح من كل خير محروما، فعزم على الرجوع بخفي حنين وهو بهمومه أشغل من ذات النحيين وقد كان آلى أن يجيب كل من يستفتيه على وفق ما يرضيه، وأقسم أن لا يرد سائلاً يأتيه ولو ألقاه الجواب في التيه، فسمع إنساناً يذكر حادثة على سبيل المحادثة فسقط عليه سقوط الذباب، ووقع دونه وقوع الغراب، فجعل يفتيه قبل أن يسأله، ويقلب له الأجوبة عساه أن يوافق ما أمله، وكان الرجل عن جميع أجوبته مستغنيا، ولم يكن على حالة من الأحوال مستفتيا، ولكن فهم حاله فرثى إليه، واستطلع مرامه فعطفته الرحمة عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1378 فاستفتاه بحادثة واقعة في غزة، بما ملخصه في بكر بالغة تزوجها غير كفؤ برضاها، وولدت منه ولداً فقام وليها يطلب فسخ النكاح هل يجاب إلى ذلك، فأجاب الكفاءة شرط صحة انعقاد النكاح، وهذا النكاح المشروح في السؤال لم ينعقد أصلاً كما هو المختار للفتوى، كما صرح به قاضي خان، وصاحب التنوير، واتفقت عليه فتاوى المتأخرين، لفساد الزمان، وإذا طلب الولي الفسخ أم لم يطلبه رضيت المرأة أم لم ترض فالفسخ واقع لعدم انعقاد النكاح من أصله ولو ولدت أولاداً، والنقل به مستفيض لم يخل منه كتاب من كتب المذهب، والله سبحانه وتعالى أعلم، فأخذها السائل وأرسلها للولي بغزة هاشم وحرضه على إجراء ما فيها من الأحكام، فأخذها واستكتب مفتي غزة فكتب عليها، ثم عرضها على هذا العبد الضعيف، لكونه انتصب لفصل الأحكام بين كل وضيع وشريف، وكان الزوج غائباً، فأجبته أنك تحتاج إلى خصم لتثبت عليه عدم الكفاءة، فاستفتى علماء غزة فأجابوه كما أجبت، غير أن مفتيها قال ليس لذلك سبيل إلا بنصب مسخر، ولكن ينبغي أن تنظر في الصور، في الصور التي يجوز فيها نصب المسخر، فأجبت بأن هذه الصورة ليست منها فانفصل المجلس على أن المفتي والعلماء يراجعون كتب المذهب، وحرر الولي ذلك إلى يافا وأخبره المستفتي بما حصل وصدر في طرفنا، فاستشاط من الغضب وامتلأ من الغيظ، وصار وجهه كالمسافر في أشهر القيظ، ثم كتب سؤالاً آخر كالأول ولكن زاد فيه ونقص، وما أراد بذلك إلا إرضاء السائل ليطيب من عيشه ما تنغص، تم كتب جواباً غير الأول وبسط فيه المقال، وأكثر من نقل الأقوال، وذكر رواية الحسن ونقل ترجيحها والعمل بها عن أئمة أعلام، وساق أسماء من عول عليها واعتمدها من العلماء العظام، ثم قال: والحاصل أن هذا النكاح لم ينعقد من أصله وهو باطل، والباطل يجب إعدامه، ثم قال في آخرها: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1379 خلاصة مذهب الإمام النعمان، نعوذ بالله من الحظوظ الموجبة لغضب الرحمن، كأنه يشير إلى توقفنا وتوقف علماء غزة أنه من الحظوظ الموجبة لغضب الرحمن، ويدل على كونه أرادنا بذلك أنه حرر مكاتبة للولي، وأرسل له فتوى أخرى ثالثة داخل تلك المكاتبة، والفتوى صورة سؤالها في نكاح فاسد باطل، لكون الزوج غير كفؤ للزوجة، هل للزوجة أن تفسخ هذا النكاح ولو بعد الدخول، ولو كان زوجها غائباً، وهل يجب على القاضي التفريق والفسخ ولو كان الزوج غير حاضر؟ والحاصل أنه اتسعت دائرة القيل والقال، وتفاقم أمر الجدال، وتعددت الرسائل اتخذت الوسائل، وطال الكلام في هذا المقام، وكثرت المخاطبة واللوم والمجاوبة، وانتقل مركز القضية لغير هذه الكيفية، ومن جملة ما قاله المترجم: كان الزوج غير حاضر؟ والحاصل أنه اتسعت دائرة القيل والقال، وتفاقم أمر الجدال، وتعددت الرسائل اتخذت الوسائل، وطال الكلام في هذا المقام، وكثرت المخاطبة واللوم والمجاوبة، وانتقل مركز القضية لغير هذه الكيفية، ومن جملة ما قاله المترجم: يا أيها الشيخ الذي ... بزخرف القول اشتهر خف عالم الأسرار أن ... يبدي الذي منك استتر فلتصبحن عبرة ... مشتهراً بين البشر ومن قوله إذا أنت ضيعت الصنيع ولم تكن ... تقابله إلا بسوء فلا عجب فقد جاء في معنى الحديث الذي رووا ... ولا يصلح المعروف إلا لذي حسب وقال أيضاً في رسالته المذكورة: ألا أيها الشيخ الذي أكثر الدعوى ... كذبت وايم الله في السر والنجوى أما تستحي أن قلت ما ليس فاعلاً ... فأكبر به مقتاً وأعظم بها بلوى وقال بها أيضاً: أعد نظراً فيما كتبت ولا تكن ... بشقشقة للأفضلين منازعا فحسبك ما تهذي به لك زاجراً ... وحسبك أن تخزى ويكفيك رادعا وقال أيضاً: يا للشريعة من مفت لقد فتنا ... وضل إذ فارق المفروض والسننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1380 أراد يكتم ما تحوي طويته ... فضاق ذرعاً وعن أثقاله وهنا وقد تردى بما أخفت سريرته ... فأصبح الكتم منها للورى علنا وقد استشهد بهذه الأبيات الثلاثة: عجوز تمنت أن تكون فتية ... وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر وأضحت بلا عقل يصون حجابها ... فباحت بما في السر وانكشف الستر وجاءت إلى العطار تبغي تحسنا ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر وقال أيضاً: فتباً لشيخ يزعم الحق باطلاً ... وباطل ما يأتيه يزعمه حقا فبعداً له من مفسد ما أضره ... على الملة الزاهرا وسحقاً له سحقا وقال أيضاً: ولو نسب الزمان لتافلات ... تغير وجهه وبدا القتام وأصبح صبحه ليلاً بهيماً ... ودام على أهاليه الظلام وقال أيضاً: لو أن طينة آدم ... مزجت بتربة تافلات ما كان في أولاده ... أهل التقى والمكرمات ولا أتاه الصالح ... ون بنسله والصالحات ول أردت أن أذكر رسالة التافلاتي وشرحها للمترجم العريض الطويل، لأدى المقام إلى الإطناب والتطويل. مات المترجم في الأستانة سنة تسع ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1381 الشيخ محمد أفندي الشافعي المصري كاتب الرزق الأحباسية العمدة الفرد والنجيب اللبيب الأوحد، والناهج منهج الصلاح والمتمسك بعرى التقوى والفلاح، كان حسن الأخلاق قد اشتهر في النواحي والآفاق. وكان يجيد القرآن بالقراءات العشر مع الإتقان. مات رحمه الله تعالى ثامن ربيع الثاني سنة اثنتين ومائتين وألف. محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب المصري الشاب الأديب المذب الأريب، والكامل اللبيب والوحيد النجيب، نشأ في الرفاهية والنعم وعانى طلب العلم فنال منه ما أخرجه من ربقة الجهل والنقم، وتعلق بالعروض وأخذه عن الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي فبرع فيه، ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم في قوافيه، كتب إليه صاحبنا المتقن العلامة السيد إسماعيل بن سعد بن إسماعيل الوهبي المعروف بالخشاب على ديوانه: قل للرئيس أبي الحسين محمد ... خدن المعالي والسري الأمجد والحاذق الفطن اللبيب أخي الذكا ... اللوذعي الألمعي الأوحد ألزمت نفسك في القريض مذاهبا ... ذهبت بشعرك في الحضيض الأوهد وتركت ما قد كان فيه لازماً ... هلا عكست فجئت بالقول السدي كدرت منه بما صنعت بحوره ... فغدت مشارع ليس يمحوها الصدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1382 فإذا نظمت فكن لنظمك ناقدا ... نقد البصير بذهنك المتوقد أولا فدع تكليف نفسك واسترح ... من قولهم ما شعره بالجيد ولئن عنفت عليك فيما قلته ... فلقد بذلت النصح للمسترشد فلما قرأها ضحك ولم يزد على أن قال له أنت في حل، وكان رحمه الله تعالى قد علق غلاماً من أبناء الكتاب فكتب إليه أيضاً السيد إسماعيل صاحب الأبيات المتقدمة: إني أجلك أن تصبو بمبتذل ... على تسنمك العلياء من صغر أمسك عليك وحاذر من إخاء فتى ... قميصه مذ نشا ينقد من دبر وكتب إليه أيضاً الماهر الأديب، والذكي الأريب، طه بن عرفه مقرظاً على ديوانه بيتين في غاية الحسن: لك لفظ كأنه الدر نظما ... صدف القلب عن سواه منيا لو تجلى منه الجمال الإناثي ... لترضاك للفؤاد صفيا ومن شعره رحمه الله تعالى: نار الخليل إذا بدت في مهجتي ... ورشفت ذاك الثغر برد حرها توفي رحمه الله تعالى في غره شعبان سنة خمس ومائتين وألف. محمد أفندي بن سليمان أفندي بن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي جمليان المصري قال الجبرتي: الصنو الوجيه والفريد النبيه نشأ في عفة وصلاح وخير، وطلب العلم وعانى الجزئيات والرياضيات، ولازم الشيخ حسن الجبرتي وقرأ عليه كثيراً من الحسابيات والفلكيات والهيئة والتقويم، ومهر في ذلك وانتظم في عداد أرباب المعارف، واشترى كتباً كثيرة في الفن، واستكتب وكتب بخطه الحسن، واقتنى الآلات والمستظرفات، وحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1383 وقوم الدساتير السنوية عشرة أعوام مستقبلة بأهلتها وتواريخها وتواقيعها، ورسم كثيراً من الآلات الغريبة والمنحرفات، وكان شغله وحسابه في غاية الضبط والصحة والحسن. وكان لطيف الذات مهذب الأخلاق قليل الإدعاء جميل الصحبة، وقوراً. مات بالطاعون في شعبان سنة خمس ومائتين وألف وتبددت كتبه وآلاته. الشيخ السيد محمد أبو العرفان بن علي الصبان الشافعي الأشعري المصري الإمام الذي لمعت في أفق الفضل بوارقه، وروى أفئدة الواردين عذب شراب عرفانه ورائقه، لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان لها في مضمار الفضل السباق، العالم النحرير واللوذعي الشهير. ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون، واجتهد في طلب العلم وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره، فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم، وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد، وشرح المكودي على الألفية، وشرح الشيخ خالد على قواعد الإعراب، وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه، وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن بن داوود، وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها، وعلى الشيخ السيد البليدي صحيح مسلم وشرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على الرحبية ومعراج النجم الغيطي وشرح الخزرجية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1384 لشيخ الإسلام، وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة وشرح الشريف الحسيني على هداية الحكمة قال: وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به، وقرأت فيه رسائل عديدة، وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملا مسكين على الكنز، وعلى الشيخ عطية الأجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لأكثره، وشرج جمع الجوامع للمحلى، وشرح التلخيص الصغير للسعد، وشرح الأشموني على الألفية وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية وشرح أم البراهين للحفصي وشرح الأجرومية لريحان آغا، وعلى الشيخ علي العدوي مختصر السعد على التلخيص وشرح القطب على الشمسية وشرح شيخ الإسلام على ألفية مصطلح الحديث بقراءته لأكثره وشرح ابن عبد الحق على البسملة لشيخ الإسلام ومتن الحكم لابن عطاء الله، رحمهم الله تعالى أجمعين. قال: وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي وقد لازمته المدة الطويلة وانتفعت بمدده ظاهراً وباطناً، قال: وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا، سقانا الله من رحيق شرابهم كؤوس الصفا، عن ثمرة رياض خلفهم ونتيجة أنوار شرفهم، مربح الأكابر والأصاغر ومطمح أنظار أولي الأبصار والبصائر، أبي الأنوار محمد السادات بن وفاء، نفحنا الله وإياه بنفحات جده المصطفى، وهو الذي كناني على طريقة أسلافه بأبي العرفان، وكتب لي سنده عن خاله السيد شمس الدين أبي الإشراق، عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق، عن أخيه السيد أبي الإرشاد يوسف، عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب، عن ولد عمه السيد يحيى أبي اللطف، إلى آخر السند هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى. ولم يزل المترجم يخدم العلم ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1385 العقلية والنقلية، وقرأ الكتب المعتبرة في حياة أشياخه، وربى التلاميذ، واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل، وشاع ذكره وفضله بين العلماء بمصر والشام، وكان خصيصاً بالمرحوم الشيخ حسن الجبرتي والد صاحب التاريخ، اجتمع به من سنة سبعين ومائة وألف، ولم يزل ملازماً له مع الجماعة ليلاً ونهاراً. واكتسب من أخلافه ولطائفه، وكذلك بعد وفاته لم يزل على حبه ومودته مع ولده الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وانضوى إلى أستاذنا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية، وأشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره. ومن تآليفه حاشيه على الاشموني التي سارت بها الركبان، يشهد بدقتها أهل الفضائل والعرفان، وحاشية على شرح العصام على السمرقندية، وحاشية على شرح الملوي على السلم، ورسالة في علم البيان، ورسالة عظيمة في آل البيت ومنظومة في علم العروض وشرحها، ونظم أسماء أهل بدر، وحاشية على آداب البحث، ومنظومة في مصطلح الحديث ستمائة بيت، ومثلثات في اللغة، ورسالة في الهيئة، وحاشية على السعد في المعاني والبيان، ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى، ورسالة في مفعل، ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم وله في النثر كعب على، وفي الشعر كأس ملي، فمن نظمه في مدح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا، ويستعطف خاطره عليه بتقصير وانقطاع وقعا منه قوله: عبيد جنى ذنباً ورحب الحمى حلا ... فهل من رضا عنه تجود به فضلا إليك أبا الأنوار قد أبت مخلصاً ... ومن ذا الذي يا سيدي قط مازلا أعيذك أن يسعى لبابك عائذ ... وتكسوه من أجل ذنب له ذلا أعيذك أن ترضى حقارة لائذ ... لسالف جرم تاب منه وإن جلا إذا أنت بالغفران والصفح لم تجد ... فمن منه نرجو العفو والصفو والبذلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1386 وكيف وأنت الصدر من سادة حووا ... مكارم الأخلاق العلا ما طووا إلا ومن معشر هم نسل أشرف مرسل ... دعا لجميل الصفح أكرم بهم نسلا أولئك آل المصطفى وبنو الوفا ... كنوز الصفا مزن العطاء الذي انهلا وهم بركات الكون شرقاً ومغربا ... وغوث اللهافى والهداة لمن ضلا بهم عند أستاذ الوجود توسلي ... ومن أم سادات الوفا لم يخب أصلا هو المقصد الأسنى لمن كان آملا ... هو المنهل الأصفى لمن كان مغتلا هو الكعبة العظمى لحج أولي النهى ... فمن بيته يدخل يكن آمناً جذلا أجل بني الدنيا وأبهرهم سنا ... وأبهجهم سمتاً وأشرفهم أصلا وأمضاهم عزماً وأبسطهم يدا ... وأوفرهم حزماً وأوسعهم عقلا وأثبتهم قلباً وأكملهم تقى ... وأبلغهم نطقاً وأفضلهم نبلا غزير المزايا طيب الجسم خير من ... حططنا بوادي حيه الأقدس الرحلا همام له ألقى الزمان سلاحه ... وأمسى له دون الورى تبعاً كلا جواد إذا هلت سماء سماحه ... على ما حل أضحى كان لم ير المحلا لحا الله أوقاتاً ببعدي تصرمت ... أبيت ولي قلب بنار النوى يصلى وأقوام سوء دينهم رفض دينهم ... وديدنهم شحن الصدود بما يقلى إذا ما دعوا للخير صموا وإن دعوا ... لسيئة مدوا لسانا يداً رجلا ولله أيام بها كنت أجتني ... ثمار الرضا والحظ مجتمع شملا وأنظم في روضات أنسي بوده ... لآلئ مدح بين منثورها تجلى اسود أشعاري بسؤدد ذكره ... وأرجع مبيض المحيا بما أولى فيا ليت شعري هل يعود لي الهنا ... وأحظى بآمالي وأطرح الثقلا ويا واحد الأعصار لا عصره فقط ... ويا ملكاً مثواه في الفلك الأعلا أأجفى ولي ود مديد المدى ولي ... إليك انتماء ليس يبلى وإن أبلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1387 أأجفى ولي في ذا الجناب مدائح ... على مدد الزمان آياتها تتلى وما زهر روض صافحته يد الصبا ... وهادت بريا نثره الوعر والسهلا وغنت على أفنائه ساجعاته ... فنوناً من الألحان تسترق العقلا وسطرت الأنداء في ورقاته ... أحاديث في الأشجان عن ورقة ثملى بأبهج من شعر مدحتك طيه ... وحاشا للفظ أنت معناه أن يعلى لقد قلت قولي ذا واعلم أنه ... إذا لم يكن حظ يضيع وإن جلا على أن حظي أن يعود رضاك لي ... وإقبالك الشافي لمن كان معتلا ولا شافعاً لي غير حلمك سيدي ... وأسلافك السادات أسنى الورى فضلا سملت وما لاقت عداك سلامة ... وطبت ونال الحاسد الخزي والذلا ودمت كما ترضى لشانيك غيظه ... وللخل جود من ندى دائم وبلا على جدك الهادي صلاة إلهه ... وتسليمه ما عين استحسنت شكلا وآل وصحب ما ترنح بالصبا ... معاطف أغصان وما هيجت خلا وله قصائد شتى، ومراث وتهنئات بأعياد وغيرها، ومن قوله مهنئاً جناب الشيخ حسن الجبرتي في غلام، سنة أربع وسبعين ومائة وألف: نهنيك بالنجل السعيد الذي بدا ... من الغيب بالأفراح والسعد والندى أتاك فغنى بالهنا بلبل الرضا ... وقام على غصن المسرات منشدا وأشرق من أفق العلا كوكب المنى ... فأمسى ببشراك الزمان مغردا فطب سيدي نفساً بما ترتجي له ... وقر عيوناً بالذي يكمد العدا فإن لسان المجد قال مؤرخاً ... نهنيك بالنجل السعيد الذي بدا وله أيضاً قصائد غراء في مدح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا، مذكورة في المدائح الأنوارية، ومن كلامه تهنئته للأجل الشيخ أبي الفوز إبراهيم السندوبي تابع السيد المشار إليه بقدومه من سفره: بروحي حبيباً في محاسنه بدا ... فخرت له أهل المحاسن سجدا وراح يثنيه مدام دلاله ... فخلناه من راح الدنان تميدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1388 ومر بنا في عسكر من جماله ... فقطع أحشاء وفتت أكبدا مليح أعار النيرين سناهما ... وعلم غصن البان كيف تأودا وشاكي سلاح يرهب الأسد لحظه ... ويرعب خطي القنا والمهندا وحلوا إذا ما افتر باسم ثغره ... أرانا عقيقاً حف دراً منضدا كسا الله خديه من الورد حلة ... وأسكن في فيه الزلال المبردا نسيم وغصن رقة ورشاقة ... وأما شذا فالروض كلله الندى فسبحان من سواه للناس فتنة ... وصوره في دولة الحسن مفردا شغفت به قدماً ولذ هواه لي ... على رغم غمر لامني فيه واعتدى وفي حبه أنفقت عمري جميعه ... ولم أخش في شرع الصبابة ملحدا ولم ينسني ذكراه شيء سولا علا ... أبي الفوز إبراهيم شمس ذوي الهدى إمام له في كل مجد وسؤدد ... مآثر لا تسطيع إنكارها العدا ومولى أجل الله في الناس قدره ... وتوجه تاج القبول وأيدا ونابغة دراكة من بيانه ... وآرائه المعروفة السحر والهدى جواد له بذل الجزيل سجية ... وبحر ندى عن موجه يؤخذ الندى تسير له قبل الجسوم قلوبنا ... فلا تنثني إلا وعتها انجلى الصدى يمازج عز المجد منع تواضع ... ولطف به فيه نسيم الصبا أفندي إليه انتهى جمع الفضائل سالماً ... فأصبح للأقران مولى وسيدا ولا غرو عن حاز الكمال جميعه ... فمن يتبع السادات يزداد سؤددا ومن لأبي الأنوار أستاذنا انتمى ... ينال من الآمال ما كان أبعدا هو السيد السامي على أهل عصره ... هو السند الحامي إذا عدت العدا هو الجوهر الفرد الذي بوجوده ... تجدد إيوان العلا وتشيدا هو المقصد الأسنى لمن كان آملاً ... هو المنهل الأصفى لمن كان ذا صدى هو المورد المقصود من كل وجهة ... هو الشرف النامي على عدد المدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1389 محط رحال العارفين وقطبهم ... وكعبة أهل الفضل حالاً ومبتدا همام حباه الله كل حميدة ... فأصبح بين العالمين محمدا وأورثه مولاه شامخ رتبة ... لآبائه آل الوفا أبحر الندى مصابيح مصر بل صباح الوجود بل ... حياة الورى أزكى البرية محتدا كنوز المعاني والحقائق والتقى ... شموس سموات الولاية والهدى خلاصة آل المصطفى ولبابهم ... وسر بني الزهراء بضعة أحمدا هم بركات الكون شرقاً ومغربا ... هم ملجأ العاني إذا خطب اعتدى هم القوم لا ينقاس غيرهم بهم ... ومن ذا بسادات يقايس أعبدا إذا أطلق السادات كانوا بني الوفا ... فيا حبذا فخراً صميماً وسؤددا أبا الفوز خذها بالقبول تكرما ... وإن كنت كالمهدي إلى الكنز عسجدا وقابل بحسن العفو سوء قصورها ... فذنب المحب العفو عنه تأكدا على خير رسل الله خير صلاته ... وتسليمه ما شارق غاب أو بدا وآل وأصحاب وكل متابع ... لمنهاجهم ما ناح طير وغردا وما المخلص الصبان قال مؤرخا ... أبو الفوز بشراه السرور مؤبدا وله في ديباجة سلام يا نسيم الصبا تحمل سلامي ... لحبيب به شفاء سقامي وإليه بلغ تحية صب ... مستهام ما خان عهد الغرام لم يكن ناسياً وداداً قديما ... لا ولا سامعاً ملام لئام ذو اشتياق إلى لقاء محب ... فاق نوراً على بدور التمام وجه مولى حاز المحاسن طراً ... فهو شمس الكمال بين الأنام وله أيضاً ترحلتم عنا وشطت دياركم ... وبدلتمونا بالصفا غاية الكدر وأعدى علينا الشوق جيش خطوبه ... وأصبح حزب الصبر ليس له أثر فإن تسألوا عنا فإنا لبعدكم ... كجسم بلا روح وعين بلا بصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1390 ولولا رجاء النفس لقيا حبيبها ... لما بقيت منا معان ولا صور وله متغزلاً وحق صبح المحيا مع دجى الشعر ... وجنة الخلد مع راح اللمى العطر ومقلة بفنون السحر قد كحلت ... وقامة رشحتها خمرة الخفر وعرف عنبر خال وابتسام فم ... من اليواقيت عن ثغر من الدرر ما غير البعد عهدي في الغرام ولا ... نسيت وداً مضى في سالف العصر لي في المحبة شرع غير منتسخ ... ومذهب في التصابي غير مندثر إن كنت ملت إلى السلوان يا أملي ... فلا تمتعت من خديك بالنظر كيف السلو وأنت الروح في جسدي ... والعقل في خلدي والنور في بصري كيف السلو لظبي ما نظرت له ... إلا رأيت شقيق الشمس والقمر غصن من البان قد رقت شمائله ... ورق في حبه ذو البدر والحضر بديع سحن يقول الناظرون له ... تبارك الله ما هذا من البشر إلى محاسنه تصبو العقول وفي ... هواه يحلو مرير السقم والضجر شاكي السلاح شديد البأس ذو مقل ... تعد أسهمها في أسهم القدر ريم ولكن تخاف الأسد سطوته ... وكل أهل الهوى منه على خطر يغزو النفوس بجيش من لواحظه ... وعسكر من جمال غير مقتدر محاسن حار فيها لب ناظرها ... وفتنة دهشت منها ذوو الفكر كأنما ذاته في لطفها خلقت ... من نفثة السحر أو من نسمة السحر يغنيك عن كل ذي حسن محاسنه ... ومن يرى العين يستغني عن الأثر أفديه من رشأ ما مثله أحد ... عدمت في حبه حلمي ومصطبري أطال هجري بلا ذنب أتيت به ... وساءني بعد صفو الود بالكدر أصغى إلى قول أعدائي وشمتهم ... مع أن قول الأعادي غير معتبر يا أحمد الفعل إلا في تقلبه ... دع التقلب واجبر قلب منكسر وأحي بالوصل نفساً فيك ميتة ... وأبر بالود جسماً من جفاك بري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1391 يا من هو الآية الكبرى لناظره ... رفقاً بصب غدا من أكبر العبر تكاد تحرقه نيران مهجته ... لولا سخاء سحاب الجفن بالمطر إن كان عندك شك أنني دنف ... فسل دموعي وسل سقمي وسل سهري وله أيضاً أهابك أن أجيبك لا لعجز ... ولكن المحبة أخرستني وأحتمل المكاره لا لذل ... ولكن الصبابة أحوجتني وقدري لست تجهله ولكن ... غرامي باعني لك بيع غبن فكن يا ابن الأكابر أهل عرف ... ولا تكثر علي من التجني فلي جسم كساه الشوق سقماً ... ولي قلب علاه كل حزن ولي في مذهب العشاق حال ... يطول بذكرها شرحي ومتني وله غير ذلك كثير، وفضله وعلاه شهير، وكان في مبتدأ أمره وعنفوان شبابه وعمره، معانقاً للخمول والإملاق متكلاً على مولاه الرزاق، يستجدي مع العفة، ويستدر من غير كفة، وتنزل أياماً في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم ترك ذلك. ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضاً في وظيفة توقيتها وعمر له مكاناً بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلاً صغيراً بحارة الشنواني وسكن به، ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططرزاده وكان متضلعاً من العلوم والمعارف، وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناحي واجتمعا به، أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما، وكذلك سليمان أفندي الرئيس، فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله، وتزين بالملابس وركب البغال، وتعرف أيضاً بإسماعيل كتخدا حسن باشا، وتردد إليه قبل ولايته، فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1392 بالضربخانة والجزية، وخرجاً من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوي وفراء، وأقبلت عليه الدنيا، وازداد وجاهة وشهرة، وعمل فرحاً وزوج ابنه سيدي علي فأقبل الناس عليه بالهدايا وسعوا لدعوته، وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة، وألبس ابنه فروة يوم الزفاف، وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادئ ظهور الطاعون، فتوعك الشيخ المترجم بالسعال وقصبة الرئة، حتى دعاه داعي الأنام، وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة ست ومائتين وألف، وصلي عليه بالأزهر وكان محفل جنازته مجمع الأفاضل: مضت الدهور وما أتين بمثله ... ولئن أتى لعجزن عن نظرائه ودفن بالبستان رحمه الله تعالى، انتهى من كلام الجبرتي مع بعض تغيير. محمد خليل أبو المودة بن السيد العارف علي بن السيد محمد بن القطب السيد محمد مراد المعروف بالمرادي ابن علي الحسيني الحنفي الدمشقي مفتي دمشق الشام أعاد الله علينا من بركاتهم: الإمام السيد السند، والهمام الفهامة المعتمد، فريد عصره ووحيد شامه ومصره، الوارد من زلال المعارف، الصاعد لأعلى ذروة العوارف، نبعة صافيها ومبتدأ معينها، المؤيد بأحكام شريعة جده حتى أبان صبح يقينها، من بيت العلم والجلالة والسيادة، والعز والرياسة والسعادة، ولا ريب أنه كان شامة الشام، وغرة الليالي والأيام، أورق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1393 عوده بالشام وأثمر، ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض أزهر، وقرأ القرآن على الشيخ سليمان الدبركي المصري، وطالع في العلوم والأدبيات واللغة التركية والإنشاء والتوقيع، ومهر وأنجب واجتمعت فيه أشتات الفضائل ومتفرقات الشمائل، مع لطيف خلق يسعى لينظر إليه، ورقيق جمال يقف الكمال متحيراً لديه. ولما توفي والده المرحوم آل إليه إفتاء الحنفية في الديار الدمشقية، ونقابة الأشراف، واشتهر بين الخاص والعام بحسن الأوصاف، واستوى على العلوم العقلية والنقلية، وملك بنقد ذهنه جواهر المعارف والعوارف السنية، فكانت تتيه على سائر البقاع به بقاع الشام، ويفتخر به عصره على بقية الأعصار والأعوام، فلا تزال تصدح ورق الفصاحة في ناديه، وتسرح إليه وفود روام البلاغة فتباكره وتغاديه، ونور فضله باد، وموائده ممدودة لكل حاضر وباد، كما قيل: كالشمس في أفق السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا وكان رحمه الله تعالى مغرماً بصيد الشوارد، وقيد الأوابد، واستعلام الأخبار وجمع الآثار، وتراجم العصريين، على طريق المؤرخين. وكان يراسل فضلاء البلدان البعيدة، ويواصلهم بالهدايا والرغائب العديدة، ويلتمس من كل منهم تراجم أهل بلاده، وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر بحسب وسع همته واجتهاده. إلى أن بلغ مطلوبه وحصل مرغوبه، ورقم ما رام فجاء بحمد الله على أتم مرام، وسماه سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. وله أيضاً كتاب عظيم أرخ فيه المفتين في دمشق من أيام السلطان سليم، وسماه: عرف البشام فيمن ولي فتوى دمشق الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1394 وقد ختمه بترجمة ذاته، فأحببت ذكرها بلفظها لدلالتها على رفيع مقامه وصفاته، فقال رحمه الله تعالى: لا مزية فتذكر ولا محمدة فتشكر، ولا فضل فيقال، وليست عثرة واحدة فتقال، ولا سيئة واحدة فتغفر، وليس سهم واحد من المعائب يرده من الإغضاء مغفر، ولا طيب خلق ولا جمال، يوضح بيانه بالتفصيل والإجمال، ولا جملة كمالات، ولا محاسن كلمات، يشهد به البادي والحاضر والسامع والناظر، ولا فضائل ولا معارف، تنقدها بيد الإختبار من الأذكياء الصيارف، ولا فواضل ولا أدب ينسل إليه من كل حدب، ولا سماحة بنان وحماسة جنان، ولطافة بيان وعذوبة لسان، يعترف بها كل ماسان، ويقر لها كل إنسان، وتتشنف بسماعها الأذهان، ويرويها فم كل زمان في كل آن. وقد اقترفت الذنوب، وارتكبت العيوب، وغدوت منها ملآن الذنوب، واغترفت الإساءة، واغترفت بالبطالة ورفضت الأصدقا، وجانبت الأودا، وخبطت خبط عشوا، وكنت كخاطب في الليلة الظلما، ووصفت فما أنصفت، وأطلت الكلام وما أفدت، وجنحت للأماني، وتبعت في الأفعال زماني، ونصبت الآمال الكواذب، أشراك الرغبات والمطالب، وجهلت الكريم وعرفت الوضيع، وسامرت الوغد وتركت الرفيع، وجبت الجهل وسلكت حزنه والسهل، وصرفت أوقاتي للإضاعة فقلت البضاعة، وتبعت الأهواء النفسية، وفعلت في أيام شيخوختي أفعال الطفولية، لا أميز الخسيف من الشريف، ولا الربيع من الخريف، ولا الفاضل من المفضول، ولا الناقل من المنقول، ولا الأفيال من الأقيال، ولا الجهد من الجهر، ولا الجمر من الخمر، ولا الحبر من الحبر، ولا الجبر من الجبر، ولا القضا من الفضا، ولا العلا من الغلا، ولا النهار من البهار، ولا الأشجار من الأسحار، ولا العرار من الغرار، ولا الحلال من الخلال، ولا الحمار من الخمار ولا الملاح من الملاح، ولا الصبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1395 من الصباح، ولا الريا من الرياح، ولا النوى من النواح، ولا الفلا من الفلاح، ولا السما من السماح، ولا القرا من القراح، ولا الربا من الرباح، ولا العقار من العقار، ولا بوح من نوح، ولا الخد من الحد، ولا الجد من الجد، ولا الوجد من الوخد، ولا الشمع من السمع، ولا قابوس من فانوس، ولا الشاعر من المشاعر، ولا القاضي من القاصي، ولا الضد من الصد، ولا الحامد من الجامد، ولا الصائغ من الصانع، ولا الناظر من الباصر، ولا الصابر من الصائر، ولا الجابر من الحاير، ولا المعنى من المغنى، ولا القاصي من القاصر، ولا الزاهي من الزاهر، ولا الوافي من الوافر، ولا الهاجي من الهاجر، ولا الهامي من الهامر، ولا الآمي من الآمر، ولا الراسي من الراسخ، ولا الناسي من الناسخ، ولا الساري من السارق، ولا العالي من العالم، ولا الشاكي من الشاكر، ولا الصابي من الصابر، ولا السالي من السالك. فكيف أترجم ويذكر حالي المبهم المعجم، وأنعت بمقال وكلام، وتجري بخصوصي مياه الأقلام، ويقال عني مادح نفسه يقريك السلام، وانخرط في سلك من ذكرته، وسمط من وضعته ونشرته، وأصف نفسي لشيء يمحضه التكذيب، وأنشئ مقالاً يصير هدفاً للتعريض والتأنيب، ولا يخفى أن الجهل شلل في يد الرياسة، آفة في رجل الرجولية، صمم في سمع الأريحية، قذى في عين المروءة، بخر في فم الفتوة، فلج في سن السيادة، لكنه في لسان الشهامة، بهق في وجه السعادة، صداع في رأس الكياسة، علة في جسم المعالي، مرض قي قلب المجد والفضل، قوة في قلب السيادة، متانة في يد الفتوة، ابتسام في فم الشهامة، جلاء في عين المعالي، وضاءة في وجه الكياسة والرياسة، فصاحة في لسان السعادة، صحة في جسم الدولة، ونعمة مغبوطة ومنحة بها المفاخر مربوطة، فيا ليتني ارعويت، وما تصديت وادعيت، ولكني وإن كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1396 الموصوف بهذه الأوصاف المذكورة، والنعوت الغير المحمودة والمشكورة، فأفتخر بجدي وأبي، وبنجاري ونسبي، لا بأدبي ونشبي، فرونق الأخلاف بالأسلاف، وإن طابت تربة الكرم تحسن السلاف، والذنب اختلاجه بسلامة الرأس، والبناء لا يقوم إلا بالأساس، والأفق الصافي لا يطلع إلا زهرا، والتربة الطيبة لا تنبت إلا زهرا، وبصحو الجو بصحو النهار، ومتى عذبت العيون تصفو الأنهار: شمس كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا وناهيك بهذا البيت، الخالي عن لو النقائص والليت، فقد خرج منه رجال وأي رجال، يضيق عن حصر أوصافهم كل مجال، خضعت لهم من الأقيال شم الأنوف والمعاطس، وتناولوا من المعالي والمفاخر ما لا تلامسه كف ملامس، أضاء بدر علاهم وأشرق، ونجم نجم هداهم وتألق، إن حرروا حرروا رقاب المعاني، وإن حبروا ذلت لهم أعناق المباني، فمآثرهم حسنات ظاهرة، وأنفاسهم زكية طاهرة، فكم سفر أودعوه حكماً نبوية، وكم من علم حققوا دقائقه اللفظية والمعنوية، لم تخل أناتهم برهة عن طاعة، ولا عن اجتهاد فوق الاستطاعة، رجال لا تلهيهم تجارة، ولا تفي بوصف محاسنهم عبارة، ولا يشق أحد لأحد منهم غباره، أحاطوا بالفضل إحاطة الهالة بالبدر، وافتخر بهم المجد افتخار الليالي بليلة القدر: قوم إذا ذكروا لم تلق بينهم ... إلا هماماً تردى المجد واتزرا صيد غطارفة غر لبابهم ... تأوي الصناديد والحكام والوزرا إلى أن قال: وأما إيضاح حالي في إقامتي وترحالي، وذكر شيوخي والأساتذة، ومن تخرجت عليه بالفنون من الجهابذة، وتقلباتي مع الدهر في كل آن وشهر، وذكر تلاعب الأيام بي، وصرفي لردع بوائقها اجتهادي وتعبي، وذكر ما وليت من المناصب العالية، والرتب الشامخة السامية، وما حباني الله به من النعم والدولة، والحشمة والجاه والصولة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1397 ومؤلفاتي وآثاري، ونظامي ونثاري، وذكر من نظمتني وإياه أيدي الأقدار، في هذه الدار وغيرها من الأجلاء أولي الفضل والمقدار، وما وقع لي وجرى بالإرادة الإلهية، والحكمة الأزلية، فقد يطول ذكره هنا ويتعذر، ويصعب بيانه وشرحه ويتعسر. وقد ذكرت جميع ذلك في سفر مطول، وأوضحت أمري به فهو عليه المعول، ولما عزل ابن العم عبد الله بن الطاهر من فتوى دمشق الشام، وبقيت البلدة خالية عمن يصونها، ومفتقرة لمن يحرس رباعها وحصونها، ويتولى أمرها، ويطفئ برأيه من البوائق المدلهمة جمرها، وينشر مسائلها، وينقح رسائلها، ويتصدر في دستها السامي الأركان ويتصدى لحل مشكلاتها حسن الإمكان، كنت في قسطنطينية فوليت هذا المنصب بعده برأي رجالها ورؤساء الدولة، وكان مفتيها الحلاحل الغطريف، شيخ الإسلام محمد شريف، وهو العلامة والبحر الزخار، وطود الفضائل والفخار، لا برح السعد يراوح ناديه، وتزاحم القلانس والتيجان على لثم بابه وأياديه، فقد أحلني مكان بنيه، ومن يحنو عليه ويدنيه: وألبسني ثوب المكارم معلماً ... وتوجني من فضله وكساني وكانت توليتي للمنصب المذكور من طرف الدولة في اليوم السابع من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف، وأنا حينئذ في البلد المذكورة قسطنطينية دار السلطنة العلية، صانها الله من كل آفة وبلية، ثم قدمت مفتياً لبلدتي دمشق ذات النيربين والشرف، التي أكرمها الله تعالى بالبركة والشرف، وأنخت ببقاعها من المسير المطايا وأنا متوكل على مجزل العطايا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1398 وغافر الذنب والخطايا، ورجوته ودعوته أن يوفقني في هذا الأمر لما يرضاه، ويداركني باللطف فيما قدره وقضاه، إنه خير مجيب لمن دعاه، وأكرم مسؤول لمن رجاه ووعاه، لأني لست من هذه الحمائم، ولا قطرة تلك الغمائم، ولا من نور هذه الكمائم، ولا من درر تلك الأسلاك، ودراري هذه الأفلاك، ولكني أقول متمثلاً بقول من يقول: لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اضمحلت ... وصوح نبتها رعي الهشيم وقد أثبت هنا من أشعاري، التي نسجتها يد أفكاري، نبذة حربة بالمحو، لا يستر عوارها إلا الإغضاء والعفو، عارية عن الجزالة والحلاوة، خالية عن البلاغة والطلاوة، فمن ذلك قولي مفتخراً وأنا في الروم: أما نحن أبناء السراة الأكاسر ... لنا في الندى والحلم جم المآثر نجود بما نحوى ونعفو عن السوى ... ونصفح عن زلات باغ وقاصر ونحن أناس لا يغير عهدنا ... تغلب محتال وصولة فاجر نعف متى نقوى ونغضي تكرما ... ونظهر في الحالين ما في السرائر وآباؤنا صيد غطارفة لهم ... جلابيب مجد نسجها بالمفاخر هم القوم سادوا منذ شادوا دعائماً ... من العز منها الركن ليس بدائر فلا يجد الملهوف غير مقامهم ... إذا اشتد خطب أو بدا جور جائر أزاحوا من العدوان ليلاً لقد دجى ... بصبح من الإيمان أسفر ظاهر فكم أشهروا يوم الوطيس مهنداً ... يحز نجوداً سترت بالمغافر فوارس في الهيجا متى طرفا امتطوا ... رؤوس العدى تلقاها تحت الحوافر وإن جردوا عضباً وهزوا أسنة ... ترى في الوغى يبدو انهزام العساكر وليدهم يردي الكماة إذا انتحى ... يذل له خوفاً أشد القساور وليس خضاب في أنامله بدا ... ولكنه بالبطش دامي الأظافر فلم يلف في نعمائهم غير حامد ... ولم يبق في الدنيا لهم غير شاكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1399 ففي دستهم أقيال قوم أجلة ... وفي أفق العلياء هم كالزواهر وآياتهم جل المصاقع لم تزل ... ترددها للناس فوق المنابر متى أمّ من أم القرى وافد قرا ... سطور القرى والجود غب البشائر أو اجتازهم راج سماحة جودهم ... رأى لطف مفضال وهمة ناصر وفي الشام ما شام الغريب ببابهم ... أذى حاجب وغد وسطوة ناهر بهم جلق والروم تسمو وتزدهي ... ولم يبق ذكر فيهما للأواخر فيا روم هل تبغين بعد فراقهم ... كراماً ويا ذي الشام غيرك فاخري وفي الروم قسطنطينة تبتغيهم ... وجلق تبغيهم هما كالضرائر فأي مكان ضمهم كان موئلاً ... يضم قروماً من خيار أكابر فلو حاتم أدى المكارم حقها ... وشاهدهم أضحى كنادم حائر وفي صمم أذن المناصب بعدهم ... وقد عميت حزناً عيون المفاخر فغيثاً لقفر الفقر يهمع جودهم ... وناديهم مأوى لعائذ زائر وإني وإن شط المزار وأبعدت ... منازل من أهوى وكدر خاطري أخو همة قعسا يؤم ومؤتسى ... وفرع لأصل بالشرافة طاهر ولست بمغبون إذا سر حاسدي ... وصرت قطيناً في نوادي الأصاغر وإني امرؤ ما ذل يوماً لماجد ... ولا هاب آلاف الأسود الخوادر ولم يخش دهراً قد أعز أذلة ... وما راعه إلا عيون الجآذر لها موقع في القلب أنى له دوا ... فوا عجباً من جرح أحور فاتر ولا يشتكي ضيم الخطوب وإن دهت ... ويشكو صدوداً من نفور وهاجر فقل لفخور يحسب المجد هينا ... ويظهر أرفاداً لباد وحاضر أتبغي منالاً يشمخر اعتلاؤه ... ويسمو وأنت اليوم ليس بقادر أأنت ابن من لولاه لم يك كائن ... وأول مخلوق وآخر آخر أأنت ابن من فيه العوالم تزدهي ... ولم يبق في إرساله شرك كافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1400 أأنت ابن من في الحشر يرجى ومن أضا ... به الكون لما كان مثل الدياجر إليه انتمائي وانتسابي فعلني ... أفوز بعفو شامل لي وساتر وليس قريضي محصياً لشمائل ... حواها وعن ذا ضاق صدر الدفاتر عليه صلاة الله ثم سلامه ... وآل وأصحاب كرام أكابر مدى الدهر ما اشتاق الغريب لألفه ... وهبت جنوب في رياض أزاهر وقال رحمه الله أدر ذكره أن الفؤاد لذو ضنى ... وإن له ذكر الرسول شفاء وروح نفوس العاشقين بنعته ... ففيه لداء العاشقين دواء وقال يا رب إن ذنوبي ... كثيرة ليس تحصر وفيك كل يقيني ... بأن عفوك أكثر وقال إذا ما دهتك صروف الزمان ... ووافاك منه سقام وخطب فداوم على الصبر تلقى المرام ... وفيه مع الفوز للداء طب وقال رضي الله عنه مشطراً أبيات ابن عبد ربه ودعتني بزفرة واعتناق ... وأثارت لواعج الأشواق وتهادت عند الفراق عشيا ... ثم قالت متى يكون التلاقي وبدت لي فأشرق الوجه منها ... يتسامى بزائد الإشراق وارتنى طلوع شمس وبدر ... بيت تلك النهود والأطواق يا سقيم الجفون من غير سقم ... قد فتكت القلوب بالإحداق فتنة لعاشقين أنت لهذا ... بين عينيك مصرع العشاق إن يوم الفراق أصعب يوم ... أورث القلب زائد الأحراق كل من في هواك عانٍ ينادي ... ليتني مت قبل يوم الفراق انتهى كلامه ملخصاً. وله ديوان شعر، ذو جمال وقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1401 ومن مكاتباته للسيد المرتضى الزبيدي رحمهما الله تعالى قوله كما ذكره الجبرتي: أحمد الله على كل حال، في حالتي المقام والترحال، وأصلي على نبيه وآله الطاهرين، وأصحابه السامين بالفضائل والفواضل والظاهرين، وأهدي السلام العاطر، الذي هو كنفح الروض باكره السحاب الماطر، والتجايا المتأرجة النفحات، الساطعة اللمحات، النافحة الشميم الناشئة من خالص الصميم، وأبدى الشوق الكامن وأبثه، وأسوق ركب الغرام وأحثه، إلى الحضرة التي هي مهب نسائم العرفان والتحقيق، ومصب مزن الإتقان والتدقيق، ومطلع شمس الإفادة والتحرير، ومنبع مياه البلاغة والتقرير، وموئل العائذ، ومطمح اللائذ، وكعبة الطائف، ومنتدى التحف واللطائف، ومجمع مجرى العمل والعلم، وملتقى أنهر الملاطفة والرأفة والحلم، وروض المكارم الوريق الوارف، وحوض العوارف والمعارف، المنهل الصافي، والظل السابغ الضافي، صانها الله من البوائق وحماها، وحرس من الخطب الفادح حماها، ولا برح السعد مخيماً في رباعها، واليمن والأمن مقيمين في بقاعها، هذا وإن عطف مولانا الأستاذ عنان الاستفسار والاستخبار عن حليف آثاره، وأليف نظامه ونثاره، وسمير تذكاره، في ليله ونهاره، والمشتاق لمرآه، والواله بهواه، والمقيم على عهده، والمتمسك بوثيق وده، والمتمسك بعرف نده، والصانع عقود تمداحه، في مسائه وصباحه، فهو بمنه تعالى رهين صحة وعافية، وقرين نعمة وآلاء وافية، يستأنس بأخبارك، ويتوقع ورود رسائلك وآثارك، وقد مضت مدة ولم يجر بين البين ماء محاورة ومراسلة، وأدى هذا الجدب لقحط غلال المواصلة، وعلى كل حال فالقصور من الجانبين، واعتقاد ذلك يحسم مادة العتاب بين المحبين، ثم الباعث لتحرير الأسطار، ونميقة الاعتذار، وإجراء فيض النفس المدرار، تنفقد الأحوال، واستدعاء المراسلة ببليغ تلك الأقوال، وللشغل الشاغل، الذي ما تحته طائل، اقتضى تأخير المراسلة لهذا الحين، والتقصي من الجواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1402 عن استنشاق أوراد ورياحين، والله يشهد أن غالب الأوقات، ذكراك نقل وأقوات، وقلبك شاهد على ما أقول، وحجة المحبة ثابتة بأقوى دليل ونقول. ولقد كنت حرضت الأستاذ لا برح وجوده للسائل نفعا، والدهر لما يقول مجيباً سمعاً، لجمع تراجم المصريين والحجازيين، ومن للأستاذ الوقوف على ترجمته وحاله من أهل الأمصار، من أبناء القرن الثاني عشر، ووعد حفظه الله بالإنجاز، ولسبب الشواغل الطارئة في هذه السنين الموجبة لتكدير الأفكار، ورخص أسعار الأشعار، وأخلاق برد الفضائل وذاك الشعار، أوجب قطع المراسلة وتأخير المطلوب والمأمول، ولم يفز المحب بمرام من ذلك ومسؤول، ولما كنت في الروم قبل ذلك العام، جرى ذكر الأستاذ لدى حضرة أحد رؤسائها الأجلة الصناديد القروم، فأطال بالمدح وأطنب، ثم جرى ذكر التاريخ وفقدانه في هذا الوقت وعدم الرغبة إليه من أبناء الدهر، مع أنه هو المادة العظمى في الفنون كلها، فتأوه تأوه حزين، وكان في مجلسه أحد الأفاضل المولعين باقتناص الأخبار، فقال إن الأستاذ أبا الفيض مرتضى بلغه الله مرامه، وقرن بالنجاح آماله وبالسعود أيامه، قد باشر تأليف تاريخ عظيم بإشارة هذا وأشار إلي، فقلت نعم قد كنت حرضت الأستاذ بجمع ذلك ولا أدري كيف فعل، هل أوقد الطروس تلك المصابيح والشعل، أم عاقه الزمن بأحواله، قال لا بل شعر الوزير الكبير المقتول إسماعيل باشا الرئيس وذكره في ترجمته، ثم إنه أطال على الأستاذ في الثناء، وأطال طرف المدح في حلبة ذلك المجلس إلى المساء، فسرني هذا الخبر الطارئ، من ذلك الرجل الإخباري، وطرت بأجنحة السرور والأماني، وقلت قد صافاني زماني، ولما عدت لبلدتي دمشق دامت معمورة، وبالخيرات مغمورة، وقعت بإشراك الشواغل المتبادرة، وتركت من الفنون كل نادرة، وحرصت على تدبير أمورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1403 خوف القال والقيل، وصرفت أوقاتي للإضاعة حتى في المقيل، وأروم من واهب النعم، ومسدي الخير ومسدل الكرم، أن يهبني لطفاً في مسعاي والأمور، وعوناً في نظام الجمهور، إنه خبير بصير، وإليه المصير. وكان هذا الشغل الشاغل سبباً أعظم لتأخير المراسلة، والاستخبار من الأستاذ عن إتمام التراجم وتحصيلها، والآن بادرت لنسخ هذه الأسجاع، بيد اليراع، وحررته عجلا، ورقمته خجلاً، فالمأمول تبييض مسودات التراجم، وإرسالها حتى تكمل بها مادة التاريخ، وبحسن توجهاتكم القلبية، مع هذه الأشغال الدنيوية، بلغ من التراجم نحو ثلاث مجلدات ضخام، ونحوها وزيادة باقية في المسودات، هذا ما عدا تراجم أبناء العصر وشعرائه الذين في الأحياء، ومن نظمتني وإياه الأقدار وامتدحني بنظام أو نثار، فتراجمهم وآثارهم مجموعة بمجلد آخر، وعلى كل حال فالأستاذ له الفضل التام، في هذا المقام، وإن شاء الله تعالى بآثاره يتم الكتاب على أحسن نسق ونظام، وجل القصد أن يكون هذا الأود المحب مشمولاً بالأدعية الصالحة، لتنطق بالثنا منه على كل جارحة، والمأمول ستر عواره المتبادر، والإغماض عما أظهره الفكر القاصر، والذهن الفاتر، وألقته أفواه المحابر، على صفحات الدفاتر، ولك الثناء العاطر، والسلام الوافر، والشوق المتكاثر، من القلب والخاطر، ما همى وادق، وذر شارق، وصدح يمام، وناح حمام، وسح ركام، وفاح خزام والسلام. وتاريخه في أواخر ربيع الثاني سنة مائتين وألف. انتهى كلام الرسالة قال الجبرتي رحمه الله تعالى وما أدري ما فعل الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1404 بتاريخه المذكور، لأنه انتقل المترجم بعد ذلك لأمور أوجبت رحلته منها إلى حلب الشهباء، كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومائتين وألف، وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب، وهصرت يد الردي يانع غصنه الرطيب، فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر، لا زال جدثه روضة من رياض الجنة، ولا برح مجرى الجداول الرحمة الرضوان. وذلك في أواخر صفر الخير سنة ست ومائتين وألف، مه هجرة مظهر الرحمة واللطف. محمد أبو عبد الله بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي المالكي الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر عالم المغرب قال العلامة الجبرتي ولد بفاس سنة ثمان وعشرين ومائة وألف، وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارح الاكتفاء والشفاء ولامية الزقاق وغيرها، والشهاب أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي، قرأ عليهما الموطأ وغيره، والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي، قرأ عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث، وكان في أكثرها هو القارئ بين يديه مدة مديدة، وأذن له في إقراء الصحيح في حياته فألقى دروساً بين يديه، وكان يوده ويسر به ويقدمه على سائر الطلبة. ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمس ومائة وألف بالطاعون، تزاحم ذوو الجاهات فيمن يلحده في قبره، فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره، وتلك كرامة له، ورضوا بذلك، قال: وكلمته يوماً في شأن الحج متمنياً له ذلك فقال لي مشيراً إلى شيخه عبد العزيز الدباغ أن الناس قالوا لي جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة، وأنت ستحج وأعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى، قال: ولم تكن نفسي تحدثني بالحج يومئذ ولم يخطر بالبال، ومن جملة مشايخ المترجم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1405 محمد بن قاسم جسوس، لازمه مدة وقرأ عليه كتباً، منها رسالة ابن أبي زيد، ومختصر خليل ثلاث مرات، مع مطالعة شروح وحواش، والحكم والشمائل وجميع الصحيح من غير فوت شيء منه، ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقاء يعيش ابن الزغاوي الشاوي، قرأ عليه طرفاً من الصحيح وغيره. توفي سنة خمسين ومائة وألف، كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة، فنزل به اللصوص ليلاً فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيداً رحمه الله تعالى، ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الأنام أبو العباس أحمد بن أحمد الشدادي الحسني، قرأ عليه المختصر الخليلي من أوله إلى الوديعة أو العارية، وسمع عليه بعض التفسير من أوله، ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق قرأ عليه رسالة بن أبي زيد والحكم، والتفسير من أوله إلى سورة النساء، ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو محمد عبد الله محمد بن جلون، قرأ عليه الآجرومية وختم عليه الألفية مرتين، والمختصر الخليلي من أوله إلى اليمين، ولم يكن له نظير في الضبط والإتقان والتحرير، وهو أول شيخ أخذ عليه وذلك قبل البلوغ، وكان إذا قام من درسه عرض على نفسه ما قاله فيجده لا يدع منه حرفاً واحداً، ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن الجندوز، قرأ عليه الألفية فكان يملي من حفظه في أثنائه الشروح والحواشي، وشروح الكافية والتسهيل والرضي والمغني والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب، وقرأ عليه السلم والتلخيص، ومن إنصافه أنه لما قرب أواخره بلغه أن الشيخ ابن مبارك يريد أن يقرأه، فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه، وهذا من حسن إنصافه واعترافه بالحق، ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري، قرأ عليه الألفية بلفظه ثلاث مرات، وشيئاً من التسهيل والمغني، وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام، أنه قرأ الألفية ألف مرة، فقال له بعض من سمعه وكم قرأتها؟ قال أما المائة فجزتها، فهؤلاء عشرة شيوخ. كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد بن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1406 وحج المترجم فقدم مصر سنة إحدى وثمانين ورجع عام اثنين وثمانين ومائة وألف، وعقد درساً حافلاً بالجامع الأزهر برواق المغاربة، فقرأ الموطأ بتمامه وحضر غالب الموجودين من العلماء، وأجاد في تقريره وأفاد، وسمع عليه الكثير أوائل الكتب الستة والشمائل والحكم وغيرها، وأجاز، ولقي بمكة أبا زيد عبد الرحمن بن أسلم اليمني، وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني، والشيخ إبراهيم الزمزمي، وغيرهم. وبالمدينة أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان، وأبا الحسن السندي، وعبد الله جعفر الهندي، وغيرهم. وأجازوه وأجازهم، وعاد إلى مصر واجتمع بأفاضلها كالجوهري والصعيدي وحسن الجبرتي والطبلاوي والسيد العيدروس والشيخ محمود الكردي وعيسى البراوي والبيومي والعريان وعطية الأجهوري، وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر وسيدي أبو بكر، خالي العذار جميل الصورة، وتردد على الشيخ حسن الجبرتي كثيراً وتلقى عنه بعض الرياضيات، وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر، فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني والشيخ أحمد السوسي، ونسعر غالب الليل نراعي المطالعه والمغارب وممرات الكواكب، بالسطح حذاء خيط المساترة، ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه وهو معنا في ناحية أخرى، وأوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدائرة المقنطر والمجيب. ومن تأليف المترجم حاشية على البخاري في أربع مجلدات، وحاشية على الزرقاني شارح خليل، وشرحان على الأربعين النووية، ومناسك حج، وشرح الجامع لسيدي خليل، وشرح تحفة ابن عاصم في القضاء والأحكام، والمنحة الثابتة في الصلاة الفائتة، وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال، وحاشية على ابن جزي المفسر، وحاشية على البيضاوي لم تكمل، وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنساء، أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1407 الحمد لله العلي الصمد ... ثم صلاته على محمد وبعد فالقصد بهذا النظم ... تحصيل نبذة من المهم إلى أن قال: الدم صفرة وكدرة ترى ... من قبل من تحمل حيض قد جرى مثل أقل الطهر والمعتاده ... عادتها تمكث مع زياده ثلاثة إن لم تجاوز أكثره ... وبعد طاهر لدى من حرره إلى آخرها، وكلفه سلطان المغرب خطة القضاء في ثلاث ومائتين وألف فقبلها كرهاً، وكانت فتاويه مسددة وأحكامه مؤيدة، مع غاية التحرز والصيانة والإتقان. وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره، شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة، يغلب جلاله على جماله، قليل التبسم. ولما توفي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب بين أولاده، اجتمع الخاصة والعامة على رأي المترجم، فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية، والسنن المحمدية، وبايعه الكافة بعده على ذلك، وعلى نصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم، وكان كذلك. ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة، حتى توفي سنة سبع ومائتين وألف، وكان قد توفي قبله ولده السيد محمد سنة أربع وتسعين ومائة وألف، وتوفي بعده ولده السيد أبو بكر سنة عشر ومائتين وألف. الشيخ محمد بن داود بن سليمان بن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري قرأ على والده، وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وأنجب في العلوم، وله سليقة جيدة في النثر والنظم، وحصل كتباً نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده، قال الشيخ الجبرتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1408 وله محبة في آل البيت ومدائح كثيرة، وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظاً بديعاً، وهو أحمد من أبدى من صنائع الحكم محكم المصنوعات، وأسدى من سوابغ النعم أنواع المبدعات، سبحانه من إله أفاض علينا جوده وإفضاله، وأزال عن قلوبنا رين الرين والجهالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي خص بجوامع الكلم ومجامع الحكم، وعموم الرسالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الإحسان والجلالة، وبعد فلما منّ الله على العبد الضعيف بالإطلاع على هذا الشرح الشريف، المسمى بتاج العروس من جواهر القاموس، الذي ألفه أعلى أرباب الكمال والكلام، لسان الحق الناطق ببيان الحلال والحرام، يد الزهادة ومنهج الطريقة، فهو السري بل البرهان على الحقيقة، من سلك مسالك التحقيق، وتتبع مواضع الفصل والتدقيق، حتى فاز من بغيته بالسهم المعلى، وجليت عليه غواني المعاني فتملى وتحلى، أعني به سيدي ومولاي، ومالك أزمة ولاي، من هو لي عمدتي ومعيني، السيد محمد مرتضى الحسيني، أدام الله للعالمين أنسه، وأشرق عليهم في هذا الوجود بجوده شمسه. وكان حفظه الله تعالى قد أشار بوقوفي على هذا الطراز المحلى، والقدح المعلى، وأن أكتب عليه بما تسمح به القريحة الخائفة لقصورها من الفضيحة، فنظرت فعلمت أن ذلك سبيل ليس لمثلي أن يسلكه، ولا لمن كان على قدري أن يقود زمامه ويملكه، لا سيما وقد قرظ عليه فحول الأئمة الأعيان، الذين تعقد عليهم الخناصر في كل زمان ومكان، فأحجمت من ذلك إحجاماً مخافة واحتشاماً، ثم علمت أن أمره قد ورد على سبيل الإيجاب، وإن قاضي الإنصاف لا يرضى إلا بشهادة الحق وقول الصواب، فأقدمت بعد الجموح، ودخلت إلى رحبات التوكل من باب الفتوح، وتأملت ما فيه من العجب العجاب، وتذكرت قول العلي الوهاب في محكم الكتاب " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1409 هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " وقلت فيه في الحال، معتمداً على الملك المتعال: تاج العروس الذي أبداه سيدنا ... المرتضى العالم النحرير ذو الهمم لما بدا أرخص التيجان كلهم ... لما حوى من عظيم الفخر والشيم وأجمع أهل الهدى أن لا نظير له ... من التآليف في عرب وفي عجم ثم غلب علي الرشد أن أحذو حذو شيخنا محيي النفوس سيدي العيدروس فقلت وعلى الله توكلت: صاح إن شئت كل علم نفيس ... فانظرن ما حواه تاج العروس شرح شيخ الإسلام تاج المعالي ... مرتضى العارفين راس الرؤوس سيد الأكملين أعظم شهم ... حاز فضلاً قد جل عن تقييس شرحه الجامع المهذب أبدى ... من خبايا العلوم ما قد تنوسي قلت لما رأيته يا ابن ودي ... نشر روض أم ذاك عطر عروس أم حياة النفوس من أسكرتني ... بسلاف من ريقها المأنوس بنت سبع وأربع وثلاث ... إن تجلت أزرت ضياء الشموس قال هذه لآلئ قد جلاها ... ماجد عارف زكي الغروس بحر بر البيان رب المعاني ... حبر علم البديع محي النفوس وهو نجل الزهراء وابن حسين ... وعلي أكرم بهم من هموس وهو في الزهد كابن أدهم حقا ... وهو في العلم كالإمام السنوسي يا ابن طه يا مرتضى يا كريما ... دعوة دعوة تزيل نحوسي نجدة نجدة فقد ضاق صدري ... من زمان مقلب معكوس ليس يخفاك والدي وعلاه ... في مقام التأليف والتدريس وعلو الإسناد ذاك شهير ... عند أهل الكمال بالعيدروسي سيدي والدي صديقي عزيزي ... من على بابه طروق الرؤوس فبحق الشيخين يا خير شهم ... دعوة علها تضيء شموسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1410 أنت حصني الحصين يا ابن حسين ... في مقامي ورحلتي وجلوسي كيف أخشى العدى وأنت ملاذي ... أو أخاف الردى وأنت أنيسي دمت في عزة وفتح ونصر ... من إله مهيمن قدوس وصلاة مع السلام دواما ... تغش طه النبي تاج العروس ما غدا قائلا أسير ذنوب ... صاح إن شئت كل علم نفيس وفي آخره: كتبه خجلاً وجلاً مرتجي غفر المساوئ الفقير الحقير محمد بن داود الخربتاوي المالكي، في عاشر شهر رجب الفرد سنة أربع وثمانين ومائة وألف. ولم يزل المترجم مقبلاً على شأنه، مواظباً على دروسه وحفظه وإتقانه، متباعداً عن الناس، ليس العالم بغير العلم والتقوى استئناس، إلى أن دعته المنية، إلى الدرجات العلية، في سنة سبع ومائتين وألف، غمره الله ببحر الرحمة واللطف. الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي المصري الأجل الصالح والناسك الفالح، العارف بالله. أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني، وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الحماقي، وأدرك الإسقاطي والمنصوري، ولم يتزوج قط، وكف بصره سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وانقطع في بيته إحدى وعشرين سنة بمفرده، وليس عنده قريب ولا غريب ولا جارية ولا عبد، ولا من يخدمه في شيء مطلقاً، وبيته متسع جهة التبانة، وبابه مفتوح دائماً، وعنده الأغنام والدجاج والأوز والبط والجميع مطلوقون في الحوش، وهو يباشر علفهم وإطعامهم وسقيهم الماء بنفسه، ويطبخ طعامه بنفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1411 وكذلك يغسل ثيابه، واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والأسرار، ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه. وكان له يد طولى في كل شيء، ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف، والأسماء والروحانيات والأوفاق، واستحضار تام في كل ما يسأل عنه، وعنده عدة كثيرة من السنانير، ويعرفها بالواحدة بأسمائها وأنسابها وألوانها، ويقول هذه تحفة بنت بستانة، وهذه كمونة بنت ياسمين، وهذه فلانة أخت فلانة، إلى غير ذلك. توفي رحمه الله تعالى في شهر شوال سنة سبع ومائة وألف كما ذكر ذلك العلامة الجبرتي رضي الله عنه وأرضاه آمين. السيد محمد أفندي البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية، ونقيب السادة الأشراف في مصر المحيمة نادرة الزمان، وغرة وجه العصر والأوان، إنسان عين الأقاليم، فريد عقد المجد النظيم، جامع الفضائل والمحاسن، ومظهر اسم الظاهر والباطن، من لبس رداء النجابة في صباه، ولاح عنوان المكارم على صحائف علاه، ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده، فعلى جبينه نور النسب، وعلى رأسه لواء المجد يصونه عن كل عطب: مستيقظ الحزم واري العزم ثاقبه ... همومه حين يتلوهن همات صافي الطوية من غل يكدرها ... وأول المجد أن تصفو الطويات الحسيب النسيب والنحيب الأريب، تقلد بعد والده المنصبين. وورث عنه السيادتين، فسار فيهما سيرة الملوك، ونثر فرائد المكارم من أسلاك السلوك، فجوده حدث عن البحر ولا حرج، وبراعة منطقه تنتج سلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1412 الألباب والمهج، مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار، وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار، وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال، وأخباره غنية عن البيان، مسطرة في صحف الإمكان، زمانه كأنه عروس الفلك، فكم قال له الدهر أما الكمال فلك، ولم يزل كذلك إلى أن أذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، وقطفت زهرة شبابه، وقد سقتها دموع أحبابه، ورثاه الألمعي الفاضل السيد عبد الله المزاريقي وأرخه بقوله: لقد مات من كانت موارد فضله ... تعم جميع الخلق في القرب والبعد محمد البكري من فاز وارتقى ... كما بشر التاريخ في جنة الخلد وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثاني، وخرجوا بجنازته ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبالجملة فهو كان مسك الختام قلما تسمح بمثله الأيام. ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي، وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي، ومن نظمه مادحاً خليل أفندي المرادي مفتي دمشق الشام: ينقضي الدهر والهوى لا يزول ... من فؤاد بعشقه مشغول كل حين يمر بي من نهار ... هو عندي دهر عنيد طويل والهوى يورد الفتى كل صعب ... وعلى عكس قصده مجبول وعذولي قد لج يعذل جهلا ... أو هل يعرف الغرام جهول وألذ الأيام ما لاح فيه ... قمر طالع وغصن يميل قد حكته الغصون ليناً وقداً ... باعتدال وفاتها التمثيل جمع الحسن كله مثل ما قد ... جمع الفضل والفخار خليل فرع أصل نما فأثمر فضلا ... وذكاءً ما إن حكاه مثيل ألمعي حاز السادة كسبا ... كل فضل بذاته موصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1413 خصه الله بالكمال فأضحى ... ما له من سوى الكمال خليل وهو طود العلوم من كل فن ... وسواه عند الأنام الجهول قل لمن رام أن يحاكيه جهلا ... أو يحكي شمس الضحى قنديل لست أدري أرأيه أم ذكاه ... صاح أمضى أم سيفه المسلول الرشيد الحميد نجل علي ... المرادي النقشبندي الجليل شب في كسبه المعاني فأضحى ... طوعه الدهر طائعاً ما يقول طاهر الذيل قد تبرأ مما ... بعضه قد تعاب منه الذيول فاق بالحلم والتواضع والجو ... د وخلق الفتى إليه يؤول وإذا كانت الطباع كراما ... لاح منها للمكرمات دليل قد تسامت به مراتب مجد ... ساميات ما قالهن فحول وأرانا من معجز القول شعراً ... ليس إلا به تحاكي الشمول رق معنى وراق لفظاً فأزرى ... نسمة الروض إذ سقته السيول كل معنى يستعبد الذهن وحياً ... وبحسن الخطاب تدري العقول وبخط أزرى بكل نضيد ... زانه في طروسه التشكيل لو تحلى تاج الملوك بحرف ... منه أضحى من حرفه إكليل باسط الكف للأنام جميعاً ... وسواه بقبضها مشغول تخجل السحب عند جود نداها ... حين تهمي وغيثها مهطول وأرى المال يكسب المرء عزاً ... دائماً عندما البخيل الذليل إلى أن قال: قيل ماذا تاريخه حين أفتى ... قلت قد أرخوه أفتى الخليل دام في عزه ومجد أثيل ... بدره التم ما اعتراه أفول وإليك الكمال أهدى قصيداً ... باعتذار ففكره مشغول بنت حيم من ساعة من نهار ... حيثما العذر عندكم مقبول لا تقابل أصدافها بعقود ... من نظام يردها التخجيل مات رحمه الله تعالى سنة ثمان ومائتين وألف. كما ذكره الشيخ الجبرتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1414 الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل ثم المصري خليفة الشيخ محمود الكردي قال الإمام الجبرتي: العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير نزيل مصر، جاور بالأزهر وحضر على الأشياخ في فقه مذهبه وفي المعقول، وأخذ الطريق على شيخنا الشيخ محمود المذكور، ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والأذكار، وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج، وسلك سلوكاً تاماً، ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث أنه لا يفارق منزله في غالب أوقاته، ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار، وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك. ولما انتقل شيخه رحمه الله تعالى صار هو خليفته بالإجماع من غير نزاع. وجلس في بيته وانقطع للعبادة، واجتمع عليه الجماعة في ورد العصر والعشاء، ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين، وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت عليه الناس، ولم يزل على حسن حلاه، حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة تسع ومائتين وألف، وصلى عليه في الأزهر الجم الغفير رحمه الله تعالى. الشيخ محمد شمس الدين بن عبد الله بن فتح الفرغلي المحمدي الشافعي السبرباني المصري نسبة إلى سبرباي قرية بالغربية قرب طندتا وبها ولد، ونسبه يرجع إلى القطب سيدي الفرغلي المحمدي من ولد سيدنا محمد بن الحنفية، قال الجبرتي في ترجمته: هو العمدة الفاضل والصفوة الكامل، العالم الفقيه والعامل النبيه، تفقه على علماء عصره وأنجب في المعارف والفهوم وعانى الفنون، فأدرك من كل فن الحظ الأوفر، ومال إلى فن الميقات والتقاويم فنال من ذلك ما يرومه، وألف في ذلك وصنف زيجاً مختصراً دل على سعة باعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1415 ورسوخه في الفن، ومعرفة القواعد والأصول ودقائق الحساب، ونهج مسلك الأدب والتاريخ والشعر ففاق فيه الأقران، ومدح الأعيان، وله المزدوجة المسماة بنفحة الطيب في محاسن الحبيب، التي نظمها باسم الأمير حسن بك رضوان، فكان طوداً راسخاً وبحراً راسخاً، مع دماثة الأخلاق وطيب الأعراق، ولين العريكة، وحسن العشرة، ولطف الشمائل والطباع. وكان يلي نيابة القضاء ببلده، وبالجملة فكان عديم النظير في أقرانه لم أر من يدانيه في أوصافه الجميلة. وله مصنفات كثيرة منها الضوابط الجليلة في الأسانيد العلية ألفه سنة ست وسبعين ومائة وألف، وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلامة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط. وسليقته في الشعر عذبة رائقة، وكلامه بديع مقبول في سائر أنواعه، من المدح والرثاء والتشبيب والغزل والحماسة والجد والهزل. له ديوان جمع فيه أمداحه صلى الله عليه وسلم سماه عقود الفرائد وقد قرظ عليه الشيخ عبد الله الأدكاوي في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بقوله: هكذا من أراد نظم الفرائد ... أو نحا نحو حوك برد القصائد هكذا هكذا عقود المعاني ... لا عقود المخدرات الخرائد تلك صواغها البنان وهذي ... صاغها فكر شمس فضل الأماجد فرغلي الأروم نامي ذرى المج ... د بديع الفهوم سامي المشاهد الأريب الذي أتاح له الل ... هـ المعاني لذي العقود مصايد واللبيب الذي لقد قيد الل ... هـ له في قريضه كل شارد من معان لو حاز منها أبو الطي ... ب معنى لقال حزت المحامد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1416 أو نحا نحوها الوليد لقلنا ... والداً صرت يا سني الموارد أو شذا مثلها حبيب لحاز الحس ... ن طراً وقد سما للفراقد أين منها بدائع ابن سناء المل ... ك حسنا مرونقاً ومقاصد أين منها ما زخرفوه من القو ... ل وقالوا هنا محط الفوائد ذاك والله ضاع وصفاً وهذا ... ضاء إذ ضاع منه أسنى الفوائد بمديح الذي قد اختاره الل ... هـ رئيساً على جميع الأعابد أحمد المصطفى الظهور فأمّ ... خير أمّ ووالد خير والد صلوات مطيبات توالى ... تربه ما صلى وسلم عابد وتعم الآل الكرام والأص ... حاب جميعاً ما خر لله ساجد وله في رثاء شيخه القطب الحفني قصائد طنانة، وله جملة أراجيز، منها أرجوزة في تاريخ وقائع علي بيك ومحمد بيك. وله قصيدة من بحر الطويل ضمنها ما وقع للأمير مصطفى بك مولى محمد بك في سنة أربع وتسعين في طريق الحجاز حين ولي أميراً على الحج، وهي بديعة سلسلة النظم، حاوية وقائعه التي جرت له مع العربان، ولحلاوتها أوردت منها جملة، وسماها تغريد حمام الأيك، فيما وقع لأمير اللوا مصطفى بك وهي هذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1417 إمارة حج البيت في سالف العصر ... هي المنصب الأعلا وحقك في مصر وخدمة وفد الله جل جلاله ... هي النعمة العظمى لمغتنم الأجر تنافس فيها الأولون وعظموا ... إمارتها في الخافقين مدى الدهر وقام بها الأهلون وافتخرت بها ... ملوك بني عثمان في البر والبحر وهان على الحجاج من فقد مالهم ... وما عندهم إنفاقه أنفس العمر وطاب لهم نوم العقتقل بعد ما اس ... تراحوا على تلك الأرائك القصر ولذ لهم بعد الفرات ودجلة ... ونيل الهنا شرب الأجاج مع المر وصاموا وهاموا في جمال حبيبهم ... وظلوا سكارى لا بكأس ولا خمر وأفلتهم صوت المنادي فأعلنوا ... إجابته في عالم الغيب والذر وفي عالم الملك المشاهد طلقوا ... منامهم شوقاً إلى البيت والحجر وشدوا على العيس الرحال وأخلصوا ... سرائرهم لله في السر والجهر وساروا وزند الشوق بين ضلوعهم ... له شرر أذكى لهيباً من الجمر وخلوا ديار الأنس بعد مسيرهم ... يغرد فيها بليل الدوح والقمري وفيها من الغادات كل خريدة ... إذا ابتسمت تغنيك عن طلعة الفجر وحجوا وطافوا البيت سبعاً وعرفوا ... وزاروا رسول الله ثم أبا بكر وعادوا إلى الأوطان ليس عليهم ... ذنوب ولا إثم كما جاء في الذكر وفي عام ألف تم، ثم ومائة ... وأربعة من بعد تسعين في الحصر تولى أمير الحج مفرد عصره ... كريم السجايا ذو المهابة والفخر أمير اللوا كنز الصفا مصطفى الوفا ... مبيد العدى بالمرهفات وبالسمر بديع الحلى مولى الأمير محمد ... أبى الذهب المحفوف بالعز والنصر أمير اللوا من كان سلطان عصره ... فريداً وحيداً بالتكلم في مصر وكان كبدر التم في أفق العلا ... وكان هلال السعد في غرة الدهر فسار على نهج العلا مصطفى الوفا ... وشيد أركان الإمارة بالفخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1418 وشد جواد العزم والحزم والقوى ... وعظم شأن الحج في ذلك العصر وأنفق أموالاً عليه كثيرة ... وفاز بتحصيل الثواب مع الأجر وقضى شؤوناً بالحجاز تعلقت ... وأحكمها بالعقل والنقل والفكر وقد وضع الأشياء طراً محلها ... ودبرها تدبير مجتهد حبر وجهز ما يحتاجه من ذخائر ... ووجهها نحو السويس على الظهر وسير منها جانباً نحو جدة ... وأرسل باقيها إلى ينبع البر وقرر حقاً في الوظائف أهلها ... وقلد أجياد المناصب بالدر وأمسى خلي البال بعد اشتغاله ... وأصبح بعد الكل في راحة السر وقد عملت أرباب دولة عزه ... على كل أمر مقتضاه بلا كبر وفي شهر شوال المبارك زينت ... لموكبه أطلال مصر من الفجر وسرت به الآفاق وابتهجت به ... جميع القرى والسعد وافى من البشر وأضحت بقاع الأرض مخضرة الربا ... وأضحت رياض الزهر مبهجة الثغر وسلمه شيخ الكنانة محملا ... قد افتخرت مصر به غاية الفخر ونالت بنو عثمان حظاً به على ... جميع ملوك الأرض في البر والبحر وسار به كالبدر عند تمامه ... وأتباعه الأمجاد كالأنجم الزهر وماس به يهتز في حلة البها ... على صافن مثل النسيم إذا يسري وبين يديه الدفتدار وحوله ... صناجق مصر في ازدهاء وفي فخر ومن خلفه الفرسان من كل جانب ... أحاطت به مثل الكواكب بالبدر بأسلحة كالبرق تخطف عمر من ... دنا نحوه بالسوء والغدر والشر وما زال يسعى مع سلامة ربه ... بمحمل طه ذي الفتوحات والنصر إلى أن دنا من حصوة طاب ريحها ... ونسمتها تشفي العليل من الضر وأنزله فيها وبات بها وقد ... دعته إلى مصر دواعي الهوى العذرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1419 وأصبح فيها قائماً هائماً له ... حنين إلى الجوزا وشوق إلى بدر وبات بها والقلب خيم باللوا ... وأم القرة ذات القضائل والفخر وأصبح منها سائراً متوكلاً ... على الله رب البيت والركن والحجر وفي بركة الحج الشريف أتى بها ... محط رجال الوفد من سائر القطر أقام بها حتى انقضت يا أولي النهى ... مهماته طراً وأعلن بالشكر وغلق واستوفى جميع الذي له ... وللعرب العربا من الذهب التبر وغلق أيضاً بعد ذا مال صرة ... أعدت لأشراف الحجاز مدى الدهر وأقبلت الحجاج من كل جانب ... عليه وأضحى ملجأ العبد والحر وفي سابع العشرين دقت طبوله ... وسار كبدر التم في رابع العشر وصحبته الحجاج طراً بأسرهم ... وزوار طه ملجأ الناس في الحشر وودعه شيخ الكنانة قائلاً ... تعود إلينا بالسلامة والجبر وتنظر مصراً في السرور وفي الهنا ... ونحن بخير سالمين من الضر وبالحج فافعل كل ما أنت أهله ... من الخير والإحسان والحلم والبر ولا تنسنا في البيت من صالح الدعا ... وفي حجر إسماعيل يا طيب النشر وفي عرفات والمحصب من منى ... وفي الروضة الغرا تجاه أبي بكر وفي ينبع مع بدر والقاع فاحترص ... من العرب العرباء في الورد والصدر ولا تأمن الصغرا ونقب عليهما ... فإنهما يا ذا العلا بقعة الشر وكل قليل يا أمير اللوى لنا ... فوجه بشيراً عاقلاً كاتم السر ومن بعد ذا كل الصناجق أقبلت ... تميس دلالاً في ثياب الهوى العذري وعانقهم مذ عانقوه وودعوا ... وأدمعهم فوق المحاجر كالقطر وأحبابه طرا تقول له مع الس ... لامة يا ذا العز والمجد والقدر وهي طويلة. توفي المترجم في شهر ربيع الأول سنة عشر ومائتين وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1420 استدراك الشيخ محمد بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار الدمشقي الميداني فات مؤلفنا العلامة أن يترجم لشقيقه الأكبر الشيخ محمد البيطار، مع أنه ترجم لولده الشيخ محمود، وإنا ننقل ترجمته عن منتخبات التواريخ للتقي الحصني، وروض البشر للأستاذ الشطي، ومما كتبه هو بقلمه رحمه الله تعالى. قال في منتخبات التواريخ: ومن الأسر الشهيرة في العلم والفضل في حي الميدان ودمشق بنو البيطار خرج من رجال هذا البيت جماعة من أجلة العلماء، والشعراء، تقدم ذكرهم في كتابنا في العصر الأخير، وهم الشيخ محمد أمين الفتوى، وله ذرية كبيرة نجيبة، والمؤرخ الشهير الشيخ عبد الرزاق وله أحفاد نجباء، والشيخ عبد الغني وله ذرية أدباء، والشيخ سليم أحد أركان رجال هذا البيت. مات سنة 1341 هـ وقد أعقب ذرية نجيبة، عرفنا منهم الشيخ جميل إمام جامع الدقاق، وحسني بك المحاسب المركزي لمالية دمشق. واشتهر منهم بالفضيلة والعلم، الشاعر الشهير الشيخ بهاد الدين، وهو والد صديقنا الشيخ محمد بهجة من علماء دمشق، ومن مدرسي الحرم المكي اليوم أي من سنة 1344هـ إلى سنة 1349هـ اه. بتصحيح قليل وذكره الأستاذ الشطي في وفيات سنة 1312هـ فقال: إن المترجم من كبار علماء دمشق وفقهائها وهو أمين الفتوى بها أكثر من ثلاثين سنة، ثم نقل ترجمته عن التقي الحصني وزاد عليها زيادات جعلها بين هلالين، ونحن نثبتها كما وردت، قال: هو محمد بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار الدمشقي الميداني الشافعي ثم الحنفي، الشيخ المعمر أمين الفتوى بدمشق. ولد في حدود سنة 1230 وقرأ على والده، وبه كان أكثر انتفاعه، وأدرك الطبقة العليا من الشيوخ الأعلام، وأخذ عنهم حتى برع في جميع العلوم، المنطوق منها والمفهوم، وتولى أمانة الفتوى في دمشق بزمن أمين أفندي الجندي والعلامة الحمزاوي والسيد المنيني وانفرد في الفقه، وأصوله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1421 ونال ربتة أزمير المجردة، فاشتهر فضله وعم نفعه، وقصدته الناس في أمر دينهم ودنياهم، وفي كل اختلاف بينهم، حتى كانوا يستفتونه وهو سائر في الطريق، فيقف لهم ويفتيهم، وقد اشتهر أنه أعلم من بعض المفتين. وكان يرزقه الله من حيث لا يحتسب، وكانت وفاته سنة 1317 صوابه عام اثني عشر وثلاثمائة وألف انتهى. وهذه شذرة من كلامه، تدل على جلالة قدره وعلو مقامه، وهي إجازة له من شيوخه الكثيرين، في قراءته لكتاب إحياء علوم الدين قال رحمه الله تعالى: قد أخذت هذا الكتاب عن أساتذة فضلاء، وجهابذة كرماء، ما بين مكيين ومدنيين ومصريين وشاميين، وروميين، ولكن لا أذكر منهم إلا من أرضعني بلبانه، ورباني بتأديبه وإحسانه، وعندي هو من أجلهم بل أجلهم، ومن أحسنهم هو بل أحسنهم، بركة الوقت في زمانه، إلى أن قال: قد أخذت بالإجازة كتاب إحياء علوم الدين عن والدي المرحوم حسن بن إبراهيم البيطار، عن شيخه الإمام الشيخ صالح الزجاج، عن محدث الشام الشيخ محمد الكزبري، عن الصالح والده القطب الشيخ علي الكزبري، عن العارف بالله تعالى الشيخ عبد الغني النابلسي، عن شيخه عبد الرحمن الكزبري وعن خاله الشيخ عبد الباقي الحنبلي، عن الشمس الميداني، عن الشهاب الطيبي، عن الكمال بن حمزة، عن القاضي أبي حفص الحنبلي، عن سليمان بن المحب، عن محمد بن العماد، عن أبي سعد السمعاني عن محمد بن ثابت عن مؤلفها الإمام الزاهد، الفقيه المقدام زين الدين، أبي حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، حجة الإسلام إلى أن قال فانتقل إلى رضوان الله تعالى عن خمس وخمسين سنة اه وقد أجاز الشيخ محمداً أخوه في الطلب والتحصيل على والده الشيخ حسن البيطار، عن الشيخين عبد الرحمن الكزبري وحامد العطار، بشرطه المعتبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1422 السيد محيي الدين باشا بن السيد الأمير عبد القادر بن السيد محيي الدين الجزائري الحسني المتصل نسبه بسيدي عبد القادر الجيلاني الحسني رضي الله عنه إنني لم أجد عبارة تفي في حقه بالمدح، غير أني أرسلت اليراع يجول في ميدان الفتح، ومن أين لي أن أترجمه بما يليق، أو أن أصفه بما هو به حري وحقيق، وهو الأمير الذي ورث الإمارة عن أبيه وجده، والشهير الذي استوى على عرش الفضائل بإجتهاده وجده، والأديب الذي يمتزج كلامه بأجزاء النفس لطافة، والأريب الذي رق طبعه حتى حاكى النسيم رقة ونحافة، تحلى بالمكارم فكانت مقصورة عليه، وتجلى على عرش الكرائم المنتسب أكرمها إليه، ولقد لحظته عين السعادة فقصرته من كل محبوب على الأعلا، وجذبته يد السيادة لكل مرغوب فقلدته منه بالأولى، ورفعه ساعد العلم إلى ذروة الكمال، ووضعه صائب الفهم الثاقب على نقطة الاعتدال، فله من الملح ما يزري بنوافث السحر، ومن المنح ما ينقل ذوي الحاجات إلى الغنى بعد الفقر، وإن سألت عما ناله من رقيق الأخلاق وأنيق اللطف والارتفاق، فهو واحد هذا العصر بل نادرة الزمان وثمرة الدهر، وأما طلاوة نظمه ونثره، وحلاوة قريضه وشعره: يستنبط الروح اللطيف نسيمه ... أرجاً ويوكل بالضمير ويشرب فلعمري إن عقود ألفاظه أحلى من عقود النحور، وأبكار معانيه لو مازجها النسيم لأزالت ملاحتها ملوحة البحور، فما من جارحة إلا وهي تود لو كانت أذناً فتلتقط ثمين جواهره، أو عيناً لا تنفك عن مطالعة طرائفه ونوادره، أو لساناً يدرس محاسنه وشمائله، أو قلماً يرقم مآثره وفضائله. بالجملة فقد نال في الأدب رتبة عجز غيره عن استعلامها فضلاً عن علمها، وحاز فهمه الشريف منحة كل غيره عن استفهامها دون فهمها، تنتهي إليه محاسن الألفاظ وتزدهي معانيه على غمزات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1423 الألحاظ، فأشعاره قد طارت في الآفاق، وانعقد على كمال جمالها الاتفاق، لا يبلي جدتها الجديدان، ولا تزداد إلا حسناً على تردد الأزمان، قد كادت الأيام تنشدها طرباً، والأنام توردها حلية وأدبا، ونثره يقطر ظرفاً ويمزج بالراح رقة ولطفا، لسان الراغب في مدحه عن مراده قاصر، وقلم الكاتب عن استيفاء حليته في ميدان جولانه حائر، فلا ريب أنه عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فهو بحر كله جود، وحبر كل فضل في ذاته موجود، مع تواضع يفرغ على مجالسه جلباب السرور، ولطف يجلب لمؤانسه كل حبور، ومنطق تحاشى عن النطق بما يعاب، ووجه بشوش يوهم المسيء له أنه بفعله أصاب، غير أن يده قد صالت على ماله، فلا ترد يد مستمنح خالبة من نواله، كثير المروءة والفتوة، يميل في أموره إلى الحزم والقوة. حسن المجالسة عذب الاستشهاد، لا يأتي جليسه بمعنى من العلوم إلا واستشهد له بأبيات من حفظه أو نظمه حسب المراد. وقد أخبرني حفظه الله حينما سألته عن مقدار ما يحفظه من الأبيات الشعرية، فقال: ما ينوف على عشرين ألف بيت من نظمه ونظم غيره زيادة على المحفوظات النثرية، يهوى الإطلاق والطرب ومذاكرة العلوم، ويأبى الترفع والتحجب والتمسك بأحوال ذوي الرسوم، ويقول بأن رفعة القدر والشأن، ليس بالعجب والكبر وسلاطة اللسان، وكيف لا يكون كذلك وهو فرع شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قد اتصلت بسيد الرسل وسند الأنبياء. وأما والده فهو علم الفضل والإنصاف، وشرف النعوت والأوصاف، افتخر به الآباء والبنون، وتجملت بفضائله الشهور والسنون، شهرته من الأنام شهرة القمر ليلة بدره، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدر من قدره، وهذا المترجم نتيجة ذلك الأصل، فلذا تفرد في زمانه في الكمال والفضل، تحقق بأنواع العلوم الحديثة والقديمة، وتعشق في الطريق الواضح فكان لا يسلك غير الطريقة القويمة، وناهيك بهذا الشرف العظيم والفضل الجسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1424 ولد حفظه الله في ثالث ربيع الثاني سنة تسع وخمسين ومائتين وألف بإقليم الجزائر، ونشأ في حجر والده عمدة السادة الأكابر، وحفظ القرآن عن ظهر قلب وهو ابن ثمان سنين وشهور، وأقبل على حفظ المتون في أنواع العلوم ما بين منظوم ومنثور، ثم قرأ فقه المالكية على الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي المغربي وعلى غيره من العلماء الأخبار، وقرأ جملة من الفنون على الفاضل الدمشقي الشيخ محمد الجوخدار. ثم قرأ على الإمام الكامل والهمام الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي الزهري الكتب الكبيرة في أنواع العلوم، وحضر على والده الحديث والتوحيد، وأجازوه جميعاً بما تجوز لهم روايته من منثور ومنظوم. ولما رأى فيه والده الأهلية للتدريس العام، أمره بأن يقرأ درساً بحضرته وحضرة العلماء الكرام، فامتثل أمر والده المبرور، وكان يرى على وجهه حين حضوره في درسه البشر والسرور، وأجازه على ذلك ترغيباً له بجائزة سنية، وتفرس به الترقي إلى الرتب العلية، وكان سنه إذ ذاك ثمانية عشر، حتى تعجب من نبله وفصاحته وجسارته من حضر، وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف، أنعم عليه السلطان الغازي عبد العزيز خان، برتبة ازمير مع النيشان العثماني من الرتبة الثالثة ذات القدر والشأن. وفي عام اثنين وثمانين في ثالث ذي الحجة الحرام من الهجرة النبوية، توجه للسياحة في البلاد الأفرنجية، فتوجه إلى رومة وبلاد إيطاليا، ثم إلى مملكة سويسرة، ثم إلى عاصمة الفرنسيس، وفي ثاني يوم وصوله زار الأمبراطور نابليون الثالث فأكرمه وعامله بغاية الإقبال والتأنيس، ودعاه إلى مائدته وبالغ في مودته، ثم استأذن منه في السياحة في أنحاء مملكته، فدارها ثم رجع إلى العاصمة فاستأذن من الإمبراطور في الرجوع إلى أهله وبلدته، فجدد إكرامه وأهداه ننيشاناً وودعه بك إقبال، فتوجه إلى البلاد المصرية فساح بها مدة ثم رجع إلى محل إقامته بعد ذلك الترحال، وكان مدة ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1425 ستة أشهر هلالية، فعاد إلى حاله وكماله بهمة قوية. ثم في سنة تسع وثمانين في شهر رجب، وقع بين دولة فرنسا وألمانيا للقتال أعظم سبب، فانتشبت بينهما نار الحرب، وتقابلت الدولتان بالسفك والطعن والضرب، وآل الأمر في مدة أربعة أشهر إلى انتصار ألمانيا على الدولة الفرنساوية، وتكبدت فرنسا خسائر ومشقات قوية، فخطر في بال المترجم أن الحرب يطول بين الدولتين، فينتهز الفرصة لتخليص وطنه الجزائر من يد فرنسا ويزيل عن الوطن الكدر والغين، فتوجه بقصد الزيارة في الديار المصرية، فحينما وصل إلى مدينة إسكندرية، توجه منها إلى تونس الغرب ولم يعلم أحد نيته الخفية، فأكرمه حاكمها صادق باشا وشاع ذكره في ذلك القطر عرضاً وطولاً، وأنزله ذلك الحاكم عنده وأهداه نيشاناً من الرتبة الأولى، فقصد المترجم التوجه منها إلى الجزائر، فلم يتمكن من ذلك نظراً لما ناله من الاشتهار، الذي ملأ تلك النواحي والأقطار، فحرر لرؤساء الجزائر نحو المائتي كتاب، لكي يتهيأوا لمحاربة فرنسا عند قدومه المستطاب، وأرسلها من تونس مع الرسل الخفية، ثم ودع الباشا مظهراً له قصد الرجوع إلى الديار الدمشقية، فتوجه إلى مالطه، وحين وصوله إليها أخفى نفسه وتنكر، ولبس لباس الدراويش وظهر في غير ذلك المظهر، وتوجه إلى طرابلس الغرب، فحينما وصلها أرسل ثقله مع بعض الخدم في البحر إلى مدينة قابس، وهو قد توجه براً متكبداً لمشقات لم يكن على مثلها بممارس، إلى أن وصل لبلاد الجريد، ومكانها عن حدود الجزائر غير بعيد، فهناك أظهر حاله للناس، ولم يخش على نفسه من بأس، ومن عجيب ما اتفق له أن شخصاً من المنصورة " قرية من قرى جريد " كان مرافقاً له من طرابلس متوجهاً إلى قريته ومحل إقامته، فكان يسأل رفقاه المترجم عنه، فيقولون له رجل من أشراف الجزائر كان في الحجاز، فيقول لهم هذا ابن ملك أو أمير حقيقة لا أقصد المجاز، ولم يمكنهم إقناعه بحال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1426 إلى أن وصلوا إلى قريته، فقال لهم إن عدم نزولكم عندي من المحال، فنزلوا عنده فما استقر به المجلس حتى جاء للسلام عليه حاكم البلد، وبعده نحو الأربعمائة فارس من ذوي الشجاعة والجلد، وكان قد أرسل لهم يخبرهم بوصوله، فسلموا عليه وعاهدوه على القيام معه حسب مأموله، ثم أنه سأل عن رفيقه صاحب الدار، فقال له رجل من أقاربيه أنه يقدم لحضرتك عن عدم حضوره جميل الاعتذار، حيث أنه من نحو سنتين قتل شخصاً وفر لطرابلس، والآن قد رجع خفية لرؤية عائلته ثم يرجع، فلما رأى حاكم البلد والخيل معه ظن أنهم حضروا للقبض عليه ففر منهم، فعند ذلك تذاكر المترجم مع حاكم البلد وطلب منه الصفح عنه حيث أنهم ضيوفه، فأجابه الحاكم بأنه إن يسمح عنه أهل المفتول فأنا أسمح عن حق الحكومة، فأحضروهم وكلموهم أن يسمحوا على الدية، فسمحوا فقال الحال بلا دية نظراً إلى خاطر المترجم، ثم فتشوا على الرجل فبعد الجهد وجدوه مختبئاً في مكان، فأحضروه عند الحاكم وأخبره الحكم بأن أهل المقتول قد سمحوا عنه، وكذلك هو نظراً لخاطر المترجم، فعندما قال الرجل لأتباع المترجم كيف رأيتم فراستي في الدرويش، مع كونكم أجهدتم أنفسكم في إقناعي فما قدرتم، وقد أشار إلى ذلك في قصيدة طويلة أرسلها إلى أخيه سعادة محمد باشا: طوراً تراني مختف متنكراً ... كيما أرى من ماء قصدي أستقى والبدر لا يخفيه جنح دجنة ... والمسك لا يخفى وإن لم يفتق وسأورد بعض هذه القصيدة عند ذكر نظمه، ولنرجع إلى ذكر بعض ما وقع له في الجزائر، فانه لما وصلت كتبه إلى رؤساء الجزائر من تونس، استبشروا ولم يعد لهم صبر لانتظار قدومه، فتراسلوا وتؤامروا وأظهروا العصاوة على دولة فرنسا، وانتشب القتال بينهم في كل مكان، فلما وصل إليهم بايعوه على السمع والطاعة، ووقعت بينه وبين الجيوش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1427 الفرنساوية مقاتلات عديدة، ما عدا التي وقعت بأمره في عدة أماكن ولم يحضرها، وقد قتل ألوف من الفرنساوية، ولكن حيث أن الباري لم يقدر خلاص الجزائر من اليد الفرنساوية تصالحوا هو وألمانيا، وأرسلوا في الحال جيوشاً جرارة لمحاربته، فتيقن عند ذلك بعدم اقتداره على مقاومتهم، والتمست دولة فرانسا من حضرة والده إرسال أمر ونصيحة له، فعندما رجع إلى حدود تونس بمن معه، ثم بقيت أهالي الجزائر في تونس، ورجع هو إلى الشام، وبقي في ثغر صيدا نحو السنة، ثم رجع إلى دمشق عند والده، وقد سألته بعد مدة معاتباً له عن عدم إخباره لي بما عزم عليه من السفر إلى الجزائر، وما ترتب على ذلك، فاعتذر لي بأن هذا من الأمور المكتومة التي لا يمكن إبداؤها لأحد، وأخبرني أيضاً حفظه الله أنه لما خطر له هذا الخاطر، ورأى أن أسباب اغتنام الفرصة متسهل بواسطة الخلاف الذي وقع بين فرانسا وألمانيا، عظم عليه الأمر واشتد عليه الخطر، وعلم أن دون ذلك مسالك جسيمة ومهالك عظيمة، وشديد مشقات عميمة، تباطأت عزمته وفترت همته، فجرى على فكره نظم هذه الأبيات، فلما أتمها وقرأها عادت له همته أعظم من الأول وهي: على ماذا الخمول وأنت قرم ... مطاع في العشائر لا تمارى وأنك لا تنال المجد حتى ... تقود عرمرماً يملا القفارا تعوض من شدا الشادي صهيلاً ... وعن طيب الغوالي اعتض غبارا وأطيب من عناق الخود حقاً ... عناق مدرع يورى الشرارا فقومي سادة عرب كرام ... بغير الحرب ما نالوا فخارا ثم أنه في سنة ست وتسعين، أنعم عليه حضرة مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان برتبة مير ميران الرفيعة، ثم في سنة ثلاثمائة وثلاث، رقاه إلى رتبة روملي بيكلر بيكي، وكان قد عين له بعد انتقال والده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1428 معاشاً في كل شهر خمسين ليرة عثمانية من الخزينة السلطانية، حيث أنه رفض معاش دولة فرانسا التي طلبت منه أن يكون من رعيتها هو واخوته، وتعيد لهم معاش والدهم على التمييز والاستحقاق لا على التسوية. ولنورد شيئاً من شعره وبديع نثره الذي هو أرفع من الدر قدرا، وأضوع من المسك نشرا، فمن ذلك وكان متنزهاً في صالحية دمشق بحديقة الشيخ الأكبر في فصل الربيع، فقال: لله در الصالحية مذ بدت ... محفوفة بحدائق النوار فكأنما هي غادة حفت بها ... سود المحاجر في جمال نوار حوت المفاخر إذ غدت للحاتمي ... داراً فأضحت مطلع الأنوار ومن نظمه حفظه الله موريا باسم فائق: يقول معذبي هل حسن وجهي ... لبدر التم يشبه أو يطابق فقلت وحق من أعطاك حسناً ... ملكت به القلوب لأنت فائق وله متغزلاً حفظه الله: دعوني فالغرام أذاب قلبي ... وأحرق مهجتي هجران حبي أيا أهل الهوى كرماً أعينوا ... جريح لواحظ وقتيل حب أنا المفتون وا ويلاه حالي ... غريب في الهوى عن كل صب ملاح الشرق تيهوا قد أخذتم ... أسيراً في الغرام أمير غرب رويت الحرب عن آباء صدق ... فها أنا ذا الأسير بغير حرب لعمرك ما خشيت سواد جيش ... فما لي قد خشيت سواد هدب ومن نظمه تشطير هذه الأبيات، وإنه يصعب تشطيرها لشدة ارتباطها: أنا والحب ما خلونا ولا طر ... قة طيف يا صاح هذا عجيب ما تواصلنا ساعة ولا طر ... فة عين إلا علينا رقيب ما خلونا بقدر إن مكن الده ... شة إني عن السلام أجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1429 ليس لي فرصة وقد فني العم ... ر بأني أقول أنت الحبيب بل خلونا بقدر ما قلت أنت ال ... ح فلاح فقلت سيب النسيب ومرضت فعادني قلت جاء ال ... ح فوافى فقلت كيم الطبيب ومن نظمه أطال الله بقاه، وجعل في مدارج السعادة مرتقاه: تأمل في بديع الحسن واعذر ... به صبا لقد خلع العذارا من أحداق الورى قد صاغ خالا ... ومن أجفانها جعل العذارا له لحظ ينادي من رآه ... هلموا واتركوا عشق العذارى وله دام علاه تخميس على لامية العجم أوله: الله عظم مقداري من الأزل ... وزادني شرفاً كالشمس في الحمل وإن رماني العدا بالنقص والزلل ... أصالة الرأي صانتني عن الخطل وحلية الفضل زانتني عن العطل ولي جدود لبند المجد قد رفعوا ... جميع الورى طبعاً له تبع وإنني مقتف آثار ما شرعوا ... مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل وله أحسن الله إليه، وأسبل جميل امتنانه علينا وعليه، مورياً في اسم خنجر: يا قاتلي بلحاظ ... سيوفها لي أشهر إني لأضعف عنها ... يكفي لقتلي خنجر وله ألبسه الله حلة السرور، وأجلسه على ذروة الحبور: إشرب على البدرين شمس مدامة ... بدر السماء وبدرنا في المجلس واغنم زمان الأنس لا تسمع لمن ... يلحو المتيم في ارتشاف الأكؤس ما العيش إلا راحة في راحة ... تجلى عليك من الغزال الألعس يا أيها الظبي الذي ملك الحشا ... وغدا له شغل بقتل الأنفس ارحم أميراً في هواك أهنته ... وغدا ذليلاً للعيون النعس ما هاب من جيش يضيق به الفضا ... وبدا طعيناً بالقدود الميس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1430 ومن نثره كتابه لأخيه الأمير محمد باشا كتبه له من ثغر صيدا: إن أطرب من خفق الأعواد، ومن ترجيع البلابل على الأعواد، ومن كؤوس الحميا يطوف بها بهي المحيا، في روض زاهر، غض الأزاهر، ومن نقر المثاني والمثالث، ومن وصل أليفين ليس بينهما ثالث، سلام عطري النشر، يبشر قتيل الفراق بالنشر، ويؤذن مطوي أيام التلاقي بالنشر، تتحمله وتؤديه ريح الجنوب، من مشوق تتجافى عن المضاجع منه الجنوب، إلى ذي المنصب العالي، وواسطة عقد المعالي، وفريدة سمط اللآلي، والبدر المنير في مدلهمات الليالي، إذا امتطى صهوة جواد، أزرى بكل فارس بطل جواد، فكأنه بدر فوق نسر، أو أسد ممتط النمر، وإذا جرد بسام هنديه في يوم بالقتال حالك، قال النحس لأبطال أعدائة اليوم يا سوأة حالك، له يد أحوالها كعدة البنان، ليست إلا لمسك عنان، أو هز هندي وسنان، أو تحبير رسائل، أو إعطاء سائل، أو تقبيل عدو خاضع، ذليل منكسر متواضع، أعني الأخ الشقيق والبر الرفيق، وارث المفاخر كابراً عن كابر، الأمير محمد باشا ابن الأمير عبد القادر، لا زال الدهر له يساعد، ويمده باليد والساعد. أما بعد إهداء التعظيم الواجب، من صميم قلب بالفراق واجب، فإن تفضلتم بالسؤال عن حالي، فهو لله الحمد بمر الصبر حالي، متسلق بتعظيم المقدار ما أوجبته حكمة الأقدار، والدهر ذو إحاله فلا يدوم على حاله، فمن ذا الذي أساءه وما سره، وأين يوجد من نفعه وما ضره، وفي مطالعة أخبار من سلف، تسلية وموعظة لمن بعدهم قد خلف. ومن نثره ونظمه أيضاً جبا الله القلوب على محبته، وأدام لهم إشراق طلعة سعادته، ما كتبه إلي يدعوني للحضور في قريته المعروفة بالكفرين، الواقعة في ناحية المرج، بينها وبين دمشق نحو أربع ساعات، وصورة ما كتبه: فديتك عجل اللقيا وبادر ... فإنك سيدي للكون بادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1431 فذا زمن الربيع أتى وحيا ... بأنواع اللطائف والأزاهر فأضحى الروض يضحك من سرور ... وكل منىً سواك لدي حاضر فديتك أنت تعلم إن حظي ... من الدنيا هواك به أفاخر فلا تمهل بحق الود وأسرع ... فها طرفي لنحو الطرق ناظر حضرة عالم الأدباء وأديب العلماء، العالم الأديب العلم، فارس المنبر والقلم، نخبة عصرنا وزينة مصرنا، من جبل الله القلوب على محبته، فغبطته الناس على عليِّ مرتبته، أخي وصديقي ومناي من الدنيا ورفيقي، الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار، حفظه الله في الإقامة والأسفار. مولاي: إني خرجت إلى القرية لأنزه الخاطر، وأجلو برؤية الخضرة صدى الناظر، فوجدت الربيع قبل وصولي قد وصل إليها، وهيأ كل ما تشتهيه الأنفس وتفضل عليها، وكسا الأرض بالحلل الخضر، والأغصان بالتيجان البيض والحمر، وطيبها نسيم الصبا بالمسك الأذفر، وبعده ريح الغرب بالعطر والعنبر، فأسرعت إليها شعراء الأطيار، لأجل أداء التهنئة بما نالته من الأوطار، فأطربت القلوب بتسجيعها، وشنفت الآذان بلطيف ترجيعها، وماست الأزهار من الطرب، ورقصت الأغصان فرحاً ولا عجب، فعندها اصطفت ندماني، وابتدوا بضرب المثالث والمثاني، ثم بعد أن أطربوا الفؤاد، وأزالوا الهموم برائق الإنشاد، أخذوا في المذاكرة، وشرعوا في المحاورة، فكان أول شيء ذكرهم لبعض ألطافكم، وما حزتموه من بديع أوصافكم، فتنغض على الحضور بسبب إبطائكم السرور، وقد كان حصل وعدكم الشريف بأنكم تتفضلون علينا بالتشريف، فطلب مني جميعهم إرسال رسالة لتحثكم على سرعة الإجابة بدون إطالة، فبادرت، بإرسال هذا الكتاب، وأملي أن تكون رؤية طلعتكم هي الجواب، وبصحبتكم صاحب القلب السليم، سيادة أخيكم الشيخ سليم، وشاديكم قرة العين، النجيب السيد حسين، وها هي جياد الخيل واصلة لأعتابكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1432 وواقفة مسرجة ملجمة ببابكم، وأسأل الله أن يديم سرورنا بكم على الدوام، ما فاح على الرياض مسك ختام. وغب وصولنا إليه، وتمثلنا بعد السلام بين يديه، أنشدنا وقال: أهلاً بمقدم سادة قد شرفوا ... ولذي الوداد بقربهم قد أسعفوا حازوا اللطائف والفضائل كلها ... سروا الفؤاد وللمسامع شنفوا دامت مسرتهم ودام علاهم ... فعلى مودتهم فؤادي أوقفوا فقلت له على الارتجال، مع اعترافي بأني ضيق المجال: يا أكمل الناس في فضل وفي شرف ... أنت الأمير على السادات والأمرا حويت كل مقام عز مطلبه ... ونلت كل كمال في الورى ذكرا حييت بالبشر والإقبال ذا شغف ... وليس ينكر ذا أن منك قد صدرا لا زلت تاجاً على هام العلا أبداً ... ودام من رام ضراً فيك محتقرا ولقد أنشدنا لنفسه أيضاً حينما شدا الشادي على العود، قصيدة مطلعها سعد السعود، وكان الوقت صافيا، والمقت بحمد الله قافيا. بشير للصفاء غدا ينادي ... هلموا فالأيادي في أيادي أنا قطب السرور علي دارت ... نجوم البسط يا أهل الوداد إذا بأصابعي حركت عودي ... غرست رياض أنس في الفؤاد فأنشدته ما أنشأته في الحال، حينما انحنى العواد على عوده ومال، وأجاد وأطرب، وأنبأ عن وجده وأعرب، وكان سعادته أمرني أن أقول شيئاً من هذا المعنى. عجباً لعواد على العود انحنى ... وغدا يتيه تواجداً وهياما وتكلما حتى فؤادي كلما ... وتشاكلا لذوي السماع كلاما وتراقصا رقص الشجي لدى النوى ... والحب أثر فيهما الأسقاما وتعانقا وتشاكيا أمر الهوى ... حتى بكينا رحمة وغراما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1433 وفي أثناء حضوري عنده قال أجز هذا البيت وهو قوله: قدم الربيع فلا تكن متواني ... عن نهب وقت مسرة وتهاني فقلت: فالأرض قد لبست رداءً أخضرا ... متلوناً ببدائع الألوان وقال: وبدا يميس كغادة قد حليت ... وتزينت بالدر والعقيان فقلت: والبدر أشرق والرياض تنورقت ... والنهر ساح على حصى المرجان وقال: وبلابل الروض الأنيق لقد شدت ... تسبي العقول بسائر الألحان فقلت: وتجاوبت خطباء أنواع الطيو ... ر بشدوها في منبر الأغصان وقال: وتمايلت قضب الرياض تميس إذ ... هب النسيم مبشراً بأمان فقلت: تهتز إن مر النسيم تمايلا ... كمتيم دنف الحشا ولهان وقال: فكأنها الأحباب بعد تشتت ... وتباعد قدس الله سره عدن للأوطان فقلت: وتعانقت لحنوها ولشجوها ... وتزايدت لعناقها أشجاني وقال: والزهر بين معصفر ومفضض ... ومذهب صاف وأحمر قاني فقلت: قم يا معنى للرياض مبادرا ... واطرب وقل والله طاب زماني وقال: وانظر عجائب صنع رب قادر ... سبحانه من مبدع منان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1434 فقلت: مقل الزهور تفتحت كيما ترى ... ما قد جرى في مجلس الندمان وقال: ورد ونسرين ومنثور زها ... قد فاخرته شقائق النعمان فقلت: والطل ينثر كالعقود لئالئا ... في الجيد ينظمها كنظم جمان وقال: يا أيها الساقي المفدى هاتها ... وأدر كؤوسك لا تكن متواني فقلت: صرفاً بها عنا تزيح همومنا ... واطرح ملام مؤنب النشواني وقال: خمراً معتقة غدت منسية ... في الدن طول تعاقب الأزمان فقلت: وبخمر فيك امزج كؤوسي علها ... تطفي حرارة قلبي الولهان وكنت مرة في صحبته بروضة ذات أدواح، قد أقيمت بها مواكب أفراح، فجاء غلام حسن المحيا، فقبل يده وسلم وحيا، ثم بعد حصة قبل ذيله وذهب وخلف في القلوب أعظم غصة، فحينما غاب أنشد سيدي المترجم في الحال. على الارتجال: فديت بديع حسن قد سباني ... بطلعته وبالقد الرشيق ولم أنس الوداع له ودمعي ... دماً يجري وقلبي في حريق فمبسمه ووجنته ودمعي ... عقيق في عقيق في عقيق ومنه الخصر مع شفة وعهد ... رقيق في رقيق في رقيق فأنشدته أبياتاً كنت أنشأتها من هذا المعنى وتخلصت منها بمدحه الشريف وهي: أيا روحي وريحاني وراح ... إلى م وأنت لم ترحم جراحي فجيدك والمحيا والثنايا ... صباح في صباح في صباح وقربك والوصال وبعد ضدي ... صلاح في صلاح في صلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1435 وعمري والملام وسوء هجري ... نواح في نواح في نواح وسقمي والغرام وفقد صبري ... فلاح في فلاح في فلاح وضمك والعناق ولثم خد ... رباح في رباح في رباح وعطفك وابتسامك واقتبالي ... سماح في سماح في سماح وعذالي ولوامي وضدي ... قباح في قباح في قباح وثغرك والعيون وحمر دمعي ... ملاح في ملاح في ملاح وتعذيبي وإبعادي وقتلي ... مباح في مباح في مباح وإني لست أشكو منك حالي ... ولكن بحت في أصل افتضاحي لقطب المجد محيي الدين باشا ... علي القدر في كل النواحي فمهما عشت في الدنيا فإني ... عليه قصرت شكري وامتداحي له دام العلا ما ضاء بدر ... ومن عاداه مقصوص الجناح وأنشدته أيضاً حفظه الله ورفع في الخافقين قدره وعلاه، قولي: هلال الحسن هل على جبيني ... ومن فرقي بدت شمس الكمال فما لي لا أتيه على الندامى ... وأسعى ساحباً ذيل الدلال دموع العاشقين عقود نحري ... ووصلي دونه حد النصال ولب أولي الهوى في قيد أسري ... ولا يحلو لهم إلا وصالي فكم بنصال قدي باد قرم ... وكم لحظي فرى مهج الرجال فجيدي ثم نحري والمحيا ... هلال في هلال في هلال وأخلاقي وألفاظي وحظي ... كمال في كمال في كمال وقد اتفق لي أني مرة كنت في داره المعمورة فناولني غلام عنده وردة، وقال أنشدني شيئاً مناسباً لذلك، ووقف فقلت له بعد إطراق قليل: وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده فخمسهما سعادة الباشا في الحال بقوله: نلت الهناء بروضة قد تم لي بأحبة لما غدوا بمسرة وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1436 قد شابهته بلونها فكأنه وكأنها فرع بأصل قد زها فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده ومرة كنت مع سعادته في البويضية قرية من قرى دمشق، فجلس غلام معه بعيداً مني ولم يسمح بالتداني فقلت له: كم ذا تذل متيماً ... وتذيقه ألم النوى فأجابني متبسما ... إن الهوان مع الهوى وقد خمسهما سعادته أيضاً فقال: أفدي مليحاً قد سما ... وأذلني واستعظما فسألته مستفهما ... كم ذا تذل متيما وتذيقه ألم النوى وترى لقاه محرماً ... وعذابه عذباً فما أقساك يا حلو اللما ... فأجابني متبسما إن الهوان مع الهوى وقد أسمعني حفظه الله وأدام بقاه وعلاه، قصيدته التي مدح بها والده وهنأه بها بعيد الفطر، سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين: زمان الأنس والأفراح منا ... دنا إذ منيتي بالوصل منا فبادر للصفاء وللتصابي ... فمن خوف التقاطع قد أمنا ويا ساقي المدام أدر وعجل ... فطير الروض بالبشرى تغنا وناول رفقتي كأساً فكأسا ... بظل حديقة بالزهر غنا بها طير وظبي قد تبارا ... فذا يشدو على غصن نثنى وذا شاد تثنى فوق عود ... ولم أسمع بظبي قبل غنا تثنى مفرد في الحسن فأعجب ... بلا ثان فكيف به تثنى إذا أبدى الدلال وهز قدا ... فلا تسأل عن الصب المعنى غدا ملك الملاح بلا اعتراض ... وقالوا كلهم إنا أطعنا له قتل الخلائق صار فرضا ... وسيف اللحظ للعشاق سنا فهل للعاشقين له نصير ... بسحر عيونه إنا فتنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1437 ترى عشاقه سكرى غرام ... كأنهم سقوا دنّا ودنا تراهم في النهار وهم حيارى ... وويلهم إذا ما الليل جنا تبارك من براه بلا شبيه ... فلا عجب إذا ما الصب جنا ولا أنسى مراجعة تقضت ... بأول