الكتاب: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (الجزء الثاني) المؤلف: إبراهيم بن صالح الخضيري الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ عدد الصفحات: 296 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية إبراهيم الخضيري الكتاب: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (الجزء الثاني) المؤلف: إبراهيم بن صالح الخضيري الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ عدد الصفحات: 296 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] [ عمارة المساجد ] [ الفصل الأول عمارة المساجد بالبناء ] أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية الباب الثاني عمارة المساجد لما تحدثت في الباب الأول عن أحكام المساجد الخاصة وما اختصها الله به من الأحكام والفضل، كان الحديث عن أحكام بقية المساجد مناسبا هنا، وأول ما سأتحدث به هو: عمارة المساجد بالبناء، ثم أتبعه بعمارتها بالعبادة، التي من أجلها خلق الله الخلق، ولأجلها بنيت المساجد. ومكان المصلي المسلم هو الأرض كلها، فهي له مسجد، لكن المسجد المخصص للصلاة له أحكام تخصه، وتفصيل هذا الحديث في هذا الباب يأتي في الفصول الثلاثة التالية: الفصل الأول: عمارة المساجد بالبناء. الفصل الثاني: عمارة المساجد بالعبادة. الفصل الثالث: مكان المصلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الفصل الأول عمارة المساجد بالبناء كما يحتاج الناس لبناء البيوت التي يستظلون بها من حر الشمس، ومن المطر، ويتقون بها الرياح والبرد، فإنهم يحتاجون لبناء المساجد لهذه الأمور، وليتعارف الناس على مكان الصلاة، ويؤدوها في الجماعة، ولأن بناء المساجد أساس لمعرفتها وعلامة وجودها، كان لا بد من تحديد موقع مناسب للمسجد، والذي قد يتكون من أجزاء، منها ما هو علامة له تميزه عن سائر البيوت، كالمنارة والمحراب، فإذا بني فلا بد أن يكون منظمًا تنظيمًا مفيدًا، ومتحررًا عن ملكية البشر، ليشترك في الانتفاع به كل المسلمين. فهذه إشارة لجملة مباحث هذا الفصل، وهي كما يلي: - المبحث الأول: موقع المسجد. المبحث الثاني: بناء المسجد على القبر أو إليه. المبحث الثالث: بناء المسجد. المبحث الرابع: أجزاء المسجد. المبحث الخامس: ملكية المسجد. المبحث السادس: تنظيم المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [ المبحث الأول موقع المسجد ] [ المسألة الأولى الأرض كلها مسجد ] المبحث الأول موقع المسجد لا بد من أرض يقام عليها مسجد يصلي فيه المسلمون، وهذه الأرض هي موقع البناء للمسجد، فينبغي أن: - تكون في وسط الناس. - أن يكون لها طرق مأمونة ميسورة. وأن تكون بمكان تجوز الصلاة فيه. - ولا بد أن تتحرر من ملك العباد ليستمر المسجد مأوى للمتقين العابدين لله - سبحانه وتعالى -. وسأبين - بإذن الله ومشيئته - في مسائل هذا المبحث ما أشرت إليه مفصلا، ومسائل هذا المبحث كالتالي: - المسألة الأولى: الأرض كلها مسجد: هذه المسألة سيأتي لها ذكر في المبحث الأول من الفصل الثالث - إن شاء الله -، وإنما أردت ذكرها هنا لأهميتها، ولارتباطها بموقع المسجد، باعتبار أن الأرض في الأصل طاهرة وصالحة لتكون مسجدا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 إذا خلت من الموانع (1) . وذلك لأن الأرض ملكيتها لله تعالى قد يملكها بقدرته من يشاء، وقد تبقى حرة من التملك البشري، وقد تتحرر بعد التملك بالوقف، ثم هي طاهرة، لأن الشمس والهواء والمطر مطهرات (2) . ويدل على هذا الحديث الآتي: - عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . متفق عليه. وهذا لفظ البخاري (3) . وفي رواية: «ثم الأرض بعد ذلك لك مسجدا» . وفي أخرى: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا» . رواه مسلم (4) . وفي رواية:   (1) نيل الأوطار للشوكاني (2 / 233) . (2) انظر: الفتاوى لابن تيمية (21 / 347) ، وفتح الباري (1 / 534) . (3) البخاري ك الصلاة هـ 56 جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا رقم 438، ومسلم (1 / 370) رقم 521 ط: الثانية، عام 1398هـ. (4) مسلم (1 / 371) رقم 522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة، تمسحت وصليت» . وفي رواية: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» . وفي رواية: «وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا» (1) . ولأحمد: «فعنده طهوره ومسجده» (2) . ولابن خزيمة نحوه (3) . . وروي عن علي بن أبي طالب نحوه (4) . ولأبي داود عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا» (5) . وللترمذي عن أبي سعيد: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (6) . فهذا الحديث برواياته المختلفة يدل على ما يلي: - أولا: أن الأصل في الأرض الطهارة، حتى تعلم نجاستها بيقين (7) . وأن كل أرض طاهرة طيبة تصلح للصلاة وللتيمم من صعيدها بدلا عن الوضوء، حال مشروعيته (8) على أن هناك أحاديث تخصص عموم هذا الحديث، وتمنع الصلاة في مواقع معينة لعلل مختلفة، يأتي بيانها في الفصل الثالث - إن شاء الله -.   (1) صحيح مسلم (1 / 370 - 371) رقم521 - 522 - 523. (2) مسند الإمام أحمد (2 / 82 - 96) . (3) صحيح ابن خزيمة (1 / 132) . (4) انظر: التمهيد لابن عبد البر (5 / 117 - 220) ، وفتح الباري (1 / 534) . (5) سنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود (2 / 154) . (6) سنن الترمذي المطبوع مع تحفة الأحوذي (2 / 260) . (7) انظر. فتح الباري (1 / 534) . (8) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1 / 150ـ 157) ، والفتاوى لابن تيمية (21 / 479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ثانيا: أن كون الأرض كلها مسجدا وطهورا صالحة للصلاة وللتيمم إذا سلمت من الموانع خصوصية من الخصوصيات التي اختص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم (1) . ثالثا: كل فراش طاهر أو مكان من الأرض طاهر وإن كان مزروعا بنبات ونحوه، كالجزر والبصل والكراث وغيرها. وهكذا إن كان فيه ثلج أو قطن وهو مستقر، فإنه من الأرض صالح للصلاة عليه (2) . لعدم النجاسة، ولإمكان الصلاة عليه. [ المسألة الثانية بناء المسجد في الدور ] المسألة الثانية: بناء المسجد في الدور: ما زالت العرب منذ القدم إلى يومنا هذا تجتمع في السكن كل قبيلة على حدة في مكان معين، ولما صارت المدن، بدأ الناس يجتمعون في الأحياء، وكان السابقون يسمون الحي ديار بني فلان، وكانوا يطلقون عليه حيا، فيقولون: كان لحي من العرب كذا، ونحو ذلك. ولحاجة الأحياء إلى المساجد، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببنائها، وورد أمره - صلى الله عليه وسلم - فيما يلي: - 1 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب» . رواه أبو داود (3)   (1) انظر: فتح الباري (1 / 533) وبداية المجتهد (1 / 118) ، والفتاوى لابن تيمية (1 2 / 347) . (2) انظر: المدونة الكبرى لمالك (1 / 90) ، والكافي لابن عبد البر (1 / 239) . (3) أبو داود ك الصلاة رقم 456 ب ما جاء في بناء المساجد في الدور وانظر: عون المعبود (2 / 125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والترمذي (1) وابن خزيمة (2) . قلت: وهذا الحديث