وهلة لما التقينا رنا شزراً إلي وقال مهلا ... فما لك من نجاة إن طعنّا فقلت له فديتك لا أبالي ... سأصبر في الغرام فمن تأنى وأبلغ منك مقصودي بلطف ... وإلا بالمهند وهو أدنى فماس يتيه من قولي دلالا ... وقال أراك قد أخلفت ظنا فإن معاشري فرسان حرب ... ولا يخشون يوم الروع طعنا فقلت له ألم تسمع بقومي ... فقد جعلوا الوغى والفتك فنا وقد ذاعت مفاخرهم وشاعت ... تناقلها الرواة بكل مغنى وسل عنا الفرنجة فهي تنبي ... بما قاست من الأهوال منا وقائد معشري بطل همام ... غدا لي والداً وبه افتخرنا بعبد القادر المولى تسمى ... لعمرك في اسمه قد لاح معنى وفي الأسماء للأشخاص فأل ... كذا نقل الرواة وقد صدقنا أمير قد تفرد في البرايا ... غدا لجميع أهل العصر ركنا له الجود العميم بكل قطر ... به أهل الفضائل قد سعدنا له جد وجد ثم جد ... بهم نال الفخار وما تمنى فجد فاق أهل الأرض طرا ... وشرف ذكره سهلاً وحزنا وجد في المعارف والمزايا ... به نال العلا فناً ففنا وجد منه يدني كل قاص ... فلو طلب النجوم لما بعدنا أمير في الشجاعة لا يضاهى ... إذا ما السيف في الهامات رنا يسير إلى الوغى فرحاً بشوق ... ويقتحم الكتائب مطمئنا بسالته بكل الأرض شاعت ... بها أعداء دولته شهدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1438 إذا ما لاح ممتطياً لطرف ... تخضب بالدماء بدت كحنا ترى بدراً على شفق وبرق ... بيمنى قد غدت نحساً ويمنا بها لعدو سدته هلاك ... وأضحت للصديق منى وأمنا وإن شئت العلوم فكل فن ... غدا فيه فريداً لا يثنى أيا مولى تفرد في المزايا ... ولم أعلم له في الفخر دنا تفضل بالقبول فدتك نفسي ... فأنت أحق من بالصفح منا ودم في عزة وعلو شان ... بك الأعياد يا سندي تهنا وقد دعاني في عيد من الأعياد لأن أكون معه أيام العيد في بعض منتزهاته، فأرسل لي هذا الكتاب الشريف، المحتوي على كل معنى لطيف، فقال: الأستاذ العظيم والملاذ المفخم، الحائز للفضائل والمتمم للفواضل، سيدي وأخي الشيخ عبد الرزاق أفندي، وبعد: فإنني أهديكم من السلام أعطره، وأبث إلى صديقي من الشوق أوفره، هذا وإن عيد الفطر قد اقترب، والنفوس متشوقة إلى التنزه والطرب، لأن شهر الصيام يضني الأجسام، ولذلك قد صممت الجماعة على التوجه لمحل مخلصكم بالأشرفية بعد الغروب بساعة، وحيث أن حضرتكم واسطة عقدنا، وعروتنا الوثقى الرابطة لودنا، ولا يتم إلا بوجودكم سرورنا، وإن غبتم عنا غاب بسطنا وحبورنا، وبمشاهدتكم يكون لنا عيدان، بمجلس النايات والعيدان، فبادروا إلى المحفل الزاهر، واجتنوا من البستان الأزاهر، وسرحوا الناظر في الروض الناضر، ولا تنقصوا علينا بعدم تشريفكم المسرة، وتجلبوا لأهل ودادكم ببعادكم المضرة، لأنكم قطب دائرة أفراحنا، وطلعتكم البهية مزيلة أتراحنا، فبادروا لإسعافنا بتشريفكم وإتحافنا والسلام: أهنيك يا بدر السادة والفخر ... بعيد سعيد بعد ما نلت من أجر فدم ملجأ للناس في العلم والنهى ... يهنى بكم عيد الضحية والفطر فلا زلت يا مولاي ترفل دائماً ... بثوب الهنا والعز ما رجع القمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1439 ثم إنه بعد الغروب، مر علي في عربيته فبادرت الركوب وسرت مع حضرته مصغياً لكلامه، مقتطفاً أزهار نثره ونظامه، بمحاضرة تهز المعاطف اهتزاز الغصون، ورونق لفظ لم يدع قيمة للدر المصون. وفي ثاني يوم صباح العيد، باركت له في الموسم السعيد، ثم قدمت هذه القصيدة، لطلعة حضرته السعيدة، فتناولها مني بيد القبول، وأجرى لها من البشاشة ما يفوق المأمول، وهي: أما والهوى العذري المقيم على عذري ... بها كل برهان حكى طلعة البدر لئن كان لي قلب يميل لغيرها ... فلا زلت طول الدهر في غصة الهجر فتاة لها روحي وهبت ومهجتي ... وإن قبلت أسديتها ميتا شكري أرى الموت في شرع الغرام بحبها ... حياة ومن لم يقض في الحب ذر كفر رماني عذولي بالسلو ولامها ... على صلتي من لي بضد عنى ضري أأسلو وقلبي كلما مر ذكرها ... أسال جفوني من يواقيتها الحمري ألم يكف هذا الدهر سقمي ولوعتي ... فساعد في تسليط ضدي على غدري رعى الله أيام الوصال وطيبها ... وياليت لو أنفقت في نيلها عمري لقد كان لي ممن أحب رعاية ... فصار لها قلب يزيد على الصخر ولم أنس مذ جاذبتها من ذوائب ... فمالت كغصن البان تيها على صدري ولله ما أجراه رشح رضابها ... بلبي كأني سغت خمراً على خمر ثوت في فؤادي حين شامته خالياً ... ولكن على صعب النوى أحكمت قصري سقى الله مغناها سيواكب عبرتي ... فيغدو بدمعي منبت الورد والزهر فليس لها في الحسن والله مشبه ... وليس لمحيي الدين ثان بلا نكر أمير العلا بحر الندى صفوة الملا ... عليه يد النعماء قد قصرت شكري تملكني عن أصله فهو سيدي ... وأني له المملوك في صورة الحر أيا ابن النبي الهاشمي محمد ... لقد راق للأسماع في مدحكم شعري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1440 إليك يحق المدح إذ أنت أهله ... وأنت لعمري كعبة النظم والنثر وأنت الذي قد أعجز العقل دركه ... وهيهات أن تدري النهى لجة البحر وإني لكم أهديت عذراء فكرة ... تفاخر إن أبدت حلاها سنا الفجر وتفصح أن شامت قبولاً بقولها ... وحقك يا مولاي قد زدت في مهري فلا زال شهر الصوم يحكيك قدره ... ولا زلت تحكي منه في ليلة القدر وأعطاك ربي ما تروم وما تشا ... ودامت لك الأيام باسمة الثغر ولازلت للأعياد عيداً وللعلا ... علاء وللدنيا ضياء مدى الدهر وفي العيد الذي بعده كنت في معيته في بعض المتنزهات فأراد ملاطفتي بخطابه لي بهذه الأبيات وهي: ألا يا واحد الفضلاء إني ... لغيرك ليس لي في الرد منزع وقد كانت توافى كل عيد ... قصائدك التي للشان ترفع فلم غيرت عادة ذي وداد ... بحبك دون كل الناس يقنع وأكثرت المدائح والتهاني ... لغيري إن هذا الأمر أفظع فأجبته في الحال: ألا يا أوحد الأمراء طرا ... ويا من ساد أهل العصر أجمع تفرقت المحاسن في البرايا ... وأنت لكل ما نالوه مجمع فمهما كان مني من مديح ... فمالي في السوى والله مطمع فأنت على الحقيقة جل قصدي ... وأنت لكل مدح راق مطلع وقد آن أن نذكر بعض القصيدة التي وعدنا بها عند ذكر سفره إلى الجزائر. بعد الأحبة عن عياني محرقي ... يا ويح قلب المستهام الشيق يا قلب هل تقضي زمانك بالأسى ... إربأ بنفسك واشفقن وترفق كم تقطعن الليل بين تنهد ... وتحسر وتفكر وتحرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1441 ومنها هل نلتقي يا أهل ودي ساعة ... يا أهل ودي ساعة هل نلتقي فأبثكم شكواي من ألم النوى ... تباً به بمتيم لم يرفق أنا ذلك الصب الذي وحياتكم ... وحياتكم لسواكم لم يعشق هل تحفظون ذمام خل عنده ... إن السلو سجية لم تخلق ومنها في الحماسة: إني ورثت شجاعة الآباء في ... صغري وإن بفعالهم لم الحق إني اجتهدت وخانني دهري فلا ... عار علي برد سعي المخفق لله أشهب كالشهاب علوته ... لولا اللجام غدا لشهب يرتقي وطلبت سهم الموت قدماً جاهداً ... لكنه لتعاستي لم يرشق إنا أناس لا نرى موت الفتى ... فقداً إذا كان برمح أزرق ونرى عناق مدرع يوم الوغى ... أشهى وأبهى من عناق مقرطق والشرب من جاري الدماء ألذ من ... صهباء ماء في الدنان معتق وغبار يوم الحرب أعبق عندنا ... من نشر مسك في ثياب ممنطق من كان معشره أمانيهم كذا ... فإذا تحدث بالبسالة صدق وهي طويلة تنوف عن ثمانين بيتاً، وله حفظه الله من قصيدة يمدح بها والده: فؤادي في حب الحسان تعذبا ... وما أحسن التعذيب منهم وأعذبا ألا في سبيل الحب روحي وهبتها ... لبدر تمام بالهلال تنقبا سبى العقل مني بل جميعي جملة ... وفرق صبري مثلما افترقت سبا صبا كل قلب في الأنام لقده ... إذا ما انثنى كالغصن حركه صبا ومنها: يا ربة الحسن البديع ترفقي ... بصب على جمر الغرام تقلبا ولا تسمعي قول الوشاة فإنه ... إلى غير ذاك الحسن في الحب ما صبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1442 صليه واصلي قلب واشيه حسرة ... فكم نمق التزوير عنه وأطنبا ومنها: أيا ويح من بالحب ذاب فؤاده ... وعلق بدراً في البروج محجبا يرى الموت أدنى من نوال مرامه ... ونيل نجوم الأفق أيسر مطلبا مهاة أسود الحرب تحرس خدرها ... يرى دونها سمر الأسنة والظبا وما العيش إلا أن تكون ممتعا ... بوصل حبيب عن سواك تحجبا ثم إنه كان قد قدم معروض الاستئذان من الحضرة العلية، والذات الشاهانية، حضرة مولانا بهجة الأنام وروح جسم الليالي والأيام، السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان عبد المجيد خان، أيد الله صولته وأبد دولته، ما أشرقت الشمس وضاء النهار وطاب الأنس بين الرياض والأزهار، بأن يتشرف بأعتابه وأن يكون مأذوناً في السعي لواسع رحابه، فحصل له الإذن العال بكل تعظيم وإجلال، أن يشرف من غير إطالة لكي يحظى بمطلوبه وينال آماله، فأحكم العزو وعلى السفر عول، وتوجه عام خمس وثلاثمائة وألف في ربيع الأول، وخرج لوداعه أهل البلد، وكاد أن يقال ما بقي منهم أحد: لا تطلبن القلب بعد رحيلهم ... مني فقد ذهب الفؤاد بأسره يا ليت يوم البين من قبل النوى ... لم تسمح الدنيا بمولد شهره ثم إنه لم يمض أيام من وصوله إلى الدار العلية، إلا وقد وجهت عليه الذات الشاهانية رتبة الفريقية مع الياورية العظمى ذات المقام الأسمى، بعد نقله من الملكية إلى العسكرية، ومعاملته بالمعاملة التي تليق بطلعته البهية، وأمره حضرة مولانا السلطان، بأن يبقى في الدار العلية ليكون تحت نظره العالي الشان، وبعد نحو سنة أرسله أفندينا السلطان إلى الشام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1443 مسألة سياسية، فجلس في الشام أياماً ثم أخذ عياله ورجع بهمة قوية، وفي شهر رمضان عام ألف وثلاثمائة وستة، أمرني بكتابه الشريف بالتوجه لحضرته، لما علم من كثرة شوقي لرؤية إشراق طلعته، وأرسل لي مصروف الطريق ونفقة العيال، فامتطيت جواد العزم على التوجه نحو التداني والوصال، وودعت الأهل والأولاد والإخوان الكرام، وتوجهت في سنة ألف وثلاثمائة وست سادس ذي القعدة الحرام، وحينما وقف الوابور القطار في موقفه من الدار العلية، وجدت حضرة عطوفة المترجم مقبلاً علينا بقاربه بهمة قوية، فعلمت أنه قد تنزل من مقامه العال، لأجل أن يحبر الخاطر بجميل الاستقبال، فوقف عند الوابور متبسماً تبسم السرور وهو في ملابسه الرسمية، الدالة على فخامة رتبته العلية، فنزلت من الوابور إليه، وحييته بما يجب وجلست في قاربه لديه، فخلع علي خلعة سروره وبشره، وصنع بي ما يوجب علي دوام حمده وشكره: شهم يدل على كريم أصوله ... طيب النبوة في جميل صفاته كل المطالب دونه فلو أنه ... طلب السماك لحل في عتباته بدر السعادة والسيادة والعلا ... محيي لدين الجود بعد مماته فلله دره من همام قد تشرفت الصفات بذاته، وإمام قد تحلت العبارات ببديع صفاته، فلعمري ما تليت آيات أوصافه إلا وركع لها القلم وسجد، ولا قرأت أحاديث سنده إلا وتفردت في صحيحها بعلو السند، فهو الذي حديثه في الفضل مرفوع، وغيث سحابه الهاطل لا مقطوع ولا ممنوع، ولقد وجه إلي خطابه التأنيسي الذي يستحق أن يرسم بنور البصر، في عنوان صحائف الأذهان والفكر، ثم خرجت معه من القارب إلى الركوب في عربته، وأخذت تسير بل تطير بنا إلى داره ومحلته، وكان قد قال لي من جملة الكلام، إياك أن تتأمل العود إلى الشام قبل مضي عام، وفي ثاني يوم من وصولي عين لي معاشاً لنفقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1444 الأهل والولد، وأخبرني بذلك لكي أستريح من كل هم ونكد، مع أنه مدة مكثي عنده ما قطع عني عطاءه، ولا منع عني يوماً حباءه، ولم يقيد حفظه الله إجراء هذا المعاش بمدة من الأيام، بل جعله من إحساناته المعتصمة بحبل الدوام، ثم إنه بعد أن رآني قد استرحت من لانصب، ونفضت ثوب السفر من غبار التعب، أخذ يطوف بي كل يوم في مكان، ويدخل بي إلى أمكنة لم يدخلها سوى أهل الرفعة والشان، ويجمعني بأكابر أعيانها، ويدخل بي أحسن رياضها وجنانها، ولم يبق مكان من أمكنتها أو سراي من سراياتها إلا وقد دخلته معه وقوبلت من أهله بالرحب والسعة، وقد أخذني حفظه الله وأعلا مقامه وعلاه، إلى مكان في البحر يقال له بيق اضا، ليس لداخله منه إلا السرور والرضى، فلا ريب أن ذلك المكان ما كأنه إلا قطعة من الجنان، تدرقت حواشيه وتأنق واشيه، فتنظمت عقوده وتنمنمت بروده، وراضته أكف المطر ودبجته أيدي الندى بأفانين الدرر، وأخرجت أرضه آثارها، وأبدت مخبآتها وأسرارها، والقيان في زينتها وزخارفها تتيه في وشيها ومطارفها، والولدان تزهو جمالاً، وتميل لطفاً ودلالاً، فلعمري إن ذلك المكان هو كالعين من الإنسان، قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤه، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤه، وتنافجت بنوافج المسك أنواره، وتعارضت بغرائب النطق أطياره، وتنظمت بيوتها على طرز بديع، يزري بجمال الزهور في أيام الربيع، فجلسنا في ذلك المكان سحابة النهار، نشرح الصدر ونجلو الأبصار، وفي شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثمائة وألف أرسل حضرة مولانا السلطان أمير المؤمنين عبد الحميد خان لحضرة المترجم خبراً بالحضور، فتوجه إلى مكانه السامي المعمور، فحينما حضر لديه وتمثل في أعتابه بين يديه، أظهر له سروره وبشره وحبوره، وقال له قد عينتك عضواً في مجلس التفتيش العسكري الكائن في المابين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1445 فعند ذلك أحضر المترجم قلبه ورفع اليدين، ودعا له بما فتح الله به في الحال، وأبدى من التشكر والثناء على العواطف الشاهانية ما لم يكن يخطر في ذلك الوقت ببال، حيث أنه لم يزل يخصه برعايته، ويلحظه بعين عنايته، ويقربه من رفيع سدته، ويدنيه من منيع حضرته، ويرفع حجاب الوسائط بينه وبينه، ويمنع عنه همه وكدره وغينه. أبقاه الله له وللأنام حصناً حصيناً، ووقاه ما يضره وأدامه لنا سلطاناً أميناً. ثم إنني حينما دخل المحرم سنة سبع وثلاثمائة وألف قدمت له قصيدة تبريكاً بالعام، أحببت ذكرها هنا تتميماً للغرام، وهي: ألفت الهوى طفلاً وكهلاً وأشيبا ... وما رمت لي ديناً سواه ومذهبا ولم أر شخصاً مثل شخصي متيما ... ولم أدر قلباً مثل قلبي معذبا رعى الله من بات الفؤاد بحبها ... حريقاً على جمر الغضا متقلبا إذا ما محيا البدر قابلها صبا ... إليها وأبدى للمغيب وغربا ممنعة لا يمكن الطرف أن يرى ... جمال محياها البديع المحجبا جفتني ومن لي من جفاها وليس لي ... أخلاي ذنب في جفاها تسببا ومذ صوبت قلبي بسهم صدودها ... رأيت سهام القتل أولى وأقربا أشابت شعوري ثم مني تنكرت ... ومنها مشيبي كان من زمن الصبا شغفت بها حباً ومالي مأرب ... سواها ولا أرضى سوى الحب مأربا ولم أنس مذ قالت دلالاً ومحنة ... أراك بدعواك الغرام مكذبا وسهدي وسقمي وانتحالي وأدمعي ... شهود عدول رامت الصدق مركبا وقالت بأني في الغرام سلوتها ... ولست أرى السلوان في الحب مذهبا فلا عشت إن مر السلو بخاطري ... ولا أم إن كنت أسلو ولا أبا وكيف ترى المشغوف يسلو حبيبه ... وهيهات يسلو الصب مهما تعذبا وكان على سمعي حديث ملامها ... ألذ على المحرور من نسمة الصبا وما أجمل التأنيب فيمن تحبه ... وما أعذب التعذيب فيه وأطربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1446 أما والهوى العذري قلبي بحبها ... أسير ولا يرضى من الأسر مهربا أبى الله إلا شقوتي في غرامها ... ولم يرج من يشقى سوى الذل مطلبا رأيت نواها لي مبيداً وليتها ... تنيل المعنى من جنى الوصل مأربا فبالله دعني عاذلي لا تلم فتى ... يرى الموت في شرع الصبابة أقربا وحاشاي أني أرهب الموت في الهوى ... ولكن أرى هجري من الموت أصعبا فشقي لجيبي في الهوى ليس نافعاً ... فمن لم يشق القلب كان مكذبا فما العز إلا بالحبيب وعطفه ... وما الذل إلا أن تكون مخيبا أفاتنتي بالوصل عطفاً تكرمي ... على مغرم لا زال مضنى معذبا وليس له ذنب يقود إلى الردى ... سوى الحب إن الحب يدعو إلى الحبا فبالله يا ذات الجمال وما الذي ... أمالك عن وصلي وهجري أوجبا يميناً بمحي الدين باشا أبو الهدى ... سليل الندى من فاق شرقاً ومغربا لأنت مني روحي ولم تر مقلتي ... سواك غدا في ذروة الحسن كوكبا كما أن هذا الشهم شمس أولي العلا ... وفي فضله باح الزمان وأعربا سما في المعالي واستقر بأوجها ... جمالاً وإجلالاً ومجداً ومنصبا لقد ورث المجد المؤثل والعلا ... عن الغوث فرد الكون من قد تقطبا أبيه الذي دانت له مهج الورى ... وكان لدى كل الأنام محببا أبي الفضل عبد القادر الحسني الذي ... له كان متن الدهر للعز مركبا هو ابن علي وابن سيد من سما ... محمد المختار أفضل مجتبى فهذا هو الفخر الرفيع مقامه ... هنيئاً له قد فاز بالعز والحبا فلا ريب أن الله أعطاه ما رجا ... وكمله خلقاً وخلقاً ومنسبا فما هو إلا في البرية أوحد ... بآداب خير الخلق طراً تأدبا همام أعاد الفضل من بعد ما قفا ... وجدد رسم الجود من بعد ما نبا له شيم تسمو إلى ذروة العلا ... فقل ما تشا حمداً عليه مرتبا تجمع فيه الجود والعلم والتقى ... لذا كان من ظل الأنام مقربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1447 أجل ملوك الأرض قدراً وقدرة ... خليفة خير الخلق شرقاً ومغربا سليل العلا عبد الحميد الذي سما ... وقر على عرش الصعود وطنبا فبشرى لمحي الدين باشا بنعمة ... عليها دوام الشكر مولاه أوجبا فأين الجبال الشم من عظم قدره ... وإن له من سيد الرسل منسبا إذا الناس قد راموا مديحاً بفعلهم ... فعنه لسان المدح لبى وأعربا وإن ذكر السادات يوماً فذكره ... كبسملة القرآن ممن تأدبا فللشمس إن شامت بوارق حسنه ... حياء به مالت إلى جهة الخبا له هيبة بين الأنام وطلعة ... غدت في سماء العز للعين كوكبا يغص العدا إن فاح عطر ثنائه ... كأنك تغريهم على السم مشربا وفي قلبهم مهما تقدم للعلا ... من النار مقدار عليهم تلهبا فقل للأعادي خاب ظنكم به ... فقولوا لموت الغيظ أهلاً ومرحبا غدا رأيه في المشكلات مقدماً ... إذا خابت الآراء كان المصوبا يرى بذله للمال لو جل هينا ... وكان لديه الحمد أعلا وأكسبا رأت جوده سحب السماء فأيقنت ... بأن نداه كان أغلا وأغلبا وإن هز في يوم الوغى سمهريه ... فليس لمن يبغي من الموت مهربا وأسد الشرى تخشى مواقع بطشه ... ففي يده اليمنى المنية والحبا ضحوك إذا استمطرت هاطل جوده ... وإن هب ريح الحرب حياه مرحبا إذا نشرت يوماً دواوين مدحه ... أذاعت لنا عطراً من المسك أطيبا أرق من الراح الشمول شمائلاً ... ولطفاً ولكن زاد عن نسمة الصبا به قد غدا حمدي بهيجاً ومدحه ... لدي غدا من نغمة العود أطربا بمالي وأهلي أفتديه ومهجتي ... وإن لامني اللاحي العذول وأنبا لأني به قد نلت كل مآربي ... ولست سواه أرتجي العمر مطلبا فيا سيداً ساد الأنام بسؤدد ... ويا جيداً في جوده الدهر أطنبا تهن بما ترجو ودم في سيادة ... تكون لمن والاك عزاً ومنصبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1448 فلا زلت في أثواب سعدك رافلاً ... وشانيك ما دام الزمان مخيبا وأبشر بعام عمه منك نفحة ... يضوع لها نشر القرنفل والربا وحينما وقفت لديه، وتلوتها بين يديه، هش وبش وقابلني بسروره، وأفرغ علي حلة حبوره، وحباني من نعمه، وأولاني ما يدل على مزيد كرمه، ولم أزل عنده في دار السعادة متقلباً على فرش السعادة، فائزاً بكل مطلوب، حائزاً على كل مرغوب، ولما كمل لي في ضيافته عام، وما كأنه إلا لحظة أو منام، أذن لي بالسفر إلى الوطن والأهل، فأخذت في تهيئة الأسباب على مهل. ثم ودعته بعد أن أودعته قلبي، وفارقته وقد فارقني صبري ولبي: لأصبر كرها لا احتمالاً فربما ... صروف الليالي مسعدات بأسعد وأبعث أنفاسي إذا هبت الصبا ... تروح بتسليم عليه وتغتدي ولم أبرح بحمد الله موصولاً بصلاته، ممتعاً بجميل نعمه وهباته، مسعوداً بحسن شمائله، مقصوداً بشريف كتبه ورسائله، أطال الله مدته وعمره، ورفع في الدارين حضرته وقدره، وأناله كل منى، وقصر أيامه ولياليه على السرور والهنا، وأهلك حاسده وضده وجعل السعد خادمه وعبده. هذا وإنني لم أزل أقابل بره الدائم بالثناء الجميل، وأصرف مدة العمر عليه بالدعاء الجليل. وغاية جهد أمثالي ثناء ... يدوم مدى الليالي مع دعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1449 السيد الشيخ شهاب الدين محمود بن السيد عبد الله أفندي الألوسي البغدادي ينتهي نسبه الشريف من جهة الأب إلى سيدنا الحسين، ومن جهة الأم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1450 إلى سيدنا الحسن، بواسطة الشيخ الرباني والهيكل الصمداني، سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره. وقد كان رحمه الله تعالى خاتمة المفسرين ونخبة المحدثين، أخذ العلم عن فحول العلماء، ومنهم والده العلامة، ومنهم الشيخ علي السويدي، ومنهم الشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي الموصلي، وغيرهم من السادة والأفاضل القادة، كان رضي الله عنه أحد أفراد الدنيا يقول الحق ولا يحيد عن الصدق، متمسكاً بالسنن متجنباً عن الفتن، حتى جاء مجدداً وللدين الحنفي مسدداً، وكان جل ميله لخدمة كتاب الله، وحديث جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهما المشتملان على جميع العلوم، وإليهما المرجع في المنطوق والمفهوم، وكان غاية في الحرص على تزايد علمه وتوفير نصيبه منه وسهمه، واشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس ووعظ وأفتى للحنفية في بغداد المحمية، وأكثر من إملاء الخطب والرسائل، والفتاوى والمسائل، وخطه كأنه اللؤلؤ والمرجان، والعقود في أجياد الحسان، قلد الإفتاء سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، وأرسل إليه السلطان بنيشان ذي قدر وشان، قال نجله السيد أحمد في ترجمته المسماة بأرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1453 الند والعود، كان عالماً باختلاف المذاهب، مطلعاً على الملل والنحل والغرائب، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب كآبائه الأمجاد، إلا أنه في كثير من المسائل يقتدي بالإمام الأعظم، ثم في آخر أمره مال إلى الاجتهاد قال: ومن مؤلفاته ما هو أعظمها قدراً وأجلها فخراً، تفسيره المسمى بروح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني أيد فيه مذهب السلف الأماثل، ومنها شرح السلم في المنطق، ومنها نزهة الألباب في غرائب الاغتراب، ومنها نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ونشوة المدام، وكتاب الأجوبة العراقية، والفيض الوارد، وغير ذلك. وقد مدحه السيد عبد الباقي أفندي العمري بقوله: نزلوا بالسفح من وادي زرود ... ونزلنا بالغضا ذات الوقود فانقضت منهم أويقات اللقا ... وقضت بالموت أيام الصدود لو تراني يوم سارت عيسهم ... من خفوق خلتني بعض البنود بخلوا عن أن تراهم في الكرى ... مقلتي يا مقلتي بالدمع جودي وعدوا والوعد منهم خلب ... رب برق ما به غير الرعود أين آرام المصلى والنقا ... من وفا وعد وإنجاز وعودي أنكروا دعوى صباباتي بهم ... وشؤون الدمع من بعض الشهود صوب العبرة تصعيد الحشا ... نار وجد جاوزت حد الصعود ومحال حر وجدي ينطفي ... بسوى رشفي لمى ثغر برود إلى أن قال: ومتى روض الأماني قد ذوى ... بثنا المولى الشهاب اخضر عودي وغصون القصد فيه أزهرت ... بورود كقدود وخدود فانثنى ينظم منه قلمي ... درراً تزري بقرطي كل خود قبله ما نظرت عين ذكا ... سيد في قومه غير مسود خندف العليا به قد أنجبت ... فأتى خير وليد من ولود ومنها: فلقت أقلامه صبح هدى ... رفعت فسطاطه فوق عمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1454 جند الأرواح في تخبيره ... فهو مشغول بترتيب الجنود مسلم أذكى مصابيح الهدى ... وبخاري الثنا بعد همود وأحاديث على سلسلها ... ألحق الآباء منها بالجدود حجة بالغة برهانها ... قام من غير دفوع وورود توفي رحمه الله تعالى حادي وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف ومائتين وسبعين رحمه الله تعالى. وقد أرخ وفاته الإمام الأديب الشيخ عبد الباقي أفندي العمري المذكور آنفاً بقوله: قبر به قد توارى خير مفقود ... فاغتم حزناً عليه كل موجود أبو الثناء شهاب الدين فيه ثوى ... فيا لمثوى برفد الفضل مرفود كجده كان سيفاً يستضاء به ... فحاز في الرشد حداً غير محدود مضى تغمده المولى برحمته ... فليفتخر لحده فيه بمغمود من بعده لا فقدنا من بنيه فتى ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود تفسير روح معاني الذكر نضدها ... كعقد در بأيدي الفكر منضود على تبحره في العلم شاهدة ... كفى بها شاهداً في حق مشهود أجاب أعلام إيران بأجوبة ... برهانها غير مدفوع ومردود حور الجنان به حفت مؤرخة ... جنات روح المعاني قبر محمود ودفن رحمه الله تعالى بالقرب من الشيخ معروف الكرخي، وقبره مشهور يزار، وبلغ عمره نحو ثلاث وخمسين سنة. الشيخ محمود الصاحب أخو الشيخ خالد الحضرة العالم الكامل والعابد العامل، عمدة الأفاضل ونخبة ذوي الشمائل، ولد في بلدة السليمانية سنة ألف ومائتين، وقرأ القرآن والمحرر للإمام اليافعي الشافعي على السيد عبد الكريم البرزنجي، نسبة إلى قرية برزنجة من بلاد السليمانية، وقرأ على أخيه مولانا خالد، وأخذ عنه الطريقة النقشبندية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1455 وانتفع. وفي سنة ألف ومائتين وست وثلاثين لما قدم مولانا خالد إلى دمشق، أقامه في محله لإعطاء الطريق وإرشاد المسترشدين، ثم في سنة ألف ومائتين وثمان وثلاثين حضر إلى الشام لعدم قدرته على فراق أخيه، ثم هاجر إلى مكة وأقام بها سبع سنوات، ثم رجع إلى دمشق واستقام في التكية السليمانية يرشد المريدين، إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين ودفن قرب قبر أخيه. السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان ولد سنة ألف ومائة وتسع وتسعين، وفي سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين جلس أخوه السلطان مصطفى على تخت الملك، وما استقر أمره ولا صفا له دهره، فأمر بقتل السلطان سليم، وبقتل المترجم ذي القدر العظيم، فنفذ أمره في الأول، وأما الثاني وهو المترجم لما جاءه جنود السلكان مصطفى الذين يريدون قتله، أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده، فهرب وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة مصطفى باشا البيرقدار وكان من عصبة السلطان محمود، وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر البيرقدار إلى المترجم فرح به فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه، وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة في رابع جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، وأرسل البيرقدار المشار إليه جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه، فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وأرسل وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب وإنفاذ أوامر السلطان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1456 طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمر السلطان، وتعهدوا بالمساعدة في كل ما يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً في الأسواق وعلى باب داره مكتوباً فيها قد قرب موت الصدر الأعظم، وساروا بأسلحتهم يطلبون قتل العساكر الذين تعلموا التعليم الجديد، فأخذوهم بغتة وشتتوهم وأحاطوا بمنزله وطرحوا فيه النار، ووقعت أمور يطول الكلام بذكرها. وانقسم الناس فريقين فريقاً يريد التعليم الجديد وفريقاً يكرهه، وقتل بسبب هذه الفتنة خلق كثير، وأحرقت دور كثيرة، وحاصروا الصدر الأعظم في الدار التي كان فيها، وأطلق عليهم الرصاص وقتل كثيراً منهم، ثم التهبت عليه صناديق من بارود وكانت في داره، فمات بسبب ذلك، وكان قد أخرج جواريه ونساءه قبل ذلك، فأحيلت الصدارة إلى يوسف باشا، وكان ذلك في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعزل شيخ الإسلام عطا الله أفندي وأحيلت المشيخة إلى عرب زاده محمد عارف أفندي، وكتب السلطان مصطفى وهو محبوس كتاباً إلى عساكر الانكشارية يحرضهم على الغيرة وإرجاعه إلى سلطنته، فوقع ذلك الكتاب في يد بعض العلماء فذهب به إلى شيخ الإسلام، فجمع كثيراً من العلماء وأخذوا يتحدثون في عواقب هذه الأمور، ويتشاورون في إطفاء هذه الفتنة، وظهر لهم أنه إذا بقي السلطان مصطفى في قيد الحياة لا تنطفي الفتنة، فاختاروا رجلاً من بينهم يقال له منيب أفندي كان قاضي إسلامبول ليعرض على السلطان محمود رأي العلماء، ويلتمس منه قتل السلطان مصطفى، فسار منيب أفندي إلى السلطان محمود وعرض عليه ذلك، فقال السلطان محمود إن هذا أمر محال، وكيف يتصور أن يصدر أمري بقتل أخي من كوني قادراً على منعه من هذه الأعمال، وصار بينه وبين السلطان محمود محاورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1457 كثيرة في ذلك، فقال له منيب أفندي في أثناء تلك المحاورة: قد جاء في الحديث الشريف: إذا اجتمع خليفتان فاقتلوا أحدهما فشق ذلك على السلطان محمود، وحول وجهه إلى شباك هناك ولم يجبه بشيء لشدة أسفه على أخيه، فقال منيب أفندي إن السكوت إقرار، ففي الحال أرسل منيب أفندي إلى كبير البستانجية وقال له: إن مولانا السلطان قد صدر أمره الشريف بقتل أخيه السلطان مصطفى، فاذهب وأتم أمره، فذهب البستانجي باشي ومعه جماعة من أعوانه إلى الموضع الذي كان فيه السلطان مصطفى، فأحس بهم وعرف مقصدهم، فاختبأ بين فرش كانت هناك، فدخلوا فوجدوه وراء الفرش فقتلوه خنقاً، وكان العلماء الذين اجتمعوا عند شيخ الإسلام ينتظرون رجوع الجواب إليهم، فلما أبطأ ظنوا عدم قبول السلطان فدخلوا جميعاً على السلطان محمود ترويحاً لكلام منيب أفندي، فلما دخلوا قبل أن يبتدئوا الحديث رأى السلطان محمود من الشباك إخراج أخيه ميتاً، فتألم كثيراً والتفت إليهم وعيناه ممتلئتان دموعاً، فعزوه ودعوا له بطول العمر، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، ومدة سلطنة مصطفى سنة وشهران وعمره ثلاثون سنة. ولما استقرت السلطة للسلطان محمود كانت أمور الدولة في غاية الارتباك، وكانت عساكر الروسية تتقدم إلى جهة الطونة بسرعة، فبعث جيشاً لمصادمتهم فلم يجد نفعاً، فطلبت فرانسا أن تتوسط في الصلح، فرفض السلطان مداخلتها لتأثره من الشروط التي عقدها نابليون مع الروسية سراً في تيلسيت، التي مضمونها اقتسام أوربا بينهما مع بلاد الدولة العلية، واستمر الحرب، مع كون الغلبة على العثمانيين، إلى أن وقع خلاف بين فرانسا وروسيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1458 ونشرت بينهما راية الحرب، وذلك سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، فالتزمت الروسيا أن تخرج عساكرها من حدود الدولة العلية، وعقدت مع الباب العالي صلحاً موافقاً للدولة جداً، فاغتنم السلطان محمود فرصة هذا الصلح لتسكين الثورات في ولايتي بغداد وايدين وغيرهما، فإنه في سنة ألف وما وست وعشرين أظهر سليمان باشا والي بغداد العصيان، فأرسل إليه السلطان محمود من قتله. وفي عام ألف ومائتين وسبعة وثلاثين تجاهر اليونان في المورة بالعصيان على الدولة، وكانوا يهجعون بمراكبهم على سواحل البحر، فيقتلون ويسلبون وينهبون ويأسرون، وبيان ذلك مع الاختصار أن بلاد المورة وهي قطعة من بلاد الروملي كانت ولاية من ولايات الدولة العلية، فلما اقتضى نظر السلطان محمود قتل الينجارية وتبديل وجاقهم بالعساكر النظامية الموجودة الآن، ضعفت عساكر الدولة وقلت، وطمع فيها الأعداء من كل جانب، فحاربها الروس وملكوا بلاداً من أراضيها، وممن ثار عليها في تلك المدة أهل المورة، وطردوا ولاة الدولة العلية، وقتلوا أكثر المسلمين الذين كانوا في تلك البلاد متولدين ومتوطنين منذ قورن طويلة، وكان المسلمون هم أهل الأراضي والأملاك والمزارع، وكانت نصارى المورة بصفة خدامين عندهم، فلا زال أمر النصارى يتقوى بواسطة الكنائس ورؤسائها لما يجتمعون في أعيادهم ومواسمهم، وينصح بعضهم لبعض بالاستقلال، وشرعوا في تعليم أولادهم الحروب والرمي بالرصاص، وأتقنوا أسباب الشجاعة بأنواعها سراً، وتعلموا الصنائع التي يتولد منها الغنى، فأرسلوا أولادهم إلى بلاد أوروبا لتعليم الصنائع، والمسلمون في غاية الغفلة والبله، يتركون تربية أولادهم للنساء والمخاصي المعبر عنهم بالأغوات، فلذلك تنشأ أولادهم، عقولهم بين عقول النساء والمخاصي، وما ألذ وأحسن ما قاله الشاعر المتنبي في هذه المناسبة حيث قال: لقد كنت أحسب قبل الخصي ... أن الرؤوس مقر النهى فلما تبين لي عقله ... علمت أن النهى كلها في الخصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1459 ولما ظهر للسلطان محمود ما حصل لمسلمي المورة من القتل والسبي والنهب إلا من فر منهم وهاجر إلى بلاد الإسلام، جهز جيشاً عرمرماً من عنده، وأمر محمد علي باشا والي مصر بتجهيز جيش آخر من عنده، فاجتمع الجيشان في بلاد المورة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا، يزيد على خمسة وعشرين ألفاً، وعمارة بحرية، فأيس الأروام من النجاة ونوال الاستقلال، فاستنجدوا بالدول الأروباوية، فبادرهم كل من فرانسا وانكلترا بتوسط الصلح، فلم يقبل السلطان سؤالهما، فعند ذلك أطلق كل منهما نار حربه على عمارتي الدولة ومحمد علي فأحرقوهما، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وإحدى وأربعين، ولما بلغ السلطان محمود ذلك التجأ لقبول ما اشترطاه من إبطال الحرب واستقلال الأروام. وكان أخذ المورة من يد المسلمين هو أكبر أسباب خروج الروملي بأجمعه من الدولة العلية، وفي سنة إحدى وأربعين أيضاً شرع السلطان محمود في تعليم بعض العساكر التعليم الجديد، وشرع يدبر تدمير الانكشارية وأبطال وجاقهم، فأبرز أمراً سلطانياً يتضمن القدح في وجاق الانقشارية، وبيان الخلل الواقع منهم، وتقلبهم على الدولة، وقتلهم بعض السلاطين، وأمر سليم باشا الصدر الأعظم أن يجمع العلماء في بيت شيخ الإسلام ويتلو عليهم الأمر الشاهاني ففعل ذلك، فأجابوا بالامتثال بما يصدر به الأمر السلطاني، وتعهدوا بإنفاذه، وكان مع الحاضرين جماعة يميلون إلى الانقشارية، فتعصبوا لهم سراً، وأخبروهم بما صار عليه الاتفاق، فهجموا على بيت الصدر الأعظم وبعض العظماء من رجال الدولة، وأخذوا ينادون في شوارع إسلامبول ويقولون اليوم قتل العلماء ورجال الدولة وكل من كان السبب في وضع النظام الجديد، ويقتلون كل من صادفوه منهم، وينهبون البيوت ويضرمون فيها النار، ففر الصدر الأعظم منهم، وجاء إلى السلطان محمود وأخبره بتلك الحوادث، فأمره أن يجمع الطوبجية وسائر أهل الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1460 أمام باب السرايا، فاجتمع في ذلك النهار جمع غفير من العلماء ورجال الدولة، ينتظرون خروج السلطان إليهم، فلما خرج إليهم أخذ يحدثهم بكلام يهيج به نخوتهم، فأقسم جميعهم على أنهم يهرقون دماءهم في صيانة أوامره وتنفيذها، والتمسوا منه إخراج الصنجق الشريف النبوي ليهجموا على العصاة، فأراد السلطان أن يكون معهم، فتوسلوا إليه أن لا يتنازل إلى ذلك، وأرسلوا منادين في شوارع المدينة ويدعون أهل الإسلام للاجتماع تحت الصنجق الشريف، فلما علم بعض الانقشارية بذلك أرسلوا أناساً من جماعتهم ينادون لاجتماع الانقشارية، فلما قرعت أصوات المنادين آذان أهل الإسلام أسرعوا إلى فسحة السرايا أفواجاً أفواجاً، ففرقوا عليهم السلاح، وسلم السلطان الصنجق الشريف لشيخ الإسلام قاضي زاده طاهر أفندي وعاد إلى كرسيه الملوكي، وكان يشرف على الجميع أمام السرايا، وسار سليم باشا الصدر الأعظم أمام تلك الجموع التي كانت أكثر من خمسين ألفاً، وشنوا الغارة على الانقشارية صارخين الله أكبر على الأشقياء، وهجموا عليهم وأطلقوا المدافع والرصاص، وكان يوماً مهولاً عظيماً، فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، والباقون فروا إلى قشلهم وتحصنوا فيها، فهجم عليهم العساكر والأهالي وطرحوا فيها النار فاحترق كثير منهم، ومن بقي ولوا الأدبار، ثم قبضوا على كثير منهم فقتلوهم وطرحوهم في فسحات ميدان، وبعد ذلك دعا السلطان إليه العلماء ووكلاء الدولة وأخذ يريهم أثواب السلاطين العظام الملطخة بالدماء، الذين قتلهم العصاة الانقشارية طالباً ثمن دم السلاطين، فأجاب العلماء أن ثمن دم كل سلطان خمسة وعشرون ألف نفس، فصدرت الأوامر بتدمير الانقشارية في الآستانة العلية وفي جميع الجهات، فقتل منهم عدد كثير وارتاحت الدولة والناس من مظالمهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1461 وألحق بهم بعض الدروايش من البكطاشية لكونهم يميلون إليهم ويساعدونهم ويفعلون في تكياتهم أفعالاً شنيعة محرمة وبدعا مسترذلة، فأمر السلطان بقتل أكثرهم وهدم تكياتهم، وأخذت الدولة في تكثير العساكر النظامية والجد في تعليمهم، وأبطلت وجاق الانقشارية، وفي أثناء تلك المدة غير السلطان محمود لبسه، ونزع العمامة والجبة، وتزيا بزي العسكر الجديد على هيئة الأوروباويين، وبالطربوش الصغير، ولم يبال بأقوال المعترضين. ذكر القتال مع الروسية وفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، زحفت العساكر الروسية لمحاربة الدولة العلية عند نهر الطونة، وسار جيش إلى جهة الأناطول، فأرسلت الدولة عساكر لمصادمتهم تحت قيادة الصدر الأعظم سليم باشا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، وتغلبت عساكر الروسية وهزموا عساكر الدولة، واستولوا على جملة أماكن، وتقدمت عساكرهم إلى شوملة، وأقاموا الحصار على سليسترة واستولوا على مدينة وارنة، فعزل السلطان الصدر الأعظم سليم باشا وأمر بنفيه، وأقيم في الصدارة محمد عزت باشا، وسارت بعض عساكر الدولة إلى جبل البلقان، فتركت الروسية محاصرة شوملة، وكانوا قد استولوا على سليسترة، وكانت عساكر الروسية التي في الأناطول تتقدم، فملكوا القرص وبايزيد وطبراق وأرض روم، واستأسروا صالح باشا، وجاء جيش الروسية فيه مائة وستون ألف مقاتل وحاصروا أدرنة حصاراً شديداً، إلى أن استولوا عليها، ولما اشتد الأمر على رجال الدولة وعلى السلطان محمود اضطربت الأمور اضطراباً كثيراً، إلا أن السلطان محمود أظهر الثبات وقوة الجنان في وسط تلك الأخطار المحدقة به وبدولته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1462 ثم تداخلت دول أوربا في الصلح، وأتموه بشروط، سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، ومآل تلك الشروط استقلال الأروام وتنازل الدولة عن إقليم السرب والأفلاق والبغدان لملوك من أهل تلك البلاد، تحت نظارة ملك الروسية، وعن بعض جزائر عند فم نهر طونة، وعن بعض أراض في الأناطول مع غرامة حربية قدرها مائة وعشرة ملايين فرنك، قال بعض مؤرخي الفرنج: وربما استغرب القارئ كيف أن الدولة التي سادت على أغلب ممالك العالم وأوقعت الرعب في قلوب جميعهم، لم تسمر في نموها وتقدمها، حتى التزم سلاطينها إلى أن يرتضوا هذه الشروط، فإذا نظر إلى هذا الأمر بعين خالية عن الغرض يحق الاستغراب من وجه آخر، وهو: كيف أمكن هذه الدولة أن تحتمل هذه الصدمات الشديدة والمقاومات المريعة من أعدائها مع وجود الخلل في داخليتها، بسبب أصحاب البغي والفساد وقلة الأموال، ولم تتزعزع أركانها بل استمرت في سلك الثبات العجيب، ولم تستطع قوة أو سبب آخر أن يثنيها، وإذا ضممنا إلى هذه الأسباب الخلل الذي أوقعه وجاق الانقشارية، وعدم تمام انتظام الترتيب العسكري الجديد، وعدم تمرن الجيوش بفنون الحرب وملاقاة الأهوال، لربما حق العجب كيف لم تنقرض هذه الدولة أصلاً، واستطاعت أن تناضل إلى هذه الدرجة، مستهينة بكل الموانع التي تعرضت لها، فهذا أعظم برهان على عظمها وسطوتها، انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1463 وأقول أن ههنا سراً إلهياً لتأييدها، وهو سر بركة الإسلام وسر بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وسريان روحانيته لتأييد ملته وأهل دينه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر استيلاء الفرنسيس على الجزائر وفي سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، استولت الفرنسيس بقوة جبرية على جزائر الغرب مدعين أن أهلها كانوا يقبضون على مراكبهم التجارية ويربطون عليهم البحر في تلك الجهات ويفتكون بهم، فلما بلغ الباب العالي ذلك أرسل طاهر باشا قبودان باشا إلى الجزائر يتعاطى الصلح بينهم وبين أحمد باشا والي الجزائر، فلما وصل وأراد النزول إلى البر منعته الفرنساوية، فعاد راجعاً إلى القسطنطينية، والجزائر المذكورة كانت في حكم الدولة العلية من حين تملكها السلطان سليمان، فلما طالت المدة صار الولاة الذين فيها يتوارثون الولاية بالتغلب، ويدفعون خراجاً للدولة، ويكون تحت أمر الدولة ظاهراً ومتغلبين باطناً، فلما أحدثت الدولة العساكر السلطانية بالتعاليم الجديدة امتنع والي الجزائر من تعليم عساكرها، ولم يمتثل أمر السلطان في ذلك، فقيل أن السلطان محمود هو الذي سلط عليه الفرنسيس لتأديبه فجاؤوا بجيوش كثيرة وحاصروا الجزائر إلى أن قبضوا على الباشا المتولي عليها وذهبوا به إلى بلادهم، وتملكوا الجزائر وحصنوها بالعساكر، فلما تملكها الفرنسيس لم يرجع تلك الجزائر لحكم الدولة بل استولى عليها وبقي على ذلك إلى عصرنا هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1464 ذكر القتال بين محمد علي باشا والسلطان محمود وفي سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، وجه محمد علي باشا والي مصر جيوشه براً وبحراً لتملك الشام وجعل قيادتها لولده إبراهيم باشا، فحاصر عكا وافتتحها مظهراً الانتقام من عبد الله باشا والي عكا لأسباب كانت بينهما، وفتح في طريقه غزة ويافا وحيفا فلما بلغ الدولة ذلك غضبت وأرسلت تأمر محمد علي باشا برجوع العساكر، وأنه إذا كان بينهما دعوى يقدمان إلى الباب العالي فيحكم بينهما، فلم يمتثل لأوامر الدولة، فأبرزت الدولة فرماناً بعصيان محمد علي باشا، وتنزيله عن ولاية مصر، وصدر الأمر السلطاني لوالي حلب بجمع العساكر لمحاربة إبراهيم باشا، وخرج حسين باشا بعساكر من الأستانة، وحصل القتال بين الفريقين خارج طرابلس، فهزم إبراهيم باشا واستولى على الأقطار الشامية، وقبض على عبد الله باشا والي عكا وأرسله إلى الاسكندرية لأبيه محمد علي باشا، ولما وصل إبراهيم باشا إلى داريا قرب دمشق خرج إليه علي باشا وزير دمشق، واشتبك الحرب بينهما فهزمهم إبراهيم باشا، وخرج أهل دمشق يسألونه الأمان فأمنهم ودخلها، وتقدم إلى حمص واشتبك القتال بينه وبين والي حلب، وكان يوماً عظيماً وحرباَ شديداً من أشهر الوقائع، قتل فيه خلق كثير، واستولوا على المهمات جميعها، وانهزم والي حلب ورجع إليها، فقفلت في وجوههم الأبواب، فساروا إلى أنطاكية، ولما وصل إبراهيم باشا إلى حلب خرج أهالي حلب لاستقباله، فدخلها وتسلم ما كان فيها من الذخائر والمهمات، وأمن أهلها، ثم سار إلى أنطاكية وحاربهم فيها ثم إلى بوغاز بيلان، ولما بلغ الباب العالي تقدم العساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1465 المصرية سير رشيد باشا الصدر الأعظم بالجيوش لحربهم، فتقدم قونية، والتقى الجيشان واشتبك القتال، وانهزمت عساكر الدولة وقبض على رشيد باشا الصدر الأعظم، وأتي به إلى إبراهيم، فقابله بكل إكرام ثم خلى سبيله، وامتدت هذه الفتنة والحروب إلى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، ثم صدرت الأوامر السلطانية إلى حافظ باشا ليسير لمحاربة إبراهيم باشا، فالتقى الجيشان بالقرب من مرعش واقتتلا، ووقعت الهزيمة أولاً على عساكر إبراهيم باشا، وكان في واد عسر فجمع العساكر وخرج بهم من ذلك الوادي، وصعد إلى تل كان تجاه معسكر حافظ باشا، وأخذ يطلق عليهم المدافع فعطل أكثر مدافعهم وفرق صفوفهم، ثم هجم عليهم بعساكره هجمة هائلة، فانهزموا أمامه تاركين مدافعهم ومهماتهم عائدين إلى مرعش، وقتل من الفريقين خلق كثير، وهذه الوقعة من أشهر تلك الوقائع التي وقعت في تلك الحروب، وأعقبها إبراهيم باشا بفتح أكثر الجهات في تلك البلاد، ولم تصل أخبارها إلى القسطنطينية إلا بعد وفاة السلطان محمود بثمانية أيام، ومن فتوحاته المعنوية اعتناؤه بأهل الحرمين كمال الاعتناء، فإنه صدرت الإرادة الشاهانية من دولته بتحرير ما كان يصرف لهم من قمح الجراية، فوجدوا أكثر ذلك بيد الأغنياء والتجار كانوا يأخذونه من الفقراء بالفراغ بعوض حقير، فصار الفقراء ليس لهم شيء، فصدر الأمر الشاهاني بنقض ذلك وإبطاله، وتجديد كتابة دفتر بأسماء المستحقين، فحصل تجديد ذلك في المدة التي كان فيها محمد علي باشا بمكة. ومن خيراته وفتوحاته المعنوية أنه جدد لأهل الحرمين خيرات ومرتبات زيادة على الذي كان مرتباً لهم من أسلافه، وذلك أنه في سنة إحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1466 وخمسين بعد المائتين والألف رتب مرتبات للعلماء والخطباء بالحرمين الشريفين، وللقائمين بخدمة المسجدين الشريفين مثل المؤذنين والفراشين والكناسين والبوابين، وجعل للجميع مرتبات جزيلة من النقود الجليلة، بعضها شهريات وبعضها سنويات، واشترى لذلك عقارات كثيرة، وأوقفها ليصرف من غلاتها جميع المرتبات المذكورة، فصارت حسنة جارية إلى هذا الوقت يحصل منها كمال النفع والإعانة للمذكورين على معاشهم، ومن وقت هذا الترتيب كان ابتداء وضع المدير والمديرية بمكة والمدينة، ولم يكن ذلك موجوداً قبل ذلك، قم إن ولده مولانا السلطان عبد المجيد ضم إلى ذلك الترتيب مثله في مدة سلطنته، وكانت مدة سلطنة السلطان محمود اثنتين وثلاثين سنة وعمره خمس وخمسون سنة، وكانت وفاته تاسع عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. الشيخ محمود بن محمد بن علي الأنطاكي الحنفي الإمام العلامة والهمام الفهامة، أحد السادة الأعلام والقادة الكرام، الفاضل المتقن والكامل المتفنن. ولد سنة أربعين ومائة وألف، وقرأ على جماعة من الأفاضل ذوي المعرفة والفضائل، وانتفع بالعلامة أبي محمد الحسن الأنطاكي وتفوق واشتهر، وأقرأ ودرس ولزمه جماعة من أهل العلم وتخرجوا على يديه، وانتفعوا كثيراً عليه، وأخذ عنه وسمع من فوائده العلامة محمد خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس، ومات المترجم بعد ذلك رحمه الله تعالى. السيد محمود بن المرحوم السيد نسيب أفندي مفتي دمشق الشام إمام تصدر في محراب العلم والإمامة، وهمام تسنم صهوة جموع الفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1467 فملك زمامه، رفع للعلوم أرفع راية، وجمع بين الرواية والدراية، فأصبح وهو كاسر الوسادة، بين الأئمة والسادة، يشنف المسامع بفرائد كلامه، ويشرح الخواطر بما تسطره أنامل أقلامه، فلا ريب أنه عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فما من فضل إلا وهو في ذاته موجود، ولا من مرغوب إلا وهو له مطلوب ومقصود، قد أجمع كل ناطق بلسان وعارف بحسن واستحسان، على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه والجاهل اعتقده بالتقليد، وهو من منذ لاح هلاله في أوجه، لا زال بحر فضله آخذاً في مده وموجه، بزغ من أفق دمشق وبها برع، وترقى إلى أن بلغ فوق ما يتعلق به الطمع. وكان قد ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف في دمشق الشام، ونشأ في كنف والده السيد الهمام، وأحسن القراءة والكتابة وهو ابن اثني عشر، ثم جد في طلب العلوم على السادة الغرر، حتى برع وفاق أقرانه، وفضل أترابه وأخدانه، وتخرج على مشايخ عصره الأفاضل، حتى احتوى على أنواع الفضائل، وأتقن علم الفقه والتفسير والكلام والحديث والأصول والعربية والمنطق والبيان والفرائض والحساب والعروض والحكمة، وله مطالعة قوية في كلام السادة الصوفية، وعلا شأنه في الآداب وفاق، وطار صيته في الأقطار والآفاق. وعين في أيام شبابه نائباً في محكمة البزورية، ثم في محكمة السنانية، ثم في محكمة الباب الكبرى، ثم في سنة ست وستين صار عضواً في مجلس إيالة دمشق الشام الكبير عقب وفاة والده، وفي سنة تسع وستين عين مديراً لأوقاف إبالة الشام، وبعد مرور سنة أحيلت لعهدته رياسة مجلس الزراعة، وفي سنة تسع وستين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1468 صار ناظراً للويركو، ثم ذهب من دمشق مع عارف باشا واليها الأسبق إلى خربوت حين عين كتخدا الإيالة هناك، ثم عاد إلى الشام وأعيد لعضوية المجلس الكبير. ثم في سنة ثلاث وسبعين أضيفت له مأمورية الدفتر الخاقاني في إيالة الشام، علاوة على كونه عضواً في المجلس المذكور، وفي سنة سبع وسبعين عين في هيأة المجلس الذي أسسه المرحوم فؤاد باشا حين وقعت الشام في ورطة الفتنة التي وقعت من رعاع دمشق وقراها، ومن الفرقة الدرزية، وحرقوا محلة النصارى، ووقع ما وقع من السفك والنهب وكان في ذلك الوقت حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل في حماية النصارى جهده، وأوسع لهم عطاءه ورفده، وذلك كان منه رحمة بأهل الشام، لما يعلم أن ما وقع منهم موجب للمجازاة والملام. وكان هذا الأمير له رعاية بالمترجم المرقوم وحسن تودد، فحينما حضر فؤاد باشا إلى الشام غب الواقعة، خفض رؤوسها وأذل نفوسها، وشتت شملها، وأثقل حملها، بيد أن الأمير المرقوم كان حينئذ عين الشام وهامها، وسيدها وهمامها، لا تعتمد الوزارة والقناصل إلا عليه ولا تجنح في مهماتها إلا إليه، فرتبته هي المرفوعة، وكلمته هي المسموعة، فحينما أزمعت الوزارة على نفي الأعيان، وإيقاع كثير من الناس في حضيض الذل والهوان، ضم حضرة الأمير حضرة المترجم إليه وشهد به لتخليصه أنه كان للحماية والوقاية ممن يعتمد عليه، فعلا قدره وحسن في الحكومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1469 ذكره، واستثنى من التكاليف والنوائب، ولاحظته عين العناية في نوال المآرب، فأدامت له الرعاية إجلاله، ولم يزل عضواً في مجلس الإيالة، واضطره الأمر إلى أن قال في أهل بلده ووطنه ما لا يقال، مما هو موجب للملام الشديد، والاعتراض الذي ما عليه من مزيد، وربما يعتذر عنه بأن ذلك كان منه وسيلة للخلاص، مما وقع لغيره من الخواص، ونص ما قاله وهو فيه معذور، ولا يبعد أن يقال أنه عليه مقهور ومجبور: أشرقت بالعدل أنوار الشآم ... مذ فؤاد الملك والاها نظام أشرقت من بعد ما قد أظلمت ... برهة لا ينجلي عنها ظلام مدة يسطو بها قوم على ... معشر الذمة ظلماً واحتكام لا يرى أمر بمعروف ولا ... نهيهم عن منكر أدى ملام غير قوم أقعدتهم قلة ... عن أداء الفرض في هذا المقام بادروا بالردع لكن لم يفد ... في حمى جمع النصارى بالتمام واستقام البغي فينا سبعة ... يا لها من سبعة سود قتام لا أزال الله عن مملكة ... ظل سلطان ولا حد الحسام كان فينا حاكم بل بم يكن ... حيث أعطى موضع الفصد الصيام إن للأحكام وقعاً باهراً ... حكمة الحكام إبراء السقام كم جرعنا للحق سيفاً قسور ... عادل مولى غيور ذو اهتمام شمس أفق الوكلا سيدهم ... فرقد في الوزرا بل تاج هام ملك عثمان به مفتخر ... بل ملوك الأرض من سام وحام عدل القطر الشآمي عدله ... وصحا من بغيهم قوم نيام رأيه القداح في أهل الشقا ... جالب فيه القضا حط وسام علمه في الكون لو قسمه ... لن ترى في الخلق وحشياً يذام عزمه في الصخر لو أنفذه ... ذاب ذاك الصخر وانهل انسجام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1470 حلمه في الأرض لو وزعه ... لن ترى فيها هياجاً واضطرام وعده بالخير حقاً ناجز ... أي ومن زين بالطوق الحمام انصف المظلوم من ظالمه ... ويلكم من غدركم أهل الشآم يا أهيل الشام ماذا غركم ... إذ غدرتم ملة حازوا زمام يا وحوشاً صادفت في غابها ... آمناً واستقبلته بالسهام ويحكم ما خفتم سلطانكم ... إن مولاكم عزيز ذو انتقام خنتم قول الرسول المصطفى ... في حديث صح من أحلى الكلام إن من أجرى دماهم لم يرح ... ريح طوبى حبذا تلك المشام حرم الأعراض مع أموالهم ... والدما عهداً إلى يوم القيام إذ لهم من كل حق مالنا ... وعليهم ما على أهل السلام بئسما خنتم به قرآنكم ... بئسما عاملتموهم يا لئام أي قرآن محل فعلكم ... أي برهان على وزر حرام فتككم بالآل محفوظ لكم ... وهو منقول لنا من ألف عام أي علم زانكم بين الورى ... أي فضل كنتم فيه أمام جبنكم أصغره طود حرا ... عقلكم أكبره أوهى المشام حلمكم ذاك الحماري الذي ... شاع بالأمثال ضرباً بالأنام أي إقدام لكم يوم الوغى ... أي إقدام لكم عند الصدام أي آراء لكم محمودة ... إنكم أطيش من فرخ النعام ما لكم من خصلة محمودة ... غير وضع النقص في القوم الكرام أحسن الحالات عندي لكم ... إن توافوا جحفلاً ورد الحمام أيد الله على إقليمكم ... ذا المشير الناظر السامي المقام إذ قوام الدين والدنيا معاً ... بانبعاث الرسل أو عدل الإمام بئس مصر قد خلت من حاكم ... جور سلطان ولا عدل عوام وقد علمت أنه لولا ضرورة المقام، لكثر المتصدون للرد وإبطال هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1471 الكلام، ولكن كان مقصود الناظم الخلاص، مما دهى غيره ولات حين مناص، غير أنه نهج منهج الغلو، وتنازل عن منازل الرفعة والعلو، وهجا أهل الشام من قديم وحديث، وطيب وخبيث، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، ولا سلك بأهل الشام هذه المسالك، بل مدحها وأهلها، وأوصى بها وأجلها، وهب أنه أذنب بعض أهل الشام، فلا ينبغي تقبيح الخاص والعام، بل الفاعل بالذم أحرى، وقال الله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ومن طالع صحيح البخاري وكتب التاريخ المعتمدة، وجد أن قصة الحسين ليست لأهل الشام مستندة، على أن يزيد الملعون لم يكن من أهل الشام، وليس له بها من قرابة ولا نسب، وإضافة هذه القصة لأهل الشام خالية عن المعرفة وموجبة للعجب، ولكن طوبى لمن عقل لسانه وكفه، وأطلق بالخير بنانه وكفه، ولو سكت الكليم لرأى العجائب، ولو صمت يوسف لعصم النوائب، وليت شعري من في الشام الآن ممن كان في ذلك الزمان، ما بقي بها إلا مهاجر أو غريب، وإنكار ذلك أمر غريب. ويكفي للعاقل أن يتخلص من المكروه بجميل أحواله، بدون أن يلقي أخاه في أوحاله، فعلى كل حال لم يكن المترجم ممدوحاً بذلك، بل سلك أوعر المناهج والمسالك، والملام إنما يكون على ذوي المضرة والباس، لا على جميع الناس. فكيف يجوز أن يؤخذ زيد بجريمة غيره، وأن يعامل بالقبيح على معروفه وخيره: ليس الفتى كل الفتى ... إلا الفتى في أدبه وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه ولولا أن أهل الشام الآن من شيعة آل البيت، لقوبلت هذه القصيدة بكيت وكيت، ولكن الحب يدعو إلى الصبر، وإن تحمل الإنسان ما يوغر الصدر، على أن القبيح لا يقابل بالقبيح، وإلا فما فضل المليح على القبيح، وما هي إلا زلة عالم، وجهت على قائلها لسان اللائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1472 هذا وإنه في سنة أربع وثمانين في أيام ولاية المرحوم راشد باشا قد فصل إفتاء الشام عن المرحوم أمين أفندي الجندي، ووجه إلى المترجم، وفي سنة تسع وتسعين أضيفت له أيضاً مديرية معارف الولاية الجليلة، وأول رتبة وجهت إليه باية إزمير المجردة، سنة اثنتين وسبعين، وفي سنة إحدى وتسعين بدلت برتبة البلاد الخمس، مع الوسام المجيدي، من الطبقة الثالثة، وفي سنة ست وتسعين رفعت درجة لكي تكون موصلة لباية الحرمين الشريفين، وأعطي النيشان العثماني من الطبقة الثالثة أيضاً، ثم وجهت عليه رتبة الحرمين الشريفين سنة تسع وتسعين. ثم في سنة ألف وثلاثمائة وجهت عليه باية استانبول مع النيشان المجيدي من الطبقة الثانية، مع أنه في اصطلاحهم من مقتضى الباية المذكورة أنها لا تعطى لمن يكون خارج الآستانة، وارتفع قدره ومقامه، وشاع ذكره واحترامه، وتعاظم جاهه وإن كان به بخيلا، وزاد إقباله عند الناس وإن كان لا يعد من سواه إلا ذميماً قليلا. ومن تآليفه تفسير القرآن الكريم بالحروف المهملة سماه درر الأسرار، وكتاب في اللغة سماه دليل الكمل إلى الكلام المهمل ومنظوم غريب الفتاوى، والفتاوى المحمودية نثراً في أربع مجلدات، ونظم الجامع الصغير للإمام محمد في ثلاثة آلاف بيت، ونظم مرقاة الأصول لملا خسرو، والنور اللامع في أصول الجامع، والقواعد الفقهية، والطريقة الواضحة إلى البينة الراجحة، والتفاوض في التناقض، ورفع المجانة في حكم الغسل في الإجانة ورفع الستور عن المهاياة في الأجور، ورفع الغشاوة عن أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1473 الأجرة على التلاوة، ورسالة في مصطلح صاحب الهداية، وتنبيه الخواص، ورسالة في خلل المحاضر والسجلات، وجامع الأسانيد، والأحاديث المتواترة، ورسالة في بيان المرصد والكدك ومشد المسكة والحكر ونحوها، ورسالة في الماس والزمرد والياقوت، وأرجوزة لطيفة في فن الفراسة، ومجموعة صغيرة في مسائل فقهية، وله ديوان شعر بديع، قد أجاد فيه أنواع البديع، فمن نظمه مادحاً حضرة العارف بالله الأمير السيد عبد القادر الجزائري قوله: هذا بريد اليمن والتوفيق ... وافاكم في محفل التصديق وافى يترجم عن بشير خلفه ... في موكب التشويف والتشويق يا سادتي يا آل طه مقولي ... في مدحكم عار عن التشديق ومتى أحاول مدحةً لسواكم ... ألقاه مكتسباً من التمطيق حيث المديح إلى علاكم والسوى ... جزؤ من التطبيق والتلفيق لكنه في الغير يسهل مأخذا ... ويجول طرفي فيه كل طريق وأرى يراعي صار سهماً صائدا ... خشن المعاني عند كل فريق وإذا يغص يوماً لدر مديحكم ... ويلاه كم يحتار في التطريق ويعود صفراً من مآمل أمها ... من بعد روم الدر والتعميق فأعض إصبع نادم حرصاً على ... ما فاته متتابع التصفيق وأقول علك يا يراعي واهن ... أو قد نسيت مسالك التدقيق قد كنت لي نعم المسامر في الدجى ... ما هكذا شرط الإخاء صديقي غواص تيار المعاني مخرجا ... من معدن الألفاظ كل رقيق فأجابني مهلاً فهذا مركع ... لا مرتع لسوابق المطيق هذا الهمام الشهم شمس الغرب من ... حجبت بها المداح عن تحديق هذا الذي أعي الفرنج فرنده ... والرمح بالتحليق والتخريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1474 هذا الذي أسراه قد شهت له ... منهم لدى التطويل والتوثيق هذا الذي إن قابلوه قلوبهم ... تقضي من التصفيق والتخفيق هذا الذي حاز العلوم مع التقى ... وكذا السخا زهداً مع التوفيق هذا الذي شكرت شمائله الورى ... طراً سوى البطريق والزنديق إن كنت تطمع في انحصار خصاله ... فلقد وقفت مواقف التضييق فعجبت من قلم يهذب ربه ... إذ قال قولة ناصح وشفيق وأجبته يا ذا اليراع مسلم ... ما قد نقلت ومحكم التنسيق أنا لم أرم عرض المديح لسيد ... كلت بحضرته يد التنميق لكنني أبغى الوفود مهنئاً ... لقدوم مولود غدا تمليقي وتفاؤلاً بالصدق منه تيمنا ... وتبركاً سماه باسم عتيق أهلاً بمن وافى أمانا للملا ... من فتنة التحريق والتغريق إذ قد روينا في الحديث مصححا ... أن الأمان بكم على التحقيق تاريخ حمد في جمادى عامنا ... لقبت عبد الله بالتصديق يا أيها المفضال يا غوث الورى ... يا كعبة الراجي لكل مضيق كم أشرقت في الغرب أقمار لكم ... والآن قد بزغت من التشريق فلذاك محمود يزف عروسة ... غصت قوافيها من التدقيق تمشي على استحيا رضيعة يومها ... وافت حماكم خشيه التعويق ترجو مسامحة القصور لسنها ... لولاه كم أبدت من التعشيق لا زلت بدراً والكواكب حوله ... منظومة التدوير والتحليق ثم كتب في إمضائه بخط يده: عبودية الداعي لكم بطول البقا وسمو الارتقا، مدى الأيام، محمود الحراني غفر الله له ولوالديه آمين. ومن مشايخ المترجم الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي والشيخ حامد العطار والسيد محمد عابدين والشيخ نجيب القلعي ووالده نسيب أفندي، وغيرهم من المشايخ العظام والقادة الكرام، فأتقن وحقق وتضلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1475 في العلوم ودقق، وكان كثير المذاكرة حسن المحاضرة، ذا نطق فصيح وذكاء راجح مليح، وحافظة جيدة سامية، وتقريرات نحو الصواب وامية. وقبل موته بنحو أربع سنين لازم داره، وجعل مطالعة العلوم وتحقيق المسائل مركزه ومداره، وكنت لا أجتمع معه في جمعية، إلا ويذاكرني في مشكل المسائل خصوصاً في الاصطلاحات الصوفية، ولم يزل صيته يعلو وقدره يسمو، إلى أن دعاه داعي المنون إلى حضرة من أمره بين الكاف والنون، وذلك منتصف ليلة الاثنين تاسع شهر محرم الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، وصلى عليه في جامع بني أمية ما ملأ الجامع مع اتساعه من علماء ووزراء وفضلاء وغيرهم، ثم ساروا به في موكب عظيم إلى تربة الفراديس المعروفة بمقبرة الدحداح. وفي تلك الليلة اجتمع من أعيان البلدة وصدورها جملة في دار الشيخ سليم أفندي العطار، وسطروا عرض وحضر إلى الوالي وكان غائباً في مدينة صيدا، وقدموه له في توجيه الإفتاء إلى أخيه أسعد أفندي، وكتب بموجبه مضبطة في مجلس إدارة الولاية، ثم في ثاني يوم كتب عرض محضر آخر وختم في بأختام جماعة آخرين بطلب توجبه الإفتاء إلى حضرة محمد أفندي المنيني، وقدم كذلك إلى الوالي، فأرسل الوالي الأوراق جميعاً إلى باب المشيخة مع كتابة منه خاصة سرية تجنح لتقديم منيني أفندي على أسعد أفندي، ثم إنه كثر بين الناس القيل والقال، وتفرقت الكلمة واتسع على الناس المجال، إلى أن مضى أيام، فجاء الأمر من المشيخة بتوجيه الإفتاء على محمد أفندي المنيني الهمام، فانقطع الخصام والجدال، ولم يكن إلا ما أراد ذو الجلال. ومن جملة من رثى المترجم المرقوم منير زاده محمد صالح أفندي فقال: كل نفس ذائقة الموت حتما ... وإلى الله ترجع الناس حتما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1476 ومنها: كيف لا تبكي العالمون دماء ... لفقيد قد أورث الخلق غما سيد القطر واحد العصر فضلا ... مع حسن الأعمال قد فاق علما فهو محمود طاب حياً وميتاً ... وغدا الاسم فيه طبق المسمى الشيخ محمود بن علي بن منصور بن محمد بن عبود الحلبي الشافعي الشهير بابن قنصه وهو اسم أم جدهم الشيخ نور الدين. كان المترجم عالماً فقيهاً مقرئاً مجيداً من مشاهير القراء والحفاظ في حلب، ولد بها سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه على أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري نزيل حلب، والشيخ فتيان، وعلى والده وتفقه بالأول، وقرأ العربية والفقه أيضاً وبعض الفنون على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري وأبي علي حسين بن محمد الديري الحلبي، وسمع على أبي اليمن محمد بن طه العقاد وأبي السعادات طه بن مهنا الجبريني، وسمع على الأول صحيح البخاري إلى كتاب الحج، وأجازه شيخه أبو محمد عبد الرحمن المصري وغيره، وأتقن وبرع وجود وأحسن التلاوة والحفظ، وأثرى ونال حظاً من الدنيا. ولم يزل في ارتقاء وعلو وتقدم وسمو، إلى أن اخترمته المنية في حدود عشرة ومائتين وألف رحمة الله تعالى عليه آمين. محمود بيك بن خليل بك بن أحمد بيك بن عبد الله باشا العظم الدمشقي الأديب الذي في ميدان الأدب لا يجارى، والأريب الذي في لطفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1477 وجماله لا يبارى، والفصيح الذي فاقت فصاحته والمليح الذي تسامت ملاحته، واللبيب الذي استوى على أوج الرقائق، والنجيب الذي لم يدع منهلاً في المعارف إلا وكرع منه الكأس الرائق. ولد في سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده، وقرأ القرآن وتعلم الكتابة الحسنة، وقرأ بعض الفنون على بعض الأفاضل، إلى أن صار له يد طولى، ثم انفرد في دار وحده، وكان غنياً غنى مفرطاً من جهة أمه، إلا أنه سلط عليها يد الإتلاف من غير إرادة ولا إنصاف، والدنيا كانت تعاكسه في كل مراد وتجذبه إلى خلاف ما أراد، وما زال على حاله لا يصغي إلى من يريد أن ينشله من أوحاله، إلى أن قل ماله وبدا له ممن كان يتردد عليه إهماله، فاختار العزلة في أكثر أوقاته، والانفراد عن أحبابه وذوي التفاته، إلى أن شرف إلى الشام العارف الكبير والهمام الشهير، الشيخ محمد الفاسي المغربي المالكي الشاذلي، فأقبل عليه وتوجه بكليته إليه، وأخذ منه الطريقة الشاذلية، وحصل له منها نفحات رحمانية، وكنا نجتمع معه في أوقات كثيرة هي بأن تذكر بأنها من الأعمار جديرة، لأن تجليه كان جالباً للفرح مذهباً للترح، موجباً للسرور مخرجاً من الغم والكدور. وكان حسن المعاشرة جميل المذاكرة، لطيف العبارة ظريف الإشارة، كثير الابتسام عذب الكلام، ملاطفته تذهب البؤس عن كل عبوس. وكان له قلم عال سبوق سيال، وله تأليفات أدبية، ورسائل عن العيب أبية، خصوصاً وقد اشتغل بعد الطريق بمطالعة كلام السادة الصوفية، ذوي المعارف والأسرار الإلهية. فمن مؤلفاته كتاب رسائل الأشواق في وسائل العشاق في ثلاثة مجلدات، وهو كتاب يشتمل على العبارات الرقيقة والقصائد الأنيقة، وأنواع الموشحات والمقاطيع العاليات، وكثير من فنون الشعر مما لا يوجد بغيره من كتب النظم والنثر، ويشتمل على حكم ومواعظ ونوادر ونكات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1478 وله شرح مناجاة سيدي العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بلسان عال جميل، وله عدة دواوين شعرية، تدل على معارفه العلية، وله كتاب في التصوف سماه البحر الزاخر والروض الزاهر، ومن كلامه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: سلوني فأحكام الهوى بعض حكمتي ... وأحكام آيات الغرام مزيتي بدا لي به نور الحقيقة ظاهراً ... فشاهدت ذاتي تنجلي لبصيرتي ومنها: فمحبوب قلبي إن تأملت واحد ... أنست به للانفراد بوحدتي مظاهر أسماء له قد تعددت ... ولا ثم إلا واحد في الحقيقة فطوراً بليلى والرباب تغزلي ... وطوراً بزيد واللوى والثنية فلم يبق شيء ما تعشقت حسنه ... وما ثم كون ما تراءى لمقلتي إلى أن رأيت الكل بالكل فانياً ... وذاتي هي المقصود من كل صورة وهي تقارب المائتي بيت كلها قد بلغت في الحسن مبلغاً عظيماً، ومن قوله في الفخر والحماسة: عديني وامطلي مهما تشائي ... ففي التعليل تعليل لدائي وتسويف الملاح إذا تمادى ... على المضنى ألذ من الشفاء بعادي في الهوى عين اقترابي ... وغاية مقصدي وبه منائي فما أحلى العذاب لكل صب ... إذا أمسى الذي يهواه نائي له في كل وقت طيب وصل ... يجيء به التخيل والترائي يشاهد من يحب بلا رقيب ... ولا واش عليه ولا مرائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1479 فلم أترك لقاها عن ملال ... ولا عن علة تركت لقائي ولكنا نرى للعز أهلا ... وأهلا للمذلة والشقاء رويدك أين تبلغ من لحاقي ... أمامك أيها العادي ورائي سل الخطار والبتار عني ... وسل جود السحائب عن سخائي ظمئت فما شربت الماء صرفا ... ولا أدليت دلوي في الدلاء أأشرب والزلال يخاض فيه ... ومن نهر المجرة كان مائي ولما أن سموت إلى الثريا ... أنفت بأن أسير على الثراء فما رتب العلا إلا حظوظ ... مقسمة على أهل الولاء وحسبك فاقتنع بالبعض منها ... ولا تلقي بنفسك للبلاء وإياك التطلع نحو مجدي ... ولا تقس الغياهب بالضياء فإني لست أقنع بالتهاني ... ولا يرضى بغايتها رضائي وإني سوف أبتكر المعالي ... وأبلغ من نهايتها منائي ولي نفس الملوك بجسم عبد ... تنزه أن يذل له ثرائي ولكني أرى في قوم سود ... رضوا بالغيم عن زرق السماء سأصبر صبر مرتاض كريم ... وأجعل كل ما أرجو ورائي ومن قوله رحمه الله تعالى في النصائح والمواعظ يا مهجتي مهلا إلى كم تتعبي ... وإلى متى بهوى الظبا تتعذبي خلي معاناة الصبابة والهوى ... وعن المحبة فاذهبي لا تذهبي إن الهوى فيه الهوان فقللي ... ذكر الغزالة والغزال الربرب كم ذا تداري الكاشحين بحبهم ... وعلى الغضا وعن الهدى تتقلبي وإلى متى هذا النحيب وذا البكا ... فلقد يشك من الجوى أن تعطبي إن كنت لا تصغي لقولة ناصح ... فتقطعي بهواهم وتأربي في مذهبي ترك الصبابة في الصبا ... شرع أدين بدينه في مذهبي ودعي كؤوس الراح لا تعني بها ... وتهذبي إن كنت لم تتهذبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1480 إن الندامة في المدامة أودعت ... أن تقبلي نصحي وإلا جربي ودعي المليح وقولهم يا حسنه ... لم يبق ذو لب به إلا سبي إن لاح لاح البدر من أطواقه ... أو فاح أهدى طيبا من طيب يزري بأغصان الأراك قوامه ... إن قام يخطر خطرة المتعجب من شعره وجبينه غار الضيا ... حسداً له وانشق قلب الغيهب ودعي هوى سلمى وزينب فالهوى ... ضرب من الهذيان يجهله الغبي إن تبد قل للشمس قولة ناصح ... بالله يا شمس النهار تحجبي هي كالغزالة إن بدت وتلفتت ... لكنها حجبت بقلب العقرب لا يشجينك بارق متألق ... فلعله برق وليس بصيب وتكلفي للجد في طلب العلا ... من جد فاز علا بأرفع منصب يا صاح خذ قولي ودع ما غيره ... حتى تسمى بالأجل الأنجب وله كثير في كل نوع من أنواع الشعر مذكور في ديوانه ومجاميعه، وفي آخر أمره ضاقت يده ولم يبق عنده من ثروته الواسعة شيء لا من دراهم ولا من دنانير ولا من عقارات، ومع ذلك تراه ضاحكاً راضياً كأنه ما أصابه شيء قط، وكنت كلما نصحته قبل ذلك يعتذر لي لأن مراد الله لا بد من وقوعه. وكان حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري يصله كثيراً ويساعده، ولم يزل إلى أن توفي في نصف رجب الحرام الذي هو من شهور سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف، وتأسف الناس عليه، وكانت وفاته في حياة والده ودفن في تربة أسلافه، ومدته من العمر أربعون سنة. الملا محمود بن غزائي الكودي السليماني الشافعي الأشعري العالم الذي عد في أقرانه الأول، والبليغ الذي يفوق مختصر بيانه المطول، والإمام الذي هو الحسن المشهور، والهمام الذي هو بكل كمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1481 مذكور، قد استفاد وأفاد وأعاد فأجاد، فهو من أناس حمدوا سعياً، ومن غرر راقت بهم وجوه الدنيا، وهو من عيون أهل السليمانية الأكراد وساداتهم الأمجاد، الذين تحلوا بحلي الشرف، وأبرزوا في دروسهم الطرف، وأشار إليهم الفضل ببنانه وضم عليهم بأجفانه، فهو لا شك من أقمار تلك البلدة، ومن أبحرها بما ألقاه وأمده، وإن لم يشن الجزر مده، فلله فاضل كساه الفضل برده، ولطيف عباراته ألطف من الشمول، وعفيف على أوصافه يشرق القبول، وتقي سارت محاسنه، وعزت به مواطنه: يا طالباً تحف للعلوم عليك ما ... يرويه محمود من الآثار كم جوهر أبدى بحلقة درسه ... ترويه عنه عواطل الأفكار عيناً لآثار النبي وجدته ... أو ما تراه كل يوم جار عانى العلوم الرسمية طفلا، فقالت له أهلاً وسهلاً، وناشدته المحافل بالآثار الحميدة، فوضع في جيدها كل فريدة، وجلا فيها من العلوم كل خريدة، وكان قد نادته السعادة فأجابها وماء صباه غريض، وروض قوته بالأنس أريض، وأنشدها من بنات أفكاره ما هو السبر لعلو اعتباره: يا علوماً وافيتها وشبابي ... ما نضاه عن كاهلي الملوان لك طرفي مرأى وقلبي مرعى ... ما تسامى من ذينك النيران فما زال يقيد بالجوهر الفريد، ويظهر كل كمال ويحض الناس على طريق الجمال، ويأمر بالتقوى والعبادة، والعفة والزهادة، إلى أن حال حين وفاته ودعته المنية لمماته، وذلك في عام ألف ومائتين واثني عشر من هجرة سيد البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1482 الشيخ محمود بن الشيخ محمد بن الشيخ حسن البيطار ابن أخي شقيقي الشيخ محمد إمام عالم عامل وهمام عابد كامل، حفظ القرآن في صغره، ثم دأب على أخذ الفنون إلى كبره، قرأ على جده والدي مدة، وعلى والده وقد بذل اجتهاده وجده، وتفقه على مذهب سيدنا أبي حنيفة النعمان. وفي سنة ألف ومائتين وثمانين جلس في أمانة الفتوى في دمشق الشام، وقرأ على الإمام الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي وعلى الشيخ محمد الخاني وحضر عندي مدة طويلة في الفقه والمعاني والبيان والنحو. وكانت ولادته سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين تقريباً، وتوفي صباح الاثنين قبيل الفجر خامس عشر رجب عام ألف وثلاثمائة وستة عشر، ودفن في تربة الحصني في باب الله رحمه الله تعالى. السلطان مراد الخامس بن السلطان عبد المجيد ابن السلطان محمود خان تولى الملك سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف سابع شهر جمادى الأولى، وبيان ذلك أنه اجتمع يوم الاثنين ليلة الثلاثاء سادس جمادى الأولى من السنة المرقومة، حضرة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام خير الله أفندي ومدحت باشا مأمور المجالس العالية وعموم الوكلاء، في الباب السر عسكري وعقدوا مجلساً مخصوصاً ووجهوا حضرة السر عسكر باشا إلى دائرة حضرة مولانا السلطان مراد خان فأبدى لعظمته قائلاً إنه بالاتفاق العمومي صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1483 خلع السلطان عبد العزيز خان استناداً على الفتوى الشريفة التي أعطيت من جانب المشيخة الإسلامية، وصورتها: إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، ولا قسم له في الأمور السياسية، وقد صرف الأموال الأميرية على مصاريفه النفسانية، على نوع يفوق طاقة وتحمل الملك والملة، وأجرى إخلال وتشويش الأمور الدينية والدنيوية، وضر الملك والملة، وكان بقاؤه مضراً بحق الملك والملة، هل يلزم خلعه؟ الجواب: يلزم. كتبه الفقير حسن خير الله عفي عنه. وحينئذ قد دعيت ذاتكم الهمايونية لسرير السلطنة العثمانية، فقام في الحال مستصحباً معه السر عسكر المومى إليه ورديف باشا رئيس دار الشورى العسكرية، وذهب إلى قرغولخانه طولمه بغجه، وأبقى هناك حضرة رديف باشا المشار إليه راكباً قايق السر عسكر إلى اسكلة سركه جي، ومنها شرف بحضوره الباب السر عسكري، فاستقبله حضرة الذوات المشار إليهم المنتظرين قدوم ذاته المحفوفة بالسعد والإقبال، وهكذا أجرى حضرة ذي الدولة والسياسة الشريف عبد المطلب أفندي والصدر الأعظم وشيخ الإسلام وعموم وكلاء السلطنة السنية والعلماء الفخام وأمراء العسكرية الكرام، أمر البيعة الجزيل الاحترام، وبعد أن تقدم الدعاء من طرف حضرة شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أفندي بتوفيق الحضرة السلطانية، أطلقت المدافع مائة طلق وطلقاً من كل من السفن الهمايونية، والمحلات الموجودة بها المدافع، وزينت الدوننما الهمايونية، والسفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1484 العثمانية عموماً برفع البيارق وكانت سناجق السفن الحربية السلطانية مكللة بالاسم السامي الهمايوني تموج بنسائم العظمة والشان على هام البشر والسرور، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد، بجلوس ذي السلطنة والإسعاد، فكل من سمع هذه المناداة من التبعة العثمانية بادر إلى الباب السر عسكري، وبمقتضى المساعدة السلطانية السنية لم يجر على أحد رسوم الأبعاد، إلى أن جرت البيعة العامة السلطانية للمترجم المرقوم، ففي الوقت ارتفعت الأصوات بالدعوات المجابات، من ذوي العلوم المجتمعين في الديوان خانه العسكرية، بالأصوات المرتفعة، فنهضت الذات السلطانية في الحال لمحل الدعاء بذاته، وتلا من جملة الحاضرين لفظة آمين ثم إنه نظر إلى العموم بعين البشر والسرور، وأبدى التسليمات المفرغة على الحاضرين أنواع التلطيف، ثم إنه بعد ذلك خرج من الدائرة التي حصلت بها البيعة، ومعه الصدر الأعظم والسر عسكر ومدحت باشا، وكان صدى أصوات العساكر وطلبة العلم وعموم الأهالي بقولهم فليعش سلطاننا سنين عديدة، ولا زال الأمر كذلك إلى أن ركب العربة، ومنذ قيامه من الباب السر عسكري إلى أن شرف بالوصول للسرايا، الهمايونية كانت الأهالي في الطريق تكثر التهاليل وتهتف فليعش سلطاننا كثيراً، وكان يحيي الجميع بالسلام. ولما شرفت عظمته بالوصول إلى سرايا بشكطاش استقبلته الخدمة الخاصة الواقفة بموقع التعظيم هاتفة بالدعاء القديم الذي هو ما شاء الله، عش سلطاننا بدولتك كثيراً ثم نصب التخت العثماني في مكان الديوان، والموسيقى الهمايونية أخذت تصدح بلذيذ الألحان، وأتباع الحضرة السلطانية مصطفة بالترتيب والاتقان، فأجرى جميع الحاضرين من الوكلاء وغيرهم والأفندية والبطاركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1485 والحاخامات وغيرهم من سائر الملل المختلفة إيفاء البيعة وإعطاء المقام حقه، ثم إنه بعد أن صار جلوس السلطان مراد وشاع خبره لدى الخاص والعام، حصل التبليغ والإفادة من طرف حضرة رديف باشا المشار إليه المأمور المخصوص على العساكر الشاهانية، إلى حضرة السلطان عبد العزيز بمعرفة أفندية مكتب الحربية السلطاني، المأمورين من المساء بمحافظة ساحل بشكطاش الهمايونية، وبمعرفة حضرة آغا دار السعادة الشريفة دولتلو عنايتلو جوهر آغا المتصف بالحماية والحمية الملية والصلابة الدينية، قائلاً: أن الملة العثمانية المعظمة خلعتك من السلطنة وبايعت سلطاننا السلطان مراد خان، وصدرت الإرادة السنية بإقامتكم في سرايا طوب قبو، فبناء على ذلك توجه حضرة عبد العزيز أفندي الموما إليه إلى السرايا المذكورة، مع متعلقاته ومنسوباته بخمسة قوارب متفرقة، وبقي في السرايا المرقومة إلى أن توفي بعد أيام، كما هو مذكور في ترجمته. ثم إن السلطان المترجم المرقوم وقع في شعوره خلل مسقط له عن أهلية الملك فاقتضى المقام خلعه، بعد استفتاء شريف من المشيخة الإسلامية، فكان الإفتاء بوجوب خلعه إبقاء لاستقامة الدولة وحفظ الملة وحقوقها، فبناء على ذلك خلع بعد جلوسه على عرش الملك ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وتولى مكانه حضرة السلطان الأفخم والخاقان الأعظم السلطان عبد الحميد خان، أدام الله دولته مدة الدوران، وكان خلع السلطان مراد يوم مبايعة السلطان عبد الحميد ثالث شهر شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1486 الشيخ محيي الدين بن محمد الدمشقي المعروف بالناياتي وبابن الدمشقي الخطيب والمدرس والإمام في جامع القلعي في محلة سوق القطن، وكان لطيف الكلام حسن المعاملة، عليه سيما أهل الصلاح، دائباً على العلم والعمل. مات بدمشق خامس ذي القعدة الحرام سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. الشيخ محيي الدين بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن هديب الدين بن فرج الدين بن عضد الدين الدمشقي الشافعي الشهير بالعاني، ونسبته إلى عانة قرية من قرى بغداد دار السلام ولد بدمشق الشام سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في كنف والده وأخذ عنه وعن الشيخ سعيد الحلبي وعن الشيخ عبد الرحمن الكزبري وعن الشيخ عبد الرحمن الطيبي وعن الشيخ حامد العطار وعن الشيخ هاشم التاجي وعن غير هؤلاء من الفضلاء الكبار والعلماء الأخيار، واشتهر بين الناس بالصدق والصلاح والرفق والنجاح، والزهد والتقوى بالسر والنجوى، والتفكر الموصول والدعاء المقبول، والهمة العالية والطاعة السامية والكشف عن المغيبات، والإخبار بالصدق عما هو آت، وكان له قرناء يذكرون له من الشمائل ما لم يكن لكمل الأولياء، إلى أن استوى على عرش علاه وظن أنه لا أحد يساويه في حلاه، فصار يصدق لهم على أقوالهم، ويذكر لهم من ممدوح صفاته ما لم يكن خاطراً في بالهم، وكأنه لم يتنبه لما قيل من بديع الأقاويل: لا تصاحب من الأنام لئيما ... ربما أفسد الطباع اللئيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1487 فالهواء البسيط في جمرة القي ... ظ سموم وفي الربيع نسيم وابغ منهم مجانساً يوجب الض ... م فقد يصحب الكريم الكريم واعتبر حال عالم الطير طرا ... كل جنس مع جنسه مضموم فخضعوا إليه وخفضوا رؤوسهم، وأطاعوه وجعلوه رئيسهم، وشدوا في وسطهم الإزار، للإعانة والانتصار، وتوجه كل منهم إلى مكان، يمدحه فيه ويقول ليس في الإمكان، فعلا قدره وانتشر في الناس ذكره، إلى أن صار إذا عمل أكبر الكبائر يقول الناس هذه لا تعد من الصغائر، لأن الشيخ له أحوال، لا نعرف ما يقصد عند بعض الأفعال، فهو من أهل الكشف والشهود، ونحن من أهل الحجاب المسدول والممدود!! فحينئذ أطلق أقواله وأظهر أفعاله، وأتى بما لا يصدر مثله عن أهل الشقا فضلاً عن ذوي الطاعة والتقى، وما ضره إلا من كان يجلس حوله، ويستصوب له قوله وفعله: لعمرك لا يغني الفتى طيب أصله ... وقد خالف الآباء في القول والفعل فقد صح أن الخمر رجس محرم ... وما شك خلق أنه طيب الأصل فسلك سبيل خلاف الصواب، معتمداً على شهرته من غير ارتياب: ما كل من حسنت في الناس سمعته ... وحاز ذكراً جميلاً أدرك الأملا فالإنسان كل الإنسان، هو الذي كل أعماله قد وزنت بميزان، فلا يعتمد على قول أي قائل زان أو شان، إلا أن وجده موافقاً للسنة والقرآن. هذا وإني مرة قد دخلت إلى داره ومحل قراره، فما زال يذكر لي العلماء والسادة الفضلاء، إلى أن توصل إلى ذم الفاضل الأوحد، والعالم العامل المفرد، قطب الأولياء، وكعبة الأصفياء، سيدي الشيخ خالد شيخ الحضرة النقشبندي؛ فطعن في حقه وأكثر، فما وسعني إلا أن قلت الله أكبر؛ وفارقته وأنا مما صدر في غاية الهم والكدر، فلما رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1488 مني ذلك حقد علي، وصار يتفقد فرصة يوجه بها سهام أذيته إلي. وكانت وفاته بدمشق في الليلة الثانية والعشرين من رمضان المبارك ليلة الثلاثاء نصف الليل سنة تسعين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح بالذهبية، وكانت جنازته حافلة، وخلف ثلاثة أولاد من خلف مثلهم ما مات، نسأل الله العفو والعافية، والنعمة الكافية الوافية. السيد محي الدين بن السيد مصطفى بن السيد محمد المغربي الجزائري المالكي الشيخ العالم العامل، والفرد الأوحد الفاضل، بقية السلف الصالحين، وقدوة الأولياء العارفين، روح مجمع أهل الكمال، ودوح أهل المعارف والأحوال، وتاج الأتقياء، وعلم الأصفياء، وسراج الأولياء، ومربي المريدين والفقراء، غيث الأنام وغوث الإسلام، وبقية السلف وعمدة الخلف، محيي معالم الطريق بعد دروسها. ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها، خلاصة أهل العرفان والمتخلق بمقام الإحسان، فريد أهل التحقيق في المعارف، ووحيد أهل التدقيق في العوارف، من تفجرت ينابيع الحكم على لسانه، وفاضت عيون الحقائق من خلال جنانه، وانبثت أشعة أنواره في الكائنات، وانبعثت جيوش أسراره في الموجودات، وتوالت هباته وتواصلت بركاته، وسطت شموس معارفه وزكت عروس عوارفه، فهو الذي خطف بيد مواهبه قلوب السالكين، فعكف بها في مساجد المشاهد ورقا بأرواح المريدين، العفيف الحسيب والشريف النسيب. ينتهي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم نسبه مسلسلاً في ذكر ترجمة ولده الأمير السيد عبد القادر فارجع إليها إن أردتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1489 ولد المترجم المرقوم سنة تسعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده وتفقه عليه، ثم رحل إلى مستفانم فأخذ عن علمائها، وحضر الكتب المطولة على فضلائها، وأجازوه بما تجوز لهم روايته، وحصلت لهم درايته، إلى أن صار مسموع الكلمة مهاباً مطاعاً، كثير الطاعة صادق اللهجة مطواعاً، ما نال أحد دعوته إلا رأى بركتها في نفسه وماله، ولا حصل امرؤ توجهه ورضاه إلا ورأى غاية الاستقامة في أحواله، ردد الاختلاف إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة، عظيم الجاه رفيع السطوة، كم له من كرامة هي على علو مقامه أعظم علامة، منها ما جرى له مع حاكم وهران محمد بن عثمان، التركي الشهير ببوكابوس، وذلك أن أربعة من رؤساء الحشم يعرفون بأولاد بونقاب، قصدهم الحاكم المذكور أن يفتك بهم فنفروا من وهران، والتجأوا للحماية عند المترجم المذكور فوضعهم في بيت الأضياف، ولما علم الحاكم بهم أرسل إليهم رجلاً معروفاً بالمرسلي آغة الزمالة، ومحمد بن داوود نائب آغة الدوائر في أربعمائة فارس، فوصلوا إلى بلدته المعروفة بالقيطنة وأحاطوا بمنزل الأضياف، وفيه أولئك الرؤساء الأربعة، وكان الشيخ المترجم قد صلى الصبح في مسجده ورجع إلى داره، فسمع ضجيج الناس وأصوات البارود وصهيل الخيل، فخرج مسرعاً من بيته، فوجد العسكر محيطاً بهم في بيت الأضياف، فتقدم إلى الباب وقال اخرجوا إليهم، ولا تخافوا فإن كل واحد منكم بمائة من هؤلاء الظلمة، فامتثل الرؤساء أمره وخرجوا، وفي أيديهم السيوف، فوقع الرعب في قلوب أولئك الفجرة، وانكشفوا عن البيت، فركب كل من الأربعة على فرس عري ولحقوهم، فقتلوا ابن داوود والمرسلي أثخنوه بالجراحات، وتفرق العسكر شذر مذر، لا يلوي أحد منهم على الآخر، واستمروا على وجوههم إلى وهران، وأخبروا سيدهم، وفي الحين أصيب في عينيه، ولما عجز الأطباء عن معالجته وعلم أنه إنما أصيب بانتهاكه حرمة الشيخ المرقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1490 وجرأته عليه، أرسل بعض خواصه إليه، يستعطفه ويستقيله من عثرته، ويستغفره من زلته، ويسأله العفو عنه والدعاء له، فدعا له وعفا عنه كما هو معلوم من حسن معاملته، ورقة طبيعته، فعافاه الله وشفاه، وأخبر ولد المترجم السيد عبد القادر أن والده المرقوم أخبره بعد هذه الواقعة أن هذا الحاكم مثل له في الرؤيا في صورة كبش فذبحه وسلخه، فكان الأمر كما قال، وذلك أن باشا الجزائر أمره بتجهيز الجيوش وسوقها إلى نواحي قسنطينة، وهناك يستكمل تعلقات القتال وينهض لقتال صاحب تونس، فلما خرج إلى هبره على مسافة مرحلتين من وهران، وتلاحقت الجموع، ورأى كثرتهم، سولت له نفسه نقض الطاعة لحكومة الجزائر، ودعته إلى الاستقلال، فجمع أعيان القبائل وأسر لهم ذلك، فأجابوه لمطلوبه ظاهراً، لاستثقالهم السفر من وطنهم إلى تونس، وأصبح راجعاً إلى وهران حاضرة ولايته، وأمر بقتل من بهما من الجند التركي فقتلوا، وبعث إلى تلمسان وأم عسكر بقتل من بهما من الجند، وأعلن بالدعاء لنفسه، فاتبعه الدوار والرمالة والغرابة ومن والاهم، وامتنع الحشم جميعاً، فطار الخبر إلى باشا الجزائر، فبعث إليه جيشاً فدخلوا وهران وقبضوا عليه وذبحوه وسلخوه وملؤا جلده قطناً وبعثوا به إلى الجزائر، فوضع على سورها فكان عبرة لمن اعتبر، وإخافة لمن نظر. وله رضي الله عنه كرامات كثيرة ويد طولى هي بنوال المطلوب حقيقة وجديرة، حج رضي الله عنه ثلاث مرات، وكان في طريقه يجتمع بالعلماء والأفاضل والسادات الأماثل، فيفيدهم ويستفيد، وكان قاصراً نفسه على ما يفيد من العلم والتقوى لا من الطارف والتليد، ومر في آخر حجاته على بغداد، فزار جده وأخذ الطريق عن شيخ السجادة القادرية ونال أقصى المراد، ثم رجع إلى الوطن وقد أفرغ الله عليه حلة المنن، ولم يزل يعلو مقامه ويسمو احترامه، ويزكو علاه ويعم نداه، إلى أن دعاه داعي المنية للتوجه للمقامات العلية، يوم الأحد ثالث ربيع الأول سنة تسع وأربعين ومائتين وألف من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1491 الشيخ محي الدين بن عبد العزيز الشافعي الدمشقي الشهير بالادلبي كان فريداً ماهراً في جميع الفنون، قد قرت بفضله وكماله العيون وحسنت الظنون. ولد في دمشق الشام، ثم طلب العلم إلى أن صار من علمائها الأعلام، وبعد أن تكمل وحصل من الفضائل ما بها إلى كل رفعة توصل، ولي في الشام قضاء الشافعية، وكان ذا أخلاق حسنة وصفات سنية، نبيلاً نبيهاً تقياً فقيهاً، مواظباً على الإفادة ملازماً للتقوى والعبادة معروفاً بكل اتقان مقصوداً في الفنون العربية كعلم البديع والمعاني والبيان. توفي رحمه الله تعالى في اليوم الثامن عشر من المحرم سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف، عن نيف وسبعين سنة، ودفن في مقبرة باب الصغير. السيد مرتضى الزبيدي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق بن عبد الغفار بن تاج الدين بن حسين بن جمال الدين بن إبراهيم بن علاء الدين بن محمد بن أبي العز بن أبي الفرج بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن ناصر الدين بن إبراهيم بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط الإمام الفاضل والهمام الكامل، قال صاحب عجائب الآثار في ترجمة هذا السيد المعدود من الأخيار، هو علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج، المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والأقلام، ذو المعرفة والمعروف وهو العلم الموصوف، العمدة الفهامة والرحلة النسابة العلامة، الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي، الناظم الناثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1492 ولد سنة خمس وأربعين ومائة وألف، كما سمعته من لفظه ورأيته بخطه، ونشأ ببلاده، وارتحل في طلب العلم، وحج مراراً، واجتمع بالشيخ عبد الله السندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، وعب السقاف، والمسند محمد بن علاء الدين المزجاجي، وسليمان بن يحيى، وابن الطيب، واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة، وبالشيخ عبد الله ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين، ونزل بالطائف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين، فقرأ على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيراً من مؤلفاته وأجازه، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة وأجازه بمروياته ومسموعاته، قال وهو الذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان، وقرأ عليه طرفاً من الإحيا وأجازه بمروياته، ثم ورد إلى مصر في تاسع صفر سنة سبع وستين ومائة وألف، وسكن بخان الصاغة، وأول من عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه، وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه، واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان وأولاه بره، حتى راج أمره وتورنق حاله، واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وإسماعيل أبو عبد الله، وأبو علي وأولاد نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه، وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مراراً، حين كانت مزينة بأهلها عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1493 وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظماً ونثراً، لو جمعت كانت مجلداً ضخماً، وكناه سيدنا السيد أبو الأنوار بن وفا بأبي الفيض، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا يوم زيارة المولد المعتاد، ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنة بوكالة الصاغة. وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلداً، وسماه تاج العروس، ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وأطلعهم عليه واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة إطلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نظماً ونثرا، فممن قرظ عليه شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير، والسيد عبد الرحمن العيدروس، والشيخ محمد الأمير، والشيخ حسن الجداوي، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ عيسى البراوي، والشيخ محمد الزيات، والشيخ محمد عبادة، والشيخ محمد العوفي، والشيخ حسن الهواري، والشيخ أبو الأنور السادات، والشيخ علي القناوي، والشيخ علي خرائط، والشيخ عبد القادر بن خليل المدني، والشيخ محمد المكي، والسيد علي القدسي، والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا، والشيخ علي الشاوري، والشيخ محمد الخربتاوي، والشيخ عبد الرحمن المقري، والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي، وهو آخر من قرظ عليه، وكنت إذ ذاك حاضراً، وكتبه نظماً ارتجالا، وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربع وتسعين ومائة وألف وهذا نصه: شرح الشريف المرتضى القاموسا ... وأضاف ما قد فاته قاموسا فقدت صحاح الجوهري وغيرها ... سحر المدائن حين ألقى موسى إذ قد أبان الدر من صدف النهى ... في سلك جوهرة اللهى تأنيسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1494 وبنى أساساً فائقاً واختار في ... اتقانه مختاره تأسيسا فأثار من مصباح مزهر نوره ... عين الغبي فأبصرته نفيسا فهو الفريد فلا يثنى جمعه ... إذ لا يحاك كمثله تدليسا فلسان نظمي عاجز عن مدحه ... فالله ينشر نثره تقديسا ويديم مولاي الشريف بعصرنا ... في كل قطر للهداة رئيسا وإذا توجه لي بلمحة نظرة ... إني سعيد لا أصير خسيسا أهدي الصلاة مع السلام لجده ... هدياً جزيلاً لا يطاق مقيسا والآل مع صحب وهذا المرتضى ... ومن ارتضى ومن اصطفاه أنيسا وقد ذكرت بعض التقريظات في تراجم أصحابها، ومنها تقريظ الشيخ علي الشاوري الفرشوطي، أذكره لما فيه من تضمن رحلة المترجم إلى فرشوط ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. الحمد لله منطق البلغاء بأفصح البيان، ومودع لسان الفصيح حلاوة التبيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الملوان، وبعد فإن للعلوم شعباً وطرائق، وهضاباً وشواهق، يتفرع من كل أصل منه فنون، ومن كل دوحة فروع وغصون، وإن من أجل العلوم معرفة لغات العرب، التي تكاد ترقص العقول عند سماعها من الطرب، وكان ممن كيل له ذلك بالكيل الوافر، وطلع في سمائها طلوع البدور السوافر، ومر في ميدانها طلق العنان، وشهد له بالفصاحة القلم واللسان، حلية أبناء العصر والأوان، ونتيجة آخر الزمان، العدل الثبت الثقة الرضى، مولانا السيد الشريف المرتضى، متعنا الله بوجوده، وأطال عمره بمنه وجوده، وقد من الله علينا وشرفنا بقدومه الصعيد، فكان فيه كالطالع السعيد، فحصل لنا به غاية الفرح، وفرت العين به واتسع الصدر وانشرح، وقد أطلعني على بعض شرحه على قاموس البلاغة فإذا هو شرح حافل، ولكل معنى كافل، وقد مدحه جمع من السادة العلماء الأعلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1495 خصوصاً شيخنا وأستاذنا العلامة البطل الهمام، خاتمة المحققين بالاتفاق، أوحد الأئمة المجتهدين الحذاق، أستاذنا الشيخ علي الصعيدي العدوي، وناهيك به من شاهد، وكل ألف لا تعد بواحد، فهو مؤلف جدير بأن يثنى عليه، وحقيق بأن تشد الرحال إليه، كيف وهو صياغة نبراس البلاغة، وفارس البداعة والبراعة. الذي قلت فيه حين قدم فرشوط بلدتنا: قد حل في فرشوطنا كل الرضى ... مذ جاءها الحبر النفيس المرتضى أكرم به من طود فضل شامخ ... من نسل من نرجو همو يوم القضا جاد الزمان بمثله فحسبته ... من أجل هذا قد يعود بمن مضى عجباً لدهر قد يجود بمثله ... ورواؤه قدماً تولى وانقضى أحيا فنون العلم بعد فنائها ... وأزال غيهبها بتحقيق أضا لا سيما علم اللغات فإنه ... قد شيد الأس الذي منه نضا أمست به فرشوط تفخر غيرها ... وتبلجت أقطارها حتى الغضا لما تولى ذاهباً من عندنا ... فكأن في أحشائنا نار الغضا وقد اجتمع السيد السند العظيم بأمير المنهل العذب الرحيق الذي قصد من كل فج عميق كهف الأنام، الليث الهمام، شيخ مشايخ العرب الشيخ همام لازالت همته هامية، ودواعيه إلى فعل الخير نامية، فأحله من التعظيم لمكانه الأقصى، متأدباً معه بآداب لا تعد ولا تحصى، وهو جدير بذلك: فما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الفؤاد جميل أعاد الله علينا من بركاته وصالح دعواته، في خلواته وجلواته، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. قائل هذا النظم والنثر العبد الفقير، إلى مولاه الغني القدير، علي بن صالح بن موسى الشهير بالشاوري جنبه الله شرور نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه، والله ولي التوفيق انتهى. وقال سيدي الجبرتي في ترجمته للمترجم المرقوم وكتب للمرحوم الوالد يسأله الإجازة والتقريظ بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1496 أمولاي بحر العلم يا من سناؤه ... يفوق ضياء الشمس في الشرق والغرب ويا وارث النعمان فقهاً وحكمة ... وزهداً له قد شاع في البعد والقرب عبيدكم الظمآن قد جاء يرتجي ... ملاحظة منها يفوز قضا الأرب ويسأل في هذا الكتاب إجازة ... بتقريظه حتى يفوق على الكتب حباكم إله العرش منه كرامة ... وعيشاً هنيئاً في أمان بلا كرب وقابلكم بالجبر يوم حسابه ... بحسن وجازاكم بفضل وبالقرب وينصب في الآفاق أعلام علمه ... ويقرن بالتوفيق إخلاصه القلبي وصلى إله العرش ربي على الرضا ... محمد المبعوث للعجم والعرب واتبعه بالآل والصحب كلهم ... نجوم الهدى يحيا بذكرهم قلبي ولما أنشأ محمد بيك أبو الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر، وعمل فيه خزانة للكتب، واشترى جملة من الكتب ووضعها بها، أنهوا إليه شرح القاموس هذا، وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك، فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها. ولم يزل المترجم بخدم العلم ويرقى في درج المعالي ويحرص على جمع الفنون، التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث، واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألف في ذلك كتباً ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين ومائة وألف، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف ويعظهم، ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، فأقبلوا عليه من كل جهة وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريباً وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، ويعرف باللغة التركية والفارسية، بل وبعض لسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1497 الكرج، فانجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه، ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سنداً بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك، ثم إن بعض علماء الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعداً عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخوني، واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها، وتناقل في الناس سعي علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ مصطفى الطائي والشيخ سليمان الأكراشي وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني، فانتقل من الرواية عن الدراية، وصار درساً عظيماً، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضاً، وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثاً من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين، وافتتح درساً آخر في مسجد الحنفي وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم. ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي، وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية، كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده، وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1498 أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك: صحيح ذلك، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة. يقول الحقير إني كنت مشاهداً وحاضراً في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق، وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل غيض المعدية والأزبكية وغير ذلك، فكنا نشتغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها، وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ، وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن. وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك الاسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله، وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال. واشترى الجواري وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة. وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر، وسمع به فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية. ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه وخلع عليه فروة سمور، ورتب له تعييناً من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة وغلالاً من الأنبار، وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة، وقدره مائة وخمسون نصفاً فضة في كل يوم، وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، فعظم أمره وانتشر صيته. وطلب إلى الدولة في سنة أربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1499 وتسعين، فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة، وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق. وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فوقع لهم موقعا، وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا، والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها، وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة، وماء الكاري والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال، وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد، وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى أن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجاً ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملاً، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده، فيقول له فلان من بلدة كذا، فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقاً أن عرف جاره أو قريبه، فيقول له فلان طيب فيقول نعم سيدي، ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح، فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئاً ما، أو تمراً أو شمعاً على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1500 بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده، وقس على ذلك ما لم يقل. وشرع في شرح كتاب إحياء العلوم للغزالي وبيض منه أجزاء، وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس، ويرغب في طلبه واستنساخه. وماتت زوجته في سنة ست وتسعين فحزن عليها حزناً كثيراً، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية، وعمل على قبرها مقاماً ومقصورة، وستوراً وفرشاً وقناديل، ولازم قبرها أياماً كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسون والقهوة والشربات، واشترى مكاناً بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتاً صغيراً، وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحياناً، وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه، ورثاها هو بقصائد وجدتها بخطه بعد وفاته في أوراقه المدشتة، على طريقة شعر مجنون ليلى، منها قوله: أعاذل من يرزأ كرزئي لا يزل ... كئيباً ويزهد بعده في العواقب أصابت يد البين المشت شمائلي ... وحاقت نظامي عاديات النوائب وكنت إذا ما زرت زبدا سحيرة ... أعود إلى رحلي بطين الحقائب أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها ... من الخفرات البيض غير الكواعب فتاة الندى والجود والحلم والحيا ... ولا يكشف الأخلاق غير التجارب فديت لها، ما يستذم رداؤها ... عميدة قوم من كرام أطايب عليها سلام الله في كل حالة ... ويصحبه الرضوان فوق المراتب مدى الدهر ما ناحت حمامة أيكة ... بشجو يثير الحزن من كل نادب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1501 وقوله أيضاً: يقولون لا تبكي زبيدة واتئد ... وسل هموم النفس بالذكر والصبر وتأتي لي الأشجان من كل وجهة ... بمختلف الأحزان بالهم والفكر وهل لي تسل من فراق حبيبة ... لها الجدث الأعلى بيشكر من مصر أبى الدمع إلا أن يعاهد أعيني ... بمحجرها والقدر يجري إلى القدر فأما تروني لا تزال مدامعي ... لدى ذكرها تجري إلى آخر العمر وقوله أيضاً: خليلي ما للأنس أضحى مقطعاً ... وما لفؤادي لا يزال مروعا أمن غير الدهر المشت وحادث ... ألمّ برحلي أم تذكرت مصرعا وإلا فراق من أليفة مهجتي ... زبيدة ذات الحسن والفضل أجمعا مضت فمضت عني بها كل لذة ... تقر بها عيناي فانقطعا معا لقد شربت كأساً سنشرب كلنا ... كما شربت لم يجد عن ذاك مدفعا وقوله أيضاً: خليلي هل ذكرى الأحبة نافع ... فقد خانني الصبر الجميل العواقب وهل لي عود في الحمى أم تراجع ... لوصل بتلك الآنسات الكواعب لقد رحلت عني الحبيبة غدوة ... وسارت إلى بيت بأعلى السباسب أقول وما يدري أناس غدوا بها ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السباسب فأخرت عنها في المسير وليتني ... تقدمت لا ألوي على حزن نادب وقوله أيضاً: زبيدة شدت للرحيل مطيها ... غداة الثلاثا في غلائلها الخضر وطافت بها الأملاك من كل وجهة ... ودق لها طبل السماء بلا نكر تميس كما ماست عروس بدلها ... وتخطر تيها في البرانس والأزر سأبكي عليها ما حييت وإن أمت ... ستبكي عظامي والأضالع في القبر ولست بها مستبقياً فيض عبرة ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1502 وقوله أيضاً: نعم الفتاة بها فجعت غدية ... وكذاك فعل حوادث الأيام شدت مطايا البين ثم ترحلت ... وتمايلت أكوارها بسلام رحلت لرحلتها غداة تجملت ... أحلامنا من قاعد وقيام ما خلفت من بعدها في أهلها ... غير البكا والحزن والأيتام يا لهف نفس حسن أخلاق لها ... جبلت عليه ووصلة الأرحام وإطاعة للبعل ثم عناية ... صرفت لإطعام ولين كلام تلك المكارم فابكها ما رنحت ... ريح الصبا سحراً غصون بشام يا وارداً يوماً على قبر لها ... قف ثم راجع من شج بسلام وقلن لها قد كنت فيما قد مضى ... تأتي له عند اللقا بمقام واليوم مالك قد هجرت فهل لذا ... سبب فقولي يا ابنة الأعلام وغير ذلك تركته خوفاً من الإطالة، وفي هذا القدر كفاية في هذا المقام. ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره. ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء واعتكف بداخل الحريم، وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة. وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين اردبا من البر، وأحمالاً من الأرز والسمن والعسل والزيت، وخمسمائة ريال نقود، وبقج كساوي أقمشة هندية وجوخاً وغير ذلك، فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بك الاسكندراني وغيرهما، وحضرا إليه، فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما، ورجعا من غير أن يواجهاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1503 ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر، لم يذهب إليه بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصاناً معدوداً مرختاً بسرج، وعباءة قيمتها ألف دينار، أعد ذلك وهيأه قبل زيارته له، وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال، وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها في الحال. وأرسل مرة إلى أحمد بك الجزار مكتوباً وذكر له فيه أنه المهدي المنتظر! وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الإحراز والتمائم، فكان يسر بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعي المعارف في الجفور والزايرجات، ويعتقد صحته بلا شك، ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء أحبه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وأبعده ومنع عنه بره، ولو كان من أهل الفضائل! واشتهر ذلك عنه عند من عرف ذلك منه بالفراسة، ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما. واتفق أن مولاي محمداً سلطان المغرب رحمه الله تعالى وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء، فأرسل له في سنة إحدى ومائتين صلة لها قدر، فردها، وتورع عن قبولها وضاعت، ولم ترجع إلى السلطان، وعلم السلطان من جوابه فأرسل إليه مكتوباً قرأته، وكان عندي ثم ضاع في الأوراق، ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة، ويقول له إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين، وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين، فيكون لنا ولك أجر ذلك، إلا أنك رددتها وضاعت، ويلومه أيضاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1504 شرحه كتاب الإحياء ويقول له كان ينبغي أن تشغل وقتك بشيء نافع غير ذلك، ويذكر وجه لومه له في ذلك، وما قاله العلماء، وكلاماً مفحماً مختصراً مفيداً رحمه الله تعالى. وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الإحياء تأليفات كثيرة، منها كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مما وافق فيه الأئمة الستة، وهو كتاب نفيس حافل، رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات، ثم في العمليات، على ترتيب كتب الفقه، والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية، جمع فيه أسانيد العيدروس، وهي في نحو عشرة كراريس، والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين، وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق. وشرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراساً ألفها لعلي أفندي درويش، وألف باسمه أيضاً التفتيش في معنى لفظ درويش، ورسائل كثيرة جداً، منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا، وبلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، وإعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام، وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلهام بشرح صيغة سيدي عبد السلام، ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري، ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق، والقول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت، وتنسيق قلائد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن، ولقط اللآلي من الجوهر الغالي، وهي في أسانيد الأستاذ الحفني، وكتب له إجازته عليها في سنة سبع وستين، وذلك سنة قدومه إلى مصر، والنوافح المسكية على الفوائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1505 الكشكية، وجزء في حديث نعم الأدام الخل، وهدية الإخوان في شجرة الدخان، ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية، وإتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي، وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتني هود، والمربي الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي، والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية، ورسالة في المناشي والصفين، وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس مستقل على لسان القوم، وشرح على حزب البر للشاذلي وتكملة على شرح حزب البكري للفاكهي من أوله، فكمله للشيخ أحمد البكري، ومقامة سماها إسعاف الأشراف، وأرجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي، وحديقة الصفا في والدي المصطفى، وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي، ورسالة في طبقات الحفاظ، ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي وليس من الكرم، الخ وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب، صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني، والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة، والمنح العلية في الطريقة النقشبندية، والانتصار لوالدي النبي المختار، وألفية السند، ومناقب أصحاب الحديث، وكشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام، ورفع الشكوى لعالم السر والنجوى، وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب، ورفع الكلل عن العلل، ورسالة سماها قلنسوة التاج ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري ويكتب عليها تقريظاً ففعل ذلك، وكتب إليه يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، وأولها بعد البسملة الحمد لله الذي رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1506 متن العلماء وشرح بالعلم صدورهم، وأعلا لهم سنداً وصحح الحسن من حديثهم فصار موصولاً غير مقطوع ولا متروك أبداً، وحمى قلوبهم عن ضعف اليقين في الدين، فلم تضطرب ولم تنكر الحق بل صارت لإفادته مقصداً. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وآله أئمة الهدى، وصحبه نجوم الاهتدا، ما اتصل الحديث وتسلسل، وسلم من العلل، والشذوذ سرمدا. وبعد فهذه قلنسوة التاج، صنعت بأفخر ديباج، بل غنية المحتاج وبل صدى المزاج، وزهرة الابتهاج والقصر المشيد بالأبراج، والمصباح المغني عن أبي السراج، بل الدرع الموصوف بلآلي عوالي غوالي، أحاديث موصولة إلى صاحب الإسراء والمعراج، رصعت باسم الكوكب الوضاح المستنير بأضواء مصباح الفلاح، المتشح باردية أسرار التحقيق والمتزر بملاءة أنوار التوفيق، المنصف في جدله غير محاب لقريب والآتي من تقريره بالعجب العجيب، ذي المناقب التي لا يستوعبها البنان واللسان، ولا يبلغ أداء شكره، ولو أطلقت اللسان بالثناء عليه على ممر الزمان، صاحبنا الفاضل العلامة الجمال محمد بن بدير الشافعي المقدسي رحمه الله تعالى آمين. إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا أضاء الله بدر كماله، وحرس مجده بجلاله، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود وكتب في آخرها ما نصه: أجزت له إبقاء ربي وحاطه ... بكل حديث حاز سمعي بإتقان وفقه وتاريخ وشعر رويته ... وما سمعت أذني وقال لساني على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريئاً عن التصحيف من غير نكران كتبت له خطي واسمي محمد ... وبالمرتضى عرفت والله يرعاني ولدت بعام ارخوا فك ختمه ... وبالله توفيقي وبالله تكلاني وكتب معها جواب كتابه ما نصه: أمعاطف أغصان النقا تترنح، أم القلوب بميلانها إلى المحبوب تتروح، ورنات أوتار العيدان بأنات أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1507 الغرام والشوق، أم هيجان البلابل بسجوع البلابل وتغريد ذات الطوق، أم دعوة روح القدس تهتف بميت فيقوم حيا، أم مقدم عيس حبيب أحيا تدانيه عشاق معاليه وحيا، ما هذه إلا صدى تشبيب نسيم بث الشوق وإهداء التحيات، كلا بل نفحات عبهر الثناء وإرسال تحف التسليمات إلى ممد ماء الحب من ميم مد بحره البسيط، والفيض للمجتدي من رشحات قاموس بره المحيط، من نثر لآليء القول البديع على مفارق مهارق الصباحة والملاحة، ونشر ملاءة الإحسان على غرة طلعة تاج عروس الفصاحة، مردي فارس البراعة في الميدان إذا اقتعدها سلهبا سبوحا، الممطر غارب النجابة والإتقان بجلالة قدر تخضع له من الفلك الأطلس برجا، هو الذي إذا قال أقال عثار الدهر، وقال تحت إفياء ظلال دوحة الفخر، وإذا رقم فصفحة الفلك بالزواهر، مرقومة، وإذا رسم فجبهة الأسد بايات الحرس موسومة، وشاهدي ما شاهدته في كتابه المنيف الواصل إلي، وخطابه الشريف الوارد علي، فعين الله على منشئ تلك الفصاحة سملت من الحصر، إلا وإن وردها الحضر أعيا البدو والحضر، وقد صدر إليه ما أشار على المحب في ختام خطابه، وعرج عليه هضماً لنفسه فلم يك إلا كالمسك يتنافس فيه وراد جنابه. ولو أن فيوضات العلوم والمعارف من غير حماكم لا تستماح، وممدات المنح والعوارف من غير حيكم لا تستباح، ولكن رأى الإطاعة في ذلك مغنما، وتحقق التباطؤ في مثل ذلك مغرماً، فأشرق أفق سعد القبول بمقياسه، وسعى قلم الإجازة في الخدمة على كراسه، وعطر بيان أسانيد العوالي فردوس الأسناد بأنفاسه، وهبت غالية نسائم كمائم اللطائف، وهبت بارقة غمائم المشارق والمراشف، وتمايلت أفنان الاتصال برماح علو الإسناد، وسقى قلم التحرير رياض الإجازة من جريال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1508 الإمداد، فدونكها إجازة خاصة، على مدارج كمالاتك ناصة، كأنها عروس جليت بالتاج، وحليت بأفخر ديباج، ولولا مخافة طول العهد، والتماس السعد في الحث على إنجاز الوعد، بتنضد تاج الملفقات، لكانت مفلقات الكلم المتفرقات، بغيث ذكركم المنسجم مجلدات، فهي بطاقة تحمل في كل كلمة غريدة بان، وتنفث السحر في عقد البيان، فامتط غارب سنامها، واهتصر ثمرات نظامها، دمت لذروة المعالي متسنماً، ولأنفاس رياض السعادة متنسماً آمين. أقول: والشيخ محمد بدير المذكور، هو الآن فريد عصره في الديار المقدسة، يبدي ويعيد ويدرس ويفيد، بارك الله فيه مدى الأيام، وامتع بوجوده الأنام آمين. وللمترجم أشعار كثيرة جوهرية النفثات صحاح، وعرائس أبيات ذات وجوه صباح، منها قوله من قصيدة يمدح بها الأستاذ العلامة شمس الدين السيد محمد أبا الأنوار بن وفا أطال الله بقاه، ويذكر فيها نسبه الشريف منها: مدحت أبا الأنوار أبغي بمدحه ... وفور حظوظي من جليل المآرب نجيباً تسامى في المشارق نوره ... فلاحت بواديه لأهل المغارب محمد الباني مشيد افتخاره ... بعز المساعي وابتذال المواهب ربيب العلا المخضل سيب نواله ... سماء الندى المنهل صوب السحائب كريم السجايا الغر واسطة العلا ... بسيم المحيا الطلق ليس بغاضب حوى كل علم واحتوى كل حكمة ... ففات مرام المستمر الموارب به ازدهت الدنيا بهاء وبهجة ... وزادت جمالاً من جميع الجوانب مخايله تنبيك عما وراءها ... وأنواره تهديك سبل المطالب له نسب يعلو بأكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب وهي طويلة ذكرها في خاتمة رفع نقاب الخفاء. ومن كلامه في مدح المشار إليه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1509 زار عن غفلة من الرقباء ... في دجى الليل طيف حب نائي يا لها زورة على غير وعد ... نسخت آيها ظلام النائي بت منها منعماً في سرور ... ومحا نورها دجى الظلماء وتجلى إشراقها بوصال ... مهديا للقلوب كل هناء ويقول في مديحها: عمدة ماجد مكنى أبا الأن ... وار رب الفخار نجل الوفاء أشرف العالمين أصلاً وفصلاً ... مفرد العصر نخبة الأصفياء ويقول فيها: أشرقت في قلوبنا من سناه ... نيرات بهية الأضواء هو روح الإله في كل مجلى ... هو تاج الجمال للعلياء هو بدر البدور في كل أوج ... هو نجم الهدى وشمس الضحاء هو باب المنى فتحاً ونصراً ... منه تمت مظاهر النعماء هو رجائي وعدتي ونصيري ... واعتمادي في شدتي ورخائي ومدحه صاحبنا يتيمة الدهر، وبقية نجباء العصر، الناظم الناثر السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، بهذه القصيدة الغراء اللامية وهي: ذاك المحيا وذاك الفاحم الرجل ... با آبلبي وتلك الأعين النجل وبي غزالاً إذا شمس الضحى أفلت ... أراه شمساً وجنح الليل منسدل أغن أغيد وضاح الجبين له ... خد أسيل وطرف كله كحل نشوان لم يحتسي صرفاً مشعشعة ... لكنه بالذي في ثغره ثمل أقام في كبدي الوجد المضر به ... حتى تحلل فيما تسفح المقل وفي الجوانح أذكى صده حرقاً ... تكاد من حرها الأحشاء تشتعل حملت فيه الذي تعي الجبال به ... وما لقيس بما قاسيته قبل كم بت فيه وأشواقي تؤرقني ... ودمع عيني على خدي ينهمل وعاذل جاء يلحاني فقلت له ... دعني بمدحي إمام العصر أشتغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1510 محمد المرتضى الراقي ذرى شرف ... تلوح من دونه الجوزاء والحمل السيد السند الثبت الموضح ما ... للعجز قد تركت إيضاحه الأول صدر الشريعة مصباح البرية من ... يضيق عن وصفه التفصيل والجمل أحيا معالم علم كنت أنشدها ... إنا محبوك فاسلم أيها الطلل وقام في الله للإسلام منتصراً ... وكاد لولاه يصغي الحادث الجلل أعيا أكف الكرام الحافظين له ... في رقم صالح قول أثره عمل للخط أولا فللخطي راحته ... فما له عنهما إلا الندى شغل ومنها: ضرائب من معال لم يخص بها ... غلاه منها سواه حظه العطل يا ابن الذي قد غدا جبريل خادمه ... وبشرت قومها قدما به الرسل خذها إليك وإن كانت مقصرة ... حسبي علا أنها حبلي المادح الغزل لا زلت مبلغ مثلي ما يؤمله ... وللمروع أمناً إن عرا وجل فأجابه بقوله: اعقد لآل أم نجوم ثواقب ... أم الروض فيه الورق جاءت تخاطب وإلا غروس في ملاء محاسن ... لها الصون عن عين الحواسد حاجب والانظام من حبيب ممجد ... أخي الفضل من دانت لديه الغوارب وهي طويلة، وله أيضاً: إذا ما هب سلطان المريسي ... وأبدى الجو وجهاً للعبوس فزعت بمفرد الكافات يأتي ... بجمع حاصل هو كاف كيسي به أصبحت أرفل في كساء ... به أمسيت في كن نفيس به تجلى من السمراء كأسي ... إلي على يدي غزلان خيس فارشف تارة منها وطورا ... من الثغر الشنيب بلا مقيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1511 وله في المعنى: إذا ضم قطر الجو عنا ... وهبت رياح بالعشية بارده قصرت على كاف الكتاب مطالعاً ... ومقتبساً منه فوائد شارده وله أيضاً: قد عد قوم في الشتاء لذائذا ... كافية تكفي لدى الأنواء كالكيس والكانون والكن الذي ... يأوي له العاني وكأس طلاء ثم الكتاب وسادس الكافات من ... شمس تضيء دنت وكاف كساء ولدي أن الكيس يجمع كل ما ... ذكروا من الأفراد والأجزاء وله في المعنى: لكاف الكيس فضل مستمر ... يفوق به على الكافات طرا إذا ظفرت به كفاك يوماً ... تسنى سائر الكافات قسرا وله أيضاً في المعنى: إذا هب سلطان المريسي غدوة ... وجلل آفاق السماء سحاب وضاق لتحصيل الأماني مذاهب ... فنعم جليس الصالحين كتاب وله أيضاً: كاف الكياسة مع كيس إذا اجتمعا ... يوماً لمرء إلا في العصر سلطانا بالكيس يصبح مقضياً حوائجه ... وبالكياسة يولي الكيس إحسانا والكيس منفردا مضن بصاحبه ... والكيس منفرداً يوليه مجانا وله في إجازة: أجزت لمن حوى قصب الفخار ... وجلى في العلوم فلا مجاري رواياتي جميعاً عن شيوخ ... ثقات أهل فضل واختبار لهم بين الملا صيت ومجد ... وفخر واعتماد في اشتهار ومنظومي ومنثوري جميعاً ... وإن لم أك أهلا لاعتبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1512 وحسن الظن بالاغضا كفيل ... ورعي العهد مع بعد المزار فأنت المفرد العلم المنادي ... ومثلك من أصاخ إلى اعتذار ولا تغفل محبك من دعاء ... بنيل القصد في تلك الديار ويرجو المرتضى منكم قبولا ... عسى يعطى الرضى عند القرار بجاه المصطفى خير البرايا ... إمام المرسلين المستجار على عليائه أزكى سلام ... وصحب ما أضت شمس النهار وله في أسماء أهل الكهف على الخلاف الوارد فيهم: بتمليخ مكسلمين مشلين بعده ... دبرنوش مرنوش أشداء للكهف وخذشادنوشا سادس الصحب ذاكرا ... كغشططيوش في رواية ذي العرف نوانس سانينوس مع بطينوشهم ... مكرطونش تلك الروايات فاستوف وكشفوطط كندسلططنوس هكذا ... روينا وارنوش على حسب الخلف وبنيونس كشنيطط اربطانس ... ومرطوكش عند الأجلة في الصحف وكلبهم قطمير سابع سبعة ... فخذ وتوسل يا أخا الكرب والرجف ومن كلامه أيضاً: توكل على مولاك واخش عقابه ... وداوم على التقوى وحفظ الجوارح وقدم من البر الذي تستطيعه ... ومن عمل يرضاه مولاك صالح وأقبل على فعل الجميل وبذله ... إلى أهله ما اسطعت غير مكالح ولا تسمع الأقوال من كل جالب ... فلا بد من مثن عليك وقادح ونظمه كثير، ونثره بحر غزير، وفضله شهير وذكره مستطير. وكنت كثيراً ما أجتلي وجه وداده، وأوقد نار الفكرة بقدح واري زناده، واستظل بدوحه المريع، واستمد من بحره السريع، وأسامره بما يذكرنا عهود الرقمتين، وأتنزه من صفات فضله وذاته في الربيعين، كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1513 وكانت بالعراق لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني وبالجملة فإنه كان في جمع المعارف صدراً لكل ناد، حتى قوض الدهر منه رفيع العماد، وأذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، كما قيل: وزهرة الدنيا وإن أينعت ... فإنها تسقى بماء الزوال وقد نعاه الفضل والكرم، وناحت لفراقه حمائم الحرم؛ وأصيب بالطاعون في شهر شعبان، وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره، فطعن بعد ما فرغ من الصلاة، ودخل إلى البيت واعتقل لسانه تلك الليالي، وتوفي يوم الأحد، فأخفت زوجته وأقاربها موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر، والأمتعة والكتب المكلفة، ثم أشاعوا موته يوم الاثنين، فحضر إسماعيل بك طبل الإسماعيلي، ورضوان كتخدا المجنون وادعى أن المتوفى أقامه وصيا مختاراً، وعثمان بك ناظراً بسبب أن زوج أخت الزوجة من أتباع المجنون، يقال له حسين آغا، فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق، أخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج، وخرجوا بجنازته وصلوا عليه، ودفن بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية، ولم يعلم بموته أهل الأزهر ذلك اليوم، لاشتغال الناس بأمر الطاعون، وبعد الخطة، ومن علم منهم وذهب لم يدرك الجنازة، ومات رضوان كتخدا في أثر ذلك، واشتغل عثمان بك بالإمارة لموت سيده أيضاً، وأهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربها متروكاته، ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة إلى دارهم، ونسي أمره شهوراً، حتى تغيرت الدولة وتملك الأمراء المصريون الذين كانوا بالجهة القبلية، وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من أتباعهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1514 فعند ذلك فتحوا التركة بوصايا الزوجة من طرف القاضي، خوفاً من ظهور وارث، وأظهروا ما انتقوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات، وباعوها بحضرة الجمع، فبلغت نيفاً ومائة ألف نصف فضة، فأخذ منها بيت المال شيئاً، وأحرز الباقي مع الأول، وكانت مخلفاته شيئاً كثيراً جداً، أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته، أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته، فأدخلوه إليه، فوجده راقداً معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق إلى الليوان، ورأيت كوماً عظيماً من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشيمري والفراء، من غير تفصيل نحو الحملين، وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها، قال: ورأيت عدداً كثيراً من ساعات العب الثمينة مبدداً على بساط القاعة، وهي بغلافات بلادها، قال فجلست عند رأسه حصة وأمسكت يده، ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه، ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه، فقمت عنه، قال: ورأيت في الفسحة التي أمام القاعة قدراً كثيراً من شمع العسل الكبير والصغير، والكافوري والمصنوع والخام، وغير ذلك مما لم أره ولم ألتفت إليه. ولم يترك ابنا ولا ابنة، ولم يرثه أحد من الشعراء، وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضاء، معتدل اللحية قد خط الشيب في أكثرها، مترفهاً في ملبسه، ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكى وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر، وكان لطيف الذات حسن الصفات، بشوشاً بسوماً، وقوراً محتشماً، مستحضراً للنوادي والمناسبات، ذكياً لوذعياً فطناً ألمعياً، روض فضله نضير، وما له في سعة الحفظ نظير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1515 وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر شعبان المعظم سنة خمس ومائتين وألف، ودفن في جانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية في القبر الذي أعده لنفسه هناك كما تقدم جعل الله مثواه قصور الجنان، وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران، وعوضه جنة ونعمة وخيراً وأجراً، وعوض المسلمين عنه خيراً، وجمعنا جميعاً وإياه في مستقر رحمته آمين. مريم بنت محمد بن طه العقاد الحلبية الشافعية أم عمران المقرية المسندة الصالحة الكاملة العالمة العاملة، مولدها في حلب، سنة ست وخمسين ومائة وألف. قرأت القرآن العظيم وبعض المقدمات على والدها، وحفظت متون الفنون إلى أن بلغت مرادها، وكان جل انتفاعها على والدها، وأجازها جملة من المحدثين والعلماء الكاملين، منهم العلامة الجينيني وغيره من علماء عصرها. وقد اجتمع بها العلامة محمد خليل أفندي المرادي حينما كان في حلب عام ألف ومائتين وخمسة، وأثنى عليها وشهد بعلمها وفضلها، ولم أقف على تاريخ وفاتها رحمة الله عليها آمين. الشيخ مراد بن الشيخ محمد بن الشيخ حسن الشطي الحنبلي ولد سنة تسع وثمانين ومائتين وألف بدمشق، ونشأ بها في حجر والده، وقرأ لديه جملة صالحة من فن الفرائض والحساب وغيره، وقرأ على الشيخ طاهر بن صالح المغربي، وعلى الشيخ بدر الدين بن يوسف المغربي، وحضر مجالس حديثية عند الشيخ بكري بن الشيخ حامد العطار، واستجاز من غيرهم. وأقبل على تحصيل الفنون وضروب الآداب، وبرع في فن الهندسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1516 والخط على اختلاف ضروبه مع صلاح وعفاف وحياء، وكنت أشاهد منه لطفاً وكمالاً، وأدباً زائداً واحتفالاً، ومحاضرة حسنة وكمالات مستحسنة وكان له همة ونظر في معالي الأمور، وقد جمع مسودة في طبقات الحنابلة المتأخرين، وجمع منظومات قريبه الأديب الشيخ عبد السلام الشطي في ديوان، وغير ذلك من مجاميع بديعة. بيد أنه قطع عليه الطريق الأجل، وناداه عجلاً فقال أجل، وذلك في شهر ذي القعدة عام أربعة عشر وثلاثمائة وألف ودفن بتربة الذهبية من مرج الدحداح رحمه الله تعالى. السلطان مصطفى خان بن السلطان عبد الحميد خان ولد سنة ألف ومائة وثلاث وتسعين، وجلس على تخت الملك في الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين فهابه الكبير والصغير والجليل والحقير، وحصل الخوف لجميع أهل الاستانة منه ووقع الرعب في قلوب الجميع، ثم أطلقت المدافع علامة على جلوس السلطان مصطفى ونودي في المنابر باسمه، وتقدم المفتي شيخ الإسلام وقائمقام موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1517 باشا إلى الجموع التي كانت مجتمعة في فسحة آت ميدان، وأخبروهم أن السلطان مصطفى قد وعد بإبطال ما كان مهتماً به السلطان سليم من وضع النظام الجديد وبإرجاع العوائد القديمة، فلما سمع الجميع هذا الحديث تفرقوا، وبعد أن جلس السلطان مصطفى على تخت السلطنة سلم زمام الأحكام بيد القائمقام كوسج موسى باشا والي المفتى شيخ الإسلام عطا الله أفندي، ولما بلغت هذه الأخبار الصدر الأعظم جلبي مصطفى باشا وكان رئيس الجيوش التي خرجت لقتال الروسية كما تقدم، حزن لذلك وغضب غضباً شديداً هو ومن معه من العساكر، وكان من جملتهم مصطفى باشا البيرقدار، فعقدوا صلحاً مع الروسية، ورجعوا بالعساكر ليتداركوا هذا الأمر، وأرسلوا لعساكر الانكشارية يقولون لهم نحن قادمون لنجدتهم وإتمام رغبتهم ليطمئنوا بذلك، وما دخلوا القسطنطينية إلا بعد مشاق، وأراد البيرقدار مصطفى باشا إرجاع السلطان سليم والقبض على السلطان مصطفى، وطلب من الصدر الأعظم المساعدة على ذلك، فأنكر عليه ذلك مبيناً سوء عواقب الأمور، فغضب البيرقدار غضباً شديداً، وأمر بحبسه وبلغ الخبر السلطان مصطفى فأرسل أناساً يقتلون السلطان سليم، فدخلوا عليه وهو يصلي صلاة العصر، فلم يمهلوه إلى أن يتم الصلاة بل وثبوا عليه وطرحوه إلى الأرض، فنهض حالاً عليهم كالأسد وصرعهم، وكان قوياً جداً، ثم تغلبوا عليه وخنقوه حتى مات، ورجعوا به إلى السلطان مصطفى مسرعين وطرحوه ميتاً أمامه، وكان ذلك سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف، وعمر السلطان سليم ثمان وأربعون سنة ثم أرسل أناساً وأمرهم بخنق أخيه السلطان محمود، وكان البيرقدار قد هجم بجماعة مسرعين لإنقاذ السلطان سليم فوجدوه قد مات، فاهتموا بأمر السلطان محمود، وقال لهم البيرقدار عليكم بنجاة السلطان محمود لأنه هو الوارث الوحيد لتخت السلطنة الباقي من سلالة آل عثمان، فأخذت العساكر تطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1518 السلطان مصطفى، وتبحث عن السلطان محمود، وإن السلطان محمود لما جاءه جنود السلطان مصطفى الذين يريدون قتله أراد الفرار فرشقه أحدهم بخنجر أصاب يده فهرب، وصعد على سطوح السرايا، فلما نظرته جماعة البيرقدار وضعوا له سلماً فنزل إلى صحن الدار، حيث كان البيرقدار، وعندما نظر إليه البيرقدار فرح فرحاً عظيماً وحمد الله تعالى على خلاصه من أخيه وصار يقبل قدميه، ثم دخل به القاعة وأجلسه على تخت السلطنة، وأرسل جنداً قبضوا على السلطان مصطفى وأمر بحبسه فلما تم جلوس السلطان محمود جعل مصطفى باشا البيرقدار صدراً أعظم، وسلمه زمام الأحكام، فأخذ يجتهد في أخذ الثأر من الذين قتلوا السلطان سليم، ثم شرع في تنظيم العسكر الجديد، وطلب اجتماع أهل الحل والعقد من رجال الدولة، فلما حضروا أخذ يبين لهم شدة الاضطرار لتعليم العساكر صناعة الحرب، وإنفاذ أوامر السلطان طالباً رأيهم في ذلك، فصادقوه مذعنين لأمره، وتعهدوا بالمساعدة في كل من يؤول لنجاح المملكة، وفي الحال أخذ الصدر الأعظم في وضع ترتيبات جديدة أوجبت الملام عليه من كثيرين، وأضمروا له السوء، وصاروا يطعنون فيه جهاراً ويدعونه بالكافر، وعلقوا أوراقاً، ولا زال الأمر في اضطراب إلى أن قتل السلطان مصطفى المترجم بإشارة من السلطان محمود، سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين رحمه الله تعالى. وفي ترجمة السلطان محمود زيادة تفصيل وبيان فليراجع هناك. الشيخ مصطفى بن أحمد حسين بن أحمد بن عبد الرزاق الحلبي الولي المستغرق المجذوب المشهور صاحب الأحوال الغريبة الباهرة، والكرامات البديعة العالية الظاهرة، كان كثير الإنشاد، من أقوال السادة الأمجاد، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1519 الموشحات الأنيقة، والمواليا الرقيقة، وله حافظة قوية، ونغمات لطيفة ندية، ما رآه إنسان إلا وأحبه، ورام دنوه وقربه، وكان يرد عليه من الناس مال كثير، فيدفعه في الحال لمستحقيه من مسكين وفقير، وكان معتقداً عند الخاص والعام، وكراماته مشهورة مشهودة للأنام. توفي بعد ألف ومائتين وخمسة في حلب، ودفن بها رحمه الله تعالى ونفعنا به. الشيخ مصطفى بن محمد بن إبراهيم بن محمد الطرابلسي الحلبي المولد والمنشأ الحنفي العالم الفاضل، والمتقن الكامل، المولى السيد الشريف، البليغ الأديب اللطيف، نخبة البلغاء، وكعبة طواف الفضلاء والرؤساء. ولد بحلب في شوال سنة ست وأربعين ومائة وألف، ونشأ بكنف والده الشمس محمد نقيب الأشراف ومفتي الحنفية بحلب، أحد العلماء والفقهاء المشهورين بعصره، وقرأ عليه الكثير من الكتب وانتفع به وسمع عليه الكثير وأخذ عنه، واشتغل على غيره بالأخذ والتحصيل وقرأ عليهم، كأبي السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبي عبد الفتاح محمد بن الحسين بن مرعي السويدي البغدادي عام دخوله حلب حاجاً سنة سبع وخمسين ومائة وألف، وأبو عبد الله محمد بن علي الجمال الحلبي تلميذ والده فبرع وفاق، وانعقد على فضله الاتفاق، وحصل له الفضل الذي لا ينكر، والاتقان الذي لا يجحد بل ينشر ويذكر، وأقبل على الأدب ومطالعة كتب اللغة والعربية واشتغل بها حتى ضبط الكثير منها وحفظ غالبها، وجمع كتاباً في اللغة لم ينسج على منواله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1520 ولم يسبق إلى مثاله، جعله أبواباً وفصولاً وتفرغ لجمعه وتحريره عدة سنين، حتى جاء كتاباً وافياً مفيداً سهل المأخذ كثير الفائدة. وقدم دمشق ودخلها غير مرة، وسمع من أبي يحيى علاء الدين علي بن صادق الداغستاني، وسمع الكثير من العلماء واستفاد من فوائدهم، ثم ارتحل إلى حلب وامتحن لما قامت الأشراف وقوي جانبهم، وخرج من حلب واستقام مدة في مدينة صيدا وتلك النواحي، ثم دخل القسطنطينية، وكان قد مات والده في تلك الأيام واجتمع بعلمائها وأعيانها، وتقلبت به الأحوال بعد ذلك، واستقر آخر أمره في بلدته الشهباء إلى أن اخترمته المنية، سنة نيف وعشر ومائتين وألف ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه. الشيخ الملا مصطفى بن جلال الدين الكلعنبري النقشبندي الخالدي العالم الفاضل الألمعي، والحبر الكامل المرشد اللوذعي، مرشد السالكين، ومفيد الواصلين، الخليفة لحضرة المولى الأستاذ، والحبر البحر الملاذ، حضرة مولانا خالد فخلفه عنه خلافة مطلقة وأذن له بالإرشاد، فأفاد بالشريعة والحقيقة حسب المراد، ولم يزل إلى أن توفي سنة ألف ومائتين و. الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي صاحب معارضات الشيخ هلال لقد ترجمه الإمام الأديب، والهمام اللبيب، محمد خالد أفندي جلبي الحمصي بقوله: أديب فريد، وشاعر مجيد، كان رحمه الله أديباً عاقلاً فاضلاً، فطناً ذكياً ودوداً صالحاً ورعاً تقياً، ولد بحمص وبها نشأ، ولما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1521 كبر وشب حفظ القرآن وتعلم الخط والحساب، ثم تعلق على العلوم فأخذ بقسم وافر من كل منها، وقرأ كثيراً من كتب الأدب والتواريخ، وطالع أكثر دواوين الشعراء وأقوال البلغاء، فحفظ منها في مدة يسيرة ما يعجز عن حفظه غيره في أعوام كثيرة، وكان مع ذلك قد منح حسن الصوت وجودة الحفظ، فتعلق على العلوم الموسيقية فبرع بها، وأحبه أعيان البلدة وأكابرها، فكان سمير العلماء ونديم الشعراء والبلغاء، ثم زادت شهرته وبعد صيته وتولع به الخاصة والعامة، فاعتنقه الشيخ الفاضل والمرشد الكامل، أبو النصر بن الولي العارف بالله الشيخ عمر اليافي، صاحب المنظومات الدرية والقدود البهية الموسومة في البكرية، فنزل عنده منزلة عظيمة، وحلت عليه أنظاره الكريمة، ثم رحل مع الشيخ المذكور وتخرج بصحبته، وصار منشد ذكره وحضرته، فسافر معه إلى الاستانة العلية، ونزلا عند عبد الله باشا أحد وزراء الدولة العثمانية، وذلك في زمن السلطان ساكن الجنان السلطان عبد العزيز بن السلطان محمود خان تغمدهما الله بالرحمة والرضوان، فحصل لهما الإقبال التام، ووجهت على الشيخ مصطفى رتبة روس إيبك بواسطة الباشا المذكور، وانتظمت له الأمور، وأحبه عبد الله باشا فحبسه عن المسير، ونال منه الخير الكثير، ثم سافر معه إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وأقام عنده مدة طويلة بمزيد الإنعام، ورجع بعد ما طاف البلاد المصرية. فرأى في تلك المدة بدور المنظومات الهلالية طالعة، وأنوارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1522 لامعة، والناس منها بين إعجاب وإطراب، وإطناب وإسهاب، فأخذ في معارضته، وشمر إلى مبارزته، ولكن تركه في واد وسلك في واد آخر، وعن تلك الخطة رجع والقدور، إلى غير ذلك مما ستقف على معانيه، وتتأمل رصانة مبانيه، من المنظومات الفائقة، والأدوار الرائقة، والكلام الذي فاق بسلاسته وعذوبته كل كلام في هذا الباب، وأعجز فحول الشعراء عن مضاهاته وحير منهم الألباب، حتى قال قائلهم ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا لشيء عجاب! ومن ثمة أوغر عليه صدر الهلالي حنقاً، وازداد تضجراً وقلقاً، تأسفاً على إهمال نظمه الذي فاق الدر المنثور، ونبذه خلف الظهور، وتوله الناس بما يعارضه به الشيخ المذكور، على أن الشيخ مصطفى لم يكن مقصوراً على النظم في المآكل، إنما كان يأتي بذلك على سبيل التفكه والمداعبة. وكان له نظم جيد رقيق، والذي يدعوه أيضاً لسلوك هذه الخطط واقتفاء تلك الرسوم، كثرة ولعه في حب المآكل واللحوم، فإنه كان رحمه الله تعالى أكولاً عظيماً، وقد قيل من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وسوف نأتي على نبذ من مهمات أمره، مع ما فيه، فإنه كان رحمه الله مسامراً نديماً حافظاً، إذا جالسك يملأك نكات وأخبارا، وملحاً وآثارا. توفي رحمه الله تعالى عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر إثر نزلة صدرية، لم تنجع فيها حيل المطببين، وله من العمر ما ينوف على السبعين، وكانت موتته على هيئة تشعر بحسن الختام، والفوز بدار السلام، وذلك حيث كان رحمه الله تعالى رحمة واسعة في نهاية مرضه وقد أصبح يوم الجمعة، حتى إذا كان قبيل الصلاة رأى في نفسه خفة وراحة فطلب ماء ليتوضأ معولاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1523 النزول إلى الجامع، وكان قريباً لبيته، ولما أتي له بالماء توضأ محسناً للوضوء، وحيث أتم أمر بفرش مصلاه، وشرع في صلاة سنة الجمعة قبل المسير، فقبض قبل التشهد في السجود الأخير، ودفن في عصر ذلك اليوم، وكان له مشهد عظيم مشى في جنازته أكابر البلدة وأعيانها. وقد أرخ موته العلامة المحقق والحبر المدقق، نخبة الفضلاء الكرام وعمدة العلماء الأعلام، أتاسي زاده السيد خالد أفندي مفتي حمص الأسبق، قائلاً - وقد رقم على القبر: هذا الضريح لمصطفى ... مداح خير المرسلين من لابن زين الدين يع ... زى نسبة في العالمين لبى المهيمن ساجداً ... لما رأى عين اليقين العفو أرخ واقر ... ولنعم دار المتقين ومن نظمه البديع الرقيق مطرزاً باسم رفيق: رماني بسهم من لحاظ فواتك ... غزال له دانت أسود المعارك فما البدر يحكيه ولا الغصن إن بدا ... أو اختال في ثوب البها في مسالك يلذ لي التعذيب في حب من غدا ... وأصبح من دون البرية مالكي فليت الكرى لما شواني بحبه ... أراقب زهر الليل ضمن الحيالك ومن كلام الشيخ هلال موشح لازمه: بالله يا باهي الشيم ... رفقاً بولهان ما شاقه ذكر العلم ... لولاك والبان أظهرت سري المكتتم ... ما بين دمعي والسقم في لوحه خط القلم ... إن الهوى حكم حكم دور بدر منير أم ملك ... أم أنت إنسان ما خاب راج أمّ لك ... بالقرب إحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1524 كم من جهول أمّ لك ... نال الشقا مع من هلك سبحان من قد كملك ... في كل حسن تم لك دور أهوى الجمال المطلقا ... أيان ما كان إذ مذهبي أن أعشقا ... حوراً وولدان أدهشتني عند اللقا ... يا بدر حسن مشرقا يدري بذا من حققا ... إن القنا عين البقا دور وا لوعتي من علما ... غزلان نعمان عن حبهم منع اللمى ... ظلماً وعدوان يا تاركين المغرما ... في حبهم يبكي دما سكران من حر الظما ... يبغي السراب الأوهما دور سكرى لدى محو الأثر ... للدن أدنان حيث المعاني والصور ... راح وريحان كالشمس في روض القمر ... تجري لأبهى مستقر طور على طور انجبر ... من لن تراني قد ظهر وقال المترجم في معارضته: بالله يا شاوي اللحم ... قدم لجوعان ما همه غير اللقم ... يملي لجسمان أحييتني بعد العدم ... خاروف محشي محترم ويا صديرا قد ألم ... كنافة تبري السقم دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1525 رز دفين مأكلك ... أم لحم خرفان ما جاع بطن لذّ لك ... بطول أزمان سبحان من قد دعبلك ... يا ضلع محشي يا ملك ما أسمنك ما أسمنك ... ما أدهنك ما أدهنك دور أكل المحاشي مطلقا ... شفاء أبدان إذ مذهبي إن أشرقا ... سمناً وأدهان قد هاش بطني مذلقا ... قطايفاً وقيمقا بالله كسر فستقا ... وأحشي بها المفرقا دور ما آن أحظى بالكما ... بالله ما آن علي بها أن أصدما ... مع لحمة الضان لا سيما لا سيما ... رز لديه قدما والسمن فيها عوما ... فابلع وكبر لقما دور قلبي على كشك الفقر ... لا زال ولهان إذ تحته ذاك الزفر ... من كل ألوان فاصرف أخي للنظر ... عن غير أكل مفتخر ما اللفت عندي والجزر ... إلا غذاء للبقر ومن كلام الشيخ هلال من الموشح قلبي كووا عزا حووا ... وعلى العرش من الحسن استووا دور دار من تهوى ودع في كل دار ... مدع في الحب جهلا غير دار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1526 فالهوى كأس على العشاق دار ... فيه من فازوا وفيه من هووا دور ليت شعري من لقلبي أمرضوا ... هم إلى الآن غضاب أم رضوا غرضي هم أعرضوا أم أغرضوا ... بالتجني أم على قتلي نووا دور آه من نار جفاهم والصدود ... بعد جنات وقاهم بالعهود يا ترى عيشي بهم يوماً يعود ... بعد ما أغصانه الخضر زووا وقال المترجم معارضاً له: لحماً شووا خبزاً طووا بيضاُ قلوا ... وعلى السمن القباوات استووا دور مذ رآني شيخنا المغشي جار ... راح للمحشي وبالكوسى استجار أيها القطر انعقد مذ أنت جار ... لصدور للكنافات حووا دور أيها الأخوان للأكل انهضوا ... وذروا الجوع وعنه أعرضوا وعلى الخاروف بالكف اقبضوا ... بأصابيع على الصحن هووا دور لحمة الضان شفاء للكبود ... ليس كالملفوف نفاخ الجلود وكذا البيرق الزاكي الجدود ... من كرام الكرم عنه قد رووا وللشيخ هلال موشح صبا بدت لنا في كالع الإسعاد ... يمحو سناها الليل شمس على غصن رطيب نادي ... تزهو بجر الذيل أخا الأشجان ... دع الأحزان وساقينا لنا قد آن ... منه الوفا بالكيل ويا أغصان على كثبانأجيبوا داعي الألحانبالميل كل الميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1527 دور لم أنس مسراها بلا ميعادي ... في غفلة الحراس وقولها برقة الإنشاد ... بشراك زال الباس عبير فاح هزاز صاحونادى قم بنا يا صاحللأنس والإيناس ونجم لاح بشمس الراحوقد أهدت لنا الأفراحوللعذول الويل دور ريح الصبا من حي ذاك الوادي ... زر، ربة الأستار بنت الخبا ذات الجمال البادي ... فضاحة الأقمار فلو يا خال نظرت الخال ... وشعرا مد للخلخال سلاسل الأقدارودرا حال بثغر حالفتاة طرفها بالحال تردي غزاة الخيل وللمترجم معارضاً له الجسم لا يقوى بغير الزاد ... ولا يشد الحيل ولحمة الخاروف لحم نادي ... والدهن منه سيل أنا الزحان بالأسنانلكل الأكل يا إخوانللجوع مالي ميل ولي مصران في جسماندواماً لم يزل ملآنفي يومه والليل دور خاروفنا المحشي عن الأكباد ... حقاً يزيل الباس وقرعنا اليقطين ذو الإمداد ... طابت به الأنفاس ودهن ساح بلحم راح ... يقيت الجسم والأرواح بالرز والقلقاس ... وعطر فاح بالتفاح وكفي لم يزل مساح ... للتمر عندي كيل دور باليبرق عج طيب الأجداد ... إن منك جوع ثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1528 وشيخنا المغشي مروي الصادي ... من سمنه المدرار إذا ما انسال كسيل سال ... رحيق منه كالسلسال تجلى به الأكدار ... ورز غال بسمن عال عليه اللحم لما انهال ... يحكي ظلام الليل وللشيخ هلال رحمه الله موشح روح صب ولهان ... حور بين الولدان والشادي يدعو الساقي ... يا سلطان الندمان لاحت من خلف الأستار ... شمس تزري بالأقمار لو حلت شهب الأزرار ... عن صدرها النوراني ما هند لكن حسنى ... ذات الأوصاف الحسنى ما أسنى منها الحسنى ... مقروناً بالإحسان دور قلت رفقاً بالمهجات ... قالت عن عجب هيهات كم من جنات الوجنات ... أكباد في النيران دور من لي بالظبي الأغيد ... ذي القد الزاهي الأملد ما أحلاه بعد الصد ... إذ حياني أحياني دور وحد مولى قد ولاه ... قلباً لم يبرح يهواه بدر عوزت مجلاه ... بسم الله الرحمن وللمترجم رحمه الله معارضاً له: من لحم الزاهي الضان ... قدم محشيّ الخرفان وأدر لي يا ساقي ... كأساً من الأدهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1529 دور جاءتنا من بيت النار ... كبة تجلو الأكدار والسمن منها مدرار ... يطفو فوق الصواني دور ما لذي الجوع المضنى ... غير ذي الدهن الأسنى شيخنا المغشي يعنى ... في أول الألوان دور قلبي لتلك الفتات ... كم به قامت حسرات فابعدوا صحن الكرات ... يا صحبي عن أعياني دور من لي وافى بعد الصد ... اليبرق الزاكي الجد منه أكلي بلا عد ... لا يكفيني الألفان دور جل مولى قد أعطاه ... طولاً في أصل مبناه قرع لو يحشى ناداه ... كفى أسرع القاني وللشيخ هلال موشح: ما أسعد الصبحية ... بالطلعة البدرية والشمس منها تجري ... كواكب درية دور عن ذي الجمال السامي ... لم تلمني لوامي لا والعذار اللامي ... والطرة السنية دور من لي به من أغيد ... ريم يصيد الأصيد حلو التثني مفرد ... ذو قامة خطية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1530 دور وافى مدير الخمر ... والخد الزاهي الزهري فانهض لشم العطر ... من وردة جورية دور إن لم تعدني عدني ... فالشوق داء مضني يا يوسفي الحسن ... أحزاني يعقوبية دور للحان والألحان ... والراح والريحان هي أخا الأشجان ... نسكر مع الجمعية دور إن كنت بالأفراح ... ماحي دجى الأتراح فاشرب عجوز الراح ... من راحة الصبية وقال المترجم من الموشح معارضاً: عقولنا مسبية ... بالكبة الصينية والسمن منها يجري ... سحائب سخية دور شوقي نما للبامي ... إذ غاصت بالألحام والدهن منها طامي ... مشارب هنية دور سبحان من قد أوجد ... يبرقنا الزاكي الجد على نعماه يحمد ... بكرة وعشية دور بصماء ضمن الصدر ... قد كللت بالقطر حمرا سناها يزري ... بالأنجم الزربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1531 دور قد لذ لي بالجبن ... قطائف لو تدني عليها أمسى بطني ... ذا نعمة شجيه دور لموسم الخرفان ... ما زلت كالولهان نعم به تلقاني ... ذا همة عليه دور أدر لي كاس الراح ... من دهنه السياح فقد نفت أتراحي ... نفحاته العطريه وللشيخ هلال موشح بادر فنور الراح في الأقداح ... قد لاح كالأرواح بالأشباح دور فهي المداما كم برت أسقاما ... كفوا الملاما معشر النصاح دور فاشرب زلالا لا تخف إزلالا ... والكأس لالا سقط زند الراح دور كانت وجرمي قبل خلق الكرم ... بالشهب ترمي مارد الأتراح دور يسعى بها من للبرايا افتن ... إن ماس يطعن طعنة الأرماح وقال المترجم أدر كؤوس القطر بالأقداح ... فالصدر وافى وانجلت أتراحي دور بصما إذا ما القطر فيها عاما ... فلا ملاما شربه كالراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1532 جبن تلالا في حشاها جالا ... والسمن سالا منعش الأرواح دور لو كان قسمي صدرها بل رسمي ... لكان جسمي يزهو كالمصباح دور حيا وقد رن والحشا له حن ... ما السلوى ما المن كسمنه الفواح وللشيخ هلال موشح: نبه الندمان صاح ... إن داعي الأنس صاح حيث من أيدي الملاح ... لاح نور الكاس لاح سيما والغيم يسجم ... دمعه فوق البطاح ورياض الزهر يبسم ... عن ثغور من أقاح دور كوكب الحسن أدارا ... في الدجى شمس النهار طور خديه أنارا ... منه لي نور ونار دور يا كليم العشق كلم ... عاذلي ما العشق عار فالهوى العذري يعلم ... أهله خلع العذار وقال المترجم: قدم الخرفان ناحي ... إن داعي البطن ناح حيث من لحم الأضاحي ... راح هم الجوع راح دور سيما والدهن يصدم ... شربه يشفي الجراح وكماج الخاص يؤدم ... مع قبوات ملاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1533 دور منسف الرز أنارا ... بسناه الاعتكار وعليه السمن دارا ... فانتشق شم البهار دور وعلى المحشي فدمدم ... صاح واخلع للعذار وإلى الكبة قدم ... قد سبتنا باحمرار وللهلالي مهنئاً بقدوم والي سوريا أحمد جودت باشا: صادح الأفراح بالأفصاح صاح ... إذ محا الظلماء مصباح الصباح ولأرباب التهاني والصفا ... فتح الفتاح أبواب النجاح بقدوم النير الأعلا الذي ... منه سورية حياها الفلاح وحماة الشام أضحت تنجلي ... كعروس ذات عقد ووشاح بوزير الوزراء المجتبى ... آصف الهمة الشاكي السلاح أحمد الشان العظيم الجد في ... جودة الكف لمن منه استماح لسن من كأس لفظ مسكر ... بمعان هي للأراوح راح علم العلم بصيت صوته ... ما على الصابي إليه من جناح ببديع وبيان في صفا ... خمرة قد مزج السحر المباح فهلموا يا ذوي الحزم فقد ... جاء أمر الجد وانزاح المزاح ولسان البشر نادى أرخوا ... في حماة الشام بدر الحق لاح وقال المترجم: ساح دهن اللحم فوق النار ساح ... أي راح أي عطر حين فاح وعن القوم المعازيم الأولى ... أولموا قد راح هم الجوع راح بقدوم الكبش ذو القرنين من ... لفساد البطن لقياه صلاح وبه السفرة صاحي أسفرت ... إذ من الإلية لاح النور لاح بعظيم بارك كالزق في ... جوفه رز ولحم مستباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1534 أحمر الأجناب إذ بالسمن جا ... روا عليه لا ولم يخشوا جناح كلما الأيدي أزالت قطعة ... فج منها نشأة تبري الرياح ليت شعري من بهارات ذكت ... تلك أو من حيث مرعاه الشياح نشأتي من كأس دهن منه لي ... قد سلا الساقي ولا من كاس راح لو بأكلي أمزج القطعة من ... لية مع هبرة هلا مباح لو رآه صاحب التقشيف و ... الزهد قال اليوم عنه لا براح وللشيخ هلال: ربح المتاجر لاكتساب معالي ... حسن الثناء على جميل خصال للفضل أهل لا يقوم بغيرهم ... بيت سوى أهليه فيه خالي يا خاطب العلياء جد فإنها ... حسناء ذات تمنع ودلال فمن الورى ما هم حلا للمجد من ... شنف ومن عقد ومن خلخال ما الليث إلا من حمى الغابات لا ... من يحتمي بعرينة ودحال عقد به الخود المليحة جيدها ... حال وعقد بالمليحة حالي بشرى لمحكمة التجارة والهنا ... ء لها بصارم عضبها الفصال إلى آخر القصيدة كما هي مذكورة في ديوانه رحمه الله تعالى. وللمترجم رحمه الله: أكل المحاشي صنعتي وفعالي ... والرز لي فيه وسيع مجال للأكل أهل لا يجاوز غيرهم ... أيديهم فيه كما الفصال يا طابخ الضلع السمين أما ترى ... جوعي ومخمصتي وسيئة حالي أنعم به ولك الثواب فإنه ... لا شك يكفيني أنا وعيالي ما العشق إلا أن تهيم بكبة ... حمراء تهدا لا بذات حجال والليث من صدم الموائد بل جثا ... متربعاً لا مبتغي لنزال والقرن من بالكف يقبض رقبة ... الخاروف لا من يردي للأقيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1535 دعني ومن ألحان شاد مطرب ... طربي بوصف الأكل والأشكال والعود أن تضرب به فيسؤني ... وعلى الطناجر أن نقرت حلالي ما رنة القانون أبغي إنما ... أبغي لرنة صدرنا المتلالي وكذاك قعقعة المعالق فوقه ... وكذا الصحون بصنعة الأكال وتلذذي بتعدد الألوان مع ... سلطاتها وكذلك الأبقال وتغزلي بسوى الكنافة لم يكن ... لا بالصبي وربة الخلخال الشيخ مصطفى زين الدين أبو البركات بن محمد بن رحمة الله بن عبد المحسن بن جمال الدين الأيوبي الأنصاري نسبة إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه هو الفاضل الإمام، والحبر الهمام، فقيه العصر، ويتيمة الدهر، عقد تاج الأفاضل والكمالات، ومن بنى فوق ذرى المجد غرفات، الإمام العلامة، والمدقق الفهامة، العابد الصالح والفالح الناجح، الحنفي الدمشقي الشهير بالرحمتي. ولد بدمشق ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من محرم الحرام سنة خمس وثلاثين ومائة وألف ونشأ في حجر والده، وقرأ عليه وعلى فقيه عصره العلامة الشيخ صالح بن الشيخ إبراهيم الجينيني والعلامة الشيخ محمد التدمري وفريد الدهر محمد أفندي فولقسز وأجازه سيدي العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي وسيدي السيد مصطفى البكري الصديقي والشيخ محمد الغزي والشهاب أحمد المنيني والشيخ علي كزبر والشيخ عبد الكريم الشراباتي الحلبي والشيخ عبد الله البصروي الدمشقي وغيرهم من مشاهر العلماء الأعلام، وأفاضل السادات الكرام، فطلب وانتفع وأقرأ ونفع، وقدم لنفسه صالح العمل، وكان بالله حسن الأمل، كثير الذكر والعبادة، شديد الإقبال على الله. يألف الزهادة، وقرأ حديث الأولية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1536 وأوائل الكتب الستة على العالم العلامة السيد عمر بن السيد أحمد بن السيد عقيل السقاف باعلوي، سبط العلامة عبد الله بن سالم البصري المكي، وكذلك على الشيخ عبد الرحمن الفتني والشيخ محمد بن الطيب المغربي والشيخ عبد الله السويدي. ورحل إلى مصر وأخذ عن علمائها منهم الشهاب الشيخ أحمد الملوي والشيخ حسن المدابغي والشيخ محمد بن سالم الحفني والشيخ محمد الدفري، وقد كان في جانب عظيم من الورع والرضى بالقليل وتهذيب النفس، وصار علم الشام وفقيهها، وانتفع به الخلق الكثير من أهلها. وكانت ترفع له الأسئلة فيجيب عنها نثراً ونظماً، وكان مولعاً بحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب بعياله من دمشق مع القافلة وجاور في المدينة المنورة سنة سبع وثمانين ومائة وألف، وكانت شهرته في قطر الحجاز بالقطب الشامي، وانتفع به أهل تلك البلاد، وأجاز لأهل عصره ومن أدرك جزأ من حياته بجميع مروياته، كما كتبه في إجازته للسيد محمد كمال الدين الغزي مفتي الشافعية بدمشق المسطرة بخطه، سنة ألف ومائتين وسنة واحدة، ومن قوله حين إجازته للسيد محمد شاكر العقاد: ولست بأهل إن أجاز وإنما ... تعديت طوري والحجا غير عاذري وجاريت دهراً لا مرد لحكمه ... قضى بارتقاء الدون مرقى الأكابر ولقد ترجمه صاحب اللآلئ الثمينة فقال: علامة زخرت بحار علومه، وفهامة غزرت أنهار فهومه، فأزهار رياض علومه أخجلت شقائق النعمان، وجعبة أفكاره ملئت من درر فقه النعمان، له فيه اليد البيضاء، والراية الخضراء، برع بجد ساد فيه، وشاد قصور مغاني معانيه، وجلس في مجلس الإفادة والتدريس، وأبدع بكل تحرير نفيس، ولعمري إنه الجهبذ الذي لديه من المسائل كل ما ند على غيره أو فرّ، وعنده من سائر العلوم حظ أوفر، والفاضل الذي لسان الثناء عنه كليل، وكثير المديح فيه قليل، فمن نظمه الذي هو لمقدمات البيان نتيجة، ولوجوه الإحسان غرر بهيجة، قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1537 وقالوا سموم في المدينة محرق ... فقلت سمو بالمكارم مغدق وقالوا بها حميًّ تذيب لحومنا ... فقلت حمىً عنا الجحيم تغلق تذب لظى عنا وتكشف بأسنا ... محببة منا من الأم أشفق وقالوا بها اللأوا فقلت هي الألى ... بصبر عليها بالشفاعة نطلق وإن ضاقت الأحوال أو زاد سعرها ... فأنا لفي فضل الإله لأوثق فندان، والله المهيمن كافل ... ونصبر والمولى يمن ويرزق وإن أشكلت فينا أمور عظيمة ... فأنوار طه بالمواهب تشرق فلا عجب تشتاقه النوق في الفلا ... تمد له أعناقها وهي تخفق حبيب إله العرش موصل جوده ... وقاسم فيض الله إذ هو يطلق فهل يشتكي ضيما منيخ ركابه ... بساحة بحر بالعطايا يدفق عليه صلاة الله في كل لمحة ... وآل كرام أصلهم عنه ينطق كذاك حماة الدين أصحابه ومن ... لآثارهم يقفو من الله يفرق وله إذ ختم كتاب الشفاء، عند باب الوفود بروضة سيد الشفعاء: كتاب جامع أشتات علم ... بأوصاف النبي هو الشفاء فكم نور بدا منه فجلى ... ظلام الجهل وانكشف الغطاء أفاض عياض فيه بحر فضل ... على ظمأ القلوب فزال داء وكم يتلو علينا فيه آياً ... بنور ضيائها ملئ الفضاء وكم أثر رواه لنا مبينا ... مناقب من سما وله ارتقاء عليه صلاة ربي مع صلاة ... وتسليم به زاد العلاء وجاد على عياض من نداه ... بوفر العفو يتلوه الرضاء وعم بلطفه عبداً ضعيفاً ... بأبواب الوفود له التجاء مع الأحباب والأصحاب طراً ... وقادهم إلى الحسنى ففاؤا وكانت وفاته بعد العصر في خامس ذي الحجة الحرام سنة خمس ومائتين وألف، ودفن بمنزلة يقال لها السيل، فإنه ذهب إلى الطائف لزيارة سيدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1538 ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم قصد الحج الشريف فأدركته المنية في الطريق، ودفن هناك رحمه الله تعالى. الشيخ مصطفى بن عبد الوهاب الصلاحي الدمشقي الحنفي الصالحي العالم الأديب، والشاعر اللبيب: ولد في صالحية دمشق وتعلم حتى برع في العلوم منطوقها والمفهوم. ومات رحمه الله في ثالث ربيع الثاني سنة خمس وستين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة قاسيون. الشيخ مصطفى بن محمود بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الدمشقي الحنبلي المعروف بابن شطي الصالح الورع الزاهد العابد، أحد علماء دمشق الشام وعظمائها السادة الأعلام. ولد بدمشق سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1539 ونشأ بها وأخذ الفقه عن العلامة الشيخ مصطفى السيوطي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، وأخذ الحديث الشريف عن العلامة الشمس الشيخ محمد الكزبري، والعلامة الشهاب أحمد العطار، والعلوم العربية عن العلامة عبد القادر الميداني، والعلامة السيد محمد شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد. مات رحمه الله تعالى ليلة الجمعة غرة رجب الحرام سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن بسفح قاسيون قرب مغارة الجوعية. الشيخ مصطفى الكردي الشافعي الدمشقي الشيخ العالم الفاضل النبيه الورع الزاهد العفيف المتيقظ. ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، وأكب على العلوم وأخذ عن العلماء ذوي القدر المعلوم، ومن جملة من أخذ عنه وانتفع به غاية النفع والدي المرحوم وغيره من العلماء الأفاضل، والفضلاء الأكامل، مات بدمشق سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح. الشيخ مصطفى بن عبد الجليل بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد شمس الدين بن تقي الدين بن أبي بكر بن عبد الهادي الدمشقي الحنفي العمري نسبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد المترجم في دمشق ومنذ نشأ لاحت عليه لوائح الأحوال، إلى أن صار يعد من الأبدال، وكان لا يخبر بخبر إلا ووقع كما أفاد وأخبر، وكان لا يتقيد بالأحوال الظاهرية، وكان له في بعض الأيام تطورات قوية، ويتكلم بكثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1540 الكلام لا يعلم له مرام، مات غرة ذي الحجة سنة خمس وستين ومائتين وألف ودفن في مرج الدحداح. الشيخ مصطفى بن سعد بن عبده الحنبلي المعروف بالسيوطي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، أوحد الفضلاء الأعلام، ولد في بلدة أسيوط من بلاد مصر في ربيع الأنور سنة أربع وستين ومائة وألف، ونشأ بها، ثم قدم دمشق بعد المائتين، واستوطنها واشتغل بها في العلم والطلب، وحاز على المرام والأرب، وأخذ عن جملة من أفاضلها الكرام وعلمائها الأعلام، وأخذ عن جملة من المصريين والمكيين، والروميين، والعراقيين، وله من التأليفات كتب عديدة، ورسائل في الحسن والاتقان فريدة، منها شرح كتاب الغاية بخمس مجلدات، أتى فيه بالعجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1541 العجاب، وبين فيه اختلاف الروايات والأقوال والمباحث تبييناً واضحاً، وفي سنة خمس عشرة ومائتين وألف، ولي إفتاء الحنابلة بدمشق الشام، وفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف ولي نظارة الجامع الشريف الأموي ومن جملة من أخذ عنه المترجم المرقوم الشيخ أحمد البعلي، ولد في ثامن رمضان سنة 1108 وتوفي سنة 1189، عن أبي المواهب الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد في رجب سنة 1044 وعاش 82 سنة وتوفي سنة 1126، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد سنة 1005 وعاش 67 سنة وتوفي سنة 1073، عن الشيخ أحمد بن علي الوفائي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة 936 وعاش 99 سنة وتوفي سنة 960، عن القاضي برهان الدين إبراهيم بن عمر نجم الدين بن مفلح مفتي الحنابلة بدمشق، ولد سنة 903 في 14 ربيع الآخر وعاش 66 سنة وثلاثة أشهر وثمانية وعشرين يوماً وتوفي سنة 969، عن والده نجم الدين عمر بن إبراهيم بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق الشام، ولد سنة 848 وعاش 71 سنة وتوفي سنة 919، عن والده القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 749 وعاش 101 سنة وتوفي سنة 848، عن جده شرف الدين عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 716 وعاش 57 سنة وتوفي سنة 763، عن الشهاب أحمد بن تيمية الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 وعاش 67 سنة وثمانية أشهر وتوفي سنة 728، عن أبي الحسن علي بن أحمد الشهير بالفخر ابن البخاري الحنبلي مفتي الحنابلة، ولد سنة 595 وعاش 95 سنة وتوفي سنة 690، عن أبي علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1542 حنبل بن عبد الله الرصافي الحنبلي ولد سنة 514 وعاش 90 سنة وتوفي سنة 604، عن أبي القاسم هبة الله بن محمد الشيباني ولد سنة 431 وتوفي سنة 525، عن أبي علي الحسن بن علي بن الشيخ محمد التميمي المعروف بابن المذهب ولد سنة 355 وعاش 89 سنة وتوفي سنة 444، عن أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب بن عبد الله القطيعي، ولد سنة 274 وعاش 96 سنة وتوفي سنة 367، عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ولد سنة 203 عاش 87 سنة وتوفي سنة 290، عن والده الإمام الخليل أحمد بن حنبل ولد سنة 164 وعاش 77 سنة وتوفي سنة 241، عن سفيان بن عيينة، ولد سنة 107 وتوفي سنة 198، عن عمرو بن دينار، ولد سنة 43 وعاش 80 سنة وتوفي سنة 123، عن ابن عباس، ولد قبل الهجرة وعاش 83 سنة وتوفي سنة 68، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وعاش 63 سنة وتوفي يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة عن جبرائيل عن رب العزة. وتوفي المترجم المرقوم أعلاه في دمشق الشام، ليلة الجمعة عند طلوع الفجر ثالث عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة مرج الدحداح وقبره ظاهر معروف رحمه الله تعالى. الشيخ مصطفى بن عبد الله بن محمود الكردي الأصل العبدلاني الشافعي الدمشقي الشهير بالكاتب ولد بدمشق سنة خمس عشرة ومائة وألف، نشأ في حجر المجد والعز العالي، وتربى في مهد السعد والمعالي، أخذ عن والده المذكور، ولزم العلامتين الملا حسن بن موسى الباني والملا إلياس الكوراني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1543 وعن العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي وسمع منه حديث الأولية، وأبو المعالي الغزي الشافعي العامري وابن كنان وأعطاه الطريقة الخلوتية، والشيخ إسماعيل العجلوني والشيخ أحمد المنيني، وحضر على الشيخ عبد الكريم الغزي الشافعي العامري، والعلامة محمد المرادي، مات بدمشق سنة اثنتين ومائتين وألف في ذي الحجة الحرام. الشيخ مصطفى الخياط الشافعي الأشعري المصري عالم زمانه وأوحد أوانه، قال الجبرتي: أدرك الطبقة الأولى من السادات العظام، والأفاضل الكرام. ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وألف، ثم أقبل على العلم والعمل، وتجنب عن الإهمال والكسل، وأخذ عن رضوان أفندي، والشيخ محمد النشيلي، والكرتلي، والشيخ رمضان الخوانكي، والشيخ محمد الغمري، والشيخ حسن الجبرتي، ومهر في الحساب والتقويم وحل الأزياج والتحاويل والحل والتركيب، وتداخل التواريخ الخمسة؛ واستخراج بعضها من بعض، وتواقيعها وكبائسها وبسائطها ومواسمها ودلائل الأحكام والمناظرات، ومظنات الكسوف والخسوف، واستخراج أوقاتها ودقائقها، مع الضبط والتحرير وصحة الحدس وعدم الخطأ، وأقر له أشياخه ومعاصروه بالإتقان والمعرفة، وانفرد بعد أشياخه، ووفد عليه طلاب الفن وتلقوا عنه وأنجبوا، وأجلهم عصرينا وشيخنا العلامة المتقن الشيخ عثمان بن سالم الورداني وشهد به الشيخ حسن الجبرتي أنه فريد عصره في الحسابيات، وكان يستخرج في كل عام دستور السنة من مقومات السيارة ومواقع التواريخ وتواقيع القبط والمواسم والأهلة، ويعرب السنة الشمسية لنفع العامة. وله مؤلفات وتحريرات في هذه الفنون، منها جداول حل عقود مقومات القمر بطريق الدر اليتيم لابن المجدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1544 وهو عبارة عن تسهيل ما صنفه العلامة رضوان أفندي في كتابه أسنى المواهب في عشرة كراريس، ولا زال يشتغل في صناعة الخياطة وتفصيل الثياب وهو جالس في زاويته، يكتب ويمارس مع الطلبة والصناع في وسط المكان، يفصلون الثياب ويخيطونها ويباشرهم أيضاً فيما يلزم مباشرته، إلى أن توفي سنة ثلاث ومائتين وألف في بيته جهة الرميلة وقد جاوز التسعين انتهى ملخصاً. الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي الشافعي الأزهري العمدة الإمام، خاتمة العلماء الأعلام، ومسك ختام الجهابذة ذوي الأفهام، ومن افتخر به عصره على الأعصار، وصاح بلبل فصاحته في الأمصار، يتيمة الدهر وشامة وجه أهل العصر، العالم المحقق والنحرير المدقق، بديع الزمان والتاج المرصع على رؤوس الأقران، الناظم الناثر والفصيح الباهر. كان والده من أعيان التجار بمصر، وأصل مرباهم بالسويس بساحل القلزم، وصاوي نسبة إلى بلدة بشرقية بلبيس تسمى الصوة على غير القياس، وهي بلدة والده، ثم انتقل منها إلى السويس، وكان يبيع بها الماء. وولد بها المترجم فارتحل به إلى مصر وسكن بحارة الحسينية مدة، وأتى بولده المترجم إلى الجامع الأزهر، واشتغل بالقراءة فحفظ القرآن والمتون، واشتغل بالعلم، وحضر دروس الأشياخ، ولازم الشيخ عيسى البراوي، وتخرج به ومهر، وأنجب وأقرأ الدروس، وشهد له الفضلاء. وكان لطيف الذات مليح الصفات، رقيق حواشي الطبع، مشاراً غليه في الإفراد والجمع، مهذب الأخلاق جميل الأعراق، اللطف حشو إهابه والفضل لا يلبس غير جلبابه، لو مثل اللطيف جسما ... لكان للطف روحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1545 إذا نزل بناد ارتحلت الهموم، وارتضع من أخلاف أخلاقه نبت الكروم، تقاريره عذبة رائقة وتحاريره فائقة، ذهنه وقاد ونظمه مستجاد، فمن نظمه قوله: أقبل الأنس يجتلي بسرور ... وتولى الحزن الذي نحن فيه وتناءت همومنا بعد قرب ... وتناهت لذات ما نرتجيه واجتمعنا بليلة هي تزري ... بالضحى إذ صحا وما قد يليه ودت الشمس أن يكون لها مث ... ل ضيا حسنها فما نرتضيه واجتلونا المدام أشهى مدام ... مع نديم يا حسن ما نجتليه حيث كانت أكوابنا كنجوم ... كلما قد شربتها قلت إيه واحتسينا كاساتها فطربنا ... بشذاها وراق ما نحتسيه واجتنينا من نظم در حبيب ... نثره رائق كخمرة فيه فرعى الله ليلة قد تقضت ... بالهنا والمنى وعز وتيه وسقى الله عهدنا قطر سحب ... رائقات تجلو المرابع تيه مذ صفا ودنا برغم حسود ... مع كيد العذول ذي التشويه يا لها ليلة حكت جنة الخل ... د وفيها ما نفسنا تشتهيه ليلة الأنس هل تعودي لصب ... صبة الوجد دائماً تعتريه تجمعي شمله بأحمد من قد ... حمد الله فعل ما يصطفيه هاك تجلى إليك خدود عروس ... ثوبها العز والبها ترتديه وهي تتلو عليك يا خير مولى ... ليس مهري سوى الرضا فاعطنيه وله أيضاً: نزلنا بهذا القصر والنيل تحته ... فلله قصر قد تعاظم بالمد مع العالم النحرير أكرم ماجد ... إمام همام جامع علم فرد فأين ابن هاني من فصاحة نطقه ... وأين أويس لا يضاهيه في الزهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1546 تأمل فما أثر كعين مشاهد ... وأبصر فما قرب لديه كما البعد وما هو إلا البحر لكنه حلا ... وما هو إلا البر بالدين والعهد وأعني به شيخي البراوي من به ... تحلى زمان العز في الجيد بالعقد ومنها: أقول لمن رام الوصول لقدره ... تمنيت أمراً مستحيلاً بلا حد فهذا مقام ليس يعطى لغيره ... وحاشاه أن يحصى بسرد ولا عد فيا أيها الملتاذ إن رمت علمه ... تحدث عن البحر المحيط عن الجهد ومن لي وقد قصرت في مدح سيدي ... ومعظم إسنادي وذي الحل والعقد كذلك مولانا الشريف محمد ... هو العلوي الأصل قد فاز بالسعد وينسب للمختار أشرف مرسل ... عليه صلاة الله طابت كما الند وله: لحاظك تزري بالحسام المهند ... وريقك لا يرويه غير المبرد وطرفك ذا السفاك قد سفك الدما ... وقدك ذا السفاح في الصب معتدي فيا وجهه كم قد هديت لحسنه ... ويا شعره كم قد أضليت مهتدي ومالي لا أصبو بضوء جبينه ... وثغر شهي باللآلي منضد ولام عذاريه تدور بخده ... كنمام آس مع بنفسجه الندي وخضرة ريحان بعارضه الذي ... يعارض قلبي في هواه وأكبدي يريك ربيعاً بالبهاء بنانه ... على ورد خديه الزهي المورد أروم حياة وهو يطلب قتلني ... بسيف معد للقتال ومرصد فيا حسن لولاك ما كان محسن ... فأحسن لمضنى ساهر الجفن مسهد يبيت يعاني أعظم السقم دائما ... سلوا ليلة واستشهدوا الشهب تشهد ويسند إرسال السحاب لدمعه ... مسلسل أحزان بوجد مجدد يقول العذول ارجع فإني ناصح ... ورأيي لا يروى سوى عن مسدد فقلت له دعني فرأيك فاسد ... وقولك بهتان بزور مفند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1547 وله: من لمضنى أحشاؤه تتلاهب ... ما الفضا مثلها ولا يتقارب جفنه ساهر وحزن جفاه ... مستمر ودمعه يتساكب يا خليليه من حوادث دهر ... حاربته فصار يدعى المحارب لو رآه المتيمون لصاحوا ... ما لهذا بالصد أضحى يعاقب فرعاه الإله من مستهام ... ما أراد الوصال إلا يراقب وحبيب ممنع ذو جمال ... وطبيب لمهجة الصب ماطب حسن محسن بذات وفعل ... كل حسن لذاته يتناسب حيثما وجهه له حسنات ... إن جنى الذنب فهو ليس يحاسب يا غزالاً رفقاً بصب كئيب ... قد نآه الزمان ممن يحابب وخف الله من محبيك وارحم ... من تلظى وغير شكلك ماحب ولما عمر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي داره التي بالصنادقية بالقرب من الأزهر، سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، عمل المترجم أبياتاً وتاريخاً رقمت بطراز مجلس العقد الداخل وهي: خليلي هذا الروض فاحت زهوره ... ولاح على الأكوان حقاً ظهوره وزاد ثناءً عبّق الجو طيبه ... فمنك عبير المسك طاب عبوره سما في سماء الكون فابتهج العلا ... برفعته وازداد سراً سروره ألم تر أجسام الوجود تراقصت ... وجاء التهاني باسمات ثغوره مكان على التقوى تأسس مجده ... ومن سور التوفيق والهدي سوره وفردوس عدن فاح فوح نسميه ... وحفته ولدان النعيم وحوره ومجلس أنس كل ما فيه مشرق ... ومقعد صدق قد تسامى حبوره بناء يروق العين حسن جماله ... ورونقه يشفي الصدور صدوره ومن مجد بانيه تزايد بهجة ... وقلد من در المعاني نحوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1548 عزيز بنى بيت المكارم فانثنت ... تغني به حمداً ومدحاً طيوره وأحيا رسوم المجد والفخر والتقى ... وزانت بأعلام الكمال سطوره فلا زال فيه الفضل تسمو شموسه ... وتنمو على كل البدور بدوره ودام به سعد السعود مؤرخاً ... حمى العز بالمولى الجبرتي نوره وله في صيوان: وصيوان حوى غراً وفخرا ... عليه من البها حسن متمم كروض الأنس فيه الورق غنت ... وبلبال السرور لها ترنم على الإيوان يزهو بارتفاع ... ويهزو بالخيام وبالمخيم فتحسبه وذا الإشراق فيه ... سماء الجود قد ظلت مكرم يقول السعد في تاريخه بي ... على مجد الوزير العز خيم ومن نثره ما كتبه تقريظاً على المؤلف الذي ألفه العلامة الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوي، الذي ضاهى به عنوان الشرف للعلامة السيوطي، قوله: حمداً لمولى يضيق نطاق المنطق عن شكره، ويعجز لسان اللسن عن الإفصاح بذكره، يدني لب الموحد إلى فهم مقامات التوحيد، ويعرفه سبل التهجد والتحميد، ويسعده بنهاية الوصول، إلى مقاصد فهم الأصول. وصلاة وسلاماً على المحمود بأكمل ثناء، الممدوح بأجمل ضياء وسناء، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ما ألف كتاب، وكللت تيجان الربا بلآلئ السحاب، أما بعد فقد سرحت طرفي في رياض هذا التأليف الرائق، وفرحت بصري بالمشاهدة لمحاسن هذا التصنيف الفائق، واقتطفت بيدي ثمرات أوراقه، واستضأت بأنوار إشراقه، وحليت سمعي بدرر فوائده، وفكري بغرر عوائده، وعرضت على فهمي لآلئ جواهره، فلاحت لعيني بدور زواهره، فإذا هو عقد نظم من درر العلوم، وتحلت به غواني الفهوم، رشيق الألفاظ والمعاني، رقيق التراكيب والمباني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1549 لم ينسج ناسج على منواله، ولم يأت بليغ بمثاله، قد أفحم فصحاء الرجال، وألقت له البلغاء العصي والحبال، وأعجز الفصحاء كبيراً وصغيرا، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، يفوق بحسنه كل مؤلف، ويروق برونقه على كل مصنف، جمع فيه من العلوم أشرفها وأشرقها، ومن المعارف أرقها وأروقها، فهو مجموع جامع مانع، وروض يافع يانع، فلا شك أنه صنعة قادر، وصبغة لبيب ماهر، وكيف لا وهو العلامة الإمام الفهامة الهمام، المحقق الفاضل المدقق الكامل، جامع شمل المعارف حائز أنواع اللطائف، وحيد الكمالات اللدنية، وفريد المحاسن الخلقية والخلقية، مولانا الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوي، قابل الله صنيعه بحسن القبول، وبلغه من خير الدارين كل مأمول، وأدام الكريم النفع بوجوده وأقام لديه جزيل إحسانه وجوده، الكامل كرت الليالي ومرت الأيام، وقطر غيث الغمام، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، ومن نثره أيضاً هذه المراسلة: بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من أجريت المقادير على وفق الإرادة، وجعلت المطالب سبباً للإفادة والاستفادة، ونشكرك على ما أوليتنا من سوابغ الإحسان، ومنحتنا من سوابق الفضل والامتنان، ونصلي ونسلم على نبيك سيد ولد عدنان، إلى آخره. وأيضاً: إن أحلى ما تحلت به تيجان الرسائل، وأعلى ما تجلت به مظاهر المقاصد والوسائل، وأبهى ما رقمه البنان، من بديع المعاني والبيان، وأشهر ما فاهت به الأقلام، وفاحت به نوافح مسك الختام، إهداء تسليم تفوح فوائح المسك من طيب نشره، وتلوح لوائح الإقبال من وجوه بشره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1550 وتبتسم ثغور الأماني من شمائل شموله، وتتنسم نسمات التهاني من إقباله وقبوله. وإسداء تحيات يعبق شذاها، ويشرف نورها وضياها، تفوق الشموس نوراً، وتروق الخواطر منها سرورا، نقدم ذلك ونهديه ونظهره ونبديه، لحضرة ذوي المهابة والفخار والعلو والاقتدار، الجامعين بين المتاجر والمفاخر، الحائزين لجمال الأول والآخر، القاطنين بخير البلاد، القائمين بمصالح العباد، مصابيح الدنيا وبهجتها، وكواكب البلاد وتحفتها، حماة حرم يجبى إليه الثمرات، وزينة محل تقضى به الحاجات، عين أعيان المكاسب والتجارة، وزين أبناء المطالب والإشارة، نعني بذلك فلاناً وفلانا، أسبغ الله عليهم سوابغ الإنعام، وأسبل عليهم حلل الجود والإكرام، وأصلح لهم الأحوال، وبلغهم الأماني والآمال، وبسط لهم الأرزاق، وحباهم بلطفه الخلاق. أما بعد بسط كف الرجاء، ومد سواعد القصد والالتجاء، بدعوات مقرونة بالإنابة، ليس لها حاجب عن أبواب الإجابة، فمما يعرض عليكم وينهى بعد السلام إليكم، أنه قد وصل إلينا رقيمكم المكنون المحتوي على الدر المصون، فشممنا منه نفحات مكية حرمية، ونسيمات سحرية بهية، فتعطرنا بطيب مسكها الأذفر، وتطيبنا بعبير عنبرها الأزهر. وذكرتم أنه بذلتم المجهود في طلب المقصود، إلى آخره. وله غير ذلك كثير، وحاله وفضله شهير، ولم يزل يملي ويفيد ويقرر ويعيد، حتى قطفت يد الأجل نواره، وأطفأت رياح المنية أنواره. وذلك يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة ست عشرة ومائتين وألف، ورثاه الشيخ إسماعيل الزرقاني بقوله: تداولت الأيام بالعسر واليسر ... وتلك شؤون الحق في مطلق الدهر فكيف أرى قلبي على فقد ألفه ... حزيناً ودمع العين من فيضه يجري فقال لنا في سيد الخلق أسوة ... فقد دمعت عيناه حزناً كما تدري وهذا الذي أمسى حليف ضريحه ... إلى فضله تصبو الأنام مدى العمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1551 إمام له فضل الرواية والحجا ... فمن نقله يملي ومن عقله يقري قوى فهمه صارت بنور معيدها ... ترى من مبادي الحال عاقبة الأمر عتبت على الأيام في نثر عقدها ... وقد غاب من أثنائه معدن الدر فقالت ومالي ذاك حبر موفق ... أحب لقاء الله أسرع للأجر تلقته أملاك النعيم تحفه ... وتنقله من ورد نهر إلى قصر إلى أن يرى وجه العزيز مكانه ... ويبقى حميداً في الترقي مع البشر بمقعد صدق صار عند مليكه ... فيا مصطفاه فزت مرتفع القدر الشيخ مصطفى العقباوي المالكي الأزهري وهو منسوب لمنية عقبة الأجل العلامة والفاضل الفهامة، نخبة الأنام وحسن الليالي والأيام، حضر إلى الأزهر صغيراً ولازم السيد حسن البقلي ثم الشيخ محمد العقاد المالكي ثم الشيخ محمداً عبادة العدوي ملازمة كلية، حتى مهر في العلوم المعقولات والمنقولات، وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم. وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة، واشتهر فضله، وكان إنساناً حسن الأخلاق مقبلاً على الإفادة والاستفادة، لا يتداخل إلا فيما يعنيه، ويأتيه من بلدته ما يكفيه، قانعاً متورعاً متواضعا. ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة، إلى أن توفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى. الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الصفوي القلعاوي الشافعي الأستاذ العلامة والملاذ الفهامة، المهذب الفقيه والمحبب النبيه. ولد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائة وألف، وتفقه على الشيخ الملوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1552 والسحيمي والحراوي والحفني، ولازم الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه، وأذن له في الفتيا عن لسانه، وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته، وألف وصنف، وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه، وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازاني على التلخيص، وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع، وله منظومة في آداب البحث وشرحها، ومنظومة لمتن التهذيب في المنطق وشرحها، وديوان شعر سماه: إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين، وعدة من الرسائل في معضلات المسائل، وغير ذلك. ولم يزل على حالته الرضية وصنعته السنية، إلى أن تمرض أياماً، ثم توفي ليلة السبت السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاثين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر ودفن في زاوية الشيخ سراج الدين البلقيني. الشيخ مصطفى بن حسين بن علي بن محمد بن حسين بن محمد بن عثمان الحلبي الحنفي الوفائي أبو الصفا صفي الدين العالم العارف الصوفي الفاضل الدين الزاهد العابد، التقي البركة المسند الأديب، جمال المشايخ زينة المرشدين. مولده في حلب سنة أربعين ومائة وألف في سادس محرم، وقرأ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1553 والده شيخ تكية الشيخ أبي بكر خارج حلب، وعلى الشيخ أبي التوفيق حسين شرف الدين وانتفع به وتأدب بآدابه وأخذ عنه، وسمع شعره وديوانه الذي جمعه من لفظه، وأخذ عنه آداب الطريق وسمع عنه الكثير من الفرائد والفنون، وأجازه وخلفه مكانه، وكان من المشايخ الأجلاء والعلماء المشهورين الفضلاء، وقرأ على غير والده، وأخذ على جماعة منهم أبو المحاسن يوسف بن الحسين بن يوسف الدمشقي الحسيني النقيب والمفتي بحلب، وأسمعه المسلسل بالأولية حديث الرحمة في التكية المذكورة في تربة الأستاذ الشيخ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو أول حديث سمعه منه بشرطه، وقرأ عليه أوائل ثبته وأجاز له بالإجازة العامة وكتب له بخطه، وسمع عليه كتابه الذي ألفه بمناقب الشيخ، وترجمته، المسمى مورد أهل الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وسمع الأولية من أبي عبد الكريم بن أحمد الشراباتي وأبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري الأزهري البشاري نزيل حلب، وأبي عبد الله علاء الدين بن محمد بن محمد الطيب المغربي الفاسي المالكي لما قدم حلب، وأبي الفتوح نور الدين علي بن مصطفى بن علي الدباغ الميقاتي الحلبي، وهو أول حديث سمعه منهم وأجازوه به وبجميع ما تجوز لهم روايته غير مرة. وأخذ الطريقة الشاذلية عن عبد الوهاب، والطريقة الوفائية عن والده، وبقية الطرائق عن شيوخه بأسانيدهم، وجل انتفاعه على والده وبه تخرج. ولما مات والده سنة ست وخمسين ومائة وألف جلس مكانه في التكية شيخاً، وقام مقامه ولازمه المريدون وأبناء الطريق، وأقبل عليه الناس، واستقام في التكية المذكورة شيخاً مبجلاً محترماً، وكان كثير الديانة وافر الحرمة، يلازم قراءة الأوراد السحرية والعشائية، وينفق ما يدخل عليه، وكان يميل في ملبسه ومأكله إلى الترفه، وحج ودخل دمشق، ولما دخل خليل أفندي المرادي حلب سنة خمس ومائتين وألف، أجتمع به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1554 وأخذ عنه واستجازه، وسمع من لفظه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعه منه في المجلس الذي أجتمع به كما رأيت ذلك بخطه، وتوفي رحمه الله بعد ذلك بمدة قليلة. الشيخ مصطفى المعروف لدى أهالي الشام بالدرويش مصطفى العالم العامل، والكامل الفضائل، قد انفرد في عصره، وأجمع على تقدمه جميع أهل مصره، قد استوى على أوج المراتب العالية، واحتوى على أعلا الشمائل السامية، وكانت شيوخ دمشق الشام، تعترف له بالعلم والعمل ورفعة المقام، والزهد والورع والقناعة وعدم الطمع، ولم يزل يعلو مقامه ويزكو احترامه، إلى أن تم أجله وانقطع من الدنيا أمله، وذلك سنة ألف ومائتين وعشرين، ودفن بسفح قاسيون بين الأفاضل والصالحين، وقبره معروف يزوره ويتبرك به العلماء والأكابر، وإن كثيراً من أهل الشام، يقصده للزيارة وطلب المرام!! السيد مصطفى بن خليل الدمشقي الحنفي الشهير بقزيها، أمين فتوى الشام الإمام الذي فضائله أشهر من أن تذكر، وفرائده أجل من أن تحصى أو تحصر، اشتغل بطلب العلم وإتقان القرآن العزيز، من حين أن دخل في سن التمييز، وتفقه على العلماء والسادة الأعيان الفضلاء، كالشيخ سعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1555 الحلبي، والسيد محمد عابدين، وأخذ الحديث على المرحوم الشيخ عبد الرحمن الكزبري وغيرهم، وأتقن الفنون غاية الإتقان، كالنحو والصرف والمعاني والبيان، وتبحر في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، وولي أمانة فتوى دمشق الشام، في أيام مفتيها حسين أفندي المرادي المولى الهمام، وكانت وفاته في شهر ذي القعدة الحرام، سنة سبع وخمسين ومائتين وألف، ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى. السيد مصطفى بن السيد محمد المغربي الجزائري المالكي الفاضل الإمام والكامل الهمام، كعبة الأفاضل ومعدن الفضائل، من رفع الله به قدر المواعظ والزواجر، وأترع به حياض النواهي والأوامر، وعمر بمتين كمالاته القلوب وغمرها، وجمع الخواطر بحسين جمالاته وجبرها، وخشعت لمعالي عباراته الأسماع والأبصار، واطمأنت لعرفانه القلوب عن الأغيار، وعم إرشاده الآفاق، وانتشر ذكره في الأقطار وفاق. وفي سنة ست ومائتين وألف اختط قريته المعروفة بالقيطنة بوادي الحمام، ونشر بها الطريقة القادرية بعد أن طوي بساط ذكرها، وأحياها بعد أن اندرست معالم قدرها، فأخذها الناس عنه، وتلقوها بكمال القبول منه. ولم يزل على زهده وعبادته، وتقواه وطاعته إلى أن جاءه الأجل المحتوم، ونزل به القضاء المحتوم، فتوفي في برقات عند ماء يعرف هناك بعين غزالة، سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف، وقبره هناك ظاهر مشهور، عليه الجلالة، والوقار، ومناقبه معروفة مشهورة، وكثيرة مذكورة. الشيخ مصطفى بن محمد الحلبي الأصل الدمشقي الصوفي الشافعي الدسوقي طريقه ولد بدمشق وأخذ عن علمائها الكرامة، وساداتها الجهابذة الأعلام، واشتغل بطريقة الصوفية ناهجاً منهج السادة الدسوقية، وكان له من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1556 الكرامات وخوارق العادات، واقعات كثيرة، ومشاهدات شهيرة، ومنها أنه رؤي قبل موته بيوم يمشي على الماء ولم يبتل، ومنه إخباره بمجيء الدولة المصرية إلى الشام قبل أن يكون لأحد خبر في ذلك، توفي في قرية البويضة قرية من قرى دمشق الشام، غرة ربيع الثاني سنة خمسين ومائتين وألف، ودفن بها وقبره هناك معروف. الشيخ مصطفى بن سليمان البرقاوي بن محمد مزهر النابلسي البرقاوي مولداً الدمشقي إقامة قدم دمشق سنة تسعين ومائة وألف وبها استقام، أخذ عن علمائها السادة الأعلام، منهم الشهاب أحمد العطار، والشيخ محمد الكزبري، والشيخ مصطفى السيوطي، وتولى قضاء الحنابلة مدة ثلاثين سنة، مات رحمه الله نهار الجمعة الساد عشر من ذي القعدة الحرام سنة خمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة باب الصغير. الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي المصري الأزهري الإمام العالمة الرحلة الفهامة، المعمر المتقدم، ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية وقرأ القرآن وحفظه وجوده، وحضر إلى مصر وحفظ المتون وتفقه على الأشياخ المتقدمين، كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم، ومهر في المعقول والمنقول، وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس، وكان يتردد إلى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوائده ونوادره، وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطائف، لا يمل حديثه ومفاكهته، توفي رحمه الله تعالى سنة سبع ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1557 الشيخ مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي الوحيد المكرم والنبيه المفخم، ولد سنة أربع وسبعين ومائة وألف، ونشأ في حجر والده، وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره، وحفظ البرجلي والشاهدي، ومهر في اللغة التركية، وتفقه على أبيه وقرأ عليه علم الصرف، وحضر على بعض الأشياخ، ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجبرت بالأزهر، ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأروام، وليس له تاجاً وفراجة، وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي وذلك قبل نبات لحيته، وكان وسيماً جسيماً بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن، فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من الناس من أبناء العرب والأتراك والأمراء والأجناد، فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان، وممن كان يحضره علي آغا مستحفظان، وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيراً، ويذهب هو أيضاً إلى داره كثيراً كما قيل في المعنى: بروحي واعظاً كالبدر حسنا ... بديع ملاحة ساجي اللواحظ ولا عجب به إن همت وجداً ... فكم قد هام ذو وجد بواعظ ووقع له بعد ذلك محن عظيمة، وهموم شديدة جسيمة، ثم أخذ همه في التلاشي حتى غار ما حياته، وانفلق عن الفتح باب قبره عند مماته، وهو مقتبل الشبيبة سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله. السيد مصطفي الدمنهوري الشافعي المصري الأزهري العمدة الفاضل والتحرير الكامل، الفقيه العلامة، والهمام الفهامة، تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية واشتهر بنسبته إليه، ولما ولي مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1558 الأكابر والأعيان، وكان عائلاً ذكياً، وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية، وكان يكتب على الفتاوي على لسان شيخه المذكور ويتحرى الصواب، وعبارته سلسة جيدة، وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين، واقتنى كتباً في ذلك مثل كتاب السلوك والخطط للمقريزي وأجزاء من تاريخ العيني والسخاوي وغير ذلك، ولم يزل حتى ركب يوماً بغلته وذهب لبعض أشغاله، فلما كان بخطة الموسكي قابله خيال فرنساوي يركض قليلاً على فرسه، فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكورة وألقته من على ظهرها إلى الأرض، وصادف حافر فرس الفرنساوي إذنه فرض صماخه، فلم ينطق ولم يتحرك فرفعوه في تابوت إلى منزله، ومات من ليلته رحمه الله تعالى، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف من الهجرة النبوية. الشيخ مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى نجا الشافعي الشاذلي شاب نشأ عل كمال الطاعة، وعالم قد اعتزل عن الابتداع والإضاعة، فلا ريب أنه البحر الزاخر والحبر الباهي الباهر، شمس فضائله لم يصبها كسوف، وقمر معارفه لم تلمسه يد خسوف، إن نثر فما أزاهر الرياض غب المزن الهاطل، أو نظم فما جواهر العقود تحلت بها الأجياد العواطل. ولد ليلة السابع والعشرين من رمضان المبارك سنة تسع وستين ومائتين وألف، وبعد سن التمييز أخذ في تعلم القرآن العزيز، ثم طلب العلم في بيروت البهية، على جماعة من العلماء ذوي مقامات سنية، فاجتهد في الطلب وجد في نوال الأرب، إلى أن فاق أمثاله ونال آماله، ثم توجه إلى مصر بقصد المجاورة في أزهرها الشريف فلم يتيسر له ذلك، بل عاد إلى وظنه بيروت وانكب على الطلب والتحصيل مع الجد والاجتهاد والتفرغ للعبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1559 حسب المراد، ولم يزل على هذا الحال سالكاً مسلك الفضل والكمال، إلى أن توفي والده وذهب عنه مساعده، فاحتاج إلى تعاطي الأسباب، فتعاطى التجارة بالعطارة، وأخذ الطريقة الشاذلية عن المرشد الكامل والهمام الفاضل، الشيخ علي نور الدين بن يشرط المغربي التونسي، أدام الله وجوده وأغدق علينا وعليه إحسانه وجوده، فاشتغل بالطريق فوق العادة وبذل في الطاعة جده واجتهاده، ولازم الإخوان في مسائه وصباحه، وسلك مسالك نجحه وفلاحه، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخدمه المريدين بالحظ الأوفر. وفي سنة أربع وثلاثمائة وألف أجازه إجازة عامة، وأذن له بتلقين الذكر وهو لهذا العهد يقيم الحضر في داره، وقد أخذ عنه كثيرون فأوضح لهم الطريقة وعلمهم كيفية السلوك إلى الحقيقة، ودعاهم إلى التمسك بالسنة والكتاب وعرفهم الفرق بين الخطأ والصواب، ومن نظمه يرد على من زعم أن التمسك بالحقيقة يغني عن اتباع الشريعة قوله: عجباً لمن يعصي أوامر ربه ... ويقول لست بمذنب من عجبه ويرى خلاف الشرع تحقيقاً ولا ... ينقاد جهلاً بالطريق لحزبه ويقول إني مطلق من قيده ... فدع المقيد هائماً في حجبه ويظن مع أهل الضلال بأنه ... عرف الهدى ودرى نهاية دربه وبأنه ممن يحب الله قد ... فازوا وقد سلكوا مسالك قربه هيهات هيهات المحب حقيقة ... والله لا يعصي أوامر حبه والمهتدون العارفون بربهم ... لا يجهلون وليس فيهم ما به فاترك مصاحبة الذي هو مثله ... تلقي الأمان من الزمان وحربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1560 واصحب إذا رمت الهدى من يقتدي ... بالمصطفى هادي الورى وبصحبه فالأجرب المغرور تلتزم النهي ... عنه التجنب خيفة من خطبه وأخو الفطانة ليس يسلك مسلكا ... حتى يميز سهله. من صعبه وله أبيات لطيفة وقصائد طريقه، وموشحات حسنة وتوسلات مستحسنة، وقدود تقال على الأذكار، ألطف من نسمات الأسحار، وله شرح على الصلاة الجليلة الممزوجة المنسوبة إلى القطب الكبير، سيدي العارف بالله عبد السلام بن بشيش سماه كشف الأسرار، لتنوير الأفكار، وله منظومة سماها الاستغاثة السنية برجال أهل سلسلة الطريق الشاذلية العلية، وأولها قوله: بك يستجير العبد من هفواته ... يا واحداً في ذاته وصفاته حفظنا الله وإياه من الآثام، ورزقنا وإياه حسن الختام. الشيخ معروف التكريتي العراقي الخالدي النقشبندي صاحب السكر والمحو والجذب والصحو، والأحوال الغريبة والصفات العجيبة، كان فقيهاً عابداً ومرشداً زاهداً، بارعاً في العلوم دقيق النظر في المنطوق منها والمفهوم، وقد أخذ عن حضرة مولانا خالد، وتخلف عنه خلافة عامة، فاشتغل بالطريق والإرشاد، وسلك منهج الصواب والسداد، وكان حسن الأخلاق عالي المذاق، لطيف العبارة جميل الإشارة، ولم يزل يترقى على معراج الكمال إلى أن طلبته المنية لدار الجمال، وذلك سنة ألف ومائتين وخمسين تقريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1561 الشيخ منصور بن عمار بن كثير السلمي الخراساني الصوفي الدمشقي كان مسرفاً على نفسه ثم تاب، وكان سبب توبته أنه وجد في الطريق رقعة مكتوبة بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يجد لها موضعاً يضعها فيه فأكلها فرأى في المنام قائلاً يقول له: قد فتح الله عليك باب الحكمة لاحترامك للرقعة، فقال من نومه نادماً على أفعاله تائباً من وقوعه في أوحاله، مقبلاً على مولاه معرضاً عما سواه، ففتح الله عليه أبواب القبول وسهل له أسباب الوصول، ومنحه من العلوم الإلهية والتجليات العرفانية، ما أثبت له الفضيلة وحقق له الشمائل الجميلة، وفضل الله واسع لا راد له ولا مانع، قال بعضهم: رأيت في المنام منصور بن عمار بعد موته وكان في أول أمره قد أسرف على نفسه، فقلت له ما فعل الله بك؟ قال أوقفني بي يديه وقال لي أنت الذي كنت تزهد الناس في الدنيا وترغبهم في الآخرة، فقلت قد كان ذلك وأنت يا رب أعلم، ولكن وعزتك وجلالك، ما جلست مجلساً إلا وبدأت بالثناء وثنيت بالصلاة والسلام على نبيك ورسولك، وثلثت بالنصيحة لعبادك، فقال الله تعالى صدق، ضعوا له كرسياً في سمائي يمجدني كما كان يمجدني في أرضي انتهى، وفضله معروف وكماله موصوف غني عن البيان، مات رحمه الله في دمشق ودفن بها سنة ألف ومائتين و .... الشيخ منصور بن مصطفى بن منصور بن صالح ابن زين الدين السرميني الحلبي الحنفي العالم المتقن الفاضل المحدث الأصولي الزاهد العابد التقي النقي، مولده سنة ست وثلاثين ومائة وألف بسرمين من أعمال حلب ونشأ بحلب، ودخلها صغيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1562 وقرأ القرآن العظيم وبعض المقدمات من الفقه والعربية وغيرها على أبي محمد عبد الوهاب بن أحمد المصري نزيل حلب وأبي عبد الله محمد بن محمد التافلاني المغربي، وأخذ الطريقة القادرية عن أبي بكر تقي الدين بن أحمد القادري الحلبي، وارتحل إلى حماه، وقرأ بها على البدر حسن بن كديمة وأبي محمد عبد الله الحواط، ثم ارتحل إلى مصر واشتغل بالتحصيل والأخذ وقرأ على علمائها في غالب الفنون، منهم بو المكارم محمد نجم الدين بن سالم بن أحمد الحفناوي وجل انتفاعه به وعليه، وأخوه الجمال يوسف وأبو العباس أحمد بن عبد الفتاح الملوي وأبو محمد الحسن المدابغي والشهاب أحمد الجوهري وعفيف الدين عبد الله بن محمد الشبراوي ونور الدين علي العمروسي وأبو عبد الله محمد بن محمد البليدي المالكي وأبو الصفا خليل المالكي، وأبو محمد عبد الكريم الزيات وأبو داوود سليمان الزيات وأبو السخا عطية الله الأجهوري والسراج عمر الشنواني وأبو الحسن علي الصعيدي، وأبو الروج عيسى البراوي والشمس محمد الفارسكوري وأبو عبد الله العشماوي وغيرهم. وحج ولقي هناك عام حجه أبا الإرشاد مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الدمشقي، وأخذ عنه الطرائق وغيرها وانتفع بدعواته ونفحاته وارتفع بأنظاره ولمحاته، وأخذ بالمدينة المنورة على أبي البقاء محمد حياه بن إبراهيم السندي، واستقام بمصر عدة سنين وتفرق وتنبل ودرس بها، وأقرأ بعض العلوم واشتهر أمره وراج حاله حتى شهد بفضله مشايخه، وبعدها دخل حلب، ومنها قدم إلى دمشق فرغب أهلها به وصال عادة مشايخ الطرق، ولزمه جماعة وأخذوا عنه، وأقبل عليه الناس واشتهر واستقام بدمشق بعياله نحو عشرين سنة، وفي أثناء المدة كان يأتي إلى حلب لزيارة أحبابه وأقاربه، رأيت بخط خليل أفندي المرادي صاحب التاريخ قال: وكان والدي اشترى المكان المبني تجاه باب جيرون بالجامع الأموي وجعله وقفاً على المترجم، ومن بعده على من يصير خليفة بعده من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1563 المشايخ البكرية الخلوتية، وكان القاضي بالحكم سليمان بن أحمد الخطيب المحاسني الحنفي، وألف وهو بدمشق رسالة في البسملة سماها كشف الستور المسدلة عن أوجه أسرار البسملة، وجعلها باسم والدي وكتب له عليها، وشرح الأبيات الثلاثة التي مطلعها: عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافاً لأرباب الصدور تصدرا وسماه كشف اللثام والستور عن مخدارات أرباب الصدور، وفي سنة إحدى ومائتين وألف. اشترى دار بني الطيبي بحلب الكائنة بمحلة الفرافرة، وجعلها زاوية للأذكار والتوحيد بعد أن وقفها، وكان يقيم الذكر بها في الأسبوع مرة، ويقري ويفيد ويدرس ويختلي في كل عام أربعين يوماً، ومن جملة من أخذ عنه واستجاره خليل أفندي المرادي سنة ألف ومائتين وخمس، وانتفع به وبعلومه، وكان حسن المحاضرة قوي الحافظة نبوي الأخلاق لطيف المذاكرة، توفي سنة ألف ومائتين ونحو العشرة. الشيخ موسى السرسي الشافعي الأزهري العمدة العلامة والنحرير الفهامة، الأصولي الفقيه والمنطقي النحوي النبيه، أصله من سرس الليانة، بالمنوفية، وحضر إلى الأزهر ولازم الاستفادة وحضور الأشياخ من الطبقة الثانية، كالشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراري والشيخ محمد الفرماوي، ومهر وأنجب في المعقولات والمنقولات، وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة، ولازم الشيخ حسن الكفراوي مدة ورافقه في الإفتاء والقضايا، ثم لازم الشيخ أحمد العروسي وصار من خاصة ملازميه وتخلق بأخلاقه، وألزم أولاده بحضور دروسه المعقولية وغيرها دون غيره، لحسن إلقائه وجودة تفهيمه وتقريره، واشتهر ذكره وراش جناحه وراج أمره، بانتسابه للشيخ المذكور، واشترى أملاكاً واقتنى عقاراً بمصر وببلده سرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1564 ومنوف ومزارع وطواحين ومعاصر، وأقبلت عليه الدنيا إقبالاً كاملاً. وكان حلو المفاكهة حسن المعاشرة، عذب الكلام مهذب النفس جميل الأخلاق. ودوداً قليل الادعاء، محباً لإخوانه، مستحضراً للفروع الفقهية، وكان يكتب على غالب الفتاوي عن لسان الشيخ العروسي ويعتمده في التقول والأجوبة عن المسائل الغامضة والفروع المشكلة. ولم يزل مشتغلاً بشأنه حتى تمرض وتوفي يوم السبت أواخر جمادى الثانية سنة تسع عشرة ومائتين وألف. الشيخ موسى البشبيشي الشافعي الأزهري إما فقيه وهمام كامل نبيه، قد استوى في عصره على أوج السيادة، وانفرد في عصره بالانقطاع للإفادة، وكان فاضلاً علامة كاملاً فهامة، نحوياً منطقياً فرضياً، تقياً نقياً رضياً، نشأ في الجامع الأصغر من صغره، ولازم الأشياخ ومجالسهم إلى كبره، حتى شهد له كل إنسان أنه عين العلماء الأعيان، وأجاز كل من العلامة الصعيدي المصيلحي والدردير والشويهي والصبان، وغيرهم من السادات ذوي المعارف والإتقان، فمهر وأنجب بين العلماء، وصار معدوداً من القادة الفضلاء، ودرس في الفقه والمعقول، وأفاد في أنواع الفروع والأصول، وكان كثير الملازمة للعلامة العروسي الهمام، وقد أخذ عنه جل المراد والمرام، وكان مهذباً في نفسه متواضعاً مقتصداً في ملبسه ومأكله، عفيفاً قانعاً، لطيف المعاشرة والكلام، حسن السيرة بين الأنام، لا تمل مجالسته ولا تسأم مفاكهته، ولم يزل منقطعاً للعلم والإفادة مقبلاً على شأنه فوق العادة، إلى أن جذبته يد الأجل إلى الأماني والأمل، وذلك سنة ألف ومائتين وسنتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1565 الشيخ موسى البندنيجي الخالدي النقشبندي العالم العامل، والمرشد الكامل، نخبة الفضلاء. وزبدة النبلاء، نشأ من صغره على الطاعة والكمال وتقوى الله ذي الإكرام والجلال، إلى أن صار بين الناس آية، وخفق له بين العلماء أعظم راية، وكان ملازماً للتقوى والعبادة والورع والزهادة، وكان من خلفاء سيدنا ومولانا خالد قدس الله سره، فدار في البلاد وأرشد العباد، إلى أن أقبل على ربه على أحسن حال، مرتدياً برداء التقوى والجمال، وذلك بعد الألف والمائتين والأربعين. الشيخ موسى الجبوري البغدادي النقشبندي الخالدي الفقيه الصوفي الكامل والنبيه العالم العامل، والولي المرشد العارف بالله، والمقبل عليه والمعرض عما سوه، ذو الأنفاس والشمائل القدسية والبركات والنفحات الأنسية، فإنه كان ممن شهد بكماله الخاص والعام، وكان في الإرشاد وتدريس العلوم والوعظ إماماً وأي إمام، إذا جلس للتذكير تسابق الناس إليه وجلسوا حوله وبين يديه، فما تجد غير مطرق باك ومتواجد متباك، وصارخ ملء فيه، ومضطرب كأن الموت يوافيه، وليس السيان كالخبر ولا من غاب كمن حضر، كان قد أخذ أولاً عن عبيد الله الحيدري خليفة مولانا خالد، ثم بعد أن ذاق كؤوس العرفان، واستوى على سرير الكشف والوجدان، خلفه مولانا خالد خلافة مطلقة، وأذن له بالإرشاد في الجانب الغربي من مدينة بغداد، فأخذ عنه العلماء الأفاضل والسادة القادة الأماثل، وكان مشهوراً بكل كمال، معروفاً بفضائل الأحوال، ولم يزل يترقى في معاريج الفضائل، ويتقلب على فراش المعارف ناهلاً أعذب المناهل، إلى أن توفي في ذلك الحبر المكين سنة ألف ومائتين وست وأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1566 الشيخ موسى بن المرحوم عمر بن عبد الفتاح ابن محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الجليل السباعي الحمصي عالم شاعر، وناظم ناثر، قد فاق في عصره أقرانه، مع زهد وتقوى وصيانة وديانة، فلذا كان ممن يعتمد عليه، ويشار في حل المشكلات والمعضلات إليه، على أنه من بيت قد تأسس على العلم والتقوى، وحسن العمل في السر والنجوى، فهو الحبر الذي فاق بصفاته الأوائل، والبحر المتموج بجواهر الفضائل، الجامع شمل الكمال بعد شتاته، والواضع في جسد المجد روح حياته، فلا ريب أنها تضحك ببكاء أقلامه الطروس، ويرى في صورة خطوطه حظوظ النفوس. ولد في مدينة حمص سنة ألف ومائة وإحدى وتسعين، ونشأ بها إلى أن توفي والده، ذهب إلى مصر في نية طلب العلم في الجامع الأزهر والمقام الأنور، فقرأ على علمائها وطلب على فضلائها، ثم رجع إلى الشام وكمل طلبه على علمائها الأعلام، وفي سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين سافر إلى بلده حمص، ومرض بداء البطن، وتوفي في تلك السنة ودفن في مقابر بني السباعي بالقرب من حضرة سيدي خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، ومن بديع نظامه وفصيح كلامه، معارضاً بانت سعاد يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. صدت سعاد وما للحال تحويل ... وليس لي في سواها قط مأمول وكيف لا وفؤادي صار مرتعها ... ولم يرعني بها قال ولا قيل لم أخش في حبها عذلاً لذي عذل ... ولا لواش وفيها القلب مكبول فكم لحاني لاح في الهوى سفهاً ... فقلت اقصر فلي في ذاك تنويل الله أكبر كم في الحب من بطل ... لقد علاه اكتئاب وهو مذبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1567 بمن غدت فتنة بين الورى وسمت ... والفرع منها بجنح الليل مسدول أضحت فريدة