صحيح. 2 - وعن سمرة بن جندب (3) - رضي الله عنه - أنه كتب إلى بنيه: «أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نصنع المساجد في ديارنا، ونصلح صنعتها، ونطهرها» . رواه أبو داود، وإسناده ضعيف، لكن يشهد له ما قبله (4) . قال البغوي: " الدور يريد المحال التي فيها الدور " (5) . قلت: والدار لها في اللغة معان عدة، منها: ما ذكره البغوي (6) . والشاهد من هذين الحديثين: «أمر رسول الله ببناء المساجد في الدور - كان يأمرنا أن نصنع المساجد في ديارنا» . وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ببناء المساجد في الدور، وأمره يقتضي الوجوب، فيجب بناء المساجد في الأحياء السكنية، وكذلك يجوز بناؤها في القصور الضخمة. والدليل على هذا:   (1) الترمذي ك الصلاة رقم 594، وانظر: جامع الأصول (11 / 208) . (2) صحيح ابن خزيمة (2 / 270) ، ورواه ابن ماجة ك المساجد رقم 758. (3) هو: سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة، نزل البصرة. له أحاديث صالحة. حدث عنه: ابنه سليمان، وعبد الله بن بريدة، وابن سيرين، وجماعة مات سنة 58 هـ، وقيل: إنه سقط في قدر مملوءة ماء حارًا كان يتعالج به من البارد فمات فيها. انظر: سير أعلام النبلاء (3 / 183) ، وطبقات ابن سعد (6 / 34) ، وجمهرة أنساب العرب (ص259) . (4) أبو داود ك الصلاة ب بناء المساجد في الدور رقم 455، وانظر: بذل المجهود (3 / 293) ، والمنتقى مع نيل الأوطار (2 / 264) . (5) شرح السنة للبغوي (2 / 399) . (6) انظر: لسان العرب لابن منظور (2 / 1450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة» . رواه البخاري (1) . الشاهد: قوله: " في سوقه ". وجه الدلالة: أنه لما صحت الصلاة في السوق، جاء بناء المسجد فيه، مع كونه محجورا " لأن أسواق المتقدمين كانت تحجر. وقال البخاري - رحمه الله -: " وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب " (2) . وهذا الأثر يؤيد دلالة الحديث السابق، في أن القصور المحجرة الضخمة كالدور، يجوز بناء المساجد فيها (3) . وأرى: أن تكون قريبة من أبوابها الرئيسة، حتى ينتفع بها كل من حولها، كما ينبغي أن تبنى المساجد في الأحياء في المواقع المناسبة، التي يستفيد منها جميع سكان الحي. [ المسألة الثالثة بناء المساجد بالدوائر والعمارات الشاهقة ] المسألة الثالثة: بناء المساجد بالدوائر والعمارات الشاهقة: لما تحدثت عن بناء المساجد في الأحياء، ناسب أن أتحدث عن بناء المساجد في بنايات تضم عددًا كبيرا من الرجال، قد يفوق تعداد سكان الحي الواحد، كموظفي الدوائر الحكومية والأهلية، وسكان العمارات الشاهقة والضخمة، فما حكم تخصيص مكان معين منها ليكون مسجدًا؟ .   (1) البخاري ك الصلاة ب 87 الصلاة في مسجد السوق رقم 477. (2) البخاري ك الصلاة ب 87 الصلاة في مسجد السوق، وانظر: فتح الباري (1 / 564) . (3) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (3 / 95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في مسألة بناء المسجد فوقه أو تحته، أو فوقه وتحته معا بناء. على أربعة أقوال: - القول الأول: يجوز أن يبنى المسجد وفوقه أو تحته بناء، أو فوقه وتحته معا بناء. قال به أبو يوسف (1) . صاحب أبي حنيفة (2) وابن قدامة صاحب المغني (3) . القول الثاني: يجوز أن يبنى فوق المسجد بناء، ولا يكون تحته بناء. وروي عن أبي حنيفة في رواية عنه (4) . وهي رواية عن الإمام أحمد (5) قال أحمد: " كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة (6) ". ا. هـ (7) . القول الثالث: إذا كان البناء تحت المسجد، والمسجد ليس فوقه بناء صح ذلك. روي عن أبي حنيفة في رواية عنه، وذهب إليها بعض أصحابه (8) . وبهذا قال مالك (9) . وهو رواية عن الإمام أحمد (10) .   (1) هو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن بجير بن حسنة الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، روى عنه، وعن عطاء بن السائب، وعبيد الله بن عمر. تولى القضاء في بغداد للمهدي والهادي والرشيد، كان صدوقًا، وثقه النسائي، وأخذ عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومحمد بن الحسن الشيباني، وله آراء استقل بها عن صاحبه. ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 182 هـ. انظر: أخبار القضاة (2 / 100 ـ 107) ، وميزان الاعتدال (4 / 397) ، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3 / 334) . (2) انظر: شرح فتح القدير لابن الهمام (5 / 444) . (3) المغني لابن قدامة (5 / 607) . (4) انظر: شرح فتح القدير (5 / 445) . (5) الفروع لابن مفلح (4 / 637) ، والإنصاف (7 / 102) . (6) القنطرة: هي جسر يبنى بالآجر أو بالحجارة على الماء يعبر عليه، وقيل: القنطرة: ما ارتفع من البنيان: قلت: ويشبهها الساباط. وهو: سقيفة بن حائطين تحتها طريق. انظر: لسان العرب (5 / 3752) ، وأساس البلاغة (ص419) ، ومختار الصحاح (ص283) . (7) الورع لأحمد (ص26) . (8) حاشية ابن عابدين (4 / 358) . (9) المدونة الكبرى (1 / 108) . (10) الفروع لابن مفلح (4 / 637) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 القول الرابع: لا يصح أدت يبنى مسجد فوقه بناء أو تحته بناء. قال بهذا بعض الأحناف (1) وابن حزم (2) . الأدلة: استدل أصحاب القول الأول بأنه يجوز بيع البناء الذي تحته بناء أو فوقه بناء، كالشقق في العمارات، ولأن وقفه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار بالشراء، ويجوز تمليك منفعته بالأجرة ونحوها (3) . واستدل أصحاب القول الثاني بأن المسجد إذا كان في قرار الأرض يتأبد، فلا يتغير، بخلاف العلو (4) . واستدل أصحاب القول الثالث بأن المسجد إذا كان فوقه بناء، فإنه يهان، قال في المدونة: " وسألت مالكا عن المسجد يبنيه الرجل، ويبني فوقه بيتا يرتفق به. قال: ما يعجبني ذلك، وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى، وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد - مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا تقربه فيه امرأة، وهذا إذا بنى فوقه صار مسكنا، يجامع فيه ويأكل فيه " (5) . واستدل أصحاب القول الرابع بأن الهواء لا يُتَملّك " لأنه لا يضبط، ولا يستقر، ولا يكون منفكًا عن حقوق العباد، والمسجد حق لله -   (1) حاشية ابن عابدين (4 / 358) ، (1 / 657) . (2) المحلى لابن حزم (4 / 248) . (3) انظر: المغني (5 / 607) ، والمجموع شرح المهذب ـ تكملة المطيعي رحمه الله ـ (14 / 222) . (4) شرح فتح القدير لابن الهمام (5 / 445) . (5) المدونة الكبرى للإمام مالك (1 / 108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] (1) وأن له أن يهدمه؟ إذ لا يحل منعه من ملكه، وهدم المسجد لا يجوز، فلا يكون مسجدا (2) . المناقشة: لا أعلم دليلا قطعيا من الشرع، ولا ظنيا يمنع من بناء المسجد وتحته أو فوقه بناء، وما أورده العلماء الكرام - رحمهم الله تعالى - إنما هي تعليلات لا دليل عليها، وأما انفكاكه عن الاختصاص فهو راجع للعرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وفي زمننا هذا إقامة المساجد بالعمائر الضخمة أمر تدعو إليه الحاجة، وهكذا في المصانع والدوائر الحكومية التي في العمائر الكبيرة، وأما إن أمكن الاستقلال ببناء المسجد فهو أولى وأفضل، وإن لم يمكن فيجوز بناء المسجد وفوقه أو تحته بناء. وأقترح: تكليف أصحاب العمائر الضخمة بتخصيص جزء في أسفل العمارة يكون مسجدا يصلي فيه المسلمون، حتى يستفيد منه كل من حول العمارة من أصحاب الحوانيت أو المشاة أو نحوهم، ويكون في جهة بارزة ليعرفه الناس. [ المسألة الرابعة بناء المسجد في الطريق ] المسألة الرابعة: بناء المسجد في الطريق: لما تحدثت عن بناء المسجد في الدور، وفي البنايات ذات الأدوار   (1) سورة الجن: الآية 18. (2) المحلى لابن حزم (4 / 248 ـ 249) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المتعددة الكثيرة، ناسب أن أتحدث عن بناء المسجد في الطريق. والطرق في عصرنا هذا من جهة الخطورة الناتجة عن السير فيها نوعان: - النوع الأول: طرق سريعة خاصة بالسيارات، لا يسمح للمشاة تجاوزها، لشدة سرعة السيارات فيها، فهذه - وإن كانت فسيحة - إلا أن بناء المساجد فيها وفي الجزر التي في وسطها، لا ينبغي لما فيه من الخطورة العظيمة الناتجة عن تجاوز المصلين إلى المسجد، ولما فيه من الإزعاج بسبب أصوات السيارات؛ وربما أوقف بعض الناس سياراتهم للصلاة في الطريق، فيحصل بسبب وقوفهم خطر، لكن لو بني المسجد في فسحة على أحد جانبي الطريق وعمل نفق يوصل من الجانب الثاني إليه بأمان وطمأنينة، فهذا أمر طيب ومرغوب فيه. النوع الثاني: طرق للسيارات أو للمشاة داخلية، يحصل الخطر فيها بسبب من يتلاعب بقيادة السيارات أو الدراجات، ويحصل أذى للمسلمين، بسبب استغلال الطريق، وهو ضيق. فبناء المسجد فيه لا يجوز؟ لأنه حق مشاع للاستطراق، فلا يوضع فيه ما يعرقله. ودليل هذا: عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والجلوس بالطرقات. قالوا: يا رسول الله: ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ". قالوا: وما حقه؟ قال: " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» . رواه مسلم (1) .   (1) صحيح مسلم (4 / 1704) رقم 2121، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (4 / 832) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الشاهد: قوله: «إياكم والجلوس في الطرقات - إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه - غض البصر وكف الأذى» . . . إلخ ". وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجلوس بالطرقات، وأمر من كان لا بد جالسا أن يكف أذاه، وبناء المسجد في الطريق الضيق أذى؛ لأن أهل الطريق يتضررون، فلا يحل أذاهم بنص الحديث؛ ولأن الطريق حق مشاع لجميع المسلمين، فلا يحل أذاهم باقتطاع جزء منه وهم كارهون. وأما إذا لم يكن ثمة أذى، بأن كان أهل الطريق لا يتضررون من بناء المسجد فيه، بل ربما استفادوا منه، فحينئذ بناء المسجد في الطريق جائز. ودليل هذا: - قال البخاري - رحمه الله تعالى -: " باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس ". ثم ساق بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين» . رواه البخاري (1) .   (1) البخاري ك الصلاة ب86 المسجد يكون في الطريق رقم 476، وانظر: فتح الباري (1 / 563) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الشاهد: «ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية - فابتنى مسجدا بفناء داره» . وجه الدلالة: حيث أن أبا بكر بنى مسجدا في جانب الطريق، لا يضر بأحد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع عليه وأقره؛ فدل ذلك على جوازه؛ إذ لا ضرر على الناس منه. وقيل: لا يجوز بناء مسجد في الطريق، وقيل: إن بناه لنفسه فلا يجوز، وإن بناه للناس جاز (1) . قلت: إن بناه لنفسه لصلاة النوافل أو للناس ولا ضرر على أحد منه جاز؛ لأنه لا يبنيه للتملك، وإنما يبنيه للصلاة، والصلاة في الطريق جائزة. والدليل على هذا: عن إبراهيم بن يزيد التيمي (2) قال: «كنت أقرأ القرآن على أبي في السدة (3) فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت: أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: " المسجد الحرام ". قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الأقصى، ثم الأرض   (1) انظر: المجموع شرح المهذب تكملة المطيعي ـ رحمه الله ـ (17 / 384) ، وكشاف القناع للبهوتي (2 / 368) . (2) هو إبراهيم بن يزيد التيمي: تيم الرباب أبو أسماء، حدث عن أبيه يزيد بن شريك، وعن أنس بن مالك، وعمرو بن ميمون، وجماعة، وأرسل عن عائشة. وحدث عنه الأعمش، وبيّان بن بشر، وغيرهما، وكان شابًا صالحًا قانتًا لله، فقيهًا كبير القدر واعظًا، يقال: قتله الحجاج، وقيل: بل مات في حبسه سنة 92 ولم يبلغ أربعين سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (5 / 60) ، وطبقات ابن سعد (6 / 285) ، وتهذيب التهذيب (1 / 176) . (3) السدة بالضم: باب الدار، وقيل: أمام باب الدار. والسدة في كلام العرب: الفناء، وقيل: كالصفة تكون بين يدي البيت، والظلة تكون بباب الدار، وسدة المسجد الأعظم ما حوله من الرواق. / انظر: لسان العرب (3 / 1970) ، ومختار الصحاح (ص291) ، ومعجم مقاييس اللغة (3 / 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لك مسجدا، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» . رواه مسلم (1) . وأما جعل الطريق يمر من تحت المسجد (2) فقد كره ذلك الإمام أحمد وقال: " كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة ". وقال في المساجد التي على الطرقات: إن حكمها أن تهدم. وقال: المساجد أعظم حرمة " (3) . [ المسألة الخامسة تعدد المساجد في البلد الواحد ] المسألة الخامسة: تعدد المساجد في البلد الواحد: تختلف البلدان من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى مكان آخر، فربما كان البلد بالأمس قرية صغيرة، وهو اليوم مدينة كبيرة تحتوي على عدة أحياء، كل حي يعادل القرية أو يزيد. والكلام في تعدد المساجد من وجهين: - الوجه الأول: تعدد المساجد التي تقام فيها الصلوات غير الجمعة. نص العلماء - رحمهم الله تعالى - على تحريم بناء مسجد بجوار مسجد، أو بقربه، لقصد الإضرار والمنافسة، وهكذا قسمة المسجد الواحد إلى مسجدين. فأما للضرورة والحاجة فيجوز بناء مسجد قرب مسجد آخر أو جنبه، ولا تحل قسمة المسجد إلى مسجدين؛ لأنه لا ضرورة تدعو لذلك. والأفضل توسعة المسجد، ولا يبنى بجواره مسجد (4) .   (1) صحيح مسلم (1 / 370) ، وانظر: شرح النووي على مسلم (2 / 154) . (2) وهكذا لو بني المسجد على شكل ساباط ـ ببناء بين حائطين تحته طريق ـ انظر: أساس البلاغة (ص419) ، ومختار الصحاح (ص283) . (3) الورع لأحمد (ص26) ، وانظر: المصنف لابن أبي شيبة (2 / 401) . (4) انظر: المبسوط (1 / 1 / 140) ، وتفسير القرطبي (4 / 8 / 254) ، والفروع لابن مفلح (2 / 38) ، والمحلى لابن حزم (4 / 43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ودليل ما تقدم: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107 - 108] (1) . الشاهد: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ - لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107 - 108] وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى بين قصد المنافقين من بناء مسجدهم، وأنهم إنما بنوه لقصد الضرر بالمسلمين، فلذلك نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه، فهدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - عقابا لهم (2) . الوجه الثاني: تعدد المساجد التي تقام فيها الجمعة. من المعروف أن المساجد الجامعة تتخذ شكلا خاصا بها؛ حيث تحتوي على منبر، وتكون كبيرة. وقد اشترط بعض المالكية (3) لصلاة الجمعة: المسجد المسقف، مستدلين بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] (4) الآية. وقوله: (. . . {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] ) (5) وحقيقة البيتية أن يكون   (1) سورة التوبة: الآيتان 107 - 108) . (2) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3 / 1012) ، وتفسير ابن كثير (4 / 148 ـ 150) ، وفتح القدير للشوكاني (2 / 403) . (3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9 / 18 / 113) . (4) سورة النور: الآية 36. (5) سورة الحج: الآية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ذا حيطان ترفع (1) . قلت: وغالب البيوت التي يسكنها الناس أو المساجد ذات حيطان وسقف (2) . وجمهور العلماء: على أنه لا يشترط لصلاة الجمعة المسجد المسقف؛ بل تصح الصلاة في أي مكان لعموم الأدلة: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، ولأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ما يدل على اشتراط المسجد للجمعة (3) . ولهذا كله: كان من المناسب أن أتعرض لحكم تعدد الجمعة في البلد الواحد، لأنه بمعرفة مكان إقامة الجمعة نعرف أنه يجوز بناء المسجد الجامع فيه لأجل صلاة الجمعة. اختلف العلماء في جواز تعدد الجمعة في البلد الواحد، على قولين: - القول الأول: يجوز تعدد الجمعة في البلد الواحد للضرورة والحاجة الداعية إلى ذلك. وهذا الراجح في مذهب أبي حنيفة (4) وأحمد (5) . القول الثاني: لا يجوز تعدد الجمعة في البلد الواحد. روي هذا عن أبي حنيفة (6) . وبه قال مالك (7) والشافعي (8) ورواية عن الإمام أحمد (9) .   (1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9 / 18 / 113) . (2) انظر: لسان العرب (1 / 392) ، ومختار الصحاح (ص70) . (3) انظر: الجمعة ومكانتها في الدين لابن حجر آل بن علي آل بوطامي (ص56) ، والمغني لابن قدامة (3 / 332) ، وبداية المجتهد لابن رشد (1 / 160) . (4) المبسوط للسرخسي (2 / 120) . (5) الفروع لابن مفلح (2 / 102) ، وانظر: الفتاوى لابن تيمية (24 / 167 ـ 149 ـ 209) . (6) حاشية ابن عابدين (2 / 145) . (7) المدونة الكبرى لمالك (1 / 151) . (8) الأم للشافعي (1 / 192) . (9) الإنصاف للمرداوي (2 / 378) ، والإفصاح (1 / 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الأدلة: استدل أصحاب القول الأول بما يلي: - 1 - ثبت أن علي بن أبي طالب استخلف ابن مسعود يصلي بالضعفة صلاة العيد. والجمعة مثلها (1) . 2 - ولأن في تحديد إقامة الجمعة بموطن واحد حرجا عظيما، ومشقة كبيرة، والإسلام دين يسر، فتعددها إذا كان لحاجة وبإذن ولي الأمر - فيه رفع للحرج عن المسلمين، فهو جائز شرعا (2) . واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي: - 1 - ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الجمعة وهو في المدينة إلا في مسجد واحد بالبلد، وهو مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك فعل خلفاؤه الأربعة من بعده، ولم يظهر لهم مخالف (3) . 2 - قال ابن عمر: (لا تقام الجمعة إلا في المسجد الذي يصلي فيه الإمام " (4) ومراده - رضي الله عنه - بقوله " الإمام ": أي الإمام الأعظم، ومفاد كلامه هذا: أنه لا يجوز تعدد إقامة الجمعة في البلد الواحد. المناقشة: اتفق العلماء - رحمهم الله تعالى - على أن تعدد الجمعة بلا حاجة لا يجوز. قال في المغني: " لا نعلم في هذا مخالفا " (5) ولهذا إذا   (1) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (2 / 499) . (2) انظر: المبسوط للسرخسي (1 / 1 / 120) ، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص76) ط: الأولى، سنة 1399هـ. (3) انظر: المجموع شرح المهذب (4 / 406) ، والجمعة ومكانتها في الدين (ص78) . (4) المغني لابن قدامة (2 / 334) . (5) المغني (2 / 335) ، والإفصاح لابن هبيرة (1 / 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 حصل الاستغناء بثلاث لم تجزئ الرابعة، وهكذا الخامسة والسادسة والسابعة اللاتي لا يحتاج إليهن، وتعتبر حينئذ صحة الصلاة بأسبقها، فالثلاث السابقات هن الصحيحات، وقيل: من كان فيه الإمام أو نائبه، وقيل: المسجد العتيق (1) . وأما للضرورة والحاجة: فإن الإسلام دين يسر، ولا مشقة فيه، وجمع الخلائق بمكان واحد - مع كثرتهم الشديدة وضيق الأمكنة - فيه مشقة شديدة عليهم (2) وعلى هذا سار المسلمون اليوم، إذ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع من إقامتها. وقول ابن عمر مختلف فيه، لأن الصحابة كانوا يصلون في المساجد الجامعة في القرى وليس فيها الإمام الأعظم، فلا حجة فيه (3) . [ المسألة السادسة المسجد المتنقل ] المسألة السادسة: المسجد المتنقل: لما تحدثت عن موقع المسجد الثابت وانتهيت منه، ناسب الحديث عن المسجد المتنقل، وهذا المسجد المتنقل إما أن يكون مستقلا بنفسه، بحيث يحمله الإنسان حيث يشاء ويضعه حيث يشاء. قال في حاشية قليوبي وعميرة ما نصه: " قوله: (ومنقول) أي: غير مسجد، فإن ثبته بنحو تسمير صح إن كان محله يجوز الانتفاع به، ولا يضر نقله - أي المسجد - بعد ذلك. وحينئذ يصح الاعتكاف عليه ولو في هوائه، لا تحته، وكذا يحرم المكث من الجنب فوقه لا تحته، ولا   (1) انظر: الأم (1 / 193) ، والمغني (2 / 336) . (2) انظر: حاشية ابن عابدين (2 / 145) ، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص76) . (3) انظر: نيل الأوطار (4 / 158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يحرم عليه - أي الجنب - حمله، كذا قاله بعض مشايخنا، والأقرب صحة الاعتكاف تحته، ولو لحامله؛ حيث كان داخلا في هوائه، ولا يضر تجدد هوائه وزواله " (1) . هذا ما ذكره بعض الفقهاء الذين لم يعاصروا الطائرات، ولا القطارات، ولا المراكب الحديثة كلها، وأنا سأتحدث عن المسجد المتنقل في هذه المراكب، وفي السفينة. ولما كانت السفينة هي المركب المشابه لهذه المراكب والموجودة في القرون الأولى، فقد تحدث العلماء عن الصلاة فيها، فذكروا - رحمهم الله تعالى - أن الصلاة تصح في السفينة، ولا يلزم من فيها النزول إلى الشاطئ للصلاة، ويلزمه الوقوف إن قدر عليه، ويجوز إقامة الصلاة جماعة في السفينة، ولا يحنون رؤوسهم ليصلوا جماعة، بل يصلون فرادى في سطحها قياما، إلا إذا قدروا على الخروج من السفينة، وأداء الصلاة في الشاطئ جماعة أفضل، ويستقبل القبلة في السفينة، ويدور إلى القبلة كلما دارت السفينة، وإن خرج إلى الشاطئ وصلى مستقبلا القبلة بطمأنينة فهو أولى، وربما قيل بوجوب الخروج عليه لصلاة الفريضة إن لم يستطع استقبال القبلة في السفينة، ولم يخش فوات الصلاة (2) . ويدل لهذا ما يلي: -   (1) حاشية قليوبي وعميرة (2 / 3 / 98) . (2) انظر: المغني لابن قدامة (1 / 436) ، والإنصاف (2 / 311) ، والمبسوط (1 / 2 / 3) ، والمحلى (4 / 185) ، والمدونة الكبرى (1 / 123) ، وبدائع الفوائد لابن القيم (4 / 107) ، وحاشية الروض المربع لابن قاسم (1 / 541) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصلي في السسفينة؟ قال: " صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق» . رواه الدارقطني (1) . الشاهد: قوله: «صل فيها قائما» . وجه الدلالة: أن الصلاة في السفينة صحيحة، ويصلي قائما، إلا أن يخاف من سقوط ونحوه. 2 - وروي عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة: " أنهم صلوا جماعة في سفينة، أمهم أحدهم، وهم يقدرون على المسجد ". رواه ابن أبي شيبة (2) وعن الشعبي (3) والحسن وابن سيرين أنهم قالوا: " صل في السفينة قائما " رواه مالك (4) . أما ما ذكر عن ابن سيرين ومجاهد: أنهم صلوا في السفينة قعودا، ولو شاؤوا لقاموا (5) فإنه محمول على النافلة، ولو حمل على الفريضة لكانت صلاتهم   (1) سنن الدارقطني (1 / 394) وقال: حسين بن علوان متروك. قلت: هو أحد رجال السند. فالحديث ضعيف عند الدارقطني. وقال صاحب التعليق المغني على الدارقطني (1 / 395) : الحديث أخرجه الحاكم. قال في المنتقى: هو صحيح على شرط الشيخين. قلت: فيه سيرين بن فافا، وضعفه الدارقطني. ا. هـ. (2) المصنف لابن أبي شيبة (2 / 266) . (3) هو: عامر بن شراحيل بن ذي كبار، وذو كبار قيل من أقيال اليمين أبو عمرو الهمداني. ولد في إمرة عمر ـ رضي الله عنه ـ وقيل: سنة إحدى وعشرين، ورأى عليًا وصلى خلفه، وسمع من عدة من كبراء الصحابة، وأخذ عنه جمع كثير، ولد هو له توأمًا، وكان ضئلاً نحيفًا. قال: أدركت خمسمائة صحابي. مات سنة 104 هـ ـ وقد بلغ 82 سنة، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء (4 / 294) ، وطبقات ابن سعد (6 / 246) ، وأخبار القضاة (2 / 413) ، وتهذيب التهذيب (5 / 65) . (4) المدونة الكبرى لمالك (1 / 123) . (5) المبسوط للسرخسي (1 / 2 / 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 باطلة، لأن القيام مع القدرة عليه ركن في الصلاة بالإجماع (1) . 3 - وعن الحسن وابن سيرين قالا: يصلون فيها قياما جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت (2) . فهذه الآثار عن السلف الصالح تدل على اتفاقهم على صحة الصلاة في السفينة. 4 - وقد نص العلماء - رحمهم الله تعالى - على صحة النافلة فوق الراحلة، ويصلي متنفلا حيث اتجهت، لكن يبدأ بتكبيرة الإحرام وهو متجه إلى القبلة. أما الفريضة: فلا بد أن ينزل عنها ويصلي في الأرض لقدرته على النزول، ولعدم ثبوت الراحلة واستقرارها (3) . فالسيارة كالراحلة يمكن لسائقها الوقوف بسهولة، ولو صلى فيها متجها للقبلة في كامل الفريضة؛ صحت صلاته، إن كان يسير بخط تثبت معه السيارة، وله أن يصلي في السيارة في حالة الخوف مهما اتجهت كالدابة. وأما الطائرة فأقرب شبه لها في القديم السفينة؛ لأن الراكب لا يتحكم في اتجاهها، ولا تقف متى شاء؛ بل لها مسارات محددة، والقطارات لها مسارات محددة لا يستطيع الراكب التحكم فيها. أما في الجو، وفي الطريق للقطار فإنهم لا يتوقفون، أما الطائرة فلعدم القدرة، وأما القطار فلارتباطه بزمن معين في شغل الطريق، لأنه سيشغل في وقت آخر من قطار آخر، وهكذا.   (1) انظر: الإفصاح لابن هبيرة (1 / 121) . (2) المصنف لابن أبي شيبة (2 / 267 ـ 268) . (3) انظر: شرح السنة (4 / 188) ، والفتاوى لابن تيمية (24 / 6ـ37) ، والفروع لابن مفلح (1 / 373) ، وحاشية ابن عابدين (2 / 38) والمغني لابن قدامة (2 / 600) ، وفتح الباري لابن حجر (2 / 576) ، وجامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير (5 / 478) ، ونيل الأوطار للشوكاني (2 / 289) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ففي هذه المراكب، أرى: تحديد غرف معينة للمصلين لها قاعدة تتحرك بجهاز مغناطيسي عن طريق غرفة القيادة بأمان وسهولة، ويمكن ضبطها إلى جهة القبلة، وتكون هناك علامات للقبلة، وأجهزة تحدد اتجاه القبلة بالزمن والمكان، ليعرفها المصلون. ولهم إقامة الصلاة جماعة في الطائرة وفي القطار، ويدورون مع القبلة حيث دارت، إما بأنفسهم، أو بالقاعدة التي ذكرتها آنفًا. وهذا ممكن في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 [ المبحث الثاني بناء المسجد على القبر أو إليه ] [ المسألة الأولى حكم اتخاذ القبور مساجد ] المبحث الثاني بناء المسجد على القبر أو إليه الأصل أن هذا المبحث تابع لمسائل المبحث الأول، لكونه من ضمن موقع المسجد، لكن لأهميته، ولما فيه من مسائل مترابطة، فقد جعلته مبحثًا مستقلا ذا ثلاث مسائل، هي: المسألة الأولى: حكم اتخاذ القبور مساجد: قال ابن تيمية: " اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر " (1) . وسواء كان القبر واحدا أو قبورا متعددة؛ وسواء أكان قبر مسلم أم مشرك (2) فإن اتخاذه مسجدا حرام، والأدلة على هذا ما يلي: - 1 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» . رواه أبو داود والترمذي (3) . وقال الحافظ ابن حجر (4) " رجاله ثقات، واختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان " (5) .   (1) الفتاوى لابن تيمية (27 / 140ـ 382 ـ 387 ـ 502) . (2) انظر: المحلى لابن حزم (4 / 27) ، وشرح السنة للبغوي (2 / 415) . (3) سبق تخريجه. (4) هو: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن على العسقلاني المصري الشافعي. ولد سنة 773. وله مصنفات كثيرة، منها: الإصابة، وفتح الباري، وبلوغ المرام، وغيرها. توفي ـ رحمه الله ـ سنة 852هـ. انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي (ص547 ـ 548) . (5) فتح الباري لابن حجر (1 / 528) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الشاهد: قوله: «إلا المقبرة» . وجه الدلالة: حيث حرم - صلى الله عليه وسلم - الصلاة غير الجنازة بالمقبرة، مما دل على أن بناء المسجد بها حرام، لأنها ليست محلا للصلاة. 2 - عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: «لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". يحذر ما صنعوا.» متفق عليه، ولفظه للبخاري (1) . الشاهد: قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وجه الدلالة: حيث بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في سكرات الموت: أن اليهود والنصارى لعنوا لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد كما لعنوا بأسباب أخرى، وإنما بين - صلى الله عليه وسلم - أن هذا من أسباب لعنهم، ليحذر من صنيعهم، خشية أن يلعن من ارتكب السبب الذي به وبغيره لعنوا (2) . 3 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . رواه البخاري (3) .   (1) البخاري ك الصلاة ب55 حديث رقم 435 ـ 436، وانظر: فتح الباري (1 / 532) ، وصحيح مسلم (1 / 376) رقم 529) ، وانظر: شرح النووي على مسلم (2 / 162) . (2) انظر: سورة المائدة: الآيتان 13 ـ 78، وسورة البقرة: الآية 111. (3) البخاري ك الصلاة ب 55 رقم 437، وانظر: فتح الباري (532) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولمسلم بلفظ: «لعن الله اليهود والنصارى» (1) فهذا كالذي قبله في الدلالة على تحريم اتخاذ القبور مساجد. 