حسن جل مبدعها ... إلى الملا ما بهذا القول تبديل ترمي بلا قوس نبلاً من لواحظها ... تصطاد أسد الشرى والسيف مسلول مليحة ما بدت يوماً لعاشقها ... إلا اعترى جسمه سقم وتنحيل عذراء يقصر مدحي عن لطافتها ... هيهات هيهات تحصيها الأقاويل مكحولة كحلت بالسحر ثم لها ... على العذارى بهذا الكحل تفضيل حكت معاطفها السمر الرشاق وقد ... حازت جمالاً ومنها الطرف مكحول رعبوبة من سناها النور مبتهج ... وما لها في الورى شكل وتمثيل ما في المشارق تلقى مثل بهجتها ... تزري الغصون ومنها النور مدلول تبسمت فشكى لي البرق قلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول يفوح من خالها المسك الشميم ومن ... بسامها عنبر بالراح معلول تميل تختال من عجب على مرج ... من ضوء مبسهما ضاءت قناديل والصدغ واويه الأسماء قد رقمت ... على الغواني لها في ذاك تطويل وإن وجنتها شبه العقيق وقد ... سما على رأسها تاج وإكليل لا في العقيق ولا في المشرقين لها ... مثل كما ثبتت فيها الأقاويل تركية تركت جسمي بها شبحاً ... والقلب ذاب وكم بيني لها ميل مكية الخال والتوشيم ذات سنا ... وعطرها أبدا بالمسك مجبول يا ربة الثغر والنهدين رق إلى ... صب براه الجوى والدمع مهطول مليكة الحسن رفقاً وارحمي دنفا ... له بكى في بحور الشعر تفعيل وهبتك يا سعاد الروح فانتصفي ... من مغرم ضره في الحب تسويل أنهي لخصرك ما لاقيت من سقم ... عسى برقته تنقى الأهاويل تيهي بذا عجباً فالناس قد خضعت ... إلى حماك وفيك دمعهم لولو ما دعد ما زينب ما هند ما جمل ... الحسن حسنك فيه القلب متبول أنت المنى ثم سؤلي فانعمي كرما ... إلى الكئيب الذي في الحب مهزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1568 لبست حلة حسن يا سعاد وقد ... لبست ثوب الضنى والجسم منحول إن لم تجودي لصب مسه قلق ... فلي بمدح رسول الله تأهيل الفاتح الخاتم المفضال شافعنا ... خير النبيين من بالشرع مرسول قد جاءنا بالهدى والفتح تم به ... عن الخلائق قد زالت أباطيل طه الحبيب الذي نار الوجود به ... وجاءه من لدى مولاه تنزيل نبي صدق بدين الحق قام وفي ... كفيه سيف لقمع الشرك مسلول حتى غدا الكفر مخذولاً لسطوته ... ومس أعداءه ذل وتنكيل يا صفوة الحق حقق ما أؤمله ... فباب جودك في الدارين مسؤول وقل لصب غدا في الحب ذا سقم ... ادخل نعيماً به الإحسان مبذول موسى السباعي له الآمال فيك إذا ... دنا الرحيل وعمته الأهاويل صلى عليك الذي أعطاك منزلة ... علياء خادمها في الخلق جبريل والآل والصحب من في الحرب كان لهم ... فتح ونصر وتأييد وتفضيل وله قصائد كثيرة ومدائح شهيرة، توفي كما تقدم في حمص سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين ودفن في مدفن بني السباعي بالقرب من سيدنا خالد ابن الوليد رضي الله عنه. ناشد راشد باشا والي ولاية سورية الجليلة الوالي المعظم والكبير المكرم، ذو الشان الرفيع والمقام البديع، والصولة السامية والدولة النامية، تعين والياً على الشام وعلى جميع البلاد السورية ذات الاهتمام، وذلك بعد موت المرحوم أحمد حمدي باشا، غير ن سلفه كان ممدوحاً بتمام العفة، ولركون وعدم الميل إلى الخفة، ولذلك كان الجميع يثني عليه بكل ثناء رفيع. وأما دولة الوزير المترجم فكان عند العموم دون من تقدم، ولذلك في آخر مدته كثر الكلام في حق حضرته، فكتب أهل بيروت إلى الدولة العلية يسترحمون بطلب وال عليهم وانفصالهم عن ولاية الأحكام الدمشقية، وتفاقم أمر الطلب إلى أن كادوا يبلغون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1569 الأرب، فتغيظ الوالي المترجم، إلى أن وقع بداء ذات الرئة ودام بهذا المرض خمسة وعشرين يوماً، فتسامع الخبر بين الناس أن الذات الشاهانية لم تسمح بقسم الولاية فتروح الوالي المذكور وكاد أن يبرأ من مرضه، فلما كان اليوم الخامس والعشرون من مرضه دخل عليه بعض خدمته وأخبره بقرار قسم الولاية، وتوجه وال مخصوص إلى بيروت وما يتبعها فعاوده المرض بشدة قوية، ولم يمض عليه ساعات حتى زارته المنية، وذلك يوم السبت المبارك التاسع عشر من شهر رجب الحرام سنة خمس وثلاثمائة وألف، ودفن في تربة العارف الله سيدي الشيخ محيي الدين العربي الكائنة في سفح قاسيون في جامع السليمية بجانب قبر العارف بالله السيد عبد القادر الجزائري، قدس الله سره، وعمره يزيد عن سبعين سنة، رحمة الله عليه وعلينا. حرف النون الشيخ ناصر بن عيسى بن ناصر الدين الإدلبي الشافعي العالم العامل الفقيه، والكامل الفاضل النبيه، ولد في إدلب الصغرى سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وقرأ بها على أبي الثناء محمود بن حماد ومصطفى بن سمية وأبي عبد الرحمن بن علي الجوهري المفتي، وحضر دروس أبي مدين شعيب بن إسماعيل الكيالي وأخيه الزين عمر الكيالي، ودخل حلب واستوطنها، وقرأ بها على أبي محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري، ومصطفى بن عبد القادر الملقي وغيرهم، ودرس بجامع بانقوسا وجامع الحدادين وجامع المشاطية، ولزمه جماعة وأتقنوا عليه، ولازم القراءة والتدريس مع التقوى إلى أن انفرد في مصره وفاق فضله لدى أهل عصره، وفي سنة ألف ومائتين وخمس اجتمع به في حلب خليل أفندي المرادي مفتي دمشق وشهد بفضله وإتقانه في العلوم والفنون ولم أقف على تاريخ وفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1570 السيد نعمان أفندي أبو البركات خير الدين بن محمود الألومي مفتي السادة الحنفية ببغداد دار السلام عمدة الأفاضل الأكارم، ونخبة الأماثل ذوي المكارم، من تحلى بملابس العلم والأدب، وتولى عن كل ما اعتقاده يوجب اللوم والعطب، فهو العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1571 الفاضل المفرد، والشهم الكامل الأوحد الأمجد، من ل كلامه على علو مقامه، ونظامه ونثره على سموه واحترامه. ولد يوم الجمعة ثاني عشر شهر محرم الحرام سنة اثنتين وخمسين بعد المائتين والألف، وقد أرخ ولادته الشاعر المجيد، والناظم الوحيد، المنلا عبد الحميد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1572 بدا الكوكب الدري والقمر الذي ... محاسنه للشمس أضحت تسامت فلا عجب إن فاح كالمسك عرفه ... فها هو من بيت النبوة نابت له ثبت الحق الصريح من العلا ... وتاريخه: حق لنعمان ثابت قرأ بعد تمييزه القرآن وأتقنه، ثم حفظ المتون المستحسنة، وحضر دروس العلماء الأعلام، ولازم الإقبال على الاستفادة ملازمة النجم للظلام، إلى أن ارتقى مقامه واستوى على عرش القبول كلامه، وسرت في الناس فضائله واشتهرت مناقبه وشمائله، وأجلسته معارفه على وجوه الأماني، وقصده الطالبون من قاص وداني، ومن أحسن ما جمعه وألفه، ووضعه في قالب التحرير وصنفه، كتابه المسمى بجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، فإن كتاب جلا العين من الغين، وأزال عن محيا الحق الشك والرين، فهو القول الفصل العاري من الهذيان والهذل، ولعمري أن من دقق النظر فيه وجال في مناهج ظواهره وخوافيه، عرف أنه حكم وعدل، واعترف بأنه عن طريق الصواب ما عدل، ونصر قول السنة والكتاب، وماز القشر من اللباب، نفع الله العموم بعلومه ورفع راية منثوره ومنظومه، وقد صنف جملة صالحة من التصانيف وحرر زبراً نافعة من التآليف منها إكمال حاشية القطر لوالده، والشقائق، ورسالة في الفقه، وله نثر ونظم يزري باللؤلؤ النجم، وكتب في المواعظ دروساً مفيدة ومجالس عديدة حميدة، وله مجانسة الجليس، بالوعظ والتدريس: بوعظ قد تلين له قلوب ... وزجر قد تلين به الصخور تفرد في الفحول بقوارع وعظه ... وأذاب القلوب بزواجر لفظه: إذا ما رقى للوعظ ذروة منبر ... لخطبته فالكل مصغ ومنصت فصيح عن الشرع الإلهي ناطق ... وعن كل مذموم من القول صامت وحينما ألف كتابه غالية المواعظ، ومصباح المتعظ وقبس الواعظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1573 وذكر في أوله حضرة ذي الشوكة والسلطان، أمير المؤمنين المعظم عبد الحميد خان، وقد مدحه بهذه الأبيات البديعة، الدالة على ملكته الرفيعة: بمولانا أمير المؤمنينا ... لقد سرت قلوب العالمينا وفي ظل الإله هم أقاموا ... وظل الله يؤوي القائلينا أنام الكل في ظل ظليل ... فكان لجمعهم كهفاً أمينا وأصناف الرعية قد تراءت ... بأنواع المعارف عارفينا مليك ليس يشبهه مليك ... فلا تطلب له ملكاً قرينا ملاذ الخلق في الدنيا جميعاً ... وسيدنا إمام المسلمينا عياذ الناس سلطان البرايا ... وخاقان الخلائق أجمعينا خليفة ربنا قد صار حقاً ... فكان لتخته السامي مزينا وقد أحيا مآثر لن تضاهي ... ومهد ملكه للساكنينا وقد عمت أياديه البرايا ... وأدب في الفلاة المارقينا أدام الله دولته علينا ... وأيدنا به دنيا ودينا وأبقى ذاته العلياء فينا ... وأعطانا به فتحاً مبينا وملكه أقاصي الأرض طرا ... شمائلها البعيدة واليمينا وأبقى عبده المولى حميدا ... حميد العيش دهرا الداهرينا وأيد جنده الباري بنصر ... وفتح كائن حيناً فحينا ولم يزل على درج الكمال يترقى، وهو في كل يوم بالنسبة لما قبله أتقن وأتقى، إلى أن أشاعت المنية أخباره وأذاعت أنه سكن في الجنان داره، وذلك في شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر، وذلك في مدينة بغداد، دار السعادة والإسعاد، ودفن في مقبرة أبيه، رحمة الله علينا وعليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1574 حرف الهاء السيد هاشم بن السيد محمد بن السيد فائز بن السيد أحمد عز الدين بن السيد إبراهيم الرفاعي قدس سره الشيخ الكامل والإمام الفاضل، قد ترجمه صاحب تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار، فقال: ولد السيد هاشم صاحب الترجمة بكويت البصرة وشب في حجر والده، وخلف والده بعد مماته في مشيخة الطريق العلية الرفاعية، وكان على جانب عظيم من الزهد والصلاح والتقوى، وله كرامات وخوارق كثيرة، ووالده كان من أكابر العارفين المعتقدين في الديار العراقية، ومرقده في كويت البصرة، مزار الخواص والعوام، والمترجم سار سيرته وسلك طريقته، وهو من بيت المجد والبركة، توفي رحمه الله عام اثنين وسبعين ومائتين وألف، وقبره في الكويت معروف يزار انتهى ملخصاً. هاشم بن عبد الرحمن بن سعدي بن عبد الرحمن بن يحيى ابن عبد الرحمن بن تاج الدين عبد الوهاب الحنفي الكناني البعلي الشهير بالناجي ولد بدمشق الشام ونشأ بها وكان من علمائها وفضلائها، وزهادها وعبادها وأعيانها وذوي شانها، أخذ عن المشايخ العظام والسادة الجهابذة الفخام وكانت له اليد العلية والشهرة السنية في فقه السادة الحنفية، وقد تخرج على يديه الكثير من ذوي الفضل الشهير، وولي أمانة الفتوى النعمانية بدمشق المحمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1575 مات ثالث عشر رمضان المبارك سنة أربع وستين ومائتين وألف في مرض الهواء الأصفر. وكان له في قلوب الناس اعتقاد عظيم وجاه جسيم، وتولى أمانة فتوى الشام أيام مفتيها حسين أفندي المرادي، وكان مشهوراً بالعبادة والصلاح، وشيخ الطريقة الخلوتية في الديار الدمشقية، وكان ملازماً على إقامة الأذكار، إلى أن دعاه الله لدار كرامته في دار الكرامة والقرار. هبة الله بن محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن تاج الدين بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن موسى ابن عبده البعلي، مفتي بعلبك الدمشقي الشهير بالتاجي المولى الهمام فخر الأنام، وصدر العلماء الأعلام، الفقيه الشهير، والمحدث الكبير، فقيه مذهب النعمان ونبيه ذوي المعارف والشان. ولد في دمشق في تاسع عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ومائة وألف، ونشأ بها واشتغل في طلب العلوم على جماعة منهم سعد الدين العيني ولد سنة 1030 وتوفي سنة 1174 والسيد مصطفى الأيوبي ولد بدمشق سنة 1135 وتوفي بمكة سنة 1205 وعطية الأجهوري البصير المتوفي سنة 1191 والملوي المتوفي سنة 1181 وطه بن مهنا الجبريني الحلبي المتوفي سنة 1174 وأسعد بن عبد الرحمن المجلد سنة 1174 ومحمد حياة السندي المتوفي سنة 1160 وعبد الكريم بن أحمد الشرباتي علامة حلب المتوفي سنة 1176 وعمر الطحلاوي مفتي المالكية بمصر المتوفي سنة 1181 وصالح بن إبراهيم بن سليمان الجينيني المتوفي سنة 1170 والشهاب المنيني المتوفي سنة 1172 وأحمد ابن عبد المنعم الدمنهوري المتوفي سنة 1192 وأبو الفتح محمد بن محمد العجلوني الجعفري المتوفي سنة 1193 والشيخ علي السليمي الصالحي المتوفي سنة 1200 والسيد علي بالبدري شيخ القراءة بمصر المتو في سنة 1190 وإبراهيم الحلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1576 محشي الدر المختار المتوفي سنة 1190 وعلي الصعيدي المتوفي سنة 1189 وموسى المحاسني خطيب جامع بني أمية المتوفي سنة 1173 وأحمد الجوهري المتوفي سنة 1181 والجد الشمس محمد بن عبد الحي الداوودي المتوفي سنة 1168 والسيد الشريف محمد أبو السعود ابن العلامة اسكندر مفتي الحنفية في الديار المصرية المتوفي سنة 1172 وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد أخذ عنه الجم الغفير والعدد الكثير. ومات في عشرين من ذي القعدة الحرام سنة أربع وعشرين ومائتين وألف، وله مؤلفات كثيرة منها حاشيته على الأشباه والنظائر لابن نجيم. ومن نظمه مهنئاً جناب الفاضل المحترم خليل أفندي المرادي بإفتاء دمشق الشام، ومؤرخاً ذلك، فقال: سقياً لدهر كل هتان به ... جاء البشير موافياً بمرادي هذي الأماني التي بلغتها ... رغماً على الأعداء والحساد وافت عروساً في نحور عقدها ... نظم القلائد من ذري الأجداد وتبسمت عن ثغر روض مسرة ... فلذا الصوادح غردت بسداد وأتت ورائه صدر فضل قد سما ... حيث السماء وقبله القصاد تسعى على هام السماك أبيةٍ ... منقادة للسيد المجواد الشهم مولانا الهمام ومن له ... في كل علم يقتفيه أياد من قد رقى رتب المعالي سيدا ... فكسا الفخار برود مجد وداد وغذى لبان الفضل من زمن به ... غصن النبوة مثمر بجياد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1577 در البلاغة من جواهر لفظه ... يزري بعقد فصاحة لإياد منه استعار السحب فضل أنامل ... فسقي بها جوادي مدى الآباد فهو الكريم بن الكريم بن الكريم هو الخليل هو السري مرادي نجل السراة ومن هم كهف الأنا ... م وملجأ المحتاج والوراد أعلام علم للورى وهدى وإر ... شاد وحلم سادة أمجاد مولاي يا فرد الوجود فضائلا ... وشمائلا يا أوحد الآحاد رحماك إني عن علاك مقصر ... فانعم بعفو منك لإبعاد إذ لا يزيد الشمس كثرة مدحها ... والدر لا يلغو بنظم شاد فاليكها بنت اغتراب خانها ... فكر تردى من صدا أبعاد جاءت تهني للوحيد بمنصب الفتوى التي شرفت يبيت مراد فلها الهنا ولها المنى ولها السنا ... بالعالم الصنديد خير عماد لما غدا الإفتاء يبغي كفؤه ... أرخ له مفتي الشآم مرادي قسما بلطف مالك لفؤادي ... وبما لوالده جميل أياد إني لبست من السرور ملابساً ... أزهو بها في الجمع والأعياد لا زلت ترفل في حبور مسرة ... تهني بك الفتيا مدى الآباد الشيخ هداية الله الإربيلي الشافعي النقشبندي الخالدي العالم الفاضل العامل، والمرشد الهمام الكامل، ذو الهمم العلية والعلوم الربانية، والشمائل العلية والفضائل السنية، والسيادة المذكورة والعبادة المشهورة. نشأ من أول زمنه في طاعة الله ولم يعول من صغره على غير طاعة مولاه، ثم سلك الطريقة العلية النقشبندية على يد الإمام والقطب الهمام، سيدي مولانا خالد شيخ الحضرة قدس الله سره، ثم إنه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1578 الكمال خلقه ذلك السيد المفضال، خلافة عامة، ولم يزل مجتهداً في العلم والطريق إلى أن اختار الآخرة على الأولى. وكان الشيخ المترجم حين سلوكه من طلبة العلم، فقال له حضرة مولانا خالد بعد أن خلقه سيأتي عليك زمان تحتاج فيه إلى تدريس العلوم النقلية والعقلية، وإن لم تدرس فإنهم يخرجونك من وطنك، فأمره بقراءة الورقة الأولى من كل كتاب معد للتدريس، فقرأ ذلك على حضرة مولانا المذكور، ثم أجازه بجميع العلوم النقلية والعقلية وتدريس كتبها الدقيقة، وبعد وفاة حضرة مولانا خالد بمدة طويلة وزمان بعيد، ظهر سر هذه القضية وهو أن محمد باشا الكردي متصرف راوندز، استولى بطغيانه على أربيل ونواحيها، وكانت له محبة عظيمة بالعلم والعلماء، ولما تمكن في أربيل مدة طويلة، قال: إن كل من جلس في مسجد أو زاوية من أهل العلم ولم يدرس فليخرج من هذه البلدة لأني أريد العلم ولا حاجة لي بالطريقة، فشرع الشيخ هداية الله المشار إليه بتدريس العلوم منقولها ومعقولها على وجه التحقيق، بحيث انكب عليه أهل العلم للاستفادة وأنوه أفواجاً أفواجاً، لأنهم رأوا عنده من التحقيق والتدقيق ما لم يشاهدوه عند العلماء الراسخين في العلوم والتدريس فتعجب الناس من ذلك لأنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1579 يدرس مدة عمره ولم يقرأ من العلوم إلا شيئاً يسيراً جداً، وإنما كان اشتغاله بالإرشاد، فسمع الباشا المذكور وأتى إلى خدمته وطلب الدعاء منه والعفو عنه، وبقي الشيخ المشار إليه يرشد ويدرس إلى أن توفي في بغداد ودفن بجانب الشيخ يحيى المزوري سنة ألف ومائتين وزيادة على الخمسين رحمه الله. الشيخ هداية الله بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن تاج الدين البعلي المعروف بمفتي بعلبك الدمشقي الحنفي ولد بدمشق، وطلب بها وصرا من علمائها، واشتهر بالعلم والفضل والصلاح، والعبادة والتقوى والفلاح، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف. حرف الواو الشيخ وهبة المشهور بأبي العظام كان من أهل الأحوال، وله كرامات شهيرة تدل على أنه من كمل الرجال، وهو مقصود للزيارة من كل مكان، ومعدود من أهل الكرامة والولاية والشان، وللناس به اعتقاد عظيم، يقصدونه لدى كل مهم وخطب جسيم. نقل أن السبب في تكنيته بأبي العظام، أنه انقطع في الأودية والجبال نحو سبعة أعوام، وهو حامل للعظام على الدوام، فلذا كني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1580 بها بين الأنام، ثم بعدها رجع إلى حاله، ولبس أثواب بهائه وكماله، وانتفع الناس بأطواره، وسلموا له بديع أوطاره، ولو أرادنا أن نحصي ما له من الكرامات الكبار، لخرجنا عن منهج المقصود من الإيجاز والاختصار، توفي سنة اثنتين وأربعين بعد المائتين والألف، ودفن في قرية القسطل ذات الجمال واللطف التابعة لقضاء النبك، وقبره ظاهر مشهور وعليه قبة مجللة بالبهاء والنور، رحمة الله تعالى عليه ورضوانه، وجوده وبره وإحسانه. حرف الياء الشيخ ياسين النابلسي الحنفي فاضل إمام، وعالم عامل همام. ولد سنة ألف ومائتين، ونشأ على الجد في الطلب إلى أن بلغ المنى والأرب، ولازم النسك والعبادة وصار من ذوي القدر والسيادة، وذلك بعد أن قدم دمشق واستوطنها، وقرأ على فضلائها وعلمائها واجلائها، وكان له اليد العليا في العلوم من منطوق ومفهوم. مات بدمشق سنة ستين ومائتين وألف، ودفن بقاسيون قرب مغارة الجوعية رحمه الله تعالى. الشيخ يحيى أفندي أبو النصر بن الشيخ عبد الغني بن الشيخ أحمد بن محمد بن ناصر بن محمد السلاوي نسبة إلى مدينة سلا في المغرب كذا قرر في ترجمة جده الشيخ أحمد السلاوي ولد في الديار المصرية، وبلغ مبلغاً من العلوم الأدبية، وأتقن صناعة الشعر وأحسنه، وكان يذكر عند مذاكرته في أنواع الأدب من كل شيء أحسنه، وفي سنة ثلاثمائة وألف شرف إلى الشام، وكنت اجتمع به في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1581 أكثر الأوقات والأيام، فصيح اللسان ذو معرفة وإتقان، وكان مشتغلاً بنظم قصائد تسعة وعشرين، من كل حرف من حروف الهجاء قصيدة، على طرز قصائد صفي الدين أبي المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن أبي القاسم الحلي التي سماها درر النحور في امتداح الملك المنصور، فكان يتلو علينا من أبياتها، ويفكهنا بسكر نباتها، وقد تخلص بكل قصيدة إلى مديح الحضرة المعظمة السلطانية الحميدية، وقد سماها بالعصر الجديد، جمع بها جواهر الآثار، ودقائق المعاني الأبكار، وبعد مدة سافر إلى الأستانة العيلة، وقدمها للسدة السنية الملوكانية، فأحسن إليه برتبة محترمة، وخدمة في دائرة المعارف العمومية الجليلة، ولم يزل مكباً على الاشتغال بالأدب، وآثاره مقبولة تألفها الطباع، وتلتذ بها الأسماع، ومن نظمه البديع وشعره الرفيع، قوله: أعد الحديث عن الأماني الحفد ... واغتم مسالمة الليالي العود وأدر كؤوس الراح فيها للهنا ... أيدي الصبا منها صحيفة عسجد طوراً تطوف بها الشموس وتارة ... تسعى بها الأقمار حول الوقد من كل وضاح الجبين أغر ذي ... شمم وعز بالشباب معربد يلقاك ملتحف الوقار كلاهما ... بادي المشيخة في حداثة أمرد يغدو بأصناف المسرة لاهيا ... يوماً ويوماً بالمقيم المقعد لا تبصر العينان منه لذي نهى ... إلا خلال ممجد ومسود إن قال كان الرأي منه مسددا ... أو صال كان الخصم غير مسدد ومنها: وخضيبة الكفين مزر قدها ... هيفا بأعطاف الغصون الميد نشوانة بالحسن تعبث بالنهى ... عبث الحوادث بالوليد المبتدي تلقاك في ديباجتين منوطة ... من فوق ضاف بالعبير مقرمد أقسى مساساً من فؤاد معذبي ... وأرق من قلب حزين المكمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1582 ما بين طلعة بدر تم مشرق ... زاهي الجبين وليل شعر أجعد فتاكة فتانة مأسورها ... لا يفتدي وقتيلها لا يستدي إن أقبلت فتنت وإن ولت سبت ... مهج الأراقم دون نيل المقصد تدني وتبعد بالذي تومي به ... لأخي العفاف وللبغي الأنكد فتظنها من ثم غير عصية ... وتخالها من ههنا كالعضلد وتروضها كخليستين عروبة ... غض المساس وحيزبون علكد لا ينقضي من حبها وطر ولا ... يدنو لها بالغي عزم مجرد وهي قصيدة طويلة تزيد على المائة وثلاثين بيتاً وتخلص بها لمديح السيد أحمد الرفاعي قدس الله تعالى سره. وله قصائد كثيرة وأشعار شهيرة. ولقد اجتمعت به في الآستانة عام ألف وثلاثمائة وسبعة، فوجدته قد تغير عن حاله، وتبدل الجلال عن جماله، وغلب عليه الجفا بعد ما كان عليه من الوداد والوفا، واللطف والصفا، فسبحان من لا تغيره الأزمان، ولا يحكم عليه وقت ولا أوان. الشيخ يحيى الجابي المدني ترجمه صاحب اللئالي الثمينة في أعيان شعراء المدينة، فقال: الأديب الذي كنهور ذهنه بالمحاسن هامي، وألفاظه تسكر الأسماع كابنة العنب ولا ينكر السكر من الجامي فكل بيت من أبياته راووق مدام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1583 وكل لفظ منها زهر كمام، كلل برشح غمام، ومع ذلك فهو في الفضل سامي المقام، وفي المجد بالغ همام، حاوي شمائل كالنسيم رقة، وكالمسك تشتهي الروح شمه ونشقه، وجامع أدب شذي النفحة بهي اللمحة، فمن نظمه البهج وشعره الأرج هذه القصيدة، وأرسلها من الروم مبثاً بها ما حواه صدره من سر الغرام المكتوم: على وادي النقا، قف لي صباحا ... وحي الريم والغرر الصباحا وعانق لي بسح الدمع بانا ... بسوح من العقيق لديه ساحا ومرغ لي الخدود على تراب ... تشم به عبير المسك فاحا وغض الصوت في نجواك واخفض ... جناح الذل منك عسى نجاحا وأم الجانب الغربي منه ... سقى الله رباه والبطاحا وسل عن جيرة في سفح سلع ... وقبل القول قبل لي المراحا بهم خز يشي حبرا برتني ... بروق ظباه دع عنك الرماحا لروحي من صداه غذا وراح ... غدا يجلو الصدا عنها وراحا ترى الأوتار ناطقة فصاحا ... إذا غنى بنغمتها فصاحا به معنى فهمناه فهمنا ... فلاح سنا فشاهدنا فلاحا فشاهد ساعة وارجع سريعا ... وحاذر يستميلك أن تصاحا فإن حشاي مما في فؤادي ... يئن أنين من ذاق السلاحا وذلك إن بازاً لي تصدى ... فأظهر لي الصداقة والمزاحا فلما أن رآني مطمئنا ... أظن مزاجه الماء القراحا غزا بالبابلي على غزالي ... فطار به وكان له جناحا ولو بارزت لم يبرز لحربي ... ولكن خفت ارتكب الجناحا فقلت تعجبا سبحان ربي ... فقنعني ومن قنع استراحا ولي نفس أبت ذلاً لمن لا ... يراعيها ولو ماتت جراحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1584 ولا حكم على ملك بعنف ... خصوصاً من يرى قتلي مباحا فحسبي أن محبوبي بقلبي ... وإني في الهوى أهوى الملاحا وسلم لي على قمري العلالي ... وندماني غبوقا واصطباحا وجمع الصحب بلغهم سلامي ... لعل الله يجمعنا صحاحا وكرر لي السلام على عقيق ... كذوب مكرر يسقي الأقاحا وتعرف يا عقيق الروح مني ... لمن في لحن قولي القصد لاحا وله: باتت تسامرني حمامة روضة ... فوق الغضا بين الغدير وزرعه تبكي على إلف لها بترنم ... من أجل تسكين الفؤاد وروعه فشربت من ذاك الغدير تلذذا ... وطربت من ذاك الهدير ورجعه وأجبتها بي مثل ما بك كلنا ... نبكي على ذكر الحبيب وربعه لكن ما مثلي ومثلك واحد ... لا والذي سمع الدعاء بسمعه إن الذي أهواه بدر كامل ... كل الأشعة فرعت من فرعه قالت صدقت يحق أن تبكي الدما ... ونهيم في ريم النقا مع سلعه وله رحمه الله: لقد كمنت محبتكم بقلبي ... كمون النار في قلب الزناد ولكني افتضحت بدمع عيني ... وحالي كل حين في ازدياد انتهى توفي المترجم المرقوم في القرن الثالث عشر رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1585 الشيخ يحيى بن محمد بن منصور الحلبي الشافعي الفقيه العالم المقرئ المسند البركة الدين التقي العابد الزاهد، كان من السادة الأخيار، والقادة الأتقياء الأبرار. مولده سنة عشرين ومائة وألف، وقرأ القرآن العظيم وحفظه وتلاه لحفص، وأخذ القراءات عن الشمس البصيري شيخ القراء بحلب، وأبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، ولازم القراءة والأخذ والتلقي والسماع، وتلقى الكثير على الكثير، منهم أبو عبد الفتاح محمد بن الحسين الزمار ونور الدين علي بن مصطفى بن علي الدباغ الميقاتي وأبو محمد صالح بن رجب المواهبي وبايعه وأخذ عنه الطريقة القادرية، ولازم بعده ولده أبا عبد الله محمد وقاسم بن محمد البكرجي وأبو الثناء محمود بن شعبان البزستاني وقاسم بن محمد النجار وأبو المحاسن يوسف بن الحسين الدمشقي وأبو عبد الله جابر بن عودة الحوراني وعبد الوهاب بن أحمد الأزهري وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب المالكي لما قدم حلب، وأبو جعفر منصور بن علي الصواف وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني وأبو عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي وعبد الكريم بن أحمد الشراباتي وغيرهم. ويروي عالياً عن الشهاب أحمد بن محمد علوان بن عبد الله الشراباتي وأي داود سليمان بن خالد بن عبد القادر النحوي وجمال الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد عقيله بن سعيد المكي وبدر الدين حسن بن علي الطباخ وأبي عبد الرزاق محمد بن هاشم الديري وأبي محمد حسن بن شعبان السرميني وآخرين، وسمع الأولية من أكثرهم ولازم دروسهم وأكثر من السماع من صغره وكان لا يفتر عن حضور مجالسهم، وأجازوه بالإجازة العامة. وكان كثير التلاوة للقرآن العظيم يشتغل به غالب أوقاته، وكان من الصلحاء الأخيار، والمعمرين الأبرار، كثير الديانة مقبلاً على الأخرى معتنياً بما يقربه من مولاه، رافضاً زخارف الدنيا راضياً بما قسم له، يحب الناس ويحبونه. توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين ونيف في حلب ودفن بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1586 الشيخ يحيى بن ...... المزوري العمادي الشافعي البغدادي بحر العلوم، وحبر ذوي المنطوق والمفهوم، جامع المنقول والمعقول، وحاوي الفروع والأصول، أستاذ علماء العراق على الإطلاق، وملاذ فحول فضلاء الآفاق في حل المشكلات بلا شقاق، النحرير الهمام حجة الإسلام، الناسك العابد والتقي الزاهد، المتوجه بكله إلى الله والمعتمد عليه لا على سواه. نقل صاحب المجد التالد أن المترجم المذكور كان من أكابر هذه الأمة المحمدية، وقد بلغ درجة الترجيح في الفقه، مع كونه بحر جميع العلوم النقلية والعقلية والرياضية، كما شهد له بذلك حضرة شيخ الحضرة مولانا خالد النقشبندي، وكانت ولادته في حدود سنة ألف ومائة وخمس وأربعين، وقرأ على مشايخ كثيرين وأساتذة معتمدين، منهم الحبر العلامة والبحر الفهامة، السيد عاصم الحيدري، ومنهم العلامة المحقق والفهامة المدقق، السيد صالح الحيدري. وكان حافظاً لأوقاته مراقباً لحركاته وسكناته، مواظباً على الطاعة متباعداً عن الإضاعة، وآدابه في التقوى والحلم، ومكارم الأخلاق التي أدبه بها الفضل والعلم، كثيرة شهيرة. وفي عام ستة وعشرين ومائتين وألف، لما شرف حضرة مولانا خالد شيخ الحضرة من الهند إلى السليمانية صمم الجماعة البرزنجية الذين هم أكابر بلدة السليمانية وأصحابهم وأتباعهم، وكانوا نحو مائتي رجل على قتل الشيخ خالد المذكور، واتفق رأيهم أن يقفوا بالسلاح يوم الجمعة خارج باب المسجد، فإذا خرج قتلوه وقطعوه إرباً إرباً، فلما جاء يوم الجمعة قام حضرة الشيخ قدس الله سره ومشى إلى المسجد، وكان معه بعض مريديه وجماعة من الحيدريين، فلما تمت صلاة الجمعة وقف الأعداء على الباب ينتظرون خروج الشيخ وهم بالسلاح الكامل، وكان من عادة الشيخ أنه لا يخرج من المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1587 إلا بعد خروج الناس، فلما تكامل خروج الناس، ولم يبق في المسجد أحد، خرج حضرة الشيخ والتفت إلى صفوف الأعداء بعين الجلالة، فمنهم من هرب ومنهم من سقط مغمى عليه، ومنهم من صاح وانجذب، ومشى حضرة الشيخ إلى أن وصل إلى الزاوية بجماعته بدون أن يتعرض لهم أحد، وهذه القضية وقعت على رؤوس الأشهاد، فلم يبق أحد من أهل السليمانية إلا وعلمها، فحقد عليه العلماء وأرادوا أن يهينوه في تجهيله في العلم، فامتحنوه بمشكلات أنواع العلوم النقلية والعقلية فلم يقدروا عليه، بل صاروا كأحقر الطلبة بين يديه، فلما رأوا أنفسهم أنهم بالنسبة إليه جهال، وليس لهم قدرة عليه بحال، كتبوا كتاباً وأرسلوه إلى حضرة المترجم، ومضمون الكتاب من كافة علماء السليمانية إلى علامة الدنيا على الإطلاق والدين، حجة الإسلام والمسلمين، مولانا وشيخنا الشيخ يحيى المزوري العمادي متع الله تعالى المسلمين بطول حياته: أما بعد فقد ظهر عندنا خالد وادعى الولاية الكبرى والإرشاد، بعد عوده من الهند إلى هذه البلاد، وهو رجل قد ترك العلوم بعد تحصيلها على وجه الكمال، واختار سبيل الضلال، ونحن قد عجزنا إن إلزامه، وقهره وإفحامه، فيجب عليك أن تتوجه إلى طرفنا لإفحامه، ودفع ضلاله ومرامه، وإلا فقد عم الضلال بين العباد، وانتشر الفساد في البلاد، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما وصل الكتاب إلى الشيخ يحيى وقرأه، قام وركب بغلته مع جملة من طلبته الفحول، وتوجه إلى السليمانية وقد استحضر في فكره عدة سؤالات من أشكل المشكلات، في المعقول والمنقول، الفروع والأصول، فلما قرب الشيخ من السليمانية خرج العلماء كافة وأكابر البلدة لاستقباله، وتقبيل يديه ورجليه وأذياله، فلما دخل البلدة دعاه كل إلى منزله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1588 السادة الأعيان، فأبى وقال لا بد أن ألاقي هذا الرجل الآن، فتوجه إلى زاوية الشيخ قدس الله سره، فلما دخل عليه وسلم وحياه، استقبله الشيخ وصافحه وأحسن لقياه، فجلس الشيخ يحيى بجانب مولانا خالد وتهيأ للسؤال، فابتدره الشيخ في الحال، وقال له إن في العلوم مشكلات كثيرة، منها كذا وجوابه كذا ومنها كذا وجوابه كذا، وعدد له جميع الأسئلة التي أعدها للسؤال عنها، وأجاب عن كل منها بأحسن جواب بحيث لم يبق للإشكال باب، فانكب المترجم على قدمي حضرة الشيخ وعرف إجلاله، وطلب منه العفو والسماح والتوجه له بما يصلح آماله، وأعطاه الطريقة النقشبندية، وعين له حجرة يسلك فيها فصار من أخص رجال السادة الخالدية، فلما سمع المنكرون ولوا الأدبار وخابوا، وبعضهم تاب وأكثر من الندم والاستغفار، وكان حضرة مولانا خالد يحب الشيخ يحيى محبة عظيمة، ويعامله مع كونه مريداً له معاملة الأقران ذوي العظمة والشان، والشيخ يحيى لا يعد نفسه في مجلس الشيخ إلا من الخدام. وقد حدث العالم الأديب الصالح الشيخ إسماعيل البرزنجي، فقال كنت في خدمة الشيخ يحيى المزوري في حجرة واحدة، وكان الشيخ نائماً وقت القيلولة، فقام حضرة مولانا خالد من محله إلى حجرة الشيخ يحيى فاسقبلته، وقلت له إن الشيخ يحيى نائم فقال لا تنبهه، ثم دخل حضرة مولانا الحجرة وقبل فم الشيخ يحيى وهو نائم، وقال بعد التقبيل متعنا الله تعالى بحياتك، وخرج من الحجرة إلى محله، ومما وقع له أيضاً مما يدل على رفعة مقامه ووصوله في الطريق إلى مرامه، أن عبد الوهاب السوسي الذي خلفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1589 حضرة مولانا خالد في الأستانة العلية، ثم طرده عن الطريقة لعجبه بنفسه بمخالطة أكابر الرجال، وجمع الحطام والأموال، دخل يوماً على الشيخ يحيى وقبل يديه، والتمس منه أن يطلب العفو عنه من حضرة مولانا خالد قدس سره، فقام الشيخ يحيى ودخل على حضرة مولانا خالد والتمس منه العفو عن عبد الوهاب، فقال حضرة الشيخ أن الأمر لو كان بيدي لعفوت عنه، ولكن جميع روحانيات السلسلة العلية النقشبندية قد طردوه عن باب طريقتهم، اللهم إلا أن يحلق عبد الوهاب لحيته ويسود وجهه ويركب الحمار منكوساً ويشهر نفسه في الأزقة والأسواق كسراً لنفسه، فإنهم قدس الله تعالى أسرارهم يعفون عنه حينئذ فقال الشيخ يحيى قدس الله سره: يا شيخي إن عبد الوهاب لا تطاوعه نفسه على مثل هذا الفعل، ولكن رخصني فإني أعمل هذا الفعل عوضاً عنه لعله يعفى عنه وأنا أفدي نفسي في حاجة المسلم، فبكى حضرة مولانا خالد قدس الله سره وتعانق مع الشيخ يحيى وبقيا يبكيان ثم قام حضرة الشيخ قدس الله سره لصلاة النافلة وذهب الشيخ يحيى قدس الله سره إلى محله، وقال لعبد الوهاب فلا تلومن إلا نفسك، وقام عبد الوهاب خائباً والعياذ بالله تعالى من سوء المنقلب. ومن جملة أدب المترجم مع السنة أنه كان يعاون زوجته في غسل الثياب والطبخ وحوائج البيت، وكان يغسل أولاده إذا ماتوا بنفسه، ويقول لزوجته لا تضجري من موتهم، واشكري الله تعالى. ولما قتل اليزيديون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1590 ولده العلامة المحقق عبد الرحمن في الجبال وأتى خبر قتله إليه وهو يدرس العلم، قال حسبنا الله تعالى ونعم الوكيل، ولم يترك الدرس، ولما مات الحبر العلامة السيد أسعد صدر الدين الحيدري كان المترجم نازلاً في بيتهم ضيفاً، فقال أنا أغسل السيد المرقوم فقام وغسله على ملأ من الناس، وكان السيد عبيد الله الحيدري يصب له الماء، وصلى عليه مع خلائق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وكان ذلك في أوائل سنة ألف ومائتين وثلاث وأربعين. ثم لما توفي الشيخ المترجم قدس الله سره في بغداد تعاطى غسله العالم الصالح الورع والتقي الملا حسين بن ملا جاحي والسيد محمد أمين ابن السيد عبد الله الحيدري وأخوه السيد صالح الحيدري وعدد كثير من العلماء الأعلام، يصبون الماء على جسده الشريف مناوبة، وصلى عليه العلامة الفهامة النحرير الشيخ عبد الرحمن الروزبهاني طاب ثراه، ولم يبق أحد بحسب الظاهر من أهل بغداد إلا ومشى خلف جنازته، وكأن القيامة في يوم موته قد قامت، ودفن في جوار الغوث الأعظم والقطب الأفخم سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره، وكان عمره يوم وفاته نحواً من مائة سنة، ومات في حدود سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين. الشيخ يحيى أفندي مفتي أنطاكية بن المرحوم .... عالم زمانه وإمام أهل وقته وأوانه، عمدة الأماثل ونخبة الأفاضل، ولد سنة ألف ومائتين وثلاثين تقريباً، ثم منذ نشأ وشب أقبل على العبادة والطلب، فبرع وفاق واشتهر في الآفاق وتفنن في العلوم وبرع في فني المنطوق والمفهوم، وأقبل الناس عليه للاستفادة منه والنظر إليه، وأخذ عن مشايخ ذوي رتب سامية أسانيدهم في الأخذ عالية، ولما رأوا منه المعرفة التامة أجازوه بالإجازة العامة، ثم ولي منصب الإفتاء بأنطاكية، وله بإقليمها شهرة عالية، وله معرفة بالسياسة قوية، ومهارة بالألسنة الثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1591 العربية والتركية والفارسية، ونظره في الأمور دقيق، مقصود في الاستشارة لكل بعيد أو قريب أو عدو أو صديق. وفي سنة ثلاثمائة واثنتين بعد الألف جاء إلى حلب جميل باشا والياً عليها، وكان له شدة عظيمة على أهل الرآسة في حلب وما يتبعها من بقية الولاية، فاضطر المترجم أن يخرج من محله وأن يخرج من الولاية فرحل إلى دمشق، واتصل برؤوسها وولاتها وأكابرها وذواتها، وله حاضرة عجيبة، وحافظة غريبة، فكثيراً ما كان يستشهد تارة في العربية وتارة في التركية وتارة في الفارسية، بأبيات لطيفة رقيقة ذات معان أنيقة، وله حكايات ونوادر تشهد له أنه في الأدب له المقام النادر، ومعرفته في الشطرنج حظها وافر، فكان كثيراً ما يلعب به مع الحكام والأكابر، وكانت لي معه الصحبة الوافرة، والمحبة المتكاثرة، والمباحثة والمذاكرة والمسامرة والمحاضرة، وقد أخبرني بأنه ولد في الشام حين كان أبوه بها مستقيما، ثم عاد به أبوه إلى وطنه المذكور، ثم إنه لا زال في الشام يعلو مقامه وينمو احترامه، إلى أن وقع بينه وبين المشير حسين فوزي باشا بعض منافرة، وكان قد عزل جميل باشا من حلب فرجع إلى وطنه، وذلك عام ألف وثلاثمائة وخمسة، أطال الله بقاءه وحرسه بمنه وأبقاه. الشيخ يحيى بن علي بن محمد الشوكاني العالم الذي فاق أهل زمانه وترقى في فضله على أهل أوانه، ولحق من سلف وسبق من خلف، ولد في رجب سنة ألف ومائة وتسعين، قرأ على جملة من المشايخ المتصدرين والأفاضل الجهابذة المتصدين، كالعلامة محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1592 بن أحمد السودي، والعلامة سعيد الرشيدي، وكان مواظباً على الطاعة حافظاً أوقاته عن الإضاعة، قليل الكلام، كثير القيام في الظلام، دائم الفكر حسن الصبر، يحب الاستفادة ولا يبخل بالإفادة، له مشاركة في العلوم وأعلا نثر وأحلا منظوم، سيرته حسنة وأوصافه مستحسنة، زاهد في الدنيا راغب في الأخرى، كثير الأذكار في الليل والنهار، محافظ على أوقاته متباعد عن غفلاته، وقد أجاز واستجاز وكان في الحقيقة على أحسن مجاز. وبالجملة فهو حسنة من حسنات الزمن، وفرد من أفراد قطر اليمن، قد انتفع به الكثير وأخذ عنه الجم الغفير، وانقاد له الأفاضل وذوو السيرة العالية والشمائل، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وستين تقريباً. الشيخ الإمام يحيى بن المطهر بن يحيى العالم الفاضل الزاهد الورع العابد العامل، عمدة لأقران ونخبة العصر والأوان. نشأ في مدينة صنعاء ولازم العلامة الشوكاني، واستفاد من علومه، وقرأ جميع مؤلفاته عليه، وأكب على علم الحديث فبلغ فيه النهاية، وترك التقليد واشتغل بالاجتهاد. وله شرح على سنن أبي داوود أربع مجلدات، وله رسائل متعددة في فنون مختلفة، توفي رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثمان وستين. الشيخ يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن زين الدين بن عبد الكريم الدمشقي الشافعي الشهير بالكزبري الشيخ الأمجد والإمام الأوحد، علامة الزمان وفهامة الأوان. ولد بدمشق الشام ونشأ بها وأخذ عن علمائها، ومن أجلهم والده المرقوم، والعلامة الشهاب المنيني الكبير، والإمام العلامة الثاني علي أفندي الداغستاني، وأجازه خال والده العلامة علي بن أحمد بن علي الكزبري وغيرهم، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1593 صالحاً عابداً فالحاً زاهداً متواضعاً فقيهاً محدثاً نبيهاً. توفي ثاني شهر محرم الحرام سنة إحدى ومائتين وألف، ودفن في مرج الدحداح. الشيخ يحيى السردست الحنفي الدمشقي الإمام الفاضل والهمام الكامل، علامة الزمان وفهامة العصر والأوان، كان من العلماء العاملين والصلحاء الواصلين، إمام المحققين وهمام المدققين، وكان منقطعاً في المدرسة الباذرائية مقبلاً على الآخرة مدبراً عن الدنيا. توفي في دمشق سنة أربع وستين ومائتين وألف سابع عشر شهر شوال. ودفن في مقبرة الذهبية، في مرج الدحداح. الشيخ يحيى المسالخي الحلبي الإمام الأديب الماهر، والهمام الفاضل الباهر، الكامل الفقيه واللوذعي النبيه. أخذ عن الشيخ محمد الكزبري وعن غيره من المشايخ العظام. توفي قريباً من عشرين ومائتين وألف ودفن في باب الصغير رحمه الله تعالى. الشيخ يوسف أبو خرج الدمشقي المجذوب الولي المشهور، والقطب المعروف بطول الباع وبكل منقبة مذكور، قد اشتهر فضله في هذه الديار اشتهار الشمس في رابعة النهار. وكان معتقداً لا منتقداً، ومع جذبه كانت أحواله لا تنكر عليه بل تجد أموره مائلة إلى ظاهر الشرع مستندة إليه، وكان جليلاً مهاباً معظماً فخماً، عليه مخايل الولاية. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين ومائتين وألف، ودفن بباب الصغير وقبره ظاهر يزار. الشيخ يوسف أبو الفتوح جمال الدين بن أحمد بن مصطفى بن أحمد بن إبراهيم بن شمس العمري القادري الدمشقي الشافعي الإمام، المحدث الهمام، العلامة المحقق والسيد السند المدقق، ذو المعارف والكمال، واللطائف والجمال، عمدة المحققين ونخبة المدققين. ولد بدمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1594 ليلة الثلاثاء ثاني ذي الحجة الحرام سنة ثمان وخمسين ومائة وألف، وأخذ عن العلامة الشيخ عبد الرحمن العيدروس، وأحمد بن خليل التميمي الخليلي، ومحمد بن المرحوم ميرزا محمد، وتاج الدين الياس زاده المدرس بالحرم الشريف، والشيخ علي بن محمد بن سليم السليمي الصالحي، وأبي الفتح محمد بن محمد العجلوني، والسيد مصطفى بن ولي الدين محمد الأيوبي الأنصاري الحنفي الشهير بالرحمتي، وعلي الكاملي، وأحمد الداراني، وحسن بن علي المدابغي، وعيسى أفندي بن صبغة الله أفندي الحيدري، والسيد محمد البخاري، وأحمد البعلي، وأسعد المجلد، ومحمد التافلاني، وعليم الله الهندي اللاهوري، وإبراهيم الحافظ، وعبد الرحمن بن الملا حسن الكردي، وصالح الجينيني، والشهاب أحمد المنيني، وخليل الكاملي، ومحمد العربيلي، وابن بدير المقدسي، وأبو الجود محمود الكردي الكوراني، والسيد محمد السمان المدني، وعيسى البراوي، والشهاب الراشدي، وعطية الأجهوري، والحفني، والملوي، وأحمد الجوهري، والدمنهوري، ومحمد الفارسكوري، وأحمد الطبنشي وغيرهم، وعن الشيخ محمد الكزبري، والشيخ علي الداغستاني، مات رحمه الله تعالى تاسع شوال سنة خمس عشرة ومائتين وألف ودفن في مقبرة سيدي الشيخ أرسلان. الشيخ يوسف بن عبد الله بن منصور السنبلاويني الشهير برزه الشافعي الإمام العلامة النبيه الفاضل، الأستاذ الفهامة، العالم العامل. تفقه على بلديه الشيخ أحمد رزه، وحضر دروس الشيخ الحفني والشيخ البراوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1595 والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الأشياخ، وأنجب ودرس وأفاد، ولازم الإقراء، وكان إنساناً وجيهاً محتشماً ساكن الجأش وقوراً، بهي الشكل، قانعاً بحاله لا يتدخل كغيره في أمور الدنيا، مجمل الملابس، لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الأحيان لبعض الأمور الضرورية، ولم يزل حتى تعلل وتوفي سنة سبع ومائتين وألف. الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري الشاب الصالح والمهاب الفالح، الفاضل الفقيه والكامل النبيه، حفظ القرآن والمتون، وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي والبراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ أحمد العروسي، وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي وأنجب، وأملى دروساً بجامع الكردي بسويقة اللالا. وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح، ولم يزل ملازماً على حاله حتى اتهم أيضاً في حادثة الفرنسيس، وقتل مع من قتل شهيداً بالقلعة سنة أربع عشرة ومائتين وألف، ولم يعلم له قبر رحمه الله. الوزير المعظم يوسف باشا والي الشام أصله من الأكراد الدكرليه، وينسب إلى الأكراد الملية، وفي ابتداء أمره، هرب من أهله وعمره إذ ذاك خمس عشرة سنة، فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث، ثم خدم عند رجل يسمى ملا حسين مدة سنين، إلى أن ألبسه قلبقاً، ثم خدم بعده ملا إسماعيل بلكباش وتعلم الفروسية، فلعب يوماً في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه، فخرج هارباً إلى عمر آغا باسيلي من إشرافات إبراهيم باشا المعروف بالأردن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1596 فتوجه معه إلى غزة، وكان مع المترجم جواد أشقر من جياد الخليل، فقلد على آغا متسلم غزة عمر آغا المذكور، وجعله دالي باش ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجواد المذكور، فقال له إن قلدتني دالي باش قدمته لك، فأجابه إلى ذلك وعزل عمر آغا وقلد المترجم المنصب عوضاً عنه، وامتنع من إعطائه ذلك الجواد، وأقام في خدمته مدة، فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطاباً للمترجم بالقبض على المتسلم، وإحضاره إلى طرفه، وإن فعل ذلك ينعم عليه بخمسين كيساً ومائة بيرق، ففعل ذلك وأوقع القبض على علي آغا المتسلم، وتوجه به إلى عكا بلدة الجزار، فقال المتسلم للمترجم في أثناء الطريق تعلم أن الجزار رجل سفاك للدماء فلا توصلني إليه، وإن كان وعدك بمال أطلقني وأنا أعطيك أضعافه ولا تشاركه في دمي، فلم يجبه إلى ذلك، وأوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله، فحبسه ثم قتله ورماه في البحر، وأقام المترجم بباب الجزار ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد فإنه لا خير فيه لخيانته لمخدومه، فذهب إلى حماة وأقام عند إسماعيل آغا وهو متول من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم، فأقام في خدمته كلارجي زمناً نحواً من ثلاث سنين، وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة، فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق، فسلك طريقاً أخرى، فلما وصل إلى جينين وجه الجزار عساكره عليه، فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال، فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل، وتوجه إلى ناحية نابلس وحاصر بلدة تسمى صوفين، وأخذ مدافع من يافا وأقام محاصراً لها ستة أيام، ثم طلبوا الأمان فأمنهم ورحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1597 عنهم إلى طرف الجبل مسيرة نصف ساعة، وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد، وأقام هو في قلة من العسكر، فوصل إليه خيال وقت العصر يخبره بوصول عساكر الجزار، وأنه لم يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة، وهم خمسة آلاف مقاتل، فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي فحضر إليه من حضر، وهم نحو الثلاثمائة خيال، وبدائرته نحو الثمانين، فأمر بالركوب، فلما تقاربا هاله كثرة عساكر العدو وأيقنوا بالهلاك، فتقدم المترجم إلى العسكر وأشار عليهم بالثبات، وقال لهم لم يكن غير ذلك فإننا إن فررنا هلكنا عن آخرنا، وتقدم المترجم مآغاته ملا إسماعيل، وتبعهم العسكر وولجوا وسط خيل العدو وصدقوا الجملة جملة واحدة، فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا أقفيتهم، وتبعهم المترجم حتى حال الليل بينهم، فرجعوا برؤوس القتلى والقلائع، فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير وهي نحو الألف رأس وألف قليعة، فخلع عليهم وشكرهم، وارتحلوا إلى دمشق، وذهب المترجم مع آغاته إلى مدينة حماة، واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الأعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن لي إلى دمشق، بسبب الفرنساوية، ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيالاً، وجعل يدور بأراضي حماة بطالاً، ويقال له قيس، فيراسل الجزار لينضم إليه، وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم، فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة، فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيراً على جميع الخيالة حتى على آغاته ملا إسماعيل آغا، وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس، فوصل إليه الخبر بأن عساكر الجزار استولوا على دمشق وبلادها، فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف، ونصب عرضيه خارجها، فوصل خبر ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1598 إلى الجزار، فكاتب عساكر عبد الله باشا بتسليمهم، لأن معظمهم غرباء، فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار، وعلم ذلك وتثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى المترجم، وهو إذ ذاك دالي باشا، وأعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه، فركب بمن معه وأخرجه من بين العسكر قهراً عنهم وأوصله إلى شول بغداد ذم ذهب على الهجن إلى بغداد، ورجع المترجم إلى حماة فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه، فذهب إليه فجعله مقدم ألف، وقلده باش الجردة مسافر إلى الحجاز بالملاقاة، وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضاً عن مخدومه أحمد باشا الجزار، فلما حصلوا في نصف الطريق وصلهم خبر موت الجزار، فرجع يوسف باشا المترجم إلى الشام، واستولى إسماعيل باشا على عكا، وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر أغاسي، أي أغات البغال، وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسماعيل باشا وضبط مال الجزار، فذهب المترجم بخيله وأتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده، وركب إلى عكا وحصروها، وحطوا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا، وكانت الحرب بينهم سجالاً، وعساكر إسماعيل باشا نحو العشرة آلاف، والمترجم يباشر الوقائع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم، ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسماعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى، فركب المترجم وأخذ صحبته ثلاثة مدافع وتلاقى معهم، وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق، ثم أخرجهم بالأمان إلى وطاقه وأكرمهم، وعمل لهم ضيافة ثلاثة أيام، ثم أرسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير، ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم، وتركوا سليمان باشا مكانهم، وخرج إسماعيل باشا من عكا وأغلقت أبوابها، فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا، فعند ذلك برز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1599 أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا، وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه، وذهب معه إلى الدورة، ثم عاد معه إلى الشام، وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم، على يد باشت بغداد، فخرج المترجم لملاقاته من على حلب، فقلده دالي باشا على جميع العسكر، فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران وغربد والقنيطرة ليقبض أموالها، فأقام نحو السنة، ثم توجه صحبة الباشا مع الحج، وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم، وحجوا واعتمروا ورجعوا، ومكثوا إلى السنة الثانية، فخرج عبد الله باشا بالحج وأبقى المترجم نائباً عنه بالشام، فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون، ورجع من غير حج، ووصل خبر ذلك إلى الدولة فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها، فارتاعت النواحي والعربان، وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج، بل أرسل ملا حسن عوضاً عنه، فمنع أيضاً عن الحج فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة، وعصى عليه بعض البلاد، فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف، وقتل أهلها، ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالاً عظيمة، ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته، وسلك طريق العدل في الأحكام، وأقام الشريعة والسنة وأبطل البدع والمنكرات واستتاب الخواطئ وزوجهن، وطفق يفرق الصدقات على الفقراء وأهل العلم والغرباء وابن السبيل، وأمر بترك الإسراف في المآكل والملابس، وشاع خبر عدله في النواحي، ولكن ثقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم، ثم إنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1600 وأولادهم، وكان خيرهم بين الدخول في الإسلام والخروج من بلادهم، فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا، وبيعت نساؤهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية، فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم في البلاد، ورحل عنهم إلى طرابلس وحاصرها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير، وأقام محاصراً لها عشرة أشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها، ونهبت منها أموال للتجار وغيرهم، ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة، فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب، فبادر مسرعاً وخرج إلى لقائهم، فلما وصل إلى المزيريب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال، فأقام هناك أياماً، فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها، فعاد مسرعاً إلى الشام، وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المساء، وبات كل منهم في محله، ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نائم وعساكره أيضاً هامدة، فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم، فحضر إليه كتخداه وأيقظه من منامه، وقال له إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك، فقام في الحين وخرج هارباً وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط، ونهبت أمواله وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة، ولم يزل حتى وصل إلى حماة، فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها، وطردوه فذهب إلى سيجر، وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود، ومنها إلى بلدة تسمى ريمة، ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام، ثم توجه إلى نواحي إنكاهية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور، ثم إلى السويدة، ولم يبق معه سوى فرس واحد، ثم إنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في حضوره إلى مصر، فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به، فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور، فلاقاه صاحب مصر وأكرمه، وقدم إليه خيولاً وقماشاً ومالاً، وأنزله بدار واسعة بالأزبكية، ورتب له خروجاً زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب، وجميع اللوازم المحتاج إليها، وأنعم عليه بجوائز وغير ذلك، وأقام بمصر هذه المدة، وأرسل في شأنه إلى الدولة، وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا، ما عدا ولاية الشام، وحصلت فيه علة ذات الصدر، فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيداً عنه، ويذهب إليه جماعة من الحكماء من الإفرنج وغيرهم، ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين، فلم ينجح فيه علاج، وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء، ولم يزل مقيماً هناك حتى اشتد به المرض، ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، وحملت جنازته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء، ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه. وكانت مدة إقامته بمصر نحو الست سنوات، فسبحان الحي الذي لا يموت. وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط، ونهبت أمواله وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة، ولم يزل حتى وصل إلى حماة، فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها، وطردوه فذهب إلى سيجر، وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود، ومنها إلى بلدة تسمى ريمة، ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام، ثم توجه إلى نواحي إنكاهية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور، ثم إلى السويدة، ولم يبق معه سوى فرس واحد، ثم إنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في حضوره إلى مصر، فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به، فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور، فلاقاه صاحب مصر وأكرمه، وقدم إليه خيولاً وقماشاً ومالاً، وأنزله بدار واسعة بالأزبكية، ورتب له خروجاً زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1601 وجميع اللوازم المحتاج إليها، وأنعم عليه بجوائز وغير ذلك، وأقام بمصر هذه المدة، وأرسل في شأنه إلى الدولة، وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا، ما عدا ولاية الشام، وحصلت فيه علة ذات الصدر، فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيداً عنه، ويذهب إليه جماعة من الحكماء من الإفرنج وغيرهم، ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين، فلم ينجح فيه علاج، وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء، ولم يزل مقيماً هناك حتى اشتد به المرض، ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وإحدى وثلاثين، وحملت جنازته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء، ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه. وكانت مدة إقامته بمصر نحو الست سنوات، فسبحان الحي الذي لا يموت. الشيخ يوسف بن بدر الدين المغربي بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المراكشي السبتي المالكي المصري مولداً الدمشقي إقامة إمام لا يبارى وهمام في ميدان العلوم لا يجارى، قد اتصف بالعلم والعمل، ونال من مرغوبه فوق ما يتعلق به الأمل، ورقا فضله وفاق، واشتهر فضله في الآفاق، وكان ورعاً زاهداً تقياً عابداً، له شعر رقيق ونثر أنيق، ومحاضرة لطيفة، ومذاكرة ظريفة، وسيرة حسنة، وصفات مستحسنة، قرأ على السادة الأفاضل إلى أن جمع الفضائل، ومما اتفق له وكتب في صحيفته أن بعض الأروام القاطنين في دمشق الشام استولى على الدار التابعة لدار الحديث الأشرفية الواقعة في العصرونية ثم ضم إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1602 الزاوية الغربية من المدرسة المرقومة التي كانت محل تدريس الإمام النووي قدس سره ومحل زاويته للأحاديث، فصارت محلاً لوضع براميل الخمر، فتعرض المترجم المرقوم وطلب إعادة المحل لحاله، ورفع الأمر إلى الوالي، فلم تلتفت الحكومة إلى دعواه، فتوجه المترجم إلى الأستانة وتعاطى أسباباً كثيرة لإنقاذ هذا المحل من أيدي الرومي، إلى أن استحصل فرماناً سلطانياً في ذلك، فعاد إلى الشام وقدمه إلى الوالي فطرحه في زوايا الإهمال، وبقي الأمر على ذلك، ولم يقع المترجم على ثمرة، إلى أن جاء الأمير السيد عبد القادر المغربي أمير الجزائر من فرانسا إلى الأستانة، اجتمع به المترجم وشكى الأمر إليه، ومشى مع الأمير في العود إلى الأستانة، بقصد الرحلة إلى المدينة الشريفة والإقامة بها، وبقي حضرة الأمير في بروسة بعد ذلك مدة طويلة، نحو خمس سنوات، ثم إنه لما توالت هناك الزلازل، وخربت كثيراً من المحلات، وخرجت الناس من العمران وسكنت في الصحراء، رحل الأمير إلى دمشق الشام وأقام بها، ورأى الأمر كما أخبره المترجم، فأخذته الحمية الدينية والغيرة الإسلامية، لإنقاذ هذا المحل، فأحضر الرومي ودفع له مالاً جزيلاً واشتراه منه، وجعله وقفاً على المترجم وعقبه، وأمر بترميم المسجد والمدرسة على نفقته، ثم أرسل خبراً إلى المترجم المرقوم إلى المدينة المنورة، وبعد حضوره من المدينة قرأ حضرة الأمير صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري في المدرسة المرقومة، وكان ختامه في اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف، وعند الختم قدم المترجم هذه القصيدة للأمير السيد عبد القادر: بك المسرات قد نالت أمانيها ... يا نعمة ما لها شيء يدانيها إن كان عيد الهنا تهنى بموسمه ... فالعيد كونك يا أقصى أمانيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1603 يا نجل فاطمة الزهراء من فضلت ... طراً نساء الدنا من ذا يضاهيها إني أهنيك بالعيد المبارك بل ... بكون مثلك في الدنيا أهنيها نعم أهني دمشق الشام إذ ظفرت ... بمثلك الآن تغدو في ضواحيها لما بدا وجهك الأبهى بساحتها ... ترادف الخير فيها مع نواحيها لا سيما سيدي ما كان مدخراً ... من فك دار حديث من خنا فيها بك استنارت وأحيا الله مربعها ... لما تلوت البخاري وسط ناديها تلاوة ما سمعنا من تلاه بها ... من عهد يحيى النواوي في مغانيها فاشكر إلهك إذ ولاك منه يدا ... ليست لغيرك جل الله معطيها وأبشر بخير فإن الله ذو كرم ... يخفي مقادير أشياء ويبديها في علمه غيب أسرار إذا بلغت ... آجالها فلذا المخلوق يبديها فالله يحبوكم عزاً كعزته ... أصحاب بدر الأولى ثم المضاهيها لازلت يا نجل محيي الدين مرتقياً ... أوج الكمالات باديها وخافيها ودام إشراقكم فيها ولكم ... بالبيت أرخت وأجعل دعاء بظهر الغيب جائزتي ... ولا تعد لي الدنا إذ لست أبغيها وللمترجم المرقوم هذه القصيدة الآتية، وقد أنشدها في ذلك اليوم عند ختم الصحيح بين يدي الأمير، فأحببت ذكرها لاشتمالها على فضل الممدوح حضرة الأمير، ودلالتها على فضل المترجم المذكور، وهي: باب القبول لهذا الختم قد فتحا ... فلاح من يمنه برق السعود ضحى وهب من روضة الرضوان عارفه ... أضحى بها القلب مسروراً ومنشرحاً أما ترع السعد قد لاحت بشائره ... وطائر اليمن في أدواحه صدحاً وهذه أوجه الإقبال مسفرة ... والوقت بالبشر والإقبال قد سمحا فسل إلاهك ما ترجوه من أمل ... واضرع غليه فوجه القرب قد وضحا وابسط يديك إلى مولاك مبتهلا ... فسعي من أم باب الله قد نجحا إن البخاري معلوم الإجابة في ... ما أمه المرء في أقرانه ونحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1604 فما توسل محزون به ورجا ... إلا وأبدل من أحزانه فرحا ولا تلاه لكشف الضر ذو حرج ... إلا تباعد عنه الضر وانفسحا ولا تنفس من أنفاسه أرج ... إلا أتى فرج باللطف مفتتحا فالهج به ورواة فيه قد وصلوا ... به حديث رسول الله متضحا هم الأئمة تجلى كل داجية ... بنورهم وهم الأقطاب والصلحا وهم أولو القرب في دنيا وآخرة ... والسادة القادة الهادون والنصحا أهل الحديث حماة الدين تابعهم ... في متجر الحق والتحقيق قد ربحا فازوا بدعوة خير الخلق ما وجدوا ... إلا ونور الهدى من وجههم لها رووا حديث رسول الله عن كتب ... غضاً طرياً عليه الصدق متضحا وقد نفوا كل شك عن شريعته ... فأرغموا أنف من للشك قد جمعا جزاهم الله خيراً عن نبيهم ... ودينه وحباهم أجر من نصحا وقد تسامى ابن إسماعيل في شرف ... بهم فنال العلا والفخر والمدحا أدى إلينا صحيحاً من حديثهم ... بجامع فاق ترتيباً ومصطلحا آتاه مولاه أجر المحسنين فقد ... أهدى المحدث عقداً ما له طمحا قد اعتنى كل ذي دين وذي رشد ... به فحاز به التقديم والمنحا ورددوا مرده في كل آونة ... يرجون من يمنه تقريب ما نزحا وحاز قصب سباق في دراسته ... وفهمه عارف بالفضل قد رجحا في مسجد الأشرف السلطان ما وسما ... دار الحديث بدرس أبهر الفصحا ضبطاً وبحثاً مع الإتقان مقتضياً ... آثار من حلها من سادة صلحا مثل الإمام النواوي والمضاهي له ... ممن على منهج الإرشاد قد سبحا فالله ينفعنا فضلاً بجاههم ... ويكشف الكرب عن ذا الجمع والترحا مولى به ملة الإسلام باسمة ... والدين عال وحال الناس قد صلحا فكفه لذوي الحاجات بحر ندى ... وسيفه لضلال الكافرين محا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1605 وصيته ألبس الإسلام عزته ... وعلمه لمعاني الدين قد شرحا نور النبوة يبدو في أسرته ... وسرها من حلى أخلاقه وضحا قد أكسب الدين رفعاً والعلوم حلا ... فالكفر أصبح والعصيان منطرحا وعمر العمر بالطاعات مجتهدا ... في أشهر الخير للخيرات مقترحا أدم إلهي لعز الدين عبدك من ... للقادر انضاف وامنحه العلا منحا هو الإمام ابن محي الدين من ظهرت ... منه الكمالات في الدنيا كشمس ضحى من قام لله في أمر الجهاد ومن ... غدا به صدر دين الله منشرحا في عصرنا ما سمعنا من سواه حبى ... مثل الذي نال أو طرف كهو لمحا أضحى له وزرا في كل نائبة ... تعرو وحصناً حصيناً كلما سنحا وجاء للدرس والإملا جهابذة ... للبحث إن عد أو للفهم إن جنحا قد لازموه ونالوا من معارفه ... ما يخرس اللسن أو ما يبهر الفصحا فليهنأ الحاضرون نيل مقصدهم ... من الفوائد إن الباب قد فتحا وليسأل القوم ما شاءوا لأنفسهم ... من فضله الجم إن الله قد منحا والعلم أفضل ما ازدان اللبيب به ... وخير ما اغتبق النحرير واصطبحا وأسعد الناس من كانت بضاعته ... علم الحديث الذي قد صح واتضحا وأسند العلم أخذاً عن أئمته ... فنال من علية الإسناد ما اقترحا وللبخاري رجال يستغاث بهم ... في المحل إن حل أو في الخطب إن قدحا بجاههم أسأل الرحمن مغفرة ... ورحمة تذهب الأحزان والترحا ونكبة لعدو الدين عاجلة ... تدير بالهلك والتدمير كل رحا بك انتصرنا وأنت الله ناصرنا ... فالنصر منك لمن يدعوك ما برحا إنزل بهم يا شديد البطش قارعة ... تكسوهم الذل والتبديد والبرحا وامدد بنصرك والتأييد عبدك من ... أضفته للمجيد القدر ممتدحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1606 وانظم به شمل هذا الدين واكس به ... جماعة المسلمين الأمن والفرحا واجعل بطاعته يا رب عصمتهم ... وألف الكل واهد كل من نزحا وزده حلماً وتوفيقاً وعافية ... واجعله أفضل من أمسى ومن صبحا وارفع عماد الهدى والدين واحم به ... شرع النبي وخذ من زاغ أو جمحا واحفظ بطانته أركان دولته ... ممن أعان على خير ومن نصحا ولا تدع لذوي العدوان قائمة ... وطهر الأرض ممن عاث أو مرحا بخاتم الرسل المختار سيدنا ... محمد من به باب الهدى انفتحا ما خاب من جعل المختار واسطة ... ووصلة للذي يرجوه واقترحا فإنه باب فضل الله ما برحت ... سحائب الجود منه تمطر المنحا ما نال ذو مطلب دنيا وآخرة ... إلا استعار من المختار ما منحا صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس وما سار عيس بالحجيج ضحى والآل والصحب ما انجاب الظلام وما ... ورق على غصن أيك ناح أو صدحا أو قال يوسف بدر الدين مبتهلا ... باب القبول لهذا الختم قد فتحا وللمترجم قصائد شهيرة ومقاطيع كثيرة، وتأليفات بديعة، وكتابات رفيعة، وأسانيد عالية، وأساتذة ذوو رتبة سامية. وقد أجازني بجميع ما تجوز له روايته عن مشايخه العظام، وقادته الكرام، وقد انتفعت بفوائده، وارتضعت من ثدي عوائده، وأجازني أيضاً بسند عال، ينتهي فيه إلى القاضي شمهورش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الالتفات إلي حسن الثناء علي، يذاكرني بمشكلات المسائل، ويعرض لي لأولى جواب أجلا الوسائل، وكان يطلب مني كثيراً قراءة حصة من القرآن، على طريقة التجويد والإتقان، وكان يحفظ القرآن الكريم المصون، وكثيراً من القواعد والمتون بأنواع الفنون، ويستشهد بها لإظهار الصواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1607 ولا يسأل عن شيء إلا وبأحسن الأجوبة أجاب. وله شرح على مولد العلامة الدردير، لقد حمله من المعارف ما يحتاج إليه كل نحرير، وحضر في الجامع الأزهر، والمحل الأنور، على أفاضل سادة وجهابذة قادة، كالشيخ إبراهيم الباجوري، والشيخ محمد الأمير، وأمثالهما من كل همام خبير، وساح في كثير من الأقطار وأخذ عن علمائها الأخيار، حتى شهد له العموم بأنه قطب دائرة المنطوق والمفهوم. وكان له مع والدي محبة عظيمة، ومودة جسيمة، ومذاكرات تشهد لهما بالفضل والسيادة، ونصائح تدل على سلوكهما مناهج السعادة. وكان كثير التلاوة، ملازماً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بالشريعة الغراء لا ينفك عن العمل بها إن فعل أو تكلم، متخلقاً بالأخلاق النبوية متحلياً بالشمائل الأحمدية، إن جلس في مجلس كان نقطة مدار كلامه، وواسطة عقد نظامه. مع ما عنده من الجسارة في إظهار الملائم، والديانة التي دعته أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان لا يهاب في الحق كبيرا، ولا يخشى حاكماً ولا وزيرا، فلذلك كان يهابه كل من رآه، ويتأمل منه الخير كل من رجاه، وقد كان منهل لكل وارد، وملجأ لكل راج وقاصد، ولم يزل على حاله متزايداً في تقواه وكماله، مستقيماً على أطواره متحلياً بأجمل أوطاره، إلى أن دعاه المنون لمقامه الأجل المصون، فلبى الدعوة العليا واختار الآخرة على الدنيا، سنة تسع وسبعين ومائتين وألف ودفن في تربة باب الصغير. الشيخ يوسف بن الشيخ عمر البشتاوي النابلسي محتداً الدمشقي وطنا النقشبندي طريقة فاضل نجيب وعالم أريب، وغصن في رياض المعالي رطيب، وبدر في سماء الأدب لا يغيب. لم يزل صدراً للإفادة، يرعى في ربيع فضله ذوو الاستفادة، وله نظم ونثر تنقله الركبان، وتقف دونه سوابق الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1608 والاستحسان، قد ألقى الدهر له مقاليد الإسعاد، وجعل من جملة مريديه الحاج محمد نجيب باشا والي بغداد، واطلع محيا بدره في أفق الجلالة والتعظيم، وخفض له جناح ذوي الفضل والتكريم، ومن جملة نظمه مستغيثاً بسيدنا يحيى الحصور صلى الله عليه وسلم: باكر مصل بني أمية في الدجا ... واعطف على كنز السماح معرجا وارقب مهب الجود من أعتابه ... والزم لذياك المقام أخا الحجا يمم وقف متضرعاً بجنابه ... وابسط أكف الفقر في باب الرجا وادعوه يا يحيى الحصور وقل له ... عطفاً على جان إليك قد التجا يا سيداً وصف الإله كماله ... في محكم التنزيل أضحى مدرجا ذو الجاه يرجى في الخطوب ولم يزل ... عند الشدائد مسعفاً ومفرجا إني رجوتك حاجة فاشفع بها ... عند الكريم ومن رجاك فقد نجا عجل بها يا ابن الكرام أجب أجب ... فالأمر ألجأ للجاج وأحوجا سل خالقي فيما رجوت إجابة ... واسأله لي من كل ضيق مخرجا صلى عليك الله ربي دائماً ... ما البدر أشرق فاستنار به الدجا ومن نظمه: زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد حملت إليهما لو كنت حيث هما وكانا بالبقا ... زاراك حبواً لا على قدميهما ما كان ذنبهما إليك فطالما ... منحاك نفس الود من نفسيهما كانا إذا ما أبصرا بك علة ... جزعا لما تشكو وشق عليهما كانا إذا سمعا أنينك أسبلا ... دمعيهما أسفاً على خديهما وتمنيا لو صادفا لك راحة ... بجميع ما تحويه ملك يديهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1609 فنسيت حقهما عشية أسكنا ... دار البلا وسكنت في داريهما فلتلحقنهما غداً أو بعده ... حتماً كما لحقا هما أبويهما ولتندمن على فعالك مثل ما ... ندما هما حقاً على فعليهما بشراك لو قدمت فعلاً صالحاً ... وقضيت بعض الحق من حقيهما وقرأت من آي الكتاب بقدر ما ... تسطيعه وبعثت ذاك إليهما فاحفظ حفظت وصيتي واعمل بها ... فعسى تنال الفوز من بريهما وله نثر بديع وإنشاء قدره رفيع، توفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، مدى الليالي والأيام. الشيخ يوسف بن محمد البطاح الأهدل الشافعي العلامة الماجد، والتقي النقي الراكع الساجد، نخبة العلماء وزبدة الفضلاء، ولد سنة ألف ومائة و ..... ثم بعد حفظ القرآن وتجويده مع الإتقان أخذ العلوم العقلية، والمعارف النقلية، عن السيد العلامة والسند الفهامة، سليمان بن يحيى الأهدل، ولازمه كثيراً وكان لعمري بالملازمة جديرا، وأخذ عن أهل اليمن والحرمين الشريفين، وكانت له اليد الكولى في كل علم بلا ريب ولا مين. وتفرغ بمكة والمدينة تفرغاً عظيماً لنشر العلوم، وبرع وفاق على ذوي المنطوق والمفهوم، وألف ودرس ووقع به النفع العام، ومن مؤلفاته: إفهام الأفهام شرح بلوغ المرام في مجلدين، وكان رحب الصدر لين الجانب، له في الدرس صبر عظيم وتقدير يزدري بالدر النظيم، وقد قال فيه صاحب النفس اليماني: العالم الفاضل النحرير أفضل من ... بث العلوم فأروى كل ظمآن مات شهيداً في الوباء العام الواقع سنة ألف ومائتين وست وأربعين الذي مات فيه خلائق لا يحصون عدداً من الحجاج، حيث انتهى الأمر إلى العجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1610 عن دفن الأموات، وخلت في تلك السنة بيوت كثيرة في جدة ومكة من أهاليها بحيث لم يبق فيها أحد، وتركت أموال عظيمة لا يدري من يستحقها من الورثة، وكان ابتداء هذا الوباء من أرض الحبشة فكان يموت كل يوم أكثر من ألف، وخلا كثير من القرى بحيث لم يبق فيها إلا المواشي والأموال، ولا يزال ينتقل هذا الوباء في النواحي والأقطار، والقرى والأمصار، حتى عم البلاد الشامية والمصرية، والتركية والعربية، وكان تاريخ هذا العام لنهلكن الظالمين، ومن الذي لم يظلم نفسه، نسأل الله العفو والعافية والسلامة الوافرة السامية، ودفن ذلك المترجم في مكة في مقبرة المعلى رحمه الله تعالى آمين. الشيخ يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي الزبيدي الحنفي رحمه الله تعالى قد انكب على العلم واجتهد، حتى تميز بين العلماء وانفرد، واقد ترجمه العلامة الشوكاني بقوله: شيخنا المسند الحافظ، ولد تقريباً عام ألف ومائة وأربعة عشر ونشأ بزبيد، وأخذ عن علمائها، ومنهم والده، وبرع في العلوم دراية ورواية إلى أن صار حامل لواء الإسناد في آخر أيامه، ووفد إلى صنعاء في شهر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وسبع، وسمع منه العدد الكثير والجم الغفير. وقد رووا عنه أسانيد الحافظ الشيخ إبراهيم الكردي، وهو يرويها عن أبيه عن جده علاء الدين، عن الشيخ إبراهيم. مات رحمه الله تعالى سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة، وكان رحمه الله تعالى له حب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويقول عند ذكر حبه لهم: وهل يستوي ود المقلد والذي ... له حجة في حبه ودلائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1611 يوسف بن إسماعيل أبي يوسف بن إسماعيل بن محمد ناصر الدين النبهاني نسبة لبني نبهان قوم من عرب البادية توطنوا منذ أزمان قرية أجزم بصيغة الأمر الواقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين من البلاد المقدسة، وهي الآن تابعة لقضاء حيفا من أعمال عكا التابعة لولاية بيروت أقول أن هذا الإمام، والشهم الأديب الهمام، قد طلعت فضائل محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت مطالع شمائله بآدابه المعجبة البواهر، فهو الألمعي المشهود له بقوة الإدراك، واللوذعي المستوي مقامه على ذروة الأفلاك، وله ذكاء أحد من السيف إذا تجرد من قرابه، وفكر إذا أراد البحر أن يحكيه وقع في اضطرابه، ونثر يزري بالعقد الثمين والدر المنثور، وشعر يدل على كمال الإدراك وتمام الشعور، فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح، فلعمري لقد أصبح في الفضل وحيداً، ولن تجد عنه النباهة محيصاً ولا محيدا، وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أثبتها وخلدها، إذا تليت في المجامع، اهتزت لها الأعطاف وتشنفت المسامع. ومن جملة آثاره، الدالة على علوه وفخاره، تآليفه الشريفة، التي من جملتها أفضل الصلوات، على سيد السادات، ووسائل الوصول، إلى شمائل الرسول، والشرف المؤبد لآل محمد، صلى الله عليه وسلم وقد اطلعت على هذا الكتاب، فوجدته قد ارتدى بالكمال وتمنطق بالصواب، وقد اشتمل آخره على شذرة من ترجمة هذا الهمام، قد ترجم بها نفسه فنقلتها بحروفها تتميماً للمرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1612 وهي: ولدت في قرية أجزم المذكورة آنفاً سنة خمس وستين تقريباً، وقرأت القرآن على سيدي ووالدي الشيخ الصالح الحافظ المتقن لكتاب الله الشيخ إسماعيل النبهاني، وهو الآن في عشر الثمانين كامل الحواس قوي البينة جيد الصحة، مستغرق أكثر أوقاته في طاعة الله تعالى، كان ورده في كل يوم وليلة ثلث القرآن، ثم صار يختم في كل أسبوع ثلاث ختمات، والحمد لله على ذلك، " قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " ثم أرسلني حفظه الله وجزاه عني أحسن الجزاء إلى مصر لطلب العلم، فدخلت الجامع الأزهر يوم السبت غرة محرم الحرام افتتاح سنة ثلاث وثمانين بعد المائتين والألف، وأقمت فيه إلى رجب سنة تسع وثمانين، وفي هذه المدة أخذت ما قدره الله لي من العلوم الشرعية ووسائلها، عن أساتذة الشيوخ المحققين، وجهابذة العلماء الراسخين، من لو انفرد كل واحد منهم في إقليم، لكان قائد أهله إلى جنة النعيم، وكفاهم عن كل ما عداه في جميع العلوم، وما يحتاجون إليه من منطوق ومفهوم، أحدهم، بل أوحدهم، الأستاذ العلامة المحقق، والملاذ الفهامة المدقق، شيخ المشايخ وأستاذ الأساتذة سيدي الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين عن نحو التسعين سنة، وقد قضى هذا العمر المبارك الطويل في قراءة الدروس، حتى صار أكثر علماء العصر تلاميذه إما بالذات أو بالواسطة، لازمت دروسه رحمه الله تعالى ثلاث سنوات، وقرأت عليه شرحي التحرير والمنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري بحاشيتهما للشرقاوي والبجيرمي، وقد أجازني رحمه الله تعالى بإجازة فائقة وهي هذه بحروفها. بسم الله الرحمن الرحيم لك الحمد على مرسل آلائك ومرفوعها، ولك الشكر على مسلسل نعمائك وموضوعها، بحسن الإنشاء وصحيح الخبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1613 يا من تجيز من استجازك وافر الهبات، وتجير من استجارك واعر العقبات، فيغدو موقوفاً على مطالعة الأثر، ما بين مؤتلف الفضل ومتفقه، ومختلف العدل ومفترقه، جيد الفكر سليم الفطر، يجتنى بمنتج قياسه شريف الفوائد، ويجتبى بمبهج اقتباسه شريف الفرائد. ويحلى نفيس النفوس بعقود العقائد الغرر، فإن صادفه مديد الإمداد، وصادقه مزيد الإنجاد، وصفا مشربه الهني ولا كدر، ووجد درر الجواهر ويا نعم الوجادة، بادر عند ذلك بالاستفادة والإفادة، ولا أشر ولا بطر، فبذل المعروف وبدل المنكر، إذ ليس عنده إلا صحاح الجوهر، معتنى وما قتنى، غيرها عندما عثر، لا يزور ولا يدلس، ويطهر ولا يدنس، ولا يعاني الشرر، فيا من من على هذا المنقطع الغريب، ومنحه منحة المتصل القريب، امنحني السلامة في داره ونجني من سقر، ومنك موصول صلات صلواتك ومقطوعها، وسلسل سلسبيل تسليماتك ومجموعها، على سندنا وسيدنا محمد سيد نوع البشر، وعلى آله وأصحابه، وحملة شريعته وأحبابه، ومن اقتفى أثرهم وعلى جهاد نفسه صبر. أما بعد فلما كان الإسناد مزية عالية، وخصوصية لهذه الأمة غالية، درن الأمم الخالية اعتنى بطلبه الأئمة النبلاء أصحاب النظر، إذ الدعي غير المنسوب، والقصي غير المحسوب، وسليم البصيرة غير أعشى الفكر، ولما كان منهم الإمام الفاضل، والهمام الكامل، والجهبذ الأبر، اللوذعي الأريب، والألمعي الأديب، ولدنا الشيخ يوسف بن الشيخ إسماعيل النبهاني الشافعي أيده الله بالمعارف ونصر، طلب مني إجازة ليتصل بسند ساداتي سنده، ولا ينفصل عن مددهم مدده، وينتظم في سلك قد فاق غيره وبهر، فأجبته وإن لم أكن لذلك أهلاً، رجاء أن يفشو العلم وأنال من الله فضلاً، وأنجو في القيامة مما للكاتمين من الضرر، فقلت: أجزت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1614 ولدي المذكور بما تجوز لي روايته، أو تصح عني درايته، من كل حديث وأثر، ومن فروع وأصول، ومنقول ومعقول، وفنون اللطائف والعبر، كما أخذته عن الأفاضل السادة، الأكابر القادة، مسددي العزائم في استخراج الدرر، منهم أستاذنا العلامة ولي الله المقرب، وملاذنا الفهامة الكبير ثعيلب، بوأه الله أسنى مقر، عن شيخه الشهاب أحمد الملوي ذي التآليف المفيدة، وعن شيخه أحمد الجوهري الخالدي صاحب التصانيف الفريدة، عن شيخهما عبد الله بن سالم صاحب الثبت الذي اشتهر، ومنهم شيخنا محمد بن محمود الجزائري عن شيخه علي بن عبد القادر بن الأمين، عن شيخه أحمد الجوهري المذكور الموصوف بالعرفان والتمكين، عن شيخه عبد الله بن سالم الذي ذكره غبر، ومنهم الشيخ محمد صالح البخاري، عن شيخه رفيع الدين القندهاري، عن الشريف الإدريسي عن عبد الله بن سالم راوي أحاديث الأبر، ومنهم سيدي محمد الأمير، عن والده الشيخ الكبير، عن أشياخه الذين حوى ذكرهم ثبته الشهير، ومنهم غير هؤلاء، رحم الله الجميع ولي وللمجاز ولهم أكرم وغفر، وهؤلاء وغيرهم يروون عن جم غفير، وجمع كثير، كالشيخ الحفني والشيخ علي الصعيدي وغيرهما فمسانيدهم مسانيدي فما أكرمها من نسبة وأبر، وقد سمع مني المجاز كتباً عديدة، معتبرة مفيدة، كالتحرير والمنهج، وفقه الله لمحاسن ما به أمر، آمين، بجاه طه الأمين، في 18 رجب سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين هجرية. الفقير إليه سبحانه إبراهيم السقا الشافعي بالأزهر عفي عنه. ومن أشياخي المذكورين سيدي الشيخ المعمر العلامة السيد محمد الدمنهوري الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وست وثمانين عن نحو التسعين سنة، وسيدي العلامة الشيخ إبراهيم الزرو الخليلي الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وسبع وثمانين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1615 عن نحو السبعين، وسيدي العلامة الشيخ أحمد الأجهوري الضرير الشافعي المتوفى سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين عن نحو الستين، وسيدي العلامة الشيخ حسن العدوي المالكي المتوفى سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين عن نحو الثمانين، وسيدي العلامة الشيخ السيد عبد الهادي نجا الأبياري المتوفى سنة ألف وثلاثمائة وخمس وقد أناف على السبعين، رحمهم الله أجمعين، وجمعني بهم في مستقر رحمته بجاه سيد المرسلين. ومنهم وحيد مصر وفريد هذا العصر سيدي العلامة الشيخ شمس الدين محمد الأنبابي الشافعي شيخ جامع الأزهر الآن، لازمت دروسه سنتين في شرح الغاية لابن قاسم والخطيب وفي غيرهما، وسيدي العلامة الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، وسيدي العلامة الشيخ عبد القادر الرافعي الحنفي الطرابلسي شيخ رواق الشوام، وسيدي العلامة الشيخ يوسف البرقاوي الحنبلي شيخ رواق الحنابلة حفظهم الله، وأطال أعمارهم وأدام النفع بعلومهم. ولي شيوخ غيرهم، منهم من هو موجود الآن، ومنهم من قد دخل في خبر كان، وكلهم علماء أعلام، جزاهم الله عني خيراً وجمعني بهم في دار الكرامة والسلام. الشيخ يوسف بن عبد القادر بن محمد المشهور بالأسير شيخ فاضل، وعالم كامل، ذو أسلوب حسن، وبلاغة ولسن، وقريحة جيدة، وفكرة لما تبديه مجودة، قد سار ذكره مسير المثل، واشتهر أمره اشتهار الأثل، وانتفع به عدد وافر، وأذعن بفضله أعيان الأكابر، ولد في مدينة صيدا في حدود سنة ألف ومائتين واثنتين وثلاثين، وتعلم القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، على الشيخ إبراهيم عارفة، وجوده على الشيخ علي الديربي، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على الشيخ محمد الشرنبالي نحو خمس سنين، ثم توجه إلى دمشق الشام، فحضر على أعيان علمائها الأعلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1616 وأقام في المدرسة المرادية ستة أشهر، وذلك سنة سبع وأربعين بعد المائتين وألف، ثم بلغه وفاة والده فعاد إلى وطنه وبلده، وأقام بها نحو ثلاث سنين يتعاطى التجارة في مكان أبيه، ويربي إخوته مع عدم تركه لطلب العلم، ثم توجه إلى الأزهر الشريف فأقام به سبع سنين، وقرأ فيه على جملة من العلماء الأعلام، منهم الشيخ محمد الشبيني والشيخ محمد الطنتدائي والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ أحمد الدمياطي وغيرهم، ثم عاد إلى بلده صيدا وقرأ بها الفقه للعموم، ثم توجه إلى طرابلس الشام وأقام بها نحو ثلاث سنين، فحضر عليه بها جماعة من أفاضلها، ثم تقلد القضاء في لبنان نحو سبع سنين، ثم صار معاوناً لقاضي بيروت، ولم يزل يتعاطى التدريس للعموم والخصوص، وقد ألف جملة من الكتب، منها رائض الفرائض، ومنها شرح أطواق الذهب، وغيرهما، ومن نظمه: لطيبة الغراء ذات النور ... سر بي أسر فإن بي لتربها الكافور ... شوقاً أسر أبقى إذا ما لاح للبرق ابتسام ... من نحوها أو فاح لي عرف انتسام أو مر بي ذكر لتلك الدرو ... كالمحتضر قد جد بي وجدي وأغراني الغرام ... إلى مقام المصطفى خير الأنام من جاء كالمصباح في الديجور ... يهدي البشر وقام يسعى في صلاح المهتدين ... ثم انتحى للماردين المعتدين مثل انتحاء الباز للعصفور ... حتى قهر وجاء للخلق بقرآن مجيد ... في الدين والدنيا بلا شك مفيد ألفاظه كاللؤلؤ المنثور ... فصح غرر حلو المعاني لذة للسامعين ... يا حبذا هاد إلى الحق المبين به انمحت آثار كل زور ... لما ظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1617 كم من براهين على صدق الرسول ... فيه وكم داع لأرباب العقول إلى الهدى والعمل المبرور ... وكم عبر محمد رسول رب العالمين ... بر رؤوف راحم بالمؤمنين وقد غزا بجيشه المنصور ... من قد كفر وعنه قد أخبرنا موسى الكليم ... بأنه رسول مولانا الكريم وخط في كتابه المسفور ... هذا الخبر كذاك روح الله عيسى عنه قال ... بأنه ليس لشرعه زوال وذاك في إنجيله المسطور ... قد انسطر يا ربنا احشرنا جميعاً آمنين ... ومن نحب من خيار المسلمين تحت لواء عزه المنشود ... يوم الحذر عليه من رب الصلاة والسلام ... وآله وصحبه الغر الكرام ما انتظم الورد مع المنثور ... غب المطر وغرد القمري مع الشحرور ... فوق الشجر ومن موشحاته التي عارض بها الأندلسيين قوله: يا بريقاً من ربى نجد بدا ... حي عني حي ذاك الوطن لست أنسى حسن أنس أبدا ... كان كالعروس بذاك المسكن دور شهد الله شجاني ذكره ... لأريج جاء من أرجائه فعلي اليوم حقاً شكره ... والثنا مني على أثنائه لا تلم صبا تبدى سكره ... إن تلا الأنباء عن أبنائه هم بدور الدور أرباب الندى ... وأولو الحسن وأهل اللسن سكنوا الوادي دهراً فغدا ... كسما الدنيا كذا في حضن دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1618 بينهم لي فرقد قد أشرقا ... ورعى مني الحشا لا ذممي يتهادى بين غزلان النقا ... كتهادي البدر بين الأنجم مفرد العصر جمالاً مطلقا ... فلذا أسري إليه ينتمي منجد لكنه ما أنجدا ... متهما في وصله من شجن مخلف وعد وصالي سرمدا ... وإذا أوعدني لم يخن دور يا له ظبياً بعقلي لعبا ... طلق الوجه وقيد الناظر فاق إن قيس ببلقيس سبا ... مع سنا بحسن باهر نونه أبدى سبيلاً عجبا ... صيده الصيد بجفن فاتر ومن الشام له خال شدا ... بلبلاً في مصر حسن الحسن ومن الحور له القلب فدا ... طرفه الهندي اليماني اليزني دور كنز در ثغره قد حرسا ... بارق رطب أنيق منتظم عجباً كيف به قد غرسا ... في عقيق وبياقوت ختم يا حريقي لو أسا مني الأسى ... برحيق فيه بالريق وسم كنت أروي القلب من حر الصدى ... وأرى طرفي لذيذ الوسن وأصوغ الشعر شفعا مفردا ... في حلى الشهم الزكي الفطن دور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1619 هو ذو الفضل سليم سلما ... من عدو وظلوم وحسود طلب العلم فأمسى حلما ... فيه وازداد ارتقاء في السعود وهو من قوم فخام كرما ... زانهم مجد وأفضال وجود فهو في تلك المزيات اقتدى ... بأبيه ذي العلا عبد الغني من لأهل الفقر أضحى سنداً ... ودواماً عنده الفضل عني دور باسم شهر الصوم في القوم اشتهر ... وهو ذو فضل على باقي السنه وهو في الأعيان ذاك المعتبر ... مدحته في الصدور الألسنه ذو أياد بهرت جود المطر ... وهو في تلك الوجوه الحسنه كعبة للجود ركن للجدا ... محمل المدح لكل الألسن فهو في عصر سعيد وجدا ... ثم لا زال بطول الزمن دور ملتقى الأبحر تلقى داره ... وبها المجد ينادي بالفصيح أبشروا بالسعد يا أقماره ... واهنأوا بالمنزل العالي الفسيح وتلا بشر بها آثاره ... وبها رونقه زاه صريح فهي صرح بالمعالي مردا ... والمعالي وعلى التقوى بني مد باليمن وفيه شيدا ... قصرها دام بذاك المأمن دور وبنوا بانيه أبناء العلا ... كنجوم في سماء بل بدور قصروا الجهد على نيل العلا ... فاستطالوا وسواهم في قصور واستووا في أوجها حيث علا ... وعلى الأوجه منهم كل نور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1620 عندهم سوق المعالي والهدى ... نافق والكل بالعلم غني فهم الغر الكرام السعدا ... والثنا منهم عليهم ينثني دور لسليم الطبع أهدي جملا ... ذاك من حلفي ويا نعم الرفيق هو ممدوحي لدى كل الملا ... وهو حقا كامل حر رقيق فهو لا زال كريماً مفضلاً ... لذوي الحب ومسرور الصديق فأهنيه وأهدي منشدا ... بهداء شاديا في العلن فهنيئاً تم تاريخ بدا ... جليت شمس إلى البدر السني وله نظم كثير، ونثر بديع شهير، وقد نعاه الناعي ليلة السبت خامس ربيع الثاني سنة سبع وثلاثمائة وألف، فندبه كماله وفضله، وبكاه العلم وأهله، وحزن له البعيد والقريب، وأسف لفقده النسيب والغريب، وانفتح للتعازي والمراثي باب المقال، وانفسح للنوادب في تعداد محاسنه المجال، وعظم الكرب والهم، واشتد الخطب والغم، وقد ألبس الحزن بلدته لباس البوس، ووجه نحوها وجهه العبوس، وفي صباح ذلك اليوم حشر الناس لحضور مناحته، وشهود تشييع جنازته، وبعد تجهيزه والصلاة عليه وتوجيه أعالي الدعوات إليه، سار الناس بنعشه والنوح يحدوه، وصياح اللوعة لا يعدوه، إلى أن دفنوه، في مقبرة البشورة، ولا غرو فإنهم فقدوا من بلدهم فاضلاً عالماً عاملاً كاملاً، كان خير جليس مفيد، وملجأ للمتعلم والمستفيد، وما أحسن ما قيل من بديع الأقاويل: إلا إنما الدنيا نظارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1621 مستدركات بيان وإيضاح يقول الضعيف محمد بهجة البيطار: كان استعار مني الشيخان الجليلان محمد راغب الطباخ - مؤلف تاريخ حلب - ومحمد جميل الشطي مؤلف روض البشر - استعارا مني تاريخ الأستاذ الجد حلية البشر ونقلا منه ما فاتهما في تاريخيهما معزواً إلى المؤلف، رحمهم الله تعالى وأثابهم على عملهم خير الثواب. وأرى الآن أن أنقل ملاحظة للأستاذ الشطي كان كتبها بخطه، وهي محفوظة عندي، وأجيب عنها بما هو واضح للقراء. قال رحمه الله تعالى: يستغرب من أستاذنا المؤلف أنه لم يترجم شقيقه العلامة الفقيه الشيخ محمد البيطار، مع أنه ترجم ولده الشيخ محمود البيطار، فلا عجب إذا لم يترجم صديقيه العالمين الشيخ محمد الشطي و الشيخ أحمد الشطي ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، آمين اه والجواب عن هذا الاستغراب، ما نشرته في مقدمة الكتاب، وهو أن مؤلفه رحمه الله تعالى ورضي عنه، قد كتبه في أدوار متفرقة من أيام شبابه وكهولته وشيخوخته، ثم ترك الكتابة والتصحيح فيه قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات، لما أضر بيده اليمنى من الأسى والشلل القليل، إلى أن توفاه الله تعالى سنة 1335 هـ. غير أنك تجد في حلية البشر من الفوائد ما لا تجده في غيره، وقد اعتذرت عن المؤلف في كل ما يظهر فيه مجال للنظر أو موضع للنقد، بنحو ما تقدم من ضرورات ألجأته إلى ترك الكتابة. على أني استدركت بعض ما فات المؤلف أو سها عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1622 ومنه الترجمة لشقيقه الأكبر الشيخ محمد، فقد أوردتها في آخر من اسمه محمد من حرف الميم، وإني مورد هنا ما كتبه صديقنا الأعز الشيخ محمد جميل الشطي في تاريخه لصديقي المؤلف الشيخين محمد وأحمد الشطي، رحم الله الجميع رحمة واسعة. قال في تراجم أعيان دمشق في نصف القرن الرابع عشر الهجري ما نصه: الشيخ محمد الشطي ترجمه ولده سيدي لعم مراد أفندي فقال ما خلاصته: هو محمد بن حسن بن عمر بن معروف الشطي الحنبلي الدمشقي، العالم الفاضل الفقيه الفرضي الحيسوبي الهمام، كان من أعيان العلماء سخياً ودوداً حسن العشرة. ولد بدمشق في 10 جمادى الثانية سنة 1248، ونشأ في حجر والده العلامة، وقرأ القرآن وجوده وحفظه على الشيخ مصطفى التلي، ولازم دروس والده توحيداً وفقهاً وفرائض وحساباً ونحواً وصرفاً وغير ذلك، وبه تخرج وانتفع، واستجاز له والده المنوه به من أئمة دمشق وقتئذ الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ عبد الرحمن الطيبي ونزيل دمشق الشيخ محمد التميمي، فأجازوه، وروى عنهم حديث الأولية، ولازم بعد وفاة والده سنة 1274 هـ الشيخ عبد الله الحلبي فحضر عليه طرفاً من الحديث والفقه والنحو، ولما ورد إلى دمشق الشيخ محمد أكرم الأفغاني، لازمه مدة في علم الفلك وغيره، وكتب له إجازة عامة. وقد عني المترجم بالتأليف والجمع، فألف وجمع كتباً ورسائل جمة. منها في الفرائض رسالة الفتح المبين طبعت بدمشق سنة 313 ثم أعيد طبعها سنة 353 وكتاب صحائف الرائض، وقد جعل في كل صفيحة منه بحثاً خاصاً. ومنها في الهندسة بسط الراحة لتناول المساحة، اختصره من كتاب والده، وذيله بخريطة فيها رسم الأشكال الهندسية، مع بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1623 مساحتها بالأرقام، مطبوعة، وكان أرسلها إلى الأستانة، فأصدرت نظارة المعارف أمرها بطبعها ومكافأته عليها، وذلك سنة 292، ومنها في الفقه: توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية، نحو مائتي مادة، طبعت في مصر سنة 325 وتسهيل الأحكام فيما يحتاج إليه الحكام، نحو ألف مادة، والقواعد الحنبلية في التصرفات العقارية مطبوعة ومنها شرح على الدور الأعلى للشيخ الأكبر، وشجرة في النحو على طريقة الإظهار واختصر منسك والده ومعراجه مطبوع وجمع دفتراً كبيراً في تقسيم مياه دمشق وبيان أسهمها المترية، وله غير ذلك. وكان يميل إلى إحياء المذاهب المندرسة ونشرها، وله إطلاع واسع على أقوال المجتهدين، حتى إن العلامة محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق كان طلب منه جمع مسائل الإمام داود الظاهري، فجمع رسالة في ذلك قدمها إليه في أيام يسيرة، طبعت بدمشق سنة 1330. ثم ذكر وظائفه وأعماله مرتبة على السنين، وكانت وفاته سنة 1307، ودفن في مقبرة الذهبية بمشهد عظيم انتهى. قال: وقد ترجمه الأستاذ القاسمي في تاريخه المخطوط، والسيد تقي الدين في تاريخه المطبوع، رحمه الله وجزاه عنا خيراً، قال: وأعقب صاحب الترجمة أولاده الأربعة والدي العالم الفرضي عمر أفندي المتوفى سنة 337، والتقي معروف أفندي المتوفى سنة 317 والمتفنن مراد أفندي المتوفى سنة 314 والقاضي المتقاعد الشيخ حسن أفندي الباقي الآن سلمه الله اه. توفي الشيخ حسن في 28 جمادى الأولى سنة 1382 هـ 26 ت الأول 1962 رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1624 الشيخ أحمد الشطي هو أحمد بن حسن بن عمر الشطي الدمشقي، مفتني الحنابلة بدمشق، وأحد علمائها الأعلام، المحدث الفقيه الفرضي الحيسوبي. أستاذي وعم والدي. ولد في 24 صفر سنة 1251، ونشأ في حجر والده العلامة على أكمل تربية وأحسن أدب. وقد قرأ القرآن وجوده وحفظه على الشيخ مصطفى التلي، ثم لازم دروس والده من حديث وفقه وفرائض وحساب وهندسة ونحو وغير ذلك، وبه انتفع وتخرج، واستجاز له والده المنوه به من علماء دمشق وقتئذ: الكزبري والعطار والحلبي والطيبي والتميمي نزيل دمشق، فأجازوه، وروى عنهم حديث الرحمة بأولية حقيقية، واستجاز كلاً من الشيخ أحمد البغال والشيخ قاسم الحلاق فأجازاه، ولازم بعد وفاة والده الشيخ عبد الله الحلبي وحضر دروسه. ولما توفي والده سنة 274 قدم للتدريس في مكانه، فدرس في محراب الحنابلة من الجامع الأموي في محفل عظيم، واستمر يدرس به في رمضان إلى وفاته - وأما دروسه الخاصة في داره فكانت شائقة جداً، بحيث يجتمع عنده كثير من الطلاب، فيقرئهم في الحديث والتوحيد والفقه والفرائض والحساب والنحو. وكان حلو التقرير، حسن التعبير، طلق اللسان ثابت الجنان، ولم يؤلف شيئاً، وإنما كانت له حواش مفيدة على بعض كتب الفقه والفرائض، وقد انتفع به خلق كثير من دمشق ونابلس ونجد وحوران ودوما وغيرها، وفيهم علماء معروفون. وفي سنة 273 وجهت عليه من الدولة العثمانية رتبة تدريس ادرنة. وفي صفر سنة 288 وجهت عليه فتوى الحنابلة لدمشق، بإذن من مفتي دمشق العام، فأفتى في حوادث شتى، وفي سنة 295 ولي نيابة محكمة العمارة بدمشق. ولما توفي الشيخ محمد البرقاوي قاضي الحنابلة، ولي القضاء في مكانه واستقال من النيابة، ولم تطل مدته فيه حيث ألغي القضاء من أصله يومئذ، وكان ترك له أخوه سيدي الجد فرضية البلدية بدمشق، فاستقر بها وبالفتوى إلى وفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1625 وتولى هو والجد الموما إليه نظارة وتدريس المدرسة البادرائية، وكانا مرجع أهل دمشق في المناسخات والمساحات وتقسيم المياه والدور. وبالجملة فقد كان المترجم حسن من حسنات الدهر. وكانت وفاته فجأة عقب نزوله من بستان قرب الربوة، وذلك يوم الاثنين 12 صفر عام 1316 هـ ودفن في مقبرة الذهبية بمشهد حافل رحمه الله تعالى. وقد ترجمه الأستاذ القاسمي والشريف تقي الدين في تاريخيهما وأثنيا عليه كثيراً، وأعقب المترجم أولاده الأربعة، العالم الصوفي الشيخ مصطفى أفندي المتوفى سنة 1348 والنبيل طاهر أفندي المتوفى سنة 1356، والذكي سعيد أفندي المتوفى سنة 1315 رحمهم الله، والوالي المتقاعد عبد اللطيف الباقي الآن حفظه الله. وقد توفي 2 رجب سنة 1367 هـ رحمه الله تعالى. الشيخ محمد جميل الشطي يقول الضعيف محمد بهجة البيطار: بعد أن أوردنا تراجم الأعلام الثلاثة: الشيخ محمد بن حسن البيطار، والشيخين الأخوين محمد وأحمد الشطي، استجابة لاستدراك صديقنا الشيخ محمد جميل الشطي رحمه الله، رأينا أن نختم هذه التراجم بترجمته لنفسه مكتوبة بقلمه في كتابه روض البشر وبها نختم تراجم الأستاذ الجد البيطار لمؤلفه حلية البشر والحمد لله أولاً وآخراً. قال: جرى بعض المؤلفين والمؤرخين، على أن يترجموا أنفسهم في آخر كتبهم صوناً لسيرتهم من التشويه والعبث. وهي فكرة حسنة إذا لم يكن في الترجمة ما ينكره المعاصرون من أرباب العقل والفضل على أنا لا نكلف أحداً بشهادة أو مجاملة. وإنما نريد ذكر وقائع وحوادث ظهرت للعيان، وشهد بها الزمان والمكان، فها نحن نذكر من ذلك ما استحضره الفكر، وصلح للذكر، فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1626 كان مولدي بدمشق في 18 صفر سنة 1300 ومن الاتفاق الغريب أنها آخر سنة في هذا القرن الذي عنيت بتاريخه، ونشأت في حجر والدي عمر أفندي رحمه الله تعالى، وقرأت مبادئ العلوم على عمي مراد أفندي، ثم على الشيخ أبي الفتح الخطيب، وأخذت الفقه والفرائض عن والدي، ثم عن عمه الشيخ أحمد الشطي، وتلقيت طرفاً من الحديث عن العلامة الشيخ بكري العطار، ثم عن العلامة الشيخ بدر الدين المغربي، وحضرت دروس الأستاذ صاحب التآليف الشيخ جمال الدين القاسمي، وغيره من علماء دمشق، واستجزت بعض الشيوخ فأجازوني بما تجوز لهم روايته لفظاً وخطاً جزاهم الله عني خيراً - وقد طالعت بنفسي بعض كتب التفسير والحديث والفقه والفرائض وانتفعت بها والحمد لله. وقد ولعت بالأدب والتاريخ وأنا دون الخمسة عشر فنظمت ونثرت، وكان باكورة أعمالي رسالة في تراجم بني فرفور، سميتها الضياء الموفور جمعتها سنة 1317 وهي مخطوطة توجد الآن فقال يدار الكتب الظاهرية - وفي سنة 1322 طبعت القطعة الأولى من منظوماتي - وفي سنة 1323 شرعت بجمع تاريخ القرن الثالث عشر - وفي سنة 1329 طبعت القطعة الثانية من منظوماتي - ورسالتي الأولى في علم الفرائض - وفي سنة 1331 ترجمت وطبعت قانون الصلح وغيره من القوانين التركية المعمول بها اليوم - وفي سنة 1339 طبعت معجماً كنت جمعته في تراجم علمائنا باسم مختصر طبقات الحنابلة - وفي سنة 1340 وضعت وطبعت رسالة في الوهابيين وخصومهم باسم الوسيط بين الإفراط والتفريط - وفي سنة 1350 كتبت ونشرت رداً على الطائفة القاديانية باسم السيف الرباني - وفي سنة 1360 كتبت وطبعت رداً على أحد فقهاء المالكية باسم البرهان على صحة رسم مصحف الحافظ عثمان - وفي سنة 1363 طبعت رسالتي الثانية في الفرائض باسم الدروس الفرضية - وفي السنة المذكورة هذبت كتاب السراجية باسم تنقيح السراجية في فرائض الحنفية وهو لم يزل مخطوطاً محفوظاً عندي، مع ديوان شعري الأخير، وتاريخ سنة 1340 - وفي سنة 1363 أيضاً أخرجت من تاريخي العام المقدم ذكره هذا التاريخ المقصور على رجال دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1627 وقد طبعت من مؤلفات آل الشطي وغيرهم شيئاً كثيراً، فمن ذلك مختصر عقيدة السفاريني لجدي الأعلى مجلد وتوفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية، وأقوال الإمام داود الظاهري لجدي الأدنى، وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية لابن القيم، والرسائل الفاتحية للهبراوي، وغير ذلك. وأما ما كتبته في المجلات والصحف فشيء كثير قديم وحديث، ومن ذلك الرد على شيخ الأزهر المراغي، في قوله إن وجه المرأة ليس بعورة، والرد على المحدث الدهلوي في كتابين له، وكل ذلك منشور في مجلة التمدن الإسلامي. وأما وظائفي فقد لازمت المحاكم الشرعية بدمشق منذ سنة 1313 مقيداً في محكمة البزورية فكاتباً في محكمة العمارة، ثم في محكمة الباب إلى سنة 1327 - وفيها عينت في المحاكم العدلية كاتباً في دائرة الإجراء، ثم في محكمة الحقوق، ثم في محكمة الصلح، ثم معاوناً لمأمور الإجراء بدمشق، ثم معاوناً للحاكم المنفرد في دوما، ثم عضواً في محكمة حماة سنة 1337 - ثم عينت نائباً حنبلياً، ثم رئيس كتاب في محكمة دمشق الشرعية إلى سنة 1348، وفيها انتخبت مفتياً حنبلياً في مدينتنا دمشق، وهي الوظيفة التي أقوم بها الآن مع الإمامة الحنبلية في الجامع الأموي منذ سنة 1334 والخطبة في المدرسة البادرأية منذ سنة 1352. وأما البحث عن أخلاقي وأحوالي فهذا ما أتركه لأبناء وطني الأعزاء اعتماداً على إنصافهم ومحبتهم. وأما شعري الكثير فسأقتصر منه على بيتين كتبتهما إلى نجم الدين أفندي الأتاسي في حمص، أشكره على تراجم أرسلها إلي سنة 1324، وهما قولي: مولاي لولا كنت أول فاضل ... لم تدر أهل الفضل بالتبيين فإذا ضللنا في أكابر ديننا ... فبك الهدى إذ أنت نجم الدين وأختم هذه الترجمة ببيتين، رقمتهما على كتاب أهديته إلى أحد أساتذتي الأجلاء سنة 1326، وهما قولي: أتى يهدي لك العبد الذليل ... كتاباً أيها المولى الجليل إذا هو لم يكن أثراً جميلاً ... أليس يقال مهديه جميل؟ كانت وفاة هذا الصديق في 16 المحرم سنة 1379 هـ رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1628