4 - عن جندب (2) قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» . رواه مسلم (3) . الشاهد: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» . وجه الدلالة: حيث صرح - صلى الله عليه وسلم - بالنهي الدال على التحريم، وبين أن اتخاذ القبور مساجد كان من عادة الكفار المتقدمين: اليهود والنصارى. وبيانه للعلة يدل على أن النهي إنما كان لمشابهة المشركين، وسدا للذريعة؛ لئلا يعبد مع الله غيره. 5 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن (4) .   (1) صحيح مسلم (1 / 376) رقم 529، وانظر: شرح النووي على مسلم (2 / 162) ، وشرح السنة للبغوي (2 / 415) . (2) جندب بن عبد الله بن سفيان أبو عبد الله البجلي، صحابي جليل، نزل الكوفة والبصرة، وروى عنه: الحسن وابن سيرين وجماعة، بقي ـ رضي الله عنه ـ حيًا إلى سنة 70 هـ. انظر: تهذيب التهذيب (2 / 117) ، وطبقات ابن سعد (6 / 35) ، وسير أعلام النبلاء (3 / 174) . (3) صحيح مسلم (1 / 377) رقم 532، وانظر: المحلى لابن حزم (4 / 27) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (2 / 162) . (4) سنن الترمذي المطبوع مع تحفة الأحوذي (3 / 267) ، وانظر: شرح السنة للبغوي (2 / 417) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الشاهد: قوله: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد» . وجه الدلالة: حيث إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن أحدا إلا بموجب الوحي، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] (1) . فلا يلعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من لعنه الله. واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى. وهذا دليل على أن من استحق اللعن إنما استحقه لفعل محرم. 6 - عن عطاء بن يسار (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . رواه مالك (3) . وقال ابن عبد البر: " هذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات، وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له، وهو ممن تقبل زيادته. وبالله التوفيق " (4) . وقد وردت أحاديث كثيرة بمعنى الأحاديث التي ذكرت، وهي بجملتها نص قاطع على تحريم اتخاذ القبور مساجد (5) .   (1) سورة النجم: الآية 3. (2) هو: عطاء بن يسار أخ لسليمان مولى ميمونة. روى: عن أبي أيوب، وعائشة، وأبي هريرة، وأسامة بن زيد. وروى عنه: زيد بن أسلم، وصفوان بن سليم، وعمرو بن دينار. قال أبو داود: سمع عطاء من ابن مسعود. ويقال: إنه مات سنة 103 هـ، وقيل: قبل المائة. انظر: طبقات ابن سعد (5 / 173) ، وتهذيب التهذيب (7 / 217) ، وسير أعلام النبلاء (4 / 448) . (3) التمهيد لابن عبد البر شرح الموطأ (5 / 42) . (4) التمهيد لابن عبد البر (5 / 42) ، وانظر: ميزان الاعتدال (3 / 220) ، والجرح والتعديل (3 / 131) . (5) انظر: الفتاوى لابن تيمية (27 / 382) ، والتمهيد لابن عبد البر (1 / 168) ، وفتح الباري (3 / 208) ، وشرح السنة للبغوي (2 / 415) ، ونيل الأوطار للشوكاني (5 / 106) ، وجامع الأصول لابن الأثير (5 / 472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 [ المسألة الثانية حكمة التشريع في منع اتخاذ القبور مساجد ] المسألة الثانية: حكمة التشريع في منع اتخاذ القبور مساجد: ربما تبادر إلى الذهن أن علة النهي هي مخالفة المشركين، كما هو ظاهر من بعض النصوص المتقدمة، ونص الشافعي - رحمه الله تعالى - بأن النجاسة علة من علل الحكم " لكون المقبرة اختلطت بلحم وعظام الأموات، فصارت نجسة (1) . والحق أن مخالفة المشركين في هذا واردة، لكون عملهم هذا ذريعة موصلة إلى الشرك. قال في المغني: " وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات؛ باتخاذ صورهم، ومسحها، والصلاة عندها، وكذلك فعل الناس بقبور الصالحين ". ا. هـ مختصرا (2) . وقال الشافعي: " أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس " (3) . وقال النووي: " إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية " (4) . وقد نص على ما ذكره هؤلاء العلماء - رحمهم الله تعالى - ابن تيمية، وابن القيم، وصاحب الدعوة السنية في نجد محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم رحمهم الله تعالى (5) .   (1) الأم للشافعي (1 / 92) . (2) المغني لابن قدامة (2 / 508) . (3) المجموع للنووي (5 / 269) ، وانظر: الأم (1 / 92ـ 93) . (4) شرح النووي على صحيح مسلم (2 / 162) . (5) انظر: الفتاوى لابن تيمية (27 / 502) ، وإغاثة اللهفان لابن القيم (1 / 362) ، وتيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص704) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وكلام هؤلاء العلماء متحد المعنى، مختلف اللفظ، وإنما أوردته مثالاً لغيرهم من العلماء - رحمهم الله تعالى -. وقال العلامة ابن باز - حفظه الله - في قول ابن حجر - رحمه الله -: " وقد يقول بالمنع - أي من الصلاة في المقبرة - مطلقا من يرى سد الذريعة، وهو متجه قوي ". قال - حفظه الله -: " وهذا هو الحق لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك؛ ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبور فيها " (1) . وأما القول بأن العلة هي النجاسة فليس بصحيح، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر - صلاة جنازة - وهي صلاة يشترط لها الطهارة (2) . بل ذهب الإمام مالك إلى صحة الصلاة في المقبرة، وتبعه جماعة من العلماء (3) . وسيأتي تفصيل هذا - إن شاء الله - في الفصل الثالث من هذا الباب. [ المسألة الثالثة حكم المسجد المبني على القبر أو إدخال القبر فيه ] المسألة الثالثة: حكم المسجد المبني على القبر أو إدخال القبر فيه: تقدم أنه يحرم اتخاذ القبور مساجد؛ وحينئذ فإدخال القبر بالمسجد حرام. وإذا اجتمع القبر والمسجد فلهما حالتان: -   (1) فتح الباري (الهامش) (3 / 308) . (2) انظر: المحلى لابن حزم (4 / 28) ، والمصنف لابن أبي شيبة (2 / 379) ، وإعلام الموقعين لابن القيم (2 / 365) ، والإنصاف (2 / 531) ، والفروع (1 / 371) ، وبداية المجتهد (1 / 238) . (3) المدونة الكبرى (1 / 90) ، وانظر: التمهيد لابن عبد البر (5 / 234) ، والمغني لابن قدامة (2 / 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الحالة الأولى: أن يبنى المسجد أولا ثم يدخل فيه القبر، فلا يخلو هذا القبر من أمرين: - أحدهما: أن يكون جديدا، فيجب نبشه وإزالته عن المسجد تماما، وتسقط حرمته إن كان مسلما، باعتدائه أو اعتداء من أدخله المسجد. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لعرق ظالم حق» . رواه أبو داود (1) والترمذي (2) . وثانيهما: أن يكون القبر قديما، لكنه بعد المسجد. فذكر ابن تيمية: أن هذا القبر يسوى (3) . والذي يظهر لي: أنه يجب نبشه، وإخراج عظامه ولحمه، وما خالطها من تراب، واستبدال تراب طاهر به إن كان الميت مسلما، فإن كان كافرا فمن باب أولى، لما ذكرته من الأدلة آنفًا، ولاتفاق العلماء على تحريم دفن الميت بالمسجد (4) ولأن حماية المسجد واجبة؛ إذ هو حق مشاع للأحياء، وليس للأموات فيه مشاركة، فلا بد من إخراجه. أما الصلاة في هذا المسجد فصحيحة، لكونه بني خالصا لله تعالى في أرض تجوز الصلاة فيها. وينبغي للمصلي أن يجتنب استقبال القبر ما وسعه ذلك، فإن استقبله في صلاته معظما له فهو على خطر عظيم (5) .   (1) أبو داود ك الإمارة ب إحياء الموات. سنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود (8 / 326) . (2) الترمذي ـ أبواب الأحكام ب ما ذكر في إحياء أرض الموات. سنن الترمذي المطبوع مع شرح الإمام ابن العربي (6 / 146) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال في كشف الخفاء (2 / 171) : في سنده زمعة بن صالح ضعيف. (3) الفتاوى لابن تيمية (22 / 195) . (4) انظر: المجموع للنووي (2 / 182) ، والفتاوى لابن تيمية (22 / 195) . (5) انظر: المغني (2 / 73) ، وكشاف القناع (1 / 294) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الحالة الثانية: أن يكون القبر قد وضع أولا، ثم بني عليه مسجد. فهذه الحالة هي التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على لعن من يفعلها، وقد حدثت إقامة المشاهد على القبور في وسط المساجد، وحصل فيها بلاء وكفر بالله، وما تزال في بعض مساجد المسلمين اليوم، وأغلبها لأناس يزعم القائمون عليها أنهم من الصحابة أو التابعين، كالحسين (1) بن علي وزينب وغيرهما. وهي في الحقيقة ليست لهم (2) . وقد أنكر المحققون للتوحيد هذه الأعمال، وبينوا حكمها للناس (3) . والصلاة في هذه المساجد محرمة عند جمع من أهل العلم، لأن المسجد ذاته محرم، ويجب هدمه، لما في هذا العمل من مشابهة المشركين، ولأنه ذريعة إلى الشرك (4) . وتصح في هذه المساجد صلاة الجنازة، لصحتها بالمقبرة، وتصح صلاة من سجن بمسجد فيه قبر، لكونه لا يجد محلا غيره، وعليه ألا يستقبل القبر ما أمكنه (5) . وإن كانت القبور التي بالمسجد لمشركين، فتنبش ويطهر المسجد   (1) هو: الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، أمه فاطمة بنت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد شباب أهل الجنة. ولد عام 4هـ، وقتل عام 61 هـ. انظر: الإصابة (2 / 76) ، والبداية والنهاية لابن كثير (ص149) . (2) الفتاوى لابن تيمية (27 / 488) . (3) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم (3 / 131) ، والفتاوى لابن تيمية (22 / 195) . (4) انظر: المغني لابن قدامة (2 / 67) ، والفتاوى (27 / 489) ، وتيسير العزيز الحميد (ص704) . (5) انظر: المحلى (4 / 27) ، وكشاف القناع (1 / 294) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 منها، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بنائه لمسجده (1) . وأما أن يوجد القبر والمسجد في آن واحد فهذا نادر جدًا ولا يتأتى إلا إذا كان المسجد من مادة يمكن صنعها بسرعة، كعريش السعف ونحوه. قال ابن القيم: ولو وضع المسجد والقبر معًا لم يجز ولم يصح الوقف ولا الصلاة (2) وهذا من باب تغليب الحظر على الإباحة (3) ولأن الأحاديث تشمل هذه الصورة كغيرها مما تقدم ذكره (4) . ولو أن إنسانًا أوقف مسجدًا وشرط أن يدفن في جانب منه، لبطل شرطه لمخالفته المشروع (5) . ولربما قيل بحبوط عمله لسوء نيته.   (1) انظر: الجزء الأول، المسألة الأولى من أحكام المسجد النبوي. (2) ذكره ابن قاسم في حاشية الروض المربع (3 / 131) ولم أعثر عليه. (3) انظر: نيل الأوطار للشوكاني (5 / 112) ، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص105) ، وروضة الناظر لابن قدامة (ص27) تحقيق: الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد. ط: الأولى. (4) انظر: حاشية ابن قاسم (3 / 131) ، وكشاف القناع (1 / 294) . (5) انظر: إعلام الساجد للزركشي (ص356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [ المبحث الثالث بناء المساجد ] [ المسألة الأولى حكم بناء المسجد وفضله ] المبحث الثالث بناء المساجد لما تحدثت في المبحثين الأول والثاني عن موقع المسجد، بدأت بالحديث هنا عن عمارة المسجد بالبناء بعد تحديد موقعه، وذلك لنتعرف على أحكام هذا البناء وطريقته، وما أعد الله - سبحانه وتعالى - لمن بنى المساجد مخلصا لله تعالى من ثواب عظيم. وتفصيل هذا الحديث في المسائل التالية: - المسألة الأولى: حكم بناء المسجد وفضله: تقدم قول عائشة - رضي الله عنها -: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد بالدور، وأن تنظف وتطيب» (1) . وهذا الحديث ونحوه في ظاهره يدل على وجوب بناء المساجد، والذين يقولون بوجوب الجماعة في المسجد يوجبون بناء المساجد لهذا الدليل، ولأن المسجد وسيلة لتحقق الجماعة، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بنى مسجده، وفعل أصحابه - رضي الله عنهم -، والمؤمنون - بحمد الله تعالى - متفقون على أن بناء المساجد من الأمور الضرورية للمسلمين (2) . ولقد رتب الله - سبحانه وتعالى - فضلا عظيما لمن بنى المسجد أو شارك فيه، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] (3) .   (1) سبق تخريجه. (2) انظر: المجموع للنووي (2 / 183) ، ونيل الأوطار للشوكاني (2 / 257) . (3) سورة التوبة: الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الشاهد: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18] وجه الدلالة: أن قوله (يعمر) : دال على العمارة بالبناء، كما دل على العمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد طاعة لله سبحانه وتعالى (1) . ويستفاد من قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] (2) . فيستفاد من مفهوم هذه الآية الكريمة: أن من يعمر المساجد ويسعى في إصلاحها مأجور عند الله، قد عمل عملا صالحا، يحمد عليه في الدنيا والآخرة (3) . قد ثبتت أحاديث في فضل بناء المساجد، منها: - 1 - عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» . وفي رواية: «بنى الله له في الجنة مثله» . متفق عليه (4) .   (1) انظر: تفسير ابن كثير (4 / 61ـ 63) ، وحاشية الجمل على الجلالين (2 / 271) . (2) سورة البقرة: الآية 114. (3) انظر: روضة الناظر لابن قدامة (2 / 264) تحقيق: الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد. (4) البخاري (1 / 453) ، ومسلم رقم 533، وأخرجه الترمذي رقم 318، وابن خزيمة في صحيحه (2 / 269) ، وانظر: شرح السنة للبغوي (2 / 347) ، وجامع الأصول لابن الأثير (11 / 186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 2 - عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة» . رواه الترمذي، وهو حديث حسن (1) . 3 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى لله مسجدا ولو مفحص» (2) «قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» . وفي رواية: «ولو كمفحص قطاة» . رواه ابن أبي شيبة، وروي عن ابن عباس وعائشة مثله (3) . وهذه الأحاديث متقاربة في لفظها، متحدة في دلالتها، إذ تدل على أن الجزاء أوفى من العمل عند الله تعالى، فباني المسجد في الدنيا يبني الله له به بيتا في الجنة، لا يخرب، ولا يفنى. وقد وردت أحاديث، في أسانيدها للعلماء مقال، لكنها في جملتها تتحد مع دلالة هذه الأحاديث في بيان الفضل العظيم من الله تعالى، لمن بنى المسجد خالصا لله تعالى بنية التقرب إليه - عز وجل (4) . وأما قوله «ولو كمفحص قطاة» فقيل: إنه للمبالغة، وقيل: إنه على الحقيقة؛ وذلك أن الله سبحانه يجزي من ساهم ببناء المسجد، ولو كان مقدار سهمه قليلا كمفحص قطاة، فإن الله لا يضيع أجره (5) . قلت: وهذا الصواب - إن شاء الله -، وما كان هذا الفضل من الله   (1) الترمذي رقم 319، تحفة الأحوذي (2 / 266) ، وانظر: الفتاوى لابن تيمية (29 / 19) . (2) مفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه: أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه. / انظر: مختار الصحاح ص492، وأساس البلاغة ص701. (3) المصنف لابن أبي شيبة (1 / 310) ، ورواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان. قاله في كشف الخفاء (2 / 238) وإسناده حسن. (4) انظر: السنن والمبتدعات لمحمد خضر (ص39) . (5) انظر: نيل الأوطار للشوكاني (2 / 256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إلا لعظمة هذه المساجد وأهمية وجودها في الأرض للمسلمين، وقد ذكر القرطبي - رحمه الله - أن ابن عباس ومجاهدا والحسن قالوا: " إن هذه المساجد تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض " (1) . ولقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - إذا فتحوا بلادا بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزا إسلاميا لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وأخرتهم. ولا ينبغي أن يتولى عمارة المسجد بالبناء من العمال ونحوهم إلا المسلمون ما داموا موجودين وقادرين بإذن الله على ذلك، وهم أحق وأشرف وأولى من غيرهم. وهكذا تخطيط عمارة المسجد يجب أن يكون بأيد مسلمة مؤمنة، ولا يعتمد على أحد من الكفار في شيء من هذا. وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا برقم 28 في 21 / 10 / 400 اهـ، نشر في مجلة البحوث الإسلامية بعدد 21 في عام 408اهـ، وجاء فيه ما نصه: " ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع واستمع إلى كلام أهل العلم فيه رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وألا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره تنفيذا لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها، وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها وتوليهم لكثير من أمورها، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو   (1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6 / 12 / 265) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تنفيذها فقد يصممونها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس كما حدث من بعضهم وقد يغشون في التنفيذ والبناء لأنهم أعداء لهذا الدين ولمن يدين به من المسلمين. ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين ألا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين، والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) . . ولهذا لا بد من العناية ببناء المسجد وباختيار من يتولى تنفيذه لجميع مراحل التنفيذ. ذلك لأن المسجد قلعة الإيمان وحصن الفضيلة والمدرسة الأولى التي يتخرج فيها المسلم ويتلقى فيها العلم الصحيح، وهو بيت الأتقياء، ومكان قوة المسلمين في العلم والاستعداد والتشاور والتخطيط والاتحاد. ومنه خرجت الجيوش المؤمنة المتوضئة ففتحت مشارق الأرض ومغاربها. وللمسجد في الإسلام وظائف لا تحصى وهي عظيمة الفائدة والنفع للأمة، لذا كان لزاما أن يكون بناء المسجد منسجما مع دوره القيادي في الأمة (2) . [ المسألة الثانية تنظيم الجهات المختصة لبناء المساجد ] المسألة الثانية: تنظيم الجهات المختصة لبناء المساجد: تتخذ الدول الإسلامية في حكوماتها طرقا خاصة للعناية بالمساجد، تختلف في الشكل، وتتفق في الهدف، ومن المعلوم أن   (1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد 21، ص20ـ 38. (2) انظر: المسجد منطلق الدعوة ص19 من كتاب رسالة إلى أئمة المساجد والمؤذنين والمأمومين للشيخ الجار الله ط الأولى 1408 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 نظام بناء المساجد في هذه البلاد يكون مندرجا في الخطوات التالية: أولا: صدر الأمر السامي رقم 3 / أ / 12336 في 5 / 6 / 1399 هـ بتكليف وزارة الحج والأوقاف بتنظيم عملية بناء المساجد في الأحياء السكنية. ثانيا: تؤخذ مساحات معينة من أصحاب المخططات الكبيرة لتكون مسجدا يتبعه مرافقه، وهي: بيوت القائمين على المسجد، ودورات مياه للمسجد، ومواقف جانبية للسيارات عند المسجد. ثالثا: إثبات وقفية الأرض للمسجد شرعا لدى حاكم شرعي. رابعا: تُثمن بعض الأراضي ثم تجعل مساجد، أو توسعة لمساجد صغيرة. خامسا: تقوم الوزارة ببناء بعض المساجد على نفقة الدولة، وتوفير كافة مستلزمات جميع المساجد من أدوات كهربية وفرش وغيرها. سادسا: يقوم أهل الخير بما تجود به أنفسهم من أموال ببناء المساجد في الأحياء السكنية، أو تجديد ما انهدم منها. سابعا: يتم أخذ إذن من الجهات المختصة وفسح لبناء المسجد، كما تقوم وزارة الحج بتقديم مخططات كاملة لمشروع المسجد ومرافقه إلى من يريد أن يعمر المسجد على حسب طلبه، وتنفذ الوزارة بعض المساجد على وفق مخططات معدة لهذا الغرض. ثامنا: تقدم وزارة الحج والأوقاف مساعدة مالية مقدارها أربعون بالمائة من تكلفة البناء لمن أراد أن يبنيه على حسابه. تاسعا: تشرف وزارة الحج وبعض الجهات المختصة على عملية البناء ومراقبة القائمين عليه، حتى يكتمل البناء، ثم تسلمه إلى شركات للصيانة للمحافظة على آلاته وأدواته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 عاشرا: تتولى لجنة فنية مختصة مؤتمنة الإشراف على جدار القبلة، وتدقيق اتجاه القبلة بالآلات العلمية الحديثة. حادي عشر: تتولى الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد الإذن بإقامة صلاة الجمعة في المسجد المهيأ لذلك بعد تشكيل لجنة للإشراف على المسجد ومعرفة مدى إمكان إقامة صلاة الجمعة في هذا المسجد، ثم تطلع الهيئة العامة للإفتاء على قرار اللجنة، وتصدر رأيها في الموضوع (1) . والمتأمل للمساجد في المملكة وفي العالم الإسلامي ككل: يجد عناية شديدة في زخرفة المساجد، وفي تصميم شكلها الخارجي. ومن المعلوم أن بناء المساجد من حيث الشكل ليس توقيفيا؛ بل هو متطور مع التطور العمراني، ويختلف شكله من جهة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد، ويدل لهذا أن مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تغير شكله في عهد عثمان عن شكله في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - " بل لقد تغير شكل المسجد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) . والمملكة العربية السعودية وهي تحتوي على 28000 (3) مسجد أو تزيد فإن هذا يدل على مدى عناية أبناء هذه البلاد المباركة وحكامها ببيوت الله، والتي نتمنى أن تستمر وتزيد، وأن يعتني بالمساجد من ناحية وظيفتها في الحياة الإسلامية كما هو الحال في العناية بشكلها.   (1) انظر: جريدة الرياض ـ العدد 5952 ص3، والعدد 5962 في 24 / 1 / 1405، وعدد 5963 ص5، وانظر: العدد 6396 ص3 في 15 / 4 / 1406 هـ جريدة الرياض. (2) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض (5 / 157) ، والمغني (4 / 556) ، وحاشية ابن عابدين (4 / 358) ، والإنصاف (5 / 263) . (3) قد أعدت الرسالة سنة 1406 هـ، أما الآن فقد زاد هذا العدد زيادة كبيرة. (المركز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45