الكتاب: ترتيب المدارك وتقريب المسالك المؤلف: أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (المتوفى: 544هـ) المحقق: جزء 1: ابن تاويت الطنجي، 1965 م جزء 2، 3، 4: عبد القادر الصحراوي، 1966 - 1970 م جزء 5: محمد بن شريفة جزء 6، 7، 8: سعيد أحمد أعراب 1981 - 1983م الناشر: مطبعة فضالة - المحمدية، المغرب الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- ترتيب المدارك وتقريب المسالك القاضي عياض الكتاب: ترتيب المدارك وتقريب المسالك المؤلف: أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (المتوفى: 544هـ) المحقق: جزء 1: ابن تاويت الطنجي، 1965 م جزء 2، 3، 4: عبد القادر الصحراوي، 1966 - 1970 م جزء 5: محمد بن شريفة جزء 6، 7، 8: سعيد أحمد أعراب 1981 - 1983م الناشر: مطبعة فضالة - المحمدية، المغرب الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الذي أسبغ على عباده بفضله نعماً لا تحصى، وقدر على ما شاء بعدله أن يطاع ويعصى، وعين بين أهل الجنة والنار بقضيتي القضاء، وميز في ظهر آدم بين طائفتي السعادة والشقاء، ثم انتقى منهم ليتمم عدله خواص وأصفياء، وجعل فيهم رسلاً وأنبياء، ليوضح بهم لمن أراد هداية منهاجه، ويقيم على من صد عنه وصرف عن آياته حجاجه، فبذلوا في ذاته جدهم، ونصحوا العباد جهدهم، إلى أن اختار الله تعالى لهم ماعنده وقضى كل واحد منهم ما كتب له من أثر ومدة، عليهم من صلوات الله ما لا يحيط به حصر ولا عدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ثم تمم الله على المؤمنين بفضله، وختم أنبياؤه ورسله، بأرجحهم ميزاناً، وأرفعهم مكاناً، وأكرمهم أخلاقاً، وأطيبهم أعراقاً، وأطولهم في الفضائل باعاً، وأكثرهم أمة وأتباعاً، أبي القاسم، سيد ولد آدم، صلى الله عليه وسلم، كما شرف وكرم، فجاهد في الله حق جهاده، وزايل الجلايل الصعبة في إرشاد عباده، حتى أقاموا على سواء محجته، وأخذهم طوعاً وكرهاً ببالغ حجته، وسافهم في السلاسل إلى جنته، ودخلوا في دين الله أفواجاً بدعوته، فأنجز الله به وعده، وعبد تعالى وحده، وخصه بخير أمة أخرجت للناس، وآزروه في إقامة شرعة في حياته، وخلفوه في حياطته وحمايته بعد وفاته، نص في غير موطن على تفضيلهم، وأمر بالاقتداء بهم، وتوعد على اتباع غير سبيلهم، بوأهم دار وحيه، ومأوى دينه، ومتبوى شرعه، ومهبط ملائكته، ومهاجر نبيه، ومنزل كتابه، ومختم مثوى رسله، ومجثم الخير كله، كهف الإيمان والحكمة، ومعدن الشريعة والسنة، وسراج الهدى الذي بنوره ضاء أقطار المشارق والمغارب، وينبوع العلم الذي استمدت منه سائر الأدوية والمذائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ثم خلفهم في كل قرن باتباع صدق وعدل، واخلاف هدى وفضل، وأكناف معرفة وعلم، ومعادن خير وحلم، اختار منهم أئمة المسلمين، ونصب منهم أعلاماً للدنيا والدين، فبينوا للناس ما نزل إليهم، وشرحوا لهم ما أشكل عليهم، وانقادوا لما ثبت من السنن لديهم، واعتبروا باستنباطهم، وصحيح اجتهادهم، حكم ما لم ينص على عينه، وقاسوا - بما فهموا من الشرع - حكمه في غيره، ولم يزيغوا عن سنن التحقيق، ولا أخذوا بنيات الطريق، ولا حكموا الآراء المضلة في الدين، ولا انهملوا انهمال الملحدين، وتنطعوا تنطع المعتدين، بل تبعوا آثار من مضى قبلهم، واقتفوا في التمسك بأصول الشريعة سبلهم، ولم يضرهم خلال من خالفهم من الفرق، ولا شغب من لج في هواه ومرق، فالموفق من اقتفى آثارهم، وغاير شرود من شرد وأتباعهم، وعلم أن الحق مع هذا النمط الذي هدى الله واقتدى بهداه، ولم يعرج على ناعق نعق وان اختدع العقول بلهجة صداه، جعلنا الله ممن اتبع فعلم، واقتفى ما مر عليه السواد الأعظم. وبعد فلما تكررت رغبات الأصحاب، شملنا الله وإياهم بسعادته، لإمضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ما كانت النية اعتقدته، وتبييض ما غدت الهمة قد سودته: من كتاب حاو لأسماء أعيان المالكية وأعلامهم، وتبين طبقاتهم وأزمانهم، وجمع عيون فضائلهم وآثارهم، ونظم نثر فنون سيرهم وأخبارهم، تشمل منفعته، وتجمل معرفته، وتستغرب فوائده، وتستعذب مصادره وموارده، إذ هو فن لم يتقدم فيه تأليف جامع، ولا اختص به تصنيف رائع، يوصل الطالب إلى الغرض، ويقف بالراغب على البغية، مع شدة حاجة المجتهد والمقلد إليه، وضرورة الفقيه والمتفقه إلى ما ينطوي عليه، إلا ما جمعه عبد الله بن محمد بن أبي دليم القرطبي، من ذلك، ومحمد بن حارث القروي، مع تقدم زمنهما، وما اقتضته الشيخ أبو إسحاق الفيروزأبادي في موضع ذكرهم من مختصره، وكل الكتب فما شفت غليلاً، ولا تضمنت من الكثير إلا قليلاً، على أن ابن أبي دليم اتسع اتساعاً حسناً، فيمن ذكره من المغاربة، من أتباع رواة مالك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 من المصريين والأندلسيين، وطائفة من القرويين، واقتصر على ذكر طبقاتهم، دون شيء من أخبارهم، وبيان أحوالهم، ولم يجز لأحد من الحجازيين والمشرقيين ذكراً، على جلالة مكانهم، وكثرة أعلامهم، قال القاضي: ولم أزل، منذ سمعت همتي لمعرفة هذا الفن، وتحركت نيتي للاطلاع عليه، أستقرىء سبل مسالكه، وأفحص عن وجوه مداركه وأقيد أثناء مطالعتي شوارده، وأجود، مدة بحثي، جوائده، إلى أن اجتمع لي من ذلك، بعد طول المباحثة الشديدة، والعناية التامة، والمطالعة المتواترة، ما وجدته بغية وغنية، وبسط لي في تحريره أملاً ونية، ولم ألق أحداً ممن يعتنى بقوله، ويلتفت إلى حسن رأيه، ممن وقف على نبذ من أمره، وانتهى إليه رش من ذكره، إلا قلقاً إلى تمامه، شديد التعطش إلى كماله، محرضاً على صرف العناية إلى تحريره وتهذيبه، راغباً في تقريب الفائدة بنظمه وتبويبه، والنفس تمطل بذلك وتسوف، وتوالي القواطع والشواغل تصدف عن ذلك وتصرف إلى أن انبعثت الآن عزمة مصممة للتفرغ، وترتيب مضمنه وتصنيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فاستخرت الله تعالى على ذلك، واستعنته، جل اسمه، لتوطئة هذه المسالك، وجمعت قراطيس فقبضتها، عما استودعتها، وطالعت تآليفي فوقفت على خفي أسرارها، واستشبت محفوظاتي فأنجدتني أذكارها، فنظمت منثورها، وفصلت شذورها، ورتبت أعجازها وصدورها، وأبرزت تأليفاً مفرداً في مضمونه، بالغاً فيما قصر عليه من أنواع هذا العلم وفنونه، واقتضى النظر بين يدي الغرض تقديم مقدمات تمس الحاجة إليها، ونتمم الفائدة بالوقوف عليها، تشتمل على أبواب في ذكر المدينة وفضائلها، وتقديم علمائها وعملها، ووجوب الحجج بإجماع أهلها، وترجيح مذهب مالك بن أنس، أمامها، وتقصيت هذه الأبواب تقصياً يشفي الغليل، ونعمتها نظراً يقف بالمنصب على سواء السبيل، ثم قفيته باقتداء الأئمة وثناء العلماء عليه، ونشر فضائله وما أضيف من السر إليه، إلى سائر ما يحتاج إليه، من معرفة تاريخه ونسبه، ويتطلع إليه من مجاري أحواله في معاشرته وأدبه، واستوعبت في هذه الجملة باختصار فنونها، والاقتصار على عيونها، ما طالت به تواليف جمة، وشحنت به مجلدات عدة. إذ ألف فضائل مالك وأخباره جماعة من الأئمة، والسلف والخلف من فرق هذه الأمة، فممن ألف في ذلك وأطال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 القاضي أبو عبد الله التستري المالكي له في ذلك ثلاث مجلدات ومثل ذلك أبي الحسن بن فهر المصري ولأبي محمد الحسن بن اسماعيل الضراب وألف في ذلك القاضي أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، وأبو بشر الدولابي، وأبو العرب التميمي، والقاضي أبو الحسن بن المنتاب وأبو علاثة محمد بن أبي غسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأبو اسحاق بن شعبان والزبير بن بكار القاضي الزبيري، وأبو بكر محمد بن محمد اليقطيني، وأبو نصر بن الحباب الحافظ، وأبو بكر ابن أبي دراوية الدمشقي، والقاضي أبو عبد الله البرنكاني وأبو محمد الجارود، والحسن بن عبيد الله الزبيري، وأحمد بن مروان المالكي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والقاضي أبو الفضل القشيدي، وأبو عمر المقاصي، وأحمد بن رشد بن جعفر، وأبو بكر بن محمد بن صالحا الأبهري، وأبو بكر بن اللباد، وأبو محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبو عمر بن عبد البر الحافظ والقاضي أبو محمد بن نصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري، وأبو ذر الهروي وأبو عمر الطلمنكي، وأبو عمر بن حزم الصدفي، وابن الامام التطيلي، وابن الحارث القروي، وابن حبيب، والقاضي أبو الوليد الباجي، وأبو مروان بن الأصبغ القرشي النقيب. وأكثر تعويلي فعلى كتابي التستري والضراب وتتبعت من غيرهما ما فيه زيادة فائدة أو نادرة لم تقع فيهما، وحذفت كثيراً مما أطالوا به من كلامه في التفسير والجوامع والرجال، إذ ليس من الغرض وله مظان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أخر هي به أليق، ثم اثبت بعد ذلك جريدة في أسماء مشاهير الرواة عن مالك وحملة الفقه والعلم عنه، مختصة بالتعريف بهم معدات من تواريخهم وأخبارهم إذ قد اتسعنا في أخبار الفقهاء منهم بعد هذا، ومن عداهم فليس من غرضنا ذكرهم، ولم أقصد في هذه الورقات لاستيعاب كل من ذكرت له عنه رواية أو مجالسة أو سؤال إذ قد أودعنا ذلك كتاباً آخر في جمهرة رواة مالك انطوى على أزيد من ألف وثلاثمائة راو تقصيتها من الكتب المؤلفة في ذلك إذ ألفت في ذلك كتباً عدة ككتاب أبي الحسن الدارقطني الحافظ، وكتاب اسماعيل الضراب المصري، وأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي، وأبي اسحاق بن شعبان القرطبي، وأبي الحسن بن أبي عمر البلخي، وأبي عبد الله بن حارث القروي، وأبي نعيم الأصبهاني، ومنهم من بلغ الألف ومنهم من قصر دونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومن الأندلسيين أبو عبد الله محمد بن مفرج، وعبد الله بن أبي دليم وهما أقل عدداً وأبو محمد عبد الرحمان بن محمد البكري وفي كل واحد من هذه الكتب ما لم يذكر الآخر، فتتبعت ذلك جهدي وأضفت إليه ما شذ عنها وندر، فيما طالعته من كتب أهل الحديث وغيرهم. اقتصرنا في هذه الورقات على ذكر ألف اسم ممن عرف اسمه وصحت روايته وشهرت صحبته، ورأينا أن لا نخلي هذا الديوان من هذا القدر لتتم به فوائده وتكمل في فنه معارفه. وبعد هذا، اطردت أغراض التأليف واتسقت طبقات التصنيف، فابتدأنا بذكر الفقهاء من أصحابه خاصة، ثم باتباعهم طبقة طبقة وأخلافهم أمة بعد أمة، إلى شيوخنا الذين أدركناهم وأئمة زمننا الذين عاصرناهم ممن شهرت إمامته، وعرفت معرفته، أو ظهرت تواليفه ونقلت أقواله وامتثلت فتاويه وآراؤه، على حسب تقدم أزمانهم وتعاقب أوقاتهم، فأنبأنا بأسمائهم وأعربنا عن ألقابهم وأنسابهم وقيدنا مهملها لئلا يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فيها تصحيف، وأزحنا علية مشكلها ليأمن من أطلع عليها من التحريف. فقد قال أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الله النجرسي: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس. لأنه لا يداخله قياس لا قبله ولا بعده شيء يدل عليه، وقال علي بن المديني: أشد التصحيف التصحيف في أسماء الرجال. وقد قال ابن جريج طلبت اسم جندع بن ضمرة ثماني سنين حتى عرفته وكثيراً ما شاهدت وسمعت في بعضها من التصحيف الشنيع ما يقبح ذكره ويشهد على الجاهل بها نقصه، وقد غلب على ألسنة الفقهاء أحمد بن ميسرة بكسر السين وصوابه بفتحها. كذا قيده عبد الغني وغيره. وكذاك أحمد بن المعذل كثير من يقوله بدال مهملة وصوابه بمعجمة، ومن ذكر الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في رواة سحنون من الأندلسيين: إبراهيم بن محمد بن زيان ولا يعرف ذلك في الأندلس وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 رده عليه أهل الصنعة، والأشبه أنه ابن بلز وهو من جلة تلك الطبقة وكذلك صنع في أسماء كثيرة منهم في أنسابهم وذكرهم في غير طبقاتهم فأما تمييز المشتبه منها فمما لا يقف عليه إلا التحرير، ولا يعرفه إلا الفطن بهذا الباب البصير. ولقد بعث لسحنون في محمد بن رزين وقد بلغه أنه يروي عن عبد الله ابن نافع فقال له أنت سمعت ابن نافع؟ فقال: أصلحك الله إنما هو الزبيري وليس بالضائع. فقال له: ولم دلست؟ ثم قال سحنون: ماذا يخرج بعدي من العقارب. فقد رأى سحنون وجوب بيانها، وإن كانا ثقتين إمامين. حتى لا تختلط روايتاهما وأقوالهما فإن الصائغ أكبر وأقدم وأثبت في مالك، لطول صحبته له. وهو الذي خلفه في مجلسه بعد ابن كنانة، وهو الذي يحكي عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 سحنون ويحيى بن يحيى ويرويان عنه ولم يسمع سحنون منه سماعاً وإنما سمعه من أشهب كما نذكره بعد، ووفاته سنة ست وثمانين ومائة. والزبيري من متأخري أصحاب مالك وهو شيخ ابن حبيب وسعيد بن حسان ووفاته سنة ست عشرة ومائتين وكثيراً ما تختلط رواياتهم عند الفقهاء، حتى لا علم عند أكثرهم بأنهما رجلان، وربما جاءت رواية أحدهما مخالفة لرواية الآخر، فيقولون في ذلك اختلاف من رواية ابن نافع عن مالك وقد وهم فيهما عظيم من شيوخ الأندلسيين بعد أن فرق بينهما، لكنه زعم أن صاحب السماع هو الزبيري وأنه المذكور في العتيبة، ومثل ذلك علي ابن زياد التونسي وعلي بن زياد الاسكندراني كلاهما من أصحاب مالك فاضل مشهور. فالأول الفقيه شيخ سحنون وغيره، والآخر صالح يعرف بالمحتسب. وقد جرى ذكر ابن زياد مرة بحضرة من يفهم هذا الباب، فلم يكن عنده شك أن الفقيه المذكور اسكندارني فقلت له هما اثنان وأوقفته على من قال ذلك بمعرفة، هذا مما يضطر إليه، لا سيما إذا كان بينهما فرق في العلم ومزية في العدالة والفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثم ذكرنا من مولدهم ووفاتهم وذكر مشايخهم ورواتهم وتصنيف أزمانهم وطبقاتهم ما انتهى ألينا علمه، وصح عندنا نقله، لتعرف بذلك أوقاتهم ولتبين في التقدم والتأخر درجاتهم، ويتميز بذلك المتصل من المنقطع من روايتهم. وكثيراً ما يخلط الفقهاء هذا الباب، وربما حكوا الرواية وأسندوها عن المتقدم عن المتأخر إذا اشتبهت عليهم طبقاتهم ولم تتميز لهم أوقاتهم وقد شاهدت معظماً منهم ذكر عن ابن حارث الفقيه مسألة، قال فيها ابن حارث: وقد شاهدت أحمد بن نصر يفتي بذلك. فحمل هذا الشيخ أنه ابن نصر الداودي المتأخر وطبقته بعد ابن حارث توفى ابن حارث سنة اثنين وستين وثلائمائة، وتوفى الداودي سنة اثنين وأربعمائة. وإنما أراد ابن حارث أحمد بن نصر بن زياد الهواري من أصحاب ابن سحنون، وابن عبدوس كاتب القاضي همام ووفاته سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فلو عرف الشيخ، والله أعلم، أنهما اثنان وميز طبقتهما لما سقط هذا السقوط ولعدم المعرفة بهذا وهم جماعة فعدوا في الرواة عن مالك وأصحابه من لا تصح عنه رواية ولا جمعه معه زمن والله أعلم. فلقد ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن أبا يحيى الوقار ممن سمع من مالك، وعده في طبقة أصحابه ولم يذكر هذا أحد ممن جمع رواة مالك وإنما عدوه في أتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أصحابه وهو الصحيح والله أعلم. وكذلك ذكر أبو إسحاق ابن شعبان إبراهيم بم محمد بن باز الأندلسي في رواة مالك، وهو من أصحاب سحنون مولده بعد وفاة مالك بمدة وتوفى سنة أربع وسبعين ومايتين وكذلك ذكر أبو بكر الخطيب، على تقدمه وحفظه، عبد الملك بن حبيب في الرواة عن مالك وأدخل له حديثاً عن المغيرة عنه، وهو غلط عظيم، لاسيما من مثله. وعبد الملك ابن حبيب إنما رحل سنة ثمان ومايتين بعد موت مالك بسنتين على ما تراه في أخباره إن شاء الله تعالى. وكذلك ما ذكره الشيرازي أيضاً أن عبد الملك بن حبيب تفقه أولاً بيحيى وعيسى وحسين بن عاصم هو وهم. هؤلاء نظراؤه، وإنما تفقه أولاً بشيوخ هؤلاء الأندلس زياد وصعصعة والغازي بن قيس ونظرائهم، وكذلك ذكره عبد الله بن غافق في طبقة سحنون، وزعم أ، هـ سمع من علي بن زياد باطل، هو من أصحاب سحنون وليس من ذوي الأسنان منهم، ومولده بعد موت علي بن زياد بأزيد من عشرين سنة كما سنذكره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وكذلك ذكر الرازي في استيعابه وأحمد بن عبد البر أن عيسى بن دينار سمع من مالك ورحل مع زياد وأقام بعده، وهذا كله وهم. وسنبين ذلك كله في مكانه إن شاء الله تعالى مع أمثاله. ثم ذكرنا بعد هذا من فضائلهم ومناقبهم وثناء الأجلاء عليهم وتوثيق المزكي من الذكاء والعدالة ومراتبهم في العلم والرواية ومن تكلم فيه منهم على قلتهم أوعد منهم في أول التقدم والإمامة، مع ما يحتاج إليه الناظر المجتهد فيمن يعتمد بخلافه وأجماعه، ويضطر إليه المتفقه والمقلد في معرفة من يدين بإمامته وأتباعه. ودحضنا الدلس عن قوم منهم تحامل المتعصبون عليهم، أو تجمل أهل الريب بإضافتهم إليهم. وقد صح وعرف خلاف ذلك بما سنجلبه إن شاء الله تعالى، إذ نزه الله تعالى أهل هذا المذهب عما خالط من الهوى سواهم من أهل المذاهب، وعصمهم من علة الافتراق والتدابير فليس في أيمتهم بحمد الله من صحت عنه بدعة، ولا من اتفق أهل التزكية على تركه لكذب أو جرحة، وإن كان أبو خيثمة زهير بن حرب تكلم في أبي مصعب الزهري، ويحيى بن معين في إسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن بكير. فما ضرهم ذلك. قد خرج عنهم إمام المعدلين صاحب الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري، إذ لم ينسبهم إلى كذب ولا ريبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وإن كان الباجي تعسف فيما نقله على عبد الملك بن الماجشون في علله، فالصحيح عنه ضد ذلك وهو المشهور من مذهبه حسبما نبينه عند ذكر كل واحد منهم في موضعه. وكذلك صنع يحيى بعبد الله ابن عبد الحكم فلم يقلد في قوله، وقد خالفه أبو حاتم الرازي في ذلك وغيره كما أن قول القاضي أبي الوليد رحمه الله في القزويني أنه مجهول غير ملتفت إليه وكذلك قال في الصالحي فلو اعتنى رحمه الله بهذا الباب لعلم أن الصالحي هو أبو بكر محمد بن صالح الأبهري، ولما قال فيه هذا ولنفى حال أبي سعيد القزويني وجلالته وإمامته في العلم، وحسن تصانيفه فصحح روايته ولم يرتب في نقله وكذلك ذكر في ابن خويز منداد وهو في شهرته وكثرة تصانيفه حيث لا يذكر أنه مجهول، وقال أن أحداً من أيمتنا البغداديين لم يذكروه، وهذا الشيرازي قد ذكره في كتابه وهذا أبو محمد عبد الوهاب يحكي عنه ويقول فيه، وقال أبو عبد الله البصري وأنت أيها المنصف متى اعتبرتهم مع غيرهم وجدتهم أصح يقيناً وأمتن ديناً وأكثر أتباعاً وأزكى صحابة وأتباعاً حتى أن سيئاتهم حسنات سواهم، وما ينتقد بعضهم على بعض لا يلتف إليه من عداهم، ولهذا قال سحنون رحمه الله: المدني إذا لم يكن هكذا. يريد في الدين وشديده أيسر شيئاً أو كما قال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وفي كتاب الحكم المستنصر إلى الفقيه أبي إبراهيم، وكان الحكم ممن طالع الكتب ونقر عن أخبار الرجال تنقيراً لم يبلغ فيه شأوه كثير من أهل العلم، فقال في كتابه وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن زين على قلبه وزين له سوء عمله وقد نظرنا طويلاً في أخبار الفقهاء وقرأنا ما صنف في أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهباً من المذاهب غيره أسلم منه فإن فيهم الجهمية والرفضية والخوارج والمرجئة والشيعة إلا مذهب مالك رحمه الله تعالى فإنا ما سمعنا أحداً ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله تعالى. وقد مزق القرويون أسمعتهم من ابن أبي حسان وطرحوها على بابه لكلمة برزت منه لأمير افريقية حرضه بها على العصاة لا يبعد صوابها في بعض الأحوال كان الأولى بمثله غيرها، لامامته وفضله وتقدمه ستأتي مستوعبة إن شاء الله، ولهذا ماتركوا الحمل عن محمد بن رشيد، وكان ثقة من نمط سحنون وإليه كانت الرحلة معه لتساهل رئي منه في المعاملة، وترخص في العينة والأخذ برأي من لم ير الذريعة فتركوه حتى لما مات لم ينظر سحنون في تركته، وأسندها إلى حبيب صاحب مظالمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: ثم جمعت من أخبارهم وقصصهم وفقر من سير حكامهم وقضاتهم ونوادر من فتاوى فقهائهم وأيمتهم ما يحتاج إليه ولا غنى بالعلماء عنه وأثبتنا من حكم حكمائهم ورقائق وعاظهم ومناهج صلحائهم وزهادهم، ما ترجى بركته ولا تخيب إن شاء الله تعالى منفعته، وقد قال سفيان بن عينية رحمه الله تعالى: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من الفقه، لأنها آداب القوم، وقال بعض المشايخ: الحكايات جند من جنود الله يثبت بها قلوب أوليائه. قال وشاهده قوله تعالى وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. وذكرنا من محن ممتحينهم وبلايا مبتليهم ما فيه مسلاة للممتحنين وأدلة على ثبات قدمهم في الصالحين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشدهم - يعني الناس - بلاء، الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى المرء على قدر إيمانه، فإن كان إيمانه شديداً كان البلاء عليه أشد، حتى أن العبد يمشي على الأرض ما عليه خطيئة، وقال: إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه. وذكرنا من بلدانهم وأوطانهم ورجالهم وقضاتهم إذ كان ينبوع هذا المذهب بالمدينة فيها تفجر ومنها انتشر، فكانت المدينة كلها على ذلك الرأي وخرج منها إلى جهات من الحجاز واليمن فانتشر هنالك بأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قرة القاضي ومحمد بن صدقة الفركي وأمثالهم، واستقر ببلاد العراق بالبصرة فغلب عليها بابن مهدي والقعنبي وغيرهما ثم باتباعهم من ابن المعذل، ويعقوب بن شيبة آل حماد بن زيد إلى أن دخلها بعض الشافعية فتشارك المذهبان جميعاً إلى وقتنا هذا وكان آخر الأئمة بها من المالكية في زمننا ومرتبة شيوخنا أبا يعلى العبدي، وابا منصور بن باخي، وأبا عبد الله بن صالح، فدخل هذا المذهب بغداد وغيرها من بلاد العراق فانتشر بها مع غيرها من المذاهب ولكنه غلب وفشي أيام قضاء آل حماد بن زيد وانقطع ببغداد فلم يبق له بها إمام من نحو الخمسين والاربعمائة عند وفاة أبي الفضل بن عبدوس، ثم سكنها ابن صالح بعد التسعين، وأما خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولاً بيحيى بن يحيى التميمي، وعبد الله بن المبارك، وقتيبة بن سعيد، فكان له هنالك أئمة على مر الأزمان. وفشى بقزوين وما والاها من بلاد الجبل، وكان آخر من درس منه بينسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي ودخل أيضاً من أيمة هذا المذهب إلى بلاد فارس القاضي أبو عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 البركاني ولي قضاء الأسوار وانتشر عنه هذا المذهب وغلب على بلاد فارس مذهب داود. وأما الشام فكان بها من أصحاب مالك الوليد بن مسلم وأبو مسهر ومروان بن محمد الططوي وغيرهم وغلب عليها أولاً مذهب الأوزاعي ثم دخلتها المذاهب. وأما أرض مصر فأول أرض انتشر بها مذهب مالك بعد المدينة وغلب عليها وأطبق أهلها على الاقتداء به إلى أن قدم عليهم الشافعي فكان واحداً منهم فيهم إلى أن كثر عليه فتيان ابن أبي السمح من فقهائهم وجرت بينه وبينهم خطوب اقتضت تحيزه مع أصحابه كما سنذكره في موضع ذكره، فنبه بها حينئذ مذهب الشافعي وكثر أصحابه والمتعصبون له ومنها انتشر في الآلإاق، ومذهب مالك في كل ذلك ظاهر بها غالب عليها إلى وقتنا هذا. ودخلها أئمة من أصحاب أبي حنيفة، وأما أفريقية وما وراءها من المغرب فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وأبن أشرس والبهلول بن راشد، وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وفض حلق المخالفين واستقر المذهب بعده في أصحابه فشاع في تلك الأقطار إلى وقتنا هذا، وكان بالقيروان قوم قلة في القديم أخذوا بمذهب الشافعي ودخلها شيء من مذهب داوود، ولكن الغالب إذ ذاك مذهب المدينة والكوفة، وكان الظهور في دولة بني عبيد لمذهب الكوفيين لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل، فكان فيهم القضاء والرئاسة وتشرق قومهم منهم لمسرتهم واصطياداً لدنياهم وأخرجوا أضغاثهم عن المدنيين فجرت على المالكية في تلك المدة محن، ولكنهم مع ذلك كثير. والعامة تقتدي بهم والناشىء فيهم ظاهر إلى أن ضعفت دولة بني عبيد بها، من لدن فتنة أبي يزيد الخارجي فظفروا وأفشوا علمهم وصنفوا المصنفات الجليلة وقدم منهم جلة طار ذكرهم بأقطار الأرض ولم يزل ألأمر على ذلك إلى خربت القيروان. وأهلها وجهاتها وسائر بلاد المغرب مطبقة على هذا المذهب، مجمعة عليه، لا يعرف لغيره قائم. وأما أهل الأندلس فكان رأيها مذ فتحت على رأي الزاعي، إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبد الرحمن وقرعوس بن العباس والغازي ابن قيس ومن بعدهم بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأئمة به، فعرف حقه ودرس مذهبه إلى أن أخذ أمير الأندلس إذ ذاك هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الناس جميعاً بالتزامهم مذهب مالك وصير القضاء والفتيا عليه وذلك في عشرة الشبعين ومائة من الهجرة في حياة مالك رحمه الله تعالى، وشيخ المفتيين يومئذ صعصعة بن سلام إمام الأوزاعية وروايته، وقد لحق به من أصحاب مالك عدة فالتزم الناس بها هذا المذهب وحموا بالسيف عن غيره جملة، وأدخل بها قوم من الرحالين والغرباء شيئاً من مذهب الشافعي وأبي حنيفة واحمد وداوود فلم يمكنوا من نشره فمات لموتهم على اختلاف أزمانهم إلا من تدين به في نفسه ممن لا يؤبه لقوله. على ذلك مضى أمر الأندلس إلى وقتنا هذا، فبدأنا في كل طبقة بأهل المدينة ثم بمن والاها من جزيرة العرب ثم بأهل المشرق ثم كررنا على المصريين ومن ورائهم من المغاربة وختمنا بأهل الأندلس إلا من لم نجد له من أهل تلك البلاد في تلك الطبقة اسم منتقد إلى ما بعده على الرسم وانتقينا أثناء ذلك من نوادر ظرفائهم وملح آدابهم ومحاسن شعرائهم ما ينشط النفس عن كسلها ويصقل عنها ريق صدائها فقد قال علي رضي الله عنه: سلوا النفوس ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وذكرنا ما ينتحله كل واحد منهم من المعارف وما أضيف من الخصال إليه منبهنا على الغالب من أنواع العلوم عليه، وسمينا من تواليف مؤليفهم وإملاءات مصنيفهم ما لا غنى عنه، وما ينبه المتفقه على الاقتباس منه ولم نغال فيما جمعنا من ذلك تحرياً للاختصار لفنونه، وتحرياً للاقتصار على فصوصه وعيونه وحذفاً للطرق والأسانيد وضماً للتفاريق والأبادير، واستصفيناه من كبار تصانيف المحدثين وأمهات تآليف المؤرخين، ككتاب أبي عبد الله البخاري وعبد الله بن أبي حاتم وأبي الحسن الدارقطني والزبير بن بكار وأبي بكر بن حيان القاضي ووكيع في تاريخ القضاة، وكتب أبي جعفر الطبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والصولي وأبي كامل وكتاب أبي عمر الكندي، وأحمد بن يونس المصري في المصريين ومن تاريخ أبي عمر الصدفي القرطبي، ومن كتب أبي عبد الله بن حارث في القرويين والأندلسيين ومن كتب أبي العرب التميمي، وأبي إسحاق الرقيق الكاتب، وأبي علي بن البصري في القرويين وتعاليق وجدتها بخط الشيخ أبي عمران الفاسي في ذلك، وما وقع إلي من تاريخ أبي بكر بن أبي عبد الله المالكي في القرويين ومن تواريخ الأندلس ككتاب أبي عبد الملك بن عبد البر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وكتاب الاحتفال لأبي عمر بن عفيف، والانتخاب لأبي القاسم بن مفرج وكتاب القاضي أبي الوليد بن الفرضي وتاريخ أبي مروان بن حيان، والرازين وكتاب أحمد بن عبد الرحمن بن مظاهر الطليطلي، وسى هذه الكتب، ككتاب ابن أبي دليم المتقدم ذكره، ومما وقع إلي من كتاب أبي بكر الخطيب في البغدادين، وأوراقاً جمعت للحاكم المستنصر بالله وجدت عليها خطه في كتاب في العراقيين، وما وقع من ذلك في كتاب الأمير أبي نصر وفي كتاب الشيخ أبي اسحق، وكتاب أبي عمر بن عبد البر في ذكر الأئمة الثلاثة ورواتهم وغير هذه الكتب مما عسى أن يكون وقع من غرضنا فيها التافه اليسير إلى ما تلقيناه من أفواه الرجال والتقطناه بفرط الاعتناء والاهتبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأنا أضرع إلى ذي العزة والجلال أن لا يجعل حظي من هذا الكتاب مجرد التعب والسهر والنصب، وأن يحسن فيه النية ويكمل بعفوه عن زللنا المنة، وجدير لمطالعه أن يحسن الظن ولا يبادر إلى الطعن حتى يجيل النظر ويحقق ما أنكر، فإن تيقن بعد ذلة أصلحها أو وجد مبهمة أوضحها وأن يشكر ما كفيناه في جمعه من شغل الخاطر والفراغ للبحث والطلب المتواتر، ويعذر فيما عساه يعثر عليه من زلل خفي، أو ظاهر، فالغالب على المرء التقصير والأمر الذي ارتكبته خطير، ويفتقر القليل للكثير وصلى الله على سيدنا محمد البشير النذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فضل المدينة باب ما ورد من الآثار في فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم (لها) روى أنس بن ملك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم، يعني أهل المدينة، وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في ثمارنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه. وقال عمر بن الخطاب لعبد الله بن عياش: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ قال عبد الله: فقلت حرم الله وأمنه وفيها بيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيته وأمنه شيئاً، ثم قال له عمر كما قال أولاً، فأجابه عبد الله بجوابه وأجابه عمر بمثل الأول، ثلاث مرات ثم انصرف. أنا اختصرته. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشدتها إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، وفي رواية وشفيعاً. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها. وفي حديث أبي هريرة: تنقي الناس كما ينقي الكير خبيث الحديد. وفي حديث زيد بن ثابت أنها تنقي الرجال كما تنقي النار الفضة. وروى سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الله عليه وسلم: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وذكر في فتح العراق والشام مثله، أنا اختصرته. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عنه صلى الله عليه وسلم بمعناه. وقال: والذي نفسي بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا خلف الله فيها من هو خير منه. وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال. قال مالك بن أنس: المدينة، وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واختارها الله بعد وفاته فجعل بها قبره وبها روضة من رياض الجنة ومنبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك في البلاد غيرها. وفي رواية، ومنها تبعت أشراف هذه الأمة يوم القيامة. وهذا كلام لا يقوله مالك عن نفسه، إذ لا يدرك بالقياس. وقال حماد بن واقد الصفار لمالك: يا أبا عبد الله أيما أحب إليك المقام هاهنا أو بمكة؟ فقال: هاهنا. وذلك أن الله تعالى اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم من جميع بقاع الأرض. ثم ذكر حديث أبي هريرة في فضلها. وقال جعفر بن محمد: قيل لمالك اخترت مقامك بالمدينة وتركت الريف والخصب: فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة. قال أبو مصعب الزهري قيل لمالك لمَ صار لأهل المدينة لين القلب وفي أهل مكة قساوة القلب فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه. قال محمد بن مسلمة: سمعت مالكاً يقول: دخلت على المهدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فقال أوصني فقلت أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظي في جيراني فمن حفظهم بي كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال. باب الآثار في اختصاص المدينة بفضل العلم والسنة والقرآن روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتحت المدائن بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن: وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وسلم قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبدأ الحلال والحرام. وروى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين ليأزر إلى المدينة - وفي رواية إلى الحجاز - كما تأزر الحية إلى جحرها. وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليحاز الإسلام إلى المدينة كما يحاز السيل الدمن. وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يأرز الإيمان إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها. قال أبو مصعب الزهري: في هذا الحديث والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به، ويشرعون شرائعه ويعرفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تأويله ويقمون بأحكامه، وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحاً للأرض والدور، وما ذلك إلا مدحاً لأهلها وتنبيهاً على أن ذلك باق فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون. قال ابن أبي أويس: سمعت مالكاً يقول في معنى الحديث بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ أي يعود إلى المدينة كما بدأ منها. باب فضل علم أهل المدينة وترجيحه على علم غيرهم واقتداء السلف بهم قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة، قال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيه إلى أهل المدينة فإذا اجتمعوا على شيء - يعني فعلوه - صلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق تبعه الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قال مالك كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه ثم يقدم المدينة فيجد الأمر على غير ما قال، فإذا رجع لم يحط راحلته ولم يدخل إلى بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك. قال: وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى ويعلمون بما عندهم، وكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع له السنن ويكتب بها إليه، فتوفى وقد كتب له ابن حزم كتباً قبل أن يبعث بها إليه. قال مالك: والله ما استوحش سعيد بن المسيب ولا غيره من أهل المدينة لقول قائل من الناس، لولا أن عمر بن عبد العزيز أخذ هذا العلم بالمدينة لشككه كثير من الناس. وقال عبد الله بن عمر بن الخطاب كتب إلي عبد الله - يعني ابن الزبير - وعبد الملك بن مروان، كلاهما يدعوني إلى المشورة، فكتبت إليهما إن كنتما تريدان المشورة فعليكما بدار الهجرة والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وقال رجل أبي بكر بن عمر بن حزم في أمر: والله ما أدري كيف أصنع في كذا. فقال أبو بكر: يا ابن أخي إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك منه شيء. وقال الشافعي أيضاً: أما أصول أهل المدينة فليس فيها حيلة من صحتها. قال ابن نافع كان مالك يرى أن أهل الحرمين إذا بايعوا لزمت البيعة أهل الاسلام. قال مالك كان ابن سيرين أشبه الناس بأهل المدينة في ناحية ما يأخذ به. قال أبو نعيم: سألت مالكاً عن شيء فقال لي إن أردت العلم فأقم - يعني بالمدينة - فإن القرآن لم ينزل على الفرات. قال الشافعي: رحلت إلى المدينة فكتبت اختلافهم، زاد في رواية، في الحد. قال مسعر قلت لحبيب بن أبي ثابت: أيما أعلم بالسنة أو الفقه أهل الحجاز أم أهل العراق؟ قال: أهل الحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقال الشافعي كل حديث ليس له أصل بالمدينة وإن كان منقطعاً ففيه ضعف. وقال مالك في أثر ذكر التشهد في الوصية: هو الذي أدركت عليه الناس بهذه البلدة فلا يشك فيه فهو الحق. قال عبد الله بن عمر: بعث عمر نافعاً إلى مصر بعلمهم السنن. قال مجاهد وعمر بن دينار وغيرهما من أهل مكة: لم يزل شأننا متشابهاً فتناظرا حتى خرج عطاء بن أبي رباح إلى المدينة فلما رجع علينا استبان فضله علينا. رسالة مالك إلى الليث بن سعد في هذا من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية وعافانا وإياك من كل مكروه. اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. الآية. وقال تعالى: فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .... الآية. فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم. فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك واعلم أني أرجو أن لا يكون دعائي إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك والظن بك، فانزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال. والسلام عليك ورحمة الله، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. أتينا بها على وجهها بسرد فوائدها وهي صحيحة مروية. وكان من جواب الليث عن هذه الرسالة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وإنه بلغك عني أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم وأنه يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي فيما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت من ذلك إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي لا أكره ولا أشد تفضيلاً مني لعلم أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ بفتواهم مني والحمد لله، وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه وما علمهم الله منه، وإن الناس صاروا تبعاً لهم فكما ذكرت. أنا اختصرت هذا وأتيت منها بموضع الحاجة وبالله التوفيق. باب ما جاء عن السلف والعلماء في الرجوع إلى عمل أهل المدينة في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة وكونه حجة عندهم وإن خالف الأكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: احرج بالله على رجل روى حديثاً العمل على خلافه. قال ابن القاسم وابن وهب رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث، قال مالك: وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره، قال مالك: رأيت محمد بن أبي بكر ابن عمر بن حزم وكان قاضياً، وكان أخوه عبد الله كثير الحديث رجل صدق، فسمعت عبد الله إذا قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفاً للقضاء يعاتبه، ويقول له: ألم يأت في هذا حديث كذا؟ فيقول بلى. فيقول أخوه فما لك لا تقضي به؟ فيقول فأين الناس عنه، يعني ما أجمع عليه من العلماء بالمدينة، يريد أن العمل بها أقوى من الحديث، قال ابن المعذل سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليعلم أنا على علم تركناه. قال ابن مهدي: السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث. وقال أيضاً إنه ليكون عندي أو نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال ربيعة ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد لأن واحداً واحد ينتزع السنة من أيديكم، قال ابن أبي حازم كان أبو الدرداء يسأل فيجيب فيقال أنه بلغنا كذا وكذا بخلاف ما قال. فيقول: وأنا قد سمعته ولكني أدركت العمل على غير ذلك، قال ابن أبي الزناد كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها وما كان منه لا يعمل به الناس ألغاه، وإن كان مخرجه من ثقة، وقال مالك: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة كذا في نحو كذا، وكذا ألفاً من الصحابة، مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرق بالبلدان فأيهما أحرى أن يتبع ويؤخذ بقولهم؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ذكرت؟ أو مات عندهم واحد أو اثنان من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال عبيد الله بن عبد الكريم: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألف عين تطرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 باب بيان الحجة بإجماع أهل المدينة فيما هو وتحقيق مذهب مالك اعلموا أكرمكم الله أن جميع أرباب المذاهب من الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر إلب واحد على أصحابنا على هذه المسألة مخطئون لما فيها بزعمهم، محتجون علينا بما سنح لهم حتى تجاوز بعضهم حد التعصب والتشنيع إلى الطعن في المدينة وعد مثالبها وهم يتكلمون في غير موضع خلاف، فمنهم لم يتصور المسألة ولا تحقق مذهبنا فتكلموا فيها على تخمين وحدس، ومنهم من أخذ الكلام فيها ممن لم يحققه عنا، ومنهم من أطالها وأضاف إلينا ما لا نقوله فيها، كما فعل الصيرفي والمحاملي والغزالي، فأوردوا عنا في المسألة ما لا نقوله واحتجوا علينا بما يحتج به على الطاعنين على الإجماع وها أنا أفصل الكلام فيها تفصيلاً لا يجد المنصف إلى جحده بعد تحقيقه سبيلاً وأبين موضع الاتفاق فيه والخلاف إن شاء الله تعالى. فاعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين، ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الضرب منقسم على أربعة أنواع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أولها ما نقل شرعاً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كالصاع والمد، وانه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمان الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس) فتقلهم لهذه الأمور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا، أو نقل إقراره عليه السلام لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره كنقل عهده الرقيق وشبه ذلك، أو نقل تركه لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة، فهذا النوع من إجماعهم في هذه الوجوه حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، فإن هذا النقل محقق معلوم موجب للعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 القطعي فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون، وإلى هذا رجع أبو يوسف وغيره من المخالفين ممن ناظر مالكاً وغيره من أهل المدينة في مسألة الأوقاف والمد والصاع حين شاهد هذا النقل وتحققه، ولا يجب لمنصف أن ينكر الحجة هذا، وهذا الذي تكلم عليه مالك عن أكثر شيوخنا ولا خلاف في صحة هذا الطريق، وكونه حجة عند العقلاء وتبليغه العلم يدرك ضرورة، وإنما خالف في تلك المسائل من غير أهل المدينة من لم يبلغه النقل الذي بها. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب ولا خلاف بين أصحابنا في هذا ووافق عليه الصيرفي وغيره من أصحاب الشافعي كما حكاه الآمدي، وقد خالف بعض الشافعية عناداً، ولا راحة للمخالف في قوله أن ما هذا سبيله فهم وغيرهم من اهل الآفاق من البصرة والكوفة ومكة سواء إذ قد نزل هذه البلاد وكان بها جماعة من الصحابة ونقلت السنن عنهم والخبر المتواتر من أي وجه ورد لزم المصير إليه ووقع العلم به، فصارت الحجة في النقل فلم تختص المدينة بذلك وسقطت المسألة في حق غيرهم لكن لا يوجد مثل هذا النقل كذلك عند غيرهم فإن شرط نقل التواتر تساوي طرفيه ووسطه وهذا موجود في أهل المدينة ونقلهم الجماعة عن الجماعة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 النبي صلى الله عليه وسلم أو العمل في عصره وإنما ينقل أهل البلاد غيرها عن جماعتهم حتى يرجعوا إلى الواحد أو الاثنين من الصحابة فرجعت المسألة إلى خبر الآحاد وبالحري أن تفرض المسألة في عمل أهل مكة في الآذان ونقلهم المتواتر عن الآذان بين يدي النبي عليه السلام بها، لكن يعارض هذا آخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي مات عليه بالمدينة، ولهذا قال مالك لمن ناظره في المسألة ما أدري أذان يوم ولا ليلة هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن فيه من عهده ولم يحفظ عن أحد إنكاره على مؤذن فيه. النوع الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، فهذا النوع اختلف فيه أصحابنا فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح وهذا قول كبراء البغداديين منهم ابن بكير وأبو يعقوب الرازي وأبو الحسن بن المنتاب، وأبو العباس الطيالسي، وأبو الفرج، والقاضي أبو بكر الأبهري وأبو التمام، وأبو الحسن بن القصار. قالوا لأنهم بعض الأمة والحجة إنما هي لمجموعها، وهو قول المخالفين أجمع. ولهذا ذهب القاضي أبو بكر ابن الخطيب وغيره، أنكر هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أن يكون مالك يقول هذا أو أن يكون مذهبه ولا الأئمة أصحابه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، ولكن يرجح به على اجتهاد غيرهم، وهو قول جماعة من متفقيهم وبه قال بعض الشافعية ولم يرتضه القاضي أبو بكر ولا محققو أيمتنا وغيرهم، وذهب بعض المالكية إلى إن هذا النوع حجة كالنوع الأول وحكوه عن مالك. قال القاضي أبو نصر: وعليه يدل كلام أحمد بن المعذل وأبي معصب وإليه ذهب القاضي أبو الحسين بن أبي عمر من البغداديين، وجماعة من المغاربة من أصحابنا ورآه مقدماً على خبر الواحد والقياس، وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك ولا يصح عنه كذا مطلقاً. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوه: أما أن يكون مطابقاً لها، فهذا أأكد في صحتها إن كان من طريق النقل، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد بلا خلاف في هذا إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخرين وقياسهم، عند من يقدم القياس على خبر الواحد، وإن كان مطابقاً لخبر يعارضه خبر آخر كان عملهم مرجحاً لخبرهم وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت، وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني ومن تابعه من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم، وإن كان مخالفاً للأخبار جملة فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، وعند المحققين من غيرنا على ما تقدم، ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف كما ظهر هذا للمخالف المنصف فرجع، وهذه نكتة مسألة الصاع والمد والوقوف وزكاة الخضروات وغيرها، وإن كان إجماعهم اجتهاداً أقدم خبر الواحد عليه عند الجمهور، وفيه خلاف كما تقدم من أصحابنا، فأما إن لم يكن لهم عمل بخلافه ولا وفاق فقد سقطت المسألة ووجب الرجوع إلى خبر الواحد كان من نقلهم أو من نقل غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عارض هذا الخبر الذي نقلوه خبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق كان ما نقلوه مرجحاً عند الأستاذ أبي إسحاق وغيره من المحققين لزيادة قرب مشاهدتهم قرائن الأحوال وتعددهم لنقل آثار الرسول عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 السلام وإنهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه. وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمناه فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي أن مالكاً يقول لا يعتبر إلا بإجماع أهل المدينة دون غيره وهذا ما لا يقوله هو ولا أحد من أصحابه، وحكى بعض الأصوليين أن مالكاً يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعاً، ووجه قوله بأنه لعله كانوا عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم وهذا ما لم يقله مالك ولا روي عنه، وحكى بعضهم عنا إنا لا نقبل من الأخبار إلا ما صححه عمل أهل المدينة وهذا جهل أو كذب لم يفرقوا بين قولنا برد الخبر الذي في مقابله عملهم وبين من لا يقبل منه إلا ما وافقه عملهم. فإن احتجوا علينا في هذا الفصل برد مالك حديث البيعين بالخيار الذي رواه هو وأهل المدينة بأصح أسانيدهم، وقول مالك في هذا الحديث بعد ذكره له في موطئه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به، وهذه المعارضة أعظم تهاويلهم وأشنع تشانيعهم قالوا هذا رد للخبر الصحيح إذ لم يجد عليه عمل أهل المدينة حتى قد أنكره عليه أهل المدينة وقال ابن أبي ذئب فيه كلاماَ شديداً معروفاً فالجواب أنه إنما أوتيت بسوء التأويل. فإن قول مالك هذا ليس مراده به رد البيعين بالخيار، وإنما أراد بقوله ما قال في بقية الحديث وهذا قوله إلا بيع الخيار، فأخبر أن بيع الخيار ليس له حد عندهم، ولا يتعدى إلا قدر ما نختبر فيه السلعة وذلك يختلف باختلاف المبيعات، فيرجع فيه إلى الاجتهاد والعوائد في البلاد وأحوال المبيع. وما يراد بهذا فسر قوله أيمتنا رحمهم الله وإنما ترك العمل بالحديث لغير هذا بل تأول التفرق فيه بالقول وعقد البيع وإن الخيار لهما ما داما متراوضين، ومتساويين. وهذا هو المعنى المفهوم من المتفاعلين وهما المتكلفان للأمر، الساعيان فيه. وهذا يدل أنه قبل تمامه، ويعضده قوله لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، وهذا أيضاً في لمتساويين. فقد سماه بيعاً قبل تمامه وانعقاده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقال بعض أصحابنا: الحديث منسوخ بقوله في الحديث الآخر إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع. ويترادان ولو كان لهما الخيار لما احتاجا إلى تحالف وتخاصم، وقد يكون قول مالك على طريق الترجيح لأحد الخبرين بمساعدة عمل أهل المدينة. لما خالفه كما تقدم وقد قال بحديث البيعان بالخيار والعمل به كثير، من أصحابنا: ابن حبيب. ومما ذكره المخالفون عن مالك أنه يقول أن المؤمنين الذين أمر الله تعالى بإتباعهم هم أهل المدينة ومالك لا يقول هذا. وكيف يقوله وهو يرى أن الإجماع حجة ومما عارض به المخالف أن قالوا إذا سلمنا باب النقل الذي ذكرتم فما فائدة الإجماع والعمل؟ ومتى حصل النقل عن جماعة يحصل العلم بخبرهم وجب الرجوع إليه وإن خالفهم غيرهم فما فائدة ذكرهم الإجماع مع الاتفاق على هذا؟ فالجواب أنا نقول: إذا نقل البعض فلا يخلو الباقون أن يؤثر عنهم خلاف أو لا يؤثر، فإن لم يؤثر فهو ما أردناه، وإن علم الخلاف فإن كان من القليل لم يلتفت إليه ولم يقدح مخالفة القليل في الإجماع النقلي، وقد اختلف في مخالفة القليل فالإجماع الإجماع على ما قرره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أرباب الأصول الذي شرطه في التحقيق أطباق ملأ المجتهدين. وأما النقل فإنما يحتاج فيه عدد يوجب لنا العلم فإذا خالف فيه القليل نسب إليه الغلط والوهم إذ القطع نقل، التواتر وصحته يبطل خلافه، وأما إن كان الخلاف من جماعة آخرين وجمهور ثان متواتر أيضاً فقد قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب هذا نقل متعارض لا يكون حجة وليست مسألتنا. قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: وعندي أن تصور هذه النازلة يستحيل إذ نقل المتواتر موجب للعلم الضروري إذا جاء على شروطه ولا يصح أن يعارضه تواتر آخر لأنه يقضي أن أحدهما باطل محال، وهذا مما لا يصححه العقل ولا يصح كونهما جميعاً حقاً، ولا كونهما جميعاً باطلا، فسقط السؤال كرة. إلا أن يكون النقل المتواتر المتعارض في نازلتين معينتين أن حالين مختلفين أو وقتيين متغايرين فيحكم فيهما بحكم الدليلين الصحيحين المتعارضين، وينظر إلى الجمع بينهما إن أمكن، وقصر كل واحد على نازلته وبابه أو الرجوع إلى التاريخ والحكم بالنسخ وغير ذلك من الحكم في التعارض والترجيح، وموضع بسطه أصول الفقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قالوا فإذا تقرر ما بسطتموه رجع إلى نقلهم وتواتر خبرهم وعملهم، وبه الحجة، فما معنى تسميتهم إجماعاً؟ قلنا: معناه إضافة النقل والعمل إلى الجميع من حيث لم ينقل أحد منهم ولا عمل بما يخالفه، فإن قيل فقد حلتم المسألة وصرتم من إجماع إلى إجماع على نقل بقول أو عمل، فالجواب: إن موجب الكلام لنا في هذه المسألة مخالفة العراقيين وغيرهم لنا في مسائل طريقا النقل والعمل المستفيض اعتمدوا فيها على أخبار آحاد واحتج أصحابنا بنقل أهل المدينة وعملهم المجمع عليه المتواتر على تلك الأخبار لما قدمناه. فإن قالوا فقد قال الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وهذا رد إلى غير الرسول إذ تقرر عندنا بالنقل المتواتر إن ذلك العمل هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله وإقراره. قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه فأما قول من قال من أصحابنا أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة فحجته، ما لهم من فضل الصحبة والمخالطة والملابسة والمساءلة ومشاهدة الأسباب والقرائن، ولكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 هذا فضل ومزية في قوة الاجتهاد، وقد قال أصحابنا ومخالفونا: إن تفسير الصحابي الراوي لأحد محتملي الخبر أولى من تفسير غيره وحجة يترك لها تفسير من خالفه لمشاهدة الرسول وسماعه ذلك الحديث منه وفهمه من حاله ومخرج ألفاظه وأسباب قضيته ما يكون له به من العلم بمراده ما ليس عند غيره فرجع تفسيره لذلك فكذلك إجماع أهل المدينة بهذا السبيل واجتهادهم مقدم على غيره فمن نأت داره ولم يبلغه إلا مجرد خبر معرى من قرائنه سليب من أسباب مخارجه. وهذا ما رجح الشافعي أحاديث شيوخ الصحابة على حديث أسامة في الدماء، قال لأن ابن عمر وعبادة والمشيخة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة، ولهذا رجح الأصوليين والفقهاء قياس الصحابي على قياس غيره ولذلك رجح كثير منهم لعمل الصحابي بل للحديث إذا رواه على غيره من حديث لم يعمل به راويه، وقد قال الشافعي مرة: إجماع أهل المدينة أحب إلي من القياس، وهذا قول بأن إجماعهم حجة في وجه بخلاف إجماع غيرهم الذي لا خلاف بين أحد أنه لا تأثير له في الأحكام، إلا ما حكي عن بعض الأصوليين أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة كما قدمناه وما رجح به أهل الأصول في تعارض الأخبار بعمل أهل مكة والمدينة. وهذا - أكرمكم الله تعالى - منتهى الكلام في هذا الباب، ولباب العقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والألباب ومترع في المسألة من التحقيق والتدقيق يشهد له كل منصف بالصواب. مذهب مالك باب ترجيح مذهب مالك والحجة في وجوب تقليده وتقديمه على غيره من الأئمة قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: رأينا البداية قبل الخوض في هذا ماسة إلى تقديم مقدمة وتمهيد قاعدة لموجب التقليد عليها ينبني الكلام فيما قصدناه فأقول: اعلموا وفقنا الله تعالى وإياكم أن حكم المتعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه المتشرع بشريعة نبيه عليه السلام طلب معرفة ذلك وما يتعبد به، وما يأتيه ويذره، ويجب عليه ويحرم، ويباح له ويرغب فيه من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام، فهما الأصلان اللذان لا تعرف الشريعة إلا من قبلهما ولا يعبد الله تعالى إلا بعلمهما ثم إجماع المسلمين مرتب عليهما ومسند إليهما فلا يصح أن يوجد وينعقد إلا عنهما، إما من نص عرفوه ثم تركوا نقله، ومن اجتهاد مبني عليهما على القول بصحة الإجماع من طريق الاجتهاد، وهذا كله لا يتم إلا بعد تحقيق العلم بذلك الطريق والآلات الموصلة إليه من نقل ونظر وطلب قبله وجمع وحفظ وعلم وما صح من السنن واشتهر، ومعرفة كيف يتفهم وما به يتفهم من علم ظواهر الألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وهو علم العربية واللغة وعلم معانيها وعلم موارد الشرع ومقاصده ونص الكلام وظاهره وفحواه وسائر نواحيه وهو المعبر عنه بعلم أصول الفقه وأكثره يتعلق بعلم العربية ومقاصد الكلام والخطاب، ثم يأخذ قياس ما لم ينص عليه على ما نص بالتنبيه على علته أو شبيهاً له. وهذا كله يحتاج إلى مهلة والتعبد لازم لحينه، ثم إن الواصل إلى هذا الطريق وهو طريق الاجتهاد والحكم به في الشرع قليل وأقل من القليل بعد الصدر الأول والسلف الصالح والقرون المحمودة الثلاثة وإذا كان هذا فلا بد لمن لم يبلغ هذه المنزلة من المكلفين أن يتلقى ما تعبد به وكلف به من وظائف شريعته ممن ينقله له ويعرفه به ويثبته عليه في نقله وعلمه وحكمه وهو التقليد ودرجة عوام الناس بل أكبرهم هذا، وإذا كان هذا فالواجب تقليد العالم لموثوق بذلك، فإذا كثر العلماء فالأعلم وهذا حظ المقلد من الاجتهاد لدينه ولا يترك المقلد الأعلم ويعدل إلى غيره وإن كان يشتغل بالعلم فيسأل حينئذ عما لا يعلم حتى يعلمه. قال الله تعالى: (فاسألوه أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بالخلفاء بعده وأصحابه، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الناس ليفقهوهم في الدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وإذا كان هذا الأمر لازماً لا بد منه فكان أولى من قلده العامي الجاهل (والمبتدىء) المتعبد والطالب المسترشد والمتفقه في دين الله تعالى وأحق بذلك فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا عنه العلم وعلموا أسباب نزول الأوامر والنواهي ووظائف الشرائع ومخارج كلامه عليه السلام. وشاهدوا قرائن ذلك وثاقبوا في أكثرها النبي عليه السلام واستفسروه عنها مع ما كانوا عليه من سعة العلم ومعرفة معاني الكلام وتنوير القلوب وانشراح الصدور، فكانوا أعلم الأمة بلا مرية وأولاهم بالتقليد لكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع، ولا تفرعت عنهم المسائل ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع، وكان أكثر اشتغالهم بالعمل مما علموا والذبّ عن حوزة الدين وتوكيد شريعة المسلمين ثم بينهم من الاختلاف في بعض ما تكلموا فيه ما يبقي المقلد في حيرة ويحوجه إلى نظر وتوقف، وإنما جاء التفريع التنتيج وبسط الكلام فيما يتوقع وقوعه بعدهم، فجاء التابعون فنظروا في اختلافهم وبنوا على أصولهم ثم جاء من بعدهم العلماء من أتباع التابعين، والوقائع قد كثرت والنوازل قد حدثت، والفتاوى في ذلك قد تشعبت فجمعوا أقاويل الجميع وحفظوا فقههم وبحثوا عن اختلافهم واتفاقهم وحذروا انتشار الأمر وخروج الخلاف عن الضبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فاجتهدوا في جمع السنن وضبط الأصول وسألوا فأجابوا وبنوا القواعد ومهدوا الأصول وفرعوا عليها النوازل ووضعوا في ذلك للناس التصانيف وبوبّوها، وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح عليه ووفق له، فانتهى إليهم علم الأصول والفروع والاختلاف والاتفاق وقاسوا على ما بلغهم ما يدل عليه ويشبه، رضي الله عن جميعهم ووفاهم أجر اجتهادهم فالمتعين على المقلد العامي وطالب العلم المبتدىء أن يرجع في التقليد لهؤلاء لنصوص نوازله والرجوع فيما أشكل من ذلك إليهم، ولاستغراق علم الشريعة ودورها عليهم وأحكامهم النظر في مذاهب من تقدمهم وكفايتهم ذلك لمن جاء بعدهم، لكن تقليد جميعهم لا يتفق في أكثر النوازل وجمهور المسائل لاختلافهم باختلاف الأصول التي بنوا عليها ولا يصلح أن، يقلد المقلد من شاء منهم على الشهوة والبحث أو على ما وجه عليه أهل قطره وآله، فحظه هنا من الاجتهاد النظر في أعلمهم ويعرف الأولى بالتقليد من جملتهم حتى يركن العامي في أعماله إلى فتواه ويجتهد في تعبداته على ما رآه وينصب العامي الأعلم من ملتزمي مذاهب هؤلاء منصبه، ولا يحل له أن يعدو في استفتائه من لا يرى مذهبه، فقد قال بعض المشائخ: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الإمام لمن التزم تقليد مذهبه كالنبي عليه السلام مع أمته، ولا يحل له مخالفته. وهذا صحيح في الاعتبار مما بسطناه وشرطناه يظهر صوابه لأولي البصائر والأبصار وكذلك يلزم هذا طالب العلم في بدايته في درس ما أصله الأعلم من هؤلاء وفرعه وحفظ ما ألفه وجمعه والاهتداء بنظره في ذلك والميل حيث مال معه إذ لو ابتدأ الطالب في كل مسألة فطلب الوقاف على الحق منها بطريق الاجتهاد عسر عليه ذلك إذ لا يتفق له إلا بعد جمع خصاله وتناهي كماله، وإذا كان بهذا السبيل استغنى عن تقليد أرباب المذاهب وكان من المجتهدين لنفسه فسبيله أن يقلد من يعرفه أن، هذا هو الحق، حتى إذا أدرك من العلم ما قيض له وحصل منه ما قسم الله تعالى له وأفلح وكان فيه عمل للنظر والاجتهاد انتقل إلى ذلك وأدركه، فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول: قد وقع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على تقليد هذا النمط واتباعهم ودرس مذاهبهم دون من قبلهم ومع الاعتراف بفضل من قبلهم وسبقه ومزيد علمه، لكن للعلل التي ذكرنا وكفاية ما نحلوه وانتقوه من ذلك كما قدمنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ثم اختلفت الآراء والهمم في تعيين المقلد منهم بحسب ما اعتقدوه فيه أنه هو الأعلم والأولى بالإتباع، أما من اعتقاد اعتقدوه أو انتشار ذكر وثناء سمعوه أو من اتباع له اعتمدوه أو من تقليد لآبائهم أو أهل بلادهم نشأوا عليه وألفوه، فكان المقلدون المقتدى بمذاهبهم أصحاب الأتباع في سائر الأقطار البقاع كثرة قبل مالك بن أنس بالمدينة وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة على ما تقدم منه، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمد بن حنبل (بعده) ببغداد وكان لأبي ثور هناك أيضاً أتباع. ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري وداود الأصبهاني فألفا الكتب واختارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في المذاهب على آراء أهل الحديث واطرح داود منها القياس وكان لكل واحد منهما أتباع، وسرت جميع هذه المذاهب في الآفاق فغلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً وضعف بها بعد أربعمائة سنة وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب من بلاد خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور وكان با وبغيرها أئمة ومدرسون سنذكر منهم بعد في طبقاتهم من ألهم الله تعالى إليه، وكان ببلاد فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام، وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا وظهر بإفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها ودخل منه شيء ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس أولاً إلى أن، غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع، وأما مذهب الحسن والثوري فلم يكثر أتباعهما ولم يطل تقليدهما وانقطع مذهبهما عن قريب، وأما الشافعي فكثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة قبله وكان أول ظهوره بمصر وكثر أصحابه بها مع المالكية وبالعراق وبغداد وغلب عليها وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن إلى وقتنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أتباعهم والاقتداء بمذاهبهم ودرس كتبهم والتفقه على مآخذهم والبناء على قواعدهم والتفريع على أصولهم دون غيرهم ممن تقدمهم أو عاصرهم، للعلل التي ذكرناها، وصار الناس اليوم في أقطار الدنيا إلى خمسة مذاهب مالكية وحنفية وشافعية وحنفية وحنبلية وداودية وهم المعرفون بالظاهرية. فحق على طالب العلم ومريد تعرف الصواب والحق أن يعرف أولاهم بالتقليد ليعمل على مذهبه ويسلك في التفقه سبيله، وها نحن نبين أن مالكاً رحمه الله تعالى هو ذلك لجمعه أدوات الإمامة وتحصيله درجة الاجتهاد وكونه أعلم القوم بأهل زمانه وأطباق أهل وقته على شهادتهم له بذلك وتقديمه، وهو القدوة والناس إذ ذاك ناس والزمان زمان، ثم للأثر الوارد في عالم المدينة التي هي داره وانطلاق هذا الوصف ولإضافة على ألسنة الجماهير، وموافقة أحواله الحال التي أخبر في الحديث عنه وتأويل السلف الصالح أنه المراد به، وتفصيل الكلام في ذلك وبسطه في فصلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أولهما ما اعتمد النقل والأثر وفي ذلك ترجيحان، والثاني مسلكه الاعتبار والنظر، وفيه ثلاث ترجيحات فانتهينا في ترجيح مذهبه وعظيم قدره في العلم وعلو منصبه إلى خمس حجج كلها أتينا فيها بمبلغ الوسع بما يقطع الغدر ويكاد ينتهي بعضها إلى مدارك القطع. الفصل الأول في ترجيحه من طريق النقل اعلموا وفقكم الله تعالى أن ترجيح مذهب مالك على غيره وأنافة منزلته في العلم وسمو قدره من طريق النقل والأثر لا ينكره إلا معاند أو قاصر لم يبلغه ذلك مع اشتهاره في كتب المخالف والمساعد، وها نحن نقرر الكلام في ذلك في حجتين أولاهما: بالتقديم وهو الأثر المشهور الصحيح المروي في ذلك من رسول الله عليه السلام من حديث الثقات، منهم سفيان بن عيينة عن أبي جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم. وفي رواية يلتمسون العلم فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يجدون عالماً أعلم، وفي رواية من عالم المدينة وفي بعضها أباط الإبل مكان أكباد الإبل، وقد رواه غير سفيان عن ابن جريج بمثل حديث سفيان منهم المحاربي موقوفاً على أبي هريرة ومحمد بن عبد الله الأنصاري في سند وهو ثقة مأمون. وهذا الطريق أشهر طرقه ورجال هذا الطريق رجال مشاهير ثقات خرج عن جميعهم البخاري ومسلم وأهل الصحيح ورواه أيضاً المقبري عن أبي هريرة بلفظ آخر حدث به القاضي أبو البختري وهب بن منتبه عن عبد الأعلى بن عبد الله عن القبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل من كل ناحية إلى عالم المدينة يطلبون علمه إلا أن أبا البختري ضعيف عندهم وقد رواه النسائي أيضاً، وخرجه في مصنفه عن علي بن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تضربون أكباد الإبل وتطلبون العلم فلا تجدون عالماً أعلم من عالم المدينة. قال النسائي هذا خطأ والصواب أبو الزبير عن أبي صالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ورواه أيضاً أبو موسى الأشعري عن النبي عليه السلام بلفظ آخر حدث به معن بن عيسى عن أبي المنذر التميمي زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعل من عالم المدينة. وذكر ابن حبيب حديثاً يسنده عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنقطع الدنيا حتى يكون عالماً بالمدينة تضرب إليه أكباد الإبل ليس على ظهر الدنيا أعلم منه. قال سفيان بن عيينة من غير طريق واحد: نرى أن المراد بهذا الحديث مالك بن أنس، وفي رواية هو مالك بن أنس ومثله عن ابن جريج وعبد الرزاق وروي عن سفيان أنه قال كنت أقول هو ابن المسيب حتى قلت: كان في زمن ابن المسيب سليمان وسالم وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول أنه مالك. وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وهذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه الثقات والأئمة ابن مهدي، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والزبير بن بكار، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وذويب بن غمامة السهمي وغيرهم (كلهم) سمع سفيان يقول في تفسير الحديث إذا حدثهم به: هو مالك أو أظنه أو أحسبه أو أراه وكانوا يرونه، قال ابن مهدي يعني سفيان بقوله كانوا يرونه التابعين. قال القاضي أبو عبد الله التستري هو أخبار عن غيره من نظرائه أو ممن هو فوقه وأن منزلته كانت في نفوسهم هذه المنزلة لما شاهدوه من حاله التي تشبه ما أخبر به في الحديث، قال وقد جاءت هذه الأحاديث بلفظين أحدهما: لا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة، والآخر: من عالم بالمدينة، ولكل واحد منهما معنى صحيح. فأما قوله من عالم بالمدينة فإشارة إلى رجل يعينه يكون بها لا بغيرها ولا نعلم أحداً انتهى إليه علم أهل المدينة وأقام بها ولم يخرج عنها ولا استوطن سواها في زمن مالك مجمعاً عليه إلا مالكاً. ولا أفتى بالمدينة وحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 نيفاً وستين سنة أحد من علمائها يأخذ عنه أهل المشرق والمغرب ويضربون إليه أكباد الإبل غيره. وأما رواية عالم المدينة أو أهل المدينة فقد ذكر محمد بن إسحاق المخزومي أبو المغيرة أن تأويل ذلك ما دام المسلمون يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة كان بها أو بغيرها. فيكون على هذا سعيد بن المسيب لأنه النهاية في وقته ثم بعده غيره ممن هو مثله من شيوخ مالك، ثم بعدهم مالك ثم بعده من قام بعلمه وصار أعلم أصحابه بمذهبه، ثم هكذا ما دام للعلم طالب ولمذهب أهل المدينة إمام. ويجوز على هذا أن يقال هو ابن شهاب في وقته والعمري في وقته ومالك في وقته، ثم إذا أجمعت اللفظتان اختص مالك بقوله من عالم بالمدينة ودخل في جملة علماء المدينة باللفظ الآخر، وقال بعض المالكية إذا اعتبرت كثرة من روى عن مالك من العلماء ممن تقدمه وعاصره أو تأخر عنه على اختلاف طبقاتهم وأقطارهم وكثرة الرحلة إليه والاعتماد في وقته عليه، دل بغير مرية أنه المراد بالحديث. إذ لم نجد لغيره من علماء المدينة ممن تقدمه أو جاء بعده من الرواة والآخذين إلا بعض من وجدناه وقد جمع الرواة عنه غير واحد، وبلغ بهم بعضهم في تسمية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 علم بالرواية عنه سوى من لم يعلم ألف راو واجتمع من مجموعهم زائداً على الألف وثلاثمائة، ويدل كثرة قصدهم له كونه أعلم أهل وقته وهو الحال والصفة التي أنذر بها عليه السلام لم يسترب السلف أنه هو المراد بالحديث وعد هذا الخبر من معجزاته وآياته عليه السلام مما أخبر به من الكائنات فوقعت كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: أما أنه لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب. إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة. فبقول المراد به إمامي. ونحن ندعي أنه صاحبنا بشهادة السلف وبأنه إذا أطلق بين أهل العلم عالم المدينة وإمام دار الهجرة فالمراد به مالك عندهم دون غيره من علمائها. كما إذا قيل قال الكوفي فالمراد به أبو حنيفة دون سائر فقهاء الكوفة. قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: فوجه احتجاجنا بهذا الحديث من أنه مالك من ثلاثة أوجه، أحدها تقييد السلف بأن المراد الحديث هو حسبما نقلنا عنهم وما كانوا ليقولوا ذلك إلا عن تحقيق ولا ليذيعوه بهوى وهم المبرؤون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ذلك مع تنافس الأقران وما جبلت عليه القلوب من قلة الإنصاف للأمثال فكيف فضل هذا. الوجه الثاني أنك إذا اعتبرت ما أوردناه من شهادة السلف الصالح بأنه أعلم من على ظهر الأرض وأعلم من بقي وأعلم الناس وإمام الناس، وعالم المدينة وإمام دار الهجرة وأمير المؤمنين في الحديث، وأعلم علماء المدينة وتعويلهم عليه واقتداؤهم به وإجماعهم على تقديمه وطالعت ذلك فيما نورده من أخباره ظهر وبان أنه المراد بالحديث إذ لم تحصل هذه الأوصاف لغيره ولا أطبقوا على هذه الشهادة لسواه. الوجه الثالث هو ما نبه عليه بعض الشيوخ من أن طلبة العلم لم يضربوا أكباد الإبل من شرق الأرض وغيرها ولا رحلوا إليه من الآفاق رحلتهم إلى مالك، لما اعتقدوا فيه من تقديمه على سائر علماء وقته، ولو اعتقدوا ذلك في غيره لما ولوا إليه فالناس أكيس من إن يحمدوا رجلاً من غير أن يجدوا آثار إحسان. الترجيح الثاني في هذا الفصل من طريق النقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 والمعتمد فيه مجرد تقليد السلف وأئمة المسلمين وعلمائهم في المسألة وبالاعتراف لمالك رحمه الله تعالى بأنه أعلم وقته وإمامه وأعلم الناس وأعلم علماء المدينة وأشباه هذا من شهادتهم له بذلك واعترافهم به وتقليدهم إياه واقتدائهم به على رسوخ كثير منهم في العلم وترجيحهم مذهبه على مذهب غيره مما سنورد في بابي ثنائهم عليه واقتدائهم به بعد هذا عند ذكرنا شمائله ومناقبه وهما بابان متسعان. وسنورد هنا لمعاً من ذلك تومي إلى ما وراءها إن شاء الله تعالى. من ذلك تومي إلى ما وراءها إن شاء الله تعالى. من ذلك قال ابن هرمز شيخه فيه أنه عالم الناس، وقال سفيان بن عيينة لما بلغه وفاته ما ترك على الأرض مثله، وقال: مالك إمام ومالك عالم أهل الحجاز، ومالك حجة في زمانه ومالك سراج الأمة، وما نحن ومالك إنما كنا نتبع آثار مالك، وقال الشافعي: مالك أستاذي وعنه أخذنا العلم وما أحد أمن علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 من مالك وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله تعالى، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته، وقال: العلم يدور على ثلاثة مالك والليث وسفيان بن عيينة، وحكي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكره قال: قال عالم العلماء وعالم أهل المدينة ومفتي الحرمين، وقال بقية بن الوليد: ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية ولا باقية منك يا مالك، وقال أبو يوسف: ما رأيت أعلم من ثلاثة، فذكر مالكاً وأبا حنيفة وابن أبي ليلى، وقال ابن مهدي - وسئل عن مالك وأبي حنيفة - مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة، وقدمه ابن حنبل على الأوزاعي والثوري والليث وحماد، والحكم في العلم. وقال: هو إمام في الحديث والفقه، وسئل عمن يريد أن يكتب الحديث وينظر في الفقه حديث من يكتب؟ وفي رأي من ينظر؟ فقال حديث مالك ورأي مالك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقال يحيى بن سعيد القطان: مالك إمام يقتدى به، وقال ابن معين: مالك من حجج الله ما خلقه. إمام من أئمة المسلمين مجمع على فضله، وقال أيوب بن سويد: مالك إمام دار الهجرة، وقال أبو جعفر المنصور أنه أعلم أهل الأرض. وقال سعيد بن الحداد كان مالك من الراسخين في الإسلام أرسخ في العلم من الجبال الراسيات، وقال حميد بن الأسود كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت وبعده عبد الله بن عمر قال علي بن المديني وأخذ من زيد ممن كان يتبع رأيه واحد وعشرون رجلاً. ثم صار علم هؤلاء إلى ثلاث ابن شهاب وبكير بن عبد الله وأبي الزناد، وصار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن أنس، وقال أسد بن الفرات: إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أنس، قال حماد بن زيد: دخلت المدينة ومنادياً ينادي لا يفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدث إلا مالك بن أنس، وقد استوعبنا هذه الشهادات والاعتراف بعد هذا، وقد اعترف له بالعلم والإمامة يحيى بن سعيد شيخه والأوزاعي والليث وابن المبارك وجماعة من هذا النمط ومن بعدهم كالبخاري ومحمد بن عبد الحكم وأبو زرعة الرازي ومن لا ينعد كثرة. وكذلك ذكرنا في الباب الآخر اقتداء السلف وأهل العصر من العلماء، وسائر الناس به ونحن نذكر هنا شيئاً من ذلك، قال سعيد بن منصور رأيت مالكاً يطوف وخلفه سفيان الثوري كلما فعل مالك شيئاً فعله يقتدى به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قال ابن أبي أويس كان الناس كلهم يصدون عن رأي مالك وكان للأمير عنه رجال يسأله وكذلك القاضي والمحتسب، وسأل رجل ابن عيينة عن الضحية بالليل فقال له سفيان لا بأس بذلك فقال له ابن وهب فإن مالكاً قال لا يضحى بالليل فقرأ في أيام معلومات، فنادى سفيان بالرجل وقال: أن هذا أخبرني عن مالك أنه لا يضحى بليل، وقال حميد: أهل المدينة بعد زيد بن ثابت كما تقلدوا قول مالك، وقال عتيق بن يعقوب: ما اجتمع أحد بالمدينة إلا أجمع عليه، ونطالع بعد هذا بقية ما شابه ما ذكرناه. الفصل الثاني في ترجيحه من طريق الاعتبار والنظر وفيه ثلاث اعتبارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الاعتبار الأول أن نبين جمع مالك لدرجات الاجتهاد في الدين وحوزه خصال الكمال في العلم، وبلوغه في ذلك المنزلة التي لم يبلغها أحد من هؤلاء المقلدين، قاصداً بذلك مقصد الحق غير راكن إلى التعصب قائماً بالصدق ومقتصداً فيما أذكره من ذلك غير مستبيح عرض أحد من الأئمة، وقاده الخلق. وها هنا معارك النزاع والاعتلاج ومثار العناد واللجاج. فأقول والمستعان الله: لا خفاء على منصف من الإمامة في علوم الشريعة وعلم الكتاب والسنة وأنه إمام المسلمين وأعلمهم في وقته بسنة ماضية وباقية وأمير المؤمنين في الحديث ثم العلم بالاختلاف والاتفاق، وهذا كله ما لا ينكره مخالف ولا مؤالف إلا من طبع على قلبه التعصب، وأنه القدوة في السنن وهو أول من ألف فأجاد التأليف ورتب الكتب والأبواب وضم الأشكال وصنع من ذلك ما اتخذه المؤلفون بعده قدوماً وإماماً، إلى وقتنا هذا في أقطار الأرض، هذا مع صفوة الابتداء وخيرة الاختراع وهو أول من تكلم في غريب الحديث وشرح موطئه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الكثير منه، وقد قال الأصمعي أخبرني مالك أن الاستجمار هي الاستطابة ولم أسمعه إلا من مالك، وله في تفسير القرآن كلام كثير. وقد جمع، وتفسير رواه عنه بعض أصحابه، وقد جمع أبو محمد مكي مصنفاً فيما روي عنه من التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه مع تجويده له وإحسان ضبط حروفه، وقد ذكره أبو عمرو المقري في كتابه في طبقات القراء المتصدرين وذكر رواية عن نافع، قال البهلول ابن راشد وغيره ما رأيت أنزع بآية من مالك بن أنس مع معرفته بالصحيح والسقيم والمعمول به من الحديث المتروك، وميزة الرجال وصحة حفظه وكثرة نقده إلى ما يؤثر عنه من الكلام في غير ذلك من العلوم كرسالته إلى ابن وهب في الرد عى أهل القدر، وكقوله: جالست ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، ويروى ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قال: وكان من أعلم الناس بالرد على أهل الأهواء، وبما اختلف فيه الناس، وقال المهدي: أخبرني بعض نقاد المعتزلة من القرويين قال: أتيت مالك بن أنس فسألته عن مسألة من القدر بحضرة الناس فأومأ إلي أن اسكت فلما خلا المجلس قال لي سل الآن وكره أن يجبني بحضرة الناس. قال: فزعم المعتزلي أنه لم تبق مسألة من مسائلهم إلا سأله عنها وأجابه فيها، وأقام الحجة على أبطال مذهبهم حتى نفذ ما عند المعتزلي وأقام عنه، وتأليفه في الأوقات وفي النجوم وإشاراته إلى مأخذ الفقه وأصوله التي اتخذها أهل الأصول من أصحابه معالم اهتدوا بها وقواعد بنوا عليها وغيره ممن ذكرنا، لم يجمع هذا الجمع ولا وصل هذا الحد مع اشتغالهم الفقه ووصفهم بالعلم ولكن فوق كل ذي علم عليم، مع الثقة التامة والتقوى وشدة التحري في الحديث والفتيا. وبهذا الوجه احتج الشافعي على محمد بن الحسن في ترجيح علم مالك على علم أبي حنيفة حين تناظرا في ذلك فقال له الشافعي: الإنصاف تريد أم المكابرة. قال الإنصاف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قال الشافعي ناشدتك الله فمن أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه قال محمد ابن الحسن: اللهم صاحبكم، فقال الشافعي: فمن أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي فمن أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي فلم يبق إلا القياس. قال محمد صاحبنا أقيس، قال الشافعي القياس لا يكون إلا بهذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس، ثم قال الشافعي ونحن ندعي لصاحبنا ما لا تدعونه لصاحبكم، وفي رواية وصاحبنا لم يذهب عليه القياس ولكنه كان يتوقى ويتحرى ويريد التأسي من تقدمه فرحم الله تعالى الشافعي ومحمد بن الحسن فلقد أنصفا والذي قاله الشافعي هو حق اليقين فإن الاجتهاد واليقين والقياس والاستنباط إنما يكون على الأصول فمن كان أعلم بها كان استنباطه أصح وقياسه أحق وإلا فمتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 اختلت معرفته بالأصول قاس على اغترار، وبنى على شفا جرف هار، وقد احتج بهذه الحكاية الإمام أبو إسحاق الشيرازي على الخراسانيين في اقتصارهم في النظر على المسائل القياسيات المسماة عندهم بالطبوليات لتنتج الكلام فيها ومد أنفاس الجدال بين أهلها، وإذا كان بإتفاق ما قاله الشافعي وهو الحق وهو قول جماهير العلماء أن الاجتهاد لا يصح والقياس إلا لمن جمع آلته من علم الكتاب والسنة وأحكم ذلك على ما يجب، ثم جمع إلى ذلك من آلات الاجتهاد وفهم الألفاظ والمعاني وتصريفها ما لا غنى له عنه، ثم عرف مواضع الإجماع والاتفاق ومسائل الخلاف والنزاع فمتى اختل على العالم شيء من ذلك كان غضاً من إمامته ونقصاً من كماله، ولم يصح له الاجتهاد ولا ساغ له النظر في الدين إلا بإجتماع ذلك. ومتى أخل بأحد هذه القواعد فلا يحل له الاجتهاد في الدين ولا الفتوى بين المسلمين ولا القياس على ما يبلغه. وقد تقرر استقلال مالك بهذه الأصول على السنة المولف والمخالف، ولا يلتفت إلى متعصب نعق آخر الزمان بما أراد به الغض منه في الاجتهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وما غض إلا من نفسه، مع تصريحه عنه بأنه أعلم علماء المدينة وأمير المؤمنين في الحديث وإمامة الشافعي تكذب هجر قوله، وأئمة الهدى وأعلام العلماء ممن ذكرنا وممن سنذكر إن شاء الله تعالى يخالفه ويشهد بتهافته فيما قال وجهله، ثم نظرنا إلى الأئمة لمقلدين في عصره فلم نجد واحداً منهم جمع من ذلك ما جمع ولا اضطلع بهذه الأصول كما اضطلع. وأما أبو حنيفة والشافعي فيسلم لهما حسن الاعتبار وتدقيق النظر والقياس وجودة الفقه والإمامة فيه. لكن ليس لهما إمامة في الحديث ولا معرفة به ولا استقلال بعلمه، ولا يدعيانه ولا يدعى لهما وقد ضعفهما فيه أهل الصنعة. وهذا أهل الصحيح لم يخرجا عنهما منه حرفاً، ولا لهما في أكثر المصنفات ذكر، وإن كان الشافعي متبعاً الحديث ومفتشاً على السن لكن بتقليد غيره، والاحتمال على رأي سواء، والاعتراف بالعجز عن معرفته، فقد كان يقول لابن مهدي وابن حنبل أنتما أعلم بالحديث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إذا لم يتبحر فيه أو في علم القرآن إذا لم يستقل به، يسأل هل لنازلته التي ينظر فيها أصل فيهما أم لا؟ ولا سبيل إلى إمامتهما (في الفقه) جملة، وللشافعي في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة والمآخذ وبسطه ذلك ما لم يسبقه إليه من قبله، وكان فيه عليه عيالاً، كل من جاء بعده مع التفنن في علم لسان العرب والقيام بالخبر والنسب، وكل ميسر لما خلق له. كما أن أحمد وداود من العارفين بعلم الحديث ولا تنكر إمامة أحد منهما فيه لكن لا يسلم لهما الإمامة في الفقه ولا جودة النظر في مأخذه ولم يتكلما في نوازل كثيرة كلام غيرهما وميلهما مع المفهوم من الحديث. لكن داود نهج إتباع الظاهر وبقي القياس فخالف السلف والخلف وما مضى عليه عمل الصحابة فمن بعدهم حتى قال بعض العلماء أن مذهبه بدعة ظهرت بعد المائتين وحتى أنكر عليه ذلك إسماعيل القاضي أشد إنكار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وإذا لم يقل بالقياس وهو أحد أركان الاجتهاد فيما يجتهد (فعلى م) فيما لم ينص عليه يعتمد، وليس تقصير من قصر منهج في فن بالذي يسقط رتبته عن الآخر ولكل واحد منهم من الفضائل والمناقب ما حشيت به الصحف ونقله السلف والخلف. لكن نقص ركن من أركان الاجتهاد يخل به على كل حال والله ولي الإرشاد. الاعتبار الثاني: الالتفات إلى مأخذ الجميع في فقهم، ونظرهم على الجملة في علمهم، إذ تخصيصه في آحاد النوازل وشعب الوقائع لا يدرك صوابه إلا المستقل بالعلم وتبين ذلك لغيره يطول، ولا يدرك إلا في أمد تنقضي فيه الأعمار وتمر السنون، وحسب المبتدىء أن يلوح له بتلويح يفهمه اللبيب ويقضي منه بترجيح مصيب، وهو أنا قد ذكرنا خصال الاجتهاد ثم مأخذه وترتيبه على ما يوجبه الفعل ويشهد له الشرع بتقديم كتاب الله على ترتيب وضوح أدلته من نصوصه ثم ظواهره ثم مفهوماته ثم كذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترتيب متواترها ومشهودها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها على ما تقدم في الكتاب ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة. وبعد ذلك عند عدم هذه الأصول القياس عليها والاستنباط منها إذ كتاب الله مقطوع به وكذلك ما تواتر من سنة نبيه وكذلك النص مقطوع به فوجب تقديم ذلك كله ثم الظواهر ثم المفهوم منها لدخول الاحتمال في معناها ثم أخبار الآحاد يجب العمل بها والرجوع عند عدم الكتاب والتواتر لها وهي مقدمة على القياس لإجماع الصحابة على الفعلين وتركهم في نظر أنفسهم متى بلغهم خبر ثقة عن النبي وامتثالهم مقتضاه دون خلال منهم في ذلك، آخراً. إذ إنما يلجأ إليه عند عدم هذه الأصول في النازلة فيستنبط من دليلها ويعتبر الأشياء بها على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين وعلم من مذهبهم أجمعين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقررت مأخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع وجدت مالكاً رحمه الله تعالى ناهجاً في هذه الأصول منهاجا، مرتباً لها مراتبها ومدارجها مقدماً كتاب الله ومرتباً له على الآثار، ثم مقدماً على القياس والاعتبار، تاركاً منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحملوه أو ما وجد الجمهور الجم الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه. ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه، سوء التأويل وقوله ما لا يقوله بل يصرح أنه من الأباطيل. ثم كان من وقوفه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالحين وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سنن الماضيين، ثم سلك الشافعي سبيله وبسط مأخذه في الفقه وأصوله. لكن خالفه في أشياء أداه إليه اجتهاده وثقوب فطنته ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر، وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر وحمله عليه حتى تميز عنهم بعد أن كان معدوداً فيهم وواحداً من جملتهم، فبان بأصحابه وتلاميذه، وصرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 حينئذ بالخلاف والرد على أكبر أسانيده كما سنذكر في أخباره بعد هذا إن شاء الله تعالى من قصته مع فتيان ابن أبي السمح، وتعصبه عليه وامتحان ذلك الآخر به ودخول التنافر بينه وبين جماعتهم منذ ذلك بسببه. (فصل) وأما أبو حنيفة فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار، فترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس فأبعد ما شاء. وحد بعضهم استحسان أنه الميل إلى القول بغير حجة. وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحدث في الدين والبدعة، حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع في الدين. ولهذا ما خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم تركها لما ذكرناه عن قصد لتغليبه القياس وتقديمه أو لم تبلغه ولم يعرفها إذ لم يكن من مثقف علومه وبها شنع المشنعون عليه وتهافت الجراء على دم البراء بالطعن إليه. ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه، وأحاديث ضعيفة ومتروكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأي وأساءوا فيهم القول والرأي. قال أحمد بن حنبل ما زلنا نلعن أهل الرأي ويعلنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا يريد أنه تمسك بصحيح الآثار واستعملها، ثم أراهم أن من الرأي ما يحتاج إليه وتنبني أحكام الشرع عليه، وأنه قياس على أصولها ومنتزع منها. وأراهم كيفية انتزاعها، والتعلق بعللها وتنبيهاتها. فعلم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع الأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلا بعد الأصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولاً. ونحو هذا في هذا الفصل قول ابن وهب: الحديث مضلة إلا للعلماء. ولولا مالك والليث لضللنا وأما أحمد وداود فإنهما سلكا إتباع الآثار، ونكبا عن طريق الاعتبار، ولكن داود غلا في ذلك فترك القياس جملة. فأحدث هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة، فخانه التمسك برفع أدلة الشريعة وأعرض مما مضت عليه من الاجتهاد والاعتبار وسمى ما لم يجد فيه نصاً ظاهراً عفواً، وأطلق على بعضه الإباحة واضطربت أقوال أصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 في ذلك لضيق المسلك فيه، فتهافت مذهبه، واختل نظره، وجاء من أتباع الظاهر بمقالات يمج الكثير منها السمع وينكره. وقال أحمد: الخبر الضعيف عندي خير من القياس، وبديهة العقل تنكر هذا. فلا خير في بناء غير أساس، وهذا أكرمكم الله اعتبار في التفضيل نبيل، يدل المنصف على السالك منه نهج السبيل. الاعتبار الثالث: يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب شهيد، وهو الالتفاف إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها. فنقول: إن أحكام الشريعة وأوامر ونواهي تقتضي حثاً على قرب من محاسن، وزجراً على مناكر وفواحش، وإباحة لما به مصالح هذا العالم وعمارة هذه الدار ببني آدم. وأبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الكلمات وسنشير إلى رموز في كلمات هذه القواعد لنبين للناظر من اتبع فيها معنى الشرع المراد أو خالف فنكب على السداد وحاد، وإن مالكاً في ذلك كله أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً وأصح تفريعاً وتفصيلاً. فنقول أول ما تكلم فيه من أبوابه الطهارة التي صرح صاحب الشرع بأنها شطر الإيمان وأمر الله تعالى بالطهارة من الحدث والخبث وخص ذلك بالماء بقوله: (ماء ليطهركم به) (وأنرلنا من السماء ماء طهوراً) . فأبو حنيفة الذي يرى إنها تجزي الطهارة من الحدث بالنبيذ المستنبذ في السفر عند عدم الماء مع حكم أكثر العلماء بنجاسة ما بلغ من الأنبذة هذا الحد وتجزي عنده من النجاسة بكل نبيذ مائع خل ومرير وعسل ولين وتجزي منها عنده وعند الشافعي في أحد قوليه بكل ماء مضاف ومتغير بالإضافة، ولو كان بقطران وما أشبهه ما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يغلب على أجزائه ما أضافه. أتراهما رأيا للفظ التطهير والتنظيف قدراً وقد زاد العضو تلويثاً بذلك وقدراً أم جعلا لتخصيص الماء حكماً أو لوصفه بالتطهير معنى، كذلك اشترطه الشافعي وأحمد القلتين فيما تحل فيه النجاسة، وحديثها ليس بثابت وتقريرهما تخمين وحدس غير متفق ولا مستقر لهما قول عليه، وإنه إن نقص منهما كوز أثرت فيه النجاسة وحتى حلت نجاسة قليلة في كيزان كثيرة كانت كلها نجسة ما دامت متفرقة فإذا جمعت في بركة صارت طاهرة، وإنه إن غرف من ماء قدر قلتين بإناء نجس كان ما في الإناء طاهراً وباقي القلتين نجس. وسوة في هذا الباب كله عن مدرك الصواب، حتى قال عظيم من أصحابه اشتراط القلتين مثار لوسواس. كذلك داود في اقتصاره في النهي عن البول في الماء الدائم على مجرد ظاهره فلا يفسده عنده ولا بواقع النهي إلا من بال فيه، وإن من بال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كوز وصبه فيه أو أحدث فيه أو بال بقربه فسال إليه بوله غير داخل في النهي عنده ولا مفسد للماء شيء من ذلك إلا بتغييره. أليس يعلم على القطع إن هذا صد عن مراد الشارع وقطع كذلك، فهم من تخصيص بعض الأعضاء بالوضوء ما تقدم من معنى التنظيف والتحسين الذي هو معنى الوضوء. إذ تلك الأعضاء من الوجه واليدين والرأس والرجلين هي الطهارة من ابن آدم غالباً والتي تحتاج إلى التنظيف والتحسين أبداً أما اليدان والرجلان فلما يعاني بها من الأعمال التي تعقب الأدناس والأوساخ وتلاقي من الأمور التي تنتج عنها الدرن والأقذار، وانظر من لا يهتبل بالوضوء والماء والطهارة من البوادي وأجلاف الأعراب واسوداد القذر بروائحه وبراجمه وتراكم الدنس الموالي جوفاً بكوعه ورسغه، وكذلك الوجه سمة ابن آدم ومحياه وصورته التي كرمه الله بها وسيماه وهو نصب لفح الهواجر، ومثار نقع الأقدام والحوافر وفيه مسام تقذف بأوساخها من قذاء عين ومخاط أنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وبصاق فم، وكل يحتاج إلى تنظيف، فشرع بجميعها الغسل والتكرار. ولما كان الرأس مستوراً غالباً شرع فيه المسح اكتفاء بدهنه بالماء لأن الله شعثه ولأن غسله عند كل حدث مما يشق ويهلك، فهل وفى الشافعي بعبرة هذا الأصل إذا اكتفى بصب الماء عن الدلك وبالمسح على شعرات أو ثلاث من جميع الرأس؟ زأبو حنيفة في الاقتصار على الناصية؟ والثوري في الاقتصار على شعرة؟ ولا يعترض على ما مهدناه بكون التيمم بدلاً من الوضوء عند عدم الماء ولا تنظيف فيه ولا تحسين بل الضر من ذلك، فاعلم أن هذا السر عجيب في الشريعة لمن عدم الماء الطهور وهو متكرر وشاق في السفر وكانت الصلاة دونه مع تأدية فقد تركن إليها النفوس لحبها الدعة وخشية اتخاذها ذلك عادة، جعل اشرع التيمم تنبيهاً على أنها لا تستباح إلا بطهارة، ولتنقي النفس على استعمالها وشرع ما لا يعدم من وجه الأرض وخفف حاله في بعض الأعضاء وفي كل حكم والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات. وأبو حنيفة والثوري يريان أ، الطهارة للصلاة تجزى بغير نية وهي مفتتح أجل القربات وفرق بينها وبين التيمم بغير حجة إلا بحيلات لا تقوم على قدم. وسوى الأوزاعي في الجميع فلم يوجبها. ترتقي إلى أجل القربات المقرونة بكلمتي التوحيد وهي الصلاة والزكاة وأبو حنيفة يجزي عنده من الصلاة أقل ما يجزي في كل مذهب وهي رياضة النفوس الجامة وصقالة القلوب الصدية ومظان الخشوع والمناجاة وسر العبودية المحضة ويرى التحيل في إسقاط الزكاة بعد وجوبها عند رأس الحول يبعدها عن ملكه ظاهراً بما يوطىء عليه غيره، ليصرفها عليه بعد الحول، وهي طهارة الأموال ودليل صحة ألإيمان كما قال عليه السلام: الصدقة برهان وسد خلة الضعفاء. ونهى الشرع عن التحيل فيها بالتفريق والتجميع ونهى عن الخداع والخلابة فهل وفى القائل بها في هاتين القاعدتين فجهدها أو طابق عمله المعنى الموصوف له في الشرع وحكمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كذلك نهى عن شرب الخمر، وعلل ذلك بإيقاع العداوة أو البغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فهمت الصحابة لأول ورود الآية المعنى فحملوه على العموم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام. فمن فرق من الكوفيين بين نبيذ العنب ومطبوخه وسائر المسكرات أباحها ما لم تبلغ بشاربها عدم التمييز خالف الأصلين وخرج قاعدة الشرع في الفصلين، ثم ننظر في الفروج فنتيقن أن حكمة الله في تحصينها وضع أعظم الحدود وأشنعها لمؤثر السفاح على ما أبيح له منها بالنكاح، والملك على الوجوه التي قيدها الشرع لصلاح هذا الخلق وبقاء التمييز والمعارف لهذا النسل، فمن رأى أن الاستئجار على الزنى مسقط للحدود الموضوعة فيه، وأ، الزاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بأجرته للخدمة لا حد عليه، وكذلك اللائط بالذاكران وهو أفحش الفواحش لا حد فيه بل يعزر على قوله، وقول أهل الظاهر، فد ناقض موضوع الشرع وحل رباط هذا الأصل. كذلك حرم الله الدماء والأعراض أشد التحريم وفرض على المعتدين فيها الحد والعذاب الأليم وحمى الأموال على أربابها إلا بحقها وحد القطع على سارقها والقتل على المحارب بسببها. فهل قوله أيضاً بإسقاط الحد على سارق كل رطب من الأطعمة حتى لو بقيت قطرة عسل أو ماء في حب ذهب فسرقه سارق لم يقطع لأجلها. وكذلك إسقاطه ذلك عن سارق كل ما أصله الإباحة من الجواهر الخطيرة مستخرجات المعادن الثمينة وملتقطات البحر النفيسة وإسقاط القطع عن النباش عن أكفان الموتى فاتح غلق الصيانة للأموال ومسهل التوصل إلى التعدي على الكثير منها دون خوف كبير نكال لا سيما على مذهبه ومذهب داود في تخفيف التعزيز واقتصارهم من ذلك على الخفيف اليسير. وكذلك قوله إن من تعدى على ثياب رجل فأفسدها أو شياهه فذبحها وطبخها، فقد صارت له أموالاً وملكها ولزمت ذمته لربها قيمتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 على زعمه مع وجود عينها وإن كان عديماً غير مراع - نهى الشرع عن العدوان والتمادي على اغتصاب الأموال وتسويغ إخراجها من أيدي أربابها دون أثمان ثم جعل الله في القصاص حياة وردعاً للمعتدين. فأبو حنيفة يقول إن من قتل الخلائق من غير محدد الحديد من التغريق والتحريق والتخنيق وسقي السم وغير ذلك من أنواع الاجتراء والظلم لا يقتص منه فقد اجتثت هذا الأصل وبسط أيدي المجرمين على أشنع ضروب القتل آمنين من القصاص على هذا الفعل. كذلك الاعراض حصنت حصنتها وصينت حرمتها بحدود المفترين. فالشافعي الذي لا يرى الحد بالتعريض المفهوم والحنفي يرى أن جماعة من الفساق المجاهرين عدد شهود الوفاء فأكثر لو جاء، ويجيء الشهادة مجالس الحكام، وصرحوا بقذف أفضل الأنام لم يلزمهم حد لمقامهم هذا المقام. فهل يعجز كل فاسق جريء عن هتك عرض كل مسلم بريء بأنواع التعاريض القبيحة. أو بأداء الشهادة مع أمثاله على رؤوس الملأ بالفواحش الصريحة، وهم يتوصلون وإن لم تقبل شهادتهم بأمانهم من الحد إلى تمزيق الأدم الصحيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والإخفاء، بأن حكمة الله في منصب الحكم والقضاء، تحقيق الحق وإبطال الباطل بحكم الدلائل الظاهرة، وقطع المنازعة والمشاجرة، وحكمهم بذلك ماض وبواطن الأمور إلى الله تعالى. ومن خادع الله فإنما يخادع نفسه ومحال تغيير حكم البشر في الباطن، حكم الله وحكمته، وقد قال عليه السلام: لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من النار. فأما أبو حنيفة الذي يرى أن القاضي بشهادة شهداء الزور في نكاح إمرأة وانتقال ملك يحلل للمشهود له الراشي لهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الشهادة وطء ذلك الفرج وأكل ذلك المال سراً أو علناً ظاهراً وباطناً. وهو يعلم تحريمه عليه وباطل نسبته إليه وكذلك قال فيمن غصب جارية وادعى أنها ماتت فحكم عليه بقيمتها ثم أظهرها أنها قد طابت وحلت له. وكذلك لو تحيلت إمرأة عنده بشاهدي زور على طلاق زوجها فقضى بذلك القاضي حل لها غيره من الأزواج. ولو كان أحد الشاهدين، فأين هذا وفقكم الله من المفهوم من مراد الشارع ومقصده بتغليظ الزجر لاستحلال الفروج بغير حقها، والمنع هل يتعذر على الفساق بهذا، الوصول إلى شهواتهم فيمن امتنع عليهم من المحصنات أو حضر عليهم من الشهوات فأسأل الله توفيقاً يعصم ولا يصم برحمته وهذا وفقكم الله خمس ترجيحات كلها توجب اليقين وتوضح الحق المبين، وترغم أناف المتعصبين، وحسب الناظر في هذا الاعتبار الأخير حسن التأمل أولاً وإجمال التأويل آخراً. فلم نر به التسبب لنقص أحد من الأئمة ولا التسلط على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عرض سلف الأمة. لا كنا عرفنا الحق وأهله، ولم ننكر مع ذلك لكل واحد تقدمه وفضله. والسعيد من عدت عثراته ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل. ونحن بعد هذا نسرد أخبار مالك رحمه الله وسيره وجملة تاريخه وأخباره باباً باباً حسبما سبق الوعد به. ونبدأ بالترتيب بذكر نسبه ثم نأتي بطبقات أصحابه تترى وبأعلام أهل مذهبه عصبة بعد أخرى والله المستعان على تحقيق ما أطلق على ألسنتنا من ذلك لا إله غيره. باب في نسب مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله تعالى ونفع به آمين قال إسماعيل ابن أبي أويس فيما حكاه عن الزبير ابن بكار القاضي وغيره أن مالك ابن أنس بن مالك بن أبي عامر بن الحارث بن غميان بن حنبل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح. كذا غميان بالغين المعجمة المفتوحة والياء الساكنة باثنتين من أسفل. وذكر ذلك غير واحد وكذا قيده الأمير أبو نصر بن ماكولا، وحكاه عن إسماعيل بن أبي أويس وخثيل بخاء معجمة مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وياء باثنتين من اسفل ساكنة هذا هو الصحيح. وكذا قيده الأمير أبو نصر بن ماكولا وأتقنه وضبطه، وحكاه عن محمد ن سعد عن أبي بكر ابن أبي أويس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال أبو الحسن الدارقطني وغيره جثيل بالجيم، وحكاه عن الزبير. وأما من قال عثمان بن حنبل فقد صحفه وأما ذو أصبح فقد اختلف في نسبة اختلافاً كثيراً. فقال الزبير ذو أصبح بن سويد ابن عمر بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن حميد الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم ابن عبد شمس بنو وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن ايمن بن هميع بن حمير، وإنما الأكثر هو عبد شمس بن سبأ - وإنما سمي سبا لأنه أول من سبا وغزا القبائل - بن يعرب بن يشجب بن قحطان. وقال غيره ذو أصبح بن عوف بن مالك بن يزيد بن شداد بن زرعة. وهو حمير ألأصغر ابن سبأ الأصغر بن حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب ابن قحطان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقيل ذو اصبح بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عفير بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم بن عبد شمس. وقيل هو عوف بن مالك بن زيد بن عامر بن ربيعة بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن يشجب. وقيل ذو أصبح ويحصب أبناء مالك بن زيد بن حمير. هذا ما ذكر في نسب ذي أصبح من الخلاف ولا خلاف أنه من ولد قحطان، وقد اختلف في نسب قحطان ورفعه، وهل هو من ولد إسماعيل أم لا اختلافاً لا ينحصر وليس من غرضنا فنعده. قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: لم يختلف العلماء بالسير والخبر والنسب في نسب مالك هذا واتصاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بذي أصبح إلا ما ذكر عن ابن إسحاق وبعضهم من أنه مولى لبني تميم وسنبين وهم من قال ذلك، والعلة التي من أجلها تطرق الوهم إليهم وأما أبو عبد الله محمد بن حمدويه الحاكم المعروف بابن البيع فقد غلط غلطاً شنيعاً لا خفاء به، ولا قاله أحد قبله ولا بعده. وخلط في هذا تخليطاً كثيراً، فقال: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر وهو الحارث بن عثمان بن حسل بن عمر بن الحارث بن عبد الرحمان بن عثمان بن عبد الله من ولد تميم بن مرة. يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب. فعجباً له كيف اتفق هذا الغلط ومن اين تطرق له؟ ثم قال في باب آخر إنه من خولان فأين هذا من ذلك وكلاهما خطأ. وإما وهم من زعم أنه مولى تميم فدخل عليه الوهم إذ وجده ينتمي إليهم ويحسب عدادهم بسبب حلفه معهم وإلا فنسبهم في ذي أصبح صحيح. ذكر ذلك غير واحد من زعماء قريش ونسابها وغيرهم من أهل العلم كمحمد ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عمران الطلحي، وعبد الملك ابن صالح وصعب بن ثابت الزبيري وعامر بن عبد الله الزبيري وأبي بكر اليعمري وابنه طلحة وأبي مصعب الزهري وأبناء أبي أويس وخليفة بن خياط العصيري والواقدي والبخاري وابن أبي خيثمة وأحمد بن صالح بن بكار القاضي ومن بعدهم الحفاظ، كالدارقطني وعبد الله التستري القاضي وأبي محمد العراب وأبي القاسم الجوهري وأبي القاسم الإلكاني وأبي نصر ابن ماكولا ومن لا ينعد كثرة. بل كل من ذكر نسبه ولم يتابع أحد منهم ابن إسحاق على قوله من جاء بعده بل بينوا وجه وهمه. قال عامر بن عبد الله الزبيري وذكر بيت مالك بن أنس أما أنهم من العرب من اليمن ذو قرابة بالنظر بن مريم. وقال الدراوردي: قال لي أبو سهل ابن مالك نحن قوم من ذي أصبح ليس لأحد علينا ولاء ولا عهد. وقال أبو مصعب: مالك من العرب صليبه وحلفه في قريش في بني تيم بن مرة. قال محمد بن عمران لمن سأله عنه: وهو رجل من العرب من حمير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أنفسهم ما بيننا وبينه نسب إلا أن أمه مولاة لعمي عثمان بن عبيد الله وقال أبو بكر العمري السالمي: مالك صحيح النسب من أنفسهم لا من مواليهم. وقال مصعب بن عبيد الله الزبيري: بنو أصبح الذين كان الملك فيهم بنو عم مالك. قال الفرياني: سألت مصعباً عن مالك. فقال: عربي شريف كريم في موضعه من ذي أصبح، بطن من اليمن من ملوك اليمن بني إبراهيم بن الصباح. وقال أحمد بن صالح مالك من ذي أصبح صحيح النسب. وقالت بنت طلحة ما لنا عليه عقد ولاء. تعني جد مالك. ولما قدم زياد بن عبيد الله المدينة قال ما هنا أحد من أهل العلم، فنسبوا له مالكاً. فقال هذا بيت اليمن. فكان أول من استفتاه. وقال عبد الملك بن صالح الهاشمي: مالك بن أنس من ذي أصبح. وجاء أبو المهاجر إلى عثمان بن عبد الله التيمي أو غيره، يشتكي بأبي عامر جد مالك ابن أنس وكان أبو المهاجر على الصدقة، فقال للتيمي ألا تعذرني من مولاك؟ قال ليس بمولاي، هو رجل من العرب من أهل اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 باب في انتماء مالك وآله إلى تيم بن مرة من قريش وذكر نسب أمه قال أبو عمر بن عبد البر الحافظ: لا أعلم أن أحداً أنكر أن مالكاً ومن ولده كانوا حلفاء لبني تيم بن مرة من قريش، ولا خلاف فيه إلا ما ذكر عن ابن إسحاق فإنه زعم أنه من مواليهم. قال: وروى عن ابن شهاب أنه قال حدثني نافع ابن مالك التيمي، قال وهذا عندنا لا يصح عن ابن شهاب. قال الإمام القاضي أبو الفضل رضي الله عنه، قول ابن شهاب هذا في صحيح البخاري أول كتاب الصيام. وتعرف الموالي في لسان العرب بمعنى الحليف والتناصر وغيرهما معروف فلعله ما أراد ابن شهاب، ولذلك قال عبد الملك بن صالح الهاشمي مالك من ذوي أصبح مولى لقريش. وقال الزبير بن بكار عداده في بني تيم بن مرة. وقد روى عن مالك أنه لما بلغه قول ابن شهاب هذا ليته لم يرو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عنا شيئاً. قال أبو سهيل عم مالك نحن قوم من ذي أصبح قدم جدنا المدينة فتزوج في التيميين فنسبنا إليهم ومثله قول ابن عمران التميمي القاضي الذي تقدم ما بيننا وبينه نسب إلا أن أمه مولاة لعمي عثمان بن عبيد الله. وقال الربيع بن مالك أخو أبي سهل عن أبيه قال لي عبد الرحمان بن عثمان بن عبد الله التيمي ابن أخي طلحة ونحن بطريق مكة يا مالك هل لك إلى ما دعانا إليه غيرك فأبينا، أن يكون دمنا دمك وهدمنا هدمك ما بل بحر صوفه. فأجبته إلى ذلك. وقال عبد الله ابن مصعب قدم مالك ابن أبي عامر متظلماً من بعض الولاة باليمن. فمال إلى بعض بني تيم بن مرة فعاقده وصار معهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقد روي أن مالك بن أبي عامر لم يجب عبد الرحمان بن عبد الله إلى الحلف الذي دعاه إليه، وقال له لا حاجة لي به والأول أصح وأشهر. وذكر أن أبا عامر تحالف مع عثمان بن عبد الله في الجاهلية وقدما معاً المدينة. وقيل إن أبا عامر إنما حالف في الجاهلية عبد الله بن جدعان، قال ابن أبي أويس: نحن أصبحيون حلفاء بني تيم. فننتمي إلى قريش أحب إلينا من اليمن. فالسبب الذي تقدم لهم من الالتفاف بتيم إما بالحلف على الأشهر والصحيح أو بالصهر انتسبوا تيمين فظن ابن إسحاق ومن لم يحقق الأمر أنهم مواليهم إذ لم يكن لهم نسب معروف فيهم. وأما أمه، فقال الزبير هي العالية بنت ابن بكار شريك بن عبد الرحمان بن عبد الرحمان بن شريك الأزدية وقال ابن عائشة أمه طليحية مولاة عبد الله بن معمر وقد تقدم قول ابن عمران. باب في ذكر آل مالك وبيته ونسبه ذكر القاضي بكر بن علاء القشيري أن أبا عامر بن عمر وجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أبي مالك رحمه الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وشهد المغازي كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم خلا بدراً وابنه مالك جد مالك كنيته أبو أنس من كبار التابعين ذكر ذلك غير واحد يروي عن عمر وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان بن أبي ثابت وكان من أفاضل الناس وعلمائهم وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلاً إلى قبره وغسلوه ودفنوه وكان خدنا لطلحة يروي عنه بنو أنس وأبو سهيل نافع والربيع. مات سنة ثنتي عشرة ومائة وذكر أبو محمد الضراب أن عثمان رضي الله عنه أغزاه إفريقية ففتحها. وروى التستري محمد بن أحمد القاضي أنه كان ممن يكتب المصاحف حين جمع عثمان المصاحف وكان عمر بن عبد العزيز يستشيره، وقد ذكر ذلك مالك في جامع موطأه. قال أبو القاسم الإلكاني الحافظ كان لأبي أنس بن مالك ابن أبي عامر أربعة بنين، أحدهم أنس أبو مالك الفقيه. قال غيره وبه كان يكنى. روى عنه ابنه مالك. قال الضراب وقد روى ابن شهاب عنه وقاله ابن أبي حاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يرويه عن أبيه. قال أبو إسحاق بن شعبان روى مالك عن أبيه عن جده عن عمر حديث الغسل واللباس. قال ابن وهب سئل مالك عن أبيه فقال كان عمي ثقة أبو سهيل. قال أبو مصعب كان أبو مالك بن أنس مقعداً وكان له قصر بالحرف يعرف بقصر المقعد. قال غيره وكان يعيش من صنعة النبل قال الإلكاني والثاني نافع أبو سهيل، روى عنه مالك أيضاً وإسماعيل ومحمد ابنا جعفر ابن أبي كثير والدراوردي وغيرهم. قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه، وقد روى عنه ابن شهاب أيضاً. والثالث أويس وجد جده أبي أويس أبي إسماعيل وأبي كر وسيأتي ذكرهما. وسماه غيره أوسا مكبراً ووهم. روى عن أبيه أيضاً وزعم الضراب أنه روى عن ابن شهاب أيضاً. والرابع الربيع. قال إسماعيل جالسته، قال أبو حاتم لم يرو عنه العلم. قال أبو القاسم الجوهري لم يرو عنه إلا سليمان بن بلال وذكر التستري لأبي بكر الأويسي عنه رواية، وذكر أيضاً ابنه مالك بن الربيع وفيه نظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقد روى أربعتهم عن أبيهم مالك بن أبي عامر، وقد خرج أهل الصحيح البخاري ومسلم ومن بعدهم عن مالك بن أبي عامر وأبي سهيل ابنه كثيرا. قال إسحاق بن شعبان عمومة مالك ثلاث نافع والنظر ويسار. قال الضراب كان لمالك عم يقال له النظر به كان يعرف مالك أولاً، وكان يقال مالك ابن أخي النظر، فما لبث إلا يسيراً حتى قال الناس النظر عم مالك. وقال محمد بن طلحة والأشهر أن النظر الذي كان به يعرف مالك أولاً ثم صار يعرف به أخ مالك كذا ذكر أحمد بن صالح والأصح والأعرف في أعمام مالك الأول. قال مالك كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوماً علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت فقال لي أبي ألهتك الحمام. وكان لمالك ابنان يحيى ومحمد وابنه اسمها فاطمة، زوج ابن أخته وابن عمه إسماعيل بن أبي أويس. قال ابن شعبان ويحيى بن مالك يروى عن أبيه نسخة وذكر أنه روى الموطأ عنه باليمن، وروى عنهما ابن سلمة وابنه محمد. قدم مصر وكتب عنه. حدث عنه الحارث بن مسكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وزيد بن بشر قال أبو عمر بن عبد البر كان لمالك أربعة من البنين يحيى ومحمد وحماد وأم البهاء. فأما يحيى وأم البهاء فلم يوص بهما إلى أحد أوصى بالآخرين إلى إبراهيم بن حبيب رجل من أهل المدينة. وقال ابن شعبان حبيب وهو اللآلي ويعرف ببابين أنه هو كان وصيه مع داود بن أبي زنير ولعل إبراهيم ولد حبيب هذا. فالله أعلم. وقد ذكره في الرواة عنه ابن أبي إسحاق، وذكر أيضاً إسحاق بن إبراهيم ابن حبي بابين وذكرهم الثلاثة في المدنيين فالله أعلم. وأرى قوله إسحاق وهم، وإنه أبو إسحاق. وقال قاسم بن أصبغ: إبراهيم بن حبيب ثقة من أصحاب مالك، وهو وصيه. قال الزبير، كان لمالك ابنة تحفظ علمه يعني الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكان تقف خلف الباب فإذا غلط القارىء نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه. وكان ابنه محمد يجيء وهو يحدث وعلى يده باشق ونعل كتب فيه، وقد أرخى سراويله فيلتفت مالك إلى أصحابه ويقول إنما الأدب مع الله: هذا ابني وهذه ابنتي. قال الفروي: كنا نجلس عنده وابنه يدخل ويخرج ولا يجلس. فيقبل علينا ويقول: إن مما يهون علي أن هذا الشأن لا يورث وأ، أحداً لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن بن مفرج القرطبي في رواة مالك وأبو بكر الخوارزمي البرقاني الحافظ في كتابه في الضعفاء الذين اتفق رأيه ورأي أبي منصور بن حكمان مع أبي الحسن الدارقطني على تركهم. وتوفى أحمد هذا سنة ست وخمسين ومائتين. باب في مولد مالك رحمه الله تعالى والحمل به ومدة حياته ووقت وفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال الإمام القرطبي أبو الفضل رضي الله عنه: اختلف في مولده رحمه الله تعالى اختلافاً كثيراً، فالأشهر في ما روي من ذلك قول يحيى بن بكر أن مولده سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان. وقال ابن عبد الحكم بل سنة أربع وتسعين. وقال إسماعيل بن أبي أويس كان في خلافة الوليد. قال غيرهما في ربيع الأول منها. وروي عن محمد ابن عبد الحكم أن مولده سنة أربع وتسعين وقال أبو موسى سنة تسعين. وقيل سنة ست وتسعين، وقيل سنة سبع وتسعين، وقال أبو داود السبجستاني سنة ثلاث وتسعين، وقال أبو إسحاق الشيرازي سنة خمس وتسعين. قال محمد بن سعيد مولى سفينة قال مالك أتى عمي أبو سهيل إلى عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ليفرض لي فقال احتلم؟ فقال سل أباه فهو أعلم مني به. قال مصعب بن عبد الله: هذا خطأ. عزل محمد عن المدينة سنة ثلاث وتسعين. وأما وفاته فالصحيح ما عليه الجمهور من أصحابه ومن بعدهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الحفاظ وأهل علم الأثر ممن لا يعد كثرة أنه توفى سنة تسع وسبعين ومائة واختلفوا في أي وقت منها فالأكثر على أنه في ربيع ألأول قاله إسماعيل ابن أبي أويس وابن أبي زنبر وابن بكير وأبو مصعب الزهري وغيرهم، واختلفوا بعد ذلك فقال ابن أبي أويس والواقدي وابن سعد صبيحة أربع عشرة من الشهر المذكور. وقال أبو مصعب لعشر مصت منه وحكى أبو علي البصري في الكتاب المغرب أن وفاته يوم الأحد لثلاث خلون من هذا الشهر وقال ابن وهب في تاريخ ابن سحنون يوم الأحد لثلاث عشرة خلت منه، وحكى أبو عمر بن عبد البر لعشر خلون منه، وقال ابن سحنون في إحدى عشرة ويقال في اثنتي عشرة من رجب من السنة. وقال مصعب الزبيري وخالف هذا كله حبيب كاتبه ومطرف فيما ذكر عنه. قاللا سنة ثمانين. وخالف أيضاً الفزاري فحكى عنه ابن سحنون وأبو العرب التميمي أن، وفاة مالك سنة ثمان وتسعين وهذا وهم والأول هو الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 واختلف على هذا في سنه. فقال ابن نافع الصائغ وابن أبي أويس ومحمد بن سعيد وحبيب أنه توفى سنة خمس وثمانون وقيل أربع وثمانون وقيل عن ابن نافع سبع وثمانون، وقاله سحنون وقال الواقدي تسعون. وقال الفريابي وأبو مصعب ست وثمانون وذكر عن ابن القاسم سبع وثمانون وقاله ابن سحنون وأبو العرب وعن القعنيني تسع وثمانون. وقال أيوب بن صالح اثنتان وتسعون وقال أبو محمد الضراب وهذا خطأ والصواب ست وثمانون وهو الأشبه مع قول ابن القاسم على الأصح من مولده ووفاته. واختلف في حمل أمه به فقال ابن نافع الصائغ والواقدي ومعن ومحمد بن الضحاك حملت به أمه ثلاث سنين وقال نحوه بكار بن عبد الله الزبيري، وقال أنضجته والله الرحم. وأنشد الطرماح: تظن بحملنا الأرحام حتى ... تنضجنا بطون الحاملات قال ابن المنذز وهو المعروف وروي عن الواقدي أيضاً أن حمل أمه به سنتان. قاله عطاف بن خالد ولا خلاف أن وفاته بالمدينة. باب في صفته وخلقه قال أبو عاصم: ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك. وقال عيسى ابن عمر المديني: ما رأيت قط بياضاً ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياض ثوب منه. ووصفه غير واحد من أصحابه، منهم مطرف وإسماعيل والشافعي وبعضهم يزيد على بعض، قالوا كان طويلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية شديد البياض إلى الصفرة، أعين، حسن الصورة أصلع أشم عظيم اللحية تامها، تبلغ صدره ذات سعة وطول، وكان يأخذ إطار شاربه ولا يحلقه ولا يحفيه ويرى خلفه من المثل. وكان يترك له سبلتين ويحتج بفتلة عمر لشاربه، إذا همه الأمر. ووصفه أبو حنيفة أنه أزرق أشقر. قال أبو العباس بن شريح القاضي وذكرت له صفته هذه صفة عاقل. وقال: الفراسة تدل على أن من هذه صقته كان عاقلاً. وقال مصعب الزبيري كان مالك من أحسن الناس وجهاً وأحلاهم عيناً وأنقاهم بياضاً وأتمهم طولاً في جودة بدن. قال بعضهم: كان مالك ربعة من الرجال والأول أشهر. قال غيره: دخلت على مالك فرأيته في إزار. وكان في أذنيه كبر كأنهما كفا إنسان أن دون ذلك. قال الحكم بن عبدة: دخلت مسجد المدينة وإذ بمالك وله شعرة قد فرقها. قال أحمد بن إبراهيم الموصلي رأيت مالكاً مضموم الشعر. قالوا ولم يكن يخضب ويحتج بعلي رضي الله عنه وهذا هو المشهور عنه. وقد روى أن بعض ولاة المدينة قال له: لم لا تخضب يا أبا عبد الله؟ فقال له: هذا بقي عليك من العدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقد روى ابن وهب أنه رأى مالكاً يخضب بالحنا وروى نحوه عبد الرحمان بن واقد، ولم يقل بالحنا. قال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة لم يخضب شيبته ولا دخل الحمام ولا حلق وفي رواية ولا حلق قفاه. باب في ملبسه وطيبه وحليته ومسكنه ومطعمه ومشربه قال محمد بن الضحاك كان مالك جميل الوجه نقي الثوب رقيقه يكره أخلاف اللباس. قال خالد بن خداش: رأيت على مال طيلساناً طرازياً وقلنسوة وثياباً مروية جياداً وفي بيته وسائد وأصحابه عليها قعود، فقلت له يا أبا عبد الله الذي أرى شيئاً حدثته أم وجدت الناس عليه؟ قال: رأيت الناس عليه. قال الوليد بن مسلم: كان مالك لا يلبس الخز ولا يرى لبسه، ويلبس البياض، ورأيته والأوزاعي يلبسان السيجان ولا يريان بلبسها بأساً. قال بشر بن الحارث: دخلت على مالك فرأيت عليه طليساناً يساوي خمسمائة قد وقع جناحاه على عينيه أشبه شيء بالملوك. قال أشهب: كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه وأسدل طرفها بين كتفيه. قال ابن وهب: رأيت على مالك ريطة عدنية مصبوغة بمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 خفيف. وقال لنا هو صبغ أحبه ولكن أهلي أكثروا زعفرانها، فتركته. وقال لنا ما أدركت أحداً يلبس هذه الثياب الرقاق إنما كانوا يلبسون الضفاف الأربيعة، فإنه كان يلبس مثل هذا، وأشار إلى قميص عليه عدني رقيق. قال الزبيري: كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد والخراسانية والمصرية المرتفعة البيض ويتطيب بطيب جيد، ويقول ما أحب لأحد أنعم الله عليه إلا ويرى أثر نعمته عليه وخاصة أهل العلم، وكان يقول أحب للقارىء أن يكون أبيض الثياب. قال ابن أبي أويس: ما رأيت في ثوب مالك حبراً قط. قال أشِهب: كان مالك يستعمل الطيب الجيد المسك وغيره. قال الواقدي: كان مالك يجلس في منزله على خماع ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيوت لمن يأتيه من قريش والأنصار، ووجوه الناس. قال أشهب: كان مالك إذا اكتحل لضرورة جلس في بيته وكان يكرهه إ لعلة. قال ابن نافع الأكبر ومطرف وإسماعيل: كان خاتم مالك الذي مات وهو في يده فصه حجر أسود نقشه سطران فيهما: حسبنا الله ونعم الوكيل، بكتاب جليل، وكان يحبسه في يساره وربما خرج علينا وهو في يمنيه لا نشك أنه إذا توضأ حوله في يمينه. وسأله مطرف عن اختياره لما نقش فيه فقال: سمعت الله يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ... الخ. الآية الأخرى. قال مطرف: فحولت خاتمي وصيرته كذلك، والله أعلم. قال أحمد بن صالح: كان مالك قليل المشي يظهر التجمل ضيق الأمر، لم يكن له منزل. كان يسكن بكراء إلى أن، مات، وسأله المهدي: ألك دار؟ فقال: لا. وحدثني ربيعة أن نسب المرء داره. قال عتيق بن يعقوب: كان على باب مالك مكتوب: ما شاء الله. فقيل له في ذلك فقال: قال الله: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) ... الآية. والجنة الدار. قال ابن المنذر: وكانت دار مالك بن أنس التي كان ينزل بالمدينة دار عبد الله ابن مسعود، وكان مكانه من المسجد مكان عمر بن الخطاب وهو المكن الذي يوضع فيه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذا اعتكف. كذا قال الأوسي. وقال مصعب: كان مالك يجلس عند نافع مولى ابن عمر في الروضة حياة نافع وبعد موته. قال ابن بكير مولد مالك بذي المروة وكان أخوه النظر يبيع البز وكان مالك معه بزازاً ثم طلب العلم وكان ينزل أولاً بالعقيق ثم نزل بالمدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقيل لمالك لم تنزل العقيق فإنه يشق عليك إلى المسجد. فقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويأتيه وأن بعض الأنصار أراد النقلة منه إلى قرب المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تحسبون خطاكم. قال إسماعيل بن أبي أويس: كان في كل يوم لحمه درهمان وكان يأمر خبازه سلمة في كل يوم جمعة طعاماً كثيراً. قال مطرف: لو لم يجد مالك كل يوم درهمان يبتاع بهما لحماً إلا أن، يبيع في ذلك متاعه لفعل. وكانت وظيفته في لحمه. وقال ابن أبي حازم: قلت لمالك: ما شرابك يا أبا عبد الله؟ قال: في الصيف السكر وفي الشتاء العسل. وكان مالك يعجبه الموز ويقول: لم يمسه ذباب ولا يد أسود ولا شيء أشبه بثمر الجنة منه لا نطلبه في شتاء ولا صيف إلا ووجدته. قال الله: أكلها دائم وظلها. قال أبو السمح طلق بن أبي السمح: رأيت مالكاً على بغلة سرية بسرج سري عليها وعليه ثياب سرية وغلام يمشي خلفه حتى إذا أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 باب داره فدخل راكباً إلى موضع معرسه فنزل وقعد، فأخذ الغلام منديلاً فمسح خفه ونزعه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: الأخبار المشهورة عنه بخلاف هذا مما سنذكره وأنه كان لا يركب بالمدينة إكراماً لتربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون. قال محمد بن مالك كانت عمتي مع مالك في منزله فتهيء له فطره خبزاً وزيتاً، ووعظ مالك مرة أبا جعفر المنصور في افتقاد الرعية فقال له: أليس إذا بكت ابنتك من الجوع تأمر بحجر الرحا فيحرك كيلا يسمع الجيران بكاءها، فقال مالك: والله أعلم في ابتداء حاله وضيق أمره وأكثر هذه الحكايات المختلفة التي أوردنا منها ونورد في اختلاف أحواله في ديناه إنما كانت لاختلاف الأوقات وتنقل الأحوال إذ حال المرء في بدايته بخلاف حاله في نهايته، فقد عاش رحمه الله نحو التسعين سنة على ما تقدم فكان يها إماماً يروري ويفتي ويسمع قوله نحو سبعين سنة تنتقل أحواله في كل حين زيادة في الجلالة، ويتقدم في كل يوم علوه في الفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والزعامة حتى مات وقد انفرد منذ سنين وحاز رئاسة الدنيا والدين دون منازع فلا تعارض بين ما يرد عليك من الأخبار في اختلاف أحواله والله والموفق. باب في عقله وسمته وأدبه وحسن معاشرته وذكر شيء من شمائله. قالوا كان ربيعة يقول إذا جاء مالك قد جاء العاقل. وقال ابن مهدي لقيت أربعة: مالكاً وسفيان وشعبة وابن المبارك، فكان مالك أشدهم عقلاً. وقال: ما رأت عيناي أحداً أهيب من هيبة مالك ولا أتم عقلاً ولا أشد تقوى ولا أوفر دماغاً من مالك. وقال هارون الرشيد عنه ما رأيت أعقل منه. وقال ابن وهب: الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه. قال أحمد بن حنبل: قال مالك ما جالست سفيهاً قط. وهذا أمر لم يسلم منه غيره. قال أحمد ليس في فضائل العلماء أجل من هذا. قال أبو نوح ومصعب الزبيري: ذكر مالك يوماً شيئاً، فقلنا له من حدثك بهذا، قال أبو نوح ومصعب الزبيري: ذكر مالك يوماً شيئاً، فقلنا له من حدثك بهذا، قال إنا لم نجالس السفهاء. وقال زياد بن يونس كان والله مالك أعظم الخلق مروءة وأكثرهم صمتاً. وكان إذا جلس جلسة لا ينحل منها حتى يقوم ورأيته كثير الصمت قليل الكلام متحفظاً للسانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قال ابن المبارك: كان مالك أشد الناس مدارة للناس وترك ما لا يعنيه. قال ابن أبي أويس، كان مالك يستعمل الأنصاف ويقول ليس في الناس أقل منه فأردت المداومة عليه. قال الزهراني: كان مالك إذا أصبح لبس ثيابه وتعمم ولا يراه أحد من أهله ولا أصدقائه إلا متعمماً لابساً ثيابه، وما رآه أحد قط أكل أو شرب حيث يراه الناس، ولا يضحك ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وحكى أبو فهر المصري قال: كان أبو بكر بن إسحاق إذا ذكر عقل أبي علي الثقفي يقول ذلك عقل مأخوذ من الصحابة والتابعين وذلك أن أبا علي أقام بسمرقند منذ أربع سنين يأخذ تلك الشمائل من محمد بن نصر المروزي وأخذها ابن نصر عن يحيى بن يحيى، فلم يكن بخراسان أعقل منه وأخذها يحيى عن مالك أقام عليه لأخذها سنة بعد أ، فرغ من سماعه. فقيل له في ذلك فقال إنما أقمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين، وكان مالك لذلك يسمى العاقل واتفقوا على أنه أعقل أهل زمانه. قال زهير ابن عباد: ما كنت أقول لمالك رحمك الله إلا قال وأنت رحمك الله. وإذا قلت له عافاك الله. قال وأنت عافاك الله، حسن أدب. قالوا كان أحسن لناس خلقاً مع أهله وولدوه. ويقول: في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 مرضاة لربك ومثراة في مالك ومنساة في أجلك وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عبد الحكم هيأ مالك بن أنس دعوة للطلبة وكنت فيهم فمضينا معه إلى داره فلما دلنا الدار قال هذا المستراح، وهذا الماء ثم دخلنا البيت فلم يدخل معنا، ودخل بعد ذلك فأتانا بالطعام ولم يؤت بالماء قبله لغسل أيدينا. ثم أتى به بعده فلما خرج الناس سألته عما رأيت قال أما أعلامي لكم بالمستراح والماء. فإنما دعوتكم لأبركم ولعل أحدكم يصيبه بول أو غيره فلا يدري أين يذهب فيصل إليه الضرر وأما تركي الدخول معكم في البيت فلعلي أقول هاهنا أبا فلان اجلس وهاهنا أبا فلان اجلس وقد أنسى بعضكم فيظن ذلك نقصاً فيه، فتركتكم حتى أخذتم مجالسكم ودخلت عليكم. وأما تركي الماء قبل الطعام فإن الوضوء قبله من سنة الأعاجم وأما بعده فقد جاء في ذلك حديث. قال الشافعي: سئل مالك عن الصورة في البيت فقال لا ينبغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فقال له رجل عراقي يا أبا عبد الله هو ذا في بيتك صورة. قال أنا ساكن فيه منذ كذا ما رأيتها، قم فحكها. فأخذ قناة فلف عليها خرقة ثم حكها. قال مطرف كان مالك إذا دخل بيته قال: ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. فسئل عن ذلك فقال: قال الله تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، وجنته بيته. وقيل أن ذلك كان على باب مالك مكتوب ليتذكر برؤيته قول ذلك متى دخل. باب في ابتداء طلبه وسيرته في ذلك وصبره عليه وتحريه فيمن يأخذ عنه قال مطرف، قال مالك: قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت تعال فالبس ثياب العلم. فألبستني ثياباً مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها. ثم قالت: اذهب فاكتب الآن. وقال رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. قال ابن القاسم: أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ثم مالت عليه الدنيا بعد. وروي مثل هذا عن ربيعة. قال أنس ين عياض جالست ربيعة ومالك يومئذ معنا وما يعرف إلا بمالك أخو النضر ثم ما زال حرصه في طلب العلم حتى صرنا نقول النضر أخو مالك، وكان لمالك حين طلبه يتبع ظلال الشجر ليتفرغ لما يريد. فقالت أخته لأبيه هذا أخي لا يأوي مع الناس قال يا بنية إنه يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مالك كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوماً علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت فقال لي أبي ألهتك الحمام عن طلب العلم فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين. وفي رواية ثمان سنين لم أخلط بغيره. وكنت أجعل في كفي تمراً وأناوله صبيانه وأقول لهم أن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول، وقال ابن هرمز يوماً لجاريته من بالباب فلم ترَ إلا مالكاً فرجعت فقالت له ما ثم إلا ذاك الأشقر فقال له دعيه فذلك عالم الناس. وكان مالك اتخذ تباناً محشواً للجلوس على باب هرمز يتقي به برد حجر هناك. وقيل بل من برد صحن المسجد وفيه كان مجلس ابن هرمز. قال مالك إن كان الرجل ليختلف للرجل ثلاثين سنة يتعلم منه، فظننا أنه يريد نفسه مع ابن هرمز. وكان ابن هرمز من استحلفه ألا يذكر اسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 في حديث قال ابن عينية شهدت مالكاً يسأل زيد بن عمر عن حديث عمر أنه حمل على فرس في سبيل الله يجعل يرفق به ويسأله عن الكلمة بعد الأخرى والشيء بعد الشيء وكان في خلق زيد شيء. وقال ابن عبد الحكم قال لي مالك كنا نأتي ابن شهاب في دارة في بني الريل وكانت له عتبة حسنة كنا نجلس عليها نتدافع إذا دخلنا عليه، وقال مالك كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر فيقول الزهري: قال ابن عمر كذا وكذا فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه وقلنا له الذي ذكرت عن ابن عمر من حدثك به. فيقول ابن سالم. قال مصعب كان مالك يقود نافعا من منزله إلى المسجد وكان قد كف بصره فيسأله فيحدثه وكان منزل نافع بناحية البقيع قال مالك كنت آتي نافعا مولى ابن عمر وأنا يومئذ غلام ومعي غلام لي وينزل إلي من درجة له فيقعدني معه فيحدثني، وقال كنت آتي نافعا نصف النهار وما تظلني الشجر من الشمس إلى خروجه. فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أرده ثم أتعرض له فأسلم ليه وأدعه حتى إذا دخل البلاط أقول له كيف قال ابن عمر في كذا وكذا فيجيبني ثم أجلس عنه وكان فيه حدة. وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال الزبيري رأيت مالكاً في حلقة ربيعة وفي أذنه شنف وهذا يدل على ملازمته الطلبة من صغره كما قال في خبر نافع. قال ابن أبي زنبر سمعت مالكاً يقول كتبت بيدي مائة ألف حديث وروى عنه ابن إسحاق: ما كتبت عن أحد كتاباً على وجهه إلا عن العلا. وروى عن ابن وهب عنه أنه قال ما كتبت في هذه الألواح قط قال أحمد بن صالح نظرت في أصول كتب مالك فإذا شبيه باثني عشر ألف حديث. قال عبد الله بن عمر عامة ما سمعت من ابن شهاب أنا ومالك عرضاً، كان مالك يقرأ لنا وكان حسن القراءة. وقال ابن مهدي سئل مالك عن سماعه من الزهري فقال: أقل ذلك العرض. وقال له ابن وهب أكنت تقرأ العلم على أحد؟ قال لا. وروى عنه أنه قال قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة فحدثنا نيفا وأربعين حديثاً ثم أتيناه الغد فقال انظروا كتاباً حتى أحدثكم منه، أرأيتم ما حدثتكم أمس أفي شيء في أيديكم منه؟ فقال له ربيعة ها هنا من ير عليك. ما حدثت به أمس فقال ومن هو قال: ابن أبي عامر. قال هات فحدثته بأربعين حديثاً منها. فقال الزهري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ما كنت أرى بقي من يحفظ هذا غيري. وقال مالك في رواية أخرى شهدت العيد فقلت هذا اليوم يخلو فيه ابن شهاب فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته أنظري من على الباب. فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك. قال أدخليه فدخلت فقال ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت لا. قال هل أكلت شيئاً قلت لا قال فاطعم قلت لا حاجة لي فيه قال فما تريد قلت تحدثني فحدثني سبعة عشر حديثاً ثم قال وما ينفعك إن حدثتك ولا تحفظها قلت إن شئت رددتها عليك فرددتها عليه، وفي رواية قال هات فأخرجت ألواحي فحدثني بأربعين حديثاً. فقلت زدني قال حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ قلت قد رويتها فحبذا الألواح من يدي ثم قال حدث فحدثته بها فردها إلي وقال قم فأنت من أوعية العلم. أو قال إنك لنعم المستودع للعلم. وروى عنه: حدثي ابن شهاب بأربعين حديثاً ونيف منها حديث السفينة فحفظت. ثم قلت أعدها علي فإني نسيت النيف على الأربعين فأبى فقلت أما كنت تحب أن، يعاد عليك قال بلى. فأعادها فإذا هو كما حفظت. وفي رواية أن ابن شهاب قال له ما استفهمت عالماً قط. ثم استرجع وقال ساء حفظ الناس لقد كنت آتي سعيد بن المسيب وعروة والقاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وأبا سلمة وحميداً وسالماً وعدد جماعة فأدور فأسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المائة ثم انصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا، في حديث هذا. وقال مالك وفي رواية ابن وهب: كنت أجلس إلى ابن شهاب ومعي خيط فإذا حدث عقدت ثم رجعت إلى البيت يعني فكتبتها، قال وفي رواية ابن قيس: كان ابن شهاب إذا جلس يحدث ثلاثين حديثاً فحدث يوماً وعقدت حديثه فأنسيت منها حديثاً. فلقيته فسألته عنه فقال ألم تكن في المجلس قلت بلى قال فمالك لم تحفظ قلت ثلاثون إنما ذهب عني واحد فقال لقد ذهب حفظ الناس ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته هات ما عندك فسألته فأنبأني فانصرفت. وقال عبد العزيز بن عبد الله سئل مالك أسمع من عمرو بن دينار. فقال رأيته يحدث والناس قيام يكتبون فكرهت أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم. وقال أحمد بن صالح جاء مالك إلى عمر بن دينار فلم يفهم كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لأنه كان أهتم فيذهب إلى بيت الزبير يكتب عنه. قال الزبير مر مالك بأبي الزناد وهو يحدث فلم يجلس إليه. فلقيه بعد ذلك فقال له ما منعك أن تجلس إلي. قال كان الموضع ضيقاً فلم أرد أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم. وروى أن القصة جرت له مع أبي حازم، قال ابن وهب سئل مالك هل كنتم تتقايسون في مجلس ربيعة ويكسر بعضكم على بعض؟ فقال لا والله. قال مالك كان أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن يسار يقول لنا إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم. قال ابن أبي أويس سمعت مالكاً يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه. لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده هذه الأساطين، وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن. وفي رواية ابن وهب وحبيب وابن عبد الحكم نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وعن مطرف عنه: أدركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم شيئاً من العلم وأنهم ليؤخذ عنهم العلم وكانوا أصنافاً فمنهم من كان يكذب في حديث الناس ولا يكذب في علمه ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، ومنهم من كان يزن برأي سوء. فتركتهم لذلك، وفي رواية ابن وهب عنه: أدركت بهذه البلدة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيراً ما حدثت عن أحد منهم شيئاً لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن يعني الحديث والفتيا يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً. فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به ولا هو حجة ولا يؤخذ عنهم. وروى عنه ابن كنانة ربما جلس إلينا الشيخ جل نهاره ما نأخذ عنه ما بنا أن نتهمه ولكن لم يكن من أهل الحديث. قال مالك وكنا نزدحم على درج ابن شهاب حتى يسقط بعضنا على بعض، قال وكانت عندي صناديق من كتب ذهبت، لو بقيت لكان أحل إلي من أهلي ومالي وروى بعضهم عنه أنه قال: كتبت بيدي مائة ألف حديث. قال مالك أتيت زيد بن أسلم فسمعت حديث عمر أنه حمل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فرس في سبيل الله فاختلفت إليه أياماً أسأله عنه فيحدثني لعله يدخله فيه شك أو معنى فأترك لأنه كان ممن شغله الزهد عن الحديث. وقيل له لم لا تكتب عن عطاء قال أردت أن آخذ عنه وأردت أن أنظر إلى سمته وأمرن، فأتبعته. أتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فمسح الغاشية والدرجة السفلى، يعني من المنبر، فلم أكتب عنه إذ ذاك من فعل العامة. والدرجة السفلى والغاشية شيء أصلحه بنو أمية فلما رأيته لا يفرق بين منبر النبي ولا غيره ويفعل فعل العامة تركته. وقد روى مالك عن رجل عنه فلعله تركه لما رأى منه ولم يعرف حقيقة ما كان عليه من الفضل والعلم ولهذا ما أراد النظر إليه واختباره. فلما استبان له بعد ذلك حاله وعلمه وقد فاته أخذ علمه عن غيره. قال ابن عينية ما رأيت أحداً أجود أخذاً للعلم من مالك. وقال رحم الله مالكاً ما كان أشد انتقاده للرجل والعلماء. وقال ابن المديني لا أعلم أحداً يقوم مقام مالك في ذلك. وقال أحمد بن صالح: ما أعلم أحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فيه شيء. روى عن قوم ليس يترك منهم أحد. وروى عنه ابن وهب أنه قال دخلت على عائشة بنت طلحة فاستضعفتها فلم آخذ عنها إلا كان لأبي مركز يتوضأ هو وجميع أهله منه. وقال إن كنت لأرى الرجل من أهل المدينة وعنده الحديث أحب أن آخذ عنه فلا أراه موضعاً للأخذ فأتركه حتى يموت فيفوتني. وقال رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم. فكان إذا ذكر النبي عنده يبكي حتى أرحمه. فلما رأيت ذلك كتبت عنه. قال ابن وهب نظر مالك إلى العطاف بن خالد فقال بلغني أنكم تأخذون من هذا. فقلت بلى. فقال ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء. باب في ابتداء ظهوره في العلم وقعوده للفتوى والتعليم وحاجة الناس إليه قال الليث قدمنا فإذا عبد العزيز بن أبي سلمة ومالك قد اكتنفا ربيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وعلاه عبد العزيز، ثم قدمت مرة أخرى فإذا مالك علا عبد العزيز. قال محمد بن فليح: كنت عند ربيعة ومالك يجلس إليه ثم نبل مالك واحتيج إليه. فانتقل من مجلس ربيعة وطلب منه العلم فكنت فيمن انتقل إليه من مجلس ربيعة وكنا جماعة أمرني بذلك أبي. قال سفيان بن عينية: دارت مسألة في مجلس ربيعة، فتكلم فيها ربيعة فقال مالك: ما تقول فيها يا أبا عثمان؟ قال ربيعة: أقول فلا تقول، وأقول إذ لا تقول وأقول فلا تفقه ما أقول. ومالك ساكت فلم يجب بشيء وانصرفت فلما راح إلى الظهر جلس وحده وجلس إليه القوم، فلما صلى المغرب اجتمع إلى مالك خمسون أو أكثر. فلما كان من الغد اجتمع إليه خلق كثير. قال: جلس للناس وهو ابن سبع عشرة سنة وعرفت له الإمامة وبالناس حياة إذ ذاك. قال ابن المنذر: أفتى مالك في حياة نافع وزيد بن أسلم. قال ابن عبد الحكم: أفتى مالك مع يحيى بن سعيد. قال أيوب السختياني: قدمت المدينة في حياة نافع ولمالك حلقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال مصعب: كان لمالك حلقة في حياة نافع أكبر من حلقة نافع.. وفي رواية زمعة: مكان نافع. قال شعبة: قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة ويومين ولمالك حلقة وكان موت نافع سنة سبع عشرة. قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه: هذا كله صحيح، وقد تقدم أن مالكاً جلس للناس ابن سبع عشرة سنة، ومولده سنة ثلاث وتسعين على خلاف فيما قبلها، فيأتي موت نافع وسنه نيف وعشرون سنة، بعد أن جلس للناس بسنتين. قال ابن وهب: قال لنا مالك يوماً: دعاني الأمير في الحداثة أن أحضر المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة فأعلمته وقلت لم أحضر حتى جئت أستشيرك. فقال ربيعة: نعم. قال ابن وهب فقلت: لو لم يقل لك احضر لم تحضر. ثم قال: يا أبا محمد لا خير فيمن يرى نفسه في حالة لا يراه لها أهلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وفي رواية أخرى لما حضرت مع ربيعة عند السلطان رأيت الكراهية في وجهه. فقلت له لما خرجنا: إن كنت تكره لم أحضر إنما تعلمنا منك. فقال: فلا أكره أن يحضر معنا من أنت أفقه منه. قال مالك: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس. حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد. فإن رأوه لذلك أهلاً جلس. وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم إني لموضع لذلك. قال ابن وهب: جاء رجل يسأل مالكاً عن مسألة. فبادر ابن القاسم فأفتاه فأقفل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما افتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع. فلما سكن غضبه قيل له من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قال مالك وربيعة إذا سأل الرجل فلم يفهم عنه يقول له سل هذا. فأقول للسائل إنما ينهاك عن كذا. قال ابن بكير وغيره: أول ما بان من فقه مالك أن رجلاً أوصى عند وفاته قد زوج ابنتيه من ابني أخيه وقد أخذ مهورهما ومات الرجل فأحضر الوالي، وكان الحسن بن يزيد، الناس، وفيهم ابن أبي ذئب وابن عمران وابن أبي سبرة ومالك وهو حدث وذكر المسألة. فقال جميعهم ذلك جائز ومالك ساكت. فقال: ما ترى يا مالك؟ قال: ذلك لا يجوز. فغضب الجميع وقال ابن أبي ذئب: لا يشاء أن يرد علينا إلا رد. فقال الوالي: أصاب وأخطأتم. ثم قال: من أين قلت يا أبا عبد الله هذا؟ قال: أرأيتم إن هديتنا جميعاً إلى زوجيهما فتعلق كلا واحد منهما بهودج واحدة كل واحد يقول هي زوجتي دون الأخرى. لمن تقضون بها؟ فسكت القوم. قالوا: أصاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قال: فما ترى يا أبا عبد الله. قال: النكاح مفسوخ حتى تسمى كل امرأة لرجل معين. وقال ابن الماجشون: مما علم به مالك أن، سارقاً أخذ ومعه قمح وقد سرقه من تلاليس لهذا وهذا، حتى اجتمع قمح كثير فاعترف بذلك فأحضر الوالي من بالمدينة وفيهم ربيعة ويحيى بن سعيد ومعهم مالك على حداثة سنه لمعرفتهم بعلمه، فلما أخذوا مجالسهم سألهم الوالي عن المسألة. وأخرج القمح فإذا شبيه فكلهم رأى أن عليه القطع ومالك ساكت. فقال له: تكلم. قال: لا قطع عليه. فاستعظم ذلك من هناك. وسألوه من أين قاله؟ فقال لهم: هل يجب القطع إلا في ربع دينار فصاعداً فأما أن يسرق من هذا التليس ما يساوي درهماً ومن هذا ما يساوي درهماً هكذا فهذا لا قطع عليه. فانصرف الناس وقد بان فضل علمه. قال أبو الحسن المطالبي: سأل مالكاً صفوان بن سليم وهو أحد شيوخ مالك الجلة الفضلاء النقاد عن رؤيا رآها في النوم ومالك إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ذاك غلام صغير السن فقال له: ومثلك يسأل مثلي؟ فقال له: وما عليك يا ابن أخي، رأيت كأني انظر في مرآة. فقال له مالك: أنت تنظر في أمر آخرتك وما يقربك إلى ربك. فقال له صفوان: أنت اليوم مويلك ولئن بقيت لتكونن مالكاً اتق الله يا مالك إذا كنت مالك، وإلا فأنت هالك. قال مالك: وكان قبل يدعوني مويلك. فلما سألني قال يا أبا عبد الله وهو أول يوم كناني فيه. قال المطالبي: وفي قوله وما عليك إشارة إلى أنه كان عنده متسأهلاً لجواب ما سأل عنه، ولو لم يكن عنده كذلك لما سأله ولا استحل لنفسه ولا له الغوص في علم الغيب والتلاعب بالنبوءة. قال الحرث: أوصى ابن هرمز مالكاً وعبد العزيز بن أبي سلمة إذا دخلتما على السلطان فكونا آخر من يتكلم. فلزم مالك وصيته فبلغني أنه حضر عند الأمير مع ابن أبي ذئب ونظرائه فاستفتاهم في رجل أقر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 نفسه بالقتل عمداً فأفتى كلهم بالقتل إلا أن يعفو الأولياء، ومالك ساكت. فسأله فقال: انظر وهو مطرق. ثم سأله فقال: هو القتل حتى أنظر. فقالوا: ما تنظر رجل أقر أنه قتل عمداً أي شيء هذا؟ فقال: اين القاتل المقر؟ فإذا فتى حدث السن فقال: منذ كم حبس، قيل: منذ كذا. فإذا حبسه وإقراره قبل أن يحتلم، فسرح. وهذا والله أعلم أنه أنكر إقراره ورجع عنه. قال أحمد بن صالح: كان مالك في ثلاث طبقات، طبقة دونه وأخرى فوقه. ولم يكن في الثلاث طبقات من يجيد الطلب مثله فاق الثلاث طبقات. فالتي فوقه من ولد في الثمانين، ابن عجلان وابن أبي ذئب ونمطهم، والتي معه عبد العزيز ابن الماجشون وأبي الزناد وسليمان بن بلال وغيرهم. والذين دونهم ابن الدراوردي وابن أبي حازم أنس بن عياض. قال ابن القاسم: قال لي مالك: كنا نجلس إلى ربيعة أربعين معتماً سوى من لا يعتم ما ندري منهم إلا أربعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أما أحدهم فغلبت عليه الملوك يعني ابن الماجشون. وفي رواية شغل بالأغاليط أو نحو هذا. وأما الآخر فمات يعني كثير بن فرقد. وأما الثالث فغرب نفسه يعني عبد الرحمن بن عطاء. وسكت عن الرابع فعلمنا أنه يعني نفسه. وقيل لأبي حنيفة: كيف رأيت غلمان المدينة؟ قال: إن نجب منهم فالأشقر الأزرق. يعني مالكاً. وفي رواية رأيت بها علماً مبثوثاً فإن يجمعه أحد فالغلام الأبيض والأحمر. قال ابن غانم: فذكرت ذلك لمالك، فقال: صدق. لقيته فرأيت رجلاً له علم وفهم لو بني على أصل، يعني أثر أهل المدينة. قال ابن أبي أويس: قال مالك: أقبل علي ذات يوم ربيعة فقال لي: من السفلة يا مالك؟ قلت: الذي يأكل بدينه. قال لي: فمن سفلة السفلة؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه. فقال زه وصدرني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 باب شهادة السلف الصالح وأهل العلم له بالإمامة في العلم بالكتاب والسنة والتقدم في الفقه والصدق في الرواية وتفضيلهم له وثنائهم عليه قد قدمنا في باب ترجيح مالك الآثار الواردة فيه وتكلمنا عليه بالمنقول والمعقول، بما لا مزيد فوقه. وذكرنا من كلام السلف والأيمة بالشهادة له بالإمامة والتقدم على غيره بما لا نطيل بإعادته ونذكر هنا جملة صالحة من ذلك والله المعين. قال ابن هرمز يوماً لجاريته: من بالباب؟ فلم تر إلا مالكاً فذكرت ذلك له فقال: دعيه فنه عالم الناس. وقال ابن شهاب: أنت من أوعية العلم وإنك لنعم مستودع العلم. وقيل لأبي الأسود شيخ مالك بمصر سنة إحدى وثلاثين من للرأي بعد ربيعة بالمدينة؟ قال يحيى بن سعيد بالعراق. فقال الغلام الأصبحي. وقال سفيان بن عينية: ما نحن عند مالك. إنما كنا نتبع آثار مالك. وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أن المدينة أو ما رأى المدينة إلا ستخرب بعد مالك. قال: ومالك سيد أهل المدينة. وقال مالك سيد المسلمين. وقال: مالك إمام. وقال: مالك عالم أهل الحجاز. وقال: كان مالك سراجاً. ومالك حجة في زمانه. وقال وقد بلغه وفاة مالك: ما ترك مثله أو ما ترك على الأرض مثله. وقال لبعضهم: أتقرنني بمالك؟ ما أنا وهو إلا كما قال جرير: وابن اللبون إذا ما بز في قرن ... لم يستطيع صولة البزل القناعيس ثم قال: ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب. وقال: مالك إمام في الحديث. وقال: حدثني مالك الصدوق. وجاء نعي مالك إلى حماد بن زيد، فبكى حتى جعل يمسح عينيه بخرقة. وقال: يرحم الله مالكاً لقد كان من الدين بمكان. لقد رأيت رأيه يتذاكر في مجلس أيوب. وفي رواية ثم قال حماد: اللهم أحسن علينا الخلافة بعده. وقال الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك. وقال: إذا جاء الخبر، فمالك النجم. وقال: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته. ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك. وقال: مالك بن أنس معلمي. وفي رواية أستاذي. وما أحد أمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 علي من مالك. وعنه أخذنا العلم وإنما أنا غلام من غلمان مالك. وقال: جعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله. وقال محمد بن الحكم: كان الشافعي دهره إذا سئل عن الشيء يقول: هذا قول الأستاذ. يريد مالكاً. وذكر الأحكام والسنن. فقال: العلم يدور على ثلاثة: مالك والليث وابن عيينة. وقال: مالك وسفيان قرينان ومالك النجم الثاقب. وقال: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز. ويروى لما عرف العلم بالحجاز قال الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسين يوماً فقال لي صاحبنا أعلم، يعني أبا حنيفة، من صاحبكم، يعني مالكاً. فقلت له: الإنصاف تريد أم المكابرة؟ قال الإنصاف. قلت له: نشدتك بالله الذي لا إله إلا هو من أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه؟ قال: اللهم صاحبكم. قلت له: فمن أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم صاحبكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قلت له: فمن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم صاحبكم. قلت: فلم يبق إلا القياس. قال: صاحبنا أقيس. قلت: القياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس، ونحن ندعي لصاحبنا ما لا تدعونه لصاحبكم. وفي بعض الرواية عنه، فقلت له: وما صاحبنا لم يذهب عليه القياس ولكنه يتوقى ويتحرى يريد يتأسى بمن تقدمه. وقال بعضهم: سمعت بقية بن الوليد في جماعة ممن يطلب الحديث ومشيخة من أهل المدينة يقول: ما بقي على ظهرها، يعني الأرض، أعلم بسنة ماضية ولا باقية منك يا مالك. قال عبد الله والد مصعب الزبيري لمالك بن أنس سيد المسلمين. وذكره الليث فقال: مالك يرفع من قدره. وذكره الأوزاعي فقيل له: كيف رأيت مالكاً؟ قال: رأيت رجلاً عالماً. قال عبد الله بن عمر: نعم الخلف للناس مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقال عبد العزيز: مالك سيدنا وعالمنا. قال الليث: لقيت مالكاً بالمدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك. قال عزفت مع أبي حنيفة. إنه لفقيه يا مصري. ثم لقيت أبا حنيفة قلت: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك. فقال: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق وزهد تام. قال أبو يوسف: ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة. قال البهلول بن راشد: ما رأيت أنزع بآية من كتاب الله من مالك بن أنس. قال مطرف: كان مالك إذا سئل عن مسألة نزلت فكأنما نبي نطق على لسانه. قال محمد ابن عبد الحكم: إذا انفرد مالك بقول لم يقله من قبله فقوله حجة توجب الاختلاف لأنه إمام. فقيل له الشافعي. قال: لا. قال الحكم: دخلت المسجد فسألت جماعة ممن في المسجد: من أعلم من في المسجد وأفضل؟ فقالوا: هذا القائم يركع، يريدون مالكاً. وقال وهيب بن خالد وكان من أبصر الناس بالحديث: قدمت المدينة فلم أجد أحداً إلا ويعرف وينكر إلا مالكاً ويحيى بن سعيد. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وهيب لا يعدل بمالك أحداً. وعن الليث أنه قال علم مالك علم تقى. مالك أمان لمن أخذ عنه من الأنام. قال ابن المبارك: لو قيل لي اختر للأمة إماماً اخترت لها مالكاً. قال أبو إسحاق الفزاري: مالك حجة رضى كثير الإتباع للأثار. وقال. ابن مهدي: مالك أفقه من الحكم وحماد. وقال: أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة، سفيان بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة. وسئل من أعلم مالك أو أبو حنيفة؟ فقال: مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة. وقال: الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة. والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث. ومالك إمام فيهما. وقال مرة لأصحابه: أحدثكم عمن لم تر عيناي مثله. ثم قال حدثنا مالك، وقال مالك أحفظ أهل زمانه، ومالك لا يخطىء في الحديث، وقال لم يبق على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك. وقال ما اقدم مالك في صحة لحديث أحداً. وقال: لم أر أحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مثل مالك وحماد بن زيد كانا يحتسبان في الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: إلى مالك والثوري وابن عيينة تنتهي الإمامة في العلم والفقه والإتقان. وقال ابن حنبل: مالك أتبع من سفيان؟. وسئل عن الثوري ومالك إذا اختلفا في الرواية. وفي طريق أيهما أفقه؟ فقال: مالك أكبر في قلبي. قيل له فمالك والأوزاعي إذا اختلفا في الرواية. قال مالك أحب إلي وإن كان الأوزاعي من الأئمة. قيل فمالك والليث؟ قال مالك. قيل مالك والحكم وحماد. قيل مالك والنخعي؟ قال ضعه مع أهل زمانه. وقال: مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى؟ مع عقل وأدب. وقيل له الرجل يجب أن يحفظ حديث رجل بعينه حديث من ترى يحفظ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال حديث مالك، فإنه حجة بينك وبين الله. وقاله أيضاً لرجل سأله أي شيء أكتبه من الحديث؟ قيل له فيريد ينظر في الرأي رأي من ترى ينظر؟ قال رأي مالك. وقال: يرحم الله مالكاً كان من الإسلام بمكان. وقال: لا يترك عن مالك حديث ولا كلام إلا كتب. وقال: مالك حافظ متثبت من أثبت الناس في الحديث. وقال أبو قدامة: مالك أحفظ أهل زمانه. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصح حديثاً من مالك. يعني الأوزاعي والسفيانيين. ومالك أحب إلي من معمر. ومالك إمام الناس في الحديث. وقال أيضاً مالك أمير المؤمنين في الحديث. وقاله أيضاً علي بن المديني ويحيى بن سعيد. وقال يحيى أيضاً: كان مالك حافظاً. وقال: كان مالك إماماً يقتدى به. وقال يحيى بن معين: مالك نبيل الرأي، نبيل العلم، أخذ المتقدمون عن مالك ووثقوه، وكان صحيح الحديث وكان يقدمه أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الزهري. وقال ما رأيت أحداً أحفظ لحديث نفسه منه ومن سفيان. وقيل له الليث أرفع عندك أم مالك؟ قال: مالك. وهو أعلم أصحاب الزهري وأوثقهم، وأثبت الناس في كل شيء. وقال: مالك إمام ن أئمة المسلمين مجمع على فضله وثبته في لحديث. وقال: مالك نجم أهل الحديث لمتوقف على الضعفاء الناقل عن أولاد المهاجرين والأنصار. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مالك أحداً في صحة الحديث. ومالك أمير المؤمنين في الحديث. وقال لي إني أحدثك عمن لم تر عيناك. وفي رواية عيناي مثله. فحدثني عن مالك، وقال: لولا أن الله يبعث في الإسلام في كل زمان مثل مالك وشعبة والأوزاعي لكانوا قد أدخلوا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه. وقال: حسبك مالك وابن عينية حفظاً وإتقاناً إذا اتفقا. وقال بكر بن أحمد بن مقبل: مالك بن أنس الحجة القائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقال البخاري وأبو زرعة الرزاي ومحمد بن عبد الحكم وأبو عبد الله بن السيد وغير واحد: مالك بن أنس إمام. وقال أيوب بن سويد: مالك إمام دار لهجرة والسنة الثقة الصدوق. وقال: ما رأيت أحداً قط أجود حديثاً من مالك. وقال النسائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال ابن أبي حازم: قال لي عبد العزيز بن الماجشون اغتنم مالكاً، فلم يبق من أدرك الناس غيره وغيري. وقال سعيد بن داود: لم يذكر في عصر مالك أحد أرفع عند أهل المدينة من مالك. وقال غيره: ما رأيت أحسن على التكشف من مالك كلما كشفته ازددت فيه رغبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقيل لابن هرمز نسألك فلا تجيبنا ويسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما. فقال: دخل علي في بدني ضعف ولا آمن أن يكون قد دخل علي في عقلي مثل ذلك، وأنتم إذا سألتموني عن الشيء فأجبتكم قبلتموه ومالك وعبد العزيز ينظران فيه. فإن كان صواباً قبلاه، وإن كان غيره تركاه. وقال محمد ابن سعد: كان مالك ثقة مأموناً، ثبتاً، فقيهاً، ورعاً حجة، عالماً. وقال أبو علي بن أبي هلال: سئل النسائي عن معاوية فقال: الإسلام دار والصحابة بابها فمن تكلم في أحد منهم بسوء فإنما دخل الدار. وقال أبو علي ابن أبي هلال: وأنا أقول ومالك حلقة الباب لمن مر الحلقة فإنما أراد الدار. بقية شهادتهم له بالصدق والثبات في الأثر والقول في مراسيله وتوفيقه (ومن روى عنه) قال ابن مهدي: مالك أثبت في نافع من عبد الله وموسى بن عقبة ون إسماعيل بن أمية ومن سائر الناس. وقال مثله يحيى بن سعيد ويحيى بن معين. قال سليمان بن حرب إن مالكاً لأهل لذلك. قال ابن مهدي: ومالك عن ابن المسيب أحب إلي من قتادة عن ابن المسيب إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يقول قتادة سمعت. قال ابن وهب ما أحداً آمن ولا أوثق من مالك. وقال يحيى بن سعيد القطان، وذكرت من مرسلات السفيانيين والشعبي والأعمش وغيرهم. فقال: في بعضها شبه الريح وشبه لا شيء. قيل له فمرسلات مالك؟ قال هي أحب إلي. ليس في القوم اصح حديثاً منه. وقدمه في أصحاب الزهري. قال: ومالك عن سعيد أحب إلي من سفيان عن إبراهيم. وقال أحمد بن حنبل مالك أحسن حديثاً عن الزهري من ابن عيينة. ومالك أثبت الناس عن الزهري. قال أحمد بن صالح ثلث حديث مالك مسند. وليس هذه المنزلة لأحد من نظرائه. وحديث مالك ألفا حديث وشبيه بمائتي حديث. يعني التي رويت عنه، وحدث بها، وقال أبو القاسم الإلكاني عن علي ابن المديني عند مالك نحو ألف حديث. قال أحمد بن صالح وذكر الليث وسفيان فجعل يعظمهما. وقال: كل واحد منهما إمام قيل له فإذا اختلف سفيان ومالك في الزهري أيهما أحب إليك؟ قال: مالك. قال سفيان بن عيينة أخذ مالك ومعمر عن الزهري عرضاً، وأخذت سماعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قال ابن معين: لو أخذ كتاباً كان اثبت منه. قال البخاري: مالك اثبت الناس في الزهري. وقال يحيى بن عبد الله لأبي زرعة: ليس هذا زعزعة عن زوبعة ترفع الستر وتنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين يديه. مالك عن نافع عن ابن عمر. وقال وكيع حدثني الثقة مالك بن أنس وروى مثله عن القاسم بن علي وعن أحمد بن علي. وقال الحسن بن علي: كنا عند وهيب بن خالد فحدث بحديث عن مالك وابن جريج. فقلت لرجل أكتب ابن جريج ودع مالكاً، لأنه كان حياح. فسمعها وهيب، فقال: تقول دع مالكاً! ما نعلم بين شرقها وغربها أحداً آمن عندنا من مالك على حديث قال ابن المديني: مالك عن رجل عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن رجل عن إبراهيم. فإن مالكاً لم يكن يحدث إلا عن ثقة. وقال ابن داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. مالك عن نافع عن ابن عمر ثم مالك عن الزري عن سالم عن أبيه. ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. لم يذكر شيئاً عن غير مالك وقال: مراسيل مالك أصح من مراسيل سعيد بن المسيب ومن مراسيل الحسن ومالك اصح الناس مرسلاً وقال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد. وقال يحيى بن سعيد: مرسلات مالك صحاح. وقال يحيى كان أصحابنا يقولون مرسلات مالك إسناده. قال ابن وهب مالك والليث إسناد وإن لم يسند أو قال إبراهيم الحربي مالك لا يرسل إلا عن ثقة وسئل أحمد بن حنبل عن حديث جعفر بن محمد فقال ما أقول فيه وفيه وقد روى عنه مالك. وسئل ابن معين عن طلحة الايلي وجماعة فقال حدث عنهم مالك. قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن عمر بن أبي عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومولى المطلب فقال يؤيد أمره مالك بن أنس قد روى عنه. وقد ذكره البخاري في الصحيح وقال قد روى عنه مالك. باب في إجماع الناس عليه واقتداء الأكابر به وحاجتهم إليه. قال مالك رحمه الله تعالى، فيما روى عنه ابن وهب وابن القاسم: ما أحد ممن نقلت عنه العلم إلا اضطر إلي حتى سألني عن دينه. قال ابن أبي حازم: رأيت زيد بن اسلم واقفاً يستفتيه. وقال مالك: قال لي يحيى ابن سعيد حين خرج إلى العراق التقط لي مائة حديث من أحاديث ابن شهاب أرويها عنك. فكتبتها ثم دفعتها إليه. قال لي أروها عنك؟ قلت: نعم. قيل له فسمعها منك؟ قال كان أفقه من ذلك. قال يحيى بن سعيد: التقى مالك والثوري، فكان الثوري يسأل مالكاً. فقال معن: رأيت الثوري يزاحمنا على باب مالك. قال مطروح بن شاكر: جلس ابن شهاب وربيعة ومالك، فألقى ابن شهاب مسألة فأجاب فيها ربيعة، وصمت مالك. فقال له ابن شهاب: لم لا تجيب قال قد أجاب الأستاذ أو نحوه. فقال ابن شهاب نفترق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حتى تجيب. فأجاب بخلاف جواب ربيعة. فقال ابن شهاب ارجعوا بنا إلى قول مالك. قال الدراوردي بينما أنا جالس مع يحيى ابن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة إذ سمعت أحدهما يقول للآخر، كم ذا يكون هذا الرجل بين أظهرنا أفلا تأتيه نسمع منه أو نأخذ عنه؟ فقلت في نفسي إن هذا رجلاً ذهب هذان في الأخذ عنه لأهل أن لا أجهله فقاما وقمت معهما، فأتيا باب مالك واستأذنا عليه فلم نلبث أن سمعنا وقع الوسائد وأذن لهما فدخلا معهما. فقالا يا أبا عبد الله حدثنا عن ابن شهاب وكان سفيان الثوري إذا سئل عن شاذ الحديث، قال دعوه، فإن الحجازي نهاني عنه، يعني مالكاً. قال ابن معين سمع يحيى بن سعيد القطان من مالك في شباب مالك. قال شعبة دخلت لمدينة سنة سبع عشرة بعد موت نافع بسنة وفي بعضها سنة ثمان عشرة وهو أصح. فرأيت مالكاً له حلقة فإذا اختلف الناس في شيء نظروا إليه ما يقول. قال القاضي محمد بن أحمد البصري: وفي هذه لسنة سمع شعبة من مالك وسن مالك إذ ذاك نيف وعشرون سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قال ابن أويس كان الناس كلهم يصدرون عن رأي مالك ابن أنس، وكان للأمير عنده رجل يسأله. وهكذا القاضي والمحتسب. قال سعيد بن منصور: رأيت مالكاً يطوف وخلفه سفيان الثوري يتعلم منه كما يتعلم الصبي من معلمه، كلما فعل مالك شيئاً، فعله سفيان يقتدي به، وقال ابن عيينة: ما نحن ومالك؟ إنما كنا نتبع آثار مالك. فإن أخذ عن الشيخ أخذنا عنه. قال بعضهم كنت عند ابن عيينة فسأله رجل عن الضحية بالليل فقال سفيان لا بأس بها. فقلت له ابن وهب روى عن مالك أنه لا يضحي بالليل، وقرأ (في أيام معلومات) . فصاح ابن عيينة بالرجل وقال له إن هذا أخبرني عن ابن وهب عن مالك أنه لا يضحي بالليل. وقد ذكر أن ابن وهب هو الذي حكى لابن عيينة قول مالك هذا. وقال ابن عيينة: حج مالك فضاق الطواف بالناس يأتمون به. قال يحيى: قال الشافعي أفطرت بالمدينة عند مالك فخرج إلى العيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وصلى وانصرف ونظر إلى الناس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على باب المسجد. فقال ما لهم؟ قال: انصرفوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى الحظيرة التي يطعم فيها المساكين في رمضان، وترك أ، يدخل المسجد فرأيت الناس قد خرجوا من المسجد يتبعون أين مالك؟ وقال عتيق: ما أجمع أهل المدينة على أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا على أبي بكر وعمر، ومات مالك ولم نعلم أن أحداً من أهل المدينة قبل موته إلا وقد أجمع عليه. وقال حميد بن الأسود ما تقلد أحد من أهل المدينة بعد زيد بن ثابت كما تقلدوا قول مالك. قال ابن أبي أويس: حضرت الاستسقاء بالمصلى فلما حول الإمام رداءه قام مالك يحول ساجا عليه. فقام الناس فحولوا أرديتهم. فلما انصرف مالك قيل له أمن سنة الاستسقاء إذا حول الإمام، أن يقوم الناس يحولوا أرديتهم؟ قال ليس عليهم قيام ويحولون قعوداً، وإنما قمت لأن ساجي كان تحتي فلم أقدر على تحويله حتى قمت. قال مروان بن عمر ما ترك مالك الرواية عن أحد إلا ضعف. قال ابن كنانة: قال العمري لمالك بايعني أهل الحرمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وأنت ترى ظلم أبي جعفر. فقال له مالك تدري ما الذي منه عمر بن عبد العزيز أن يولى رجلاً صالحاً بعده؟ قال لا، قال كانت البيعة ليزيد فخاف عمر بن عبد العزيز إن بايع لغيره أن يقيم يزيد الهيج، ويقاتل الناس فيفسد ما لا يصلح. فاحتمل العمري عن رأي مالك. وقال سفيان كان مالك سراجاً. حج الثوري فطفت معه فلم يكن معه كثير أحد، وقدم مالك فطاف فضاق الطواف بالناس، يعني لكثرتهم. ولما روى مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهادي رحل إلى يزيد قريب من ألف راحلة. فلما أصبح يزيد ونظر إلى كثرة ما غشي بابه قال: ما هذا؟ قيل له إن مالكاً روى عنك. قال داود بن مهران لما أتيت المدينة حضرت جنازة فلم يبق أحد من بني هاشم (وقريش والناس) إلا حضرها. فلا خرجت الجنازة قام مالك وقام الناس لقيامه فمضى ماشياً بين يديها فما رأيت أحداً خلف الجنازة ومالك أمامهم. وقال الليث إني لأدعو لمالك في صلاتي، وذكر من حاجة الناس في الفتيا. قال الشافعي رأيت المغيرة وابن أبي حازم والدراوردي يذهبون مذهب مالك. قال ابن وهب سألت عبد العزيز بن الماجشون عن مسألة فقال ما يحضرني فيها جواب، ولكن سل مالكاً وأخبرني بما يقول. فسألته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأخبرته: فقال: مالك سيدنا وعالمنا. وذكر عبد العزيز بن الماجشون مسألة، اختلف فيها قول أبيه وقول مالك فقال: وبقول مالك أقول، وأميل مع مالك حيثما مال، فإنه كان موفقاً. قال خالد بن نزار زار مسلم بن خالد الدارنجي مالكاً، فقال له مالك: يا مسلم، ما هذه الأشياء التي تبلغني عنكم، تخالفون فيها أهل المدينة؟ قال يا أبا عبد الله أصلحك الله إني قد جمعت أشياء أريد أن أسألك عنها. قال مالك هات. أما أني أحب أن يرشدكم الله ولكني أكره أن خالفوا أهل المدينة إلى غيرهم. قال محمد بن الحسن أقمت على باب مالك سنتين أو ثلاثاً أسمع منه، وكان يقول إنه سمع منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث. وقال يحيى بن يحيى التميمي أقمت عند مالك بن أنس بعد كمال سماعي منه سنة أتعلم هيئته وشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين ونحو هذا. وقال محمد بن عبد الحكم: كان الشافعي إذا سئل عن شيء يقول هذا قول الأستاذ يعني مالكاً وقال فيه مالك أستاذي ومالك معلمي وعنه أخذنا العلم. وما أحد أمن علي من مالك وإنما أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 غلام من غلمان مالك، وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله. وقال ابن وهب: لولا أن الله استنقذنا بمالك والليث لضللنا. وسئل مالك عن عبد الله بن عبد الرحمان الأنصاري الذي يحدث عنه ابن سمعان فقال: ما أعرفه. فقال الناس: رجل من أهل المدينة من الأنصار ويروى عنه لا يعرفه مالك؟ فاتهمه الناس. فقال علي ابن المديني: إذا حدث مالك عن رجل من أهل المدينة ولا تعرفه فهو حجة، لأنه كان ينتقي. وقال علي: مالك أستاذي في أهل المدينة. ويحيى في العراق. وحكى بعض من ألف في مناقبه أن ابن هرمز مر بدار بعض ذوي الأقدار وهو واقف مع مولاة له: فقال ابن هرمز: يا هذا إنك على الطريق وليس يحل لك هذا. فقال هذي داري ومولاتي وحشمي. فما ينكر على مثلي. وقال لعبيده طؤوا بطنه فوطئوه حتى حمل إلى منزله. فعاده الناس وفيهم مالك. فجعل يشكو والناس يدعون له، ومالك ساكت ثم تكلم، فقال: إن هذا لم يكن لك. تأتي الرجل من أهل القدر على باب داره معه حشمه ومواليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فقال ابن هرمز: فترى أني أخطأت؟ قال: أي والله. وذكر باقي الحكاية. ولما قدم حماد بن زيد المدينة لم يأته أحد من أصحاب مالك فراح حماد فشكى ذلك إليه. فقال: أنا أمرتهم بذلك. فقال ولم؟ يا أبا عبد الله؟ قال لأنكم يا أهل العراق تكتبون بالمدينة عمن لا شهادة له عندنا. فيتوهم عليكم أنكم تفعلون هكذا في بلادكم. فرجع حماد فأسقط عامة علمه. قال سحنون: جاء وافد أهل مصر سؤلاتهم لربيعة، فوجدوه قد مات. قال: فلم أرد أن أرجع بغير جواب، فرأيت في المسجد حلقة يخوضون في العلم فجلست إليهم وخبرتهم أمري وقلت لهم إن كان لكم أجيبوني أو فأرشدوني. فأشار إلي جميعهم إلى مالك بن أنس، وهو يومئذ شاب جالس إلى عمود وحده ولم أدع حلقة إلا جلست إليها، وسألتهم فكلهم يدني عليه فأتيته فأخبرته بخبري وبما دلني القوم عليه، وذكر أنه سأله فكلما قرأ عليه مسألة بكى. ثم أجابه. قال سحنون: بكى حين عرفها وعرف أنه احتيج فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قال المغامي عن عبد الملك: سمعت مطرفاً وابن الماجشون يقولان عن مالك في أمهات الأولاد أنهن إذا استحقن يؤخذن قيمة أولادهن حتى استحقت أم ولده محمد وتخاصم فيها وكيل المستحق مع وكيل مالك عند المطلب والي المدينة فقال المطلب: ما أرى أحداً استشيره في أمره غيره. فقال وكيل الطالب: تستشيره في أمر نزل به؟ فقال المطلب ليس مثله يتهم، ولو كان صاحبه حاضراً يعني ابن أبي سلمة استشرناه، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال: قد كان رأيي في ذلك ما قد علمت وجرى في الناس حتى رأيت أمراً شديداً يعمد إلى أم ولدي، فتستخرج من تحتي وإنما اشتريت من سوق المسلمين، فيحمل علي رزقها أما أفديها بجميع مالي وما ظلم من دفع إليه القيمة. فحكم بذلك فما سر أهل المدينة سرورهم بهذه الفتيا. وفي الثمانية (هكذا) والواضحة مثله وأنه قول مالك المقدم. وقول ابن كنانة وابن الماجشون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قال أبو محمد الضراب وغيره وروى عن مالك جماعة من الشيوخ الذين روى عنهم. منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الأسود بن نوفل وزياد بن سعد وابن شهاب وهشام بن عروة إلى آخر من سواهم. وأما من روى عنه من أقرانه ممن مات قبله أو بعده فكثير: كان جريج وابن عجلان والدراوردي وعبد الله بن جعفر المديني والليث ونافع القارىء عبد العزيز بن الماجشون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 والسفياني والحماد المزني، وأبو حنيفة، وصاحبه ووكيع وشعبة والأوزاعي وسواهم، ممن سنذكرهم بعد هذا. قال غيره ففي رواية هؤلاء المشيخة وأمثالهم عن مالك دليل على عظم شأنه. قال جعفر الفريابي: لا أعلم أحداً روى عنه الأئمة والجلة ممن مات قبله بدهر طويل إلا مالك. فإن يحيى بن سعيد مات قبله بخمس وثلاثين سنة وابن جريج بثلاثين والاوزاعي بعشرين والثوري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بثمان عشرة وشعبة بتسع عشرة. قال الإمام أبو الفضل رضي الله عنه وأبو حنيفة بثلاثين سنة وهمام بأكثر من ذلك. وأغرب من هذا الزهري توفى قبل مالك بخمس وخمسين سنة. قال أبو الحسن الدارقطني: لا نعلم أحداً تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك. وذلك أنه روى عنه رجلان حديثاً واحداً بين وفاتيهما نحو من مائة وثلاثين سنة محمد بن شهاب الزهري وشيخه توفى سنة خمس وعشرين ومائة وأبو حذافة السهمي، توفى بعد الخمسين ومائتين رويا عنه جميعاً حديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة. تحريه في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه قال عبد الرحمان العمري: قال لي مالك ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقلت يا أبا عبد الله ما كلامك عند الناس إلا كنقش في حجر، ما تقول شيئاً إلا تلقوه منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال فمن أحق أن يكون كذا إلا من كان هكذا. فرأيت في النوم قائلاً يقول مالك معصوم قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن. قال ابن مهدي: سمعت مالكاً يول: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلي. قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها. فينصرف ويتردد فيها. فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم. قال وزاده كان مالك إذا جلس نكس رأسه ويحرك شفتيه بذكر الله ولم يلتفت يميناً ولا شمالاً، وزاده، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه وكان أحمر بصفرة فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه. ثم يقول ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، فربما يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة. وقال بعضهم لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب. وقال: ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام، كأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة خيار الصحابة كانت تتردد عليهم المسائل وهم خير القرون الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون حينئذ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم. قال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى ولا من سلفنا الذين يقتدى بهم ويعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول أنا أكره كذا وأحب كذا. وأما حلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وحرام فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق ... الآية. لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرماه. قال موسى بن داوود: ما رأيت أحداً من العلماء أكثر أن يقول: ما أحسن من مالك. وربما سمعته يقول ليس هذا ببلدنا. قال مروان بن محمد: كنت أرى مالكاً يقول لرجل يسأله اذهب حتى أنظر في أمرك فقلت إن الفقه من بابه وما رفعه الله إلا بالتقوى. قال سحنون قال مالك يوماً: اليوم لي عشرون سنة أتفكر في هذه المسألة. قال ابن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة وذكر أنه أرسل فيها من مسير ستة أشهر من المغرب. فقال له أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها. قال ومن يعلمها؟ قال من علمه الله. وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة في لدنا ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم بها ولكن تعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فلما كان من الغد جاءه وقد حمل ثقله على بغلة يقودها فقال مسألتي فقال ما أدري ما هي. فقال الرجل يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك. فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن. وسأله آخر فقال يا أبا عبد الله أجبني فقال ويحك، أتريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله؟ فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك. قال ابن أبي حازم قال مالك إذا سألك إنسان عن مسألة فابدأ بنفسك فأحزرها. قال الهيثم ابن جبيل: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة. فقال في اثنين وثلاثين لا أدري. وقال خالد بن خراش قدمت من العراق على مالك بأربعين مسألة فما أجابني منها إلا في خمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقد قال ابن عجلان: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقالته وقد روى هذا الكلام عن أبي عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يروي قال لا أدري. قال ابن وهب: كان مالك يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدي. قال عمر بن يزيد: فقلت لمالك في ذلك، فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم وأهل العراق إلى عراقهم وأهل مصر إلى مصرهم ثم لعلي أرجع عما أفتيتهم به. قال فأخبرت بذلك الليث فبكى، وقال: مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا. وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 والسنة فاتركوه. قال ابن أبي أويس: سئل مالك مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة. وربما يسأل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي لا أدري. قال أبو مصعب: قال لنا المغيرة: تعالوا نجتمع ونستذكر كلما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه مالكاً. فمكثنا نجمع ذلك وكتبناه في قنوان ووجه به المغيرة إليه وسأله الجواب. فأجابني بعضه وكتب في الكثير منه لا أدي. فكان المغيرة يقول: لا والله ما رفع هذا الرجل إلا بالتقوى. من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري. قال ابن وهب: سألت مالكاً في ثلاثين ألف مسألة نوازل في عمره، فقال في ثلثها أو شطرها أو ما شاء الله منها لا أحسن، ولا أدري. وقال: لو ملأ رجل صحيفة من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة. قال مصعب: وجهني أبي بمسألة ومعي صاحبها إلى مالك يقصها عليه، فقال ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أحسن فيها جواباً، سلوا أهل العلم. قال ابن أبي حسان: سئل مالك عن اثنين وعشرين مسألة فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان الرجل يسأله عن المسألة فيقول: العلم أوسع من هذا. وقال بعضهم إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري. قال: ويحك ما عرفتني؟ وما أنا؟ وأي شيء منزلتي حتى أدي ما لا تدرون. ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر، يقول لا أدري فمن أنا، وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة. وهذا يضمحل عن قليل. وقال مرة أخرى: قد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء. فلم يجب فيها. وقال ابن الزبير لا أدري، وابن عمر لا أدري وقال مصعب: سئل مالك عن مسألة فقال لا أدري. فقال له السائل إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن اعلم بها الأمير. وكان السائل ذا قدر فغضب مالك وقال مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أما سمعت قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليل قولاً ثقيلاً) فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. قال بعضهم: ما سمعت قط أكثر قولاً من مالك لا حول ولا قوة إلا بالله. ولو شاء أن تصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري: إن تظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين لفعلنا. وقال له ابن القاسم: ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال: منك. قال مالك: ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها؟ قال مفضل بن فضالة: ما نعد مالكاً إلا مثل نقاد بيت المال. وقال ابن حاتم قلت ابن معين: مالك قل حديثه. فقال بكثرة تمييزه. وسئل مالك عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد. فقال أما ما كان من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يقوله إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فإذا كان المعنى واحداً فلا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قيل فحديث النبي صلى الله عليه وسلم مزاد فيه الواو والألف والمعنى واحد. قال أرجو أن يكون خفيفاً. وروى عنه ابن عقير نحوه. قال القطان: لما مات مالك رحمه الله أخرجت كتبه أصيب فيها فنداق عن ابن عمر ليس في الموطأ منه شيء إلا حديثين. قال ابن وهب: قال مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط، ولا أحدث بها. فقال الفروي: فقلت له: لم؟ قال ليس عليها العمل. قال عتيق بن يعقوب: قال لي مالك: أخذت من ابن شهاب تسعة فناديق في بطونها وظهورها أن، منها أشياءاً ما حدثت بها منذ أخذتها بالمدينة. قال رجل لمالك أن الثوري حدثنا عنك في كذا. فقال إني لأحدثك في كذا وكذا حديثاً ما أظهرتها بالمدينة. قال ابن مالك: لما دفنا مالكاً دخلنا منزله فأخرجنا كتبه فإذا فيها سبع صناديق من حديث ابن شهاب ظهورها وبطونها ملأى وعنده فناديق أو صناديق من كتب أهل المدينة. فجعل الناس يقرأون ويدعون ويقولون: رحمك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يا أبا عبد الله لقد جالسناك الدهر الطويل فما رأيناك ذاكرت بشيء مما قرأناه. وفي رواية عن ابنه: وإنا ما وجدنا له إلا كتاباً واحداً فيه لابن شهاب أحاديث قد خط على بعضها. وعن ابن إسحاق بن بابين: وجدنا في تركة مالك صندوقين مقفولين فيهما كتب فجعل أبي يقرأها ويبكي ويقول: رحمك الله إنك كنت تريد بعملك الله. لقد جالسته الدهر الطويل وما سمعته يحدث بشيء مما قرأت وذكر عتيق بن يعقوب أنه دخل منزل مالك بعد موته مع أبيه ففتح صناديق مملوءة كتباً فقرأها فذكر نحوه. قال: ثم فتح صندوقاً آخر فأخرج منه اثني عشر ألف حديث للزهري وفتح آخر فأخرج منه سبع صناديق ظهورها وبطونها من حديث أهل المدينة فما رأيت فيها شيئاً مما ذاكر به أصحابه في حياته. قال أحمد بن صالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 نظرت في أصول مالك فوجدتها شبيهاً باثني عشر ألف حديث. قال بعضهم وهو حديث أهل المدينة في ذلك الوقت فلم يحدث مالك إلا بثلثها. وأخرج إلي ابن أويس سماع مالك من الزهري فإذا نحو ثلاثمائة وخمسين حديثاً. وأخرج إلي كتاب مالك في قراطيس غير كتاب ابن شهاب فقدرنا ذلك بنحو من عشرة آلاف حديث. قال الشافعي: قيل لمالك: عند ابن عيينة أحاديث ليس عندك. فقال: إذا أحدث الناس بكل ما سمعت إني إذاً أحمق. وفي رواية إني أريد أن أضلهم إذاً. ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطاً، ولم أحدث بها. وإن كنت أفزع الناس من السياط. وفي رواية أخرى قال وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت بها سوطاً. قال الداودي: قلت له حدثني بحديث الملطا. قال لا. قلت سفيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يرويه عنك. قال صدق ولو كنت حدثت أحداً لحدثتك. إن العمل ببلدنا ليس عليه وليس صاحبه بذلك وكان إذا قيل له هذا الحديث ليس عند غيرك تركه وإن قيل له هو مما يحتج به أهل البدع تركه. وقيل له إن فلاناً يحدثنا بغرائب. فقال: من الغريب نفر. قال أبو مصعب: قيل لمالك لم لا تحدث عن أهل العراق. قال لأنني رأيتهم إذا جاءونا يأخذون الحديث عن غير ثقة. فقلت أنهم كذلك في بلادهم. وقال عندي أحاديث لو ضرب رأسي بالسوط ما أخرجتها أبداً. وقال ابن عيينة: كان مالك لا يبلغ الحديث إلا صحيحاً. ولا يحدث إلا من ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فقلت أنهم كذلك في بلادهم. وقال عندي أحاديث لو ضرب رأسي بالسوط ما أخرجتها أبداً. وقال ابن عيينة: كان مالك لا يبلغ الحديث إلا صحيحاً. ولا يحدث إلا عن ثقة. قال الشافعي كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله. قال معن سمعت مالكاً يقول إنما إنا بشر أخطىء وأرجع وكلما أقول يكتب. قال أشهب ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال لا تكتبها، فإني لا أدري أثبت عليها أم لا. قال ابن وهب وسمعته يقول فيما يسأل عنه من أمر القضاء هذا متاع السلطان. وسمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حتى يسأل يعني الرجل الذي يجلس لهذا. وإنما يصنعه معلم الكتاب. وكان الرجل يجلس فإن سئل العالم عن شيء سمعه. وسمعته عندما يكثر عليه بالسؤال يكف ويقول حسبكم، من أكثر أخطأ. وكان يعيب كثرة ذلك وقال يتكلم كأنه جمل مقتلم ويقول هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وسأله رجل عراقي عن رجل وطىء دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله؟ فقال مالك سل عما يكون ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا، فلم يجبه. فقال له لم لا تجبني؟ يا أبا عبد الله. فقال له لو سألت عما تنتفع به أجبتك. قال ابن المعدل قيل لمالك إن قريشاً تقول إنك لا تذكر في مجلسك أباءها وفضائلها. فقال مالك إنما نتكلم فيما نرجو بركته. قال ابن القاسم كان مالك لا يكاد يجيب وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب بها. وقال مالك لابن وهب اتق هذه الآثار، وهذا السماع الذي لا يستقيم أن يحدث به. فقال له إنما أسمعه لأعرفه لأحدث به. فقال ما سمع إنسان شيئاً إلا تحدث به، وعلى ذكر القدر وسمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها، وأرجو ألا أفعل ما عشت. وروى البياضي عنه أنه قال: لقد ندمت ألا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وقال له القاسم بن مسرور أرأيت يا أبا عبد الله أحاديث تحدثت بها ليس عليها رأيك، لأي شيء أقررتها. فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما فعلت ولكنها انتشرت عند الناس، فإن سألني عنها أحد ولم أحدث بها وهي عند غيره اتخذني غرضاً. قال بشر بن عمر سألت مالكاً مرة عن رجل فقال لو كان ثقة لرأيته في كتبي. وسأله رجل عن مسألة من أهل المدينة، الجواب فيها. فرده ثم عاد فرده ثلاثاً فكأنه تهاون بعلم مالك فأتاه أت في نومه يقول له: أنت المتهاون بعلم مالك؟ ائته فأسأله فلو كانت مسألتك أدق من الشعر وأصلب من الصخر لوفق فيها باستعانته بما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال أشهب رأيت في النوم قائلاً يقول لزم مالك كلمة عند فتواه لو ورد عليه الجبال لقلعتها. وذلك قوله ما شاء الله لا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قال القعنبي دخلت على مالك فوجدته باكياً فسألته عن ذلك فقال ومن أحمق بالبكاء مني لا أتكلم بكلمة إلا تبت بالأقلام وحملت إلى الآفاق وما تكلمت برأي إلا في ثلاث مسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا وعلى آله وصحبه وسلم باب صفة مجلس مالك للعلم ونشره له وصيانته إياه وتوقيره لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رحمة الله عليه قال الواقدي: كان مالك يجلس على ضجاع ونمارق مطروحة في منزله يمنة ويسرة لمن يأتي من قريش والأنصار والناس. وكان مجلسه مجلس وقار وعلم، وكان رجلاً مصيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت إذا سئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين رأيت هذا. وكان الغرباء يسألونه عن الحديث والحديثين فيجيبهم الفينة بعد الفينة. وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه. وكان له كاتب قد نسخ له كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة فليس أحد ممن حضر يدنو منه ولا ينظر في كتابه ولا يستفهمه هيبة له وإجلالاً. وكان حبيب إذا أخطأ فتح عليه مالك رحمه الله تعالى، وكان ذلك قليلاً، ولم يكن يقرأ كتبه على أحد، وكان كالسلطان له حاجب يأذن عليه فإذا اجتمع الناس ببابه أمر آذنه يخص أولاً أصحابه فإذا فرغ من يخص أذن للعامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وهذا هو المشهور من سماع أصحابه أنهم يقرأون عليه، وسيأتي من أخباره ما يعضد هذا كثير. إلا أن يحيى بن بكر ذكر أنه سمع الموطأ من مالك أربعة عشر مرة. وزعم أن، أكثرها بقراءة مالك وبعضها بالقراءة عليه، وعوتب مالك في تقديمه الإذن لأصحابه. فقال أصحابي وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال إسماعيل بن حماد أتيت مالكاً فرأيته جالساً في صدر بيته وأصحابه بجنبتي البيت. وقال أبو مصعب وابن الضحاك ومطرف والمهدي وعبد الملك وابن سلمة وغير واحد من أصحابه كان جلساء مالك كأنما على رؤوسهم الطير تسمتاً وأدباً، وقال حبيب كان مالك إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم. قال مطرف وكان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأتاهم وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا ودخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً ولبس ساجه وتعمم ووضع على رأسه طويلة وتلقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 له المنصة فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع ويوضع عود. فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يحيى كنا نجتمع على بابه فإذا توافينا صرخ الآذن ليدخل أهل المدينة ثم ليؤذن لغيرهم فيدخل ويسم عليه ويسكت ونسكت ساعة فإذا رأى ازدحامنا قال توقروا فإنه عون لكم وليعرف صغيركم حق كبيركم، ومن رواية أخرى، كان إذنه لنا رفع سطر في أسطوانة فندخل عليه وهو قاعد. قد ميل رأسه حتى إذا أخذ الناس مجالسهم رفع رأسه فقال السلام عليكم. إنما كان يفعل ذلك لئلا يقرب بعض الناس على بعض من العلوية أو العثمانية أو غيرهم فينتقد عليه ذلك كان يدعهم حتى يأخذون مجالسهم وكان بعضهم يعرف حق بعض فإذا قدم الحاج جعل جواباً على بابه فيأذن أولاً لأهل المدينة فإذا دخلوا قال للبواب تنح. قال ابن قعنب ما رأيت قط أشد وقاراً من مجلس مالك، لكأن الطير على رؤوسهم. قال ابن أبي أويس: كان مالك إذا جلس للحديث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة. ثم حدث فقيل له في ذلك، فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكناً وكان يكره أن، يحدث في طريق قائماً ومستعجلاً وقال أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قال ابن المنذر وكان مالك لا يوسع لأحد في حلقته ولا يرفعه يدع أحدهم حيث انتهى به مطرف وإسماعيل (كذا) قال ابن أبي أويس كان إذا جلس للحديث قال ليليني منكم ذوو الأحلام والنهى. قال إسماعيل فربما قعد القعنبي عن يمينه. قال ولم يكن يجلس على المنصور إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو مصعب كان مالك لا يحدث إلا على وضوء إجلالاً منه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مصعب بن عبد الله كان مالك إذا سئل الحديث توضأ وتهيأ ولبس ثيابه فقيل له في ذلك فقال: إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن المبارك: وكنت عند مالك وهو يحدثنا فلدغته عقرب ستة عشر مرة ومالك يتغير لونه ويصبر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجباً قال إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يحيى ابن يحيى الأندلسي كنت جالساً عند مالك فوقعت على رأسه وزغتان فمرتا على قلنسوته ثم دنتا إلى عنقه حتى دخلتا تحت طوقه حتى خرجتا من تحت ثيابه وما نفضهما وما حل صفوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قال مصعب الزبيري كان حبيب يقرأ على مالك وأنا على يمينه وأخي عن شماله وهو أقرب إلى مالك. وكان أسن مني وكان حبيب يقرأ لنا عشية من ورقتين إلى ورقتين ونصف ولا يبلغ ثلاثاً والناس ناحية لا يدنون ولا ينظرون فإذا خرجنا جاءنا الناس فعارضوا كتبهم بكتبنا. قال وجئنا يوماً إلى أبينا بالعرصة لنقيم عنده ونسير بالعشي إلى مالك فأصابتنا سماء يماً فلم نأته تلك العشية ولم ينتظرنا وعرض عليه الناس فأتيناه بالغد فقلنا له يا أبا عبد الله أصابتنا أمس سماء ثقلتنا عن حضور العرض، فاردد علينا قال لا. من طلب هذا الأمر صبر عليه. قال جعفر ابن إبراهيم كلم صديق لأبي، مالكاً أن أسمع منه فأذن فكنت اختلف إليه وأنا مدل بنسبي من الرسول عليه الصلاة والسلام وموضعي، فأنخطأ الناس إلى وساد مالك فلا يتزحزح ويريني أنه لم يدنيني احتقاراً لي. فشكوت ذلك إلى أبي وغيره فبعثوا إليه يسألونه إكرامي وأثرتي فقال للرسول ما هو عندنا وغيره إلا سواء. إنما هي عافاك الله مجالس علم السابق إليها أحق بها. فكنت أني وقد أحدق الناس فما يوسع لي فاستدني حيث وجدت. قال ابن وهب كنا إذا جلسنا إلى مالك فإنما يتساءل الناس بينهم فإذا اختلفوا وأرادوا أن يرفعوه إلى مالك فإنما يضم إليه رجل واحد. بخفض الصوت مع الإجلال والهيبة فيقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ما تقول أصلحك الله في كذا وكذا. قال فإن كان الرافع المصيب قال له وفقك الله، وإن، كان الآخر قال له ذلك فأيهم ناداه بالتوفيق علم أنه المصيب. قال عبد الرزاق بينما نحن في المسجد الحرام فقيل لنا هذا مالك فلقيناه داخلاً من باب بني هاشم وعليه رداء وقميص صنعاني فطاف بالبيت وخرج ناحية الصفا فصلى ركعتين ثم احتبى. فلما فرغ احتوشناه كما يصنع أصحاب الحديث فلما جلسنا قام من بيننا كالمغضب. فجئنا مشائخنا. أي شيء كتبتك عن مالك فأخبرناهم بالذي فعل. فقالوا الذي فعلتم لا يحتمله مالك، فلما كان من الغد جئنا واحداً واحداً وعلينا السكون فحدثنا وقال الذي فعلتم أمس فعل السفهاء. قال خالد بن نزار سألت مالكاً عن شيء وكان متكئاً فقال حدثني يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ثم استوى جالساً وتجلل بكساه فقال استغفر الله فقلت له في ذلك. فقال إن العلم أجل من ذلك ما حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متكىء. قال ابن بكير قام رجل إلى مالك فقال له أعرض؟ قال نعم. فقال أحدثكم ابن شهاب عن سالم، فقال له مالك أنت ثقيل. يقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 غير هذا فقام آخر فقال حدثكم ابن شهاب، بلا استفهام، فقال مالك أحسنت. مثل هذا فليعرض. ودخل بقية بن الوليد على مالك فقال الناس اليوم ننتفع بأبي محمد يسأل مالكاً مسائل نكتبها عنه. فسأله عن ست مسائل فأجابه فيها كلها وسأله بعد ذلك فقال له مالك أكثرت خذوا بيد الشيخ فجاء نفسان فأخذا بضبعيه فأخرجاه. قال ابن المنذر كانت لمالك حلقة يجالسه فيها فقهاء المدينة. ولم يكن يوسع لأحدهم ولا يرفعه يدع أحدهم يجلس حيث انتهى به المجلس. حكى الزبير عن عمه مصعب وغير واحد أن هارون لما حج أتى مالكاً فأستأذن عليه حاجبه ثم أذن له. وفي رواية بعضهم ثم خرج إليه فلما دخل قال يا أبا عبد الله ما حملك على أن أبطأت، وقد علمت مكاني. وفي رواية حبسنا ببابك. قال والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت وعلمت أنك لا تأتي إلا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتأهب له. فقال قد علمت أن الله ما رفعك باطلاً. وأخذ بيده فمضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أخبرني عن مكان أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان محلهما منه في حياته كمحلها منه بعد وفاته. قال هشام بن عيسى لما قدم هارون المدين دعا مالكاً. فقال مالك: منكم خرج هذا العلم وأولى الناس بإعظامه ومن إعظامكم له ألا تدعوا حملته إلى أبوابكم. قال قد فعلت يا أبا عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وقال بعضهم حج المهدي فدخل المدينة فسار إليه مالك وأظهر من بره وإعظامه وأمر ابنيه موسى وهارون أن يسمعنا منه. فبعثوا إليه فلم يصل إليهم وأعلموا المهدي فبعث إليه لم يأتهم؟ فقال يا أمير المؤمنين العلم أهل لأن يوقر ويؤتى. قال، صدق. سيروا إليه. فلما حضروه قالوا له إقرأ علينا. قال إن هذا البلد إنما يقرأ فيه على العالم كما يقرأ الغلام على المعلم فإذا أخطأ فتاة فانصرفوا عنه، وأعلموا المهدي. فبعث إليه. فقال امتنعت أن، تصير إليهم فصاروا إليك فامتنعت أن، تقرأ عليهم. قال يا أمير المؤمنين سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم من رجال في الروضة، وهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجة وسليمان ونافع ثم نقل عهم ابن هرمز وأبو الزناد وربيعة والأنصار وبحر العلم ابن شهاب وكل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرأون. قال المهدي اذهبوا فاقرأوا، ففي هؤلاء قدوة. فكان مؤدبهم يقرأ عليهم. وفي رواية ابن نافع في هذا الحديث لما دخل مالك على هارون رفع مجلسه وقال لابنيه قوما فاجلسا بين يدي عمكما فقاما فجلسا بين يدي مالك. فقال حدثهما فتغير وجه مالك ثم التفت إلى هارون وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 أن الله رفعك وجعلك في موضعك الذي أنت فيه للعلم، فلا تكن أول من يضع عز العلم فيضع الله عزك فالتفت هارون إلى ابنيه وقال لهما قوما فإذا مضى عمكما فأتيا منزله فاسمعا منه. فلما انصرف مالك ركبا إليه ونزلا ودقا الباب فلم يفتح لهما فتركا فجلسا على الباب والريح تضرب وجوههما بتراب العقيق فلما أيسا انصرفا. قال بعضهم قدم الرشيد المدينة ومالك عليل فبعث إليه أن يأتيه ليسأله عن مسألة، فقال أنا عليل فقال لا بد من لقائك ووجه إليه محفة وحمله على أيدي الخدم. فلما دخل قام إليه الفضل بن الربيع فسأله عن مسألة فقال مالك يا وغد إليك حملت؟ لأخبرن أمير المؤمنين. فأكب عليه الفضل يقبله ويستعطفه فلما دخل قام إليه الفضل بن الربيع فسأله عن مسألة فقال مالك يا وغد إليك حملت؟ لأخبرن أمير المؤمنين. فأكب عليه الفضل يقبله ويستعطفه فلما دخل إلى هارون سأله عما أراد. وقال مطرف وابن نافع وغيرهما وبعضهم يزيد على بعض، لما قدم هارون المدينة وجه إلى مالك البرمكي وقال له قل له احمل لي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك فوجد من ذلك مالك واغتم وقال للبرمكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 إقرئه السلام وقل له العلم يزار ولا يزور، وإن العلم يؤتى ولا يأتي فرجع البرمكي إلى هارون فأخبره بذلك، فغضب وأشار عامة أصحاب مالك أن يأتي هارون وقال البرمكي للرشيد يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك فخالفك. أعزم عليه حتى يأتيك فإذا بمالك قد دخل فسلم وليس معه كتاب، فقال له هارون في ذلك فقال مالك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته وأن نرعاه حياً وميتاً وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك فلا تكن أول من ضيع العلم فيضيعك الله. الله لقد رأيت من ليس هو في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته فأنت أحرى أن، تجل علم ابن عمك، ولم يزل يعدد عليه حتى بكى. ثم قال له حدثني الزهري وذكر حديث ذيل بن ثابت، كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم ما أدري. قال زيد وقلمي رطب لم يجف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي فكادت تندق من ثقل الوحي ثم خلا عنه فقال اكتب يا زيد غير أولى الضرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فقال يا أمير المؤمنين هذا حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزل على نبيه أفلا ينبغي لي أن أجله وأعزه؟ قال، فقال هارون قم بنا إلى منزلك. فأتى هارون منزل مالك فدخل مالك واغتسل ولبس ثياباً جدداً وتطيب ووضع مجامير فيها عود وجلس فقال هات، فقال هارون تقرأ علي. ما قرأت على أحد منذ زمان. قال فأخرج عني الناس حتى أقرأه عليك. فقال مالك إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة. قال فأمر بعض أصحابه يقرأه فأمر المغيرة على مالك وفي رواية إن الذي قرأه له معن. قال فكان هارون قد استند إلى جنب مالك فلما بدأ يقرأ له قال يا أمير المؤمنين من تواضع لله رفعه الله. وفي رواية أبي مصعب من إجلال الله إجلال ذوي الشيبة المسلم. فقام فقعد بين يديه فحدثه، فلما فرغ عاد إلى مكانه. قال مالك: لما كان بعد مدة قال لي الرشيد: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم تنتفع به. وكان يأتيهم فيحدثهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 قالوا وكان رجل قرشي ينتقص مالكاً ويقول بأي شيء هو أكبر منا؟ فلما قدم هارون وجلس الناس قالوا له هذا هارون ومالك يدخل وأنت تدخل فافعل ما فعل. وأرسلوا معه من ينظر، فتقدم مالك فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، عمك مالك بن أنس أين يجلس؟ قال: ها هنا تجلس. وأقبل الرجل خلفه فقبل يدي هارون، فقال هارون لمالك إن رأيت أن تأتي ولديك فتحدثهم يعني ابني هارون. قال فما رد عليه مالك شيئاً حتى خلا من عنده، فتول إليه فقال أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تكون أول من أجرى على يديك ذل العلم. قال وما ذاك. قال أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون. فقال له أصبت بل يأتوك. وخرج مالك. فقال هارون هذا الذي تلومونني فيه ما رأيت رجلاً اعقل منه، قلت له آنفاً فلم يرد على شيء كراهية أن يخرج منه شيء في ذلك الجمع فلما خلوت خرج لي عما في نفسي مروا له بكذا وكذا جائزة، فكانوا بعد يقولون للقرشي كيف ترى؟ فيقول ذلك رجل معصوم. قال مطرف دخل مالك على هارون في بعض حاجته فقال له هارون أريد أن تأتيني فتقرأ على كتابك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فقال مالك العلم يؤتى ولا يأتي. قال فأرسل إلي من ينسخها قلت نعم. قال ابن مهدي مشيت مع مالك يوماً إلى العقيق من المسجد فسألته عن حديث فانتهرني، وفي رواية فالتفت إلي وقال لي كنت في عيني أجل من هذا، أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي. فقلت إنا لله ما أراني إلا وقد سقطت من عينه. فلما قعد في مجلسه بعدت منه فقال ادن ها هنا فدنوت فقال قد ظننت أنا أدبناك تسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشي سل عما تريد هاهنا. قال ابن مهدي وسألوا مالكاً بالموسم وهو قائم فلم يحدثهم قال أبو مصعب وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث وهو قائم فأمر بحبسه. فقيل له إنه قاض فقال القاضي أحق أن يؤدب احبسوه فحبس إلى الغد. قال عبد الله بن صالح كان مالك والليث لا يمسان الحديث إلا وهما طاهران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 قال المروي كان مالك إذا جلس معنا كأنه واحد ينبسط معنا في الحديث وهو أشد تواضعاً منا له. فإذا أخذ في الحديث تهيبنا كلامه كأنه ما عرفنا ولا عرفناه. ولما حج هاشم بن جريج وهو حدث أتى مالك بن أنس وقد رحل الناس بورقتين من حديث، فقال له: أقرأ هذه الأحاديث فقد مضى الناس. فقال مالك ينتظر أحدكم حتى إذا رحل النسا جاء فقال: أقرأ لي، فقد رحل الناس. فالتفت هاشم إلى مالك فقال أصلحك الله إن تكن حاجة أو أمر تأمر به انتهيت إلى طاعتك ووقفت عند أمرك وفرحت بذلك في نادي قومي، وسدت به على عشيرتي استودعك الله، فإن طاعتك فرض وقولك حكم استودعك الله. قال مالك مثل هذا طلب العلم، ردوه. فبعث في طلبه فأتى به فقرأ له ثم انصرف. قال القروي لما كثر الناس على مالك قيل له لو جعلت مستملياً يسمع الناس. قال: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول) . وحرمته حياً وميتاً سواء. قال ابن مهدي وما أدركت أحداً إلا يخاف هذا الحديث إلا مالكاً وحماد بن زيد فإنهما كانا يجعلانه من أعمال البر. وكان مالك يقول لا ينبغي لأحد عنده علم أن يترك التعليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 قال مطرف: حضرت مالكاً يأتيه الرجل بالدفتر فيسأله أن يجيزه فيفعل وروى ابن وهب عنه أنه رآه مرة فعله ومرة كرهه وأجاز المناولة وقد كتب ليحيى بن سعيد الأنصاري مائة حديث لابن شهاب فقيل له اقرأها عليك؟ قال كان أفق من ذلك. قال مصعب وسأله المهدي أن يسمع منه كتبه فقال له هذا شيء يطول عليك ولكن أكتبها لك وأصححها وابعث بها إليك، وكان أكثر أمله أن يقرأ عليه على أحد كتاب الموطأ. وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول لا يجزي العرض وزعم ابن بكير أنه سمع الموطأ من مالك بقراءة نفسه غير مرة، وقال لمالك غير واحد أرأيت ما قرأته عليك أن أقول فيه حدثنان وأخبرنا. قال نعم. ألست فرغت لكم نفسي وأقمت سقطه والله؟ قيل له فيجوز لمن حضر أن يقول ذلك؟ قال: نعم. وفي سماع ابن وهب سأل رجل مالكاً عن الكتاب يعرض عليك ثم ينقلب به صاحبه فيبيت عنده أيجوز أن أحدثه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 قال نعم. وقال مالك في سماع ابن القاسم وابن وهب وغيرهما: العرض أعجب إلي من السماع وأثبت إذا كان الذي يقرأ يتثبت، واستعدى عليه رجل خرساني قاضي المدينة فقال جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا. فحكم القاضي على مالك أن يقرأ له. فقيل له أصاب الحق؟ قال نعم. قال الحارث ابن مسكين، كلم بعض الهاشميين مالكاً في أيام الموسم أن يعرض عليه فأبى وقال هي أيام الحج فإذا انقضت فإن شئت عرضت بعد. فغضب، وقال قد أرادك هارون أمير المؤمنين على هذا فأجبته. قال مالك قد أراداني فما فعلت. قال القطان قراءة ابن مهدي على مالك كالحديث لأنه كان يقول سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً يقول قال ابن المديني. قلت ليحيى: كان مالك يملي عليك قال كنت أكتب بين يديه. قال مصعب كان مالك يرى الرجل يكتب عنده فلا ينهاه ولكن لا يرد عليه ولا يراجعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وقال أشهب عاب مالك الكتاب للعلم، وقال لم أدرك أحداً يفعله، إنما كانوا يحفظون قال القطان دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومالك أسود الرأس واللحية والناس حوله سكوت لا يتكلم أحد هيبة له ولا يفتي أحد في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم غيره. فجلست بين يديه فسألته فحدثني فراددته فراددني ثم غمزني بعض أصحابه فسكت. قال معن كان مالك يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما. وروى عنه ابن عمير مثله ذكر ابن وهب قال لما أتيت عبد العزيز بن الماجشون لأسمع منه قال لي: إياك وأن تعلم مالكاً أنك تأتيني فلا يحدثك. كأنه يعلم أنه يغمزه. قال إسماعيل قال حماد بن أبي حنيفة: أتيت مالكاً فرأيته جالساً في صدر بيته وأصحابه بجنبتي الباب، له واحد منهما له مجلس (كذا) فقمت على باب البيت قال من أنت؟ قلت فلان أسأله عن مسألة. قال ادن حتى أقعدني بين يدي فرشه، فلما رأى ذلك أصحابه قاموا جميعاً من مجالسهم فخرجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 من البيت، فقال لي ما كان أبوك يقول في كذا؟ فأخبرته فقال وما كانت حجته؟ فأعلمته، وجعل يسألني عن أشياء من مذهب أبي حنيفة وعن حجته. ثم قال: سل. فسألته، فأجابني. فلما خرجت عاد أصحابه إلى مجالسهم. قال الحسن بن الربيع البواري كنت على باب مالك فنادى مناديه ليدخل أهل الحجاز فما دخل إلا هم. ثم نادى في أهل الشام. في أهل العراق. فكنت آخر من دخل. وفينا حماد بن أبي حنيفة فقال السلام عليكم ورحمة الله. قال فأوما الناس إليه بأيديهم أن اسكت. فقال أفي صلاة نحن فلا نتكلم؟ فسمعت مالكاً يقول أستخير الله مرتين ثم قال: أخبرنا نافع فحدثنا بعشرين حديثاً ثم قال أخرجوهم فأخذتنا المقارع. قال الشافعي قرأت الموطأ على مالك ولم يكن يقرأ عليه إلا من فهم العلم وجالس أهله، وكنت قد سمعت من ابن عيينة والزنجي وغيرهما من المكيين ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته. قال عبد الله بن مطيع أتينا مالكاً فحدثنا بأحاديث فاستزدناه فقال حسب فأخذتنا المقارع. وسأله رجل مالكاً عن مسألة فلم يجبه فقال له لم لا تجبني. فقال لو سألت عما تنتفع به أجبتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 قال الشافعي أستأذنت على مالك وكنت أريد أن أسمع منه حديث السقيفة، فقلت إن جعلته أولاً خشيت أن يستطيله ولم يحدثني وإن جعلته آخراً خشيت أن لا أبلغه، فجعلته بعد عشرة أحاديث. فأخذت أسأله فلما مرت عشرة، قال حسبك. فلم أسمعه. قال بشر بن آدم سأل الأغضب مالكاً عن مسألة ثم عن أخرى فأجابه، ثم عن أخرى فلم يجبه. فقال له هو لم؟ فقال مالك يا غلام خذ بيده فاذهب به إلى السجن. قال إني قاضي أمير المؤمنين. قال ذلك أهون لك. قال لا أعود. قال خل سبيله. قال إسماعيل بن بنت السندي سألت مالكاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رمل من الحجر إلى الحجر قال، فقلت إسناده. فقال جروا برجله. قال إسماعيل القواريري دخلت على مالك فسألته الحديث فحدثني أظنه باثني عشر حديثاً، فاستزدته وكان سودان قيام على رأسه فإذا هم حملوني وأخرجوني من داره فرموا بي في الطريق أو نحو هذا. قال ابن حارث دخل ابن المبارك وأصحابه على مالك فقالا يا أبا عبد الله حدثنا ولا تحدثنا إلا بحديث الزهري، فقال مالك يؤخذ بأيديهم ويقاموا عني فقام القوم فلما كان من الغد قال ابن المبارك لأصحابه إن مالك بن أنس لا يضره ألا تسمعوا منه شيئاً. فعودوا إلى الرجل، فدخلوا عليه فلما أخذوا مجالسهم اعتبرهم وحدثهم من حديث الزهري كما أرادوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قال أبو مسعر كان مالك يسأله عن مسألة وثانية فإذا سئل عن ثالثة قال خذوا بيده فأخرجوه. قال ابن مهدي لما أراد يحيى ابن أبي زائدة الحج كلم عبد الله بن إدريس أن يكتب له كتاباً إلى المدينة ليسمع منه، وكانت بينهما مودة ففعل، وكان يسمع إذا جاءه يوماً رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في رجل أوصى لعبده بمائة درهم فقال مالك الوصية جائزة. فقال له يحيى يا أبا عبد الله يوصي بماله لماله؟ فنظر مالك إلى من عنده فقال. ولتعرفنهم في لحن القول لا تعد إلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 باب في ذكر ما كان رزقه مالك في العلم من نباهة القدر والهيبة والمجد. قال القاضي رضي الله عنه. قال زياد بن يونس ما رأيت قط عالماً ولا عابداً ولا شاطراً ولا والياً أهيب من مالك رحمه الله تعالى. وقال ابن الماجشون، دخلت على أمير المؤمنين المهدي فما كان بيني وبينه إلا خادمه فما هبته هيبتي مالكاً وقال مثله الدراوردي. قال سعيد بن أبي مريم: ما رأيت أشد هيبة من مالك لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان. وقال مصعب الزبيري ما رأيت قط أهيب من مالك إلا الخليفة. وقال سعيد ابن أبي هند: ما هبت أحداً هيبتي عبد الرحمان بن معاوية يريد ملك الأندلس حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة صغرت هيبة ابن معاوية. قال ابن أبي أويس وأبو مصعب: ما كان يتهيأ لأحد بالمدينة أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حبسه مالك، فإذا سئل فيه قال يصحح ما قال ثم يخرج. قال إسماعيل، ولقد كان ابن كنانة وابن أبي حازم والدراوردي وغيرهم سمعوا مع مالك من مشائخ وتركوا الحديث عنهم هيبة له حتى مات. ففشى ذلك فيهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 قال الأصمعي ما هبت عالماً قط ما هبت مالكاً حتى لحن فذهبت هيبته من قلبي، قلت له في ذلك، فقال كيف لو رأيت ربيعة؟ كنا نقول له كيف أصبحت فيقول بخير أو بخيراً. قال ابن وهب قدمت المدينة فسألني الناس أن أسأل لهم مالكاً عن الخنثى وقد اجتمعوا إليه وكنت أنا الذي أسأل لهم، فهبت أن أسأله وهابه كل من في المجلس أن يسأله. قال هشام بن عمار دخلت المدينة فأتيت مالكاً بن أنس فلما وقع بصري عليه هبته حتى ضربت على خاصرتي. قال الشافعي ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه وقيل كان الثوري في مجلسه فلما رأى إجلال الناس له وإجلاله للعلم أنشد: يأبي لجواب فلا يراجع هيبة ... فالسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان قال ابن حنبل كان مالك مصيباً في مجلسه لا يرد إعظاماً له. قال الشافعي كان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك امتلأ منزله حتى يضيق بهم الموضع وإذا حدثهم عن غيره من شيوخ الكوفة لم يجبه إلا اليسير فكان يقول ما أعلم أحداً أسوأ ثناءاً منكم على أصحابكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 قال بكير بن الشرود وغيره والمعنى متقارب أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة ونحن نستزيده من حديثه، فقال لنا ذات يوم ما تصنعون بربيعة وهو قائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا أنت ربيعة الذي يحدث عنك مالك؟ قال نعم. قلنا كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ فقال أما علمتم ابن مثقالاً من دولة خير من حمل علم. قال ابن حارث كان مالك يجل العلم الذي عنده إجلالاً عظيماً ويصون نفسه عن جميع الوجوه التي تنقص وإن قلت وكان يتهيب شديداً. قال يحيى بن حسن كتبت يوماً عن مالك ثمانية أحاديث فسررت بها سروراً كثيراً. وقال بشر الحافي حدثنا مالك وأستغفر الله أن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك. قال حبيب رأيت مالكاً منصرفاً من عند المهدي ما يمر بأحد إلا قام إليه وذكر الله. قال فذكرت الحديث الذي جاء إذا رأى ذكر الله. قال غيره كان مالك يسأل عن المغازي الضحاك بن عثمان وابن كنانة ثم يتحدث عنهما في مجلسه فيبتدىء الناس يكتبونها عنه، ويكتبها معهم الضحاك وابن كنانة وأكثرها إنما سمعه منهما. قال القعنبي ما أحسب مالكاً بلغ ما بلغ إلا بسريرة كانت بينه وبين الله تعالى. رأيته يقام بين يديه الرجل كما يقام بين يدي الأمير. قال إسماعيل بن يعقوب السهمي كنت مع مالك بن أنس جالساً يوماً عند بروز أهل الموسم فجلس إليه رجل عراقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فسأله عن مسألة فأجاب ثم سأله مرة أخرى فأجاب، ثم سأله فأبى أن يجيبه فقال لقد أنفقت وجئت هذا الوجه وأنا مسترشد فأرشدوني فقال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا إيمان لمن لا حياء له. فقال العراقي وأنا قد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كنف وجه الرجل رق دينه. فوثب إليه جماعة من جلساء مالك فنزعوا عمامته وطرحوها في رقبته وخنقوه بها. قال أشهب: عاد مالك محمد ابن علي من علة وطرحوها في رقبته وخنقوه بها. قال أشهب: عاد مالك محمد ابن علي من علة فصارت له بعيادة مالك وجهة في الناس. قال عبد الله بن نافع الزبيري: كنت أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح فرفعت صوتي فزجرني وقال أما ترى مالكاً. وهو أول ما عرفت به مالكاً. وروي هذا عن ابن وهب، قال يونس بن تميم قدمت المدينة سنة ستين ومائة فأتيت مالكاً فلما نظرت إليه هبته ولم أتقدم إليه ورأيت الناس يهابونه فأقمت أتردد عشرة أيام فشكوت ذلك لبعض أهل المدينة فقيل لي اعط كاتبه يسأل لك عما أحببت، وأما أنت فلا أحسب تتهيأ لك مسائلته لأنه أهيب من ذلك في صدور الناس. قال عبد الله العباسي: كان أهل المدينة إذا مات لهم ميت يقولون امضوا بنا إلى مالك يعزينا. قال مصعب: رأيت مالكاً على ضجاع لا يقعد معه أحد وقريش قعود فإذا جاء الرجل من بني هاشم ثنى رجله وأجلسه على ضجاعه فيقبل عليه ولا يلتفت أحد حتى يفرغ. قال التستري وهذا في غير مجلس العلم، وقد قيل إن المخزومي كان ممن يجلس معه على فراشه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 قال بعضهم سعى ابن أبي الزناد بمالك إلى بعض أمراء المدينة فأتاه مالك يسأله أن يكف عنه فأدخله حجلته فتعجب الناس منه كيف ائتمنه على حرمه لما بينهما، ومضى إلى الوالي ورجع فقال قد كفيته. ثم لم يعد مالك إلى كلامه حتى مات. قال بعض الحسنيين كنت مقيماً عند أهلي أيام ابتنائها فأتاني مالك وأنا مع أهلي في الحجلة فأستأذن فكرهت أن أجلسه في الباب إلى أن أباعد أهلي فخرجت من الحجلة وأرخيت الستر على وجه زوجتي فقعدت بين يدي الحجلة وأذنت له فدخل وجلس. ثم قال أن هذا يعني ألأمير قد حبس غلامي أخذه العسس فامض إليه حتى يطلقه. فهبت أن أخبره بموضع زوجتي أو أرجعه فتركته جالساً وخرجت إلى الأمير فأطلق غلامه وجئت به فلما رآني مالك آخذاً بيد الغلام تلقاني وانتزع الغلام وخرج يتوكأ عليه والله ما قال لي أحسن الله جزاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 باب اتباعه السنن وكراهيته المحدثات وبعض ما روي عنه في عقائد أهل السنة والكلام في أهل الأهواء. قال الفقيه القاضي رضي الله تعالى عنه كان مالك كثيراً ما يتمثل: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع قال أحمد بن حنبل: مالك أتبع من سفيان. وقال ابن حنبل: إذا رأيت الرجل يبغض مالكاً فاعلم أنه مبتدع. قال أبو داود أخشى عليه البدعة. وقال ابن المهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت أحداً يتناوله فاعلم أنه على خلاف وقال إبراهيم ابن يحيى بن بسام ما سمعت أبا داود لعن أحداً قط إلا رجلين، أحدهما رجل ذكر له أنه لعن مالكاً، والآخر بشر المريسي. قال معن: انصرف مالك يوماً إلى المسجد وهو متكىء على يدي فلحقه رجل يقال له ابو الجويرة يتهم بالأرجاء فقال يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أعلمك به وأحاجك وأخبرك برأي. فقال: احذر أن اشهد عليك قال: والله ما أريد إلا الحق اسمع فإن كان صواباً فقل إنه. أو فتكلم. قال فإن غلبتني. قال اتبعني. قال فإن غلبتك. قال أتبعك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 قال: فإن جاء رجل فكلمناه فغلبنا. قال اتبعناه. فقال له مالك يا عبد الله بعث الله محمداً بدين واحد وأراك تنتقل وقال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل. وقال مالك ليس الجدال في الدين بشيء. وقال مالك المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب العبد. وقال إنه يقسي القلب ويورث الضغن. قال الزهري رأيت مالكاً وقوماً يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال إنما أنتم حرب. قال الهيثم بن جميل قيل لمالك: الرجل له علم بالسنة يجادل عنها؟ قال لا. ولكن يخبر بالسنة. فإن قبل منه وإلا سكت. قال أبو طالب المكي: كان مالك أبعد الناس من مذاهب المتكلمين وأشدهم بغضاً للعراقيين: وألزمهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين. قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكاً، فقال على العرش استوى. كيف استوى يا أبا عبد الله؟ فسكت مالك ملياً حتى علاه الرحضاء وما رأينا مالكاً وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينتظرون ما يأمر به ثم سري عنه. فقال الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإني لأظنك ضالاً أخرجوه عني. فناداه الرجل يا أبا عبد الله والله الذي لا إله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رفعه الناس بأبصارهم ورمقواً مالكاً، وكان قد صلى خلف الإمام، فلما سلم قال من ها هنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له ابن مهدي فوجه إليه وقال له أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وأشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلك: من أحدث في مسجدنا حادث فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يقعد ذلك أبداً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره. وفي رواية ابن مهدي، قال فقلت للحرسين تذهبا بي إلى أبي عبد الله. قالا إن شئت. فذهبا بي إليه، فقال يا أبا عبد الرحمان تصلي متسلياً؟ فقلت يا أبا عبد الله إنه كان يوماً حاراً كما رأيت فثقل ردائي علي، فقال: الله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليهم. قلت: الله. فقال خلياه. قال سفيان بن عيين سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراء الميقات. فقال هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة. أما سمعت قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل من الميقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وسأل رجل مالكاً عن الشيء من علم الباطن، فغضب وقال: علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى عرف علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن. ولا يكن ذلك إلا مع فتح قلبه وتنويره. ثم قال للرجل عليك بالدين المحض. وإياك وبنيات الطريق وعليك بما تعرف واترك ما لا تعرف. قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول إذا جاءه بعض أهل الأهواء، يقول أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى مثلك فخاصمه. ثم قرأ: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ..... الآية. قال مطرف سمعت مالكاً إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها إتباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها ولا النظر في شيء خالفها. من اهتدى بها استنصر ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. وكان مالك إذا حدث بهذا ارتج سروراً، وسأل رجل مالكاً من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا رافضي ولا قدري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قال ابن نافع وأشهب وأحدها يزيد على الآخر. قلت يا أبا عبد الله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. ينظرون إلى الله. قال نعم بأعينهم هاتين. فقلت له فإن قوماً يقولون لا ينظر إلى الله إن، ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب. قال كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام: رب أرني أنظر إليك. أفترى موسى سأل ربه محالاً؟ فقال الله لن تراني في الدنيا لأنها دار فناء ولا ينظر ما بقي بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما بقي إلى ما بقي. وقال الله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. قال زهير بن عباد قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان؟ فقالوا يزيد وينقص. قال بئس ما قالوا قلت قالوا إنا نخاف على أنفسنا النفاق. قال بئسما قالوا. قلت فإن قالوا نحن مؤمنون إن شاء الله قالت الأخرى الإيمان واجب وإيمان أهل الأرض كإيمان أهل السماء. قال: لا تقولوا. قلت فإن قالوا نحن مؤمنون حقاً. قال لا تقولوا قلت فما ينبغي للطائفتين أن يقولوا؟ قال يقولون نحن مؤمنون: فيكفوا عما سوى ذلك من الكلام. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 حتى يقولوا لا إله إلا الله ... الحديث. وقال تعالى: لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً. قال زهير فقلت له فإن الطائفتين بعضها بعضاً. فاسترجع وتعجب وقال لي وقد أفلح الناس يصلون إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم أمروا بالصلاة إلى البيت الحرام فقال الله: وما كان الناس ليضيع إيمانكم. يعني صلاتكم إلى بيت المقدس وإني لأنكر بهذه الآية قول المرجئة إن الصلاة ليست من الإيمان. قال زهير وقد كان دخل على مالك من سأله عن نحو هذا فأمر به فأخرج وكأنه لمخزياً قال غير واحد سمعت مالكاً يقول الإيمان قول وعمل وينقص وبعضه أفضل من بعض. قال والله في السماء وعمله في كل مكان. قال ابن القاسم كان مالك يقول الإيمان يزيد وتوقف عن النقصان وقال ذكر الله زيادته في غير موضع. فدع الكلام في نقصانه وكف عنه. وقال مالك أنا مؤمن والحمد لله. قال ابن أبي أويس قال مالك القرآن كلام الله وكلام الله من الله وليس من الله شيء مخلوق. زاد غيره عنه، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذي يقف أشد منه يستتاب وإلا ضربت عنقه. وفي رواية ابن نافع عنه يجلد ويحبس من قال ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وفي رواية بشر بن بكير التنسي يقتل ولا تقبل توبته. قال البركاني والتستري من شيوخنا العراقيين معنى الجوابين المستبصر الداعية ويضرب غيره وسئل عن حديث التنزيل ينزل أمره كل سحر وأما هو دائم فلا يزول. وقال الوليد بن مسلم سألت مالكاً عن هذه الأحاديث فقال أقرأها كما جاءت. فقيل له إن ابن عجلان يحدث بها فقال لم يكن من الفقهاء. قال في رواية ابن القاسم وابن وهب إنه كان لا يعرف هذه الأشياء. وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم فينكروه أو يضعوه في غير موضعه. وجاء إلى مالك رجل فقال له ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق. قال زنديق فاقتلوه. فقال يا أبا عبد الله ليس هو كلامي، إنما هو كلام سمعته. قال لم أسمعه أنا إلا منك. قال أشهب كنا عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلويين وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه يا أبا عبد الله فأشرف له مالك ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 فقال له الطالبي إني أريد أن أجعلك حجة فيما بيني وبين الله، إذا قدمت عليه فسألني قلت مالك قال لي. فقال له قل قال من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قال العلوي ثم من؟ قال مالك ثم عمر. قال العلوي ثم من؟ قال الخليفة المقتول ظلماً عثمان. قال العلوي والله لا أجالسك أبداً. قال له مالك فالخيار لك. قال عبد الرحمان بن القاسم عنه ما أدركت أحداً إلا وهو يرى الكف بين عثمان وعلي ولا شك في أبي بكر وعمر أنهما أفضل من غيرهما. زاد ابن وهب عنه وعلى هذا مضى الناس وفي رواية أبي مصعب سئل مالك من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال مالك أبو بكر ثم قال ثم من؟ قال عمر ثم قال ثم من؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 قال عثمان. قيل ثم قال ها هنا وقف الناس. هؤلاء خيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر على الصلاة واختار أبو بكر عمر وجعلها عمر إلى ستة فاختاروا فوقف الناس ها هنا. زاد في رواية وليس من طلب الأمر كمن لا يطلبه. وفي رواية ابن وهب أفضل الناس أبو بكر وعمر قلت ثم من؟ فأمسك. قلت إني امرؤ أقتدي بك في ديني فقال وعثمان في رواية أبي مصعب ثم استوى الناس وقال البزاز سألت أبا عاصم النبيل عن التقدمة في السلف. قال حمزة وجعفر. قلت إنما نحن في العشرة فسكت ثم قال: كان مالك يقدم حمزة. قال مصعب الزبيري وابن نافع دخل هارون المسجد فركع ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتى مجلس مالك فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم قال لمالك هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟ قال لا ولا كرامة قال من أين قلت ذلك؟ قال قال الله: ليغيظ بهم الكفار. فمن عابهم فهو كافر ولا حق للكافر في الفيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين ..... الآيات قال فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وأنصاره الذين جاءوا من بعده يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ...... الآية. فما عدا هؤلاء فلا حق له فيه. قال إسحاق بن عيسى رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالك بن أنس فقال إن الأهواء كثرت قبلنا فجعلت على نفسي أن آتيك إن إنا رأيتك آخذ بما تأمرني به. فوصف له مالك شرائع الإسلام الصلاة والزكاة والحج والصوم ثم قال خذ بها ولا تخاصم أحداً. قال ابن وهب وغير واحد سئل مال عن أهل القدر أيكف عن كلامهم؟ قال نعم. إذا كان عارفاً بما هو عليه. قال ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر؟ ويخبرهم بخلافهم ولا يواضع القول ولا يصلي عليهم، ولا تشهد جنائزهم ولا أرى أن يناكحوا زاد في رواية غيره، قال الله ولعبد مؤمن خير من مشرك. قال في رواية أشهب ولا يصلى خلفهم ولا يحمل عليهم الحديث وإن وافيتوهم في ثغر فاخرجوهم منه. قال ابن القاسم عنه ولا يسلم عليهم ولايعاد مرضاهم. قال الواقدي ولا تجوز شهادة القدري الذي يدعو أو الخارجي والرافضي. وقد روى عن مالك منع شهادته مجملاً وروي عنه إذا كان داعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قال مصعب سأل رجل مالكاً فقال الفواحش كتبها الله علينا. قال نعم: قبل أن يخلقنا. ولا بد لكل من كتب الله عليه ذلك أن يعلمها ويصير إلى ما قدر عليه وكتب. قال الكرابيسي سمعت مالكاً وسئل عن القدرية من هم؟ قال من قال: ما خلق المعاصي. وقال القاسم بن الحكم سألت مالكاً عن القدرية من هم؟ فقال سألت أبا سهيل كما سألتني فقال الذين يقولون الاستطاعة إليهم إن شاءوا أطاعوا وإن شاءوا عصوا. قال الفروي سمعت ابن أبي حنيفة يقول لمالك إن لنا رأياً نعرضه عليك فإن رأيته حسناً مضينا عليه وإن رأيته سيئاً تنكبنا عنه لا نكفر أحداً بذنب. المذنبون كلهم مسلمون قال ما أرى بها بأساً. فقال له داود ابن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وابن نافع الصائغ يا أبا عبد الله إن هذا يسوق الكلام إلى أن ديني دين الملائكة، وجبرائيل وميكائيل. فقال لا والله الدين يزيد. قال الله: ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. وقال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى .... الآية. قد أثبت زيادة في دينه قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول إن المرجئة أخطأوا وقالوا قولاً عظيماً. قال إن أحرق الكعبة أو صنع كل شيء فهو مسلم. فقيل لمالك ما ترى فيهم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قال، قال الله تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين. قال ابن وهب سمعت مالكاً وقيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بحديث كل مولود يولد على الفطرة. الحديث فقال احتجوا عليهم بأخرى الله أعلم بما كانوا عاملين. قال ابن نافع سألت مالكاً يقول إن العبد ارتكب الكبائر كلها بعد أن لا يشرك بالله شيئاً ثم نجي من الأهواء رجوت أن يكون في أعلا الفردوس. لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء، إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم. قال مالك أهل الأهواء كلهم كفار وأسوأهم الروافض. قيل فالنواصب؟ قيل لهم الروافض رفضوا الحق فمن رفض الحق ونصبوا له العدواة والبغضاء معناه أن الأربعة أهل الحق فمن رفض واحداً منهم فقد ناصب الحق قال مطرف رأيت مالكاً يحتجم يوم الأربعاء ويوم السبت منكراً لما روي في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 باب في ذكر عبادة مالك وورعه وعزلته وإجابة دعائه قال القاضي عياض رضي الله عنه قال الزبير بن حبيب كنت أرى مالكاً إذا دخل الشهر أحيا أول ليلة منه. وكنت أظن إنما يفعل هذا ليفتتح به الشهر. وقالت فاطمة بنت مالك كان مالك يصلي كل ليلة حزبه فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها كلها. قال المغيرة خرجت ليلة بعد أن هجع الناس هجعة فمررت بمالك بن أنس فإذا أنا به قائم يصلي فلما فرغ من الحمد لله ابتدأ بالهاكم التكاثر حتى بلغ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم فبكى بكاءاً طويلاً وجعل يرددها ويبكي وشغلني ما سمعت ورأيت منه عن حاجتي التي خرجت إليها فلم أزل قائماً وهو يرددها ويبكي حتى طلع الفجر. فلما تبين له ركع فصرت إلى منزلي فتوضأت ثم أتيت المسجد فإذا به في مجلسه والناس حوله فلما أصبح نظرت فإذا وجهه قد علاه نور حسن. قال محمد ابن خالد بن عتمة كنت إذا رأيت وجه مالك رأيت أعلام الآخرة في وجهه، فإذا تكلم علمت أن الحق يخرج من فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قال أبو مصعب كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء. فلما ضرب قيل له لو خففت في هذا قليلاً. فقال ماينبغي لأحد أن يعمل لله عملاً إلا حسنه، والله تعالى يقول: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً. قال ابن وهب: ما رأت عيني قط أروع من مالك بن أنس. وذكر ابن القاسم أن خادم مالك قالت له: إن لمالك اليوم بضع وأربعين سنة. قلما يصلي الصبح إلا بوضوء العمة. قال ابن المبارك رأيت مالكاً فرأيته من الخاشعين وإنما رفعه الله بسريرة بينه وبينه، وذلك أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول من أحل أن، يفتح له فرجة في قلبه وينجو من غمرات الموت وأهوال يوم القيامة فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية وروى نحوه عن مطرف. قال ابن مهدي: ما رأيت أحداً الله في قلبه أهيب منه في قلب مالك بن أنس. وفي رواية أجل مكان أهيب. قال ابن أبي أويس كان مالك يأمر بالمعروف ويحث عليه. قال مصعب بن عبد الله كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده تغير لونه وانحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه. فقيل له يوماً في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فقال لو رأيتم لما أنكرتم علي ما ترون كنت آتي محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله على حديث إلا بكى حتى نرحمه، ولقد أتى جعفر بن محمد وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر. قال مالك ولقد اختلفت إليه زمان فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صائماً، وإما يقرأ القرآن. وما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على الطهارة: ولا يتكلم فيما لا يغنيه. وكان من العباد الزهاد الذين يخشون الله وما أتيته قط إلا ويخرج الوسادة من تحته ويجعلها تحتي وأخذ يعدد فضائله. وما رواه من فضائل غيره من أشياخه في خبر طويل. قال بعضهم رأيت مالكاً صامتاً لا يتكلم ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، إلا أن يكلمه إنسان فيسمع منه ثم يجيبه بشيء يسير. فقيل له في ذلك فقال وهل يكب الناس في جهنم إلا هذا وأشار إلى لسانه. ولقد أن رجلاً دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد فإذا قال هو فكيف بنا إلا أن يتغمدنا الله برحمته. وقال مالك كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأتعظ أياماً بنفسي. قال بشر بن عمر كان مالك لا يضحك فقيل له في ذلك فقال الضحك يدعو إلى السفه وقد بلغني أن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تبسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قال ابن وهب كان في كم مالك منديل مطوي على أربع طاقات فإذا سجد سجد عليه فقيل له في ذلك فقال أفعله لئلا يؤثر الحط على جبهتي فيظن الناس أني أقوم الليل. قال ابن وهب وكان أكثر عبادة مالك في السر بالليل والنهار حيث لا يراه أحد. قال أبو بكر الأوسي كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين وكان كثير القراءة طويل البكاء. وقال ابن مهدي سمعت مالكاً يقول لو علمت أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها. قال مطرف كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يلتزمه الناس ويقول لا يكون العالم عالماً حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لا يكون عليه فيه إثم. قال الشافعي رأيت بباب مالك كراعاً من أفراس خراسان وبغال مصر فقلت ما أحسنها! فقال هي هبة مني إليك. فقلت دع لنفسك منها دابة تركبها. قال أنا أستحي من الله أن أطأ تربة نبي الله بحافر دابة. قال أبو عمران الصدفي دخلت على مالك وعليه ثياب صوف. فقال أخرجوه فقلت لا تفعل يا أبا عبد الله إنما أتيتك لأنك من ورثة الأنبياء. فسألته عن جوائز السلطان فكرهها، فقلت له فإنك تقبل؟ فقال أتريد أن، تبوء بإثمي وإثمك؟ فقال المسيبي: ما كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: الصبيان هم؟ قال لا. قال أمجانين؟ قال لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاً. قال مالك ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا. قال الرجل يل يأكلون ثم يقومون فيرقصون نوائب ويلطم بعضهم رأسه وبعضهم وجهه فضحك مالك ثم قام فدخل منزله. فقال أصحاب مالك للرجل لقد كنت يا هذا مشؤوماً على صاحبنا، لقد جالسناه نيفاً وثلاثين سنة فما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم. قال يحيى بن الزبير قال لي مالك اعتزلت أنت وعبد الله بن عبد العزيز؟ قلت نعم. قال عجلتم، ليس هذا أوانه. ثم لقيت مالكاً بعد عشرين سنة فقال هذا أوانه ثم اعتزل ولزم بيته. قال بعضهم لم يشهد مالك الجماعة والجمعة سنين. قال محمد بن عمر لما خرج محمد بن الحسن لزم مالك بيته فلم يخرج منه حتى قفل محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 قال الواقدي ومصعب بن عبد الله كان مالك يحضر المسجد ويشهد الجمعة والجنائز ويعود المرضى ويجيب الدعوة ويقضي الحقوق زماناً، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف ثم ترك عيادة المرضى وشهود الجنائز فكان يأتي أصحابها ويعزيهم، ثم ترك مجالسة الناس ومخالطتهم والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجمعة ولا يعزي أحداً ولا يقضي له حقاً، فكان يقال له في ذلك فيقول ما يتهيأ لكل أحد أن يذكر ما فيه. وفي بعض الرواية من الأعذار أعذار لا تذكر. فاحتمل الناس له كل ذلك. قال عتيق بن يعقوب ومصعب فلما حضرته الوفاة سئل عن تخلفه عن المسجد قال عتيق بن يعقوب وكان تخلفه عنه قبل موته بسنين فقال لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم؟ سلس بولي. فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة استخفافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي. وفي طريق آخر أنه قال خيفة أن آتي منكراً وفي رواية خلف بن محمد عنه أني ضعفت عن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وقيل بل كان عراه فتق من الضرب الذي ضرب فكانت الريح تخرج منه فقال كرهت أن أوذي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يعقوب بن عبد الرحمان كان مالك لا يتكلم عند طلوع الشمس ولا عند غروبها. وقال ابن وهب كان لا يفتي ولا يتكلم حتى تطلع الشمس. زاد مروان بن محمد وسعيد بن الجهم وكان يسبح ويذكر الله إذا طلعت الشمس. قال مروان قام إلى حلقته وذاكر أصحابه إلى حلقته وقال السلام عليكم. قال مطرف لقد رأيته يوماً وهو جالس في المجلس بعد الصبح يدعو ووجهه يصفر ويخضر حتى أطال الدعاء فأتاه سائل عن مسألة فقطع عليه فالتفت مغضباً، فقال يأت أحدكم الرجل وهو في دعائه وقد فتح الله عليه منه ما شاء أن يفتحه مما يستدعي به الإجابة فيقطع ذلك عليه فلا يعود أبداً. قال ابن أبي حازم كان بين رجل من قريش ومالك كلام، فقال له مالك إن كنت تريد عيبي فسلط الله عليك من يخرجك من بيتك شر مخرج فلما صلى بنا إمامنا الصبح جلس في محرابه، فقام فيه فرأى عمر بن الخطاب معه حرسي يقول اخرج الحمار الضال من المسجد. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بل حلاله وحرامه وسنن نبيه، وما يقرب إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فأنبته الإمام لينبه الناس على الرجل، وقد أخرج من المسجد ووضع في عنقه حبل. وجيء به إلى دار السلطان فأخبر الناس الإمام برؤياه فأخبر الرجل بالقصة فجعل يضرع لمالك ويقول خلني يا خير من يقول حدثنا. فاستغفر له مالك. قال أبو مصعب سمعت مالكاً يقول إني لأذكر وما في وجهي طاقة شعر وما منا أحد يدخل المسجد إلا معتماً إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بشر بن عمر جئت مع مالك من منزله حتى دخل المسجد فانتهى إلأى جماعة فوسع لي في صدرها فأبى وجلس حيث انتهى به المجلس فقلت في نفسي هذا رجل منصف كنا لا نوسع لأحد في مجلسه لا يقعد في صدور مجالس الناس. قال الحارث بن مسكين رحم الله مالكاً، ما كان أصونه للعلم وأصبره على الفقر ولزوم المدينة. أمر له بجوائز ثلاثة آلاف دينار فما استبدل منزلاً غير المنزل الذي كان فيه ولا استفاد منه غلة ولا صنعة ولا تجارة. قال ابن القاسم كان لمالك رحمه الله تعالى أربعمائة دينار يتجر له بها، فمنها كان قوام عيشه ومصلحته. قال ابن أبي أويس كان مالك قد أكثر النظر قبل موته بسنين وكان كثير القراءة طويل البكاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 رحمه الله. باب شدة مالك في إقامة حدود الله تعالى قال القاضي رضي الله تعالى عنه قال البهلول بن عبيدة كنت عند مالك فأتى برجل ملباً فقالوا له: الأمير يقرئك السلام ويقول لك هذا خنق رجلاً فقتله. فقال مالك اخنقوه حتى يموت كما فعل به وركبت مالك صفرة وتشوق حتى مد به بصره فأخبروه أنهم خنقوه فرجع إلى وجهه الدم. فقال ابن كنانة في ذلك: فقال أظننتم أني ندمت؟ لكني خفت أن يبطل حكم من أحكام الله تعالى. قال عبد الجبار بن عمر حضرت مالكاً وقد أحضره الوالي في جماعة من أهل العلم فسألهم عن رجل عدى على أخيه حتى إذا أدركه دفعه في بئر وأخذ رداءه وأبوا الغلامين حاضران فقال جماعة من أهل العلم الخيار للأبوين في العفو أو القصاص. فقال مالك أرى أن تضرب عنقه الساعة. فقال الأبوان ليقتل ابن بالأمس ونفجع في الآخر اليوم؟ نحن أولياء الدم وقد عفونا. فقال الوالي يا أبا عبد الله ليس ثم طالب غيرهما. وقد عفوا. فقال مالك: والله الذي لا إله إلا هو لا تكلمت في العلم أبداً أو تضرب عنقه، وسكت. وكلم فلم يتكلم فارتجت المدينة وصاح الناس إذا سكت مالك فمن يسأل ومن يجيب؟ وكثر اللغط وقالوا لا أحد بمصر من الأمصار مثله، ولا يقوم مقامه في العلم والفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فلما رأى الوالي عزمه على السكوت قدم الغلام فضرب عنقه فلما سقط رأسه التفت مالك إلى من حضر وقال: إنما قتلته بالحرابة حين أخذ ثوب أخيه ولم أقتله قوداً إذ عفا أبواه، فانصرف الناس وقد طابت نفوسهم حين رأوه بر في يمينه إذ كان يعلم أنه لا يحنث. قال حفص بن عياث: كان مالك يجلس عند الوالي فيعرض عليه أهل السجن فيقول اقطع هذا، واضرب هذا مائة، ومائتين، واصلب هذا. كأنه أنزل عليه كتاب. قال أشهب دعا بعض الأمراء مالكاً يستشيره في شيء فدخل عليه وأشار بقطع قوم وقتل قوم وخرج علينا وهو يبتسم ويقرأ: لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 باب في حكمه ووصاياه وآدابه قال الفقيه القاضي رضي الله عنه قال مالك رحمه الله إنما التواضع في الدين والتقى لا في (كذا) قال التواضع ترك الرياء والسمعة. وقال شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال زيد بن الحسن سمعته يقول الزهد في الدين، طيب المكسب، وقصر الأمل. وقال الدنيا صحة البدن وطيب النفس من النعيم. وقال التواضع في التقى والدين وليس في اللباس. وروى ابن المبارك عنه أنه قال له فرجة في قلبه أفضل منه في العلانية. وقال ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب. وقد روي هذا الكلام عن ابن مسعود. وقال ابن وهب عنه طلب العلم حسن. لمن رزق خيره، وهو قسم من الله، ولكن انظر ما يلزمك حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه. وقال العلم نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وروى ابن عبد الحكم سئل مالك عن طلب العلم أفريضة هو؟ قال: لا. ولا يطلب إلا ما ينتفع به ولا يطلب الأغاليط والإكثار. وفي رواية أشهب سئل مالك عن طلب العلم أفريضة هو؟ قال لا والله. ما كل الناس عالم وإن منهم من لا آمره بطلبه. ثم قال: أما على كل الناس فلا. قال ابن وهب: قال مالك: خير الأمور ما كان منها ضاحياً بيناً أمره وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك فخذ بالذي هو أوفق. وقال لابن وهب أد ما سمعت وحسبك ولا تحمل لأحد على ظهرك فإنه كان يقول أخسر الناس من باع آخرته بدنياه. وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره. وقال ينبغي للرجل إذا خول علماً وصار رأساً يشار إليه بالأصابع أن يضع التراب على رأسه ويمتهن نفسه إذا خلا بها ولا يفرح بالرئاسة. فإذا اضطجع في قبره ووسد التراب رأسه ساءه ذلك كله. وقال لأبي مسهر: لا تسأل عما لا تريد فتنسى ما تريد، فإنه من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه. وقال من إذالة العلم أن تجيب كل من سألك ولا يكون إماماً من حدث بكل ما سمع. ومن إذالة العلم أن ينطق به قبل أن يسأل عنه. وقال إن المسألة إذا سئل فيها الرجل ولم يجب واندفعت عنه فإنما هي بلية صرفها الله عنه. وقال لا يصلح طلب لمفلس ولا لغني متكبر. وقيل له ما أفضل ما يصنع العبد؟ قال طلب العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وقال لولا النسيان لكان أكثر الناس علماء. وقال إنما أهلك الناس تأويل ما لا يعلمون. وقيل له العالم يخطىء الذي دل عليه من الخير أكثر، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟ ولو لم يأمر بالمعروف إلا لمن ليس فيه شيء ما أمر أحداً. وقال من شأن ابن آدم أن لا يعلم ممن يعلم. أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً. وقال إنما الحكمة مسحة ملك على قلب العبد. وقال أيضاً الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد. وقال أيضاً يقع في قلبي أن الحكمة الفقه في دين الله. وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله. وقال أيضاً الحكمة التفكير في أمر الله تعالى والإتباع له. وقال في سماع ابن وهب وابن القاسم الحكمة طاعة الله والإتباع لها، والفقه في الدين والعمل به. وقال الفروي سمعته يقول لا خير في شيء من الدنيا وإن كثر بفساد دين الرجل أو مروءته وقال تعلموا الحلم قبل العلم. وقال نقاء الثوب وحسن الهمة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزء من النبوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقال لبعض بني أخيه: إذا تعلمتم علماً من طاعة الله فلير عليك أثره، ولير فيك سمته، وتعلم لذلك العلم الذي علمته السكينة والحلم والوقار، وقال حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا الله. وقال أدب الله القرآن وأدب رسوله السنة وأدب الصالحين الفقه. وقال لا يستكمل الرجل الإيمان حتى يحرز لسانه. وقال لبعض أصحابه لا تكثر الشخوص من بيتك إلا لأمر لا بد منه، ولا تجلس في مجلس لا تستفيد منه علماً. وقال سفيان دخلت على مالك فقلت له إن العلم كثير. فقال العلم شجرة أصلها بمكة وأغصانها بالمدينة وأوراقها بالعراق وثمرتها بخراسان فقال اكتب يا غلام فهذه من طرائف مالك. قال الزبيري: قلت لمالك: إن من الناس من إن أمرتهم ليطيعونني ومنهم من إن أمرتهم أتأذى منهم. الشعراء يهجونني والشاطرون يضربونني ويحبسونني فكيف أصنع. فقال إن خفت وظنت أنهم لا يطيعونك فدع، وأنكر بقلبك، ولك في ذلك سعة. ومن لم تخش منه فأمره وانهه وخاصة إذا أردت به الله تبارك وتعالى، فإذا كنت كذلك لم تر إلا خيراً وبخاصة إذا كان فيك شيء من لين. ألا ترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قول الله تعالى إلأى موسى وهارون فقولا قولاً ليناً .... الآية. ينظر في أمرك ويقبل منك. تعوضت وخرجت من جملة أهل القرآن، وقال في سماع أشهب وابن القاسم من صدق في حديثه متع بعقله ولم يصبه ما يصيب الناس من الهرم والخرف. وقال له رجل خرفت فقال له إنما يخرف الكذابون. وقال ابن المبارك سمعته يقول لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه. وروى ابن أبي أويس عنه أنه قال بغيتك منها ما يكفيك، فأقل عيشها يغنيك، وما قل وكفي خير مما أكثر وألهى. قال ابن وهب سمعه يقول ما زهد أحد في الدنيا إلا أنطقه الله بالحكمة. وقال خالد بن حميد: سمعته يقول عليك بمجالسة من يزيد في علمك قوله، ويدعوك لحال الآخرة فعله، وإياك ومجالسة من يعللك قوله ويعيبك دينه ويدعوك إلى الدنيا فعله. وقال ابن القاسم ذكر مالك القصد وفضله ثم قال إياك من القصد ما تحب أن ترفع به. قيل له لم؟ قال تعجب به. قال مطرف: قال رجل لمالك أوصني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 قال: إذا هممت بأمر من طاع الله فلا تحبسه إن استطعت فواقاً حتى تمضيه، فإنك لا تأمن الأحداث، فإذا هممت بغير ذلك فإن استطعت أن لا تمضه فواقاً فافعل، لعل الله يحدث له تركه، ولا تستحي إذا دعيت لأمر ليس بحق أن تقول قال الله تعالى في كتابه: والله لا يستحي من الحق. وطهر ثيابك وأنقها عن معاصي الله وعليك بمعالي الأمور وكرائمها واتق رذائلها وما سفسف منها فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفافها، وأكثر تلاوة القرآن واجتهد أن تأتي عليك ساعة من ليل أو نهار إلا ولسانك رطب في ذكر الله. ولا تمكن الناس من نفسك، واذهب حيث شئت. وقال ما أسر عبد سريرة خير إلا ألبسه الله رداءها. ولا أسر سريرة سوء إلا ألبسه الله رداءها. وقال مالك للقعنبي مهما تلاعبت بشيء فلا تلعبن بدينك. وقال لابن أخيه إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر فأقلا منه وتفهما فيه. وقال ما أكثر أحد قط فأفلح. قال ابن وهب: قال لي مالك إنه لم يكن يسلم رجل حدث بكل ما سمع. ولا يكون إماماً ابداً. ومن أذل إهانة العلم عند من لا يطيعك. قال ابن نافع قال مالك كل شيء ينفع فضله إلا الكلام. قال مطرف وكان مالك إذا ودعه أحد من طلبة العلم عنده، يقول لهم: اتقوا الله في هذا العلم ولا تنزلوا به دار مضيعة، وبثوه ولا تكتموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 قال مصعب كان مالك إذا أتاه موت أحد قال الحمد لله رب العالمين الذي أبقانا بعده، اللهم لا تجعله لنا فتنة. قال ابن عبد الحكم وابن وهب سمعت مالكاً يقول أول المعاصي الكبر والحسد والشح. حسد إبليس وتكبر فقال خلقتني من نار وخلقته من طين وقال الله تعالى فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة. فشح آدم حتى أكل منها. وقال أبو قرة: سمعت مالكاً يقول من علم أن قوله من عمله قل كلامه. والقول من العمل. قال أبو قرة هو أشد من العمل، به يكون الإيمان والكفر. وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول من رضي بشيء كفاه وفيه يعني القناعة منفعة لأهل الورع. وقال مالك: خرق المرء أشد من العدم. والخرق لا ينمي له شيئاً. قال ابن وهب وقال لمالك رجل أوصني. فقال: أوصيك أن تعمل صالحاً وتأكل طيباً. وقال سمعته يقول: من أراد الله به خيراً أجمع عليه شمله ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجمع عليه أمره ومن بلواه عليه أن يشتت عليه أمره. وسمعته يقول التقرب من أهل الباطل هلكة. القول الباطل يصد عن الحق. ومن سعادة المرء أن يوفق للخير، ومن شقاوة المرء أن لا يزال يخطىء وسمعته يقول إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في الأرض، وقيل الباطل وكثيره هلكة، وإن لزوم الحق نجاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قال وسمعته يقول حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من قبله. وقال من آداب العالم أن لا يضحك إلا تبسماً. وقال لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر ما يعقل يعبد ربه. وقال الإسلام واسع إذا لم يرده بالحق فالإسلام أوسع من ذلك. فلا ينبغي أن يضيق، زاد في موضع آخر إذا أقيمت حدوده. قال وسمعته يقول إن المؤمن حسن المعونة يسير المؤونة والفاجر بضده، وفي سماعته عنه. قال كنت أسمع بهذا الرجل يخطىء الخطيئة فيكون من رأس عمله في الخير، زاد في سماع أشهب ينيب إلى الله تعالى. وقال القعنبي سمعته يقول: إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه. قال ابن وهب: وسمعته يقول الكلام في هذه المسائل المعضلة تزيل الفتيا وتفسدها. وسمعته يقول كثرة الكلام تمج العلم وتذله وتنقصه. قال وذكر الكلام ومراجعة الناس فقال من صنع هذا ذهب بهاؤه، وكان يكره كثرة الكلام ويعيبه. وقال لا يوجد إلا في النساء والضعفاء. وكان يقال نعم الرجل فلان إلا أنه يتكلم كلام شهر في يوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 قال خالد بن خراش: قلت لمالك: أوصني. قال عليك بتقوى الله وطلب العلم عند أهله. قال ابن القاسم: كنا إذا ودعنا مالكاً يقول: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه. وقال لن ينال هذا ألأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر. قال أبو قرة سمعت مالكاً يقول تعلموا من العلم حتى لبس نعله. وقال أشهب سمعته يقول لا خير في رفع الصوت في المسجد لا في العلم ولا في غيره. أدركت الناس قديماً يعيبون ذلك. وقال ابن وهب عنه إذا كثر الكلام كان فيه الخطأ وإذا أصيب الجواب قل الخطاب. وكان يقول حين يسأل ويستفتى الكلام بالباطل يصد عن الحق. وقال لابن وهب اتق الله واقتصر على علمك فإنه لم يقتصر أحد على علمه إلا نفع وانتفع، فإن كنت تريد لما طلبت ما عند الله فقد أصبت ما تنتفع به إن كنت تريد بما تعلمت الدنيا فليس في يديك شيء. وفي رسالة إلى أبي قرة إني أرى الصواب في ترك تعلم المسائل التي قد ينتفع ببعضها إذا كان فيه من المضرة ما يخاف على صاحبها الخطأ والفتنة، فكيف بغيرها من المسائل، التي لا منفعة فيها. قال ابن وهب قال مالك إنما قبحت ألأشياء حتى يتعدى بها منازلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وقال: طلب الرزق من شبهه أحسن من الحاجة إلى الناس. وقال الزهد في الدنيا طيب المكسب وقصر الأمل. وقال الناس في العلم اربعة: رجل علم فعمل به فمثله في كتاب الله قوله: إنما يخشى الله من عباده العلماء. ورجل علم به ولم يلمه فمثله في كتاب الله: الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ..... الآية. ورجل علم علماً وعلم ولم يعمل به فمثله في كتاب الله: إن هم إلا كالأنام. وقال من عيب القاضي إذا عزل لم يرجع لمجلسه الذي كان يتعلم وأفتى مالك لبعض الشعراء بما لا يوافقه فقال يا أبا عبد الله أتظن الأمير لم يكن يعرف هذا القضاء الذي قضيته. بلى. وإنما أرسلنا إليك لتصلح بيننا فلم تفعل بالله لأقطعن جلدك هجاءاً. فقال له مالك يا هذا أتدري ما وصفت به نفسك؟ وصفتها بالسفه والدناءة وهما اللذان لا يعجز عنهما أحد فإن استطعت فأت غيرهما مما تنقطع دونه الرقاب من الكرم والمروءة. وقال ابن وهب قال مالك كفى بك ظالماً ألا تزال مخاصماً. وقال من روى عن ضعيف فقد بدأ بنفسه وقال الإعراب جلي اللسان. وقال أهوال الدنيا ثلاثة ركوب البحر وركوب فرس عربي وتزويج حرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 باب ذكر الموطأ وتأليف مالك إياه قال الإمام القاضي رضي الله عنه. قال ابن مهدي ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من الموطأ. وقال لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك. قال ابن وهب من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئاً. وقال الشافعي ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من كتاب مالك. وقال ما على الأرض كتاب أصح من كتاب مالك وفي رواية أفضل وما كتب الناس بعد القرآن شيئاً هو أنفع من موطأ مالك. وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو الثريا. قال سعيد بن أبي مريم وكان ابنا أخته بالعراق ولو جمعا عمرهما بالعراق ما أتيا بعلم يشبه موطأ مالك. وقال في رواية أخرى: ما جاء بسنة مجمع عليها خلاف ما في الموطأ. وقال ما أحسن لمن تدين به. قال الدراوردي: كنت نائماً في الروضة بين القبر والمنبر فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من القبر متكئاً على أبي بكر وعمر ثم رجع فقمت إليه فقلت له يا رسول الله من أين جئت؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 قال مضيت إلى مالك بن أنس فأقمت له الصراط المستقيم. قال فأتيت مالكاً فأصبته يدون الموطأ فأخبرته بالخبر فبكى، وروى أبو مصعب أن أبا جعفر قال لمالك ضع للناس كتاباً أحملهم عليه. فكلمه مالك في ذلك فقال ضعه فما أحد أعلم منك. فوضع الموطأ فلم يفرغ منه حتى مات أبو جعفر. وقال أبو مصعب سمعت مالكاً يقول دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض وقد نزل عن شماله إلى بساط وعلى البساط برذونان قائمان من حين دخلت إلى حين خرجت لا يبولان ولا يروثان أدباً وإذا بصبي يخرج ثم يرجع، فقال أتدري من هذا؟ قلت لا؟ قال هو ابني وإنما يفزع من شيبتك وفي رواية إنه استنكر قرب مجلسك مني ولم يربه أحد قط، وحقيق أنت بكل خير وخليق بكل إكرام، وقد كان أدناه إليه وألصق بركبته فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر فقال لي أنت أعلم الناس وفي رواية أهل الأرض. فقلت لا والله يا أمير المؤمنين. قال بلى. ولكنك تكتم ذلك. وفي رواية فما أحد أعلم منك اليوم بعد أمير المؤمنين. ولئن بقيت لأكتبن كتابك بماء الذهب، وفي رواية كما تكتب المصاحف ثم أعلقها في الكعبة وأحمل الناس عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فقلت ياأمير المؤمنين لا تفعل فإن في كتابي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة وقول التابعين ورأياً هو إجماع أهل المدينة لم أخرج عنهم، غير أني لا أرى أن يعلق في الكعبة. قال: وقال له أبو جعفر وهو بمكة اجعل العلم يا أبا عبد الله علماً واحداً. قال فقلت له يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رآه، وفي طريق، إن لأهل هذه البلاد قولاً ولأهل المدينة قولاً ولأهل العراق قولاً تعدوا فيه طورهم. فقال أما أهل العراق فلست اقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم وفي رواية فقلت له إن أهل العراق لا يرضون علمنا. فقال أبو جعفر يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط وفي بعضه إن أبا جعفر قال له إني عزمت أن أكتب كتبك هذه نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها من هذا العلم المحدث فإنني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعملهم. فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لو طاوعتني على ذلك لأمرت به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وفي رواية إن المنصور قال له: يا أبا عبد الله ضم هذا العلم ودون كتباً وجنب فيها شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود وأقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة. وروي أن المهدي قال له ضع كتاباً أحمل الأمة عليه، فقال له مالك أما هذا الصقع يعني المغرب، فقد كفيته وأما الشام ففيه الأوزاعي وأما أهل العراق .... فهم أهل العراق. قال عتيق الزبيري وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه سنة ويسقط منه حتى بقي هذا ولو بقي قليلاً لأسقطه كله. يعني تحرياً. قال سليمان بن بلال لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث أو قال أكثر. فمات وهي ألف حديث ونيف يلخصها عاماً عاماً بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين. وقال مالك وقد ذكر له الموطأ فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والتابعين ورائى وقد تكلمت برأي على الاجتهاد وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا. ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره. وقال أبو موسى الأنصاري وقعت نار في منزل رجل فاحترق كل شيء في البيت إلا المصحف والموطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 قال ابن أبي أويس قيل لمالك ما قولك في الكتاب ألأمر المجتمع عليه عندنا وببلدنا وأدركت أهل العلم وسمعت بعض أهل العلم، فقال أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هو رأيي ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم وهم الذين كانوا يتقون الله فكثر علي فقلت رأيي، وذلك إذا كان رأيهم مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا وما كان أرى فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه. وما قلت الأمر عندنا فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم. كذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قلت فيه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنه في قول العلماء وأما ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موضع الحق أو قريب منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لقيت فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وذكر أحمد بن عبد الله الكوفي في تاريخه أن كل ما قال فيها مالك في موطأه الأمر المجتمع عليه عندنا فهو من قضاء سليمان بن بلال وهذا لا يصح قال: وما أرسله فيه عن ابن مسعود، فرواه عبد الله بن إديس الأودي وما أرسله عن غيره فعن ابن مهدي. قال الدراوردي إذ قال مالك على هذا فأدركت أهل العلم ببلدنا والأمر عندنا فإنه يريد ربيعة وابن هرمز. قال عمر بن أبي سلمة ما من مرة أقرأ الجامع من الموطأ إلا رأيت في منامي رجلاً يقول لي هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما قدمنا المدينة بوسيلة إلى مالك، قال لي أحضر غداً بكتاب المدبر والمكاتب فإنهم اجتمعوا على أن يقرأوه فبت ليلتين فرأيت قائلاً يقول، وأنا نائم: غداً يقرأ على مالك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فغدوت إلى مالك ومعي الكتابان فلما رآني قال لي أي شيء معك؟ قلت المكاتب والمدبر. فقال إنهم قد بدا لهم وأجمعوا على قراءة الجامع فذكرت له الرؤيا فقال لي صدق، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صفوان بن عمر بن عبد الواحد عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوماً فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً قل ما تتفقهون فيه. قال غيره أول من عمل الموطأ عبد العزيز بن الماجشون عمله كلاماً بغير حديث فلما رآه مالك قال ما أحسن ما عمل ولو كنت أنا لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ثم عزم على تصنيف الموطأ. فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطئات فقيل لمالك شغلت نفسك بهذا الكتاب وقد شاركك فيه الناس وعملوا أمثاله. فقال ائتوني بها فنظر فيها ثم نبذها وقال لتعلمن ما أريد به وجه الله تعالى. قال مطرف قال لي مالك ما يقول الناس في موطأي قلت الناس رجلان محب مطرٍ، وحاسد مفتر. فقال إن مد بك العمر فسترى ما يراد به الله. قال فكأنما ألقيت تلك في الآبار. ما سمع منها شيء بعد ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما وضع مالك الموطأ جعل أحاديث زيد في آخر الأبواب فقلت له ذلك فقال إنها كالشرح لما قبلها. قال أبو داود قيل لمالك ليس في كتابك حديث غريب. قال سررتني. وقال أبو زرعة لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث مالك التي بالموطأ أنها صحاح كلها لم يحنث، ولو حلف على حديث غيره كان حانثاً. قال ابن أبي سوار الجدي سمعت مالكاً يقول الأمر عندنا كذا فأخبرت به ابن أبي ذئب فقال ما يحل لمالك أن يقول هذا، ليس هذا مما نحن عليه. قال فأعلمت مالكاً. فقال أنا لا أعتد برأي ابن ذئب أعتد بمن أدركت من أهل العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ذكر ما قيل في الموطأ من الشعر من ذلك قول سعدون الورجيني: أقول لمن يروي الحديث ويكتب ... ويسلك سبيل الفقه فيه ويطلب إذا أحببت أن تدعى لدى الخلق علماً ... فلا تعد ما تحوي من العلم يثرب أتترك داراً كان بين بيوتها ... يروح ويغدو جبرئيل المغرب ومات رسول الله فيها وبعده ... بسنته أصحابه قد تأدبوا وفرق شمل العلم في تأليفهم ... وكل امرىء منهم له فيه مذهب فخلصه بالسبك للناس مالك ... ومنه صحيح في المجس وأجدب فأبرى بتصحيح الرواية داءه ... وتصحيها فيه دواء مجرب ولو لم يلح نور الموطأ لمن يرى ... بليل عماه ما درى أين يذهب فبادر موطأ مالك قبل فوته ... فما بعده إن مات للخلق مطلب ودع للموطأ كل علم تريده ... فأن الموطأ الشمس والغير كوكب هو الأصل طاب الفرع منه لطيبه ... ولم لا يطيب الفرع فالأصل طيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 هو العلم عند الله بعد كتابه ... وفيه لسان الصدق بالحق معرب لقد أعربت آثاره ببيانها ... فليس لها في العالمين مكذب ومما به أهل الحجاز تفاخروا ... بأن الموطأ في العراق محبب ومن لم تكن كتب الموطأ ببيته ... فذاك من التوفيق بيت مخيب فيعجب منه إذ علا في حياته ... تعاليه من بعد المنية أعجب جزا الله عنا في الموطأ مالكاً ... بأفضل ما يجزى اللبيب المهذب لقد أحسن التحصيل في كل ما روى ... كذا فعل من يخشى الأحد ويرهب لقد فاق أهل العلم حياً وميتاً ... فأضحت به الأمثال في الناس تضرب وما فاقهم إلا بتقوى وخشية ... وإذ كان يرضى في الإله ويغضب فلا زال يسقي قبره كل عارض ... بمندفق ظلت غزاليه تسكب وتسقي قبوراً حوله دون سقيه ... فيصبح فيها بينها وهو معشب وما بي بخل أن تسقى كسقيه ... ولكن حق العلم أولى وأوجب وقال أبو الطاهر أحمد بن محمد الأصفهاني في ذلك: وأعم الكتب نفعاً للفقيه ... موطأ مالك لا شك فيه فلا تبدأ بشيء من سماع ... سواه عن إمام ترتضيه وصاحب من يعظمه وجانب ... كتاب جميع من قد يزدريه وقال القاضي المؤلف رضي الله تعالى عنه في ذلك: إذا ذكرت كتب العلم فخيرها ... كتاب الموطأ من تصانيف مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 أصح أحاديثاً وأثبت سنة ... وأوضحها في الفقه نهجاً لسالك أسانيد أمثال الرواسي صحيحة ... ورأي كأنوار النجوم الشوابك هو الحجة الغراء والعصمة التي ... ينجي هداها من جميع المهالك به يهتدى في كل أمر ويقتدى ... وفيه جلاء المشكلات الحوالك عليه مضى الإجماع في كل أمة ... على رغم خشيوم الحسود المهالك وأول تصنيف تهذب فاغتدى ... يعلم كلاً نهج تلك المسالك بتأليف أشكال وحسن عبارة ... وإتقان ترتيت لتلك المدارك فجاءكما جاء الوشام منظماً ... وخلص محض التبر تخليص سابك فعنه فخذ علم الديانة خالصاً ... ومنه استفد علم النبي المبارك وشد به كف الضنانة تحتوي ... فمن حاد عنه هالك في المهالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 باب في اعتناء الناس بكتاب الموطأ وتهمهم به (هكذا؟) قال القاضي رضي الله تعالى عنه لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ فإن الموافق والمخالف اجتمع على تقديره وتفضيله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه، وقد ذكرنا ذلك في باب قبله طرفاً ونذكر بعد هذا باباً فيمن رواه من الجملة عن مالك إن شاء الله تعالى، فأما من اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك فعدد كثير من المالكيين وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية وجمع كثير منهم حديث مالك من الموطأ وغيره فممن ألف في ذلك القاضي اسماعيل صنع موطأ المسند على رجاله إلى مالك بن أنس من موطئات مالك وسائر حديثه. وألف مسند حديث مالك وألف أيضاً شواهد الموطأ وألف مسند الموطأ قاسم بن أصبغ وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن القابسي في كتابه الملخص وألف مسند الموطئات أبو ذر الهروي وألف حديث مالك أبو بكر القبّاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وألف مسند الموطأ أيضاً أبو الحسن علي بن خلف السجلماسي روى عنه عبدوس وأبو محمد ومثله للمطرز ولأبي عبيد الله الجيزي ولأحمد بن سدّاد الفارسي والقاضي ابن مفرّج ولابن الأعرابي ومسد حديث مالك رواية محمد بن شروس الصنعاني وحديث مالك رواية ابن نافع الزبيري وألف مسند حديث مالك أبو عبد الرحمان النسائي وأبو أحمد بن عدي الجرجاني، وأحمد بن إبراهيم بن جامع البكري وبندار وابن الأعرابي وابن عفير وأبو عبد الله السراج النيسابوري، وأبو بكر ابن زيد النيسابوري وأبو العرب التميمي وأبو حفص بن شاهين وعبد العزيز ابن سلمة وأبو القاسم الحافظ الأندلسي، وأبو عمر بن عبد البر، والقاضي ابن مفرج، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 ومحمد بن عيشون الطليطلي، وألف أبو القاسم الجوهري أيضاً مسند حديث مالك خارج الموطأ، وأبو بكر محمد بن عيسى الحضرمي، وعبد الغني ابن سعيد، وأبو الفضل بن أبي عمران الهروي. وألف أبو الحسن الدارقطني أيضاً وله في اختلاف الموطئات، وألف غريب حديث مالك دعلج بن أحمد وابن الجارود وقاسم بن أصبغ ولأبي الحسن الدارقطني تأليف في الأحاديث التي خولف فيها مالك والبزاز تأليف في نحو هذا، ومحمد بن المظفر الحافظ كتاب فيما وصله مالك مما ليس في الموطأ وألف مسند الموطأ رواية القعنبي أبو عمر بن خضر الطليطلي وإبراهيم بن نصر السرقسطي ولأبي بكر بن أحمد ابن سعيد بن فرضخ الإخميمي مسند الموطأ أيضاً. وألف مسند حديث مالك أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زير وأسامة بن علي بن زيد المصري وموسى بن هارون الحامل وأبو نعيم الجيلي القلانسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وللقاضي أبو بكر ابن السليم كتاب التوصيل مما ليس في الموطأ، ولأبي الحسن بن أبي طالب العابر كتاب الموطأ ولأبي بكر بن ثابت الخطيب كتاب طرق الموطأ وصنع يحيى ابن يزيد عليه كتابه في شرحه في كتابه المسمى بالمغرب. ولابن مزين أيضاً كتاب في رجاله ولابن وهب فيه شرح، وكذلك لعيسى بن دينار ولعبد الله بن نافع الصائغ ولحرملة بن يحيى ولمحمد بن سحنون ولابن حبيب ولمسلم تأليف في شيوخ مالك وللبرقي كتاب في رجال الموطأ وكذلك لأبي عمر الطلمنكي وكذلك للقاضي أبي عبد الله بن الحذاء ولأبي عبد الله بن مفرج كتاب في ذلك، وللبرقي أيضاً شرح تغريبه ولأحمد بن عمران الأخفش كتاب في غريبه ولابن القاسم العثماني المضري شرح غريبه أيضاً ولأبي جعفر الدراوردي كتابه النامي في شرحه، ولأبي مروان القنازعي كتابه المشهور في شرحه أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ولابن خوصا جمع الموطأ من رواية ابن وهب وابن القاسم. ورأيت بقبرة جمعاً من رواية يحيى الأندلسي وأبي مصعب ولأبي عمر بن عبد البر كتاباه الكبيران المشهوران في الكلام عليه وشرح معانيه كتاب التمهيد وكتاب الاستذكار، وله كتاب التقصي في مسند حديثه ومرسله وكتاب في حديث مالك خارج الموطأ وللقاضي أبي وليد الباجي كتابه المشهور أيضاً عليه المنتقى وكنا الإيماء وكتاب الأستيفاء. لكن هذا لم يتم. وهو كان أكبرها وأجمعها. وله كتاب اختلاف الموطئات أبي الوليد بن الصفار كتاب المرغب في شرحه المسمى بالحلي ولأبي بكر بن سائف المغلي كتابه في شرحه المسمى بالمسالك ولأبي محمد بن حزم الظاهري كتاب في شرحه أيضاً. ولابن أبي صفرة فيه شرح. وكان شيخنا الفقيه أبو الوليد بن العواد ألف تأليفاً جمع فيه بين الاستذكار والتمهيد. توفى رحمه الله قبل تمامه. ولأبي محمد بن السيد البطاليسي النحوي كتاب في شرحه كبير سماه المقتبس. وتوجيه الموطأ لأبي عبد الله بن عيشون الطليطلي ولأبي سعيد عمران بن عبد ربه المعافري الأندلسي المعروف بالدباغ عمل في دلائل أبي محمد الأصيلي وتأليفه على أبواب الموطأ، وقفت عليه، ولأبي القاسم بن الجد الكاتب كتاب في اختصار التمهيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 لابن عبد البر في حديث الموطأ، وبعضهم ينسبه إلى أبي عبد الله مالك بن وهب، وللشيخ حازم بن محمد بن حازم كتابه المسمى بالسائر على أثار الموطأ في أربعين جزءاً. وفي الموطأ تفسير أيضاً لرجل قرطبي يعرف بأبي الحسن الإشبيلي. ولرجل آخر يسمى باب سراحيل ولأبي عمر الطلمنكي فيه تعبير لم يكلمه. وكذلك القاضي أبي عبد الله بن الحذاء وشرح مسند الموطأ للقاضي يونس بن مغيث وهو شرح الملخص. وشرحه أيضاً أبو القاسم المهلب ابن أبي صفرة وأخوه أبو عبد الله. وصنع القاضي أبو بكر العربي كتاباً سماه القبس. ولأبي محمد بن يربوع المحدث الشهير ممن نسيناه كتاب في الكلام على أسانيده سماه تاج الحلية وسراج البغية. وللشيخ عاصم النحوي كتاب شرحه لم يكمله أيضاً. وشرح الملخص أبو بكر بن موهب الغبري في أسفار كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 باب في ذكر من روى الموطأ من الجلة والأئمة المشاهير الثقات عن مالك رحمه الله تعالى وروى عن أكثرهم في المشرق والمغرب منهم: عبد الرحمان بن القاسم وعبد الله بن وهب، ومطرف بن عبد الله، وأبو مصعب الزهري، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ومصعب بن عبد الله الزبيري وأخوه بكار، ويحيى ابن يحيى النيسابوري، ويحيى بن يحيى الأندلسي، وشبطون بن عبد الله الأندلسي، ومحمد بن طاووس الصناعاني، وأبو قرة السكسكي، ومحمد بن المبارك الصوري، وعبد الله بن سلمة القعنبي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وعبد الله بن يوسف التيسي، وأبو حذافة السهمي بغدادي، وأحمد بن منصور التامراني، وقتيبة بن سعيد خرساني، ومعمر بن عيسى مدني، وعتيق بن يعقوب الزهري، أسد بن الفرات القروي وإسحاق بن عيسى الطباع شامي، وجرير المعنى بغدادي، وحفص بن عبد السلام أندلسي، وأخوه حسان، وحبيب بن أبي حبيب كاتبه، وخلف بن جرير بن فضالة قروي، وخالد بن نزار الإيلي، والغازي بن قيس الأندلسي، وقرعوس ابن العباس أندلسي، ومحمد بن يحيى أندلسي، ومحرز المدني، وأراه بن هارون ابن عبد الله الهديري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ويحيى بن مالك وأخته فاطمة، ويحيى بن صالح الرحاضي شامي، ويحيى بن مضر أندلسي، وسعيد بن الحكم، وابن أبي مريم مصري، وسعيد بن كثير بن عفير مصري، وسعيد بن أبي هند أندلسي، وسعيد بن عبدوس أندلسي، وسليمان بن برد مصري، وعبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، وعد الرحيم بن خالد المصري، وسويد بن سعيد الحدثاني، وإسماعيل بن أبي أويس وأخوه أبو بكر، وعلي بن زياد التونسي، وعباس بن ناصح أندلسي، وعيسى بن شجرة التونسي، وأيوب بن صالح المزني، وسكن الرملة. عبد الرحمان بن هند طليطلي أندلسي، وعبد الرحمان بن عبيد الله أشبوني أندلسي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وعبد الله بن جبار الدمشقي وسعيد بن داود بن سعيد بن أبي زبير مدني. قال القاضي رضي الله تعالى عنه فهؤلاء الذين حققنا أنهم رووا عنه الموطأ ونص على ذلك أصحاب الأثر والمتكلمون في الرجال وقد ذكروا أيضاً أن محمد بن عبد الله الأنصاري البصري أخذ الموطأ عنه كتابة وإسماعيل ابن صالح أخذه عنه مناولة وأما أبو يوسف القاضي فرواه عن رجل عنه، وذكروا أن الرشيد وبنوه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عنه الموطأ وقد ذكر عن المهدي والهادي أنهما سمعا منه ورويا عنه، وأنه كتب الموطأ للمهدي ولا مرية إن رواة الموطأ من هؤلاء من جلة أصحابه ومشاهير رواته ولكن إنما ذكرنا من بلغنا نصاً سماعه له منه وأخذه له عنه، أو من اتصل إسنادنا له فيه عنه، والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته أو وقفت عليه أو كان في روايات شيوخنا رحمهم الله أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطئات نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 باب ذكر تأليفه غير الموطأ قال القاضي الإمام رضي الله تعالى عنه اعلموا وفقكم الله تعالى أن لمالك رحمه الله تعالى أوضاعاً شريفة مروية عنه، أكثرها بأسانيد صحيحة في غير فن من العلم، لكنه لم يشتهر عنه منها ولا واظب على إسماعه وروايته غير الموطأ حذفه منه وتلخيصه له شيئاً بعد شيء وسائر تأليفه، إنما رواها عنه من كتب بها إليه أو سأله إياها أحد من أصحابه ولم تروها الكافة فمن أشهرها رسالته إلى ابن وهب في القدر والرد على القدرية وهو من خيار الكتب في هذا الباب الدالة على سعة علمه بهذا الشأن رحمه الله وقد حدثنا بها غير واحد من شيوخنا بأسانيدهم المتصلة إلى مالك رحمه الله تعالى، منهم الفقيه أبو محمد بن عتاب حدثنا بها هو وغيره عن حاتم بن محمد عن أبي محمد ابن دنير الطليطلي، عن أبي الفرج عبد الله بن عبد الله الوارث عن محمد بن أحمد ابن سعدون، عن محمد بن سحنون، عن عبد العزيز بن يحيى القرشي، عن ابن وهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وأخبرنا بها القاضي أبو علي الصدفي عن القاضي أبي الوليد البادي عن أبي محمد بن الوليد عن أبي محمد بن أبي زيد عن سعدون بن أحمد الخولاني عن عبد الرحمان عن ابن وهب. وهذا سند صحيح مشهور الرجال وكلهم ثقات ومنها كتاب في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، وهو كتاب جيد مفيد جداً قد اعتمد الناس عليه في هذا الباب وجعلوه أصلاً وعليه اعتمد أبو محمد عبد الله بن مسرور الفقيه القروي في تأليفه في هذا الباب وصدر بفصوله وقد أدخل جميعها صاحب كتاب أقوال مالك أبو عبد الله المعيطي وأبو عمر بن المكوى في جامع كتابهما الكبير. قال سحنون سمعته من ابن نافع وهو مما انفرد بروايته (عن مالك) عبد الله ابن نافع الصائغ. قال سحنون سمعته من ابن نافع وهو في رواتنا عنه من طريق غير واحد من شيوخنا عن أبي القاسم الطرابلسي عن ابن دنير عن أبيه عن عبد الرحمان عن بعض أصحابه عن محمد بن ميمون عن إبراهيم بن هلال ومطرف بن قيس عن سحنون عن عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك وعن غير واحد، عن أبي عبد الله بن عتاب عن أبي القاسم بن يحيى عن أبي جعفر تميم بن محمد عن أبيه عن عبد الجبار بن خالد وأحمد بن أبي سليمان عن سحنون قال أبو القاسم وحدثنا به أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خالد عن إبراهيم بن هلال عن سحنون، وهذا أيضاً سند صحيح رواته كلهم ثقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وزمن ذلك رسالة مالك في الأقضية كتب بها إلى بعض القضاة، عشرة أجزاء أخبرنا بها الفقيه أبو إسحاق بن جعفر عن ابن سهل عن حاتم بن محمد عن ابن دنير عن أبي جعفر بن رحمون عن سعيد بن شعبان عن محمد بن يوسف بن مطروح عن عبد الله بن عبد الجليل مؤدب مالك بن أنس ومن ذلك رسالته إلى أبي غسان محمد بن مطرف في الفتوى وهي مشهورة يرويها عنه خالد بن نزار ومحمد بن مطرف وهو من كبار أهل المدينة قريناً لمالك يروي عن أبي حازم وزيد بن أسلم وروى عنه الثقات ووثقوه. وقد نقل أبو إسحاق بن شعبان أقوال مالك في هذه الرسالة منها في كتابه ومن ذلك رسالته إلى هارون الرشيد المشهورة في الآداب والمواعظ حدث بها بالأندلس أولاً ابن حبيب عن رجاله عن مالك. وحدث بها آخراً أبو جعفر بن عون الله والقاضي أبو عبد الله بن مفرج عن أحمد بن زيدويه الدمشقي ولم يرجع السند وحدثنا شيوخنا بذلك عن أبي عمر الطلمنكي عنهما ولم يرجع سند هذه الرسالة من هذا الطريق وأما من غيره فقد أخبرنا به القاضي الشهير أبو علي وغير واحد من شيوخنا عن أبي الحسن بن الغيور البغدادي عن أبي الحسن العبيدي عن أبي عمر بن حيوه عن أبي عمر وعبيد الله بن عثمان العثماني عن أبيه عن عبد الله ابن نافع بن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وأخبرنا بهذا أيضاً أبو محمد بن عتاب عن أبي عبيد الله بن نبات عن ابن مفرج عن أبي جعفر محمود بن عبد الحميد الفرغاني عن عثمان ابن عبد الله بن سعيد بن المغيرة العثماني. قال حدثنا عبد الله بن نافع الزبيري قال هذا كتاب وضعه مالك بن أنس أدباً للناس، قال أبو عبد الله بن عتاب هذا الإسناد وهم. ولا شك في سقوط رجل محدث منه، وقد أنكرها بعض مشائخنا إسماعيل القاضي والأبهري وأبو محمد بن أبي زيد وقالوا إنها لا تصح وإن طريقها لمالك ضعيف وفيه أحاديث لا نعرفها. قال الأبهري فيها أحاديث منكرة تخالف أصوله، قالوا وأشياء فيها لا تعرف من مذهب مالك ورأيه. وقد أنكرها أصبغ بن الفرج أيضاً، وحلف ما هي من وضع مالك. ومن ذلك كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمان المخزومي أخبرنا به أبو جعفر أحمد بن سعيد عن أبي عبد الله بن محمد بن الحسن المقرىء عن محمد بن علي بن العلا المصيصي عن أبيه عن أبي الحسن بن أحمد الرزاز عن أبي بكر الجعدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 عن أبي العباس محمد بن أحمد بن هانىء عن يحيى بن عتيك القروي عن خالد بن عبد الرحمان المخزومي عن مالك وذكر الخطيب أبو بكر في تاريخه الكبير عن أبي العباس السراج النيسابوري أنه قال هذه سبعون ألف مسألة لمالك وأشار إلى كتب منضدة عنه كتبها. قال القاضي المؤلف رضي الله تعالى عنه هي جواباته في اسمعة أصحابه الني عند العراقيين وقد نسب إلى مالك أيضاً كتاب يسمى كتاب السر من رواية ابن القاسم عنه حدثنا به بالإجازة أبو محمد بن عتاب عن أبي عمر بن الحذاء عن أبيه أبو عبد الله عن أبي القاسم الحسين بن عبد الله بن أحمد العثماني عن محمد بن عبد العزيز بن الوزير بن ضافي الحراني يعرف بالجروي عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك. وأما رسالته إلى الليث في إجماع أهل المدينة فقد رويناها أيضاً وذكرناها أول الكتاب بنصها لأنها صغيرة واحتجنا إلى ذكرها في موضعها والله ولي التوفيق بعزته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 في أخبار مالك مع الملوك ووعظه إياهم وحسن مقامه عند الولاة وزيارته لهم وأخذه منهم جوائزهم قال القاضي رضي الله تعالى عنه. سئل عيسى بن عمر المدني، أكان مالك يغشى الأمراء؟ قال لا. إلا أن يبعثوا إليه فيأتيهم وقيل لمالك تدخل على السلاطين وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله وأين المتكلم بالحق؟ وقال مالك حق على كل مسلم أو رجل فعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأن العالم إنما يدخل يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل. قال عتيق بن يعقوب: كان مالك إذا دخل على الوالي وعظه وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يوماً على هارون الرشيد فحثه على مصالح المسلمين قال له لقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور يخرج الدخان من لحيته وقد رضي الناس منكم بدون هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ودخل عليه مرة وبين شطرنج منصوب وهو ينظر فيه فوقف مالك ولم يجلس وقال أحق هذا يا أمير المؤمنين؟ قال لا. قال: فما بعد الحق إلا الضلال فرفع هارون رجله وقال لا ينصب بين يدي بعد. وقال لبعض الولاة يوماً أتفقد أمور الرعية فإنك مسؤول عنهم فإن عمر بن الخطاب قال والذي نفسي بيده لو هلك حمل بشاطىء الفرات ضياعاً لظننت أن الله يسألني عنه يوم القيامة. وقال الحنيني سمعت مالكاً يحلف بالله ما دخلت على أحد منهم يعني السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبي، حتى أقول له الحق. قال خلف بن عمر قلت لمالك الناس يكثرون أنك تأتي الأمراء. فقال إن ذلك الحمل من نفسي وذلك أنه ربما استشير من لا ينبغي. قال لي آخر لولا أني رأيتهم ما رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة سنة معمولاً بها. قال ابن وهب وابن عبد الحكم: قال مالك دخلت على أبي جعفر فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبل يده المرتين والثلاث فرزقني الله العافية من ذلك فلم أفعل. وروى أنه كان جالساً مع أبي جعفر فعطس أبو جعفر فشمته مالك فلما خرج أنكر عليه الحاجب ذلك وتهدده إن عاد لتشميته فلما كان بعد ذلك جلس عنده فعطس أبو جعفر فنظر مالك للحاجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ثم قال للمنصور أي حكم تريد يا أمير المؤمنين أحكم الله أم حكم الشيطان؟ قال لا بل حكم الله. قال يرحمك الله. قال يعيش بن هشام الخابوري: كنت عند مالك إذ أتاه رسول المأمون ويقال الرشيد وهو الصحيح ينهاه أن يحدث بحديث معاوية في السفرجل. قال: ثم تلا مالك قول الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا .... الآية. ثم قال: والله لأخبرن بها في هذه الصرفة واندفع فقال: حدثنا نافع عن ابن عمر، قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدي إليه سفرجل فأعطى أصحابه واحدة واحدة وأعطى معاوية ثلاث سفرجلات وقال القن بهن في الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم السفرجل يذهب طحاء القلب. قال المؤلف رحمه الله تعالى لم يدرك مالك أيام المأمون توفى قبلها وذكر المأمون هنا وهم. قال الزبيري عن مالك لما دخلت على أبي جعفر وذكر قصته معه في حمل الناس على كتبه نحو القصة التي قدمها. قال كلمته في الناس وحضضته عليهم وجعل يسألني عن بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وعن ابني وعن أهلي فأخبره، فقال لي أترى أني أعرف منزلك ولا أعرف أمر الناس؟ ثم قال لي إن رابك ريب في عامل المدينة أو سوء سيرة في الرعية فاكتب إلي بذلك أنزل بهم ما يستحقون، وقد كتبت إلى عمالي بهذا أن يسمعوا منك ويطيعوا في كل ما تعهد إليهم فانههم عن المنكر وأمرهم بالمعروف تؤجر على ذلك وأنت حقيق أن تطاع ويسمع منك ثم خرجت فتبعتني صلة ذكر أنها كانت خمسة آلاف وكسوة حسنة ولابنه محمد ألف. قال فلما لحقه الخصي جعلها على منكبه وكذلك كانوا يفعلون يخرج بها على الناس فانحنى مالك عنها كراهية لذلك فناداه أبو جعفر بلغها إلى رجل أبي عبد الله. ولما قدم المهدي إلى المدينة جاءه الناس مسلمين عليه فلما أخذوا مجالسهم استأذن مالك فقال الناس اليوم يجلس مالك آخر الناس فلما دنى ونظر إلى ازدحام الناس، قال يا أمير المؤمنين أين يجلس شيخك مالك؟ فناداه عندي يا أبا عبد الله. فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى وأجلسه حتى أتى المهدي بالطست والإبريق فغسل يده ثم قال للغلام قدمه إلى أبي عبد الله فقال له مالك: يا أمير المؤمنين ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 من الأمر المعمول به ارفع يا غلام فأكل معه غير متوضئ فذكر قصته معه في الموطأ وروى أن مالكاً دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة فجلس ساعة ثم دعا بالطعام والوضوء فقال ابتدئ أولاً بأبي عبد الله. فقال له مالك إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده. فقال لم؟ قال ليس هذا هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من زي الأعاجم وقد نهى عمر عن أمر الأعاجم وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك أأترك يا أبا عبد الله؟ فقال أي والله. فما عاد إلى ذلك عبد الملك بن صالح. قال مالك ولا آمر الرجل أن لا يغسل يده ولكنه إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه فلا. أميتوا سنة الأعاجم وأحيوا سنن العرب. أما سمعت قول عمر تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وذي العجم. قال حسين بن عروة ولما قدم المهدي المدينة بعث إلى مالك بألفي دينار أو بثلاثة آلاف دينار مع الربيع فلما خرج من عنده قال يا جارية لا تمسي هذا المال فإني (قد) تفرست حين نظرت وجه الربيع ورأيت فيه أمراً منكراً، ولهذا المال سبب فلما حج المهدي وقدم المدينة أتاه الربيع بعد ذلك فقال له أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويجب أن تعادله إلى مدينة السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 فقال مالك اقرىء أمير المؤمنين السلام وقل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والمال عندي على حاله أخرجيه يا جارية. أخرجيه. فأبى الربيع أن يقبله فلم يزل به مالك حتى أخذه فأتى الربيع المهدي فغمه رد المال فلما كان وقت رحلته شيعه الناس فوصلهم ووجه إلى مالك فودعه ولم يأمر له بشيء فلما أتى منزله وجه له ستة آلاف دينار. فالتفت إلى من كان حاضراً وقال من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً مما ترك. وقال لمالك بعض ولاة المدينة: لم لا تخضب كما يخضب أصحابك؟ فقال مالك لم يبق عليها من العدل إلا أن أخضب؟ وأثني على والي المدينة بحضرته عند مالك فغضب مالك. ثم التفت إليه وقال إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك من الخير ما ليس فيك أوشك أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك فاتق الله في التزكية منك لنفسك وترضى بها من يقولها لك في وجهك فإنك أنت أعرف بنفسك منهم. فإنه بلغني أن رجلاً امتدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قطعتم ظهره أو عنقه لو سمعها ما أفلح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم احثوا التراب في وجوه المداحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وناظر أبو جعفر المنصور مالكاً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرفع أبو جعفر صوته، فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد إن الله تعالى أدب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم في هذا المسجد إن الله تعالى أدب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم .... الآية ومدح قوماً فقال إن الذين يغضون أصواتهم .... الآية. وذم قوماً فقال: إن الذين يناودنك .... الآية وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان أبو جعفر وقال له أبو جعفر أدعو مستقبلاً القبلة أم مستقبلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به إلى ربك يشفعك قال الله تعالى: ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك .... الآية. قال أسامة بن زيد: لما قد أبو جعفر دخلنا مسلمين عليه وأخذنا مجالسنا فبينما نحن كذلك إذ دخل مالك فقال له أبو جعفر إلى ها هنا يا أبا عبد الله. ولو تركتم قول علي وابن عباس، وأخذتم بقول ابن عمر، قال لأنه آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المنصور والله يا أبا عبد الله ما بقي على الأرض أعلم مني ومنك. خذ بقول ابن عمر ودعني مما سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 قال مصعب لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال، فلما أبصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلم عليه وسايره. فالتفت مالك إلى المهدي فقال: يا أمير المؤمنين إنك تدخل الآن بالمدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك وهم أولاد المهاجرين والأنصار فسلم عليهم فإن ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ولا خير من المدينة. فقال له ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ قال لأنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض غير قبر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبر محمد عندهم فينبغي أن يعلم فضلهم على غيرهم. ففعل المهدي ما أمره به مالك. فلما دخل المدينة ونزل وجه بغلة إلى مالك ليركبها ويأتيه فرد البغلة وقال إني لأستحي من الله أن أركب في مدينة، فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ماشياً. وكانت به علة فاتكأ على المغيرة المخزومي وعلى ابن حسن العلوي وعلى ابن أبي علي اللهلي وهؤلاء علماء المدينة وأشرافها. فلا بصر به المهدي قال يا سبحان الله ترك ركوب البغلة إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقيض الله تعالى له هؤلاء فاتكأ عليهم، والله لو دعوتهم أنا إلى هذا ما أجابوني. فقال المغيرة يا أمير المؤمنين نحن قد افتخرنا على أهل المدينة لما اتكأ علينا. واستسقى مالك عند المهدي فأتي بقدح زجاج في أذنه حلقة فضة فأبى أن يشرب فأتي بكوز فخار فشرب فأمر المهدي بالحلقة فقلعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 قال معن دخل إبراهيم بن يحيى العباسي أمير المدينة يوماً على مالك ومالك حدث عهد بعلة فثبت مالك في مجلسه لم يقم له ولم يوسع، فجلس إبراهيم على أقل فراش مالك، ومالك لا يتزحزح فحادثة ساعة ثم قال له: ما تقول يا أبا عبد الله في محرم قتل قملة؟ قال لا يقتلها. قال فإنه قتلها فما فديتها؟ قال مالك لا يفعل. قال فعل. قال لا يفعل. قال أقول لك قد فعل فتقول لي لا يفعل. قال نعم. فقام إبراهيم مغضباً وسكت مالك ساعة ثم قال: إما يريدون أن يعبثوا بالدين، إنما الفدية على من قتلها غير غير عامد لقتلها. وهذا يريد أن لا يبقى في عسكره قملة على أحد من حشمه. قال معن وسأله إبراهيم هذا مالكاً لأن يكتب له كتاباً فكتب له، ثم دخل عليه مالك يوماً فقال له إبراهيم أحب أن تكتب لي كتاباً مكان ذلك الكتاب فقد ضاع. فقال مالك لم يضع أصلحك الله قال بلى، وحقك لقد ضاع، فعجل لي تاباً مثله. قال ما أنا يفاعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 قال له لم؟ قال لأنه لا يضيع كتاب مثلك. مر به يطلب تجده إن شاء الله. ثم عاد إليه بعد فقال علمت يا أبا عبد الله أنا طلبنا الكتاب فوجدناه. فقال الحمد لله أصبت حين طلبته. قال عتيق بن يعقوب خرجنا مع مالك إلى المصلى يوم عيد ومالك يمشي، وخرج عبد الملك بن صالح أمير المدينة في سلاح وتعبيه ورايات وأعلام فنظر إليهم مالك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون. فبلغ ذلك عبد الملك فأتاه في المصلى. فقال يا أبا عبد الله ما الذي أنكرت؟ قال ما رأيت معك. إنما أتى الناس الصلاة خاشعين يرجون المغفرة ولقد أخبرني يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح مكة في عشرة آلاف أو اثني عشر الآفاً وكان راكباً وحط راحلته وتحته قطيفة قيمتها أربعة دراهم منكس الرأس وهو يقول الملك لله الواحد القهار. وكان يأتي المصلى للعيدين والاستسقاء متوكئاً على عصا أو قوس منكساً رأسه خاشعاً. قال عتيق بن يعقوب دخل مالك يوماً على عبد الملك بن صالح وقد غضب على بعض أهل المدينة حتى بلغ ذلك منه. فقال له مالك قال كعب لعمر في التوارة مكتوب ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء. فقال عمر: لا من حاسب نفسه. فقال كعب ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 ووعظ المنصور في افتقاد أحوال الرعية فقال أليس إذا بكت ابنتك من الجوع جعلت الخادم تحت الرحى لئلا يسمعها الجيران؟ فقال مالك والله ما علم بهذا إلا الله. فقال له فعلمت هذا ولا أعلم حال الرعية؟ قال بعضهم لما قدم الرشيد المدينة وقال آخر: بعض الخلفاء أراد أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمالك ما ترى؟ فقال ما أرى. فغضب وقال: لقد زاد فيه معاوية. فقال مالك إن المنبر إذ ذاك كان صلباً فلست آمن إن نقضته أن تذهب البركة منه. وفي رواية أن يتهافت فيتشاءم الناس منك، ويقولون زال على يده أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أحسن الله جزاءك. فترك ما كان نواه. قال وشاور المهدي مالكاً في ثلاثة أشياء في الكعبة أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه فأشار عليه أن لا يفعل، وفي النبر أن ينفضه ويرده على ما كان عليه وذلك حين أراد أن يرد المنابر كلها صغاراً على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان يعني التي زادها معاوية، وأخشى إن نقضته أن يخرب وينكسر ولولا ذلك لرأيت أن ترده إلى حالته الأولى، وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارىء أن يقدمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 للصلاة فأشار عليه أن لا يفعل. وقال: هو إمام الآف أن يكون منه شيء من الغفلة فيحكى عنه. قال ابن عبد الحكم: استأذن المهدي على مالك فحبسه ساعة ثم أذن له، فلما دخل قال يا أمير المؤمنين إن العيال سمعوا بمجيئك فأحبوا أن يصلحوا من منزلهم. قال سعيد بن أبي زنبر: كتب مالك رحمه الله إلى بعض الخلفاء كتاباً يعظه فيه: أما بعد فإني كتبت إليك كتاباً لم آل فيه رشداً ولم أدخر فيه نصحاً. تحميد الله وأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتدبر ذلك بعقلك ورد فيه بصرك وأوعه سمعك واعقله بعقلك واحضره فهمك ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله تعالى في الآخرة. ذكر نفسك غمرات الموت وما هو نازل بك منه وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله تعالى ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النار وأعد له ما تسهل به عليك أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت أهل سخط الله وما صاروا إليه من أنواع العذاب وشدة نقمة الله وسمعت زفيرهم في النار وتنهيقهم مع كلوح وجوههم وطول غمتهم وتقلبهم في إدراكها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون يدعون بالثبور وأعظم من ذلك حسرة إعراض الله تعالى بوجهه وانقطاع رجائهم من روحه وإجابته إياهم بعد طول الغم أن اخسئوا فيها ولا تكلموني لم يتعاظمك شيء من الدنيا أردت به النجاة من ذلك ولا آمنك من هوله ولو قدمت في طلب النجاة جميع ما لأهل الدنيا كان ذلك صغيراً، ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 رأيت أهل طاعة الله وما صاروا إليه من كرامة الله ومنزلتهم مع قربهم من الله تعالى ونضرة وجوههم ونور ألوانهم وسرورهم بالنظر إليه والمكانة منه، والجاه عنده مع قربه منهم لتقلل في عينك عظيم ما طلبت به الدنيا فاحذر على نفسك حذراً غير تقرير وبادر إلى نفسك قبل أن تسبق إليها وما تخاف الحسرة فيه عند نزول الموت وخاصم نفسك لله تعالى على مهل وأنت تقدر بإذن الله تعالى على جر المنفعة، وصرف الحجة عنها قبل أن يوليك الله حسابها ثم لا تقدر على صرف المكروه عنها ولا جر المنفعة، وصرف الحجة عنها قبل أن يوليك الله حسابها ثم لا تقدر على صرف المكروه عنها ولا جر المنفعة إليها. اجعل الله من نفسك نصيبها بالليل والنهار، إن عمرك ينقص مع ساعات الليل. وأنت قائم على الأرض وهو يساربك، فكلما مضت ساعة من أجلك، والحفظة لا يغفلون عن الدق والجل من عملك حتى تملأ صحيفتك التي كتب الله عليك فعليك بخلاص نفسك إن كنت لها محباً، فاحذر وما قد حذرك الله منه تعالى فإنه يقول: ويحذركم الله نفسه، ولا تحقر الذنب الصغير مع ما علمت من قول الله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وقال: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. وحافظ على فرائض الله واجتنب سخط الله واحذر دعوة المظلوم واتق يوماً ترجع فيه إلى الله والسلام. وقال ابن نافع الصائغ كتب مالك إلى بعض الخلفاء كتاباً فيه: اعلم أن الله تعالى قد خصك من موعظتي إياك بما نصحتك به قديماً وأتيت لك فيه ما أرجو أن يكون الله تعالى جعله لك سعادة وأمراً جعل به سبيلك إلى الجنة فلتكن رحمنا الله وإياك فيما كتبت إليك مع القيام بأمر الله وما استدعاك الله في رعيته فإنك المسؤول عنهم صغيرهم وكبيرهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وروي في بعض الحديث أنه يؤتى بالوالي ويده مغلولة إلى عنقه فلا يفك عنه إلا العدل، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول والله إن هلكت سخلة بشط الفرات ضياعاً لكنت أرى الله تعالى سائلاً عنها عمر. وحج عشرة سنين وبلغني أنه كان ما ينفق في حجة إلا اثني عشر ديناراً. وكان ينزل في ظل الشجرة ويحمل على عنقه الدرة ويدور في الأسواق يسأل عن أحوال من حضره وغاب عنه. وبلغني أنه وقت أصيب حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه، فقال المغرور من غررتموه، لو أن ما على وجه الأرض ذهبا لا افتديت به من أهوال المطلع. فعمر رحمه الله تعالى كان مسدداً موفقاً مع ما قد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم مع هذا خائف لما تقلد من أمور المسلمين فكيف من قد علمت. فعليك بما يقربك إلى الله وينجيك منه غداً، أو احذر يوماً لا ينجيك فيه إلا عملك. ويكون لك أسوة بما قد مضى من سلفك وعليك بتقوى الله فقدمه حيث هممت وتطلع فيما كتبت به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 إليك في أوقاتك كلها وخذ بنفسك فتعاهدها والأخذ به والتأديب عليه وأسأل الله تعالى التوفيق والرشاد إن شاء الله تعالى. قال عبد الله بن مسلم الخياط لما قدم الرشيد لبست ثياباً وغدوت على مالك وقلت يتوكأ علي فأصيب بسببه من أمير المؤمنين مالاً. فغدا مالك متوكئاً علي يرافقه يحيى. فأجاز مالكاً بأربعة آلاف دينار وأجاز ابنه بخمسمائة دينار وجاءته من الرشيد صلة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وقال له رجل خراساني ما تقول يا أبا عبد الله في رجل يقوم عليه ديناً أعطى بعضاً وترك بعضاً أله أن يأخذ منه؟ فقال مالك إذا كان الرجل يغني عن المسلمين ما لا يغنيه المسلمون عن نفسه أخذ منه، ولقد كنت أنظر البارحة في قصة المحبين إلى أن طلع الفجر. وقال الحارث عن ابن القاسم كان مالك يقول أما الخلفاء فلا شك يعني أنه لا بأس به، وأما من دونه فإن فيه شيئاً. وقال ابن أبي زنبر أجازه هارون بثلاثة آلاف فقال له رجل من الزهاد يا أبا عبد الله ثلاثة آلاف تأخذها من أمير المؤمنين كأنه يستكثرها. فقال مالك: إذا كان مقدار ما لو كان إمام عدل. فأنصف أهل المروءة أصابه شبيه لذلك لم أر به بأساً وإنما أكره الكثير الذي لا شبيه أن يستحقه صاحبه. وسأله غير واحد عن جائزة السلطان فقال لا تأخذها فقال أنت تقبلها فقال أتريد أن تبوء بإثمي وإثمك. وقال لآخر أجئت تبكتني بذنوبي. وقال محمد بن سلمة دخل مالك على المهدي فقال له أوصني. فقال أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عليه وسلم قال المدينة مهاجري وبها قبري وبها بعثتي وأهلها وجيراني وحقيق على أمتي حفظي في جيراني فمن أحفظهم كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال. فأخرج المهدي عطاءاً كثيراً وطاف بنفسه على دور المدينة فلما أراد الخروج دخل عليه مالك فقال له يا مالك أما أني محتفظ بوصيتك التي حدثتني بها ولئن سلمت لا غفلت عنهم. وقال أبو مصعب قال لي مالك دخلت على المهدي فذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنقي الناس كما ينقي الكير خبث الحديد. فأخذ المهدي زئيرة من فراشه وقال والله لا واسيتهم ولو بهذه. قال مالك ثم دخلت على هارون فسألني عن أهل المدينة فحدثته بأحاديث المهدي فقال لي: ما قال المهدي؟ فأعلمته بما كان فقال أنا ابن أبي هارون الزهري سمعت مالكاً يقول: لما قدم هارون كنت ممن لقيته فقلت يا أمير المؤمنين إن لأهل المدينة حقاً فاستوص بهم خيراً. فقال وما حقهم؟ فقلت هل تعلم أنه يعرف على وجه الأرض قبر نبي غير نبيك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال لا. قلت فلو أن أهل المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 خرجوا عنها وجب عليك أن تجيء بمن يسكنها ويجاوز قبره، وتجري عليه الرزق؟ فقال لي لو لم أملك من الدنيا إلا ردائي هذا لواسيتهم به. قال مصعب وابن زنبر استفتى والي المدينة مالكاً في مسألة فأبى أن يجيبه وقال كيف أجيبك وقد وليت على المسلمين خيثم بن عراك؟ فعزله وأفتاه. قال يحيى بن بكير جئت الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة، وسأل مالكاً فقال صيام ثلاثة أيام. فقال لم أنا معدم؟ وقال عبد الرزاق دخل مالك على لأبي جعفر، فقال من بالباب من أصحاب نافع؟ فقال مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب. قال أو ليس يزن بذلك الرأي؟ يعني القدر. قال يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي أسمعناها منك إن كنا لنزنك بها. قال المفضل بن محمد بن حرب دخل مالك والقاضي ابن عمران في أشراف المدينة على المنصور فكان كل من أراد الانصراف ألقى أبو جعفر كمه فقبله فقال بعضهم لأقتدين اليوم بهذا الشيخ يعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 مالكاً فإن قبل الكم قبلت وإن لم يفعل لم أفعل. فقام مالك وانصرف ولم يقل وأردت ذلك فلم تقلني ركبتاي حتى قبلت. قال معن أفتى مالك عند والي المدينة بقتل رجل فأمر الوالي بضرب وسطه. فتهيأ مالك للقيام وقال لا أقعد بمكان يمثل فيه بأحد. قال الله تعالى (فضرب الرقاب) قال الوالي اقعد أبا عبد الله لا تضرب وسطه أضربوا عنقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 باب من أخبار مالك مع العلماء رحمه الله تعالى مع العلماء ومناظرته معهم قال القاضي رضي الله تعالى عنه: قال عبد العزيز بن يحيى لما قدم أمير المؤمنين المدينة ومعه أبو يوسف والبرمكي وكان قاضياً، لمالك (كذا) يحب خطه ووقعه. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين إن مالكاً حمل الناس على رأيه ورأى الاستخفاف برأي أهل العراق، فلو جمعت بينه وبين أبي يوسف فإن كان الحق بيده، عرفت ذلك وإن كان الحق بيد غيره عرفت ذلك. فوجه أمير المؤمنين إليه يقرؤه السلام ويأمره بالمشي إليه. فكتب إليه مالك إن كان أمير المؤمنين أراد أن يسألني عما أشكل عليه فأرى أن يكتب إلي بذلك ليأتيه فيه الجواب فإني ضعيف البدن لا تحملني رجلاي. فقال له يحيى يسمع الناس أنك وجهت إلى مالك فلم يأتك فاكتب إليه بعزيمة. ففعل. فجاء مالك فدخل عليه متوكئاً على ثلاثة نفر من أصحابه، المغيرة المخزومي وعبد الرحمان بن عبد الله العمري وسعيد بن سليمان المساحقي العامري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 فلما جلسوا وكان هؤلاء الثلاثة يومئذ أشراف المدينة والمنظور إليهم فجاء أبو يوسف حتى جلس مستقبل مالك. فقال يا أمير المؤمنين أتأذن لي في مناظرة أبي عبد الله؟ فقال: ناظره. فقال أبو يوسف: إن أبا عبد الله يقول لو أن رجلاً أخذ لوزة فحلف بالطلاق أن فيها توأماً ثم كسرها كسراً عنيفاً فلم يعرف ما فيها لكان حانثاً. فقال المساحقي أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فلصقت بمالك فقلت له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 إن هذا يعنتك فلا تجبه وأمير المؤمنين لا يكره ذلك، فلما انصرفنا عاد ابو يوسف فلم يجبه مالك وقال إنما حسبته مسترشداً وأظنه إنما يسأل معنتاً فلا أجيبه. قال بعضهم سأل أبو يوسف الرشيد أن يأمر مالكاً يناظره فقال ناظره يا أبا الله. فقال مالك إن العلم ليس كالتحرش بين البهائم والديكة. فلم يعف هارون عنه وجعل يقول ناظره. ومالك ساكت. فقال عبد الملك بن الماجشون إن شيخنا يا أمير المؤمنين قد جل عن المناظرة والكلام ونحن تلاميذه نقوم مقامه فنحن نناظره ونتكلم عنه فإن رأى خطأ لم يسكت عليه. فقال هارون: ذاك. فلما تناظرا ذكر أبو يوسف صداق المرأة وقال لها إن تصنع به ما شاءت (إن شاءت) رمت به وجاءته في قميص وإن شاءت جعلته في خيط الدوامة. فقال مالك لو أن أمير المؤمنين خطب إمرأة من أهله وأصدقها مائة ألف درهم فجاءته في قميص لم يحكم لها بذلك. ولكن يأمرها أن تتجهز وتتهيأ له بما يشبهه مما يتجهز به النساء فقال هارون أصبت قال وأخذ الحديث إلى أن قال أبو يوسف أجرى النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الخيل في الغابة؟ فقال لا يا أمير المؤمنين إنما هي الغابة. وهي وراءك. قال أبو محمد الزهري وقال أبو يوسف لمالك ما تقول في رجل بعث مع رجل ديناراً وبعث معه آخر بدينارين فخلطهما، ثم سقط له منها دينار. فقل مالك: أما واحد فلصاحب الاثنين لا شك فيه وواحد فيه شك فيتشاطرانه. قال عبد الملك ابن الماجشون سأل رجل من أهل العراق مالكاً عن صدقة الحبس. فقال إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحاً قال: لا حبس عن كتاب الله. فضحك مالك وكان قليل الضحك ثم قال: رحم الله شريحاً، لم يدر. ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا. وقال سعيد بن داود بن أبي زنبر: دخل هارون المدينة ومعه أبو يوسف فأتى إليه مالك، فسلم عليه وأبو يوسف عن يسار الرشيد وأبناؤه الأمين والمأمون تجاهه، فلما دخل مالك غمز ابنيه فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قوما بين يدي عمكما، حتى يخرج. يعني مالكاً. قال أبو يوسف: فدخل وكان على مالك ثياب عتيقة سود، فو الله ما رأيت قط أحسن منه فيها. فتزحزح هارون له حتى أجلسه معه على المنصة فكأن أبا يوسف حسده فقال له ما تقول يا أبا عبد الله في محرم كسر ثنيه ظبي؟ فقال مالك عليه الفدية. فضحك أبو يوسف وقال: وهل للظبي ثنايا؟ فرفع مالك رأسه إلى هارون وقال له يا سبحان الله ما علمت أن أحداً يذكر العلم فيضحك. فلا وقر العلم ولا مجلس أمير المؤمنين وإنما أجبته إن كان الظبي في حالة يكون له سن في موضع الثنايا، ففعله محرم فعليه الفدية وإلا فقد علمته ما علم، وليس هذا ينبغي لناس أن يعلموه ولا هو واجب عليهم. ولكن ما تقول في إمام عرفة إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة. هل عليه أن يجهر بالقراءة فإن هذا واجب على المسلمين أن يعملوه. فقال أبو يوسف يجهر بها. فقال مالك أخطأت والله ما يذهب هذا على صبيان مكة وسودانهم دون غيرهم، الجمعة إذا وافقت عرفة لا يجهر فيها يتوارثها الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. ثم التفت إلى هارون وقال يا أمير المؤمنين سفيه سأل عن مسائل لسفهاء، توليه على أمور المسلمين، وقام فلما كان وقت الرواح عاد إليه وهو متكىء على المغيرة والمساحقي فسلم عليه فالتفت أبو يوسف إلى هارون فقال يا أمير المؤمنين أبو عبد الله لا يحدث عن إباء أمير المؤمنين العباس وعبد الله وعلي، وإنما يحدث عن معاوية ومروان وابنه، قد جعل أحاديثهم سنناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 قال، ومالك ساكت. فقال المغيرة يأذن لي أمير المؤمنين في الكلام؟ قال تكلم. قال تكلم. قال إن عبد الله يحدث عن غباء أمير المؤمنين العباس وابنه وعن بني أعمامه علي وأولاده وعن أعطاف أمير المؤمنين معاوية ومروان وابنه ولا يحدث عن فلان الفلاني ولا يحدث عن فلان القتات ولا فلان صاحب الشعر وهؤلاء معروفون لا شك فيهم. يعني الذي روى مالك عنهم. فنكس أبو يوسف رأسه وسكت. فقام مالك، فقال يا أمير المؤمنين قد حضرتني العلة التي ذكرتها لتسعفني. وأما أبو يوسف فرجل بطال ومن علم أن الزمان يفنى والموت يأتي يكون عمله بخلاف عمل يعقوب. قال سعيد بن أبي مريم ومصعب بن عيد الله: قدم هارون المدينة ومعه أبو يوسف فدخل عليه مالك فرفعه فوق أبي يوسف. وقال مصعب: فقال مالك أين يجلس الشيخ فقال هارون حيث شاء فجلس فوق أبي يوسف. فقال له: يا يعقوب ناظر أبا عبد الله. فقال أبو يوسف ما تقول في رجل قال لإمرأته أنت طالق ملء سكرجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فأطرق مالك ساعة ثم رفع رأسه، فقال له هارون: أجبه يا أبا عبد الله. فقال مالك: نظرت مسألة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين فلم أجد أصل مسألته فيها، ولا خير في علم لا يكون فيما ذكرته. فالتفت هارون إلى أبي يوسف وقال له يا يعقوب إن أبا عبد الله اجتث مسائلك من اصلها. قال مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين ليس عنده في ذلك شيء. ولو كان لأجاب، وضحك. فالتفت إليه مالك وقال: ساء ما أدبك أهلك أتضحك في مجلس أمير المؤمنين؟ فخجل أبو يوسف ثم سأل أمير المؤمنين مالكاً عن مسائل فأجابه فيها فسر بذلك. وكان في المجلس رجل يقال له سندل فقال إن أبا عبد الله مرة يخطىء ومرة لا يصيب. فقال مالك كذا الناس. فلما فكر في قوله غضب غضباً شديداً ثم قال يا أمير المؤمنين. قال الله: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله .... الآية. وما ظننت أن أحداً من المسلمين يذكر الله ورسوله فلا يمرض قلبه خوفاً لهما. قال الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة .... الآية. فلا عرفتم حق عظمة الله ولا عرفتم قدر رسوله ولا عرفتم حق مجلس أمير المؤمنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ثم قام مغضباً. يقول: بليتم وبلي بكم أهل الإسلام وخرج. فصعب ذلك على هارون وقال لأبي يوسف قم والحق الشيخ وارضه وخرج فوجد مالكاً قد جلس في حانوت صديق له سراج يستريح فيه ابو يوسف على فرس فحل بين يديه، وقال كيف تراني يا أبا عبد الله فنظر إليه وقال مثل قيصر في قومه. فخجل ومضى. قال أبو مصعب قال أبو يوسف تؤذنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث. فالتفت مالك إليه وقال يا سبحان الله ما رأيت أمراً أعجب من هذا ينادى على رؤوس الإشهاد في كل يوم خمس مرات يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، أيحتاج فيه إلى فلان عن فلان. هذا أصح عندنا من الحديث. وسأله عن الصاع فقال خمسة أرطال وثلث فقال ومن أين قلتم ذلك؟ فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم، من المهاجرين والأنصار وتحت كل واحد منهم صاع. فقال: هذا صاع ورثته عن أبي جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فقال مالك هذا الخبر الشائع عندنا أثبت من الحديث. فرجع أبو يوسف إلى قوله. قال معن: دخل مالك على هارون وعنده أبو يوسف فلم يزل هارون يدنيه حتى أخذ بيده وأجلسه إلى جنبه، وجعل يسأله يا أبا عبد الله يا أبا عبد الله. فقال له أبو يوسف كيف أنت يا أبا عبد الله؟ فأعرض عنه فقال هارون هذا قاضينا. فأعرض عنه. وسأله أبو يوسف عن مسألة فلم يجبه. فقال له هارون أجبه. فقال مالك وهو معرض عنه إذا رأيتنا جلسنا إلى أهل الباطل فتعالى أجيبك. قال ابن حنبل: سأل أبو يوسف مالكاً عن مسألة عند هارون، فقال أبو يوسف لهارون قل له يجبني. فقال ساء ما أدبك أهلك. ودخل محمد بن عجلان على مالك وكانت فيه حدة. فقال له وهو قائم: أرأيت الذي يفتي الناس فيه أن محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة؟ فقال له مالك: إن جلست فاستمعت كلمتك. فجلس. فقال له مالك: أرأيت إن كان ماقلت أن محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيداء، أليس يأتي على ذلك ويدخل فيه ما أقول؟ قال بلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فقلت أفرأيت ما أقول إن محرمه صلى الله عليه وسلم من المسجد أليس يخرج من ذلك من عمل بما تقول، وقد اختلف في ذلك؟ فالحيطة في مسجد ذي الحليفة والحديث فيه أقوى، وقد قال ابن عمر بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الرواية عنه وكان معه في صحبته يدون أفعاله ليفعلها ويستقريها حتى إن كان ليخرج إلأى الحج والعمرة فيتحرى في بعض المواضع التي عرف مواطىء أخفاف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش بعده ثلاثاً وستين سنة، ويرى ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يزل يكلمه حتى تبين لابن عجلان قوله. فقام إلى رأس مالك فقبله. قال حامد بن يحيى وغيره وبعضهم يزيد على بعض: فأتيناه بالخبر كاملاً بزيادته. اجتمع عند أمير مكة مالك بن أنس وعمر بن قيس المعروف بسندل أخو حميد بن قيس فقيل لعمر: هذا رجل من ذي أصبح. قال وأنا رجل من ذي أمسى. وأقبل على مالك، فقال له: ما تقول فيمن كسر ثنية ظبي؟ فقال عليه ما نقصته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فقال عمر: الأحيان يخطىء والأحيان لا يصيب. فقال مالك هكذا الناس. ثم فطن فقال عمر: لا لكن هذا أنت فقام مالك على الأمير وقال ما ظننت أن ألأمير يحضر مجلسه اللعابين. ثم قال من هذا قيل عمر بن قيس أخو حميد. فقال لو علمت أن لحميد أخاً مثل هذا ما رويت عنه. قال أبو داود السجستاني: أسقطه عمر بن قيس بهذا المجلس. وقال غيره: حج مالك فجلس عند الميزاب في ظل الكعبة وكثر الناس عليه يستفتونه، فإذا جاء يسأله عن الحج فقال أفرد أفرد هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه عمر بن قيس فوقف عليه وقال: يا مالك أنت هالك. جلست في حرم الله تضل حجاج بيت الله تقول أفردوا أفردوا أفردك الله. فقام إليه الناس فقال مالك دعوا المسكين فهو في شر من هذا إنه يشرب الخندريس وفي رواية يستحل شرب الخندريس يعني المسكر من النبيذ. زاد بعضهم إنه باع مصحفاً فاشترى كلباً، فولى عمر وقد اسود وجهه، فوضعه الله إلى يوم القيامة. وقال أبو مصعب أرسل الوالي إلى مالك بغلام شاب شهد عليه بالسرقة وقد كان أفتى المغيرة بحبسه قال وابن أبي حازم بقطعه، ومدت يده للقطع ثم قال الوالي: اذهبوا إلى مالك فأدخل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وقرأت عليه قصة طويلة وشهادات قوية، ثم مر به شاهد شهد أنه نظر إليه يوم سرق فوجده قد أنبت فقال انظروا مع الشاهد غيره. فلم يوجد فقال أرى شاهداً واحداً على الانبات ولم ينظر فيه حتى شك لا قطع عليه. فقال له الرسول بكم ترى يضرب قال خمسة وسبعين شوطاً ولو احتمل لزدت. وقدم أبو عبد الرحمان السروجي فأتى مالكاً فجلس بين يديه وعلى مالك رداء عدني اشتراه بخمسمائة درهم فسأله عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام ولا أوصى بها أيحج عنه؟ فقال مالك لا. فقال له أبو عبد الرحمان ما هكذا يقول علماؤنا. قال وما يقول علماؤكم؟ فقال حدثنا هشام وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسك لا عن شبرمة. فقال مالك علماؤنا أعلم من علمائكم تحدثني عن البقالين قال الله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) ثم قال أقيموه فأقاموني فبودي لو سكت حتى اسمع منه. قال الحارث بن مسكين كان ابن هرمز قد أوصى مالكاً وعبد العزيز فقال إذا أدخلتما على السلطان فكونا من آخر من يتكلم عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 قال أبو عمر فلعمري لقد لزم مالك ذلك، ولقد بلغني أن بعض الأمراء حضره في جماعة فيهم ابن أبي ذئب فأخرج عليهم قصة قرئت عليهم في رجل أقر على نفسه بالقتل عمداً فقالوا بأجمعهم نرى عليه القتل ويدفع إلى ولاة المقتول فإن شاؤوا قتلوا أو عفوا. ومالك ساكت. فقال له الأمير ما تقول يا أبا عبد الله فقال منذ كم حبس فقال منذ كذا فإذا إقراره كان قبل أن يحتلم. قال بعضهم اجتمع مالك والأوزاعي فتناظرا فجعل الأوزاعي يجر مالكاً إلى المغازي والسير فقوي عليه فلما رأى مالك ذلك جره إلى (غيرها من الفقه) فقوي مالك عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 باب ذكر محنته رضي الله تعالى عنه قال القاضي رضي الله تعالى عنه: قال الطبري اختلف فيمن ضرب مالكاً وفي السبب في ضربه وفي خلافة من ضرب. فقيل إن أبا جعفر نهاه عن الحديث ليس على مستكره طلاق ثم دس إليه من يسأله عنه فحدثه به على رؤوس الناس فضربه بالسوط. وقاله مصعب إلا أنه قال إن الذي نهاه جعفر بن سليمان. وقال الواقدي لما سود مالك وسمع منه وقبل قوله حسده الناس وبغوا عليه، فلما ولى جعفر بن سليمان على المدينة سعوا به إليه وأكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه شيئاً. ويأخذ بحديث ثابت الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز. فغضب جعفر ودعا به فاحتج عليه فما رفع إليه. ثم جره ومده فضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه وفي رواية عنه ومدت يداه حتى انخلع كتفاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وكذلك اختلف على مصعب الزبيري. وقال الحنيني بقي مالك بعد الضرب مطابق اليدين لا يستطيع أن يدفعهما وارتكب منه أمر عظيم فو الله لمالك بعد ذلك الضرب في رفعة في الناس وعلو وإعظام حتى كأنما كانت تلك الأسواط حلياً حلي بها. وقيل إن هذا كان في أيام الرشيد. قال أبو الوليد الباجي ولما حج المنصور قاد مالكاً من جعفر بن سليمان وأرسله إليه ليقتص منه فقال أعوذ بالله. والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال غيره: لما دخلت على أبي جعفر وقد عهد إلي أن آتيه بالموسم فقال لي والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته وإنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أماناً لهم من عذاب الله. وقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أشرع الناس للفتن، وقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب وأمرت بضيق حبسه، والاستبلاغ في امتهانة ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه. قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته منك. فقال لي: عفا الله عنك ووصلك. قال القروي والعمري وأحدهما يزيد على الآخر: لما ضرب مالك رحمه الله تعالى ونيل منه حمل مغشياً عليه فدخل الناس عليه فأفاق فقال: أشهدكم إني جعلت ضاربي في حل. فعدناه في اليوم الثاني فإذا به قد تماثل. قلنا له ما سمعنا منه، وقلنا له قد نال منك. فقال تخوفت أن أموت أمس فألقى النبي صلى الله عليه وسلم فأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي فما كان إلا مدة حتى غضب المنصور على ضاربه وضرب ونيل منه أمر شديد. فبشر مالك بذلك فقال سبحان الله أترون حظنا مما نزل بنا الشماتة به. إنا لنرجو من عقوبة الله أكثر من هذا، ونرجو من عفو الله أكثر من هذا، وقد ضربت فيه محمد بن المنكدر وربيعة وابن المسيب ولا خير فيمن لا يوذىء في هذا الأمر، وقيل إن الذي تولى ذلك عامل جعفر بن سليمان وإن جعفر هو الذي صنع بعامله النكال لما تقدم، والأول أشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قال مطرف: جلد جعفر بن سليمان مالكاً ثمانين سوطاً وقاله ابن القاسم. قال مطرف ومصعب، بسبب محمد بن عبد العزيز الزهري حمله عليه في عمله الأول أنه يفتي الناس أن ليس على من أكره على بيعة شيء. قال مطرف: فرأيت آثار السياط في طهره قد شرحته تشريحاً. وكان حين مدوه في الحبل بين يديه خلعوا كتفيه حتى كان ما يستطيع أن يسوي رداءه. فلما ولي جعفر عمله الآخر ودخل عليه مالك سأله جعفر أن يجعله في حل، وقال إني جهلت واستزللت والله ما جلدك إلا القرشيون. فقال له مالك إنك ترى أن قد ظلمتني. قال نعم. قال فأنت في حل، فوسع الله عليك. قال إبراهيم بن حماد الزهري رأيت مالكاً يحمل إحدى يديه بالأخرى وقيل لمالك هذا ابن عبد العزيز الزهري قد وقف في المسجد وكان قاضي المدينة وهو الذي بغى بمالك. فقال مالك ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم ذكر محنة محمد بن المنكدر وربيعة ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قال عمر بن عبد العزيز ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر أذى. قال الداروردي لما أحضر مالك لضربه في البيعة التي أفتى بها وكنت أقرب الخلق منه سمعته يقول كلما ضرب سوطاُ: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون حتى فرغ من ضربه، وذكر عنه أنه أفتى الناس عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي المسمى بالمهدي بأن بيعة أبي جعفر لا تلزم لأنها على الإكراه. قال الليث إني لأرجو أن يرفع الله مالكاً بكل سود درجة في الجنة. وخالف هذا كله ابن بكير، فقال: ما ضرب إلا في تقديمه عثمان على علي فسعى به الطالبيون حتى ضرب. قيل لابن بكير خالفت أصحابك هم يقولون ضرب في البيعة. قال أنا أعلم من أصحابي. وقال أحمد بن صالح إنما ضرب مالك في الطلاق قبل النكاح، كان لا يراه ثم رآه. قال أبو داود ولم يصنع أحمد شيئاً. وقال ابن كنانة ضرب في أيمان السلطان إنها لا تلزم. وفي دفع الصدقات إليهم. وقال مصعب ضرب مالكاً جعفر بن سليمان ثلاثين سوطاً. وقيل نيفً وثلاثين ويقال ستين وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 بكير بن إبراهيم سبعين سوطاً وقيل نيف وسبعين سوطاً وقيل مائة سوط من رواية الحارث عن ابن القاسم. قال مالك ما كان علي يوم ضربت أشد من شعر كان في صدري وكان في إزاري خرق ظهر منه فخذي فجعلت لله علي إن استجد الإزار ولا أترك علي شعري. قال مصعب وكان ضربه سنة ست وأربعين ومائة وقيل سنة سبع وأربعين. قال محمد ابن خالد: كنا عند جعفر بن سليمان في مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه حماد بن زيد، فقال له يا أبا إسماعيل رأيت في منامي مالك بن أنس فسلمت عليه فلم يرد فأعدت عليه فرد، وقال إن لي ولك غداً مقاماً عند الله فأرقت لذلك وغمني. قال حماد إن مالكاً من الإسلام بمكان جليل وما هو إن الندم والاستغفار. وفي رواية وإن تعتق فاعتق عن كل سوط رقبة. قال الأصمعي: وأنا مشيت بين جعفر بن سليمان ومالك حتى حلله. قال المنذر: الذي أغرى بمالك جعفر بن سليمان رجل من بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 مخزوم صاحب أدب، وذكر، خبر فتياه في الإيمان فكتب بذلك جعفر إلى الخليفة فكتب إليه: أن اجلده. فجلده ومد يده بين العقابين فلذلك كان لا يأتي المسجد لإنزال ريح تخرج من موضع الكتف ثم عزل ثم ولي ثانية فأكرم مالكاً وقربه وتباعد منه مالك حتى كف عنه فحج، فبينما مالك في الموقف قال جعفر لأصحابه لا تحركوا وسار فلم يشعر مالك إلا بإنسان ضرب بسوطه محمله، فرفع مالك رأسه فقال يا مالك هذا يوم عظيم ينظر إلى الله إلى عباده ويغفر لهم فاجعلني في حل مما ارتكبت. فقال: لا والله حتى ألتقي أنا وأنت بين يدي الله. فرجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 باب في صدق فراسته وركنه رحمه الله تعالى قال القاضي رضي الله تعالى عنه: كان الشافعي صاحب فراسة، فقيل له في ذلك، فقال: أخذتها من مالك. قال أسد بن الفرات: لزمت أنا وصاحب لي مالكاً، فلما أردنا الخروج إلى العراق أتيناه مودعين له، فقلنا له أوصنا. فالتفت إلى صاحبي وقال أوصيك بالقرآن خيراً. والتفت إلي وقال أوصيك بهذه الأمة خيراً. قال أسد فما مات صاحبي حتى أقبل على العبادة والقرآن، وولي أسد القضاء. قال الشافعي لما سرت إلى المدينة ولقيت مالكاً وسمع كلامي نظر إلي ساعة وكانت له فراسة ثم قال لي ما اسمك؟ قلت محمد. قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 قال غيره كانت لمالك فراسة لا تخطئ. نظر يوماً إلى ثلاثة من أصحابه من أهل افريقية: ابن فروخ، وابن غانم، والبهلول ابن راشد. فقال في ابن غانم هذا قاضي بلده، وفي البهلول هذا عابد بلده وفي ابن فروخ هذا فقيه بلده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 باب في نوادر وملح من أخبار مالك رحمه الله تعالى قال القاضي رضي الله تعالى عنه قال معن جاء ابن سرجون الشاعر إلى مالك رضي الله عنه فقال له قلت شعراً أحب أن تسمعه فقال لا. وظن أنه هجاء فقال لتسمعنه فأنشد: سلوا مالك المفتي عن الهوى والغناء ... وحب الحسان المعجبات العوارك فيفتيكم أني مصيب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك فهل من محب يكتم الحب والهوى ... أثام وهل في ضمة المتهالك قال فسري عن مالك وضحك وكان قليل الضحك، وقال الزبير بن بكار سأل محمد بن عبد الله مالكاً عن إمرأة أراد تزويجها وذكر قصة. فقال له مالك تربص فإنها لا تحل لك الآن فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 سأخطبها جهدي وإني مخالف ... لما قال لي حبر المدينة مالك يقول وقد حلت تربص فإنما ... تربص مثلي لو علمت المهالك أحرمت تزويج المحبين بينهم ... وأنت امرؤ فيما يرى الناس ناسك وقال محمد بن الفضل المكي مر مالك بقينة تغني وتقول: أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحقيق علي حفظ الجوار أنا للجار ما تغيب عني ... حافظ للمغيب في الأسرار ما أبالي أكان بالباب ستر ... مسبل أم بقي بغير ستار فقال مالك لو غني به حول الكعبة لجاز. وفي رواية يا أهل الدار علموا فتيانكم مثل هذا. وقال مالك: قال أبو حازم كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر: ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جار لي أني أجاوره ... أن لا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر قال مالك لا بأس بالغناء بمثل هذا، قال ابن أبي أويس كنت أمشي مع مالك إذا مولاتي تحمل جرة ماء وتقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ليتني أرض لسلمى ... فتطأني قدماها ليتني درع لسملى ... ترتديني من وراءها ليتني خادم سلمى ... قاعد حيث أراها فقال لي: يا إسماعيل، رجل أو إمرأة. قلت: هي غزال خادم بني عمارة. قال إنها لفصيحة اللمحة حسنة التأدية. قال: وسمعني مالك وأنا أنشد: ودع هريرة إن الركب مرتحل. فوقف ولا أعلم به، حتى بلغت قوله: علقتها عرضاً ..... الأبيات. فقال: هؤلاء خمسة مرجومون. قال مطرف: جاء رجل من أهل الكوفة إلى مالك: فأقام نحو الستين أو السبعين يوماً، فسمع عندها أحاديث، فشكى ذلك إلى مالك وقال: نحن بالعراق نكتب من الحديث في ساعة أكثر من هذا. فقال له: يا ابن أخي، بالعراق عندكم دار الضرب، يضرب بالليل ويخرج بالنهار. ثم قال مالك: كانت العراق تجيش علينا بالدنانير والدراهم، فصارت الآن تجيش علينا بالحديث. وقيل له: إن أهل الشام يقرأون ابراهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فقال عليهم بأكل البطيخ. قال ابن أبي مريم، قال لي مالك: يا مصري، هل على مسجدكم بواب؟ فقلت نعم. قال هذا سجن وليس بمسجد. وقال ابن أبي أويس، قال مالك: قدم ابن شهاب الزهري المدينة فغلست إليه، فوجدته في طريق المسجد ومعه غلامه أنس وكان قد زوجه أمة له، فقال له: كيف وجدت أهلك؟ فقال: وجدتها يا مولاي جنة. فقال ابن شهاب: الحمد لله. ففطنت وضحكت، فسألني، فقلت: إنه يقول، إنها لم توافقه. إن في الجنة سعة وبرداً. فقال كذلك يا أنس؟ قال: إي والله، يا مولاي. فما زال يضحك ويعيدها إلى أن فاتته الجماعة فصلى في منزله. قال ابن أبي أويس: جاء رجل وإمرأته إلى مالك، وكل واحد منهما يشكو صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فقال مالك للرجل: ما نقمت عليها؟ فقال: تضحك إذا خرجت مني ريح. قال مالك: فتباعد عنها إذا كان منك ذلك. فقالت المرأة: هو أصيح من ذلك. وهو رعد كرعد الخريف. فقال مالك: احشي أذنيك قطناً. فقالت والله لو جلعت في أذني سندان حداد، لنفذه. فقال مالك اذهبي فاضحكي حيث شئت. وقال للرجل عليك بالصعتر تداوم عليه. فانقطع عنه. وسأل رجل جهيني مالكاً عن يمين حلف بها، فأفتاه بطلاق زوجه البتة. فقال: أفض عبرات العين مخضلة تترى ... بكا جازع لا يفقه اللوم والزجرا بكا ذي تميمات بكى غير نازع ... بكا نازع في شجوه قد بكى غمرا فما بعد بت الحبل عن أم معمر ... على خلة أبكي واستعتب الدهرا ولكن سأبكيها واعصارها التي ... لهون بها سقياً لأعصارها عصرا فلولا اتقاء الله والموت مدركي ... وشيكا وبعد الموت أنتظر الحشرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 لبتلت دعوى مسلم متبهل ... فقد يعلم الله السريرة والجهرا على مالك أيام يفتيك مالك ... ولم يبل عهداً من مشيء ولا أمرا ليس التي لو كنت خيرت بينها ... وبين يدي لاخترت تب يدي بترا عشية يفتيني ويزعم أن بي ... عزاءاً على هجران رامة أو صبرا فقد جار في اليوم المدينة مالك ... وأجرى لقتلي وهو يلتمس ألأجرا فرحت وقد أجزت مشورة مالك ... نوافذ تحتل الجوانح والصدرا فما أن أبالي بعدما صرمت محرماً ... بعاقبة لو جاب لي رامس قبرا وأفنيت عبرات الدموع عليكم ... وغادرت دمع العين منحدراً بترا قال عمر بن سليم: رأى مالك فتى يمشي مشية منكرة، فقام مالك، فجعل يمشي على جنبه يحكيه، فوقف الفتى. فقال له مالك: مشيتي حسنة؟ قال لا. قال فلم تمشيها أنت؟ قال لا أعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 قال أبو عوف عبد الرحمان ابن مرزوق، وذكر لعبيد الله بن محمد قاضي طرسوس عن بكر المزني، أنه قال: أحق الناس بلطمة من أكل طعاماً لم يدع إليه. وأحق الناس بلطمتين من قال له صاحب المنزل: أقعد هاهنا. وأحق الناس ثلاث لطمات من قال لصاحب المنزل: ادع ربة البيت تأكل معنا. فقال لي: عندي أعجب من هذا، وأطرف من هذا. كان مالك يوماً جالساً فأستأذن عليه صديق له، فأذن له، وكان لمالك بطيخة في ناحية، فرمى بمنديل عليها. فدخل الرجل، فقال له مالك: ها هنا. فأبى أن يقعد إلا على المنديل، فتفتحت تحته البطيخة. فقال له مالك: يرحمك الله كنا أبصر بعوار منزلنا منك. وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حمار. قال يجلد. قال فإن قال له يا فرس. قال تجلد أنت. ثم قال يا ضعيف وهل سمعت أحداً يقول لآخر يا فرس؟ قال ابن مهدي: قلت لمالك: ارفق علي قد طال مقامي وما أدري ما حدث على أهلي بعدي. فتبسم وقال: يا ابن أخي، أهلي بالقرب مني، وما أدري ما حدث عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 باب ذكر وفاة مالك رحمه الله واحتضاره ومرائي دلت على فضله عند الله تعالى قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: قد قدمنا تاريخ وفاته، وإن الصحيح من ذلك في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة. يوم الأحد، ولتمام اثنين وعشرين يوماً من مرضه. وغسله ابن كنانة وابن أبي زنبر، وابنه يحيى وكاتبه حبيب، يصبان عليه الماء. ونزل في قبره جماعة، وأوصى أن يكفن في ثياب بيض، وأن يصلى عليه في موضع الجنائز. فصلى عليه عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان خليفة أبيه على المدينة. ومشى في جنازته وحمل نعشه، وبلغ كفنه خمسة دنانير، وقد ذكرنا في المرائي الدالة على علمه وإمامته جملة، ونقتصر ها هنا على الغرض مما نذكره قبل. قال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها. فقلنا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 يا أبا عبد الله كيف تجدك؟ قال ما أدري، ما نقول إلا أنكم ستعاينون غداً من عبد الله من لم يكن في حساب. ثم ما برحنا حتى غمضناه. وقيل إنه تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد. ورأى عمر بن يحيى بن سعيد الأنصاري في الليلة التي مات فيها مالك قائلاً يقول: لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه ... غداة ثوى الهادي لدى منحدر القبر إمام الهدى ما وزال للعلم صائناً ... عليه سلام الله في آخر الدهر قال وانتبهت وكتبت البيتين في السراج، وإذا الصاروخ على مالك رحمه الله تعالى. قال حبيب كاتب مالك: كنا عند مالك يوم مات، في جماعة من إخواننا إذ أتاه ابن حازم، فقال يا أبا عبد الله، رأيت في هذه الليلة رؤيا أحببت أن أقصها عليك. قال قص. قال أرأيت السماء انفجرت فهبط منها ملك بيده طومار وهو يقول: يا معشر الناس هذه براءة مالك من الناس. ثم إنا لجلوس ما برحنا، حتى دخل والي المدينة ابن أبي زينب ومعه مؤدبه فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 يا أبا عبد الله، إن مؤدبي رأى الليلة رؤيا ذكر مثلها سواء. فقال له مالك: سبقك بها أبو تمام. ثم خرجنا من عنده. فلما بلغنا باب الدار أغلق وسمعنا صوائح ورجعنا، فما لبثنا أن خرج ابنه يقول: قد قبضه الله إليه. قال الشافعي: قالت لي عمتي ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجباً. قلت: وما هو؟ قالت: كأن قائلاً يقول: مات الليلة، أعلم أهل الأرض، فحسبنا تلك الليلة، فإذا هي ليلة مات فيها مالك. قال الحسن بن حمزة الجعفري: كنت أشتم مالكاً، فأقمت عشيتي على ذلك: فنمت فرأيت الجنة فتحت فقلت ما هذا؟ قالوا الجنة. قلت فما هذه الغرف، الغرفة فوق الغرفة؟ قالوا لمالك بن أنس بما ضبط على دينهم. فلم أنتقصه بعد، وصرت أكتب عنه. ورأى آخر كأن قائلاً يقول: ليعلم من صدق الله، فقام مالك بن أنس. قال بعضهم: رأيت مالك بن أنس في النوم، فقلت: قد نفع الله بك ونفعت أهل بلدك. فقال: وأما والله ما أردت بذلك إلا الله. قال أسد بن موسى: رأيت مالك بن أنس بعد موته وعليه طويلة وثياب خضر، وهو على ناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: يا أبا عبد الله، أليس قدمت؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 قال بلى. فقلت فإلى ما صرت؟ قال قدمت على ربي فكلمني كفاحاً، قال: سلني أعطيك، وتمن علي أرضيك. وذكر أن الفضيل بن عياض رأى أنه دخل الجنة، قال: بينما أنا في طرقها إذا مررت يزيد بن أسلم غرفة من غرفا وعليه قلنسوة طويلة. فقلت زيد؟ قال نعم. قلت له سكنك الله وشرفك، فأين مالك لا أراه؟ قال: أين مالك؟ مالك فوق ذلك. فما زال يقول فوق حتى وقعت قلنسوته، ورآه آخر، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي. قال لماذا؟ قال: بكلمة عثمان التي كان يقولها إذا رأى الميت: سبحان الحي الذي لايموت. قال ابن أبي أويس: كان يحيى بن يزيد النوفلي من الزهاد العباد وكان لا يكلم مالكاً ولا ابن أبي ذئب ولا ابن عمران، وكتب إلى كل واحد منهم كتاباً يعظهم في إقبالهم على الدنيا. فأما مالك فأجابه أحسن جواب، وأما الآخران فأغلظا عليه في القول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فقدم بعد موتهم من الغابة إلى المدينة فلم يتخلف عنه أحد فحضرته يوماً وهو يتحدث وعنده خلق كثير وهو يبكي ويقول: رأيت في هذه الليلة كأني في موضع نخيل وبساتين وخضرة وقصور وأنهار تجري فاعتمدت إلى قصر رأيت أنه أفضلها، فلما ذهبت لأدخله إذا على بابه إنسان فمنعني الدخول وقال: حتى استأذن لك، فذهب ثم أذن لي، فأدخلني، إذا بقصر لم ير الراؤون مثله حسنا، وإذا فيه مالك بن أنس جالس وسطه وفي حجره مصحف وعليه ثياب خضر أحسن ما تكون، فلما وقفت سلمت عليه وقلت: قدمت؟ قال: بلى. قلت: فيم صرت إلى هاهنا؟ قال: بعفو الله وتجاوزه عني وسعة رحمته لا بعملي. قلت: فما رأيت في شأن العلم؟ قال أكثر ما نجونا بالتوقف عنه. قلت: ابن زيد بن أسلم؟ وفي رواية عبد الرحمان بن زيد بن أسلم. فرفع رأسه إلى السماء وأشار بإصبعه وقال: هيهات ذلك في عليين مع البكائين. فلم تزل رؤياه في رقعة بين يديه مع أجوبتهم له يقرأها للناس ويبكي ويترحم على مالك في كل مجلس. وعن بشير بن بكر: رأيت أو رأى الأوزاعي والثوري وهما في الجنة، فقلت أين مالك؟ فقال لي: إن مالكاً في أعلى ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال التستري: رأى أبو زرعة الرازي فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال لي أكثرت علي يا أبا زرعة، وكيف يكثر مخاصمة في النوم أصحاب المقالات وقال: فقلت إلى ربي أنهم حاولوا دونك. فقال اجعلوه مع أبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله. مالك والثوري وابن حنبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 باب في رؤيا أهل العلم الدالة على علمه وإمامته قال الدراوردي: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جالساً في الروضة بين القبر والعنبر إلى الاسطوانة المغلقة، فأتيناه وجلسنا إليه، إذ أقبل مالك آخرنا وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ثم نزع خاتمه من يده صلى الله عليه وسلم وقال به (هكذا) بين أصابعه وجمعهن، فليس أحد منا إلا تشرف إليه، فأخذ بيد مالك ووضعه في إصبعه، فلو كان يصلح للخلافة قلنا خليفة، ولكنه العلم. وقد رويت هذه الرؤيا عن الدراوردي بغير هذا اللفظ والمعنى متقارب. وفي خبر آخر: كنت انتقصه، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: الزم ما أمرك به مالك بن أنس، فإنه يريد بما فيه الله تعالى. قال الزبير بن حبيب: كنت أتناول مالكاً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الإسطوانة المغلقة وأنا معه، إذ أتى رجل يسأله عن مسألة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أئت مالكاً فاسأله فما على ظهر الأرض أعلم منه. وقال محمد بن رمح رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فقلت يا رسول الله إن مالكاً والليث يختلفان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بما تقول مالك، ورث وحيي. وفي رواية: جدي. قال الحسن بن علي الأشناني: معنى جدي: قيل جدي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: جدي، ديني. وقيل سنتي. وعن ابن سرح أيضاً: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاب والناس مجتمعون عليه يسألونه، فقال: قد أعطيت مالكاً كنزاً وأمرته أن يصدقه عليكم. وجاء رجل إلى مجلس مالك فقال: أيكم مالك؟ فقالوا هذا. فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره، وقال: والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة جالساً هنا، فقال: هاتوا بمالك فجيء بك ترتعد فرائصك، فقال: ليس بك بأس يا أبا عبد الله، اجلس. فجلست. فقال: افتح حجرك. ففتحت. فملأه مسكاً منثوراً، وقال: ضمه إليك وبثه في أمتي. فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولا تغر. إن صدقت رؤياك، فهو العلم الذي أودعني الله. قال أبو هاشم: رأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب إذ جاء مالك فقال يا مالك، خذ هذه الصرة وضعها تحت قبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 قال أبو هاشم: هو العلم الذي بثه. قال أبو بكر بن سعدون صليت بمصر الضحى، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن مالكاً والليث اختلفا في الضحى، فمالك يقول اثنتي عشر ركعة، والليث يقول ثمان. فضرب بيده وبين وركي وقال: رأي مالك هو الصواب. قال خلف بن عمر: كنت عند مالك فأتاه ابن أبي كثير قارىء المدينة فناوله رقعة، فنظر فيها وجعلها تحت مصلاه، فلما قام من عنده ذهبت أقوم، فقال: أثبت فناولني الرقعة. رأيت الليلة في منامي كأنه يقال: رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت المسجد فإذا ناحية من القبر انفجرت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس والناس يقولو يا رسول الله أعطنا يا رسول الله من لنا؟ فقال لهم: إني كنزت تحت المنبر كنزاً، وقد أمرت مالكاً يقسمه بينكم فاذهبوا إليه. فانصرف الناس وبعضهم يقول لبعض ما ترون مالكاً يفعل؟ فقال بعضهم يقصد لما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فرق مالك وبكى. قال: ثم خرجت وتركته على حاله. قال يحيى ابن يزيد النوفلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالك يمشي بين يديه بشمعة يحملها. وفي رواية أخرى عنه: رأيت كأننا في الجنة وإذا مالك بن أنس بين يديه عمود من نور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وقال ابن أبي الكرام: رأى رجل من أصحابنا النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقسم قسماً، قال: فبسطت يدي إليه وقلت: يا رسول الله أعطني. فقال قد خبأت لكم خبأ تحت منبري هذا. قلت وما هو يا رسول الله؟ قال مالك بن أنس. وقال زبد بن ثابت: رأيت في منامي كأن القبر انفتح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس قد اجتمعوا عليه، فصاح حائم بمالك بن أنس، فجاء مالك إليه، فأعطاه شيئاً فأولناه: العلم الذي بثه. وقال آخر: كانت في نفسي مسألة دقيقة كنت أحب أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فأسأله عنها. فرأيته، فقلت يا رسول الله، في نفسي مسألة دقيقة أحب أن أسألك عنها. فقال أئت مالكاً فأسأله عنها، فإنه يخرجها وإن كانت أدق من شعرة. قال حجاج بن سليمان الرعيني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن مسألة. فقال له: أكنز تحت قبري كنزاً، وأمرت مالكاً يفرقه عليكم. قال محمد بن أبي بشر: كنت في مجلس ابن حنبل فطعن قوم على مالك وآخرون على الثوري فانصرفت وفي قلبي من الغم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ما لا أصفه، فقمت فرأيت رجلاً من أحسن من رأيت وأطيبه رائحة وأنقاه ثوباً عن يمينه رجل وعن يساره آخر وكلاهما في هيئة جميلة غير أن أعلاهم حالاً، فقال: هل تعرفني؟ فقلت لم أرك من قبل فأعرفك. لا أخالك إلا مشهوراً لما أرى من هيئتك وحسن وجهك. فقال: أنا نبيك محمد. فقلت صلى الله عليك بأبي أنت وأمي. فمن هذا؟ فقال إمام داري، مالك بن أنس. وأشار عن الذي عن يمينه، وهذا إمام أهل العراق، سفيان الثوري. وأشار عن الذي عن يساره. فاشهد بالصدق لهما واحببهما فإني أحبهما والله ما تكلما برأي إلا أصابا فيه سنتي، ونصحا فيما اجتهدا فيه أنفسهما بجميع أمتي، وإنهما تأخرا عن القرن الأول لغير مختلفين عن منازلهما بلزوم السنة، وضبط الأثر أقد حفظت؟ فقلت نعم. فغدوت على ابن حنبل فأخبرته، فقال: وددت أني رأيت ما رأيت، وليس لي قوت يومي، هذا والله رأيي فيهما. قال ابن القاسم: رأيت بالاسكندرية، كأني صدت بازياً ففضضته، فإذا جوفه مملوء جوهراً فعبرت رؤياي على زيد بن شعيب، فقال لي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 لعلك حدثت نفسك بشيء من طلب العلم؟ قلت هو ذلك. قال فمن ذكرت؟ قلت مالكاً. قال: هو بازيك الذي صدت، والباز هو سيد الطير والجوهر الذي وجدته في جوفه، هو العلم الذي تسأله عنه. وقال عمار بن يزيد بن الخشاب، رأيت كأني دخلت مدينة اختلطت علي أزقتها، فصرت لقوم، فقام إلي شيخ فأخذ بيدي حتى أخرجني إلأى طريق واسع واضحة وقال خذ عليها. فسالت عنه فقيل لي هذا مالك. قال ابن اللباد وبلغني أيضاً أن رجلاً أعرفه كان ينتحل مذهب أبي حنيفة، رأى في نومه النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وصافحه فأردت معانقته فأعرض عني، فقلت في نفسي ما أراه إلا لاستحلالي النبيذ. فقال قائل: وددنا لو سألناه ما ننتحل، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا إن الحق في قول مالك، ما يتعداه. فصار الرجل إلى مذهب مالك وترك مذهبه. وروي أن مالكاً قال لابن هرمز: رأيت كأني أنظر في مرآة. فقال ابن هرمز من رأى هذا فهو ينظر في أمر دينه. ثم قال: يا مالك، أنت اليوم مملك، فاتق الله في هذه الأمة، إن كنت لها مالكاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فقال له مالك: لا تخبرني فقد رأيت مثل ما رأيت. قال إبراهيم بن أبي يحيى: نمت فرأيت الشمس قد كسفت وقد علت الأرض ظلمة حتى إن الناس لا ينظر بعضهم إلى بعض، فقلت لرجل بجنبي: أقامت القيامة؟ فقال: ولم لا تقوم، وقد مات عالم الآفاق. قلت ومن هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 قال: مالك. فانتبهت وفزعت فإذا أنا به قد مات. وقال ابن مزاحم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فقلت يا رسول الله من نسأل بعدك؟ قال مالك بن أنس. فقال ابن القاسم: بينما أنا نائم، أتاني آت، فقال لي: إذا أردت العلم فعليك بعالم الآفاق فقلت: من هو؟ فقال لي: هذا الشيخ انظر إليه، فنظرت إليه فإذا شيخ أشقر طويل حسن اللحية، فاستيقظت وقد مضى أكثر شوال فاكتريت إلى مكة وحججت فلما أتينا المدينة اغتسلت ودخلت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت، فإذا بالصفة التي في النوم، وإذا هو مالك. فعرفت أنه هو الذي قيل لي فيه عالم الآفاق فلزمته. ورأى بعضهم أن الناس اجتمعوا في جبانة الإسكندرية يرمون غرضاً، كلهم تخطاه، وإذا رجل يرمي ويصيب. قال، فقلت: من هذا؟ قيل مالك بن أنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 باب في تركة مالك بن أنس رحمه الله قال ابن القاسم: مات مالك رحمه الله تعالى عن مائة عمامة فضل عن سواها. وقال ابن أبي أويس: جميع ما في منزلك يوم مات رحمه الله تعالى من منصات وبرادع وبسط ومخادد محشوة بريش وغير ذلك، ينيف على خمسمائة دينار. قال محمد بن عيسى بن خلف: خلف مالك خمسمائة زوج من النعل، وقد اشتهى يوماً كساء قومسياً، فما بات إلا وعنده منه سبعة بعثت إليه. وأهدى إليه يحيى بن يحيى النيسابوري هدية وجدت بخط بعض مشائخنا الثقات، أنه باع من فضلها بثمانين ألفاً. قال أبو عمر وترك من الناض ألأفي دينار وستمائة وتسعاً وعشرين ديناراً، والف درهم. فاجتمع في تركته ثلاثة آلاف وثلاثمائة ونيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 باب ما قيل في مالك من الشعر في حياته وبعد وفاته قال القاضي رضي الله تعالى عنه من مشهور ذلك قول ابن المبارك: صموت إذا ما الصمت زين أهله ... وفتاق أبكار الكلام المختم وعى ما وعى القرآن من كل حكمة ... ونيطت الآداب باللحم والدم وقال ابن مناذر: ومن يبغي الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن داب وقال عبد الله بن سالم الخياط: أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان وأنشدوا لأبي المعافى في مالك وبعضهم يزيد فيها على بعض ويذكر بعضها لأبي المعافى: ألا إن فقد العلم في فقد مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك فلولاه ما قامت حقوق كثيرة ... ولولاه لانسدت علينا المسالك يقيم سبيل الحق سراً وجهرة ... ويهدي كما تهدي النجوم الشوابك عشونا إليه نبتغي ضوء ناره ... وقد لزم العي اللجوج المماحك فجاء برأي مثله يقتدى به ... كنظم جمان زينته السبائك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وحكى التستري أن مالكاً كان جعل لأبي المعافى أن يجرح من شهد عليه، فشهد عليه المغيرة، فلما مات مالك قال: ألا قل لقوم .... الأبيات: ألا قل لقوم حير مرحباً بكم ... لمن سال عن فتوى فقد مات مالك وأنشد الزبير لأبي المغامي أو ابن المغامي يرثي مالكاً: ألا قل لقوم سرهم فقد مالك ... ألا إن فقد العلم إذ مات مالك وما لي لا أبكي على فقد مالك ... إذا عد مفقود من الناس مالك وأنشد أصبغ لامرأة ترثيه: بكيت بدمع واكف فقد مالك ... في فقده سدت علينا المسالك ومالي لا أبكي عليه وقد بكت ... عليه الثريا والنجوم الشوابك حلقت بما أهدت قريش وجللت ... صبيحة عشر حين تقضى المناسك لنعم وعانا العلم والفقه مالك ... إذا عد مفقود من الناس هالك أنشد أبو محمد الضراب لبعضهم: إذا ما عدت العلماء يوماً ... فمالك في العلوم هو الضياء تبوأ ذروة العلماء قوم ... فهو كالأرض وهو لهم سماء وأنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وفقيه الحرمين مالك ... كان إذ يأمر بالأمر يطاع وأنشد لطالب بن عصمة الأندلسي: إمام الورى في الهدى والسمت مالك ... وفي الفقه والآثار ما أن يدارك فأراؤه في الفقه يسطع نورها ... وتسهد من إيضاحهن المسالك وآثاره يهدي العباد وميضها ... كما تهديهم زهر النجوم الشوابك له من ذرا العلم السنام وشلوه ... وفي سائر الناس الشظا والسوابك وأ، شد الزبير أيضاً لأبي المعافى: فدا مالك قوم تمنوا بموته ... وما فيهم لو مات عوض ولا خلف تحمل علم الدين نوراً مثقفاً ... بإسناد اقوام ثقات من السلف فلما أقام الأود من ذي قسيمهم ... وكان إليه غاية الرمي والهدف فما ساعد منهم يقاوم ظفره ... إذا قست منهم ساعداً ببنان كف وقيل إن مالكاً لما سمع هذا الشعر قال: الله المستعان. وقال أبو محمد ابن أبي زيد لبعض من ناقض قول مالك رحمه الله تعالى: تخطيت نجوم السماء ... وهذا هو الأمل الكاذب تروم إمام الهدى مالكاً ... وذاك هو الجبل الراهب فما أثر الدر في صحوة ... ومجهوده قائم راتب بدون منالك من مالك ... فدونك هذا الرجاء الخائب ودونك من دون ما رمته ... بعيد كما بعد الثاقب وأنشد عبد السلام بن سليمان: عادني مالك فلست أبالي ... بعد ما عادني ومن لم يعدني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وأنشد أبو مصعب لبعضهم: ومن لم يجالس مالكاً فهذا نشا ... ولما يجالس غيره فهو جاهل وأنشد التستري لمحمد بن عبد الرحمان البغدادي المعروف بأبي الحسن الصالحي يرثي مالكاً بقصيدة أولها: قضى وطراً من غمه فهو جازع ... ولج به طرف من الميل دامع وأبصر بالأميان عودة دينه ... فبات سهيراً والعيون هواجع رأى أن أيام الصبا ليس راجع ... وإن الهوى في حلة الشيب ضائع فلا اللهو محمود ولا العيش راجع ... ولا الحلم مذموم ولا الجهل نافع تذكر أن العلم ينهي عن الهوى ... وراعته أعلام المشيب الروائع وبعد هذا أبيات كثيرة، وذكر فيها المدينة فقال: حرام رسول الله فيها وأمنه ... وللزجر والدجال فيها موانع ويأزر إيمان البلاد إليهم ... إذا ظهرت فيها الهنات الفظائع ومنها أتى البلاد بدينه ... كذاك إيمان إلى الدين راجع ثم قال بعد أبيات: سقى الله ما ضم النبي محمداً ... من الأرض ما يسقي الغمام الهوامع إلى روضة التقوى إلى القبلة التي ... بها نحر التقوى مصل وراكع إلى خيرة الأصحاب والتابع الذي ... به وصلته في الكتاب الذرائع وجاء لقبر فيه أكفان مالك ... أفاويقه والمسبلات المدامع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فنعم أمام العلم والكوكب الذي ... أتى نوره في صفحة الدين ساطع عقيد الهدى فينا ومصباح ديننا ... ومن قوله بالحق والرشد واقع ومن عروة الإسلام في بطن كفه ... هي العروة الوثقى وبالحق ساطع ومن هو خير الناس والعلم هديه ... ومن عنده أركانه والشرائع فإن لم تكن قضى الله صاحباً ... فإنك للأمي بالحق تابع أقمت لنا دين النبي محمد ... وجاريه والصهرين مذ أنت يافع وعلمك أعلى العلم فرعاً ومخرجاً ... كذا كل علم دونه متواضع إذا قرع الآذان سويت قلبها ... وأصغت إليه بالرقاب المسامع وما علم من لم يستمع قول مالك ... ولم يعتقده قلبه فهو صائغ ولم يهد بالبرهان من علم مالك ... وما طويت أخباره والجوامع لعمري قد أورثتنا العلم خالصاً ... وقد أوحشت منك الديار البلاقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 تعلت إلينا عن مصابيح ديننا ... بتوفيق رب فضل جدواه واسع فإن لم تكن فينا فعلمك بيننا ... ندافع عنه من نشا ونصارع بكل بيان من كتاب وحجة ... لها في قلوب المؤمنين مواقع ستبكيك أرض الناس والناس فوقها ... وتبكيك في الجو النجوم الطوالع وحكى التستري أن أبا المعافى سجنه والي المدينة العباس بن محمد في أمر رجع إليه فكتب إلأى مالك رحمه الله تعالى بشعر يقول فيه: ألا أن عمر العلم في عمر مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك الأبيات: فما فرغ منها حتى رئي الحياء في وجه مالك، ثم أطرق فرفع رأسه وقال: إن الله فرض الفرائض وجعل حد الزاني الرجم إذا أحصن وجلد مائة إذا لم يحصن وجلد ثمانين إذا قذف محصنة وإذا سرق ما فيه القطع قطع، ولم أسمع الله حكم بالسجن في شيء من حدوده. فرجع ذلك إلى العباس فأرسل إلى مالك ليسأله، فقال اليوم بعد ثلاثة أشهر أرى أن يفتح عليه الباب وتستحله فيما مضى، فخلى سبيله. فكان أبو المعافى ينشد ويعرض بالقريشيين الذين أفتوا بحبسه: فدا مالكاً قوم .... الأبيات. وأنشد لابن سليمان أخو بني خضرة في مالك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 كم فقه الله من جاب بمجلسه ... وزاد فقهاً به من فقه عباس ما ينتهي الناس في الفتوى إذا اجتهدوا ... وقايسوك لذي النوكى بمقياس أنت الفقيه إذا ودت بقيتنا ... لا الضارب (فيه) أخماساً بأسداس وقال الفقيه محمد بن عمار الكلاعي الميورقي أيضاً من قصيدة منها: وكن في ذي المذاهب مالكياً ... مدينياً وسنياً متينا مدينة خير من ركب المطايا ... ومهبط وحي رب العالمينا بها كان النبي وخير صحب ... وأكثرهم بها أضحى دفينا ومالك الرضى لا شك فيه ... وقد سلك الطريق المستبينا نظرنا في المذاهب فما رأينا ... كمذهب مالك للناظرينا ومذهبه اتباع لا ابتداع ... كما اتبع الكريم الأكرمينا وعندي كل مجتهد مصيب ... ولكن مالكاً في السابقينا وقد دل الدليل على صواب ... يقول به لدى المتحققينا وقال الفقيه أبو حفص بن عبد النور الصقلي المعروف بابن الحكار في ذلك: تأملت علم المرتضين أولي النهى ... فأفضلهم من ليس في جده لعب ومن فقه مستنبط من حديث ... رواه بتصحيح الرواية وانتخب وما مالك إلا الهدى ولذا اهتدت ... به أمم من سائر العجم والعرب وقال أيضاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 ومالك هو نور قد أضاء لنا ... بعلمه فجلونا ظلمة السدف لا يبتدي سائلاً بالوعد يصرفه ... ولا يحيل على الأوراق والصحف ولا يجيب جواباً ثم يتبعه ... نقضاً ولكن برأي غير مختلف وقال الفقيه أبو الفضل ابن النحوي في ذلك: إن الإمام الأصبحي ... من النجوم الباهرات حفظ الله به الحديث ... وعده في الحافظات وتصرفت أراؤه ... في المبدآت المبدعات ومشى على الهدي الذي ... يمشي عليه أخو الثبات أهل المدينة يهتدى ... بهم وهم أعلى الرواة ويحيل بعد قياسه ... في المحدثات المشكلات طلب المعالي فاستوى ... فوق المعالي المشرفات وتشرفت أنواره ... لحق البلاد القاصيات فاطلب منها من يوفق ... للصواب وللهداة وللقاضي المؤلف رحمه الله تعالى ورضي عنه: يا سائلاً عن عميد الهدى والسنن ... أطلب هديت علوم الفقه والسنن وعند قلبك فاشدده على ثلج ... لا تطوينه على شك ولا تخن واسلك سبيل الألى حازوا تقى ونهى ... كانوا فبانوا حسان السر والعلن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 هم الأئمة والأقطاب ما انخدعوا ... ولا شروا دينهم بالبخس والغبن أصحاب خير الورى أخيار ملته ... خير القرون نجوم الدهر والزمن من اهتدى بهداهم مهتد وهم ... نجاة من بعدهم من غمرة الفتن وتابعوهم على الهدي القويم هم ... أهل النهى والتقى والعلم والفطن واختر لدينك ذا علم تقلده ... مشهر الذكر في شام وفي يمن حوى أصولهم ثم اقتفى أثراً ... نهجاً إلى كل معنى رائق حسن ومالك المرتضى لا شك أفضلهم ... إمام دار الهدى والوحي والسنن وعنه خذ علمهم إن كنت متبعاً ... ودع زخاريف كالأحلام في الوسن فهو المقلد في الآثار يسندها ... خلاف من هو فيها غير مؤتمن وهو المقدم في فقه وفي نظر ... والمقتدي بالهدى في ذلك الزمن وعالم الأرض ضراب الذي حكمت ... شهادة المصطفى بالفضل والمنن ومن إليه بأقطار البلاد غدت ... تقضي المطايا وتصبي يده البدن من أشرف الخلق طراً حبه فجرى ... طي القلوب كجري الماء في الغصن وقال كل لسان في فضائله ... قولاً وإن نحروا في الوصف عن لسن عليه من ربه أضفى عوائده ... ومن رضاه كصوب العارض الهتن وجاد ملحده وطفاء هاطلة ... تسقي لرحماه مثوى ذلك الحنن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 أصحاب مالك باب مشاهير الرواة عن مالك ممن مات قبله من شيوخه وأقرانه ممن مات قبله بمدة وتقارب موته قال القاضي رضي الله عنه: كنا قديماً جمعنا الرواة عن مالك على حروف المعجم، على ما أشرنا إليه أول الكتاب، فاجتمع لنا منه نيف على الألف اسم وثلاثمائة اسم، وذكرنا في كتابنا هذا منهم في الطبقات الثلاثة الفقهاء منهم، إذ هو الغرض الذي بيننا عليه هذا الكتاب، وأردنا أن نذكر في هذا الباب نبذة من مشاهير من روى عن مالك من شيوخه وأقرانه، وكبراء الآخذين عنه، ومشاهير من سائر الناس ليتبين عظيم منزلته في وقته، واقتداء الجماهير به ومعرفتهم حقه، مقتصرين على الأسماء والوفاة لتقدمهم دون الخبر والقصص وعند تمام هذا الباب نرجع إلى غرضنا في تطبيق أصحابه الفقهاء وذكر أخبارهم على ما شرطنا أول الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 باب من روى عن مالك من شيوخه وأقرانه الذين تعلم منهم وروى عنهم فمن التابعين محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، روى عنه حديث الفريعة بنت سنان في الطلاق. ومات سنة أربع وعشرين ومائة قبل الخمسين سنة. أبو الأسود يتيم عروة ومات قريباً من وفاة الزهري أيوب بن أبي تميمة السختياني توفى سنة 131 إحدى وثلاثين ومائة قبل مالك بتسع وأربعين سنة. ربيعة بن أبي عبد الرحمان توفى سنة ست وثلاثين وقيل سنة اثنتين وأربعين، روى عنه حديث المتعة وغير ذلك. يحيى بن سعيد الأنصاري، وروى عنه كثيراً من حديث ابن شهاب توفى سنة 143 ثلاثة وأربعين ومائة، وقيل سنة أربع وأربعين قبل مالك بست وثلاثين سنة. موسى بن عقبة، توفى سنة 141 إحدى وأربعين ومائة وروى عنه حديث (النهي عن) بيع التمر قبل بدو صلاحه، وذكر أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب وغيره، أن من روى عن مالك من شيوخه من التابعين هشام بن عروة، وتوفى سنة ست وأربعين ومائة وذكر غيرهم منهم زيد بن أسلم وسؤاله إياه، ويزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ومن غير التابعين من شيوخ مالك الذين روى عنهم وغيره ورووا عنه الحديث، عمر بن الحارث المصري توفى قبله بثلاثين سنة. وزيد بن أنيسة الجريزي توفى قبله بخمس وخمسين سنة، سنة موت ابن شهاب، لكنه توفى شاباً ابن ست وثلاثين سنة. قال كله البخاري، روى عنه مالك في الموطأ، وروى هو عن مالك حديث رحم الله من كانت عنده لأخيه مظلمة ..... الحديث. نافع القاري ابن أبي نعيم توفى قبله بعشر سنين قرأ عليه مالك القرآن. محمد بن عجلان. زياد بن سعد. سالم بن أمية. أبو النصر مولى عمر بن عبيد الله بن أسامة ابن الهادي توفى قبله بأربعين سنة، روى عنه لا يحلب أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه. عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى حديث المتعة وغيره. طبقة أخرى من الأكابر من طبقة متأخري شيوخه من التابع والتابعين ومن مات قبله بزمن ممن لم يرو عنه مالك وروى هو عن مالك، وفيهم من عاصره وتوفى قبله بزمن: محمد بن عبد الرحمان بن أبي ذئب القرشي توفى قبله بعشرين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 عبد الملك بن جريج توفى قبله بثلاثين سنة. محمد بن إسحاق صاحب المغازي توفى قبله بنحو ثلاثين سنة. ذكر أبو محمد الضراب أنه روى عنه، وفيه نظر. ومحمد بن إسحاق المدني رجل آخر روى عن مالك بغير شك. سليمان بن مهران الأعمش توفى قبله بإحدى وثلاثين سنة. طبقة أخرى من الرواة عنه من أقرانه من الرواة والمشاهير الذين تقاربت موتاتهم معه ومن ساواه في السماع معه من أشياخه كثير منهم من مات قبله بسنين كثيرة. سفيان بن سعيد الثوري توفى قبله بنحو عشرين سنة. الليث بن سعد مصري توفى قبله بثلاثة وعشرين سنة. إبراهيم بن طهمان يروي إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الفزاري توفى بعده بثمان سنين. إبراهيم بن محمد الشافعي مكي. أنس بن عياض مدني. أبو قرة توفى بعده بعشرين سنة. أسامة بن زيد الليثي. جويرية بن أسماء بصري مات بعده بثلاث عشرة سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 جرير بن عبد الحميد الضبي. القاضي بن مسلمة بصري. حماد بن زيد بصري توفى معه في عام واحد. سفيان بن عيينة مكي، توفى بعده بإحدى عشر سنة أبو حنيفة كوفي توفى قبله بثلاثين سنة. ابنه حماد. أبو يوسف القاضي، توفى بعده بثلاث سنين. جعفر بن عون المخزومي كوفي. حفص بن عمر بن ميسرة الصنعاني. الحسن بن زياد اللولوي كوفي. حميد بن عبد الرحمان الرواسبي كوفي توفى بعده بعشرين سنة. روح بن القاسم البصري. عباد ابن عباد المهلبي، توفى بعده بسنة. فليح بن سليمان مدني، توفى قبله بإثني عشر عاماً وأخوه عبد الحميد. القاسم بن سرور الإيلي. محمد بن عمران القاضي. محمد بن أبي سبرة توفى قبله بسبع سنين. محمد بن اسماعيل بن أبي فديك. اسماعيل بن إبراهيم بن علية بصري، توفى قبله بسنتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 محمد ابن الحسن التل. إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الغازي مدني، وأخوه محمد. موسى بن أعين الجزري توفى قبله بسنتين. الضحاك بن عثمان بن عبد الله الحزامي الأكبر وابنه عثمان وابن ابنه الضحاك بن عثمان بن الضحاك وهو الأصغر من كبراء أصحابه، وتوفى هذا الأصغر بعد مالك بسنة. عبد الله بن جعفر المدني والد علي توفى قبل مالك بسنة. مسلم بن خالد الزنجي توفى سنة وفاته. عبد العزيز بن سلمة الماجشون توفى قبله بنحو عشرين سنة. وكيع بن الجراح توفى بعده بمدة. نافع بن يزيد مصري. المغيرة بن عبد الرحمان الخزاعي توفى سنة وفاته. معمر بن راشد توفى قبله بست وعشرين سنة. ورقاء بن عمر. إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى مدني. عبد الله ابن لهيعة مصري، وتوفى قبله بنحو الخمسين سنين. حفص بن ميسرة الصنعاني الشامي توفى بعد مالك بسنتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 عبد الرحمان بن أبي الزناد وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم توفى بعده بثلاث سنين. وهيب بن خالد البصري توفى قبله بخمس عشرة سنة. يونس بن يزيد الإيلي، مات قبله بعشرين سنة، وعبد الله بن إدريس الأودي. أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان بصري توفى قبله بنحو ثلاثين سنة. العطاف بن خالد المخزومي. معاوية بن صالح الحمصي قاضي الأندلس توفى قبله بنحو العشر سنين. طبقة أخرى بعد هؤلاء ممن روى عنه العلم من مشاهير الأئمة وتفقه عنده وجالسه من جلة العلماء دون هؤلاء، منهم من شاركه في شيوخه، ومنهم من ظهر في حياته وأفتى في زمانه. فمن أهل المدينة: المغيرة بن عبد الرحمان المخزومي توفى بعده بسبع سنين. وسليمان بن بلال توفى قبله بأربع سنين. وعبد العزيز ابن أبي حازم توفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قبله بأربع سنين وعبد العزيز بن الدراوردي توفى بعده بست سنين ومحمد بن مطرف أبو غسان وزكريا بن منظور ويحيى بن عبد الملك الهديري ومحمد بن مسلمة المحزومي. من أهل العراق والمشرق عبد الله بن المبارك توفى بعده بسنتين. ويحيى بن سعيد القطان وتأخرت وفاته بعده. وعبد الرحمان بن مهدي كذلك. ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتوفى بعده بثمان سنين. والحسن بن زياد الؤلؤي صاحبه وحفص ابن غياث. من أهل الحجاز واليمن أبو قرة موسى بن طارق القاضي، ومن أهل مصر عبد الرحيم بن خالد توفى قبله بثماني عشرة سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وعثمان بن الحكم توفى بخمس وأربعين سنة وسعد بن عبد الله توفى قبله بست سنين. وزيد بن شعيب توفى بعده بسبع سنين. طليب بن كامل الاسكندري واسمه عبد الله من أهل القيروان البهلول بن راشد، توفى بعده بأربع سنين، وعلي بن زياد مثله وأبو مسعود بن أشرس وعبد الله بن فروخ توفي قبله بأربع سنين، وأبو محرز القاضي محمد بن عبد الله. وعبد الله بن حيّان اليحصبي مدني. وعبد الله بن غانم القاضي، توفي بعده بسنتين على ما ذكره الشيرازي، والصحيح أن وفاته بعده بعشر سنين. من أهل الأندلس محمد بن يحيى السبائي وحفض بن عبد السلام السرقسطي وزياد بن عبد الرحمان ابن محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وسعيد بن عبدوس وسعد بن أبي هند توفي قبله بنحو ثلاثين سنة. من أهل الشام الوليد بن مسلم توفي قبله بأربع سنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ومن بعد هؤلاء من المشاهير طبقة أخرى ممن حمل عنه الفقه والحديث ويندرج بعدهم من صَغُرَت أسنانهم عنهم وجئنا بهم على حروف المعجم تقريباً وترتيباً والله سبحانه المستعان. باب الألف أحمد بن محمد بن مالك حفيده. أحمد بن أني بكر الزهري. أبو مصعب مدني. أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي. أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي مكي. أحمد بن منصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 حرف الخاء خلف بن هشام البزّاز المقري بغدادي. خلف بن جرير بن فضاله قيرواني. خلف بن حجاج الأزرق كوفي. حلف بن أيوب بلخي. خلف بن موسى بلخي. حلفه بن خليفة أبو أحمد الأشجعي بصري. خالد بن عبد الرحمان أبو الهيثم خرساني. خالد بن خراش بصري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 خالد بن عثمان العثماني. خالد بن مخلد القطواني كوفي. خالد بن يزيد العمري مدني. خالد العبدي بصري. خالد بن حميدة أبو حميد المدني. خالد بن نجيح. خالد بن سالم. خالد بن يزيد اللؤلؤي قروي. خالد بن نزار يروي رسالته إلى محمد بن مطرف. خالد بن سليمان أبو معاذ البلخي. خالد بن يزيد الأرقي بصري. خالد بن يزيد المكي. خالد بن عبد الرحمان المخزومي. خارجة بن مصعب بن الحجاج سرخسي. خصيب بن ناجح مصري. خداش بن الدحداح. خليل بن كريز كوفي. حرف الدال داود بن الزبرقان بصري. داود بن عبد الله بن أبي الكرام الجعفري مدني. داود بن مهران الدباغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 داود بن عبد الجبار. داود بن سعيد بن أبي زبير مدني. داود بن سليمان بن فلح المدني. داود بن منصور قاضي المصيصة. داود بن إبراهيم القزويني التميمي أندلسي. دعبل الخزاعي الشاعر. حرف الذال ذؤيب بن عمامة السهمي مدني. ذو النون بن إبراهيم الإخميمي مصري حرف الراء ربيع بن عبد الله بن يعقوب. الربيع بن الربيع بن الركين بن الربيع بن عليه الفزاري كوفي. داود بن الجراح عسقلاني. روح بن القاسم بصري. روح بن عبادة بصري. روح بن زيد يمني. روح بن ثابت قروي. حرف الزاي زيد بن يحيى بن عبيد دمشقي. زيد بن الحباب العكلي كوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 زيد ابن أبي الزرقاء موصلي. زيد بن الحسن بصري. زيد عن عون (مصري) . زيد بن داود مدني. زيد بن بشر مصري نزل أفريقيا. زياد بن موسى مصري. زياد بن عبد الله طليطلي. زياد بن الهيثم. زكريا بن نافع. زكريا ابن يحيى النسوي. زكريا بن يحيى بن الحكم قروي. زكريا بن دريد بن الأشعث. زهير بن محمد مكي. زهير بن عياد الرواسي. الزبير بن بكار. الزبير بن الزبير بن حبيب بن ثابت الزبيري. زنبر بن أبي الأزهر. رقعة ابن أبي عبد الله بن ربيعة. زرارة بن عبد الله أفريقي. زياد بن حبيب ابن زفان. زهر بن معبد. زياد بن سعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 حرف الطاء طلحة بن يحيى بن النعمان الزرقي مدني. طاهر بن مدرار الطنافسي كوفي. طاهر بن عمر نصيبيني. طفيل بن عبد الله أنصاري. طلق بن غانم كوفي. حرف الضاد الضحاك بن عثمان مدني. الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل بصري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ضمرة ابن ربيعة رملي. ضرام بن إسماعيل مصري. حرف الصاد صالح بن بيان السيرافي القاضي. صالح بن محمد الخوارزمي. صالح بن عبد الله القيرواني. صباح بن عبد الله أبو بشر بصري. صباح بن محارب داري. صقلاب بن زياد قيرواني. الصلب بن محمد بن همام الحاركي بصري. صدقة بن عبد الله السمين دمشقي. صخر بن محمد الحاجبي. حرف الكاف كامل بن طلحة الجحدري بصري. كثير بن هشام. كثير بن الوليد. حرف اللام ليث بن خالد الخرساني. ليث بن بكر الهذلي. ليث بن عاصم النسائي الغياني أبو زرارة. حرف الميم محمد بن مالك ابنه. محمد بن إدريس الشافعي. محمد بن مليح مدني. محمد بن صدقة فدكي. محمد بن الضحاك بن عثمان بن الضحاك الخزامي مدني وهؤلاء الأربعة في نسب كلهم. ورووا عنه وصحبوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 محمد بن حبيب شامي. محمد بن عمر الواقدي بغدادي. محمد بن النعمان بن شبيل بصري. محمد بن عبد الرحمان الصنعاني. محمد بن خالد بن حرملة البصري. محمد بن عبد الله بن القاسم العمري. محمد بن عبد الله القادري. محمد بن أبي نوح قراد بغدادي. محمد بن الله الزبيري كوفي. محمد بن مسلمة الحراني. محمد بن عبد الرحمان الرداد بن الرداد مدني. محمد بن يزيد الأنصاري. محمد بن موسى الأنصاري أبو غزية. محمد بن سليمان بن يونس. معاذ القريشي بصري. محمد بن سليمان ابن أخي داود الحراني. محمد بن خالد بن عثمة بصري. محمد بن خالد العمري مدني. محمد بن خالد الجندي. محمد بن جعفر بن صبيح مصري. محمد بن حاتم بن صبيح خرساني. محمد بن عبد الله ابن ريسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 محمد بن صالح بن فيروز مروزي. محمد بن الحسن بن خالد الترمذي. محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري القاضي بصري. محمد بن عبد الله بن سنان الحارثي. محمد بن عبد الله الرقاشي والد أبي قلابة بصري. محمد بن عون الزيادي. محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلي. محمد بن أيوب الرقي. محمد بن المجير بن علي الرعيني مصري. محمد بن جعفر الجعفري مدني. محمد بن جعفر عنوي بصري. محمد بن جعفر الوركالي. محمد بن مخلد أبو مسلم الرعيني شامي. محمد بن شجاع بن نبهان الخراساني. محمد بن مسلمة المزني. محمد بن إسحاق اللؤلؤي. محمد بن أبي فديك. محمد بن محمد ابن أسماء بن عبيد أخو جويرة. محمد بن أبي فديك. محمد بن أسامة مزني. محمد بن الحجاج المخزومي. محمد بن الحجاج المصفر بغدادي. محمد بن مصعب الفرفساني. محمد بن رمح مصري. معاوية النيسابوري. محمد بن زنبور بن أبي الأزهر المكي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 محمد بن عبد الرحمان بن شروس الصنعاني. محمد بن محمد المقدسي. محمد بن يسوقا قروي. محمد بن عمر العنزي. محمد بن مسكين الرحال. محمد بن يحيى بن عبد الحميد أبو غسان مدني. محمد بن أبي بلال. محمد بن مسلم المدني. محمد بن جعفر المدني. محمد بن عمر البلقاوي دمياطي. محمد ابن أبي موسى الرعيني برقي. محمد بن مروان أسدي كوفي. محمد بن زيد أبو زيد الأنصاري مدني. محمد بن مزاحم المروزي. محمد بن أبي الخطيب انطاكي. محمد بن عمر بن الوليد. محمد بن عيسى الطباع. محمد بن المغيرة المخزومي. محمد بن أبي مقاتل. محمد بن حيان أبو الأحوص البغوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 محمد ابن عثمان بن ربيعة الرأي. محمد بن يحيى الإسكندراني. محمد بن حرب ابن سليمان المكي. محمد بن حرب بن قطر بن قبيصة الهمامي بصري. محمد ابن سعيد السبابي أندلسي. محمد بن حرب الأبرش. محمد بن عيسى بن القاسم ابن سميع. محمد بن أبي عثمان مصري. محمد بن الفضل مكي. محمد بن مسلمة الحراني. محمد بن عثمان بن خالد العثماني. محمد بن أبي المطيع بصري. محمد بن أبي الوزير مصري. محمد بن أحمد بن حماد زغبة بصري. محمد بن عمران بن أبي ليلى كوفي. محمد بن بكير بن واصل الحضرمي بغدادي. محمد بن عتاب أبو الوليد السرخسي. محمد بن خلف البلخي. محمد بن بشر التنسي. محمد بن يحيى الأسلمي بصري. محمد بن حكم اللخمي افريقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 محمد بن معاوية الاطرابلسي. محمد بن بشير القاضي أندلسي. محمد بن عبد الأعلى أبو الحطاب افريقي. محمد بن ربيعة الحضرمي الطرابلسي. محمد بن عبد الله بن حكيم برقي. محمد بن عبد الله بن قيس الكناني برقي. محمد بن عليم. محمد بن إسماعيل حمصي مدني. محمد بن مخلد الحضرمي. محمد بن قعنب مدني. محمد بن الحسن ابن أتيش صنعاني. محمد بن عبد الله الحطاطي أندلسي. محمد بن زكريا ابن يحيى المعافري اسكندراني. محمد بن بكر البلوي. موسى بن جعفر الجعفري. موسى بن أعين الجزري. موسى بن محمد الأنصاري كوفي. موسى بن محمد بن عطاء البلقاوي. موسى بن مسلمة مصري. موسى بن عبد الله بن أبي علقة القروي. موسى بن إبراهيم المروزي. موسى بن إبراهيم العثماني. موسى بن أبي بكر البكري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 موسى بن تميم مصري. معافر بن عمران الظهري موصلي. مخلد بن يزيد الحراني. مخلد بن أبان البناء. مخلد ابن خداش أبو خداش بغدادي. (مروان بن محمد الطاطوي) . مروان ابن محمد السنجاري. منصور بن مزاحم بغدادي. منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي بصري. منصور بن يعقوب بن أبي نويرة كوفي. منصور بن إسماعيل التل حراني. محمد بن عون بصري. محمد بن سلمة العدوي. محرز المدني. معلى بن منصور الرازي. معلى المفضل البصري. مالك بن إسماعيل أبو غسان كوفي. مالك بن سليمان الهروي. مالك بن حويص الهروي. مالك بن إبراهيم النخعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 مالك بن عثمان المعافري. أبو طالب قروي. مالك بن هارون الأسواني. المغيرة بن الحسن خال سعيد بن جعفر المغيرة بن صقلاب حراني. المغيرة بن الحسن الهاشمي مدني. مسلمة بن سليمان أندلسي. مسلمة بن علي بن الحسن شامي. معن بن عيسى. مطرف ابن عبد الله مكي. مكي بن إبراهيم الرحميني بلخي. محمود بن ميمون كوفي. منبه بن عثمان دمشقي. مسكين بن بكير حراني. مجاعة بن الزبير. معمر بن خالد السروجي. مفضل بن فضالة مصري. مفضل بن صدقة. معمر بن سليمان بصري. مسيب بن شريك. مقاتل بن إبراهيم بلخي. مهدي بن إبراهيم شامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 مهدي بن هلال. مصعب بن عبد الله الزبيري. مصعب بن عثمان الزبيري. مصعب بن إبراهيم القرشي. مهران ابن أبي عمران الرازي. مبشر بن إسماعيل الحلبي. مبارك بن مهاجر أبو الأزهر الرازي. منجاب بن الحارث بصري. مرداس بن محمد أبو هلال الأشعري. منيع بن ماجد أبو مطرف صنعائي. معاوية بن هشام أنصاري كوفي. مسعدة بن اليسع كوفي. معاوية بن حفص السبعي حمصي. معاوية ابن المفضل قيرواني. مندل بن علي القمزي. مغيث بد بديل سرخسي المنذر بن علي الخزامي مدني. الماضي بن محمد بن مسعود بصري. مرحوم ابن عبد العزيز العطار مصري. مسلم ويقال سلم بن ميمون الخواص شامي مطرف بن الأقرع قروي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 حرف النون النعمان بن عبد السلام الأصبهاني. النعمان بن شبل بصري. نوح بن أبي مريم أبو عصمة بلخي. نوح بن يزيد المؤدب بغدادي. نوح بن مريم. النضر بن شميل مروزي. النضر بن شميل مكي. النضر بن الطاهر بصري. نضر بن باب خرساني. نضر بن طريف بصري. أبو حربة بصري. نصر بن إبراهيم. نافع بن يزيد بصري. نعيم بن حماد خراساني. حرف العين عبد الله بن نافع الصائغ مدني. عبد الله بن نافع الزبيري مدني. عبد الله ابن سلمة القعنبي بصري. عبد الله بن وهب مصري. عبد الله بن عبد الحكم مصري. عبد الله بن عثمان بن أبي واد بصري. عبد الله بن عون الخرازني بغدادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 عبد الله بن محمد بن أبي الوزير طائفي. عبد الله بن ميمون الرمام بلخي. عبد الله بن عثمان المعافري قروي. عبد الله بن عباد أبو عباد البصري ابن أخت حماد بن سلمة. عبد الله بن عبد الوهاب الجحفي. عبد الله ابن عنبسة العثماني. عبد الله بن عمرو بن أمية المغربي. عبد الله بن أمية النخاس. عبد الله بن إبراهيم الغفاري مدني. عبد الله بن عمر الفهري. عبد الله بن إدريس الجعفري. عبد الله بن إبراهيم البياض. عبد الله بن عبد الملك. عبد الله بن يزيد القصير مكي. عبد الله بن الحارث المخزومي مكي. عبد الله بن عثمان بن أبي إسحاق بن سعد بن أبي وقاص. عبد الله ابن مهران كوفي. عبد الله بن حكيم ابو بكر الداهري. عبد الله بن داود الجريجي بصري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 عبد الله بن داود التمار واسطي. عبد الله بن نمير العمراني كوفي. عبد الله بن الوليد العدني. عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان مدني. عبد الله بن الربيع. عبد الله بن محمد بن أبي فروة. عبد الله بن مطيع بغدادي. عبد الله بن مسلم بن رشيد الهاشمي مولاهم. عبد الله بن محمد بن زمعة العداي مصيصي مولاهم. عبد الله بن مسلم. عبد الله بن محمد بن عمارة الفراح. عبد الله بن واقد الحراني. عبد الله بن العلاء بن زيد دمشقي. عبد الله بن الجراح القومتاني. عبد الله بن رجاء المكي بصري. عبد الله بن مسوار العنبري القاضي بصري. عبد الله بن مالك الخزاعي. عبد الله بن يوسف التنيسي. عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود ابن أخت ابن مهدي. عبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 عبد الله ويقال عبد الرحمان بن يحيى بن سعيد القدري مدني. عبد الله بن عمر بن قاسم العمري. عبد الله بن معاذ صنعائي. عبد الله بن النضر بن أنس بن مالك بصري. عبد الله بن أبي حسان قيرواني. عبد الله بن صالح كاتب الليث. عبد الله بن أسمح مصري. عبد الله بن محمد البيطاري مصري. عبد الله بن حماد الخولاني مدني. عبد الله بن أبي غسان قروي. عبد الله ابن عبد الحميد الحنفي بصري. عبد الله بن عثمان أبو طالب الإبزاري. عبد الله بن عياد القلزومي. عبد الله بن داود الطيالسي. عبد الله بن عبد الجليل مؤدبه. عبد الله بن حازم الرملي. عبد الرحمان بن القاسم مصري. عبد الرحمان بن محمد المحاربي. عبد الرحمان بن عمر الحراني. عبد الرحمان ابن عبد الله بن عمر العمري. عبد الرحمان بن عبد الله أبو سعيد الهاشمي مكي. عبد الرحمان بن أبي جعفر الدمياطي. عبد الرحمان بن عبد الله ابو سعيد الهاشمي مكي. عبد الرحمان بن أبي جعفر الدمياطي. عبد الرحمان بن محمد الحمدي مدني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 عبد الرحمان بن مسلم بن واقد. عبد الرحمان بن غزوان قراد أبو نوح. عبد الرحمان بن المغيرة الخزامي. عبد الرحمان بن دبيس الملامي كوفي. عبد الرحمان بن يونس الجعفري كوفي. عبد الرحمان بن يحيى بن ريسان بغدادي. عبد الرحمان بن مقاتل أبو سهل خالد القعنبي. عبد الرحمان ابن المبارك العيشي. عبد الرحمان بن إبراهيم الراسبي. عبد الرحمان بن الجهم قيرواني. عبد الرحمان بن زيد بن أسلم مدني. عبد الرحمان بن عبد الله بن تيم اليشكري قاضي نيسابور. عبد الرحمان بن عبد الله العمري نيسابوري. عبد الرحمان بن هند أندلسي. عبد الرحمان بن موسى الهواري. عبد الرحمان بن عبد الله الأشبوني أندلسي. عبيد الله بن عبد الحميد ويقال عبد الله أبو علي الحنفي بصري. عبد الله بن سفيان القداني بصري. عبيد الله ابن محمد بن عائشة التميمي. عبيد الله بن عمر الأموي. عبيد الله بن حيان دمشقي. عبيد بن أبي قرة بغدادي. عبيد بن عبيد الله مروزي. عبيد ابن عبد الرحمان اليمامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 عبيد بن هشام الحلبي القلانسي أبو نعيم. عبد العزيز ابن عمران الزهري. عبد العزيز بن عبد الملك الأوسي. عبد العزيز بن يحيى مدني. عبد العزيز بن عبد الله الأويسي. عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان خراساني. عبد العزيز بن أبي رزمة مروزي. عبد العزيز بن أبي رجاء. عبد العزيز بن يحيى الهاشمي مولاهم. عبد العزيز بن عبد الله العامري بغدادي. عبد العزيز بن أبي رواد خراساني. عبد الملك بن الماجشون. عبد الملك بن مسلمة القعنبي بصري، أخو عبد الله. عبد الملك بن مسلمة القريشي مصري. عبد الملك بن زياد النصيبيني. عبد الملك بن قريب الأصمعي. عبد الملك بن يزيد الحرزي. عبد الملك بن عمر بن عامر القعدي. عبد الملك ابن عبد العزيز النسائي أبو نصر التمار. عبد الملك بن مهران الرفاعي. عبد الملك ابن أبي كريمة قاضي القيروان. عبد الملك بن مهران الرفاعي. عبد الملك ابن أبي كريمة قاضي القيروان. عبد الملك بن يزيد القرقساني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 عبد الملك بن الحكم الرملي. عبد السلام بن سلمة بن يرداد مدني. عبد السلام بن صالح أبو الصلق الهروي. عبد الحميد بن أبي أويس أبو بكر مدني. عبد الحميد ابن سليمان الخزاعي أخو فليح بن سليمان مدني. عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن فروة. عبد الحميد بن يحيى مدني. عبد الحميد بن صالح البرجمي كوفي. عبد الوهاب بن نافع مدني. عبد الوهاب بن عطارد الخفاف العجلي بصري. عبد الوهاب بن موسى الزهري. عبد الكريم بن روح بن عنبسة. عبد الحكم ابن أعين مصري. عبد الأعلى بن حماد الراسبي بصري. عبد الأولى بن مسهر دمشقي. عبد الرحيم بن موسى العتاد. عبد الرحيم بن واقد بغدادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 عبد الرحيم بن أشرس قروي. عبد الكبير بن عبد الحميد بن أبي رواد مكي. عبد الغفار ب داود بن مهران حراني. عبد العظيم بن حبيب بن زغبان أبو بكر الحمصي. عبد الرزاق بن همام صنعائي. عبد الجليل بن سعيد الساحقي. عبد المنعم بن بشر أبو الخير مدني. عبد المتعال بن صالح. عبد الأحد بن أبي زرارة الغساني. عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة حمصي. عبد العظيم ابن عبد ابن عبد الله النقعي. عبد الحكم بن ميسرة المروزي. عمر بن هارون البلخي. عمر بن راشد ويقال عمرو الرملي. عمر بن أبان بن عثمان. عمر بن عصام مدني. عمر ابن إبراهيم بن مالك الكردي كوفي. عمر بن محمد بن يحيى ابن عمر بن أبي مسلمة بن عبد الرحمان حجازي. عمر بن أيوب المدني. عمر بن نعيم بن ميسرة الرازي. عمر بن خالد مصري. عمر بن أيوب البرقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 عمر بن أيوب المعافري. عمر بن سميك ويقال سمك قروي. عمر السهيمي. عمر بن سعيد أبو داود كوفي. عثمان بن عمر بن فارس بصري. عثمان بن عمر بن سلاح حراني. عثمان بن عبد الرحمان الطرابلسي حراني. عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي. عثمان بن عثمان بن خالد العثماني. عثمان بن عبد الله القرشي. عثمان بن الله النصيبيني. عثمان بن صالح بن حبان مصري. عثمان بن عبد الله بن محمد الأموي. علي بن زياد الفقيه التونسي. علي بن زياد المحتسب الاسكندراني. علي بن الجارود النيسابوري. علي بن أبي علي اللهبي. علي بن هشام بن البريد كوفي. علي بن عبيد الله ابن محمد بن محمد بن علي بن أبي طالب. علي بن يونس البلخي. علي ابن عبد الحميد المعي الكوفي. علي بن الماع المروزي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 علي بن الحسن بن أبان الرازي كراع. علي بن أبي بكر الأسباطي رازي. علي بن ثابت الجزري، علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري. علي بن الجعد الجوهري بغدادي. علي بن الربيع بن الركين الفزاري كوفي. علي بن محمد بن الحسن العلوي بن يوسف البصري. علي بن سالم الجهمي. علي ابن قتيبة الرفاعي. علي بن سعيد المؤذن. علي بن سعيد الترمذي. علي ابن عيسى الغساني. علي بن معبد بن شداد العبيدي مصري. علي بن معبد بن شداد العبيدي مصري. علي بن هارون الزينبي. علي بن الحسن الساسي صعيدي. علي بن زادويه. علي ابن أبي الوزير. علي بن يونس القروي. علي بن مقدم بصري. عمر ابن سعد أبو داود الجعدي كوفي. عمر بن عمران المدني. عمر بن عثمان الزهري مدني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 عباس بن أبي سلمة مدني. عباس بن الوليد القرشي مصري. عباس بن ناصح الجزري. عباس بن الوليد الفارسي تونسي. عمر بن حفص الإيلي. عمر بن اليتيم القطيعي بصري. عمر بن حكام بصري. عمر بن محمد المنقري كوفي. عمر بن أبي سلمة تنيسي. عمر بن مزرق بصري. عمر بن زياد الثوباني. عمر بن يزيد مصري. عمر بن مروان الإيلي. عمر بن زياد الباهلي بصري. عمر بن محمد العثماني. عيسى بن زيد بن علي الحسيني. عيسى بن الجعفري. عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. عيسى بن ميمون المكي. عيسى بن موسى مدني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 عيسى بن موسى الصفار. عيسى بن خالد اليمامي. عيسى بن واقد الحنفي. عيسى بن أبي فاطمة الرازي. عيسى ابن شجرة التونسي. عيسى بن موسى بن حميد مدني. عيسى بن يونس الرملي. عيسى بن خالد دمشقي. عاصم بن مهجع أبو الربيع البصري. عاصم بن أبي بكر الزهري أبو قمرة مدني. عاصم بن علي بن عاصم الواسطي. عاصم ابن عبد العزيز الأشجعي. عقبة بن خالد السكوني كوفي. عقبة بن علقمة المعافري مروي. عقبة بن حسان العجري. عقبة بن عبد الحميد مروزي. عتبة بن حماد أبو جليد المكي القاري. عتبة بن محمد مروزي. عامر بن صالح بن عبد الله الزبيري مدني. عامر بن أبي عامر الخراز مصري. عامر ابن أبي جعفر الأندلسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 عامر بن يسار. عامر بن عبد الله الغافقي. عباد ابن كثير عباد بن عباد بن المهلب أبو معاوية بصري. عباد بن صهيب أبو بكر الكلبي. العلاء بن عبد الجبار مكي. العلاء بن كثير مصري. علي ابن الفضل أبو حاتم البصري. عمارة بن زيد. علي بن مطر الرهاوي. عمران ابن أبان الواسطي. عمر بن يزيد بن جرجيس الفارسي مصري. عطاف بن خالد المخزومي. عتيق بن يعقوب بن صديق الزبيري. عمير بن عمار الهمذاني كوفي. عمامة بن عمر السهمي. عون بن عمارة مصري. عفيف بن سالم موصلي. عفان بن يسار الجرجاني. عنبسة بن داود قروي. عبيد بن عثمان دمشقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 حرف الغين غياث بن إبراهيم. غياث بن الحسيب. غسان بن مالك. الغازي بن قيس أندلسي. حرف الفاء فضيل بن عياض مكي. فتيان بن أبي السمح مصري. فضيل بن صالح المعافري. الفضيل بن ذكين أبو نعيم كوفي. فضيل بن غانم القاضي بغدادي. الفضل بن يحيى بن المروح أنباري. الفضل بن العباس. الفضل بن منصور. فضيل بن إسحاق. فياض بن محمد الرقي. فرج بن مرزوق أبو مسلم فهر بن حيان الأقطف بصري. فرات بن زهير بن أبي عيسى الجزري. فطر ابن حماد بن واقد الصفار بصري. فطر بن محمد الكواري. حرف القاف قاسم بن معن بن عبد الرحمان المسعودي كوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 قاسم بن الحكم ابن أبي أوس مدني. قاسم بن مزيد الحرمي. القاسم بن عبيد العمري. القاسم بن نافع مدني. القاسم بن سليمان الطائفي. قتيبة بن سعيد الخراساني. قيس بن الربيع كوفي. قطن بن صالح دمشقي. قدامة بن شهاب. قدامة بن محمد بن خيثم. قرعوس بن العباس أندلسي. حرف السين سعيد بن عفير مصري. سعيد بن الجهم مصري. سعيد بن عثمان مصري. سعيد بن الحكم بن أبي مريم. سعيد بن داود بن أبي زنبر مدني. سعيد بن مسكين بن أبي زرد. سعيد بن هشام. سعيد بن موسى شامي. سعيد بن أبي هلال. سعيد بن عبد الرحمان الجمحي. القاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي بصري. سعيد بن سالم القداح. سعيد بن سالم العطار مكي. سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بصري. سعيد بن منصور مكي. سعيد بن محمد ويقال ابن موسى الأزدي. سعيد بن عمر الزبيري. سعيد ابن معن مدني. سعيد بن عيسى. سعيد بن منصور بلخي. سعيد بن المغيرة الصياد مصيصي. سعيد بن الصباح نيسابوري. سعيد بن عون بصري. سعيد بن عبد الجبار أبو غنام حمصي. سعيد بن عمر بن الزبير مدني. سعيد بن عبد الرحمان المساحقي مدني. سعيد بن عبد الرحمان بن جعفر بصري. سعيد بن ميسرة أو هبيرة كوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 سعيد بن عبد الحميد بن جعفر أبو معاذ مدني. سليمان بنبرد مصري. سليمان بنداود الزهراني. سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر كوفي. سليمان بن داود العسفاني. سليمان ابن محبوب العباداني. سليمان بن فريع مصري. سليمان بن عيسى الشجري. سليمان بن بريد بن المغني مدني. سلمة بن العبار دمشقي. سلم بن قتيبة الشعيري بصري. سلم بن المغيرة الأزدي، أبو خميصة. سويد بن سعيد الحدثاني كوفي. سويد بن عبد الله كوفي. سويد بن عبد العزيز الدمشقي. سويد بن محمد قروي. سهل بن حماد أبو عتاب الدلال بصري. سهل بن مزاحم المروزي. سهل بن زياد الباهلي أبو عمرو. سهيل ويقال سهل بن قدامة الخاطبي. سلام بن واقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 سريح بن يونس بغدادي. سريح بن النعمان. سوار بن عمار رملي، سنان بن عبد الله، سحبل خادمه. سليمان ابن عبد الله بن كعب. سالم القداح مصري. سلامة بن زياد بن يونس مصري. حرف الشين شعيب بن يحيى اسكندراني. شبابة بن شبابة بن سوار مدائني. شعيب ابن إسحاق دمشقي. شعيب بن حرب أبو صالح بغدادي. شعيب بن الليث ابن سعد مصري. شجرة بن عبد الله بن عيسى قروي. شبطون بن عبد الله أندلسي. حرف الهاء الهيثم بن عدي الطائي بغدادي. الهيثم بن جميل انطاكي. الهيثم بن خارجة خراساني. الهيثم بن حبيب بن غزوان أبو سالم خراساني. الهيثم بن عبد الله القرشي الفقيه. الهيثم بن خالد الخشاب كوفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الهيثم بن حيان ابو بشر الرازي. هشام بن عبد الملك المدائني. أبو الوليد الطيالسي بصري. هشام ابن بهرام المدائني. هشام بن عمار السلمي دمشقي. هشام بن عبد الله الرازي. هشام بن إسحاق بن عمرو أبو ربيعة مصري. هشام بن يوسف القاضي الصنعاني. هاشم بن القاسم أبو النضر بغدادي. هشام بن محمد الربعي. هانىء بن المتوكل اسكندراني. هياج بن بسطام هروي. هشام بن مسلم. هشيم بن بشير بغدادي. هارون بن صالح الطائي. هارون بن أبي الهيدام. هارون بن عبد الله الزهري القاضي بغدادي. هارون بن معروف بغدادي. حرف الواو ورقاء بن عمرو السكوني مدائني. الوليد بن سلمة الطغرائي. الوليد ابن كثير رازي. وهب بن المبارك أبو اليسع. وهب بن عطية بصري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وهب بن وهب أبو البختري القاضي. وبرة بن داود أندلسي. حرف الياء يحيى بن مالك ابنه. يحيى بن يحيى التميمي نيسابوري. يحيى بن يحيى الليثي أندلسي. يحيى بن بكير مصري. يحيى بن نضر أندلسي. يحيى بن سعيد أبان أموي. يحيى بن سليمان الطائفي. يحيى بن أيوب المصري. يحيى بن أبي زائدة كوفي. يحيى بن عبد الله بن سالم العمري مدني. يحيى بن نصر بن حاجب القرشي. يحيى بن عبد الله الضحاك البابلي. يحيى بن عبد الصمد بن معقل بن وهب بن منبه الصنعاني شامي. يحيى بن حمزة الدمشقي. يحيى بن محمد العمري. يحيى بن ثابت الجندي، يحيى كاتبه. يحيى بن المبارك الصنعاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 يحيى بن صالح الوحاظي شامي. يحيى بن إبراهيم بن داود بن أبي قتيبة مدني. يحيى بن محمد بن قتيبة مدني. يحيى بن سالم البصري، سكن أفريقية. يحيى بن عبد الله بن غيلان الجوهري بغدادي. يحيى بن السكن. يحيى بن عبد الحميد الحمامي كوفي. يحيى بن ترعة القرشي مدني. يحيى بن أبي عمر المدني. يحيى بن أبي المتوكل الباهلي. الحراني ويعرف ويعرف بالتميمي. يحيى بن مسلمة بن قعنب. يحيى بن أبي عباد. يحيى بن راشد. يحيى بن الضريس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 رازي. يحيى بن العريان الهروي أبو زيد. يحيى بن عبيد الشافي. يحيى بن زياد بن ضماد المرادي اسكندراني. يحيى ابن سابق مدني. يحيى بن عباد الزبيري مدني. يحيى بن كثير العنبري. يحيى بن يزيد الحنبلي. يوسف بن عدي كوفي. يوسف بن عمر بن يزيد مصري. يوسف بن شعيب اللاذقي. يوسف بن يونس أبو يعقوب الأفطسي شامي. يوسف بن الطرق. يعقوب بن الوليد المدني. يعقوب بن إبراهيم الحضرمي. يعقوب بن إبراهيم بن مطرف. يعقوب بن إسحاق بن أبي عباس القلزمي. يعقوب بن كاسب مدني. يونس بن يحيى أبو نباتة مدني. يونس ابن محمد بغدادي. يونس بن هارون شامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 يونس بن عبد الله بن سالم الخياط عصبة مالك. يونس بن عبد الله الليثي لعمري بصري. يونس بن تميم مصري. يزيد بن أبي حكيم المدني. يزيد بن إبراهيم التستري. يزيد بن هارون الواسطي. يزيد بن هارون أبو خالد الأصبحي ويقال الصباحي. يزيد بن الخلال بغدادي. يزيد بن مغلس الباهلي. يزيد بن وهب أبو موهب شافعي. يزيد بن محمد الجمحي أفريقي. يزيد بن عبد الأعلى ابن سويد الحبشاني. يعيش بن هشام القرقساني شامي. حرف الكنى أبو بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. أبو بكر بن شعيب المدني. أبو طلحة القاضي المدني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أبو طالب بن عثمان المعافري قروي، وهو والله أعلم أبو طالب الإبزاري وسنذكره والخلاف فيه. أبو محمد الحكيمي مدني. أبو موسى القاضي، أراه هارون الزهري ولكنه كنيته ذلك المعروفة والله أعلم. أبو يحيى أبو المطرف بن أبي الوزير بصري. أبو علي صاحب محمد بن الحسن. أبو نصر التمار كوفي. أبو نضلة الأوسي. أبو السمح ويقال أبو السمحاء والد فتيان مصري. أبو سهل ابن أخي عتبة بن محمد اليمامي. أبو سعيد مولى بني هاشم أبو الهيثم العبدي. أبو سوار ويقال ابن سوار الجوني. أبو نبيل عبد الله بن مالك. أبو سلمة الخزاعي. أبو سليمان البلخي كاتب ابن الرماح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قال الإمام الحافظ رضي الله تعالى عنه، قد ذكر ما في هذه الحروف من التراجم التي قبلها من أسماء الرواة عن مالك للفقه والأثر من الأكابر والمشائخ قبله وبعده ومعه، ومشاهير الرواة نيفاً على ألف اسم وتركنا كثيراً ممن لم يشتهر بذلك أو من جهل ولم يعرف من هو أو لم يذكر له عنه رواية إلا حكاية حالة أو وصف قصة، أو ذكر في رواية ولم تصح روايته عنه عند أهل المعرفة بالأثر ولاحظنا ذلك من كتابنا الآخر الجامع لجمهرة رواته الذين قدمنا ذكرهم واقتصرنا فيه على مجرد أسمائهم والتعريف بهم، دون التعرض لما رووه عنه، ولا شيء من أخبارهم إذ أخبار الفقهاء منهم تأتي مستوعبة مبسوطة بعد هذا الجزء إن شاء الله تعالى، وغيرهم ليس من غرضنا في هذا التأليف فلم نشتغل به، فنخرج عن أسلوبه ونخالف مقتضى تبويبه والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . تم الجزء الثاني من المدارك والحمد لله على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ابتداء الطبقات قال الفقيه القاضي الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رضي الله عنه: وهذا حين ابتدىء لي ترتيب الطبقات المقصودة على العهود الموعودة وقد وجدنا أصحاب مالك من الفقهاء ثلاث طبقات. أولها، من كان له ظهور في العلم مدة حياته وقاربت وفاته مدة وفاته. وثانيها قوم بعد هؤلاء، فمن عرف بطول ملازمته وصحبته وشهر بعده بتفقهه عليه وروايته. ثالثها، قوم صحبوه صغار الأسنان أخرجهم بعده الزمان، فقاربوا أتباع أتباعه وفضلوا بشرف مجالسته وحرية سماعه، فرتبناهم على هذا التطبيق وجئنا بمن بعدهم فريقاً بعد فريق والله ولي التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 الطبقة الأولى من أصحاب مالك فمنهم من أهل المدينة: المغيرة بن عبد الرحمان المخزومي: قال الزبير ابن بكار هو المغيرة بن عبد الرحمان بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. قال أبو القاسم الإلكاني: ويقال في نسبه أيضاً ابن عبد الرحمان بن الحارث بن عياش. وقاله البخاري: ويقال ابن عبد الرحمان بن عبد الله بن عياش كنيته أبو هاشم. قال: وأمه قروية بنت محمد بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، سمع أباه وابن عجلان وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وهشام بن عروة وموسى بن عقبة وأبا الزناد ويزيد بن أبي عبيد ومالكاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 روى عنه، ابناه عبد الرحمان وعياش ومصعب بن عبد الله، وأبو مصعب الزهري وإبراهيم بن حمزة الزبيري وقتيبة ابن سعيد، ويحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم وابن مهدي وابن كاسب والدراوردي. قال أبو زرعة: لا بأس به. والمغيرة أحب إلي في أبي الزناد من ابنه، خرج عنه البخاري وقال يحيى فيه: ثقة. وقال أحمد بن حنبل لا بأس به. ذكر مكانته من العلم والثناء عليه قال الزبير: كان المغيرة، فقيه المدينة بعد مالك. قال أبو عمر بن عبد البر: كان مدار الفتوى في زمان مالك وبعده علي المغيرة ومحمد بن دينار. حكى ذلك عبد الملك بن الماجشون، وكان ابن أبي حازم ثالثهم في ذلك، وعثمان بن كنانة وابن نافع. قال ابن بكير كان المغيرة يفتي في حياة مالك وللمغيرة كتب فقه قليلة في أيدي الناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 قال الواقدي: كان المغيرة فقيه أهل المدينة بعد مالك. قال غيره: كان بين المغيرة ومالك أول أمره معارضته ثم زالت آخراً وجالسه. قال محمد بن عبد الله البكري: رأيت المغيرة يأتي مالكاً فيستند في المجلس وما يرتفع إلى مجلس مثله. وقال غيره: وكان لمالك مجلس كالدكة يقعد فيه وإلى جانبه المخزومي لا يقعد فيه سواه، وإن غاب المخزومي. قال الزبير: وعرض عليه أمير المؤمنين الرشيد قضاء المدينة وجائزة أربعة آلاف دينار فامتنع، فأبى إلا أن يلزمه ذلك، فقال والله يا أمير المؤمنين لئن يخنقني الشيطان أحب إلي من أن ألي القضاء. فقال الرشيد ما بعد هذا شيء، وأعفاه. وأجازه بألفي دينار. وقال الواقدي: لما جمع الرشيد بين مالك وأبي يوسف وأبي مالك أن يناظره، قام المغيرة وقال: يا أمير المؤمنين، منا من يكفي أبا عبد الله الجواب إن أذن أمير المؤمنين. قال من هو؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 قال: أنا. فأذن له فناظره المغيرة في مسألة من الرهن، وكان فقيه المدينة بعد مالك، فقويت حجة المغيرة على أبي يوسف فتناظرا إلى المغرب حتى خرجوا. قال الواقدي: فقال لي يحيى بن برمك: يا واقدي ماذا لقي صديقك أبو يوسف من المغيرة؟ لقد حيره حتى جعلت أتمنى أن يؤذن المؤذن بالمغرب فيتفرق المجلس لما لقي أبو يوسف منه. وقال المغيرة لمالك حين خرجوا: كيف رأيت مناظرتي للرجل؟ قال رأيتك مستعلياً عليه، غير أنك كنت تترك شيئاً. قال وما هو؟ قال كنت إذا ظهرت عليه في مسألة فضاقت به، أخرجك إلى غيرها وتخلص منها بذاك، وكان ينبغي أن لا تفارقه فيها حتى يفرغ منها. ذكر نوادره وأخباره قال الزبير بن بكار: قرأ الدراوردي على المغيرة فجعل يلحن لحناً منكراً فقال: ويحك يا دراوردي، أنت كنت بإقامة لسانك قبل طلبك هذا الشأن أحرى. وقال: ما كانت لنا حرمة إلا عاد عليها اللسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وحكى أبو بكر الخطيب عن ابن الماجشون، قال: دخل أبي وأصحابه على المهدي بالمدينة وفيهم المغيرة بن عبد الرحمان وأبو السائب، وابن أخت الأحوص، فقال لهم: أنشدوني. فأنشد عبد العزيز بن الماجشون: وللناس بدر في السماء يرونه ... وأنت لنا بدر على الأرض مقمر فبالله يا بدر السماء وضوئها ... تراك تكافي عشر مالك آخر وما البدر إلا دون وجهك في الدجا ... يغيب فتبدو حين غاب فتقمر. وما نظرت عيني إلى البدر طالعاً ... وأنت تمشي في الثياب فتسحر. وأنشد ابن أخت الأحوص: قالت كلابة ما هذا فقلت لها ... هذا الذي أنت من أعدائه زعموا إني امرؤ لج في حب فأحرقني ... حتى بليت وحتى شفني السقم وأنشد المغيرة: رمى البين من قلبي السواد فأوجعا ... وصاح فصيح بالرحيل فأسمعا وغرد حاوي البين وانشقت العصا ... وأصبحت ملهوف الفؤاد مفجعا كفى حزناً من حادث الدهر أنني ... أرى البين لا أسطيع اللبين موقعا وأنشد أبو السائب: أصيخا للداعي حب ليلى ميمما ... صدور المطايا نحوها وتسمعا خليلي إن ليلى أقامت فإنني ... مقيم وإن بانت فبينا بنا معا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وإن أثبتت ليلى بربع غدوها ... فعوذا لها بالله أن تتزعزعا فقال المهدي والله لأغنيتكم الأربعة. فأجاز الأربعة بعشرة آلاف دينار. وقال المغيرة: كنت أسأل مالكاً، عن القول يقوله من أين قاله، فصلى يوماً إلى جانبي فقال لي: يا أبا هاشم، إنك تكرم علي وتسألني عما لا أجيب فيه الناس، فإن أجبتك اجترأوا عليّ، وأحب أن تفعل، ولكن اكتب ما تريد من المسائل وابعث بها تحت خاتمك أجيبك فيما أمكنني إن شاء الله. فانصرفت مسروراً وقلت لأصحابنا اكتبوا مسائل فكتبناها في نصف طومار وختمت عليه ووجهتها إليه، فقامت عنده أربعة أشهر فجاءتني بخاتمه بعد ذلك وقد أجاب في ثلث ذلك المسائل، قال في باقيها لا أدري. ومعه دخل مالك على الرشيد متوكئاً على المساحقي وعبد الرحمان بن عبيد الله العمري، وربما كان مع المغيرة إذ ذاك للناس، قيل لمالك: إن المغيرة قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 عرض به أبو المعافى في شعره الكافي، وكان قد سجن فجعل له مالك أن يخرج من شهد عليه وشهد عليه المغيرة فقال: ألا قل لقوم سرهم فقد مالك ...... الأبيات. مولد المغيرة سنة أربع وعشرين ومائة، وتوفى فيما قاله الزبير وعمه مصعب سنة ثمان وثمانين ومائة. وقال البخاري وابن وضاح: في صفر سنة ست وثمانين، قال البخاري: يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر، وابنه أبو القاسم عبد الرحمان بن المغيرة. قال أبو القاسم الإلكاني يروى عن مالك وابنه يروي عنه ابن المنذر، والخزامي وعبد الرحمان بن شيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 عبد العزيز بن أبي حازم واسم أبي حازم سلمة بن دينار الفقيه الأعرج مولى أسلم، وقال ابن شعبان: مولى بني ليث كناه غير واحد أبو تمام وكناه أبو إسحاق الشيرازي أبو عبد الله، والأول أصح. وقال آخر: أبو اليمان وهو تصحيف من أبي تمام والله اعلم تفقه مالك على ابن هرمز وسمع اباه والعلاء بن عبد الرحمان، وزيد بن اسلم، وسهيل بن أبي صالح، وثور بن زيد، ويزيد بن المناذر ومالكاً، وكان من جلة أصحابه، روى عنه ابن وهب وابن أبي أويس وقتيبة وعبد العزيز الأوسي وابن مهدي والقاضي هارون الزهري وابن المديني والقعنبي ويحيى بن يحيى التميمي، ومصعب الزبيري، قال ابن معين فيه: صدوق ثقة ليس به بأس. قال النسائي ليس به بأس. وقال أبو حاتم الرازي وهو صالح الحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قال: هو وأبو زرعة أفقه من الدراوردي، والدراوردي أوسع حديثاً منه. قال ابن حارث: كان إمام الناس في العلم بعد مالك، وحكاه ابن وضاح عن بعضهم وسور مع مالك آخرا. قال أحمد بن حنبل لم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه فإنه سمعها منه، وكان رجلاً تفقه، وكان يقال لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه. قال: ويقال أن كتب سليمان بن بلال رفعت إليه ولم يسمعها منه. وقد روي عن أقوام لا يعرف له منهم سماعاً. قيل لمصعب بن عبد الله: ابن أبي حازم ضعيف إلا في حديث أبيه. قال، وقد قالوها، أما ابن أبي حازم فسمع من سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى بكتبه إليه، فكانت عنده، وقد بال عليها الفأر فذهب بعضها فكان يقرأ ما استبان ويدع ما لا يعرف. وأما حديث أبيه فكان يحفظه، خرج عنه البخاري ومسلم. قال أحمد كان يتفقه، لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 قال مصعب: ابن أبي حازم فقيه. وقال ابن السكري: هو مدني ثقة. وقال مثله ابن نمير. قال الدراوردي: شهد عند قاضي المدينة فقال ما اسمك؟ قال عبد العزيز بن أبي حازم، قال: الاسم عدل، ولا أعرف وجهك. وكلف المشهود له من يعرف وجهه، قال فاستحسن ذلك العلماء. قال المؤلف مثل هذه الحكاية لابن القاسم وهي أشبه لخموله وقلة مواصلته القضاة، وأما ابن أبي حازم فأشهر بالمدينة ومجالس أعيانها من أن يجهل. وحكى الشيرازي أن مالكاً قال فيه: إنه لفقيه. وقال مالك قوم فيهم ابن أبي حازم لا يصيبهم العذاب. وقال ما يرفع عن المدينة إلا بابن أبي حازم. وقال ابن أبي ضمرة وغيره: ذكر قوم عند مالك الموت فبكى، فقلنا له أرأيت أن نزل بك الموت فإلى من نفزع ومن نشاور؟ فقال: إن قوماً فيهم ابن أبي حازم فيصدرون عن رأيه أرجو أن يوفقوا. وحكى الدراوردي، أن مالكاً سئل حين احتضر من ترى لنا؟ قال أبو تمام، يعني ابن أبي حازم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 قال ابن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة فلم يجبه فيها، قال له: فمن نسأل يا أبا عبد الله؟ قال سل ابن أبي حازم، فإنه نعم المرء. قال ابن مليح لمالك الأنفس يقرى عليها ويراح فمن تأمرنا يا أبا عبد الله؟ قال: بابن أبي حازم. وقال أبو مصعب: إن مالكاً وعمر بن حسين كانا يجلسان عند الوالي فكان يرفع صوته على مالك، فقال مالك يوم بيوم. قال ابن شعبان وغيره: توفى فجأة بالمدينة في سجدة سجدها بالروضة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، في آخر سجدة منها غرة صفر سنة خمس وثمانون وكذا قال الزبيري وغيره. قال ابن سعد الجارودي والقعنبي والباجي: سنة أربع. قال ابن سحنون سنة ست وثمانين ومائة. وذكر البخاري أيضاً أن موته سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومولده سنة سبع ومائة وكان رحمه الله يخضب بالحناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 عبد العزيز بن الدراوردي أبو محمد هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد، ويقال الاندراوردي أيضاً، منسوب إلى دراوند في بلاد فارس، وقال ابن سعد: دراورد قرية بخراسان. وذكره ابن أبي خثيمة وغيره، مولى جهينة، وبها كان منزله. ويقال مولى لبرمك بن وبرة لبرمك بن وبرة أخي كلب بن وبرة ومن قضاعة، مدني، مولده بها. روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، والعلاء بن عبد الرحمان، ومحمد بن إسحاق، وسهيل بن أبي صالح، وثور بن زيد، وحميد الطويل، وعمر بن يحيى المازني، ومحمد بن عبد الله بن حسن المهدي، وصحب مالكاً وغلب عليه الحديث وروى عنه، ابن وهب وأبو نعيم والقعنبي وقتيبة وأبو مصعب ويحيى بن يحيى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 أخرج له مسلم وروى له البخاري، قال ابن معين ليس به بأس وما روى في كتابه فهو أثبت في حفظه. قال ابن أبي حازم ومصعب: كان مالك يوثق الدراوردي. قال ابن بكير وأحمد بن صالح هو ثقة. قال الكوفي: هو ثقة، وكان يلحن لحناً قبيحاً. قال أحمد: إذا حدث في كتابه فهو صحيح، وإذا حدث في كتب الناس أوهم. واختلف فيه قول النسائي فقال مرة ليس به بأس صالح. وقال مرة ليس بذاك. قال مصعب: ليس صاحب فتوى، كان صاحب حديث. قال محمد بن سعد: كان ثقة، كثير الحديث يغلط. قال الشافعي رأيت المغيرة وابن أبي حازم والدراوردي يذهبون مذهب مالك. وعده ابن حبيب في طبقاته خير فقهاء المدينة بعد مالك. قال مصعب وابن دينار: أمر هارون والي المدينة أن يولي الصدقات التي جعلها هارون لأهل المدينة خير رجلين بالمدينة، فلم يوجد يومئذ أفضل من الدراوردي وسلمة بن عكرمة المخزومي فأقرأهما الوالي كتاب هارون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 فأبيا عليه، فكتب إلى هارون فأجابه: تالله لئن ولينا أعمالنا أشرارنا ليرون ذلك من حيفنا وجورنا، ولئن وليناها خيارنا ليأبون علينا. اضرب كل واحد منهم ثلاثين سوطاً في كل يوم حتى يلياها. وكان سلمة قد أنهكته العبادة وما بقي فيه شيء، فقال لهما الوالي: والله إنكما لمن أجل أهل المدينة عندي، والله لأنفذن فيكما كتاب أمير المؤمنين أو تليانها. فبكى سلمة، وقال الدراوردي: والله إن ضربت ثلاثين سوطاً لأموتن. فقال له الدراوردي: ويحك يا سلمة تموت تحت السياط خير لك من النار. فقال سلمة: إنك والله قد وجدت مس السياط، فأتت لا تباليها. فكلم الناس الدراوردي، وقالوا إليه: إنما هي صدقة على المساكين وأنت فيها مأجور فولياها جميعاً، وقد كان هارون حلف على الدراوردي قبل هذا في عمل أراد أن يستعمله فيه فأبى فحلف ليضربنه أو ليلين، فحلف الدراوردي فضربه اثنين وثلاثين سوطاً موجعة فما ولي. توفى سنة ست وقيل خمس وقيل سبع وثمانين ومائة بالمدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 زكريا بن منظور بن ثعلبة ويقال عقبة بن ثعلبة بن أبي مالك القرضي الأنصاري أبو يحيى جليسه، ويحيى من أصحابه، وسمع منه ومعه، من زيد بن أسلم وأبي حازم وهشام ابن عروة، وسمع ابن أبي سبرة وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عقبة وعطاف بن خالد وثابت بن يزيد المحاربي وعمر بن حسين. روى عنه عبد الله بن عبد الوهاب وعبد العزيز الأوسي وهارون بن معروف الحميدي ومحمد بن ذبالة وأبو إبراهيم الترجماني وإسحاق بن أبي إسرائيل وعباد بن موسى الختلي وأبو ثابت المدني وهشام بن عمار وإبراهيم بن المنذر وعتيق بن يعقوب وهارون بن يحيى القاضي وبه تفقه. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، ضعيف الحديث منكره، لم يكتب حديثه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقال أبوزرعة ليس بالقوي، واهي الحديث منكره. وذكر يحيى بن معين أنه سكن بغداد، وقال أيضاً: لا بأس به. وقال مثل ذلك فيه أحمد بن صالح. قال الخطيب: اختلف قول يحيى فيه. قال ابن رشدين ولي القضاء وحمله هارون إلى الرقة، لقضية قضى بها، قال: وليس بثقة. قال ابن رشدين: سألت يحيى عنه، فقال: لا بأس به. قلت له: لم أرك فيه قبل جيد الرأي. فقال: ليس به بأس، إنما زعموا أنه كان طفيلياً. وقال ابن حنبل: زكريا بن منظور شيخ، ولينه. وقال فيه المدني ضعيف. وقال مثله العلا والنسائي والساجي. وقال الدرا قطني: مدني متروك. وقال محمد بن سعد: كان أعور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 محمد بن دينار هو محمد بن إبراهيم بن دينار الجهيني، مولاهم. من ولد دينار بن النجار. كنيته أبو عبد الله. قال القاضي أبو الوليد: كذا نسبه أصحاب الحديث. وقال عبد الرحمان الفقيه في روايته عنه: محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن دينار يروي عن أبي ذئب وموسى بن عقبة ويزيد بن أبي عبيد وعبد العزيز بن المطلب وكان فقيهاً فاضلاً له بالعلم رواية وعناية. قال ابن حبيب: كان هو والمغيرة أفقه أهل المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قال ابن حاتم الرازي عن أبيه، وكان من فقهاء المدين زمان مالك، وهو ثقة. قال يحيى: وهو ثقة. قال البخاري: هو معروف الحديث. أخرج عنه البخاري. قال أشهب: ما رأيت في أصحاب مالك أفقه من ابن دينار. وقال ابن شعبان: لا أحسبه أراد غير المدنيين. قال ابن حارث: كان من قدماء أصحاب مالك وكبارهم وشركه في بعض رجاله. وقال ابن القاسم: كبير من أصحاب مالك، وهو ابن دينار. وقال الشافعي: ما رأيت في فتيان مالك أفقه من ابن دينار. قال الشيرازي درس مع مالك على ابن هرمز. قال الحارث من مسكين كان ابن دينار ممن يقدم من أصحاب مالك. قال: جاء رجل إلى مالك يوماً أثر صلاة الصبح وكان مالك لا يتكلم حتى تطلع الشمس فجلس الرجل ما شاء الله ثم قام يذهب فقال له ابن دينار ما شأنك؟ فأخبره. فأفتاه ابن دينار. فلما فتل قال مالك: يا محمد تفتي؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 قال أصلحك الله لم يطمع الرجل فيك وقام ليذهب، فخشيت أن يذهب بحاله فأفتيته بما أعلم من مذهبك. فقال له مالك: عجلت. قال سحنون كان مالك وعبد العزيز وابن أبي سلمة ومحمد بن دينار يختلفون إلى ابن هرمز، فيسألونه، فيجيب مالكاً وعبد العزيز، ولا يجيب الآخر. فتعرض له ابن دينار وقال له لم تستحل ما لا يحل لك؟ وذكر له القصة. فقال له: إني كبرت سني وأخاف أن يكون خالطني في عقلي مصل الذي خالطني في جسمي ومالك وعبد العزيز فقيهان عالمان يسألاني عن الشيء فأجيبهما فما رأياه من حق قبلاه، وما رأياه من خطأ تركاه. وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثمانين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 عثمان بن عيسى بن كنانة قال ابن سعبان: يكنى أبا عمرو. وكنانة مولى عثمان بن عفان، قال أبو عمر بن عبد البر: كان من فقهاء المدينة، أخذ عن مالك وغلبة الرأي، وليس له في الحديث ذكر. قال الشيرازي كان مالك يحضره لمناظرة أبي يوسف عند الرشيد، وهو الذي جلس في حلقة مالك بعد وفاته. قال ابن بكير لم يكن عند مالك أضبط ولا أدرس من ابن كنانة وكان مالك إذا مل من حبس الكتاب علينا أسلمه إلى حبيب كاتبه، وربما إلى ابن كنانة وهو الذي قعد في مجلس مالك بعد وفاته، وقيل بل جلس فيه يحيى بن مالك أولاً، وجلس فيه بعد ابن كنانة عبد الله بن نافع الصائغ. قال غيره: وكان ابن كنانة ممن يخصه مالك بالأذن عند اجتماع الناس على بابه. فيدعى باسمه هو وابن زنبر وحبيب اللئالي المعروف ببابين. فإذا دخلوا ودخل غيرهم ممن يخصه أذن للعامة. قال يحيى: كان يجلس ابن كنانة عن يمين مالك لا يفارقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وقال ابن مفرج وابن القرطبي: توفى ابن كنانة سنة ست وثمانين ومائة. وقال ابن سحنون وابن الجزار سنة خمس وثمانين. وقال ابن بكير: كان بين موت ابن كنانة ومالك عشر سنين، وكانت وفاته بمكة وهو حاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 عثمان بن الضحاك وبنوه قال الفقيه الإمام القاضي المؤلف أبو الفضل: هو عثمان بن الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام. زاد ابن أبي حاتم، ابن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزيز بن قصي، يكنى بأبي عثمان. قال الزبير: كان هو وابنه الضحاك بن عثمان بن الضحاك من أكبر أصحاب مالك، وكانا جميعاً يجالسانه. روى عن عثمان هذا الحديث سمع منه ابن غانم وابن نافع الصائغ وأنس بن عياض. يروي عن أبيه والثوري والقطان وزيد ابن حباب وأنس بن عياض. يروي عن مالك وسالم أبي النضر ونافع وبكير ابن الأشج وعبد الله بن عروة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قال مصعب بن عبد الله كان علامة قريش بالمدينة بأشعار العرب وأيامها. له مروءة وفضل وفقه، ومن كبراء أصحاب مالك، وأمه أم عبد الله بن خالد بن حزام، وله أخ اسمه الضحاك، روى عنه العلم. ذكر ابن أبي حاتم: قال الزبير: وكان ابنه الضحاك علامة قريش بالمدينة بأخبارها وأشعارها وأيامها وأشعار العرب وأيامها وأحاديث الناس. قيل لابن معين: كيف حديثه؟ قال: ليس به بأس. وقال: هو ثقة. وعثمان أبوه ثقة. قال ابن نمير هو مدني ثقة لا بأس به، وفي حديثه اختلاف. قال ابن حنبل هو مدني ثقة. وقال أبو زرعة ليس بقوي. وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وابنه محمد بن الضحاك من أصحاب مالك أيضاً كثير الرواية عنه والمجالسة. قال الزبير هلك شاباً وقد ظهرت مروءته وخلف أباه في العلم والأدب وكان ممدحاً. أمه أروى من بني عامر بن صعيعة. روى عنه الزبير كثيراً، وإبراهيم بن المنذر وابنه أحمد بن محمد جالس الواقدي. وقال الواقدي: هذا الفتى، يعني أحمد، خامس خمسة جالستهم على طلب العلم كما ترون: هو وأبوه وجده الضحاك وأبوه عثمان بن الضحاك، وأبوه الضحاك وعثمان بن عبد الله. ولما استعمل الرشيد عبد الله بن مصعب بن ثابت بن ثابت بن عبد الله بن الزبير على اليمن، وجه عبد الله بن الضحاك بن عثمان خليفة له عليها، وأعطاها رزقه ألف دينار كل شهر، إلى أن يقدم عليه، وكلم له الرشيد فأعانه على سفره بأربعين آلأف درهم وكان محمود السيرة وقال (وهو) باليمن: أقول لصاحبي إذ عيل صبري ... وحن إلى الحجاز نبات صدري لعمرك ما العقيق وما يليه ... أحب إلي من صلع وصهر صلع وصهر، موضعان باليمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 قال الزبير: قال عمي مصعب: أظن أن البيت الأول من البيتين له، والآخر لغيره، ورواهما جميعاً غيرعمي له ومات الضحاك بمكة منصرفه من اليمن يوم التروية سنة ثمانين ومائة. فقال المنذر بن عبد الله الخزاعي يرثيه: أعيني اسكبا غلبت عزائي ... حرارة بطنت حشائي على الضحاك أني أرى قليلاً ... وقد بكى الحمام له بكائي ولا تستبقيا دمعاً لشيء ... لعل الدمع يبرد حر دائي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 سعيد بن سليمان المساحقي قال القاضي الإمام أبو الفضل: هو سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق ابن عبد الله بن مخرمة. وقال ابن شعبان: ليس في رواة مالك سعيد بن عبد الرحمان المساحقي، وإنما هو ابن سليمان. كان من جلساء مالك وأصحابه، وعليه دخل مالك على الرشيد متوكئاً وعلى المخزومي والعامري. وإنما سعيد ابن عبد الرحمان جمحي أخذ عنه أيضاً، وذكره ابن شعبان أيضاً. قال الزبير: كان المساحقي من سراة قريش عقلاً وجلداً وجمالاً وشعراً وأدباً، وعارضة. وكان مسدداً في قضائه. قال ابن شعبان وهو من وجوه أصحاب مالك المدنيين. قال القاضي أبو بكر بن محمد بن خلف المعروف بوكيع في طبقات القضاة: هو أول قاض استقضاه المهدي بالمدينة وأقره الرشيد صدراً من ولايته. قال ابن الماجشون شهد سعيد بن سليمان عند ابن عمران الطلحي وهو قاض، فرد شهادته. فلما ولي سعيد شهد عنده ابن عمران فنظر في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 شهادته ففكر قليلاً ثم قال لكاتبه: أجز شهادته يا ابن دينار. فإن المؤمن لا يشفي غيظه. وكتب العباس بن محمد إلى سعيد بن سليمان، وكان ينقلب إلى الحجاز وإلى ماله بالجفر: أليس إلى نجد وبرد مياهه ... إلى الحول أن حم الإياب سبيل وقال له زد إليه. فقال سعيد: وإن مقام المرء في طلب الغنا ... بباب أمير المؤمنين قليل وذكر المصعب بن عبد الله في كتابه هذه الحكاية فقال: فلما وفد على الرشيد وكان منقطعاً إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فنزل عليه، وجعل يتقلب إلى المدينة والى ماله بالجفر بناحية ضرية واشتكى عند العباس فجعل العباس يمازحه ويدفعه عن الخروج إلى الحج. قال مصعب: فكتب العباس إلى أبي بيتاً مازح به سعيداً وقال له زدنا عليه بيتاً، وذكر البيت الأول إلا أنه قال: الحج مكان الحول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 قال: فزاد أبي وذكر البيت الثاني وقال الحول، فكان المرء وهو أصح في المعنى وأولى. وقال المساحقي: وذي إحنة قد قلت ألاً ومرحباً ... له حين يلقاني بحيا ومرحبا وأعطيته من ظاهري قسمة الرضى ... وأدنيته حتى دنا وتقربا فصلت به مستكمل الكف صولة ... شفيت به أضغان من كان مغضبا وله إلى عمرو بن عبد الرحمان العامري: بلوت إخاء الناس يا عمرو كلهم ... وجربت حتى أحكمتني تجاربي فلم أر ود الناس إلا رضاهم ... فمن يذر أن يعتب فليس بصاحبي فخذ عفو من أحببت لا تحوجنه ... فعند بلوغ الكد رتق المشارب فهونك في حب وبغض فربما ... بدا جانب من صاحب بعد جانب وأنشد ابن الجراح في كتاب الورقة هاته البيتين لابنه عبد الجبار: إن لنا مجلساً نسر به ... عند احتضار الهموم والحزن ما به من خلة يعاب بها ... إلا حنين الفؤاد للوطن وابنه عبد الجبار يأتي ذكره في طبقة بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال مصعب: ومات سعيد وهو عند العباس وأمه أمة الوهاب ابنة عمر بن مساحيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 سليمان بن بلال أبو أيوب. قال البخاري. قال مسلم: ويقال أبو محمد وهو قول الواقدي. مولىعبد الله بن أبي عتيق (وهو محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق ابن الحارث وابن قتيبة) هو مولى القاسم بن محمد، مدني سمع يحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وعبد الله بن دينار وربيعة وشريك بن أبي نمير، وصالح بن كيسان. روى عنه ابن إدريس وخالد بن مخلد المقري وابن وهب ويحيى ابن يحيى النيسابوري وأشهب وابن القاسم والقعنبي وابنا أبي أويس، ويحيى ابن حسان. قال ابن معين: هو ثقة أروى الناس عن يحيى بن سعيد وهو أحب إلي من الدراوردي. قال ابن حنبل: وكان كاتب يحيى بن سعيد، وإنما كان وضع منه عند أهل المدينة أنه ولي السوق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 قال أبو عمر بن عبد البر: هو أحد ثقات أهل المدينة. وقال ابن حنبل والنسائي: هو ثقة. وقال ابن قتيبة: كان رضيئاً جميلاً. قال محمد بن يحيى: هو احفظ من الدراوردي. وقال أبو حاتم: هو مقارب. وقال أبو زرعة: هو أحب إلي من هشام بن سعد. قال ابن مهدي: ندمت ألا أكون أخذت عنه. وخرج عنه البخاري ومسلم وعده ابن حبيب في الطبقة التي صار إليها الفقه بالمدينة بعد طبقة مالك، وشارك مالكاً في كثير من رجاله. وكان من أجل أصحابه وأخصهم به. وهو أول من جلس معه حين انعزل عن مجلس ربيعة، وعمل لنفسه مجلساً. قال مطرف: قال لنا مالك: لما أجمعت تحولاً من مجلس ربيعة، وعمل لنفسه مجلساً. قال مطرف: قال لنا مالك: لما أجمعت تحولاً من مجلس ربيعة جلست أنا وسليمان بن بلال في ناحية المجلس، فلما قام ربيعة عدل إلينا وقال: يا مالك تلعب بنفسك! زفنت وصفق لك سليمان ابن بلال، بلغت أن تتخذ مجلساً، ارجع لمجلسك. وقد ذكرنا هذا الخبر بتمامه وسببه في أخبار مالك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وولي سليمان بن بلال سوق المدينة. وقال أحمد بن صالح الكوفي: أنه ولي قضاءها. وقال ابن قتيبة: ولي خراجها. والأول أصح. وقد قال بعضهم: إذا قال مالك ألأمر عندنا والأمر المجتمع عليه عندنا فإنما يعني ما به الحكم أيام سليمان بن بلال. وهذا غير صحيح. وقد شرحنا هذا الفصل في أخبار مالك وولي ابن بلال القضاء ببغداد للرشيد وتوفي وهو عليه. وصلى عليه الرشيد وذلك في سنة ست وسبعين ومائة قبل وفاة مالك بثلاث سنين. وقد قال البخاري: توفي سنة سبع وسبعين. وقال ابن قتيبة: سنة اثنتين وسبعين. وقال محمد بن المثنى سنة ثلاث وسبعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 محمد بن مطرف هو أبو غسان الليثي، المزني صاحبه. وله كتب مالك رسالته في الفتوى وهو يرويها عنه، وحكى البخاري أن إسحاق قال فيه: محمد بن طريف. قال البخاري: والأول أصح، مدني، نزل عسقلان. سمع زيد ابن أسلم وأبا حازم ومحمد بن المنكدر وشاركه مالك في كثير من رجاله. سمع من ابن المبارك ويزيد بن هارون وابن أبي يحيى وعيسى بن يونس وعلي ابن عياش. قال أبو حاتم فيه: ثقة. وقال ابن معين والنسائي والبزاز وابن السكري لا بأس به. وقال ابن السكري وابن بكير لا بأس به وقال ابن الرقي: احتملنا حديثه لأنه روى عنه الثقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 يحيى بن كثير بن درهم أبوعمران، ويقال أبو الهياج، ويقال أبو الهراج والأول أشهر وهو قول البخاري مولى العمريين. ذكره الدارقطني وابن شعبان وهو مدني، وقال ابن مفرج: مصري. وقال البخاري وغيره: هو بصري. قال ابن عبيد: كان من كبراء أصحاب مالك المتقدمين. حدث عنه ابن سفيان عن سعيد وعبد العزيز بن مسلم وأبي حفص بن العلا. روى عنه إبراهيم. خرج عنه البخاري ومسلم. قال ابو حاتم هو صالح الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 من أهل اليمن يحيى بن ثابت من قدماء أصحاب مالك هو ظيني جندي. قال أحمد بن خالد: قال لنا عبيد بن محمد الكشوري: يحيى بن ثابت من اقدم أصحاب مالك. وهو أول من وطأ له كتبه. وحدثنا أحمد بن خالد عن ابن الكشوري عن عبد الله بن الصباح، قال: حدثنا يحيى بن ثابت عن مالك، قال: سمعت ربيعة يقول لا يحل لأحد عنده موضع العلم إلا طلبه يريد العقل هكذا قال غيره: كان كاتب مالك أولاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 من أهل المشرق عبد الله بن المبارك وهو مولى بني تميم. ثم لبني حنيفة مروزي وكنيته أبو عبد الرحمان. سمع من ابن أبي ليلى وهشام بن عروة والأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل ويحيى بن سعيد وابن عون وموسى بن عقبة والسفيانيين والأوزاعي وابن أبي ذئب ومالكاً ومعمراً وشعبة وحيوة بن شريح وقرأ على أبي عمرو بن العلاء والليث وغيرهم. روى عنه ابن مهدي وعبد الرزاق ويحيى القطان وابن وهب وغيرهم. قال ابن وهب: ما فات ابن المبارك من مشيختنا إلا عمرو بن الحارث. قال الشيرازي تفقه بمالك والثوري، وكان أولاً من أصحاب أبي حنيفة ثم تركه ورجع عن مذهبه. قال ابن وضاح: ضرب آخراً في كتبه على أبي حنيفة ولم يقرأه للناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ذكر مكانته من العلم والثناء عليه قال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وكان الفزاري يجلس بين يديه فيسأله. وقال شعبة: ما قدم من ناحيته مثله. قال ابن مهدي: لقيت أربعة من الفقهاء: مالكاً وشعبة وسفيان وابن المبارك. وفي بعضها: حماد، مكان شعبة. فما رأيت أنصح للأمة من ابن المبارك وحديث لا يعرفه ابن المبارك لا نعرفه. وسئل ابن مهدي عنه وعن الثوري أيهما أفضل، فقال ابن المبارك. فقيل له: إن الناس يخالفونك. قال: الناس لم يجربوا. ما رأيت مثل ابن المبارك. وكان ينسخه وحده. ولما نعي ابن المبارك إلى سفيان بن عيينة قال: رحمه الله. لقد كان فقيهاً عالماً عابداً زاهداً سجيناً شجاعاً شاعراً. وقال أيضاً: ما قدم علينا أحد يشبه ابن المبارك وابن أبي زائدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 قال محمد بن المعتمر: قلت لأبي لما مات الثوري: من فقيه العرب؟ قال ابن المبارك. قال الأوزاعي لأبي عثمان الكلبي عنه: لو رأيته لقرت عينك. وقال علي: هو ثقة. قال أبو حاتم: هو إمام. قال أبو زرعة: اجتمع فيه فقه ومروءة وشجاعة وسخاء وأشياء. وقال داود العطار: هو رجل طلع علينا من ناحية المشرق. وقال النسائي: ولا يعلم أحد في عصر ابن المبارك أجل منه ولا أعلى ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه. وقال سلام بن مطيع: ما خلق بالمشرق مثله، وابن المبارك أحب إلي من الثوري. وقال ابن وضاح: سمعت جماعة من أهل العلم يقولون: اجتمع في ابن المبارك العلم والفتيا، والحديث والمعرفة بالرجال، والشعر والسخاء والعبادة والورع. ابتداء طلبه وسبب زهده وجمل من فضائله وعلمه قال الإمام القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: ذكر الصدفي، قال: لما بلغ ابن المبارك دفع إليه أبوه خمسين ألف درهم يتجر بها، فطلب العلم حتى أفقدها، فلما انصرف لقيه أبوه، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 ما جئت به فاخرج إليه الدفاتر، فقال هذه تجارتي. فدخل أبوه المنزل فأخرج له أبوه ثلاثين ألف درهم أخرى، وقال: هذه تمم بها تجارتك، فأنفقها. قال ابن المبارك طلبت الأدب ثلاثين سن وطلبت العلم عشرين سنة. وقال ابن حنبل: لم يكن في زمن ابن المبارك أحد أطلب للعلم منه، دخل اليمن ومصر والشام والحجاز والبصرة والكوفة، وكان من رواة العلم وكان أهلاً لذلك، كتب عن الصغار والكبار، وما أقل سقطه. كان يحدث من كتاب، قال ابن وضاح: كان ابن المبارك يروي نحواً من خمسين وعشرين ألف حديث. وقيل له إلى متى تطلب العلم؟ قال أرجو أن تروني فيه إلى أن أموت. وذكر أبو عمرو في كتابه في طبقات المقرئين، وذكر أنه يقرأ بالاختلاف: إن ابنك سرق. وقال يحيى الليثي أقبل يوماً إلى مالك رجل عليه سمت حسن: فكنت أراه، يعني مالكاً، يقول له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 هاهنا. ثم تزحزح له في مجلسه، وما رأيته تزحزح لأحد غيره. فأجلسه في جواره، وكان ربما سأل مالكاً عن المسألة فيجيب فيها ثم يميل إلى الرجل ويقول له: ما يقول أصحابك فيها؟ فيقول الرجل جواباً خفياً لا نسمعه ولا نفهمه، فرأيته فعل ذلك أياماً، فأعجبني أدب الرجل، ولم أره يسأل عن شيء حتى انصرف كان يجيز بما سمع. فقال لنا مالك: هذا ابن المبارك فقيه خراسان. وصلى ابن المبارك يوماً إلى جنب أبي حنيفة أتريد أن تطير؟ فقال: لو شهيت لطرت في الأولى. وكان يقول الزاهد الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا فاتته لم يحزن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال ابن شاهين: حضر ابن المبارك عند حماد بن زيد مسلماً عليه، فذهب أصحاب الحديث إلى حماد أن يسأل ابن المبارك أن يحدثهم. فقال ابن المبارك: يا سبحان الله أحدث وأنت حاضر. قال: أقسمت عليك لتفعلن أنحوه. فقال: حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد وما حدثهم بحرف إلا عنه، وكان ابن المبارك يقول أول العلم النية، ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر. ويقال أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً لا يمر بمدينة إلا قال لمشيختها من أهل العلم والإقلال: ليخرج معي من أراد الحج، نكفيهم مؤونتهم. ويفعل مثل ذلك إذا أغزى. قال أحمد بن شجاع: رأيت سفرة ابن المبارك على عجلة، وقال على عجلتين. ومن كتاب أبي عمرو الصدفي قال: قدم الرشيد الثغر فجاء الفزاري وفرج أبو سليمان إلى ابن المبارك، فقالا له: قدم هارون وهو يريد لقاءك والسلام عليك. فقال: إذاً أكمله بلساني كله. فقال أحدهما للآخر: قم بنا لعله يجيء منه ما يكرهه الآخر بسببنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 قال العسولي العابد: كنت مع ابن المبارك في غزاة في ليلة ذات برد ومطر فبكى. فقلت أتبكي من مثل هذا؟ فقال: إنما ابكي على ليال سلفت ليس فيها مثل هذا من الشدة لنؤجر عليها. قال ابن الحسين: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش بأربعين ألف درهم، وقال سد بها خلة القوم عندك. قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: لا تستسوحش؟ فقال كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحكى: أن إبليس جاء إلى ابن المبارك وهو يتوضأ فقال إنك لم تسمح. فقال بلى قد مسحت. قال بل لم تمسح. فقال: أنت المدعي فأقم البينة. قال منصور بن عمار: ثلاثة تفتت أكبادهم من الخوف، الفضيل وعيسى بن يونس وابن المبارك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وقال ابن المبارك لبعض أصحابه، لا تغفل عن يوم ذكره الله في كتابه في ثلاثة وستين موضعاً وقال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة كذا وكذا. فقال ابن المبارك: لكني أعرف رجلاً لم يزل يقرأ البارحة التكاثر إلى الصباح ما جاوزها. يعني نفسه. وذكر هو وغيره: أن ابن المبارك سئل عن ابتداء طلبه العلم فقال: كنت شاباً أشرب النبيذ وأحب الغنا وأطرب بتلك الخبائث، فدعوت إخواناً حين طاب التفاح وغيره إلى بستان لي، فأكلنا وشربنا حتى ذهب بنا السكر، فانتبهت آخر السحر فأخذت العود أعبث به وأنشد: ألم يأن لي منك أن ترحما ... ونعصي العواذل واللوما فإذا هو لايجبني إلى ما أريد. فلما تكررت عليه بذلك وإذا هو ينطق كما ينطق الإنسان: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله. قلت بلى، يا رب. فكسرت العود ومرقت النبيذ وجاءت التوبة بفضل الله بحقائقها، واقبلت على العلم والعبادة. وروي أن عبد الله ابن المبارك دخل الكوفة وهو يريد الحج، فإذا بإمرأة جالسة على مزبلة وهي تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف على بغلة وقال لها: ما هذه البطة أميتة أم مذبوحة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 قالت: ميتة. قال فلم تنتفيها؟ قالت لآكلها أنا وعيالي. فقال لها يا هذه إن الله قد حرم عليك الميتة، وأنت في بلد مثل هذا. قالت، يا هذا انصرف عني. فلم يزل يراجعها الكلام وتراجعه إلى أن قال: وأين تنزلين من الكوفة؟ قالت قبيلة بني فلان. فقال لها وبأي شيء نعرف داركم؟ قالت ببني فلان. فانصرف عنها وسار إلى الخان، ثم سأل عن القبيلة فدلوه عليها. فقال لرجل لك عليّ درهم وتعال معي إلى الموضع. فمضى حتى انتهى إلى القبيلة التي ذكرت المرأة فقال للرجل: انصرف. ثم دنا إلى الباب فقرع الباب بمقرعة كانت معه، فقالت العجوز من هذا؟ فقال افتحي الباب ففتحت بعضه، فقال افتحيه كله. ففتحته كله. ثم نزل عن البغل ثم ضربه بالمقرعة فدخل البغل إلى الدار، ثم قال للمرأة: هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد فهو لكم، وأنتم منه في حل الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ثم جلس ابن المبارك مختفياً حتى رجع الناس من الحج، فجاءه قوم من أهل بلده يسلمون عليه ويهنئونه بالحج، فأقبل يقول لهم: إنه كانت بي علة ولم أحج هذه السنة. فقال بعضهم: يا سبحان الله، ألم أوادعك نفقتي، ونحن بمنى ونحن نذهب إلى عرفات. وآخر يقول: ألم تشتر لي كذا. فأقبل يقول: لا أدري ما تقولون. أما أنا فلم أحج في هذا العام. فرأى الليل في منامنه آت، فقال: يا أبا عبد الله، أبشر فإن الله قد قيل صدقتك وبعث ملكاً على صورتك فحج عنك. ذكر قطع من حكمه وشعره وملحه قال رحمه الله تعالى: تعاهد لسانك إن اللسان ... سريع إلى المرء في قتله وهذا اللسان يريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله وقال رحمه الله تعالى: أرى لي أناساً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وقوله أيضاً رحمه الله تعالى: تنعم قوم بالعبادة والتقى ... ألذ النعيم لا اللذاذة بالخمر فقرت بهم طول الحياة عيونهم ... وكانت لهم والله زاداً إلى القبر على برهة نالوا بها العز والتقى ... ألا ولذيذ العيش بالبر والصبر وكان فتى يصحب ابن المبارك يسمع منه كل يوم شيئاً يسيراً، فسافر ابن المبارك وسافر معه، فورد على ابن المبارك رجل في منزله فحدثه ابن المبارك بحديث كثير فوجد الفتى في نفسه فكتب إليه: كنت زواراً لكم في أرضكم ... وأنا اليوم رفيق في السفر ذان حقان عظيمان معاً ... ليس كالطير الذي جاء فمر فكتب ابن المبارك رحمه الله تعالى: غاية الصبر لذيذ طعمها ... ورديء الذوق منه كالصبر إن في الصبر لفضلاً بيناً ... فاحمل النفس عليه تصطبر وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كل عيش قد أراه نكداً ... غير ركن الرمح في ظل الفرس وقيام في ليال دجن ... حارساً للناس في أقصى الحرس وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال له: رضي الله عنك صف لي الوالهين بالله فقال هم كما اقول لك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 مستوفدين على رحل كأنهم ... ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا عفت جوارحهم عن كل فاحشة ... فالصدق مذهبهم والخوف والوجل وسأله آخر عن صفة الخائفين فقال: إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقالوا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجود ... أنين منه تنفرج الضلوع وخرس بالنهار لطول صمت ... عليهم من سكينتهم خشوع وكان ينشد أيضاً: أغتنم ركعتين زلفى إلى الله ... إذا ما كنت فارغاً مستريحاً وإذا ما هممت يوماً بنطق ... فاجعل في مكانه تسبيحا واغتنام السكوت أفضل من ... خوض وإن كنت في الكلام فصيحا ورأى أبا العتاهية يلبس الصوف فقال: أيها القارىء الذي لبس الصوف ... وأضحى بعد في الزهاد إلزم الثغر والتعبد فيه ... ليس بغداد منزل العباد إن بغداد للملوك محل ... ومناخ للقارىء الصياد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ومما استحسن له من الشعر قوله: قرب طعامك لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا ولا تكن سامري العرض محتشماً ... من القليل فلست الدهر محتفلا وشعر ابن المبارك كثير في غير باب وله أرجوزة في الصحابة والتابعين وقصائد طوال في التثبت والجهاد مشهورة، وله كتاب الرقائق مشهور، وكتاب رغائب الجهاد. وسئل ابن المبارك فقيل له: من الناس؟ قال: العلماء. قيل فمن الملوك؟ قال الزهاد. قيل: فمن الغوغاء؟ قال: هرثة وخزيمة. وقيل من السفلة؟ قال من باع آخرته بدنيا غيره. وكان يقول: إن أثر الحبر في ثوب صاحب الحديث أحسن من الخلوق في ثوب العروس. وقيل له من أحسن الناس حالاً؟ فقال: من انقطع إلى ربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وقال ابن المبارك: مررت بحائك وقد انقطع شسع نعلي فلقيني بنعال، فقلت للثواب فعلتها؟ قال نعم. فكنت إذا أجزت به ملت إليه فسلمت عليه. ثم افتقدته فأصبته قد أغلق حانوته، فسألت عنه بعض جيرانه، وقلت: إن كان مريضاً عدناه أو مشغولاً أعناه أو فقيراً واسيناه. فقالوا لا علم لنا به. فأستأذنت على منزله فخرج إلي، فسألته ما شغلك عن حانوتك؟ فقال لي: أنت يا ابن المبارك، يراك الناس تميل إلي فالبستني قميصاً ليس علي منه شيء. فأخذت بكمه فسرت به إلى المقابر فقلت له: هذا قبر فلان، كان من شأنه كذا. وهذا قبر فلان، كان من شأنه كذا. فقال لي يا ابن المبارك ما أعرف ما تقول، ليس الرجل كل الرجل من وصفته الألسن ولا الرجل كل الرجل من رمقته الأعين، إنما الرجل من ستر الله عليه في حياته فأدخله قبره مستوراً ثم أبرزه يوم القيامة ليس عليه ذلة معصية فذلك الرجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وحكى أبو بكر بن الخطيب أن الحسن بن عيسى بن سرجس كان يجتاز وهو إذ ذاك على نصرانيته بابن المبارك، وكان الحسن من أحسن الناس وجهاً فسأل عنه عقيل فقيل له: هو نصراني فقال: اللهم ارزقه الإسلام. فاستجاب الله دعوته وحسن إسلام الحسن ورحل في طلب العلم، فكان أحد علماء الأمة، وممن رحل في طلب العلم والتسنن في الآفاق. وأخذ الناس عنه مع ورع وعقل وثقة، ومال إلى الدنيا رجل ممن كان يصحب ابن المبارك وصحب السلطان فلقيه يوماً فسلم عليه فقال له يا أخي: كل من الأرز والبر ومن خبز الشعير ... واجعلن ذاك حلالاً تنج من حر السعير وق يا هذا هداك الله عن دار الأمير ... لا تزرها واجتنبها إنها شر المزور تذهب الدين وتدنيك من الحرب الكبير فاستحى الرجل وترك مصاحبة السلطان ورجع إلى صحبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ذكر مذهبه في الرواية والحديث كان ابن المبارك ينكر التدليس في الحديث. وقال له بعض الصوفية وسمعه يصف بعض الرواة: يا أبا عبد الرحمان تغتاب. قال: اسكت، إذا لم نبين فمن أين يعرف الحق من الباطل؟ توفى ابن المبارك بهيت منصرفه من الغزو في سفينة. فدفن بهيت في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. قال البخاري: ومولده سنة ثمان عشرة ومائة ولما حضرته الوفاة قال لنصر مولاه: اجعل رأسي على التراب. فبكى نصر. فقال ما يبكيك؟ قال ذكرت ما كنت عليه من النعيم وأنت هو ذان تموت فقيراً غريباً. فقال له: اسكت. فإني سألت الله أن يحيني حياة الأغنياء ويمتني ميتة الفقراء. ثم قال: لقني ولا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان. ولقني حتى يكون آخر كلامي. قال بشر بن قعنب: رأيت في النوم قائلاً يقول: عبد الله ابن المبارك وفلان في الفردوس الأعلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 من أهل مصر عثمان بن عبد الحكم الجذامي من بني نصر مشهور في أصحاب مالك المصريين. قال ابن شعبان: هو أول من أدخل علم مالك مصر. وقال ابن مريم: لم تنبت مصر أنبل من عثمان ابن عبد الحكم. قال ابن أبي حاتم: فسألت أبي عنه فقال: شيخ ليس بالمتقن. قال الأمير: كان فقيهاً له روايات مشهورة عن مالك. قال ابن مفرج: وله عن مالك نحو سبعة عشر حديثاً. يروي عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ وموسى بن عقبة وزهير بن محمد ويونس بن يزيد وابن جريج وعبيد الله بن محمد. روى عنه سعيد بن أبي مريم، وأبو زرعة عبد الأحد بن الليث، وروى عنه ابن وهب كثيراً في موطاه وفي المدونه. قال أبو الربيع الرشيديني في كتاب عباد مصر: أشار الليث بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 سعد أن يولي عثمان بن الحكم القضاء أو غيره، فوقف عثمان عليه فقال: يا ليث رميتني بمشاقص الحتوف لا كلمتك بعد يومي هذا أبداً. فجاءه الليث يعوده في مرضه فقال: حولوا وجهي إلى الحائط. قال ابن المفرج وابن الجزار توفي سنة ثلاث وستين ومائة. وقال ابن شعبان سنة ست وثلاثين ومائة. وقال ابن شعبان سنة ست وثلاثين ومائة. والأولى أشبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 عبد الرحيم بن خالد بن يزيد مولى الجمحيين قال أبو عمر الكندي مولى أبي الضبيع، مولى عمر بن وهب الجمحي اسكندراني يكنى أبا يحيى. قال الدارقطني: عبد الرحيم وعثمان بن عبد الحكم أول من قدم مصر بمسائل مالك. قال الشيرازي: كان من إخوان بني أبي حاتم ونظرائه، وعنده تفقه ابن القاسم بمصر قبل رحلته إلى مالك وكان جمع بين الزهد والعلم. وقد روى عن مالك الموطأ، وقد روى عنه الليث وابن وهب، وروى ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب. قال ابن بكير: بلغني أن مالكاً كان يعجب به، وكان فقيهاً. قال ابن القاسم: تذاكرنا مع عبد الرحيم بن خالد إيمان الكافر ورجوعه إلى الإسلام، مع ما ذكر الله في كتابه: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف .... الآية. وذنوب أهل الإسلام. فقال: إني لأرجو أن يكون أهل الإسلام أفضل حالاً من أهل الكفر. ولقد بلغني أن توبة المسلم كالإسلام بعد الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وكان أبوه خالد من فقهاء مصر وقضاتها، يروي عن عطاء وأبي الزبير يروي عنه الليث وابن لهيعة والفضل. ووثقه أبو زرعة. وقال أبو حاتم لا بأس به. وقال ابن القاسم لمالك يوماً: ما قدم أعلم بهذه البيوع من أهل مصر. فقال مالك: وأنى لهم بذلك؟ فقال: من قبل عبد الرحيم. ذكر الرشديني عن عبد الرحيم قال: بعثني أبي في حاجة، فجاءه إنسان فسأله عن مسألة فأجاب فيها، فقال له الرجل: مد الله للأمة في عمرك. وسمعته يقول وهو لا يراني لنفسه: خالد مولى أبي الضبيع مد الله للأمة في عمرك ومن أنت لولا نعمة ربك، ومن أنت لولا ستر ربك وهو يبكي فلما أحس بي سكت. قال الرشديني: قال لي إدريس: لما مات عبد الرحيم عرف اليتم على ابن شريح. توفي سنة ثلاث وستين ومائة، قال العقدي وابن شعبان وابن الجزار وذلك بالإسكندرية وسنه ثلاث وخمسون سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 سعد بن عبد الله بن سعد المعافري ابو عمرو. وقيل أبو محمد، وقيل أبو عثمان، من أقران عبد الرحيم من كبراء أصحاب مالك من المصريين. سمع منه ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن عبيد وابن بكير وغيرهم. قال الشيرازي: وبه تفقه ابن وهب وابن القاسم. قال ابن القاسم: ما خرجت إلى مالك إلا وأنا عالم بقوله. قال سحنون يريد أنه تعلم من عبد الرحيم وطليب وسعد وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك. قال ابن بكير: هو ثقة. قال ابن حارث: كان فاضلاً مأموناً، ووصى لابن القاسم مع ابن وهب بابنته. قال ابن شعبان: وهو الذي أعان ابن وهب على تآليفه. قال ابن حارث: كان معلم ابن القاسم في العبادة. قال سليمان بن داود المقري في كتابه: أخبرني فتح بن حماد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 قال: لقيت الليث بن سعد عند قدومي من الإسكندرية فقال لي: كيف تركت إخواننا بالإسكندرية؟ فقلت له مات سعد بن عبد الله. فاسترجع وقال لو كان في عدوة وكنت أنا وسعد في عدوة لرجوت أن أكون به مليئاً. قال ابن حارث: وكان فاضلاً مأموناً، خطب ابنة سعد رجل موسر، لكنه يعيبه أهل الدين، فقال ابن وهب أزوجها منه. وقال ابن القاسم لا أزوجها منه. ثم قال أرأيت لو كان سعد حياً لكان يفعل؟ قال ابن وهب لا. قال: فإنما نفعل كما يفعل. قال سعد عن مالك: ليس على الفقيه ضيافة ... ولا مكافآت، يريد عن هدية، ولا شهادة بين اثنين. وذكر ابن وضاح أخبرني محمد بن يحيى وغيره: أن ابن القاسم أعطى سعداً معلمه صاحب مالك سبعين ديناراً. توفي بالإسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 زيد بن شعيب بن ركيب المعافري ثم الخامري بخاء معجمة، من الأخمور، بطن من المعافر، أبو عبد الملك، ويقال أبو عبد الله. كذا قال الأمير أبو نصر اسكندراني مصري. وآخر اسم زين بالنون: روى عن مالك وقاسم العمري وأسامة بن زيد وغيرهم. روى عنه ابن وهب وسيد بن تليد وابن بكير ومرة البرالسي وعبد الأعلى بن عبد الواحد، قال ابن شعبان: كان مالك إذا فقده قال: كيف الشيخ الصالح؟ وكان فقيهاً فاضلاً عابداً وكان يعبر الرؤيا، وهو الذي عبر رؤيا ابن القاسم التي نذكرها في خبره. قال الحارث بن مسكين: كان زين، من علية أصحاب مالك. حكى سليمان بن داود العنبري عن عمه أبي الأصبع قال: كنت مع زين بن شعيب في الحرس، وكان إنما نام هجعة أول الليل ثم لا ينام حتى يصبح، يحرس وسط الليل وآخره ووسطه، أشد ما يكون. وإذا كان قبل الفجر بمنزلتين إنما تراه هكذا راحتاه إلى وجهه رافعاً يديه داعياً ثم يقلب بطونهما يسأل ويتعوذ إلى الفجر، قال: وعادلته إلى مكة فذكر من فضله. حكى الحارث بن المسكين أن رجلاً سأل زين بن شعيب عن الواطي في الدبر. فتناول وسادة من وسائد الحرس فضرب بها رأسه. قال وكان زين، من علية أصحاب مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 قال الدارقطني توفي بالإسكندرية بعد الثمانين ومائة. قال الأخير سنة أربع وثمانين. وقال غيره سنة تسع وثمانين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 عبد الحكم بن أعين بن الليث القرشي مولاهم يقال هو مولى رافع مولى عثمان بن عفان ويقال مولى عفيرة، امرأة من موالي عثمان ويقال مولى رافع مولى عثمان. قاله ابن شعبان. والد بني عبد الحكم من فقهاء مصر. ويكنى عبد الحكم هذا أبو عثمان. وله رواية عن مالك في مسائل من المدبر وغيرها. ذكر ابن القاسم في المدونة عنه مسألة. قال ابن أبي حاتم: يروي عن أبي حنيفة اليماني. روى عنه ابن وهب وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وابن القاسم. قال بعضهم: كان عاقلاً أديباً أعجلته المنية عن إتقان مذهب مالك. (مسائل) سكن هو وأبوه إسكندرية. ويقال أصلهم من ايلة. قال ابن بكير كان مداعباً للناس، ورفع اسمه في تاريخ أحمد بن سعيد سماه عبد الحكم بن أعين وتوفي سنة إحدى وسبعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 طليب بن كامل اللخمي من كبار أصحاب مالك وجلسائه. كنيته أبو خالد وهو أيضاً أبو عبد الله له اسمان قاله أبو سعيد حفيد مؤنس في تاريخه. قال وأصله أندلسي سكن الإسكندرية. روى عنه ابن القاسم وابن وهب وبه تفقه ابن القاسم قبل رحلته إلى مالك مع سعد وعبد الرحمان. قال ابن حارث: وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك. قال ابن وضاح: كان طليب بن كامل نبيلاً وهو من العرب من لخم، وهو مصري اسكندراني. قاله سحنون. وذكر ابن شعبان في المصريين عبد الله بن كامل. وفي الاسكندرانيين طليباً بن كامل فجعلهما رجلين وهما واحد كما تقدم. وتوفي طليباً بن كامل فجعلهما رجلين وهما واحد كما تقدم. وتوفي طليب بالإسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائة في حياة مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 أبو السمح عبد الله بن السمح ابن أسامة بن زنبر مولى بن عامر بن عدي بن نجيب المصري، والد فتيان مصر. كذا كناه ونسبه أبو عمرو الكندي في كتاب أعيان موالي مصر فيمن روى عن مالك. قال: وكان أبو السمح فقيهاً، روى عن مالك. وكان ابن وضاح أبو السمحاء. قال ابن حزم الصدفي: قال سحنون: رأى ابن السمحاء في منامه، نعم العمل الحج لولا المناهل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: أبو السمحاء ليس بوالد فتيان. وإنما والد فتيان أبو السمح المذكور. وقد وصفه ابن القاسم بالفقه والثقة في المدونة، في كتاب الحج في مسألة الإمام يذكر صلاة نسيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 قال: ولقد سألني رجل عن هذه المسألة ما يقول مالك فيها. وكان من أهل الفقه ورواته الثقة. فأخبرته أن مالكاً يرى أن تنتقض عليهم، كما تنتقض عليه، فلا أعلمه إلا قيل لي، وهذا الرجل هو أبو السمح والد فتيان. قال الكندي ولد أبو السمح سنة خمس وعشرين ومائة وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. خالد بن حميد أبي ثعلبة ويقال خالد بن أبي ثعلبة أبو حميد مولى حرة اسكندراني. قال الكندي كان فقيهاً من أصحاب مالك، روى عنه هانىء بن المتوكل وسعيد بن سابق ابن عابد مولده سنة ثلاث عشرة وتوفي سنة نسع وستين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 يحيى بن أزهر أبو عبد الله مولى قريش قال الكندي: كان فقيهاً من أكابر أصحاب مالك وغلبت عليه العبادة. قال الحارث: كان ابن أزهر من خيار المسلمين، وقدماء أصحاب مالك. وقال عبد الرحمان بن القاسم: كان العباد يأتون يحيى فينظرون صلاته لحسنها. قال غيره: كان يتيماً وكان له مال في بيت المال، فملا كبر وقبض ماله أدى منها أربعمائة دينار أو نحوها عن زكاة تلك السنين. وقال سليمان بن القاسم: ترك يحيى ألف دينار، كالخائف عليه. وكان قد اشترى تجارة بثمن فبيعت بعد موته بألف. توفي سنة إحدى وستين ومائة في حياة مالك. موسى بن مسلمة بن أبي مريم مولي أبي الضبيع هو خالد سعيد بن أبي مريم، كان من أكبر أهل مصر طلباً للعلم، توفي سنة ثلاث وستين ومائة في حياة مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 من أهل إفريقيا عبد الله بن غانم القاضي قال القرطبي هو عبد الله بن عمر بن غانم بن شراحيل بن ثوبان بن محمد بن شريح بن شراحيل بن الحنف بن ايمن بن ذي النبط بن فوز بن ذي رعين. كنيته أبو عبد الرحمان، كذا نسبه ابن شعبان وابن حارث وأبو العرب. وقال البخاري في التاريخ: عبد الله بن عمر النميري عن يونس بن عبد الله، سمع من الثوري وحجاج بن منهال، وقال في الصحيح: حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس حديث الإفك في باب من شهد بدراً، قال ابن هنده عبد الله هذا هو ابن غانم الإفريقي. روى عنه القعنبي وابن القاسم. قال أبو العرب التميمي: كان ثبتاً ثقة فقيهاً عدلاً في قضائه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 قال أبو علي ابن أبي سعيد في كتابه المغرب في أخبار المغرب: كان ابن غانم رجلاً كاملاً فقيهاً مقدماً مع فصاحة لسان وحسن بيان وبصر بالعربية ورواية الشعر، ترى له أبيات مستحسنة وكانت فيه تهتهة. وكان أبوه مذكوراً قديماً في عرب أفريقية وابنائها قبل دخول المذهب. قال غيره: كان من أهل العلم والدين والفضل والورع والتواضع والفصاحة والجزالة. قال أبو سعيد ابن يونس: كان أحد الثقات الأثبات، ولم يعرفه أبو حاتم لبعد قطره، وقال: مجهول. قال الشيرازي: كان ابن غانم من نظراء ابن أبي حازم واقرانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: سمع ابن غانم من ابن أنعم، وخالد ابن أبي عمران. ودخل إلى الحجاز والشام والعراق فسمع من مالك وعليه اعتماده، ومن سفيان الثوري ومن أبي يوسف بن الضحاك وإسرائيل ابن يونس. وداود بن قيس وغيرهم. سمع منه القعنبي وغيره. قال ابن عمران كان يجل ابن غانم وإذا جاءه اقعده إلى جنبه ويسأله عن أخبار المغرب وإذا رآه أصحابه قالوا شغله المغرب عنا. ولما ولي القضاء أعلم مالك بذلك أصحابه، وسر به. ويقال أن مالكاً عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقوم عنده، فامتنع عن المقام، وقال له: إن أخرجتها إلى القيروان تزوجتها. وله سماع من مالك مدون انقطع. ومنه في المجموعة مسائل. وسمع الموطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 قال وجاء رجل مرة بوثيقة إلى أسد بخط ابن غانم فجعل أسد يعرضها ثم تعربها بإصبعه، وقال: ما كان أفقهه. قال سليمان بن عمران: ابن غانم كاملاً متكملاً فصيحاً حسن البيان جيد الترتيل، لولا تمتمته ما قام بطلاقة لسانه أحد. قال أحمد بن الجزار: وهذه التمتمة الباقية في ولده إلى زمننا. قال أسد: كان ابن غانم فقيهاً. قال معمر: كان ابن غانم يقرئنا كتب أبي حنيفة في الجمعة يوماً. ولما بلغت وفاته ابن وهب استرجع وترحم عليه، ثم قال: لقد كان قائماً بهذا الأمر. قال ابن غانم: لما دخلت مع البهلول ابن راشد على سفيان الثوري وكان معهم عبد الله بن فروخ، قال: ليقرأ علي أفصحكم لساناً. فإني أسمع اللحنة فيتغير لها قلبي. فقرأت عليه إلى أن فارقته، ما رد علي حرفاً. قال أبو العرب ومناقب ابن غانم كثيرة وذكر ابن حارث أن علي بن زياد كان يسيء القول فيه ويغمزه في كتبه، ويقول ما صدق والله. حدث عنه سحنون وداود بن يحيى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ذكر ولايته القضاء وسيرته قال الشيرازي: ولى الرشيد لابن غانم قضاء أفريقية. وقيل ولاه أمير أفريقية روح بن حاتم المهلبي. أشار عليه ابن فروخ الفقيه لما امتنع هو أن يلي. وقيل أن أبا يوسف قال لروح عند خروجه إلى القيروان: أن بمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم، فقد فقه فوله قضاء أفريقية. وكانت ولايته في رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة في حياة مالك رحمه الله تعالى. ولما بلغت مالكاً ولايته سر بها، وأعلم بذلك أصحابه. ولما أتاه ابن أبي حسان سأل عن ذلك ابن أبي حسان فأعلمه فقال ما ذلك كثير له. وكان الرشيد يكاتبه فكان يعد قضاؤه قبله. وتشاجر أصحاب ابن غانم في ولايته فقال بعضهم: هي من المسودة (كذا) دون أمير المؤمنين. فقال أبو عثمان المعافري: امرأته طالق ثلاثاً ومماليكه أحرار، إن كان ولاه إلا أمير المؤمنين، ثم جاء إلى ابن غانم فأخبره الخبر، فقال لا يا أبا عثمان، كم صداق امرأتك؟ فقال مائتا دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 قال خذها فقد بانت منك امرأتك واعتق مماليكك. ولم يزل ابن غانم على القضاء إلى أن توفي، فكانت ولايته نحواً من تسعة عشر عاماً. وكان ابن غانم يوجه أبا عثمان هذا بمسائله أيام قضائه إلى مالك فيما ينزل به من نوازل الخصوم، فيأخذ له عليها الأجوبة، وكان يكتب إلى كنانة فيأخذ له الأجوبة من مالك. وكان يكتب أيضاً إلى أبي يوسف. قال السيوري ولم يزل الأمر يتراقى بابن غانم في الرفعة والسمو في أحكامه وأموره، فكان من إكرام الخليفة له إذا كتب كتاباً لإبراهيم بن الأغلب يقول له فيه وأنا لا إفك لك كتاباً حتى يكون مع كتابك إلي كتاب ابن غانم. فكان إبراهيم أكثر الناس مداراة وتعظيماً له، وكان ابن غانم يلبس من الثياب أرفعها ويجعل لخصومات النساء يوماً يجلس فيه للنظر بينهن، فيلبس يومئذ الفرو الخشن وخلق الثياب، وينظر ببصره إلى الأرض فلا يشك من لا يعرفه أنه أعمى، ويزيل الحجاب والكتاب عنه، وكان له حظ من صلاة الليل فإذا قضاها وجلس في التشهد آخرها عرض كل خصم يريد أن يحكم له، على ربه، يقول في مناجاته: يا رب فلان منازع فلاناً وادعى عليه بكذا فأنكر داعوه فسألته البينة فأتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 ببينة شهدت بما ادعى، ثم سألته تزكيتها فأتاني بمن زكاهم وسألت عنهم في السر فذكر يعني خيراً، وقد أشرفت أن آخذ له من صاحبه حقه الذي تبين لي أنه حق له، فإن كنت على صواب فثبتني وإن كنت على غير صواب فاصرفني، اللهم لا تسلمني. اللهم سلمني. فلا يزال يعرض الخصوم على ربه حتى يفرغ منهم. وابن غانم هذا هو الذي أوقف الأحمية التي كانت بمراسي أفريقية، لمرافق المرابطين. وكان ابن غانم إذا جلس رمى إليه الخصوم الشقاف فيها قصههم مكتوبة، فوجد يوماً شقفة فيها قصة النخاسين البغال فدعاهم، فأخبروه أن أبا هارون مولى إبراهيم بن الأغلب الأكبر صاحب أمره ابتاع منهم بغالاً بخمسمائة دينار، ولم يدفع لهم شيئاً. فضم ديوانه ونهض إلى إبراهيم، وكان قد أباح له الدخول عليه دون أذن، فكان القاضي إذا أتى تنحنح فإذا قيل له ادخل، دخل. ففعل كعادته، فسأله إبراهيم ما وصيته، فذكر له شأن المتظلمين. فأحضر أبا هارون فاعترف وقال حتى يجيء الخراج وقد بعثت في طلبه. فقال ابن غانم: لا أبرح حتى تدفع إليهم أموالهم. فما برح حتى دفعت إليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ودعا الأمير إبراهيم ابن الأغلب ابن غانم يوماً فقرأ عليه كتاب الرشيد يأمره بإحضار رجل يقال له حاتم الإبزاري، ويقول إن لفرج مولى أمير المؤمنين عليه عشرة آلاف دينار، ويأمر إبراهيم بقبضها ويوجهها مع رسول له خراساني. ويقول في آخر الكتاب: واحضر ابن غانم القاضي، وقد أحضر المطلوب ترعد فرائضه فلما أكمل إبراهيم قراءة الكتاب قال لابن غانم سمعت ما فيه؟ قال نعم. قال ابن غانم وما أحضرت إلا لتحمل علي قولي فيما في هذا الكتاب. قال إبراهيم: ولم أمرت بإحضارك. إذا قال فأول ذلك أن يثبت الرسول بعدلين استخلاف أمير المؤمنين له على قبض هذا، وأن المال لأمير المؤمنين أو لمولاه، فقال الرسول ويكتب أمير المؤمنين بالباطل؟ قال معاذ الله، أمير المؤمنين أكرم أن يأخذ مالاً من غير حله، ولكن قد تنخرق الأشياء دونه. قال الخراساني ما تقول أيها الأمير؟ قال ما قال القاضي. وتحمل. فقام ابن غانم وحمل الإبزاري معه. فقال إبراهيم: ما أنفذ بصيرته وأمضى عزيمته. وراكب ابن غانم إبراهيم يوماً فزادت دابة إبراهيم في المشي فحول ابن غانم دابته، وعرج إلى داره، فعاتبه إبراهيم على ذلك، فقال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 غانم أصلح الله الأمير إنما نفوذ أحكام القاضي على قدر جاهه، ولو ساعدتك وحركت دابتي سقطت قلنسوتي فلعب بها الصبيان. وراكبه مرة، فشق إبراهيم زرعاً فلم يسلك ابن غانم معه. ودخل عليه يوماً وفي يد إبراهيم قارورة فيها دهن يسير، قال كم تظن أيها القاضي يساوي هذا؟ قال تافه، فكم عسى أن يبلغ؟ قال إبراهيم فإن ثمنه كذا وكذا. قال ابن غانم: ما هو؟ قال السم. قال أرنيه. فدفع إليه إبراهيم القارورة ضرب بها عموداً في المجلس فكسرها. ودعاه إبراهيم يوماً إلى صعود الصومعة فأبى، وقال: نكشف حرم المسلمين، فلم يصعد معه. ودخل يوماً على إبراهيم فوردت عليه كتب من الرشيد، فقرأ إبراهيم كتابه ثم دفعه إلى ابن غانم فقرأه ورده على إبراهيم. فقال له إبراهيم هات كتابك أقرأه قالا لا أفعل قال له: فلم قرأت أنت كتابي. قال أنت دفعته إلي ومددت يدك به فكرهت ردها. وقد اسر أمير المؤمنين في كتابه ما لا أريد أن أطلع عليه أحداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 فقال له إبراهيم: أما علمت أن إبراهيم أمير أفريقية يقتل عبد الله قاضيها؟ فقال: يذكر ذلك. ولكن لست ذلك الأمير، هو ابنك ولست ذلك القاضي، هو غيري. فقدر أن الخبر بعد هذا، صدق في أبي العباس عبد الله بن طالب القاضي قتله الأمير إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بعد هذا مسموماً في سجنه. وسيأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله. قال ابن غانم: دخلت مجلس إبراهيم بن الأغلب، إذ أشرف علينا إبراهيم فقام إليه من كان في البيت غيري. فجلس مغضباً ثم قال لي: يا أبا عبد الرحمان ما منعك أن تقوم كما قام أخواك؟ فقلت أيها الأمير: حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار. فنكس إبراهيم رأسه وأطرق. ومر رباح بن يزيد الزاهد وبيده قسط زيت على ابن غانم وهو قاض، فقال لها ابن غانم: احمله لك. فقال رباح شأنك. فرفع القسط إليه وجعل يشق به مجامع الناس فسلك به حوانيت البزازين حتى انتهى إلى داره. فقال رباح إنما فعلت هذا، لأنه بلغني عنك أنك تجد بنفسك، فأحببت أن أضع منك. فجزاه ابن غانم خيراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وكان رباح بن يزيد يأتي كل يوم جمعة إلى ابن غانم فيدعوا. وكان نحيلاً دقيق العروق فجعل يوماً يدعو فاستضحك ابن غانم وتمادى رباح في الدعاء، وابن غانم في الضحك حتى نهض رباح فعذل ابن غانم جلساؤه في ذلك، وقالوا له: مثل رباح يضحك عليه؟ فقال لهم ابن غانم: امسكوا عني، إنما غمني أن العدو لما علم ما نحن فيه من الخير، أراد أن يقطعه بما رأيتم أو نحوه. فلما كان الجمعة جاء رباح فأخذ في الدعاء وهجم على ابن غانم من الرقة والخشوع أكثر ما كان منه، فلما قضى دعاءه قال ابن غانم جزاك الله خيراً يا أبا يزيد. فقال له رباح قد علمت أن الذي كان منك إنما حركك عليه العدو ليقطع ما نحن فيه من الخير. ومر يوماً بالسوق والبهلول بن راشد يشتري لحماً من جزار فنزل ابن غانم عن دابته وعانقه وقرب إليه دابته تعظيماً له، فامتنع البهلول فأقسم عليه ابن غانم، فقال له أني اشتريت لحماً قال احمله لك. فقال البهلول أني أجلك أن تمشي راجلاً فقال اركب خلفك. فركب البهلول على السرج وركب القاضي خلفه على كفل الدابة وقد حمل اللحم فشقا السماط حتى وصلا إلى دار البهلول فعجب الناس من تواضعه وشرفه. ول فأقسم عليه ابن غانم، فقال له أني اشتريت لحماً قال احمله لك. فقال البهلول أني أجلك أن تمشي راجلاً فقال اركب خلفك. فركب البهلول على السرج وركب القاضي خلفه على كفل الدابة وقد حمل اللحم فشقا السماط حتى وصلا إلى دار البهلول فعجب الناس من تواضعه وشرفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 بقية أخباره وكرمه وحلمه قال ابن البصري: ذكر أن ابناً لابن غانم جاءه من عند معلمه، فسأله عن سورته فقرأ عليه فأحسن، فدفع إليه عشرين ديناراً أو نحوها. فلما جاء بها الصبي إلى المعلم أنكرها وظن بالصبي ظناً. فجاء بها إلى ابن غانم، فقال ابن غانم: لعلك استقللتها؟ قال لا. فقال له حرف واحد مما علمته يعدل الدنيا وما فيها. وذكر أن رجلاً يقال له ابن زرعة كان ابن غانم قد حكم عليه، فبلغ ذلك من ابن زرعة كل مبلغ، فلقي ابن غانم في طريق ضيقة فسبه وقال له: يا فاعل يا ابن الفاعلة،، وبالغ. فلما كان بعد ذلك لقيه في طريق ضيقة، فسلم عليه ابن غانم وحمله معه إلى منزله فأحضر طعاماً وأكل معه، واقاما إلى قرب المساء ثم انصرفا. فلما أراد مفارقته استغفره ابن زرعة واعترف له بالخطأ، فقال أما هذا فلست اجعله حتى نخاصمك بين يدي الله، وأما أن ينالك منه شيء مكروه في الدنيا فلا. ومن طريق آخر أن الجند نزلوا في دار ابن زرعة بعد سبه له وملأوها سلاحاً. فلجأ إلى ابن غانم، فلما دنا من الباب تذكر، وقال بعد أن سببته أستنصره، فانصرف، ثم أعظم ما نزل به فرجع إليه، فلما دنا انصرف ثم رجع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 فلما رآه ابن غانم قال مرحباً بابن زرعة وأوسع مجلسه وقال له: ما جاء بك؟ فأخبره فقال يا غلام الرداء والنعال. فلبسهما ثم مضى إلى الأمير، فسأله إخراج الجند من داره، ففعل. وخرج ابن غانم مع جماعة إلى منزله ومعه سليمان بن زرعة وخرج بزوائله ومطانجه فنزل وقرب إليهم الطعام وفيه كنافة فجر رجل من القوم الزبد إلى جهته، فقال ابن زرعة: أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقال ابن غانم: استهزاء بكتاب الله تعالى؟ لله علي أن كلمتك أبداً. وانصرف راجعاً إلى القيروان. وهجا أبو المضرجي الشاعر بني غانم فاتصل ذلك بالقاضي فضجر منه واشتهر الشعر فقيل لابن غانم: ليس لك إلا أبا الوزن، فإنه يلقاه بكل ما يكره. وكان أبو الوزن مضحكاً ضعيف الشعر. فأتي به، فقال ابن غانم: بلغني أنك بعيد الصوت ونحن نريد من يؤذن في الجامع. وقال لبعض خدمه: ادفع لأبي الوزن خمسة أقفزة قمحاً وخمسين قفيزاً زيتاً ومائة درهم، حتى ننظر في أمره. فلما قبض ذلك أبو الوزن قال للذي أتى به للقاضي: والله قصة، فإني لا أصلح أن أكون مؤذناً، فأخبر بالأمر، فقال: قد كفي. فدخل يوماً على إبراهيم بن الأغلب في جملة الشعراء فنظر إلى الأمير ثم أنشده: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 إني وإني وإنني وإنا ... وأهل بيتي معظموا الأمرا ثم اشار إلى أبي المضرجي وقال: إن أبا الضرجي شاعركم ... يضرط في الشعر كلما شعرا قال القاضي: وبعد هذا بيت قبيح تركناه لفحشه ورفثه، وإن كان بيت الأبيات الثلاثة في بابه. فضحك الأمير ومن حضر وانكسر خاطره، وعلم من حيث أتى. فجاء إلى ابن غانم معتذراً مقسماً أنه ما هجا أحداً من أهل بيته: فأظهر ابن غانم ألا علم عنده من شيء من القضية. فسأله كف أبي الوزن عنه، فأمر له بذلك. وكان ابن غانم يكثر إنشاد هذين البيتين: إذا انقرضت عني من العيش مدتي ... فإن عناء الباكيات قليل سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل وكان لابن غانم أخم اسمه سعيد، سمع من أخيه عبد الله وكتب عنه. وكان لابن غانم ابنان جليلان أبو عمر غانم وأبو شراحيل فقيهاً نظاراً ورعاً أديباً شاعراً، أخذ عن الكوفيين ومال إلى رأيهم. وتوفى ابن ست وثلاثين سنة. مولده سنة تسع ومائتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وكان لابنه أبي عمر غانم ولد يكنى أبا عبد الرحمان وهو القائل في شعر له يفتخر بآله رحمهم الله تعالى: ولينا قضاء الغرب عشرين حجة ... فعز بعدل عندنا مستلينها وأمضى ابونا الحق في الناس فاستوت ... رعيته في العدل فاعتز دينها فصلى عليه الله في مستقره ... وسقاه من غر السحاب هتونها قال القاضي أبو الفضل: ودخل على ابن غانم أبو الوليد المهدي اللغوي في مرضه الذي مات فيه، فقال له رفه الله ضجعتك من هذه العلة إلى إفاقة، وراحة، وأعاد عليك ما عودك من الصحة والسلامة، فطالما صححت وعوفيت أصلحك الله فاصبر لحكم ربك، فإن الله يحب أن يشكر على نعماه. فقال ابن غانم هو الموت والغاية التي إليها نهاية الخلق وما لا بد منه فصبر يؤجر صاحبه عليه خير من ضرع لا يقي عنه ثم تمثل: فهل من خالد أما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار وتوفى في ربيع الآخر سنة تسعين ومائة، وقيل ست وتسعين من فالج أصابه وقيل أن بصره كان قد كف والأول أصح، ويشهد له شعر حفيده قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 ولينا قضاء الغرب عشرين حجة وكان ولي القضاء سنة إحدى وسبعين وهو ابن اثنتين وأربعين وتوفي وهو قاض كما قدمناه ومولده سنة ثمان وعشرين ومائة مع البهلول بن راشد في ليلة واحدة. وذكر بعضهم أنه سمع عند موته صوتاً لا يرون شخصاً يقول: زارت ذئاب بعد طول عوائها ... لما تضمنه الضريح الملحد وقيل بل رآه بعضهم في النوم ولما مات بكى عليه ابن الأغلب وجلس على كرسي ينتظر وقته، ووقف على قبره معه ابن عقال خال إبراهيم بن الأغلب، وجزع عليه، فسأله إبراهيم عن ذلك، فقال: كان لي صديقاً ودوداً. فقال إبراهيم والله ما ولينا أفريقية ولا أمناً حتى مات. وكان علي الهمة لما مات قومت كسوة ظهره بألف دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 علي بن زياد التونسي العبسي أبو الحسن. وقيل أصله من العجم ولد بطرابلس، ثم انتقل إلى تونس فسكنها. وقال ابن شعبان وغيره هو من عبس. قال أبو العرب علي بن زياد من أهل تونس ثقة مأمون (خير) متعبد بارع في الفقه ممن يخشى اله عز وجل مع علوه في الفقه. سمع من مالك وسفيان الثوري والليث ابن سعد، وابن لهيعة وغيرهم. وسمع بإفريقية قبل هذا من خالد بن أبي عمران، لم يكن بعصره بإفريقية مثله. سمع منه البهلول بن راشد وسحنون وشجرة وأسد بن الفرات وغيرهم. وروى عن مالك الموطأ، وكتب سماعه من مالك الثلاثة. قال ابو سعد بن يونس: هو أول من ادخل الموطأ وجامع سفيان المغرب، وفسر لهم قول مالك ولم يكونوا يعرفونه. وكان قد دخل الحجاز والعراق في طلب العلم وهو معلم سحنون الفقه. قال الشيرازي به تفقه سحنون وله كتب على مذهبه وتفقه بمالك وله كتاب خير من زنته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 قال سحنون: كتاب خير من زنته، أصله لابن أشرس. إلا أنا سمعناه من ابن زياد وكان يقرأه على المعنى وكان أعرف من ابن أشرس بالمعنى. قال ابن وضاح: قلت له: أو كان أكبر من ابن أشرس؟ قال: ما كان أمرهما واحداً، إلا أن ابن أشرس رعى سمع، وغاب علي، فكان علي يقرأ على المعنى، وهو ثلاثة كتب بيوع ونكاح وطلاق، وسماعه من مالك ثلاثة كتب. قال أبو الحسن بن أبي طالب القيرواني العابد في كتاب الخطاب: إن علي بن زياد لما ألف كتابه في البيع لم يدر ما يسميه به، فقيل له في المنام سمه: كتاب خير من زنته. ورأى حبيب أخو سحنون في منامه، خذ كتاب خير من زنته ذهباً. فإنه الحق عند الله. قال اسد قال لي المخزومي، وابن كنانة: ما طرأ علينا طارىء من بلد من البلدان كشف عن هذا الأمر، في رواية عن ابن كنانة، كشف لنا مالك عن الأصول كشف علي بن زياد، وكان سحنون لا يقدم عليه أحداً من أهل أفريقية، ويقول ما بلغ البهلول بن راشد شسع نعل علي بن زياد. قال سحنون: وكان البهلول يأتي إلى علي بن زياد ويسمع منه، ويفزع إليه. يعني في المعرفة والعلم، ويكاتبه إلى تونس يستفتيه في أمور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 الديانة. وكان أهل العلم بالقيروان إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى علي بن زياد ليعلمهم بالصواب. قال وكان علي خير أهل أفريقية في الضبط للعلم. قال سحنون ولو أن التونسيين يسألون لأجابوا بأكثر من جواب المصريين. يريد علي ابن زياد وابن القاسم. وفي رواية أخرى: لو كان لعيي بن زياد من الطلب ما للمصريين ما فاته منهم أحد. وما عاشره منهم أحد. قال ابن الحداد، ألا إنها كلمة فضله بها عليهم. وقال سحنون: ما أنجبت أفريقية مثل علي ابن زياد. وكان يقول ما فاته المصريون إلا بكثرة سماعهم. وذلك أني اختبرت سره وعلانيته. والمصريون إنما اختبرت علانيتهم. قال أسد: كان علي بن زياد من نقاد أصحاب مالك. قال وإني لأدعو له مع والدي. وفي رواية أني لأدعو في إدبار صلاتي لمعلمي، وابدأ بعلي بن زياد، لأنه أول من تعلمت منه العلم. قال البلخي: لم يكن في عصر علي بن زياد أفقه منه ولا أورع. ولم يكن سحنون يعدل به أحداً من علماء أفريقية. قال ابن حارث: كان علي ثقة مأموناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 خيراً. ذكر فضائله ومناقبه قال بعضهم: رأيت علي بن زياد واقفاً إلى سارية بجامع القيروان، فأراد أن يكبر فارتعد خوفاً من الله، ثم تحامل فكبر وتغير لونه. وذكر ابن اللباد عن سحنون قال: مات بعض قضاة أفريقية فقدم رسول الخليفة إلى أفريقية لجمع العلماء واستشارتهم في قاض يوليه أفريقية. فتوجه إلى تونس وبعث إلى واليها علي بن زياد فتثاقل، فأخبر بذلك الوالي رسول الخليفة فقال له الرسول، أمير بلد ورسول الخليفة، يوجه إلى رجل من الرعية فيتثاقل عن المجيء. فمضى إليه الوالي معه، فلما دخلا عليه وجداه قد حول وجهه إلى الحائط، فقال له الوالي: يا أبا الحسن، هذا رسول الخليفة يستشيرك في قاض يلي أفريقية، فحول عليه وجهه إلى القبلة وقال: ورب هذه القبلة ما أعرف بها أحداً يستوجب القضاء قوموا عني. وبعث فيه روح بن حاتم ليوليه القضاء، فقدم عليه وقدم البهلول والصالحون إلى باب دار الإمارة إذ بلغهم قدومه فخرج عليهم علي يمسح العرق على جبهته، فقالوا: ما فعلت؟ فقال عافى الله وهو محمود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 فقال له البهلول: بما عزمت عليه؟ (قال ألا بيت فيهان فيبدو له؟ فتوجه إلى تونس على حماره، وودعوه. وجاء رجل إلى البهلول وقال رأيت في المنام كأن قنديلاً دخل من باب تونس حتى دخل من باب تونس حتى دخل دار بني دراج. فقال تعرف الدار؟ قال نعم. قال قوموا بنا فقد جاء علي بن زياد. فانتهوا مع الرجل حتى أوقفهم على الدار. فسألوا فإذا علي قد دخلها في السحر. فدخل عليه البهلول، فقام إليه علي وسلم عليه، وجعل البهلول يسأله عن مسائل، وكتب البهلول مع سحنون إلى علي ابن وياد: يأتيك رجل يطلب العلم لله. فلما وصل سحنون أتاه علي إلى بيته بالموطأ. وقال والله لا سمعته علي إلا في بيتك. لأن أخي البهلول كتب إلي أنك ممن يطلب العلم لله. وقد رأيت أنا هذه الحكاية مع غير سحنون رجل آخر من أكابر أصحاب مالك المصريين يكنى بكنيته ويسمى باسمه، وينتسب بنسبه وهو أبو الحسن علي بن زياد الإسكندراني سيأتي ذكره في طبقته إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 عبد الرحيم بن أشرس قال أبو العرب: هو أنصاري من العرب من أهل تونس كنيته أبو مسعود ونسبه ولم يسمه، وسماه المالكي العباس. وقالوا: هو مولى الأنصار. وقاله أبو سعيد بن يونس. وقال اسمه عبد الرحمان .... انتهى. وكذلك قال ابن فهر، رجح المالكي اسمه العباس، قال: وهو ثقة فاضل. سمع من مالك بن أنس ومن ابن القاسم. روى عنه عبد الرحمان حديث الموطأ. قال: وقرأت في رجال ابن وهب، أبو الأشرس عبد الرحمان بن أشرس المقري التونسي. ولعله أخا لأبي مسعود. وكان يكنى بأبي مسعود، وقد بين هذا ابن شعبان، فقال عنه أبو مسعود عبد الرحمان بن أشرس، ويقال عبد الرحيم، قال سحنون: كان علي بن زياد خير أهل أفريقية في الضبط للعلم، وكان ابن أشرس أحفظ على الرواية، وكان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قال ابن يونس الصدفي: روى ابن أشرس عن مالك وعبد الله وروى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي جعفر وعمران بن هارون بمصر. قال موسى بن معاوية: كنت عند البهلول بن راشد ، إذا أتاه ابن أشرس، فقال له: ما أقدمك؟ قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته، وحلفت بالطلاق ثلاثاً ما أخفيته. قال له البهلول: مالك يقول: إنه يحنث في زوجته. قال ابن اشرس وأنا سمعته يقول، وإنما أردت غير هذا. فقال ما عندي غير ما تسمع. قال: فتردد إليه ثلاثة. كل ذلك يقول البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال له يا ابن اشرس، شر ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم، قلتم: قال مالك. فإذا نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن، يقول لا حنث عليه. قال ابن أشرس الله أكبر. قلدها الحسن أو كما قال. قال القاضي: كذا نقلته من كتاب ابن حارث وأراه كان بخطه. قال غيره فرجع ابن أشرس إلى زوجته. وكان هو صاحب المسألة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 البهلول بن راشد أبو عمر من أهل القيروان. قال محمد بن أحمد التميمي كان ثقة مجتهداً ورعاً مستجاب الدعوة لا شك في ذلك، كان عنده علم كثير. سمع من مالك والثوري وعبد الرحمان بن زياد ويونس بن زيد وحنظلة بن أبي سفيان وموسى بن علي بن رباح والليث بن سعد والحارث بن نبهان. وكان أولاً مشغولاً بالعبادة، فلما احتاج الناس إليه في العلم، سمع الموطأ من علي بن زياد وابن غانم، وسمع جامع سفيان الصغير من ابن أبي الخطاب، وأبي خارجة، والجامع الكبير من علي بن زياد. ودون الناس عنه جامعاً، وقام بفتياهم، وسمع من البهلول سحنون وعون والجعفري وعبد المتعالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وخالد بن يزيد وأبو سنان ويحيى بن سلام وغيرهم من بعدهم. قال أبو عبيد الله الجدائبي وروى عن البهلول أيضاً عبد الله بن مسلمة القعنبي. وقال حدثنا البهلول بن راشد وهو وتد من أوتاد المغرب. وروى عنه يزيد الفقر، ونظر إليه مالك بن أنس فقال: هذا عابد بلده، وجاءت إلى مالك من عند ابن غانم أقضية فقال ما قال فيها المصفر؟ يعني البهلول. وما قال فيها الفارسي؟ يعني عبد الله بن فروخ. قال سعيد بن الحداد ما كان بهذا البلد أحد أقوم بالسنة من البهلول في وقته، وسحنون في وقته. قال أبو حاتم: هو ثقة لا بأس به. وقال العقيلي: هو شيخ من أهل المغرب، ليس به بأس. وقال مثله علي بن الجويني. وقال أبو إسحاق البرقي: كان بهلول بن راشد من أهل الفضل والعلم والورع معروفاً بذلك مع العبادة والاجتهاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 قال سحنون: كان البهلول رجلاً صالحاً ولم يكن عنده من الفقه ما عند غيره، وإنما افتديت به في ترك السلام على أهل الأهواء. ذكر فضائل البهلول وعبادته وورعه وتواضعه وشمائله وبقية أخباره قال أبو إسحاق البرقي: قال البهلول بن عمر: ما رأيت أحداً أخشى لله من البهلول بن راشد. قال سحنون: كنا نختلف عند البهلول نتعلم منه السمت. قال غيره. دفع إلى البهلول كتاب ففضه. فإذا فيه: من امرأة من سمرقند من خرسان مجنت مجوناً لم يمجنه أحد إلا هي. ثم تابت إلى الله، وسألت عن العباد في أرضه، فوصف لها أربعة بهلول بإفريقية أحدهم، فسألتك بالله يا بهلول ألا دعوت الله في أن يديم لي ما فتح لي فيه. فسقط الكتاب من يده وخر على وجهه وجعل يبكي حتى لصق الكتاب بطين دموعه ثم قال: يا بهلول كان الذكر لرباح فلما مات، صار لبهلول. وما ذلك إلا من خبيئة كانت له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 ومرت امرأتان وهو يصلي فقالت إحداهما للأخرى هذا البهلول. فقالت لئن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال البهلول هذه عرفتني. وقال له رجل يوماً يا مرائي. فقال له البهلول: قد أخبرتها بذلك، يعني نفسه، فأبت علي ولم تقبل، فاجتمع عليها شهادتك وعلمي. وكان عند البهلول طعام، فغلا السعر فباعه ثم أمر أن يشترى له ربع نصف قفيز، فقيل له في ذلك، فقال نفرح إذا فرح الناس ونحزن إذا حزنوا. قال جماعة: إن البهلول مضى مرة يريد الجامع، فلما حاذى قصر الإمارة إذا خدم السلطان قد خرجوا من المطبخ يحملون القدور، فقالوا له تقدم. ووضعوا لوحاً عليه قدور على رأسه، فلما رآه الناس قاموا من كل ناحية فأرادوا البطش بهم، فاعتذروا بأنهم لم يعرفوه. فقال: أنا فعلته بنفسي ولا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه. فكان بعد لا ينصرف إلا بثياب حسنة. فقال بعضهم: رأيت البهلول منصرفاً إلى داره وعليه قلنسوة خز وساج طرازي، وقميص تستري ونعل طائفي. قال عون: صنع البهلول طعاماً وأحضر له جماعة من أصحابه، فقالوا له لم صنعت من غير سبب؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فقال كنت خائفاً أن أكون من البربر، لما جاء فيهم من الحديث فأخبرني من يعلم أني لسن منهم. وكان البهلول جواداً، فبلغني أنه كان لا يحبس فوق خمسمائة درهم. قال ابن الحداد: أخبرتني أمي قالت: وجهت إلى بهلول وأنا طفلة، فلما رآني قال تبارك الله. فزرع فيها الشبه ثم وهب لي مائة درهم. وقالت جاريته أقمت مع البهلول ثلاثين سنة فما رأيته نزع ثوبه قط عن جسده. ولا رأيته مصلياً نافلة قط. كان ياتي فيرقدني كما ترقد الأم ابنتها، ثم يدخل المستراح فيتهيأ للصلاة، ثم يصعد لغرفته فيغلقها عليه، ولا أدري أحي هو أم ميت غير أني كنت ربما اسمع سقطته في آخر الليل، فأظن أنه استثقل نوماً فسقط، وذكر أنه كان عنده شاب يطلب ثم أقبل على المجانة، فبلغ ذلك البهلول، فساءه، فبينما هو جالس يوماً إذ خطر بباله الشباب وتحته طنبور فعرف ذلك، فذهب البهلول إلى داره فاستدعاه فسلم عليه وسأله عن الذي شغله عنه، وأقبل يعظه حتى رجع الفتى إلى الخير، وترك ما كان عليه ولازم البهلول ونفعه الله به فكان له شأن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 قال أبو عثمان بن الحداد بلغني أن بهلولاً كان ذات يوم جالساً وعنده صاحبه رباح بن يزيد الزاهد، إذ أقبل أخ للبهلول في البادية يلج بخبر المطر والزرع والبهلول يتلقى ويتلون اغتماماً لرباح، لعلمه بكراهيته ذكر الدنيا وأسبابها فلما أكثر أخوه من هذا نهض وجعل يقول لبهلول: سقطت من عيني، تذكر الدنيا في مجلسك ولا تغير. فقال له البهلول: إذا لم أسقط من عين الله فلا أبالي من عين من سقطت. فخر رباح على رأسه يقبله. نعم يا حبيبي يا بهلول لا تبالي من عين من سقطت، إذا المرء سقط من عين الله. ودخل بهلول على ابن غانم القاضي وقت المغرب في رمضان فقرب الماء ليغسل من حضر ففعلوا وغسل بهلول ولم يأكل. فكلمه في ذلك ابن غانم القاضي وقال: أنا سلطان طعامي حرام؟ ألست بصائم؟ فجعل البهلول يعتذر إليه ويقول طعام لا أجد في بيتي مثله، وإن تكلفت شق علي وأنا أمره أن أتكلف بما يشق علي. وابن غانم يهذر ويعيد كلامه الأول، والبهلول يعتذر ولا يزيد على قوله الأول، حتى فرغ القوم وخرجوا وخرج البهلول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وذكر ابن اللباد أن رجلاً سأل بهلولاً عن مسألة فأجابه فيها ثم قال له: اذهب إلى الفارسي يعني ابن فروخ فاسأله، فذهب إليه فسأله، فأجاب بمثل قول بهلول، فانصرف إلى بهلول فسأله أيضاً، فقال ألم أدلك على ابن فروخ؟ قال بلى. وقد أجابني. قال بهلول فما لك تفضل بعض الناس على بعض؟ يريد نفسه. والله لو كانت للذنوب رائحة ما جلست إلي ولا جلست إليك. وقال: ابن فروخ الدرهم الجيد، وأنا الدرهم المقوى. قال بهلول لقيت رباح بن يزيد ببئر زمزم، ومعه خراساني وقد نزعا ماء من بئر زمرم فجعلاه في سويق فنظرته فإذا هو عسل. فقالا لا تخبر بما رأيت. فما فعلت حتى مات. قال ابن الحداد: كان لقوم من النخاسين عشرون ديناراً عند البهلول وكان له عشرون ديناراً عند دحنون فجاءه سائل فقال لدحنون ادفع إليه ديناراً من العشرين فدفعه وجاءه النخاسون فقالوا حضر فقال حضر تسعة عشر وأمر دحنون بعدها لهم فوجد عشرين ديناراً. فقال لدحنون لا إله إلا الله. أراك لا تحسن العدد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 قال سليمان بن سالم: جاء مغيث بن رباح إلى البهلول فأخبره بعزمه على الحج، فقال له أما كنت حججت؟ فقال نعم. ولكني اشتقت إلى بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كم عددت لخروجك؟ فقال مائة درهم. فقال هل لك أن تأتيني بها فأصرفها في مواضع وأضمن لك على الله عشر حجج مقبولة. فأتى مغيث بالصرة فأفرغها تحت جلد وجلس معه. فلم يزل يدفع منها الخمسة والعشرة يقول لهذا تزوج بها وعش بالباقي، وهذا أنفقها على عيالك، والآخر استر وجهك بها. حتى نفذت. فرأى بعد ذلك رجل صالح أن أتياً أتاه مرة في الليل يقول له امض إلى مغيث فأخبره أن الله قد وفاه ضمان بهلول. فأخبره بذلك الرجل. قال أبو زرجونة استقفيت ليلة جمعة وضربت بقرعة فأخبرت بذلك البهلول من الغد فأكب علي يسألني أن اجعل ما فعل ذلك في حل. فقلت فعلوا بي وفعلوا وأجعلهم في حل. فقال أيسرك أن يحال بين أخيك المسلم وبين الجنة بسببك؟ فلم يزل بي حتى جعلتهم في حل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 قال: واقبل هرثمة بن أعين أمير أفريقية في موكبه، حتى انتهى إلى مسجد البهلول بن راشد، وبهلول مسند ظهره إلى عمود بإزاء باب المسجد، فانحنى هرثمة في السرج، وقال لبعض من معه ادفع إليه هذا المزود بالدراهم وقل له قال لك الأمير فرقها. فجاء إليه الرسول فقال له البهلول الأمير أقوى على تفريقها. قال سحنون: سأل رجل البهلول وأنا عنده عن مسألة، فأجابه بخطأ فقلت له في ذلك، فقال: ألا ترى إلى هؤلاء الأحداث يؤذوننا. وكنت إذا اجتمع لي قطعة خرجت إلى علي بن زياد فخرجت إليه، فبينما أنا عنده جاءه كتاب البهلول فرمى به إلي. فقلت هذه مسألة اختلف فيها عندنا. فقال لي ما قالوا؟ قلت: قال البهلول كذا. قال ومن نازعه؟ فقلت أنا، قلت فيها كذا. قال أصبت وأخطأ. اكتب إليه بهذا عني. ثم قال لي: افرح بهذا الرجل فإنه صالح. قال ابن الحداد عن أبيه كان البهلول من أغير الناس، ما كان يدخل داره رجل غيري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 قال بعض أصحابه: دخلت عليه وبين يديه ابنته طفلة وعليها ثياب مصبوغة، فقال لي ما أحببت شيئاً حبي لها، وإني لأحب لو قدمتها لربي. فانصرفت عنه ثم رجعت إليه، فوجدت الناس مجتمعين على بابه فسألت، فقيل لي ماتت ابنته فدخلت إليه فعزيته فلما وليت لحقني وقال: بالله لا تذكر ما كان مني، يعني أمنيته، يعني ما دمت حياً. قال زكريا بن الحكم قلت للبهلول يا أبا عمر وهذه القراءة التي نقرأ عنكم الشيء رويته عن السلف أم شيء رأيته؟ فقال ما أخذته عن أحد إلا أني كنت عند معلمي أخيط فيمر علي سافر بن سليمان الواعظ بالجامع والقراء يقرأون عليه، فأقف إليه وأستحلي ذلك، ثم حاسبت نفسي وقلت أنا مستأجر، فصرت آخذ من معلمي طريحة معلومة، فإذا فرغت منها مضيت إلى مجلسه فانتفعت به وبقيت حلاوة ذلك في قلبي ومنفعتها إلى الآن، ثم قال وهؤلاء القراء إن أتوني سمعت منهم، وإن غابوا لم أرسل فيهم. وذكر رجل لبهلول أنه رأى الشمس والقمر ادخلا جوفه فأفتاه بهلول بأنه يموت وتلا: وجمع الشمس والقمر يقول ألإنسان يومئذ أين المفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ذكر تسننه ومجانبته أهل الأهواء وموالاته ومعاداته في الله وخرج بهلول يوماً على أصحابه وقد غطى خنصره بيده وقد كان أهله سألوه حاجة، فربط في خنصره خطياً ليذكرها ثم قال: خفت أن أكون ابتدعت فغطى أصبعه لئلا يراه أحد فيقتدي به. ثم وجه بعض أصحابه واسر إليه الأمر فسأل ابن فروخ وصاحبه عن ذلك، فجاءه فأخبره عنه أن عبد الله بن عمر كان يفعل ذلك، فنحى بهلول كفه عن خنصره: وقال الحمد لله الذي لم يجعلني ممن ابتدع بدعة في الإسلام. قال ابن الحداد: قال لي ابن سنان ربما سمعت بهلولاً في داركم وهو يهدر ويقول السنة، ويلح بها. قال سحنون: أتيت يوماً إلى البهلول فوافاني رجل من أهل الأهواء على بابه يسألني عن الشيخ، فلم أرد عليه جواباً، والشيخ يسمع. فلما دخلت عليه سلمت فلم يرد علي وأعرض عني فلما خرج الناس جثوت بين يديه وقلت له ما قصتي؟ فقال سلم عليك رجل من أهل الأهواء وسألك عني. فقلت له: والله ما رددت عليه جواباً. فقال مرحباً أهلاً. وسلم علي. ثم قال لي بهذا يعرف الحق من الباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 قال ابن الحداد: أتى أبو محرز العراقي الفقيه إلى البهلول يعوده فقيل ذلك البهلول، فقال: قولوا له إن كنت على رأيك فلا تقربنا. وقال سحنون: ما اقتديت في ترك السلام على أهل الأهواء إلا بالبهلول. قال بعضهم: دفع بهلول إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري له بهما زيتاً يستفد به فذكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد. فانطلق إليه الرجل بالدينارين، فأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول. فقال النصراني نتقرب إلى الله ببهلول كما تتقربون أنتم به إليه، وأعطاه بالدينارين من ذلك الزيت ما يعطى بأربعة دنانير من دنيء الزيت. ثم أقبل إلى بهلول فأخبره الخبر، فقال له بهلول قضيت حاجة فاقض لي أخرى، رد علي الدينارين. فقلت ولم؟ فقال ذكري قول الله تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله. فخشيت ان آكل زيت النصراني فنجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير. ذكر محنته ووفاته قال القاضي رحمه الله: امتحن البهلول على يد العكي أمير القيروان وقيل له: أنه يقع في سلطانك، وضعف عنده أمره. فأمر به فتحاشد الناس معه فزاده ذلك حنقاً عليه، وأخرج إليهم الأجناد ففضوهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وأمر بتجريده وضربه بالسياط ورمى جماعة أنفسهم، فضربوا، وضرب هو نحو العشرين وحبسه، وكان عندما هم به وسيق لقيه قوم متمثلون فشاوروه في القيام عليه وتخليصه فجعل يقول لا ... لا. قال بعضهم كنا في غزاة مع بعض الخلفاء وكنا معه في أهل الثغور اثني عشر ألفاً وكان يقضي لنا كل يوم حاجتين، فلما بلغنا ضرب العكي لبهلول اختل العسكر، وتقدمنا إلى باب الخليفة فسألنا حاجبه، فقلنا قد جعلنا حوائجنا نصرة البهلول، بلغنا أن العكي ضربه. فقال الحاجب اتقوا الله في دم العكي، إن بلغ هذا الخليفة قتله، وكيف يضرب البهلول إلا أن يكون أهل أفريقية ارتدوا. وكان مما حرك عليه العكي أنه كان يهادي ملك الروم فوجه إليه الطاغية في سلاح وحديد ونحاس فلما أراد توجيه ذلك إليه عارضه في ذلك بهلول ووعظه فيه إذ لا يجوز ذلك. قال أبو زرجونة كنت عند بهلول بعد ضربه إذ سمعت بكاء رجل داخل من الباب وإذا ابن فروخ فجلس أمامه، فبكى. فقال له بهلول: ما أبكاك يا أبا عمر؟ قال أبكي لظهر ضرب بغير حق. فقال قضاء وقدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وندم العكي بعد ذلك، وقال لابن غانم هل تستطيع أن ترينيه؟ فقال أما على أن يأتيك فلا ولكن استدعيه أنا واستشرف أنت من حيث تراه، ففعل. فلما بصر به جعل يقول تبارك الله كأنه سفيان الثوري في شأنه، فعن قريب عزل العكي اسوأ عزل وولي تمام بن تميم. وحكي أنه لما مدت رجلاه للقيد قال إن هذا الضرب من البلاء الذي لم أسأل الله العافية منه خطرة. وأتاه السجان في سجن العكي فعالجه فوهب إليه ديناراً وأعطى لمن معه دراهم، فعل بهم هذا ثلاثة أيام. كلما دخلوا عليه إعطاهم. فخاف أصحابه حاجته قبل خروجه فقالوا للسجان قد برىء فلا تعاودوه. فلما استبطأه بهلول سأل عنه أصحابه، وكأنه فطن لهم، فقالوا له لكل يوم دينار؟ فقال وما في ذلك؟ فقال له حفص بن عمارة من أصحابه سمعت الثوري يقول: إذا كمل صدق الصادق لم يملك ما في يديه. فخر بهلول على يديه يقبلهما ويقول سألتك بالله أنت سمعتها منه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وبرىء الضرب الذي ضرب إلا أثر سوط واحد، تنغل فصار قرحة فكان سبب موته رحمه الله. قال البهلول: أقمت ثلاثين سنة اقول إذا أصبحت وإذا أمسيت: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض وهو السميع العليم .... إلى آخر هذا فنسيتها يومي مع العكي، فابتليت. وذكر أن العكي وجه إلينا ثياباً وكبشاً فلم يقبل ذلك. فلما أبى سأله أن يحله فقال له: ما وقع علي سوط إلا وأ، ااستغفر الك يا أبا يسر. وفي رواية ما حللت يدي من العقالين حتى جعلتك في حل. وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. قال سحنون: بعد علي بن زياد بخمسة وثلاثين يوماً، كذا قال غير واحد، وقال فرات: سنة اثنتين ومولده مع عبد الله ابن غانم في ليلة واحدة سنة ثمان وعشرين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي فقيه القيروان في وقته قال أبو بكر المالكي في كتاب رياض النفوس: إن مولده بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة، ثم انتقل إلى أفريقية، فسكن القيروان وأوطنها، ونحو ذلك ذكر سليمان بن عمران، فيما حكاه عنه ابن الجزار، في كتاب التعريف. قال القاضي وإن اسمه كان بالأندلس عبدوساً، وإن رجلاً ناداه به في الجامع يعني بالقيروان ممن كان يعرفه به، فقال له أناشدك الله أن تذكرني في هذا البلد. ثم رحل إلأى المشرق فلقي جماعة من العلماء والمحدثين كزكريا بن أبي زائدة وهشام بن حسان وعبد الملك بن جريج، والأعمش والثوري ومالك بن أنس، وأبي حنيفة وغيرهم. فسمع منهم وتفقه بهم. قال ابو بكر وكان اعتماده في الحديث والفقه على مالك بن أنس. وبصحبته أشتهر، وبه تفقه، لكنه كان يميل إلى النظر والاستدلال، فربما مال إلى قول أهل العراق فيما تبين له منه الصواب. ثم انصرف إلى أفريقية فأقام بالقيروان يعلم الناس العلم ويحدثهم فانتفع به خلق، ثم رحل ثانية، وأتى مصر فمات بها كما سنذكره. قال ابن الجزار في كتاب طبقات القضاة كان ابن فروخ فقيهاً ورعاً، رحل في طلب العلم، وكان يكاتب مالك بن أنس في المسائل ويجاوبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 مالك، إلا أن سحنون كان يقول فيه: لا ينص الأصول، كان يسأل في المسألة فيجيب فيها بالأقاويل المختلفة. الثناء عليه بالعلم والعقل والدين قال ابو بكر: كان رجلاً صالحاً فاضلاً متواضعاً قليل الهيبة للملوك لا يخاف في الله لومة لائم، مبايناً لأهل البدع حافظاً للحديث والفقه. قال أبو العرب: كان ممن رحل في طلب العلم فلقي مالكاً وسفيان الثوري وغيرهما، وكان يكاتب مالكاً فيجيبه عن مسائله، وكان ثقة في حديثه. واستعفى من القضاء. قال ابن أبي مريم: هو أرضى أهل الأرض عندي. وقد خرج له مسلم في صحيحه. وقال البخاري: عبد الله بن فروخ، سمع منه ابن أبي مريم، تعرف وتنكر، خراساني وقع بالمغرب. قال، قال عبد الله بن وهب: قدم إلينا ابن فروخ سنة ست وتسعين بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 موت الليث ابن سعد، فرجونا أن يكون خلفاً منه. فما لبث إلا يسيراً حتى مات. وجعلت على نفسي ألا أحضر جنازة إلا وقفت على قبره، ادعو له. قال المالكي: كانت لوفاته بمصر فجعة عظيمة، عند أهل العلم، وقالوا: طمعنا أن يكون خلفاً عن الليث، وكانوا يعظمونه ويعتقدون إمامته. قال: وكان مالك بن أنس يكرمه ويعظمه. وحكى الطحاوي أن ابن فروخ قدم المدينة فلبس ثيابه، وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى مالكاً فلما رآه مالك تلقاه بالسلام: وقام إليه، وكان لا يكاد يفعل ذلك بكثير من الناس، وكان لمالك موضع من مجلسه يقعد فيه، وإلى جانبه المخزومي، معروف له، لا يستدعي مالك أحداً للقعود فيه، فأقعده فيه وسأله عن أحواله ومتى كان قدومه، فأعلمه أنه في الوقت الذي أتى إليه. فقال له مالك صدقت لو تقدم قدومك لعلمت به ولأتيتك، وجعل مالك لا ترد عليه مسألة وعبد الله حاضر إلا قال: أجب يا أبا محمد. فيجيب. ثم يقول مالك: هذا كما قال. ثم التفت مالك إلى أصحابه، فقال: هذا فقيه المغرب وفي خبر آخر، إنه أتى مالكاً فأجلسه معه على دكان. فأتاه سائل من أهل المغرب بمسائل في الجنايات فقرئت عليه، فقال له مالك أجبهم يا أبا محمد فهم أهل بلدك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فقال له ابن فروخ: بحضرتك. قال نعم. عزمت عليك. وكانت المسألة: رجل ضرب على رأسه وعلى حقويه فذهب أم رأسه، وزال عقله وبصره وسمعه وأسنانه واسترخت انثياه، حتى بلغت ركبتيه. فقال له ابن فروخ: في السمع الدية، وكذلك في البصر والعقل والأسنان، ويقعد في إجالة فيها ماء بارد في ليلة باردة. فإن تقلصت انثياه وعادتا لحالهما فلا شيء عليه، وإلا ففيها الدية كاملة. وإن تقلصت إحداهما فنصف الدية. فقال السائل لمالك أهذا جوابك يا أبا عبد الله. قال هذا جوابي. وقد حدث ابن فروخ بهذه الحكاية عنه وعن مالك. قال أبو العرب، عن أبي عثمان المعافري: أتيت إلى مالك بمسائل من ابن غانم، فقال لي ما قال فيها المصفر يعني البهلول بن راشد. وما قال فيها الفارسي، يعني ابن فروخ. ثم كتب الأجوبة وكتب في آخر الكتاب ودين الله يسر إذا أقيمت حدوده. فقال ابن حارث وسؤال مالك عن كلامه، وكلام البهلول في المسالة يدل على أنه علم أنهما صاحبا فتوى القيروان في زمنه. ولم يسأل عن كلام ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 زياد وابن أشرس لأنهما لم يكونا بالقيروان كانا بتونس، مع مناظرة ابن غانم علي بن زياد وابن أشرس لأنهما لم يكونا بالقيروان كانا بتونس، مع مناظرة ابن غانم علي بن زياد. قال وكان البهلول بن راشد، يعظم ابن فروخ ويقلده فيما نزل من أمور الديانات ويذكر أنه ناظر زفر بن الهذيل في مجلس أبي حنيفة، فازدراه زفر للمغربية، فلم يزل به ابن فروخ حتى قطعه. فقال أبو حنيفة لزفر لا خفف الله ما بك. ذكر زهده وعبادته وورعه وقيامه بالحق قال ابن قادم: كان ابن فروخ كثير التجهد، وكان تهجده آخر الليل. وقال أحمد بن يزيد: كان عبد الله بن فروخ إذا أخذ الجند أعطياتهم أغلق حانوته، تلك الأيام حتى يذهب ما في أيديهم. قال ابن قادم: كان الناس يتبركون بصحبة ابن فروخ ويجلسون له على طريقه إذا خرج من داره، ويمشون معه، ويغتنمون منه موعظة، ودعوة، متى يأتي الجامع، فإذا وصل الجامع تشاغل بمسح رجليه خارج المسجد، وقال لمن معه: ادخلوا رحمكم الله. فلا يدخل حتى لا يبقى معه أحد. وحدث الاجدابي: إن روح بن حاتم أرسل إلى ابن فروخ ليوليه القضاء، فلما جاءه قال له: بلغني أنك ترى الخروج علينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 قال نعم. فعظم ذلك على روح، ثم قال ابن فروخ: ذلك مع ثلاثمائة وسبعة عشر، عدة أصحاب بدر، كلهم أفضل مني. فقال روح: أمناك أن تخرج علينا أبداً. ثم عرض عليه القضاء، فامتنع، فأقعده في الجامع وأمر الخصوم يكلمونه، وجعل يبكي ويقول لهم: ارحموني يرحمكم الله. وذكر غيره: أنه لما امتنع، أمر به ان يربط ويصعد به على سقف الجامع، فقال: تقبل. فقال: لا. فأخذ ليطرح. فلما رأى القوم، قال: قبلت. فأجلس في الجامع مع حرس، فتقدم إليه خصمان فنظر إليهما وبكى طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال لهما: سألتكما الله إلا أعفيتماني من أنفسكما، ولا تكونا أول شؤمين علي، فرحماه وقاما عنه. فأعلم الحرس بذلك روحاً فقال اذهبوا إليه. فقالوا له تشير علينا من نولي، أو فاقبل. فقال: إن يكن، فعبد الله بن غانم. فإني رأيته شاباً له صيانة. يعني بمسائل القضاء فعليكم به، فإنه يعرف مقدار القضاء. فولي ابن غانم، فكان ابن غانم يشاوره في كثير من أموره وأحكامه، فأشفق ابن فروخ من ذلك، وقال له: يا ابن أخي، لم اقبلها أميراً، اقبلها وزيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فألح عليه ابن غانم، وشدد عليه، فلما رأى ذلك ابن فروخ، خرج إلى مصر هرباً من ذلك وورعاً. فمات بها وكان أكره الناس للقضاء وكان يقول: قلت أبي حنيفة، ما منعك أن تلي القضاء؟ فقال لي: يا ابن فروخ، إن القضاة ثلاثة، رجل يحسن العوم فأخذ البحر طويلاً فما عساه يعود، يوشك أن يكل فيغرق، ورجل لا بأس بعومه، عام يسيراً فغرق، ورجل لا يحسن العوم، ألقى بنفسه على الماء فغرق من ساعته. قال سحنون: اختلف ابن غانم وابن فروخ في الرجل يوليه أمير غير عدل القضاء، فأجاز ابن غانم له أن يلبي، وأباه ابن فروخ، وكتبا بذلك إلى مالك. فلما قرأ مالك الكتاب قال للرسول ولي ابن غانم؟ قال نعم. قال مالك: إنا لله وإنا إليه راجعون، فألا هرب. فألا فر حتى تقطع يداه. أصاب الفارسي وأخطأ الذي يزعم أنه عربي. وسأله يزيد بن حاتم الأمير عن دم البراغيث في الثوب هل تجوز الصلاة به؟ فقال له: ما أرى بأساً. ثم قال بمحضر رسوله: يسألونني عن دم البرغيث ولا يسألونني عن دماء المسلمين التي تسفك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وخرج مرة يصلي على جنازة، فإذا بإسحاق ابن الأمير يزيد بن حاتم قد أغرى كلابه بظبي، يغريها بذلك فلما انصرف استوقفه، وقال له: يا فتى رأيتك الآن تفعل كذا، وما أحسب ذلك لك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. فقبل منه إسحاق وقال صدقت أبا محمد جزاك الله خيراً، والله لا فعلت ذلك بعدها أبداً. قال ابن قادم: كان ابن فروخ ربما غسل الأموات ولا يولي ذلك غيره، ويحملها إلى قبرها. ذكر رحلته وطلبه ذكر المالكي عنه، أنه رحل قديماً فلقي الشيوخ والفقهاء، قال وهناك سمع من أبي حنيفة مسائل كثيرة مدونة. ويقال إنها نحو عشرة آلاف مسألة. قال: لقي مالكاً وتفقه عنده وسمع منه. وأما خبره المتقدم مع مالك، فإنما كان في سفرته الثانية، بعد خروجه من القيروان، وذكرت أنه قال: سقطت آخره من أعلى دار أبي حنيفة وأنا عنده على رأسي فدمي. فقال: اختر الأرش أو ثلاثمائة ألف حديث. فقلت الحديث. قال: فحدثني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 قال: ولما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش، فسألت عنه، فقيل لي غضب على أصحاب الحديث، فحلف أن لا يسمعهم مدة، فكنت اختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه، إذ فتحت يوماً بابه وخرجت منه جارية، فقالت لي ما بالك على بابنا؟ فأعلمتها بخبري. قالت واين بلدك؟ قلت أفريقية. فانشرحت إلي وقالت تعرف القيروان؟ قلت أنا من أهلها. قالت تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا. فتأملتني، ثم قالت: عبد الله؟ قلت نعم. وإذا هي جارية لنا بعناها صغيرة، فصارت إلى الأعمش، وقالت له: مولدي الذي كنت أخبرتك بخبره بالباب. فأمر بإدخالي فدخلت، وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني. ذكر تسننه وأتباعه وبقية أخباره قال أبو العرب: كان ابن فروخ كتب إلى مالك يخبره أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كتاباً في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل وتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطاً عارفاً بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به. وأما غير ذلك فإنني أخاف أن تكلمهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 فتخطىء، فيمضون على خطاك أو يظفروا منه بشيء، فيطغوا ويزدادوا تمادياً على ذلك. قال محمد بن سحنون كانت المعتزلة تدعي ابن فروخ عندنا. فأخبرني بعض أصحاب أبي وكان صحب أبا خارجة. قال: نزل بنا أبو خارجة فسألته عن ابن فروخ وما يرمي به. فقال من قال هذا، فو الله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت بهذين العينين شاباً أعبد لله من ابن فروخ. ثم قال: فو الله لقد كنت معه حتى سئل عن المعتزلة، فقال للسائل: وما سؤالك عن المعتزلة؟ فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين، وفي يوم الدين، وبعد يوم الدين، وفي طول دهر الداهرين. فقال له: وما فيهم قوم صالحون. فقال ويحك، وهل فيهم رجل صالح؟ قال سحنون: مات رجل من أصحاب البهلول، فحضر هو وابن غانم وابن فروخ فصلوا عليه وجيء بجنازة ابن صخرة المعتزلي، فقالوا لابن غانم الجنازة. فقال كل حي ميت. قدموا دابتي. وقيل لابن فروخ مثل ذلك. فقال مثله. وقيل للبهلول مثل ذلك، فقال مثله. وانصرفوا ولم يصلوا عليه. فكان ذلك مما عرف لابن فروخ. وكان قبل هذا يرى الخروج على أئمة الجور، إذا اجتمع ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عدة أهل بدر. فلما خرج إلى مصر وشيعه الناس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 التفت إلى من شيعه، فقال اشهدوا أني رجعت عما كنت أقول به من الخروج على أئمة الجور، وتائب إلى الله منه. وكان قد تواعد مع قوم أيام العكي للخروج عليهن وكان العكي رجل سوء، وأن يكون اجتماعهم بباب تونس، فذهب ابن فروخ لمكان الموعد وتخلفوا، فلم يوافه منهم إلا محمد بن منوتا، من المدنيين وابن محرز القاضي من العراقيين، فرجع. قال سحنون: ذهبت مع أخي حبيب، وكان يسمع من ابن فروخ، فلما رأيته يمازح الطلبة حوله، مجة قلبي. وذكر أن رجلاً دعاه فأطعمه واسقاه نبيذاً، وكان يرى فيه رأي أهل العراق فشربه واحمر وجهه، فقال له الذي دعاه: ألم تحدثنا أن الحسنات تتناثر من وجه الرجل إذا احمر وجهه من النبيذ؟ فقال له ابن فروخ: قد كنا أغنياء عن طعامك. وفاته توفي رحمه الله تعالى بمصر إثر منصرفه من الحج، في سنة خمس وسبعين ومائة، ودفن بالمقطم. قال عبد الله بن وهب قدم علينا ابن فروخ سنة ست وسبعين ومائة، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل ابن ستين سنة. وكان يخضب بالحناء فما لبث إلا يسيراً حتى رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 من أهل الأندلس سعيد بن عبدوس من أهل طليطلة يعرف بالجدي مصغراً، لقي مالكاً فسمع منه الموطأ وكان مفتي بلده في وقته، وسمع منه، وأبوه عبدوس مولى هشام بن الحكم عتاقة. وقيل مولى الحكم. توفي سنة ثمانين ومائة من كتاب ابن الفرضي. وقال ابن حارث: ذكر لي إسحاق بن إبراهيم، أنه كان من أهل الفقه والعلم، وكان مفتي البلد، وولي قضاء طليطلة، وإن أباه عبدوساً كان رأياً للأمير الحكم، وهو الذي اعتقه، وكان تقياً فاضلاً، وعلى يديه تم أمر أهل طليطلة وسلمهم مع الحكم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: هو الذي ذكر هؤلاء في عتقه، كان موجوداً بطليطلة وهو الذي أجار يحيى بن يحيى عند فراره من قرطبة، في محنة أهل الربض، ومنعه من الحكم ابن هشام حتى أمنه واعتذر إليه. قال ابن وضاح لقيته بطليطلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الغازي بن قيس من أهل قرطبة. أموي يكنى أبا محمد. رحل قديماً فسمع من مالك الموطأ وسمع من ابن أبي ذئب وابن جريج والأوزاعي وثور بن يزيد ومحمد ابن وردان، وهو أول من أدخل موطأ مالك وقراءة نافع الأندلس فيما قاله أبو عمرو المقرىء. قال: وشهد مالكاً وهو يؤلف الموطأ ظاهراً، وانصرف إلى الأندلس بعلم عظيم، نفع الله به أهلها. وكان الغازي يقدم أو يؤخر فيرد عليه ذلك. وقصد قارئاً يوماً أن يقدم من أبواب الموطأ ويؤخرها، ليرى الناس حفظ الغازي فأنكر ذلك عليه، وقال إن عدت، لا تقرأ. إنما تريد أن تري الناس ما يكن يريد حفظه. روى عنه ابنه وابن حبيب وأصبغ بن خليل وعثمان بن أيوب، وقيل إنه عرض عليه القضاء فأبى. قال أصبغ: سمعته يقول: والله ما كذبت منذ اغتسلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ولولا أن عمر بن عبد العزيز قاله ما قلته، وما قاله عمر فخراً، ولا رياء، وما قاله إلا ليقتدى به. وشاوره مصعب بن عمران القاضي عند موت صعصعة بن سلام، وأدب بقرطبة قبل رحلته، وكان إمام الناس بها في القراءة. قال أبو عمر القمرىء: وكان جيداً فاضلاً عالماً أديباَ ثقة مأموناً. قال أحمد بن عبد البر: كان عاقلاً نبيلاً يروي حديثاً كثيراً ويتفقه في المسائل، رأساً في علم القرآن، متهجداً بالقرآن كثير الصلاة بالليل، وتوفي فيها قبل سنة تسع وتسعين ومائة. وروي عنه أنه كان يقول: ما من يوم يأتي إلا ويقول: أنا خلق جديد، وعلى ما يفعل بي شهيد، احذرني قبل ان أبيد، فإذا أمسى ذلك اليوم خر لله ساجداً، وقال الحمد لله الذي لم يجعلني لليوم العقيم. وكان للغازي بن قيس ابنان عبد الله، وكان من أهل العلم بالعربية والتأدية لقراءة نافع، سمع من أبيه، وروى عنه ثابت وابنه قاسم. توفي سنة ثلاثين ومائتين، ومحمد أبو عبد الله، صاحب عربية ولغة، ورحل ولقي الرياشي وأبا حاتم ومات بطنجة في انصرافه وقال لما حضرته الوفاة: الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله ... ماذا عن الموت من ساه ومن لاه ماذا يرى المرء والعينان من عجب ... عند الخروج من الدنيا إلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 زياد بن عبد الرحمان بلقب بشبطون قرطبي. جد بني زياد: يكنى أبا عبد الله، وهو زياد بن عبد الرحمان ابن زهير بن ناشدة بن لوذان من حي ابن أخطب بن الحارث بن وائل اللحمي وقد قيل إنه من ولد حاطب بن أبي بلتعة. سمع من مالك الموطأ، وله عنه في الفتاوى كتاب سماع معروف بسماع زياد، وسمع من معاوية بن صالح القاضي، وكان صهره زياد، على ابنته. وروى عن عبد الله بن عقبة والليث بن سعد وسليمان بن بلال وعبد الله بن عبد الرحمان وعبد الرحمان بن أبي الزناد وعبد الله بن عمر العمري ويحيى ابن أيوب وأبي معشر وموسى بن علي ومحمد بن عبد الله بن عمر الليثي والقاسم بن عبد الله وإسماعيل بن داود وهارون بن عبد الله ومحمد بن أبي سلمة العمري وأبي معمر صاحب أنس، وعبد الرحمان بن أبي بكر بن أبي مليكه وابن أبي داود وسفيان بن عيينة وعمرو بن قيس وابن أبي حازم، وروى عنه يحيى بن يحيى الموطأ، وسماعه من مالك قبل رحلته من الأندلس، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حياً، وأخذه عنه، ففعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وكان زياد أول من أدخل إلى الأندلس موطأ مالك، مثقفاً بالسماع منه، ثم تلاه يحيى بن يحيى. قال يحيى بن يحيى زياد أول من أدخل الأندلس علم السنن ومسائل الحلال والحرام، ووجوه الفقه والأحكام وهو أول من عرف بالسنة في تحويل الأردية في الاستسقاء، وصاحب الصلاة إذ ذاك المصعب بن عمران فأنكر ذلك. وقال هذا مذر مشر. قال يحيى: فخرجت بعد ذلك إلى المشرق، ولقيت مالك بن أنس، والليث بن سعد، ومن دونهما، فوجدت سنة تحويل الأردية عندهم معروفة فاشية. قال الشيرازي: كان أهل المدينة يسمون زياداً فقيه الأندلس. وحكى ابن حارث أنه كانت له إلى مالك رحلتان: أحداهما حين اجتمع به معاوية بن صالح. وحكى أبو بكر المالكي أن زياداً قدم المدينة فدخل على مالك وعنده ابن كنانة. فلم يعرفه ابن كنانة. فسأله ابن كنانة عن بلده، فذكره فقال له فقيه بلدكم؟ قال: أنا أو نحو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 هذا. فجادله ابن كنانة في مسائل فلم يأت منه ما أحب. فقال: وإن بقوم سودوك لفافة .... البيت. فقال له مالك: اخفظت الرجل وأسأت أدبه. فلما استقر المجلس بزياد جاراه ابن كنانة ففجر منه بحراً. فعلم أن ما كان أولاً إنما كان هيبة المجلس. ذكر فضائله وخبره كان زياد إذا بعث معاوية بن صالح القاضي شيئاً وكان أبا زوجته إلى داره، لم يأكل شيئاً منه. وكان زياد ناسكاً ورعاً، رواه الأمير هشام على القضاء فأبى عليه وخرج هارباً بنفسه. فقال هشام: ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا. ثم أمنه فرجع إلى قرطبة، وكان هشام يقول: بلوت الناس فما رأيت رجلاً يكتم من الزهد أكثر مما يظهر إلا زياداً. وذكر يحيى بن إسحاق أن هشاماً لما ولي قيل له: لا يعتدل ما تريد، إلا بتولية زياد على القضاء. فبعث إليه فتمنع، فألح هشام عليه، فقال للوزراء: أما إذا عزمتم فأخبركم بما ابتدأ به، على المشي إلى مكة إن وليتموني إ، جاءني أحد متظلماً منكم إلا أخرجت من أيديكم ما يدعيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ورددته عليه وكلفتكم البينة، لما أعرف من ظلمكم. فتركوه وأشاروا بإعفائه فعوفي، فقيل ليحيى بن يحيى أهو وجه القضاء؟ قال: نعم، فيمن عرف بالظلم والقدرة. وكان الأمير هشام يؤثر زياداً ويكرمه ويسهم إليه ويخلو به ويسائله عما يعن إليه من أمور دينه. فيأخذ برأيه ويبالغ في بره، ويدفع إليه المال يتصرف به، وربما اجتاز به ليلاً فيخرج إليه ويسلم عليه ويحادثه. وذكر الصدفي: أنه عرض عليه أخذ مال ليفرقه فأبى. وذكر أنه حضر عنده يوماً غضب فيه على خاصة له، أوصل إليه كتاباً كرهه، فأمر بقطع يده، فقال زياد: أصلح الله الأمير. فإن مالك بن أنس حدثني في خبر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إن من كظم غيظاً يقدر على إنفاذه ولاه الله أمناً وإيماناً يوم القيامة. فسكن غضب الأمير، وقال له: أحسنت. إن مالكاً حدثك به. فأمر الأمير أن يمسك عن يد الخادم، وعفا عنه. وذكر أن زياداً راكب الأمير الحكم، وقد أردف زياد ولده خلفه، منصرفين من جنازة ووصل محادثته الأمير إلى أن وصل القنطرة، فسمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 المؤذن فقطع زياد حديثه وقال: معذرة إلى الأمير أصلحه الله، إنا كنا في حديث عارضه هذا المنادي إلى الله تعالى. ولا يجوز الإعراض عنه، فهو أحق بالإجابة وإن اجتمعنا قدرنا على تتميم الحديث إن كانت بنا إليه حاجة. وسلم عليه فدخل الجامع من باب القنطرة واستقام الأمير إلى القصر. قال يحيى: كان زياد واحد زمانه، زاهداً ورعاً وأتاه هشام ليلاً في خاصته فقرع عليه الباب فخرج فعرف به، ففتح له وسلم عليه، وسأله عن سبب مجيئه، فقال: طلب التفرد بك، وهذا مال طيب وأشار إلى مال يحمله الفتى أردت التزلف به فأتيتك به لتضعه حيث تراه. فقال له زياد: تجد من هو أقوم لك بذلك وأعرف بأهله. وسمى له قوماً من صلحاء الناس، فأبى هشام إلا إياه، فلم يقدر عليه إلى أن حلف أن له بفعل. فاستحياه هشام وخرج بماله، وهو يقول: اللهم أعني على طاعتك بمثل هذا. قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد فأتاه كتاب من بعض الملوك بعد مدة، فكتب فيه ثم طبع الكتاب ونفذ به الرسول. فقال زياد أتدرون عم سأل صاحب هذا؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة، من ذهب هي أم من ورق؟ فكتبت إليه، حدثنا مالك عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وسترد فتعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وقال الحكم: صارت له في مصاهرته لمعاوية بن صالح نادرة مذكورة، وذلك إنما أراد النظر إلى المرأة قبل تمام نكاحها، كما يفعل بعض الناس وقيل بعد النكاح وهو أشبه بحاله، وآخر الحكاية فواعد أهل الدار أ، يأتيهم ليلاً خفية من معاوية، فجاء واختفى في اسطوان الدار، وخرج معاوية فأحس من دابته قلقاً وحركة، لمكان زياد، فأنكر ذلك، ودعا بالمصباح فلما نظر إذا بزياد قد انزوى في بعض زوايا اسطوانة، فلم يزد أن قال استوصوا بضيفكم خيراً وانصرف. وله سماع من مالك، مؤلف. وكتاب الجامع له. قال ابن عتاب: وهو كتاب غريب يشتمل على علم كثير. قال يحيى بن يحيى: عرضت سماع زياد على ابن نافع واين القاسم، فرد عليه ابن القاسم مسألة، وقال لي: كذب زياد على مالك. وما سمع هذا منه قط. فأخذت الكتاب وطويته وأدخلته كمي، فقال: اقرأ. فقلت زياد أجل في نفسي من أن أعرضه مثل هذا. فاحتشم ابن القاسم وقال لي: اقرأ فو الله لا عدت لمثلها أبداً. فقرأت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وكان محمد بن عيسى الأعشى سيء الرأي في زياد، وكان يقول: إني لآكل التفاح الحلو وأحسو البيض الخفيف وأبول في الماء الراكد، منذ كذا، لينسيني الله علم زياد ويخرجه من صدري، فما نسيته. والتزمت كل ما أعرف أنه ينسي. فقيل لم؟ قال لأن زياداً لم يكن شيئاً، وكان علمه بارداً. وتوفي سنة ثلاث، وقيل أربع، وقيل تسع وتسعين ومائة. ونجب ولده بقرطبة، وكان فيهم عدة من أهل الجلالة والفضل والقضاء والعلم والخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 سعيد بن أبي هند أبي عثمان أصله من طليطلة وسكن قرطبة، ولقي مالك بن أنس، وهو الذي كان يسميه مالك، الحكيم. قال أحمد بن عبد البر. وقال ابن لبابة: اسمه عبد الوهاب. قال بعضهم عن أبي حارث، عبد الرحمان بن أبي هند الأصبحي من أهل طليطلة يكنى أبا هند. سمع مالكاً وكان له مكرماً، وكان يسميه حكيم الأندلس، وانصرف وسكن قرطبة واستوزره بعض الأمراء. وفي كتاب أبي سعيد الصدفي مثله، وكناه أبا دريد. وقال توفي سنة مائتين. وذكر غيره: إن سبب ولايته الوزارة ما امتحن به من صدقه، وأنه لم تجرب عليه كذبة قط. فقال بعض وزراء ذلك الوقت أنا أجعله يكذب. فرصده حت نعس ثم قال له: رقدت يا أبا هند؟ قال: نعم. فلم يظفر منه بما يريد، لعادة الناس الإنكار في هذا. وقد أضيفت هذه القصة بعده لغيره، فلعلهما قصتان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وقرأت في كتاب القضاة لابن حارث: سعيد بن عبد الرحمان بن أبي هند، أبو هند الأصبحي الطليطلي روى عن مالك الموطأ. وقال القاضي أبو الوليد بن الفرضي ومحمد بن حارث: لا أدري، أهما اثنان أم واحد. فقد قيل لي، أن ابن أبي هند مات في أيام هشام بن عبد الرحمان، والله تعالى أعلم. قال أحمد بن سعيد: كان ابن أبي هند ولم يسمه، فاضلاً نبيلاً عاقلاً، له همة وهيبة. قال ابن وضاح: كان ابن أبي هند هذا شريفاً، وكان مالك يسأل عنه، يقول: ما فعل الحكيم عندكم بالأندلس لكلمة سمعها منه، وهي: إن قال مالك يوماً ما أحسن السكوت وأزينه بأهله. فقال ابن أبي هند: وكل من شاء سكت يا أبا عبد الله. فأعجبت مالكاً كلمته. وقيل بل قال له: إ، ما نزين الصمت ما بعده. وعرض به رجل عند ألأمير عبد الرحمان بالرياء. فقال سعيد: اصلح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 الله الأمير يظن بنا سوء السريرة مع حسن العلانية، فما ظن ألأمير أعزه الله تعالى، بسريرة رجل قد فسدت علانيته، ورأى الناس ينظرون إلى قوم كساهم ألأمير ويستحسنون كسوتهم، فقال: إنهم ما أخذوا ذلك إلا ببخس من الثمن. يعني أنهم بذلوا فيها دينهم. حدث عنه يحيى، وروى ابن وهب عن مالك عن أبي هند، قال: وجدت الصمت اشد من الكلام. قال يحيى بن يحيى: سمعت ان أبي هند يقول: ما هبت أحداً هيبة عبد الرحمان بن معاوية، حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة فصغرت هيبة ابن معاوية. قال: وكان له ابن شيخ لم يملك من مال أبيه شيئاً، فقال له يا أبت، هب لي من مالك شيئاً. فقال: وهل استأثرت عنك منه بشي؟ تركب وتلبس وتأكل كما أفعل أنا. فقال: إن تسمي لي منه شيئاً. فقال يمنعني من ذلك أ، هـ يقال ينتقص من عقل الرجل بقدر ما ينتقص من ماله. قال أحمد: وتوفي سعيد ابن أبي هند صدر أيام عد الرحمان بن معاوية قبل موت مالك بكثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 يحيى بن مضر القيسي وقيل اليحصبي من أهل قرطبة أبو زكرياء. ويقال أبو بكر شامي الأصل كبير من فقهاء قرطبة. سمع من سفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه مالك، حكاية عن سفيان الثوري أن الطلح المنضود هو الموز. وقال: أخبرني بذلك عن سفيان يحيى بن مضر فقيه ألأندلس، وروى عنه عبد الله بن وهب ويحيى بن يحيى قبل رحلته، وكان عالماً متقناً صاحب رأي. قال يحيى بن يحيى لبعض الكبراء، وقال له: أن الأمير أجابني أن يجلس لي الفقهاء فيما حكم به علي بن بشير ويجلسك معهم، فقال له يحيى: عليكم إن كنتم لا بد فاعلين بشيخنا يحيى بن مضر، وطلبه أمير المؤمنين الحكم بن هشام ابن عبد الرحمان بن معاوية بن عبد الملك بن مروان، فيمن طلبه بسبب المهدي، ممن أراد القيام عليه وخلعه، سنة تسع وثمانين ومائة وكانوا قد أنكروا على أميرهم أموراً كثيرة، من انهماكه في لذاته وفي ذلك. فأرادوا خلعه وكانوا عدة من أعيان الفقهاء وأكابر العلماء والصلحاء وأكابر الناس وبياضهم ولقوا فتى من بني عمه، عزموا على القيام معه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وتقديمه فوشى بهم إلى الأمير وأوقفه على صحة الحال، بأن أدخل كاتبه وثقته قبة له وأسبل عليه ستراً في يوم، وعدهم بالاجتماع فيه معهم، فلما حضروا، أقبل يسألهم عمن معهم في هذا ألأمر، والكاتب يكتب إلى أن استراب بعضهم بكثرة سؤاله، وقيل بل سمع صرير القلم وراء الستر، فكشفوه فوقفوا على الأمر، فسقط في أيديهم، وبادروا الخروج، فنجي من بادر وقبض على من بقي، فكان ممن نجا يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار، وقبض على يحيى بن مضر، فيمن قبض فأمر الأمير بصلبهم على شط نهر قرطبة، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً من الفقهاء وأهل الصلاح، وقيل كان عدة من صلب مائة وأربعين، وقيل في شرح هذه القصة غير هذا، فعظم ما فعل في قلوب الناس وغدوا إلى جدة لم يزالوا متربصين للوثوب به، إلى أن أقاموا القيامة المشهورة بوقعة الربض الذين أصطلحوا فيها سنة اثنتين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الطبقة الوسطى من أهل المدينة عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم المعروف بالصائغ كنيته أبو محمد. قاله البخاري. روى عنه مالك وابن أبي ذئب، وحسين ابن عبد الله وابن أبي الزناد وتفقه بمالك ونظرائه. قال أحمد بن حنبل: كان صاحب رأي مالك، وفقه أهل المدينة برأي مالك. ولم يكن صاحب حديث، ولم يكن في الحديث بذاك، وكان ضعيفاً فيه. قال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. قال البخاري تعرف حديثه وتنكر. وكتابه أصح. وقال محمد بن الحسين: سألت أبا عبد الله عنه، فقال ثقة. قال ابن لبابة: أهل الحديث يقدمون ابن نافع على أصحاب مالك في الحديث والثقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 قال ابن غانم: قلت لمالك: من لهذا الأمر بعدك؟ قال: رجل من أصحابي. حتى دخل رجل أعور وهو ابن نافع، فقال: هذا. قال الشيرازي: كان أصم أمياً لا يكتب، وقال: صحبت مالكاً أربعين سنة، ما كتبت منه شيئاً، وإنما كان حفظاً أتحفظه. وهو الذي سمع منه سحنون، وكبار أتباع أصحاب مالك، والذي سماعه مقرون بسماع أشهب في العتبية، لا كما زعم أبو عبد الله بن عتاب في فهرسته أنه ابن نافع الزبيري، وما ذكرناه غير منكر، ولهذا مشيخة الأندلس عما يقع في سماعها، وفي سماع الشيخين، يعنون أشهب وابن نافع الصائغ، وهو الذي ذكروه، وروايته في المدونة نفيسة. قال أشهب: ما حضرت لمالك مجلساً إلا وابن نافع حاضر. وما سمعت إلا وقد سمع. لكنه كان لا يكتب. فكان يكتب أشهب لنفسه وله. وفي المدونة أن مالكاً سأل ابن نافع عن حديثه عن حسين بن عبد الله ابن ضميرة في القراءة في ركعتي الوتر، قال ابن نافع حدثته به، فأعجب مالك واستحسنه. قال قد كنا على هذا ولم يبلغني فيه شيء؟. وجلس مجلس مالك بعد ابن كنانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 قال ابن وضاح: كان أفضل أصحاب مالك في العبادة المصريين والاسكندرايين، وكان ابن نافع رجلاً صالحاً لكن هؤلاء فوقه. قال محمد بن سعيد: لزم مالكاً لزوماً شديداً. وكان لا يقدم عليه أحداً وهو دون معنى قال سحنون: كان ابن نافع رجلاً صالحاً، وكان ضيق الخلق. وكان أبوه صائغاً، وكان أولاً في حداثته منحرفاً فبينما هو في حائط من حيطان المدينة إذ سمع رجلاً يقرأ القرآن، قال: هذا يتلو كتاب الله وأنا مشغول في هذا الحائط. فرجع ولزم المسجد، وله تفسير في الموطأ رواه عنه يحيى بن يحيى، وعده ابن حبيب وابن حارث فيمن خلف مالكاً في الفقه بالمدينة. وقال مجاهد بن موسى: قال عبد الله بن نافع الصائغ: أنا أجالس مالكاً منذ ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة بالغداة والعشي وربما هجرته، فما رايته قرأ الموطأ على أحد قط. توفي بالمدينة في رمضان سنة ست وثمانين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 محمد بن مسلمة أبو هشام قال الزبير: هو محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل بن الوليد ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام، والذي يذكر عنه ذكر عهدة الرقيق في خطبته. روى محمد عن مال وتفقه عنده، وروى عن الضحاك بن عثمان وإبراهيم بن سعد والهديري. قال أبو حاتم: كان أحد فقهاء المدينة وأصحاب مالك وأفقههم، ولمحمد بن مسلمة كتاب فقه أخذت عنه. وقال القاضي التستري: هو ثقة مأمون حجة. قال الشيرازي: جمع العلم والورع. قال: وكان مالك إذا دخل على الرشيد دخل بين رجلين من بني مخزوم، المغيرة عن يمينه وأبو مسلمة عن يساره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 قال البخاري قيل لمحمد بن مسلمة: ما لرأي فلان، دخل البلاد كلها إلا المدينة. فقال: لأنه دجال من الدجاجلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخلها الطاعون ولا الدجال. وتوفي سنة ست عشرة ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان ابن يسار اليساري الهلالي، أبو مصعب ويقال أبو عبد الله، مولى ميمونة أم المؤمنين. كان جد أبيه سليمان مشهوراً مقدماً في الفقه والعلم، وكان هو وإخوته عطاء وعبد الله وعبد الملك بنو يسار، مكاتبين لميمونة أم المؤمنين، أخذ عن جميعهم العلم، وولاؤهم لبني العباس وهبت ميمونة ولاءهم لعبد الله بن عباس. قال أبو عمر الصدفي هذا وهم، أنا أنكره، إنما هي مولى ميمونة رضي الله تعالى عنها. وقال فيه ابن حارث الأسلمي وقد ذكره إسماعيل بن إسحاق في مبسوطه، وروى الأسلمي عن مالك ولم يسمه. وقال محمد بن سعد: مطرف بن عبد الله بن يسار، وكان يسار مكاتباً لرجل من أسلم فادعى عنه عبد الله بن أبي فريرة فعتق، فصار في دعوتهم، وهو ثقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 قال القاضي أبو الوليد الباجي: مطرف الفقيه صاحب مالك، هو ابن أخته، وكان مطرف أصم. روى عن مالك وان أبي الزناد وعبد الرحمان بن أبي المولى وعبد الله بن عمر العمري، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم بن المقدر والذهلي ويعقوب بن شيبة والبخاري، وخرج عنه في صحيحه. قال الشيرازي: تفقه بمالك، وعبد العزيز ابن الماجشون وابن أبي حازم وابن دينار وابن كنانة والمغيرة. قال ابن معين: مطرف ثقة. قال ابن وضاح: هو عنده ارجح من ابن أبي أويس. قال الكوفي هو ثقة. قال أحمد بن حنبل كانوا يقدمونه على أصحاب مالك. قال أبو حاتم: مطرف أحب إلي من إسماعيل بن أبي أويس، ومطرف صدوق، مضطرب. قيل لابن معين: مطرف مثل العقباني ومعن؟ قال: كلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 ثلاث. قال الزبير: قال مطرف: صحبت مالكاً سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ الموطأ على أحد. وكان يعيب كتابة العلم علينا. ويقول لم أدرك أحداً من أهل بلدنا ولا كان ممن مضى يكتب. فقيل له فكيف نصنع؟ قال تحفظون كما حفظوا، وتعملون كما عملوا. حتى تنور قلوبكم فيغنيكم عن الكتابة. وقد كره عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذلك، وقال لا يكتب كتاب مع كتاب الله. قال ابن وضاح: رأيت سحنون لا يعجبه مطرف. قال أبو العرب: وامتحن مطرف في القرآن أيام المأمون وقال البخاري: ولد ابن أبي خثيمة ومحمد بن سعيد، وقال في أولها. وقال الدارقطني: في صفر منها. وقال غيره: توفي سنة أربع عشرة، وقال ابن وضاح: سنة تسع عشرة. وقيل سنة بضع وثمانين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 ابن الماجشون: عبد الملك بن عبد العزيز ابن عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة كنيته أبو مروان واسم أبي سلمة ميمون. قاله الألكاني. ويقال دينار، وقال الباجي: مولى بني تميم من قريش. ثم لآل المنكدر. والماجشون هو أبو سلمة فيما قاله الألكاني. وقال محمد بن سعد والدارقطني: هو يعقوب بن أبي سلمة، أخو عبد الله. قال الباجي: والماجشون المورد، بالفارسية. قال الدارقطني: سمي بذلك لحمرة في وجهه. وحكى ابن خلاد أن أحدهم يلقى الآخر يقول: شؤون، شؤون يعني كيف أنت. فلقبوا بذلك. وحكى ابن حارث: أن ماجشون موضع بخراسان نسبوا إليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وكان عبد الملك فقيهاً فصيحاً، دارت عليه الفتوى في أيامه إلى موته، وعلى أبيه قبله فهو فقيه ابن فقيه. قال مصعب: عبد الملك مفتي أهل المدينة في زمانه. وكان ضرير البصر، ويقال عمي آخر عمره. وبيته بيت علم وخير بيت بالمدينة، وجده عبد الله يروي عن ابن عمر وغيره، خرج له مسلم. وأخو جده يعقوب بن أبي سلمة يروي عن ابن عمر أيضاً، وعمر بن عبد العزيز. خرج عنه مسلم أيضاً، ويوسف بن عبد العزيز أخو عبد الملك حدث عنه الزبير ابن بكار، ومنهم يوسف بن يعقوب بن عبد الله وأبي سلمة يروي عن ابن المنكدر الزهري، خرج عنه البخاري ومسلم، وروى عنه ابن حنبل وابن المديني وغيرهما، وأخوه عبد العزيز بن يعقوب أبو الأصبغ يروري أيضاً عن ابن المنكدر مراسيل رواها عنه ابن حنبل. ثناء العلماء عليه وتعظيمهم له وفضله قال الشيرازي: تفقه بأبيه ومالك وابن أبي حازم وابن دينار، وابن كنانة والمغيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وكان فصيحاً، روي أنه كان إذا ذاكر الشافعي لم يعرف الناس كثيراً مما يقولون. لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية، وعبد الملك تأدب في خولة من كلب، بالبادية. قال يحيى بن أكثم القاضي: عبد الملك بحر لا تكدره الدلاء. قال عبد الملك: أتيت المنذر بن عد الله الجذامي وأنا حديث السن، فلما تحدثت وفهم عني بعض الفصاحة قال لي من أنت؟ فأخبرته. قال لي: اطلب العلم فإن معك حذاءك وسقاك. وقال ابن المعذل: كلما تذكرت أن التراب أكل لسان عبد الملك، صغرت في عيني الدنيا. وقيل له: أين لسانك من لسان أستاذك عبد الملك؟ فقال: كان لسانه إذا تضايا أحسن من لساني إذا تحايا. قال ابن حارث: كان من الفقهاء المبرزين، وأثنى عليه سحنون وفضله، وقال: هممت أن أرحل إليه وأعرض عليه هذه الكتب، فما أجاز منها أجزت، وما رد، رددت. وأثنى عليه ابن حبيب كثيراً، وكان يرفعه في الفهم على أكثر أصحاب مالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 قال ابن المواز: كنت عنده بعد أن عمي، حتى جاءه كتاب أمير المؤمنين فسأله عن أشياء فلما قرأ القارىء عليه، قال حول الكتاب واكتب جوابه، وأملى عليه، ثم ختمه ودفعه إلى الرسول. وقال ابن شعبان: كتب إليه المأمون بولاية القضاء، وكان قد عمي فامتنع من ذلك، وقيل له لو خرجت إلى العراق وعالجت بصرك فإن بها من يعالجه، وتنظر في ذلك، وكان بها غلام بتجارة خلط عليه فيها. فقال لا أفارق المدينة. وذكر أنه أوتي بقداح يقدح بصره فقال له: أنك تقيم كذا وكذا على ظهرك مستلقياً فأبى، وقال ما كنت لألتمس ما جعل الله ثوابه الجنة بتعطيل فرض من الصلاة. قال ابن حارث وكانت له نفس أبية، كلمه يوماً مالك بكلمة خشنة فهجره عاماً كاملاً، وذكر أنه استقصى على مالك في الفقر بين مسألتين، فقال له مالك تعرف دار قدامة، وكانت داراً يلعب فيها الأحداث بالحمام، وقيل بل عرض له بالسجن وكان العلماء يفضلونه في علم الأحباس. قال القاضي إسماعيل: عبد الملك عالم بقول مالك في الوقوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وكان يقول بعد أن كف بصره هلم إلي سلوني عن معضلات المسائل. وذكر إسماعيل القاضي في المبسوط بعض كلامه، ثم قال ما أجزل كلامه، وأعجب تفصيلاته، وأقل فضوله. وتفقه به خلق كثير، وأئمة جلة كأحمد بن المعذل وابن حبيب وسحنون. قال ابن أكثم القاضي ما رأيت مثل عبد الملك، أيما رجل لو كان مسائلون. وكان ممن سمع كتبه. كتب عنه أربعمائة جلد ومائتي جلد شك الرواي، أو كما قال. وقال النسائي: فقيه الأمصار من أصحاب مالك من أهل المدينة، عبد الملك بن الماجشون ولعبد الملك بن الماجشون كلام كثير في الفقه وغيره. قال ابن حارث وعلم كثير جداً وله كتاب سماعاته وهي معروفة، وكتابه الذي ألفه آخراً في الفقه يرويه عنه يحيى ابن حماد السجلماسي، ورسالة في الإيمان والقدر والرد على من قال بخلق القرآن والاستطاعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 ذكر مذهبه فيما اختلف الناس فيه وإتباعه السنة قال أبو مصعب الزهري: القرآن ليس بمخلوق وهو مذهب عبد الملك بن الماجشون، وكتب سحنون إلى عبد الملك يذكر ما حدث عندهم من الكلام في التشبيه والقرآن، ويسأله الجواب عليه. وكتب إليه عبد الملك مرة: من عبد الله بن الماجشون إلى سحنون بن سعيد، سلام عليكم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، وفقنا الله وإياكم لطاعته، سألتني عن مسائل ليست من شأن أهل العلم والعمل بها جهل، فيكفيك من مضى من صدر هذه الأمة أنهم اتبعوا بإحسان ولم يخوضوا في شيء منها، وقد خلص الدين إلى العذراء في خذرها، فما قيل لها كيف ولا من أين؟ فاتبع لما اتبعوا وأعلم أنه العلم الأعظم الذي لا يشاء الرجل أن يتكلم في شيء من هذا، فيكب فيهوى في نار جهنم. وقال عبد الملك: لو أخذت المريسي لضربت عنقه. قال: وسمعت من أدركت من علمائنا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال القاضي رضي الله تعالى عنه. ذكرنا هذا كله وجلبناه من كتب الأئمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 الثقات رداً وإبطالاً حكاه الساجي، في علله من خلاق هذا العالم يصح عنه. ولم يعرف منه مما كان الأولى بعد تركه. ذكر ابن اللباد، أن يحيى بن أكثم القاضي كان مع عبد الملك على سريره. يعني وهما يتذاكران مذهب أهل العراق وأهل المدينة، ويتناظران في ذلك. فقال ابن أكثم: يا أبا مروان رحلنا إلى المدينة في العلم قاصدين فيه، وكنتم بالمدينة لا تعنون به، وليس من رجل قاصداً فيه كمن كان فيه وتوانى. فقال عبد الملك: اللهم غفراً، يا أبا محمد ادع لي أبا عمارة المؤذن من ولد سعد. فجاء شيخ كبير فقال له: كم لك تؤذن؟ فقال سبعين سنة أذنت مع آبائي وأعمامي وأجدادي. وهذا الأذن الذي أؤذن به اليوم أخبروني أنهم أذنوا به مع ابن أم مكتوم. قال عبد الملك: وإن كتم تقولون توانيتم وتركتم، هذا الآذان ينادي به على رؤوسنا كل يوم خمس مرات متصلاُ بأذان النبي صلى الله عليه وسلم، فترى أنا كنا لا نصلي، فقد خالفتمونا فيه، فأنتم في غيره أحرى أن تخالفونا. فخجل ابن أكثم ولم يذكر أنه رد عليه جواباً. بقية أخباره ووفاته ذكر ابن إسحاق: سأل ابن الماجشون عن مسألة فأجابه، فرد عليه، فأجابه. فلما اكثر، قال له: قم، إني لأثقف من أن ترد علي المسائل. فأعلم به سحنون، فقال: نعم هو أثقف من أن يرد عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 قال عبد الملك كان رجل من قريش صديقاً لي وكان بينه وبين وكيله محاسبة، فأجلسني مع رجل ثم تكلم مع الوكيل فقال الوكيل: قبضت كذا، ودفعت لك كذا. فقال القرشي: ما دفع إلي شيئاً. وقال لي ولصاحبي اشهد بما سمعتا منه، فإنه كان حجزني حقي. فقلت له: والله ما نشهد لهذا، ولا جلسنا لهذا. قال فاذهب بنا إلى مالك فإن أمر لي بالشهادة فاشهد. فقلت: لو أمرني لم اشهد لأخي. لم أقعد للشهادة. فأتينا ابن ابي حازم فذكر له القصة. فقال لي: الشهادة له عندكما. ثم دخلنا على مالك فذكر له القصة. فقال لي: يا عبد الملك لا تشهد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: قد اختلف في هذا الأصل عندنا، واختلف في تأويل قول مالك فيه. وكذلك لو أخفاهما ليشهدا على ماسمعا، أو أجلسهما للمحاسبة بشرط أن لا يشهدا، والصحيح من ذلك كله أن يشهد أذن أو لم يأذن، إذا استوعبا كلامه كله. حكى المطالبي في كتاب البستان: كان عبد الملك يجيد تفسير الرؤيا، فسأله رجل أنه رأى في منامه أن بيده سيفاً من ذهب وهو يهزه وينثني. فقال له خيراً رأيت، جعلت فداك. فعزم عليه ليخبرنه. فقال يولد لك غلام يكون مخنثاً. فكان كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قال ابو عمر بن عبد البر: كان عبد الملك مولعاً بالسماع ارتجالاً وغير ارتجال. قال احمد بن حنبل قدم علينا ومعه من يغنيه. قال ابن معين: قدم علينا عبد الملك ومعه من يغنيه فكنا نسمع صوت معازفه، لهذا والله أعلم لم يخرج عنه في الصحيح. قال ولما قدم عبد الملك من العراق سئل عنها فقال: بها ماشئت من رجل نبيل ... ولكن الوفاء بها قليل يقول فلا ترى إلا جميلاً ... ولكن لا يصدق ما يقول وروى عنه أنه قال: إني لأسمع الكلمة المليحة فمالي إلا نميرق فأدفعه لصاحبها، واستكسي ربي، ولقد كنا بالمدينة فيحدثنا الرجل الحديث فيميليه علي ويذكر الخبر من الملح فأستعيده، فلا يفعل، ويقول: لا أعطيك ظرفي وأدبي. وكانت وفاة عبد الملك سنة اثنتي عشرة. وقيل أربع عشرة ومائتين، وهو ابن بضع وستين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 عبد الله بن نافع الأصغر الزبيري أبو بكر. قال الزبيري: هو عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، ويعرف بالأصغر وهو الفقيه صاحب مالك وله أخ آخر اسمه عبد الله، ويعرف بالأكبر. من أهل الفضل والدين ولم يكن فقيهاً. قال الزبير وأبوهما نافع، من أعبد أهل زمانه. صام من عمره خمسين سنة. قال يحيى بن مسكين ما رأيت أطول صلاة منه قط. وكان يحب ابنه هذا عبد الله الأصغر. قال مصعب: فكان يأتيه في صلاة فيدعو له، فيرى أن بركة دعائه أدركته. سمع عبد الله هذا من مالك وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة. روى عنه ابنه أحمد وعباس الدوري والزبير بن بكار والذهلي وهارون الجمال ويعقوب بن شيبة ويحيى ابن يحيى الأندلسي وابن رزين القروي، وعبد الملك بن حبيب وغيرهم، وهو أصغر من ألن نافع الصائغ، وروى عنه من لم يدرك ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 قال ابن معين فيه: صدوق. وليس به بأس. قال البخاري أحاديثه معروفة مستقيمة. قال البزار: هو ثقة. خرج عنه مسلم. قال منذر بن سعيد: ابن نافع إمام لم يرمه أحد ببدعة. قال الزبير: توفي وهو المنظور إليه من قريش بالمدينة في هديه وفقهه وعفافه. وكان صرد الصيام دهره. وحمل عنه. قال الضراب: صحب الزبيري مالكاً أربعين سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وسنبين الغلط في هذا. والأشبه أن صحة هذه الحكاية أن لا تكون لابن نافع الصائغ. قال عبد الله بن نافع: أول ما عرفت مالكاً أني كنت يوماً أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح، فرفعت صوتي فزجرني وقال لي: أما ترى مالكاً. قال عبد الله بن نافع الأصغر: قال لي عبد الله بن نافع الأكبر: إذا كنت متخذاً يا عمر خليلاً فاتخذه عاصماً. قال ابن نافع: كان في آل الزبير رجل يشتم عبد الله بن مصعب بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ثابت، لا يضعه من فيه. فكان عبد الله بن مصعب يدفع في كل هلال دينارين ويأمرني أن أعطيه إياها ويقول لا أحب أن يعلم أني وصلته. فلما مات مصعب استبأني فأخبرته فعاد يدعو إلي ويقرضني أنا. فقلت: شتمت امرءاً لم يطبع الذم عرضه ... زمانا ولا تدري ما كان يفعل فلما تيقنت الذي كان صانعاً ... غدوت علي اليوم بالجهل تخطل وما كان لي ذنب ولا لابن مصعب ... سوى أننا جئنا التي هي أجمل حكى ابن اللباد: أن ابن نافع سأله رجل فقال خرجت من المسجد فتعلقت حصاة بخفي فقال له اطرحها. فقال له: فإنهم يقولون إنها تصيح. فقال: قل لها تصيح حتى ينشق حلقها. قال وكان في خلقه شيء هكذا ولست ادري أي ابن نافع منهما صاحب هذه الحكاية. والأشبه عندي أن صاحب هذه الحكاية ابن نافع الصائغ، فهو الذي وصف بما ذكر من ذلك من خلقه. وتوفي في المحرم سنة ست عشر ومائتين. قاله الزبير وقال البخاري سنة عشرة. وفي حكاية بضع عشرة. قال الزبير وهو ابن سبعين سنة. وهذا يرد ما قاله الضراب لأنه على هذا عاش بعد مالك ستاً وثلاثين سنة. فبقي من عمره أربع وثلاثون سنة منها طفولته وبعدها صحبته لمالك والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 معن بن عيسى بن يحيى بن دينار القزاز. كان يبيع القز مولى أشجع. أبو يحيى. روى عن مالك وابن أبي ذئيب وابن طهمان ومعاوية بن صالح، وخرمة بن بكير وأبي أويس وغيرهم. وروى عنه أحمد وابن المديني وابن معين والحميدي وإسحاق بن موسى الأنصاري، وابن نمير، وإبراهيم بن المنذر، وأبو بكر بن أبي شيبة، وسحنون بن سعيد، وعبد الله بن جعفر البرمكي، وذؤيب بن عمامة السهمي وأبو خيثمة وغيرهم. قال الشيرازي: وكان ربيب مالك وهو الذي قرأ عليه الموطأ للرشيد وابنيه، وكان يتوسد عتبته فلا يلفظ شيئاً إلا كتبه. وعده في فقهاء أصحابه، وعده ابن حبيب فيمن خلف مالكاً في الفقه بالمدينة. قال ابن حارث: وله سماع معروف من مالك. ذكره ابن عبدوس في المجموعة فيما ذكر. وهومن كبار أصحاب مالك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقد ذكر أيضاً كثيراً من سماعه، وروايته عن مالك أبو عيسى الترمذي في جامعه، فكل ما أدخله عن مالك فقد قال في آخر كتابه: إنه من رواية معن. قال ابن عبد البر: كان أشد الناس ملازمة لمالك. وكان يتكىء عليه عند خروجه إلى المسجد حتى قيل له عصية مالك. قال يحيى: هو ثقة. أخرج عنه البخاري ومسلم. قال أبو حاتم الرازي: أوثق أصحاب مالك واثبتهم معن. وهو أحب إلي من ابن نافع وابن وهب. قال محمد بن سعيد::ان ثقة كثير الحديث، مأموناً ثبتاً. قال الشافعي: قال لي الحميدي حدثني من لم تر عيناك مثله، معن بن عيسى. وسئل يحيى عن الثبت في مالك، فقال: القعنبي، ومعن. قال ابن الجنيد قلت لابن معين كان عند معن غير الموطأ؟ قال شيء قليل. قال علي بن المديني: أخرج إلينا معن أربعين ألف مسألة سمعها من مالك. قال معن: كان مالك لا يجيب أحداً من العراقيين حتى أكون أنا الذي أسأله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 قال ابن بكير: كان معن يبيع لخز وكان طويلاً. قال محمد بن سعد: وكان له غلمان حاكة. قال ابن بكير وكان معن يقول: حدثني مالك. فقيل له: فكيف تقول هذا. إنما كان يقرأ عليه. قال: كنت أستخرج الحديث في رقاع منه، ثم أقول يا أبا عبد الله اقرأ لي هذا الحديث. فيقرأه. ثم أتركه أياماً وأجيئه برقعة أخرى. قال ابن وضاح: اقبل قوم إلى معن بالمدينة يستأذنون عليه في داره، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم أسود ليدخل داره، فسألوه الأذن لهم، فدخل فنادى يا من فاستجاب له، فأعلمه، فأذن ودخلوا. فقالوا أصلحك الله. عجباً من تسمية هذا الأسود لك. قال: أما أنه مع ذلك مملوكي. قالوا هذا أكبر. قال وما اردتم، أكان يدعوني بأفضل من اسمي الذي رضيه لي ربي. وكأنه حسنه فعله. قال البخاري: ومات معن سنة ثمان وتسعين ومائة قيل في شوال منها بالمدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 إسماعيل بن أبي أويس أبو عبد الله. قاله البخاري. وقال ألإلكاني والجرجاني: أبو خثيمة. ويحيى ابن معين ومعن بن عيسى: اسم أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس ابن أبي عامر الأصبحي، ابن عم مالك بن أنس وابن أخته وزوج ابنته. قال الشافعي وابن شعبان: أن اسم أبي أويس عبد العزيز بن عبد الله. قال غيره اسمه أوس بن مالك بن عبد الله والأول صحيح. وكان أبو أويس ممن يسمع العلم، وروى عن ابن شهاب وابن المنكدر وهشام بن عروة وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: زعموا أن سماعه وسماع مالك كان شيئاً واحداً. سمع منه الناس بالحجاز والعراق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 روى عنه القعنبي وغيره، واختلف فيه. فأثنى عليه أحمد بن حنبل، وأبو داود، وضعفه ابن المديني، وضعف حديثه يحيى بن معين، لكنه قال: كان صالحاً. وقال مرة كان ثقة. ومرة ليس به بأس. وصدوق. وليس بحجة. وقال مرة كان ثقة. ومرة ليس به بأس. وصدوق. وليس بحجة. وقال مرة: ليس بثقة. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 فقلت له فيم يعلم القوم مكاني بك. فأجابني. فانتهيت إليهم فأعلمتهم، فلما كان وقت التعريس قام وقمت معه إلى القوم، فوجدت أشهب قد مدّ أنطاعه وأتى من الأطعمة بأمر عظيم، وصنع ابن وهب دونك ذلك. فسلم ابن القاسم وقعد ثم أدار عينيه فإذا بسكرجة فيها دقة، فأخذها بيدها بيده فحرك الأبزاز إلى ناحية ولعق من الملح ثلاث لعقات، وهو يعلم أن اصل ملح مصر طيب. ثم قام وقال بارك الله لكم. قال سحنون: فاستحيت أن أقوم. فتكلم أشهب وعظم الأمر. فقال ابن وهب: دعه. قال أبو الفضل مولى نجم: كان ابن القاسم يأكل في الشهر عشرين مداً من دقيق بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً عابداً. قال غيره: لأنه كان رد قوته إلى ثلث مد من شعير في اليوم. وذكر أن رجلاً من أهل العلم والخير قدم من العراق وأراد الاجتماع به فأتاه رجل في ذلك فوعده وقتاً لذلك، فلما استنجزه قال ابن القاسم: إني نظرت في ذلك فرأيت أنه يدخله المباهاة يتزين لي وأتزين له. دعني من ذلك وكان المصريون يقولون للكوفيين: اذكروا أخلاق سفيان، وتذكروا أخلاق ابن القاسم وأشهب حتى أفسدوا ما بينهما، وحلف أشهب بالمشي إلى مكة أن لا يكلم ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وقال الناس: أثنى عليه ابن معين وأحمد والبخاري. حدث عنه بالكثير وهو خير من أبيه لأنه كان مقبلاً. وتكلم فيه النسائي. وقال الصدفي عنه: جالست خالي مالكاً من سنة ثمان وخمسين ومائة إلى أن مات وذلك إحدى وعشرون سنة. وروى عنه ابن وضاح واثنى عليه. وقال: أنه كان شديد القول فيمن يقول بالمخلوق. وروى عن مالك حديثاً كثيراً، وفقهاً. قال إسماعيل: قدمت على سفيان بعد وفاة خالي فأدنى مجلسي وذكر خالي فدعا له، وذكر فضله وحاله، وما أصيب الناس به منه، وبكى. ثم قال: سلني ما شئت لمكان خالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 أخوه أبو بكر عبد الحميد بن أبي أويس المعروف بالأعمش يروي عن أبيه وأخيه وخاله وابن عجلان وابن أبي ذئب وسليمان بن بلال وقرأ على نافع القارىء، وكان صاحب عربية وقراءة. أخرج له البخاري ومسلم، وروى عنه أمد بن صالح المصري وأخوه إسماعيل وإبراهيم بن المنذر وإسحاق بن موسى وسليمان بن بلال وعبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ومحمد بن عبد الحكم. قال يحيى: هو ثقة فيما حكاه ابن أبي حاتم والعقيلي وغيرهما. قال ابن شعبان: له ولأخيه عن مالك ما لا يحمل الموطأ وغيره. وروى عن مالك أنه قال لهما: أراكما تحبان هذا الشأن، فإن أردتما أن ينفعكما الله به فأقلا منه وتفقها فيه. وذكر يحيى بن بكير، فقال: ما بلغني الأخير كان كثير العلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 قال أحمد التميمي في كتاب المحن عن موسى بن الحسن، قال: سمعت أبا بكر بن أبي أويس ومطرف ابن عبد الله، وقد دعيا إلى المحنة في القرآن بالمدينة. فلما قرىء عليه الكتاب قال أبو بكر أكفر بالله بعد نيف وتسعين سنة، ومجالسة مالك ورجال أهل العلم متوافرون بالمدينة؟ فقيل له ليكن بيتك سجنك. وقال صحبت نافعاً القارىء أربعاً وعشرين سنة لا أفارقه إلا في منزله. وكان الغالب عليه الحديث. وحكى ابن شاهين، أن ابن معين كان يضعف بيت آل أويس كلهم جداً. وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث ومائتين، ويقال سنة إحدى ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 داود بن سعيد بن أبي زنبر قال الحكم هو قريشي صحب مالكاً وروى عنه حديثاً وفقهاً كثيراً، ويقال إنه كان أحد أوصيائه، وكان كثير الحديث. وقد روى عنه جماعة من اصحاب مالك كمحمد بن مسلمة وكابن نافع وغيرهما، وأثنى عليه ابن أبي أويس خيراً. قال الحاكم: هو أول من أخذ الفقه عن مالك. قال غيره: كان ممن يخصه مالك بالأذن عليه، في أول من يأذن له. وكان أحد أوصيائه، وابنه سعيد بن داود يكنى بأبي عثمان. قال الدارقطني: يروي أيضاً عن مالك نسخة عن أبي الزناد وعن الزهري، وهشام بن عروة وثور بن زيد أحاديث تفرد بها. قال ابن أبي حاتم: وسكن سعيد بغداد، وقدم الري وروى الموطأ عن مالك، وتكلم فيه أبو حاتم الرازي، وقال: ليس بالقوي. قال عبد الرحمان بن أبي حاتم: حدث عنه أحمد بن منصور الرمادي، ومحمد بن عمار الداري، وروى عنه خالي، وقد روى عنه ابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وقال البخاري سعيد بن داود الزبيري ويقال ابن داود، مدني سكن بغداد. وعده الحاكم في الضعفاء. قال: ويروي عن مالك أحاديث موضوعة. وقد استشهد به البخاري في الصحيح ولم نقف على ذكر وفاته. يحيى بن عبد الله الهديري ويكنى أبا زكرياء قال الدارقطني هو يحيى بن عبد الملك بن هارون بن عبد الله بن إبراهيم ابن عبد الله بن محرز الهديري التميمي. قال غيره: هو من ولد ربيعة بن عبد الله الهديري. مشهور بصحبة مالك، والرواية عنه حديثاً ومسائل. وله روايات عنه رواها أبو يحيى الزهري القاضي وبه تفقه. قاله الشيرازي. وروى عنه الزبير بن بكار وتوفي سنة ست ومائتين وقيل سنة ثمان ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 سعيد بن عمر بن الزبير (بن عمر بن الزبير) ابن العوام الأسدي القرشي ذكره الزبير في جمهرته. وقال: قد روى عن مالك بن أنس وعبد الرحمان ابن أبي الزناد وكان من جلساء مالك وأصحابه، ولي الشرطة بدمشق لعباس ابن محمد بن إبراهيم. قال الزبير بن بكار ووكيع القاضي عن أبي يحيى الزهري وبعضهم يزيد على بعض، وحديث الزهري ألمَ. دعا أبو البختري الزهري وبعضهم يزيد على بعض، وحديث الزهري أتم. دعا أبو البختري وهب بن وهب حين ولي المدينة سعيد بن عمر ليوليه شرطه، فأبى، وحلف وهب ليضربنه وليسجننه ثم لا يرسله ما دام عليه سلطان. فقبل عمله فألبسه السواد وقلده سيفاً وأعطاه مائة دينار، وقال له: صل بالناس العتمة. ففعل. فلما انصرف إلى منزله وتبعه رسول وهب بالمدينة قال ضعها في تلك الكوة. وندم على توليته فأراد أبو البختري أن يؤكد الأمر فأرسل إليه، صل بالناس الصبح، فإني مريض، فأبى وغدا حين أصبح إلى المسجد فجلس فيه. قال الزبير إنما ولاه قضاء المدينة. فلما أصبح جلس في الرحبة وأرسل إلى ثلاثة من فقهاء المدينة وهم أبو زيد الأنصاري ومطرف بن عبد الله وعبد الملك بن الماجشون. وقال لهم: رزقني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 الأمير ثلاثين ديناراً. فأنا أقسمها بينكم لكل رجل منكم عشرة. وقد استخلفتك يا أبا زيد. فقال أبو زيد: أن عشرة دنانير لمستزاد، ولكني ضعيف عن أن أخلفك. وقال لعبد الملك وأما أنت فقد استكتبتك. فقال أن عشرة في الشهر لمرغوب فيها. ولكني ضعيف البصر ولا أصلح للكتابة. وقال المطرف استعملك على الطواف وكان مطرف ضعيفاً. فقال له: لو استعملت على عملك ما قبلته. فكيف أعمل لك على الطواف. فقال ما أنا بتارككم إلا أن أعفى. وقال وكيع وبعث إلى أبي عزية الأنصاري ومطرف وعبد الملك وابن نافع الصائغ، فقال لمطرف وليتك السجون. وقال لأبي غزية وليتك السوق. وقال لعبد الملك وليتك كتابتي. وقال لابن نافع وليتك كذا. وذكر مثله. فدخلوا على وهب فذكروا ذلك له فأرسل إليهم. فلا جاءه كلمه في تركهم فقال له سعيد: ليس لك أ، تكرهني وتمنعني من إكراههم. فقال له: لا تعجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 فحلف أن لا يعمل إلا أن يدعه يكره على العمل من رأى. فقال له وهب: ضع سيفنا، واخلع سوادنا، واردد مالنا. وأمر به فدفع في قفاه، وهو يكبر. فلحقه الرسول فطلب المالية فقال له أين وضعها، فأخذها وانصرف. فقال في ذلك سعيد بن عمر: أظن وهب بن وهب أن أكون له ... لما تغطرس في سلطانه تبعا لما تغطرس وهب في عمايته ... وازداد أبهة واختال وابتدعا خرجت منها خروج القدح لا وكلا ... وجلل العبد فيها الخزي والطمعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 أخو الوليد بن عمر قال الزبير: كان سرياً استخلفه بعض ولاة المدينة بها. وكان من جلساء مالك. وذكر بعض أصحابنا أنه ألف لمالك كتابه، موطأه. يعني - والله أعلم - بيضه له. إبراهيم بن هارون بن محمد بن الياس بن أبي الليثي قال الزبير: كان من جلساء مالك حافظاً عنه جامعاً لأنواع العلم، عاقلاً راجح الذهن. قال غيره: كان حافظاً متقناً روى عنه الزبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 زيد بن داود قال مطرف: حدثني زيد بن داود وكان من أفضل أصحابنا. قال رأيت في منامي كأن القبر فرج عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاعداً هكذا والناس قد انقضوا عليه، فصاح صائح بمالك بن أنس، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه شيئاً وقال اقسم هذا بين الناس. فرأيته يعطيهم إياه. فإذا هو مسك فتأولنا ذلك، العلم الذي بثه مالك في الناس. أبو زيد الأنصاري اسمه محمد بن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن حارثة كذا نسبه القاضي وكيع. وكان من رواة مالك وجلسائه وأحد فقهاء المدينة ومفتيهم من ابناء الأنصار، وولي قضاءها أيام المبيضة عند دخول محمد بن سليمان بن داود المدينة فلما رجعتها المسودة عزلته، ثم ولي أيام المأمون مرتين قبل أبي مصعب وبعده. ذكر ذلك القاضي وكيع. قال: ولاه المأمون قضائ المدينة سنة عشرين ومائتين وعنه في كتاب ابن حبيب روايات. سمع منه ابن حبيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي تقدم نسبه في الطبقة الأولى عند ذكر أبيه. كان من أصحاب مالك وجلسائه. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، كنيته أبو معاوية، روى عن أبي الزناد ويحيى بن محمد بن هانىء وابن وهب وروى عنه أبو زرعة. وقال أبو مصعب: كان أجمل وجهاً وأحسنه لساناً، ولي إمرة المدينة وقضاؤها، وأمه ابنة عثمان بن الزبير بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان. قال محمد بن الجراح، في كتاب الورقة: كان أديباً ظريفاً مدنياً. قال وكيع كان من أصحاب مالك وابن أبي الزناد ومن أهل الأدب، حدث عنه إسماعيل القاضي وغيره. وولي قضاء المدينة وولايتها سنة اثنتين ومائتين. وله: وعوراء قد أسمعتها فصرفتها ... وأوطأًتها من غير عي بها نعلي فلم يثنها ناث وكانت كما مضى ... وجرت عليه العاصفات سفى الرمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وله أيضاً: أمر الغواني واحد ... حذو المثال على المثال أصبرن قبلك بالمنى ... قطعن أعناق الرجال وأنشد له الزبير: ومولى منحت النصح مني وإنه ... لطاو حشاه والضمير على بغض يحيى ويستحيي إذا ما لقيته ... وإن غبت أو وليت ارتع في عرضي فلو شئت قد عض الأنامل نادماً ... وأوطأته إذ كان في موطىء دحض ولكنه إحدى يدي فلم أجد ... سبيلاً إلى وصل ببعض إلى بعض فأغضيت منه غير وهن على التي ... لعمرك ما يغضي على مثلها بغضي وقال له الحسن بن زيد يوماً - وكان الحسن ولاه شرط المدينة، فعتب عليه في شيء -: لقد هممت أن أفارقك فراقاً لا رجعة بعده، فقال له المساحقي إذاً أيها الأمير أقول: وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيران علي كرام فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على ماهجر الحبيب تنام قال الزبير توفي سنة ست وعشرين ومائتين وسنة ثلاث وثمانون سنة وهو شيخ قريش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 حبيب اللئال بشد الهمزة. ويعرف ببابين. أحد أصحابه القدماء وجلسائه المختصين به، وأحد من كان يقدمه في الأذن عليه ويخصه، وأحد أوصيائه. وقال بعضهم فيه: إبراهيم بن حبيب واراه ابن هذا. وذكر أنه وصي مالك، وذكرهما ابن شعبان معاً، وذكر أيضاً اسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن بابين، ووجدت له حكاية عند موت مالك بن أنس: وجد إسحاق بن بابين، في تركة مالك، صندوقين مقفلين فيهما كتب. فجعل أبي يقرأها ويبكي ويقول رحمك الله، إن كنت تريد يعلمك الله. لقد جالسته الدهر الطويل فما سمعته يحدث بشيء مما قرأت، وأرى صوابه أبا إسحاق. قال قاسم بن اصبغ: إبراهيم بن حبيب ثقة من أصحاب مالك وهو وصي مالك رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 حبيب بن أبي حبيب واسم أبي حبيب مرزوق ويقال رزين. كاتب مالك وقارئه، وبقراءته سمع الناس الموطأ. مدني انتقل إلى مصر، وعدة بعضهم في المصريين لأنه توفي بها. روى عن مالك غير شيء، الموطأ والفقه وكثيراً من الحديث وغيره. ضعفه ابن حنبل وابن معين والنسائي وأبو حاتم الرازي وكذبوه وذموه. وقال ابن معين: حبيب الذي بمصر كان يقرأ على مالك ويخطرف للناس ويصفح ورقتين. سألوني عنه فقلت: ليس بشيء. وبقراءته سمع ابن بكير. وهو شر العرض. قال ابن أبي خثيمة ذكرت لمصعب ما ذكر أن حبيباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وكان نزل على مالك. قال مصعب قال لنا مالك: صلوا حبيباً. أعطوا حبيباً. وكان نزل على مالك. قال مصعب: كان حبيب يقرأ على مالك وأنا عن يمين حبيب، يقرأ كل يوم ورقتين أو ورقتين ونصفاً. وكان يأخذ في كل عرضة دينارين من كل إنسان، فزدناه نحن. قال حبيب: جعل لي الدراوردي وابن كنانة وابن أبي حاتم ديناراً على أن اسأل مالكاً عن ثلاثة سمعوا منهم مع مالك، ولم يحدث عنهم مالك، وتهيبوا الحديث عنهم لذلك، فدخلت عليه بعد الظهر وليس عنده غير هؤلاء الثلاثة. فقال ليس هذا وقتك. قلت: أجل: ليس في البيت دقيق ولا سويق وقد جعل لي قوم ديناراً لأسألك: لم لم ترو عن فلان وفلان وفلان. فأطرق ثم قال ما أحب منفعتك إلي، ولكن، لم أحمل العلم إلا عن أهله. فأومأ إلى القوم إن أكتفي بمسألتي. وقال يحيى بن يحيى: أرشيت حبيباً بألف درهم حتى مكنني من مالك، فسمعت عليه ألف حديث. وتوفي بمصر سنة ثمان عشرة ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 محمد بن الضحاك بن عثمان الخزاعي من جلساء مالك يروي عنه وعن أبيه الضحاك. روى عنه يعقوب بن حميد بن كاسب. تقدم ذكره عند ذكر أبيه وجده في الطبقة وهناك بقية أخباره. قال الزبير: ومات شاباً وخلف أباه في العلم والأدب. أبو غزية محمد بن موسى بن مسكين الأنصاري من بني مازن بن النجار ومن ولد أسامة بن زيد، من جهة النساء. من أصحاب مالك والقائلين بقوله وله رواية، وولي القضاء بالمدينة، وسمع ابن أبي الزناد. قال محمد بن سعد: كانت له رواية وعلم ونظر بالفتوى والفقه قال البخاري: يعد في أهل الحجاز وعنده منا كبر. وفي بعض نسخ تاريخ البخاري الكبير في ذكره، ثقة. وجدت ذلك بخط شيخنا القاضي الشهير رحمه الله تعالى توفي في سنة سبع ومائتين قاله البخاري. ؟؟؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام أبو عبد الله القرشي الأسدي كذا نسبه البخاري وغيره، هو عم الزبير بن بكار. روى عن مالك الموطأ وغير شيء وعرف بصحبته، وروايته في الموطأ معروفة. سمع أباه ومالك بن أنس ونمطهم من أهل المدينة، وكتب عنه أبو خيثمة وابنه، ويحيى بن معين. وكان علامة قريش في النسب والشعر والخبر، شريفاً معظماً عند الخاصة والعامة. شاعراً ظريفاً. قال الصدفي: مصعب بن عبد الله الزبيري أبو عبد الله صاحب الأنساب وصاحب مالك. قال يحيى بن معين: هو ثقة. ؟ ذكر جمل من أخباره قال مصعب: قال لنا أبي اطلبوا العلم، فإن لم يكن لك مال أكسبك مالاً، وإن يكن لك مال أجداك جمالاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قال ابن أبي خثيمة: قلت لمصعب ابن عبد الله: إن هؤلاء يقولون القرآن كلام الله، ويقفون. فيقولون من قال مخلوق ابتدع، ومن قال غير مخلوق ابتدع ويحتجون بك ويزعمون أنك تقول بهذا القول، وإن مالكاً يقوله. فقال معاذ الله. أما أنا فأقول كلام الله وأسكت وقلبي يميل إلى أنه غير مخلوق، ولكني أسكت لأنه بلغني عن مالك أنه يقول الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدر ورأي جهم، وكلما أشبهه. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحب إلي السكوت عن هذه الأشياء لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام لا فيما تحته عمل. ولقد ناظرني إسحاق بن إسرائيل فقال: لا أقول كذا ولا كذا ولا أقول ذلك على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي. فأنشدته قصيدتي التي قلتها في الواقعة فكتبها وأعجبته وهي: أأقعد بعدما رجعت عظامي ... وكان الموت أقرب ما يليني أجادل كل معترض خصيم ... وأجعل دينه عرضاً لديني وأترك ما علمت رأي غيري ... وليس الرأي كالعلم اليقين وما أنا والخصومة وهي لبس ... تصرف في الشمال وفي اليمين وكان الحق ليس له خفاء ... أغرّ كغرة الفلق المبين وهي أطول من هذا. ذكر جمل من ملحه ذكر الجراح في كتاب الورقة عنه، قال: دخلت على أحمد بن هشام فقال يا أبا عبد الله لقد شهرك إبراهيم الموصلي حين قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 لام فيها مصعبٌ وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحا عذلا ما عذلا ثم ملاً ... فاسترحنا منهما واستراحا فقلت ما شهر إلا بأمر جميل، جعلنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وما شهرك بن أشهر، حين قال: وصافية من المدام رقيقة ... رهينة عام في الدنّان وعام أدرنا بها الكأس الروية موهنا ... من الليل حتى انجاب عنا الظلام فما ذرّ قرن الشمس حتى رأيتنا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 عتيق بن يعقوب ابن صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو بكر. وأمه حفصة ابنة عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير من المختصين بمالك والقائلين بقوله، المكثرين عنه المحافظين لسيرته وشمائله. قال: سمعت مالكاً يقول: ينبغي للرجل أن يؤدب أهله وولده، ومن يجب عيه فرضه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فأدب أهلك أو من وليت أمره على أدبك وخلقك حتى يتأدبوا على الذي أنت عليه ليكونوا لك عوناً على طاعة الله. وذد ذكرنا في أخبار مالك دخوله منزل مالك بعد وفاته، ما وجد فيه من حديثه، وإنه ما رأى منه شيئاً مما ذاكر به أصحابه في حياته. قال محمد بن سعيد كاتب الواقدي في تاريخه: كان ملازماً مالك. كتب عنه الموطأ ويره، ولزم أيضاً عبد الله العمري واعتزل، ثم رجع إلى المدينة، ولم يزل من خيار المسلمين. توفي سنة سبع أو ثمان وعشرين ومائتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وعداده من المكيين من أهل الحجاز. محمد بن إدريس الشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وأمه أزدية. ولد بالشام بغزة. وقيل باليمن سنة خمسين ومائة وحمل إلى مكة وسكنها وتردد بالحجاز والعراق وغيرها. ثم قدم مصر واستوطنها. روى عن مالك ومسلم بن خالد وابن عيينة، وإبراهيم بن سعد وسعيد بن سالم وإسماعيل بن علية، ويحيى بن حسان والدراوردي وإبراهيم بن أبي يحيى ومروان بن ماوية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وابن أبي فديك وابن أبي مسلمة والقعنبي، وفضيل بن عياض، وعن عمه محمد ابن شافع. روى عنه أحمد بن حنبل والحميدي وأبو الطاهر بن السراج، وحرملة بن يحيى والبويطي والمزني والربيع المؤذن، ويونس بن عبد الأعلى وأبو ثور والزعفراني، وأحمد بن سنان الواسطي، ومحمد بن عبد الحكم وابن أخي ابن وهب وهارون الإيلي وآخرين. ابتداء طلبه وحفظه قال الشافعي: كنت وأنا في المكتب اسمع المعلم يلقن الصبي فأحفظ ما يقول، ولم يكن عند أبي ما يعطي وكنت يتيماً، فكان المعلم يرضى مني بأن أخلفه إذا قام، ولقد كانوا يكتبون. وقبل أن يفرغ المعلم من الإملاء حفظت جميع ما كتبت. وفي رواية فقال لي ذات يوم ما يحل لي أن آخذ منه. ثم لما خرجت من المكتب كنت التقط الخزف وعزب النخل وأكتاف الجمال، فأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب الظهور، وأكتب فيها، حتى ملأت جباباً كانت لأبي في ذلك. فسمع إذ ذاك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 بمكة من عمه ومسلم بن خالد الزنجي وغيرهم من المكيين، ثم قال خرجت من المكتب فقدمت هذيلاً أتعلم كلامها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبعة عشر عاماً، راحلاً برحلتهم ونازلاً بنزولهم. فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار، وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين فقال لي: يا أبا عبد الله، عزّ عليّ أن يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقع، فتكون قد سدت أهل زمانك. فقلت: من بقي يقصد. فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ. فوقع في قلبي، وعمدت إلى الموطأ فاستعرضته وحفظته في تسع ليال، ثم دخلت إلى والي مكة فأخذت كتابه إلى مالك وكتابه إلى والي المدينة، وقلت له: تبعثه إلى مالك يأتيك فتوصيه بي. فقال: يا ليتني إذا ركبت إليه مع حشمي معك، حتى نأتي بابه ونجلس عليه، حتى تضرب وجوهنا الريح بتراب العقيق أذن لنا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 فلما صلينا ركب معي إليه، وصرت معه حتى أتينا العقيق، وكان منزله بمن معه وجلس على بابه، واستأذن. فخرجت إليه جارية، فقالت الشيخ يقول لك: إن كنت تريد المسائل فاكتبها في رقعة أجبك عنها. فقال لها قولي له إن الأمير قد كتب إلي في حاجة فدخلت فأبطأت ثم التفت إلي وقال ألم أقل لك؟ قلت: بلى. ثم خرج مالك وجلس وقال ما شاء الله. فناوله الأمير الكتاب فلما بلغ موضع الشفاعة رمى به ثم قال: يا سبحان الله! وصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل! قال: فرأيت الوالي قد تهيبه أن يكلمه. فتقدمت إليه وقلت أصلحك الله أني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي فلما سمع كلامي نظر إلي ساعة، وكانت له فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت محمد. قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن. ثم قال: نعم وكرامة. إذا كان غداً تجيء وتجيء بمن يقرأ لك الموطأ. قلت فإنني أقوم بالقراءة. قال: فقدمت عليه وابتدأت قراءته ظاهراً، والكتاب في يدي فلما تهيبت مالكاً وأردت قطع القراءة وقد أعجبته قراءتي، قال بالله يا فتى زد. حتى قرأت عليه في أيام يسرة، فأقمت بالمدينة إلى أن توفي رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وفي رواية: أن مالكاً لم نظر في الكتاب قال: من هو؟ فقال له الوالي هذا. فنظر إلي ونكس رأسه، ثم قال: كيف يصلح لمن لا يرضى من خوف الله، فإذا كان كذلك أوشك أن ينفعه الله بالعلم. فقال له الأمير هذا مطلبي. فما سمع ذلك سري عنه وذكر نحوه. قال مصعب الزبيري: قدم الشافعي المدينة فكان يجلس في المسجد ينشد أشعار الشعراء، وكان حسن اللفظ فصيح القول، عالماً بمعانيه. فقال له أبي يوماً ترضى لنفسك في قرشيتك مما أنت فيه، أن تكون شاعراً؟ قال فما أصنع؟ قال تفقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله بن خيراً يفقهه في الدين. قال فأنّى لي بذلك؟ قال: مالك بن أنس سيد المسلمين. قال تقوم بنا إليه. فأتينا مالكاً وجلس عنده وأخبره بشرفه وأمره، فقرّبه مالك وجعل يسمع منه، فلما كان بعد أيام قال الشافعي لأبي: الذي يقول مالك أمرنا، والذي عليه بلدنا، والذي عليه أئمة المسلمين الراشدين المهديين، أي شيء هو؟ فقال له أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان الذين ماتوا بالمدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 فترك الشافعي ما كان فيه، وسمع الموطأ من مالك، وسرّ به مالك. ثم سار الشافعي إلى العراق، فلزم محمد بن الحسن وناظره على مذهب أهل المدينة. وكتب كتبه ورتب هناك قوله القديم، وهو كتاب الزعفراني. اقتداؤه بمالك واعترافه له قد تقدم في أخبار مالك كلام الشافعي فيه، وكثير من ثنائه عليه. وقال الشافعي مالك بن أنس معلمي. وفي رواية أستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليّ من مالك، وعنه أخذت العلم. وقال: إنما أنا غلام من غلمان مالك. وقال: جعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله. قال محمد بن عبد الحكم: لم يزل الشافعي يقول بقول مالك ولا يخالفه إلا كما يخالف بعض أصحابه، حتى أكثر فتيان عليه فحمله ذلك على ما وضعه على مالك، وإلا فإنه كان الدهر كله إذا سئل عن الشيء قال: هذا قول الأستاذ. قال القاضي هارون بن عبد الله الزهري: كان الشافعي معي بغزة، في منزل واحد. فكان يصنف كتبه بالليل، فقلت له: تتعب نفسك تسهر وتفني الزيت وتؤلف كتباً تخالف فيها مذهب أهل المدينة، من ينظر فيها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 فقل لي يبعث لها قوم أغنام من أهل هذا المشرق فتكون عندهم أكثر من الكتاب والسنة. قال القاضي أبو عبد الله التستري: قال لي القاضي أبو العباس بن شريح الشافعي قلت لأبي إسحاق إبراهيم بن حماد ما بين مالك والشافعي أقل مما بين أبي يوسف وأبي حنيفة. وجعل يحتج بما ذهب إليه مالك في مسألة خلع الثلث. فقال: أنا لا أفتي ولا أقضي إلا بقول مالك. وحكى أبو العباس الشارقي عن أبي إسحاق الشيرازي، أنه قال له: ما نعد الشافعي إلا أحد أصحاب مالك. ولو عد ما خالفه فيه مع ما خالفه فيه عبد الملك أو غيره من أصحابه لكان أقل، ونحو هذا من الكلام. ذكر ثناء العلماء عليه بسعة العلم والفضل قال محمد بن عبد الحكم: قال لي أبي: إلزم هذا الشيخ يعني الشافعي، فما رأيت أبصر منه بأصول العلم. وقال: بأصول الفقه. قال محمد: لولا الشافعي ما عرفت، وهو الذي علمني القياس، وكان صاحب أثر وفضل وخير، مع لسان فصيح طويل، وعقل رضي صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وقال فيه ابن عيينة: هذا أفضل فتيان زمانه، وكان ابن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والرؤيا قال سلوا هذا. يعني الشافعي. وقال له مسلم بن خالد الزنجي وهو شاب، سنه خمس عشرة سنة، ويقال ابن ثمان عشرة: قد آن لك أن تفتي يا أبا عبد الله. وقال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو للشافعي في صلاتي، لما أظهر من القول بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد بن حنبل ما أحد يحمل بخبره من أصحاب الحديث إلا وللشافعي عليه منة. قال: وكنا نلعن أصحاب الرأي ويلعوننا حتى جاء الشافعي، فخرج بيننا. وقال: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته. وقال أحمد بن حنبل لإسحاق بن راهويه: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله. فأراه الشافعي. قال، وقال لي: جالسه يا شيخ. فقلت إن سنه قريب من سننا. اترك ابن عيينة والمقبري؟ قال ويحك: إن ذلك لا يموت وذا يموت؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قال ابن حنبل: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان قليل الطلب للحديث. قال: وقد رآه هذا رحمة من الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم قلت لأحمد: تركت سفيان وعنده السالفون - يعني وجنئت إلى الشافعي - فقال لي: اسكت فإن فاتك علو الحديث تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا عقلك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده أبداً، ما رأيت أفقه في كتاب الله منه. وقال أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس. فانظر هل لهذين من عوض. قال أحمد: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها وقال: قد اختلفنا إليه فما رأينا إلا خيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وقال ابن معين لصالح بن أحمد ابن حنبل: أما يستحي أبوك رأيته مع الشافعي، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته قد أخذ بركابه. قال صالح فقلت لأبي فقال لي: قل له إن أردت أن تتفقه، فخذ بركابه الآخر. قال إسحاق: ما تكلم أحد إلا والشافعي أكثر إتباعاً وأقل خطأ. وقال إسحاق: الشافعي إمام. قال أبو عبيدة: ما رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي. وقال هارون: ما رأيت مثله، لو ناظر على أن هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب، لأثبت ذلك لقدرته على المناظرة: وقال أبو ثور: الشافعي عندي أفقه من الثوري والنخعي. قال غيره: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم إعظامه للشافعي. وقال هلال بن العلا: الشافعي فتح أقفال العلم. وقال الزعفراني: ما رأيت قط أفصح ولا أعلم من الشافعي. كان يقرأ عليه من كل الشعر فيعرفه. قال ابن هشام: الشافعي حجة في اللغة وذاكر بمصر في أنساب الرجال فقال له الشافعي بعد ساعة دع هذا، فإنها لا تذب عنا وخذ بنا في أنساب النساء. فلما أخذا في ذلك بقي ابن هشام فكان يقول: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 قال النسائي هو أحد العلماء ثقة مأمون. وقال يونس ما أخرجت الحجاز مثل الشافعي. قيل له فكيف كان أخذكم عنه؟ قال قصرنا وعاجله الموت، ولو مد في عمره لأدرك من علمه ما لم يدرك من علم أحد في زمانه. وقال: ما رأى أهل العراق مثل الشافعي، لو ضمت عقول الناس كلهم إلى عقله لغرقت عقولهم في عقله. ومن فهم عن الشافعي ما يقول فهو الغاية. وكان يكلم الناس على قدر إفهامهم. قال المزني: ألف الشافعي كتاب السبق والرمي وكان بصيراً بذلك. وأي علم كان يذهب عليه. وقال: لو كنا نفهم عن الشافعي كل ما يقول، لأتيناكم عنه بصنوف من العلم. ولكنا لم نكن نفهم. وسأله رجل عن الرأي فقال: أين أنت من كتب الشافعي. قال الأصمعي: ورأيت محمد بن إدريس، فرأيت فقيهاً عالماً حسن المعرفة عذب اللسان، يحتج ويعرف، ولا يحسن إلا لصدر سرير، وذروة منبر، وما علمت أني أفدت حرفاً، فضلاً عن غيره. ولقد استفدت من ما لو حفظ رجل يسيره هكذا لكان عالماً. قال غيره: أقام الشافعي في علم العربية وأيام الناس عشرين سنة. فقيل له في ذلك. فقال ما أردت به إلا الاستعانة على الفقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 قال الزعفراني: كان يخص مجلسه ببغداد الأدباء والكتاب. يسمعون حسن ألفاظه وفصاحته، وما رأيت ولا أرى أحد في عصر الشافعي مثله. وقال أيوب بن سويد: ما طننت أن أبقى حتى أرى مثل الشافعي، ما رأيت مثل هذا الرجل قط. وكان لقي الناس. وقال أيوب أبو يعقوب البويطي: رأيت الناس بمصر والشام والعراق والكوفة والبصرة والحجاز من كل صنف من علماء القرآن والفقه ولسان العرب والسير والكلام وأيام العرب، ما رأيت أحداً يشبه الشافعي. هو عندي أروع وأشد توق من كل من رأيت نسب إلى الورع. وقال الشافعي: وددت أن الخلق يعلمون ما في كتبي ولا ينسبون إلى منها شيئاً. قال سويد بن سعيد: كنا عند ابن عيينة بمكة فجاء الشافعي فجلس فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي. قيل لسفيان: مات ابن إدريس. فقال إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال أحمد بن عبد الله: هو ثقة صاحب رأي وكلام، ليس عنده حديث. وكان يتشيع. والثناء على الشافعي كثير وفضله مشهور إلا ما كان من يحيى بن معين فإنه أكثر القول فيه وأساءه، ونحوه لعلي بن المديني ويونس والحسن بن مكرم، ومحمد بن الحكم وغيرهم. وقد تقدم ليونس ومحمد خلاف ذلك، وأرى لأجل كلام يحيى وأولئك فيه، ترك أهل الصحيح حديثه، فلم يدخلوا له حرفاً. وكيف كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 بلا خلاف في إمامته في الفقه، وإنما ضعف حديثه، لروايته عن الضعفاء كما قال محمد بن عبد الحكم يروي عن الكذابيين والبدعيين، وإلا فهو في نفسه بريء من ذلك. وقد ألف الحافظ أبو بكر بن ثابت الخطيب كتاب الحجة في الشافعي، وأثبته في الصحيح، وسنجلب بعد هذا من تسننه ما يصحح ما قلناه، ويبطل ما عداه إن شاء الله تعالى، وأخبار الشافعي كثيرة وفضائله مأثورة. قال الربيع لمن سأله أن، يحدثه بأخباره، لو ذهبت أحدثكم بأيام الشافعي ما أتيت عليه في سنة. ذكر الأثر المتأول فيه وتسننه وإتباعه ومذهبه فيما اختلف فيه روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم اهد قريشاً، فإن عالمها يملأ طباق ألأرض علماً. اللهم كما أذقتهم عذاباً أذقهم نوالاً. قال الربيع: قال الشافعي: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق، فهو كافر. وقيل لمحمد بن عبد الحكم: أكان الشافعي بدعياً أو كذاباً؟ قال: وإن خالفناه فلا ينبغي أن نقول عليه ما لا نعلم، كان ابعد الناس من ذلك. قيل له فكان يقف في القرآن؟ قال ما علمت ذلك. كان بريئاً من ذلك أو نحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 قال ابن حنبل: الشافعي ثقة صاحب رأية وكلام، وليس عنده حديث. وكان يتشيع. وقيل للشافعي فيك بعض التشيع. قال: وكيف؟ قالوا: تظهر حب آل محمد. قال: يا قوم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟ وقال إن أوليائي وقرابتي المتقون، فإذا كان واجباً أن أحب قرابتي وذوي رحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان كذلك؟ فإنه كان يحبهم. ثم أنشد: يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف لساكن خبيها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الخليج الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وكان الشافعي يقول لأحمد وابن مهدي: أما أنتم فأعلم بالحديث مني، فإذا كان صحيحاً فاعلموني به، اذهب إليه. قال البويطي: إنما كان الشافعي ليتبع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 ذكر جوده وبقية أخباره وفضائله انصرف الشافعي من اليمن إلى مكة ومعه عشرة آلاف دينار، فضرب خباء خارج مكة وجاء الناس فما برح حتى فرقها كلها .... فلما دخل مكة استسلف ما أنفق. قال الربيع: ما أراه أتى عليه يوم إلا تصدق فيه. وكان يف شهر رمضان كثير الصدقة بالثياب والدراهم، ويعطيهم الفقراء. وأصلح رجل زره، فأعطاه ديناراً واعتذر إليه، وناوله آخر سوطه فأعطاه صرة دنانير وقال: لم يحضرني غيرها. وقال الربيع: قد سمعنا بالأسخياء، وقد كان قوم عندنا بمصر منهم، رأيناهم. فأما مثل الشافعي فما رأيناه ولا سمعنا أحداً في زمان كان مثله. وكان إذا سأله إنسان يحمر وجهه حياء في السمائل. ودخل مرة الحمام، فأعطى صاحبه مالاً كثيراً، وسقط سوطه فناوله إنسان فأعطاه خمسين ديناراً. وأنشد الشافعي عند خروجه إلى مصر: أخي أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المفاوز والفقر فو الله ما ادري أللحفظ والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى قبر قال المؤلف رحمه الله تعالى: سيق إليهما معاً، رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 قال سعيد ابن عبد الله بن عبد الحكم: لما قدم الشافعي مصر قدم علينا على خلة شديدة فمضى أخي محمد إلى بعض من بالبلد من المياسير، فقال له: من قدم علينا من أصحابنا ومن أهل قربتنا من قريش على خلة فتأمر لنا بما تغير به حاله. فأمر له بخمسمائة دينار، فلما كان المساء اجتمعنا عند أبي. فقال ما كان ينفعني أن يرضى بمثل هذا من فلان. فقال له أخي: فأعنا عليه. فأتمها ألفاً. قال الشيرازي: يقال أن ابن عبد الحكم دفع إلى الشافعي من مال نفسه ألف دينار، وأخذ له من بعض أصحابه ألفاً، ومن رجلين آخرين ألفاً ثالثاً. وعند ابن الحكم مات الشافعي. قال سعد: وكان الشافعي يلزم محمداً ولا يفارقه، يأتيه كل يوم غدوة فربما لم يجده في المنزل، فيسأل أين ذهب، فيمضي إليه. وكان يأخذ من كتبنا كتب مالك في كل يوم جزأين، فيمكثان عند ذلك اليوم وليلته، ثم يغدو وقد فرغ منهما فيردهما ويأخذ آخرين. وروى من أخباره أنه قال: بينما أنا أدور في طلب الحديث باليمن قيل لي هنا إمرأة وسطها إلى اسفل بدن وإلى فوق بدنان مفترقان، بأربع أيدي ورأسين، فأحببت رؤيتها ولم استحل ذلك فخطبتها ودخلت بها فوجدتها على ما وصفت، فاليدان يتلاطمان ويتقابلان ويأكلان ويشربان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 ثم نزلت عنها وغبت ورجعت بعد مدة، فسألت عنها، فقيل: مات الجسد الواحد وربط أسفله بحبل وثيق، وترك حتى ذبل ثم قطع ودفن، فرأيت الشخص الآخر بعد ذلك يذهب في الطريق ويجيء. قال المؤلف رحمه الله في نكاح مثل هذا نظر! وهما أختان لا شك جمعهما بعض الجسد وفرج واحد مشترك، وإذا كان على ما وصف من خلاف أخلاقهما وأغراضهما فهو أبين والله تعالى أعلم. قال ابن عبد الحكم: روى أن أم الشافعي لما حملت به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية. فتأول أنه عالم يخص علمه أهل مصر ويفترق منها في كل البلاد. قال الربيع: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة. فإذا كان رمضان ختم في كل ليلة من ختمة، وفي كل يوم ختمة. قال: وافتى وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان يحيي الليل حتى مات. ولما قدم الشافعي على الزعفراني نزل عليه، فكان الزعفراني يكتب للجارية ما يصلح من الألوان كل يوم لطعامه. فدعا الشافعي يوماً الجارية ونظر في الكتاب فزاد بخطه لوناً اشتهاه، فلما حضر الطعام أنكر الزعفراني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 اللون الذي لم يأمر به فسأل الجارية، فأخبرته. فلما نظر في الرقعة ووجده بخط الشافعي اعتق الجارية فرحاً بذلك. وألح عليه يوماً أصحاب الحديث فقال لهم: لا تكلفوني أن أقول لكم ما قال ابن سيرين لرجل ألح عليه: إنك إن كلفتني ما لا أطيق ساءك ما سرك مني من خلق. وروي أن الشافعي كان عطيراً. وكان غلامه يأتيه كل يوم بغالية يمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها، وكان إلى جانبه رجل متزهد فعمد إلى عذرة فجعلها في شارب نفسه، مضادة لما فعل. وكان سميه البطال؟ فلما شم الشافعي الرائحة قال: فتشوا نعالكم. ثم قال ليشم بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك بالرجل، فقال له الشافعي ما حملك على ما فعلت؟ قال رأيت تجبرك فأردت أن أتواضع لله. قال الشافعي: اذهبوا به إلى صاحب الشرطة يعقله، حتى ننصرف. فلما خرج الشافعي أمر به فضربه ثلاثين درة. قال له: هذا أراه لجهلك. ثم أربعين، وقل له هذا لتخطيك المسجد بالعذرة. جمل من حكمه وآدابه رحمه الله تعالى قال الشافعي: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق. ومن حفظ القرآن نبل قدره، ومن تفقه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه العلم. وقيل له كيف أصبحت؟ فقال كيف اصبح من يطلبه الله بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، والحفظة بما ينطق، والشيطان بالمعاصي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 والدهر بصروفه، والنفس بشهواتها، والعيال بالقوت، وملك الموت يقبض روحه، وقال: أحسن الاحجاج ما اشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت له قلوب سامعيه وقال: الطبع أرض والعلم بذر، ولا يكون العلم إلا بالطلب، فغذا كان الطبع قابلاً زكا مربع العلم وتفرعت معانيه. وقال العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم. وأنشد فيه: ومنزل السفيه من الفقيه ... كمنزلة الفقيه من السفيه فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه زهد منه فيه واستعار الشافعي من محمد بن الحسن كتبه فمنعه إياها. فكتب إليه: قل للذي لم تر عينا ... من رآه مثله العلم يأبى أهله ... أن يمنعوه أهله لعله يبذله ... لأهله لعله؟ فأجابه محمد بن الحسن عن ذلك وكان الشافعي كثيراً ما ينشد: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن يكرم النفس الذي لا يهنيها يريد لمن يطلب العلم عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وقال المزني سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل رجلاً فقال: أما والله لقد كان يملأ العيون جمالاً، والآذان بياناً. فقال له رجل: أعد رحمك الله، فقال: أعيده والله عليك بلا تهاتر مني، ولا إبكات ولا تزكية له. ذكر محنته ووفاته رحمه الله تعالى قال الفضل بن الربيع: بعث إلي الرشيد في وقت لم يكن يبعث إلي فيه، فدخلت عليه في مجلس خاصته وبين يديه سيف وقد أزبد وجهه. فقال لي يا فضل أذهب إلى الحجازي محمد بن إدريس فأتني به، فإن لم تأتني به أنزلت بك ما أريد به، فأتيته وهو في مسجد بيته يصلي، فانتقل من صلاته، فقلت له: أجب أمير المؤمنين فقال: بسم الله وحرّك شفتيه ثم نهضت أمامه وهو يفنوني حتى أتيت القصر، وأنا أرجو أنه قد قام فإذا هو جالس. فقال ما فعل الرجل؟ قلت بالباب قال لعلك روعته قلت لا قال: أدخله. فلما دخل تزحزح له عن مجلسه وتهلل وجهه، وضحك إليه وصافحه وعانقه وقال له: يا أبا عبد الله لم يكن لنا عليك من الحق أن تأتينا إلا برسول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 فاعتذر بعذر لطيف. فقال إن أمرنا لك بأربعة آلاف دينار وفي رواية بعشرة آلاف. فقال لا أقبلها. فقال: عزمت عليك لتأخذها. يا فضل، احملها معه. قال الفضل: فلما انصرف قلت: بالذي أنجاك منه وأبدل لك رضاه من سخطه، ما قلت في إقبالك إليه ودخولك عليه. قال نعم. قلت: شهد الله أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم رب العرش العظيم. اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وبركة جلالك، من كل آفة أو عاهة أو طارق، إلا طارقاً يطرق بخير يا أرحم الراحمين. اللهم أنت عياذي، فبك أعوذ وأنت ملاذي فبك ألوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وخضعت له مقاليد الفراعنة، أعوذ بكرمك من غضبك ومن نسيان ذكرك، ومن أن تخزني أو تكشف ستري، أنا في كنفك في ليلي ونهاري، وظعني وأسفاري ونومي وقراري. فاجعل ثناءك دثاري وذكرك شعاري، لا إله غيرك، تنزيهاً لوجهك وتعظيماً لسحبات قدسك. أجرني من عقوبتك وسخطك، واضرب علي سراقات حفظك، وأعطني من خير ما أحاط به علمك. واصرف عني شر ما أحاط به علمك. وأمن روعاتي يوم القيامة يا راحم الراحمين. قال الفضل: فما دخلت على سلطان فدعوت بالدعاء إلا ضحك في وجهي وضمني وأكرمني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وفي رواية أخرى، إن الفضل سأله بما دعى به، فقال له نعم. هو ما حدثني به مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا به يوم الأحزاب: اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة. وذكر نحو ما تقدم. وتوفي الشافعي بمصر عند عبد الله بن عبد الحكم وإليه أوصى. قال الربيع: كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا إعرابي فسلم، ثم قال أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا توفي رحمه الله تعالى، فبكى بكاءاً شديداً وقال رحمه الله وغفر له، ما كان يفتح ببيانه منغلق الحجة ويهدي خصمه واضح الحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع من الرأي أبواباً منسدة، ثم انصرف. وكانت وفاته بمصر يوم لخميس وقيل ليلة الجمعة منسلخ رجب سن أربع ومائتين ودفنه بنو الحكم في قبورهم. وصلى عليه أمير مصر وكان رحمه الله تعالى خفيف العارضين يخضب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 من أهل اليمن أبو قرة موسى بن طارق السكسكي كنيته: أبو محمد وأبو قرة لقب له. قال الحسين بن محمد الغساني الحافظ. وقال: نقلته من خط ابنفطيس. وقال الأمير أبو نصر في كتاب الإكمال: أبو قرة موسى بن طارق الجندي بجيم ونون مفتوحة ودال مهملة مكسورة منسوب إلى جند، ناحية اليمن. وقال ابن شعبان هو من أهل زبيد، من أهل الخصيب. قاض لهم. وروى عن مالك ما لا يحصى حديثاً، ومسائل وقد روى عنه الموطأ، ولأبي قرة كتابه الكبير وكتابه المبسوط وسماع معروف في الفقه عن مالك، يرويه عنه علي بن زياد الحجبي. قرية هنالك، وروى عنه أيضاً صامت بن معاذ، وكان أبو قرة قاضي زبيد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وذكره أبو عمر المقرىء في كتاب القراء. فقال: قرأ أبو قرة على نافع وروى عن إسماعيل القسط وموسى بن عقبة ومالك وابن جريج وابن عيينة، روى عنه علي بن زياد الحجبي، ومحمد بن يونس الزبيدي، وابن حنبل وابن راهويه، قال أبو حاتم: محله الصدق، وأثنى عليه ابن حنبل خيراً. وقال ابن أبي داود هو ثقة. محمد بن حميد بن عبد الرحيم بن شروس ويقال الشروس الصنعاني. من أصحاب مالك. له عنه الموطأ. وكتاب سماع مسائل ثلاثة أجزاء يروي عنه أبو علي الحسن بن أحمد بن أبي الطيب الصنعاني. قال القاضي رضي الله عنه، وقد رأيت موطأه عن مالك، وهو غريب لم يقع لأصحاب اختلاف الموطأت فلهذا لم يذكروا منه شيئاً والله أعلم. وإنما يذكرون من حديث ابن شروس ما في غير الموطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 من أهل البصرة والعراق وما وراءهما من بلاد المشرق عبد الله بن مسلمة ابن قعنب التميمي الحارثي، القعنبي أبو عبد الرحمن، اصله مدني وسكن البصرة، فهو من عداد البصريين. روى عن مالك وابن أبي ذئب وابنه، ومخرمة بن بكير وشعبة والليث والدراوردي والعمري والحمادين وسليمان ابن بلال. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وعلي بن عبد العزيز والذهلي وأحمد بن سنان، ومحمد بن سهل بن عسكر، والرمادي، وأبو داود السجستاني، وأخرج عنه البخاري ومسلم. حكى أبو علي الغساني الحافظ عنه أنه قال: لزمت مالكاً عشرين سنة حتى قرأت عليه الموطأ. ذكر فضائله والثناء عليه قال ابن شاهين فيما يحكى عن الحسيني: كنا عند مالك رحمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 الله تعالى فجاءه رجل فأخبره بقدوم القعنبي، فقال متى يقرب قدومه؟ فقال قوموا بنا إلى خير أهل الأرض نسلم عليه. فقام فسلم عليه. قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه. قال أبو حاتم: القعنبي أحب إلي من ابن أبي أويس. وهو بصري ثقة حجة. وقال: ما رأيت أخشع منه. سألناه أن يقرأ لنا الموطأ، فقال ائتوا بالغداة فقلنا إنا نجلس عند الحجاج. قال فإذا فرغتم. قلنا نأتي مسلم بن إبراهيم. قال فإذا فرغتم. قلنا يكون وقت الظهر ونأتي أبا حذيفة. قال فبعد العصر. قلنا نأتي حازماً. قال فبعد المغرب. فكنا نأتيه ليلاً فيخرج وعليه لبد، ماتحته شيء في الصيف في الحر الشديد. فيقرأ لنا وهو على جسده ولو أراد لأعطي الكثير. قال هارون بن إسحاق: ما رأيت أحداً يريد بعلمه الله، إلا القعنبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 قال ابن معين فيه: ذلك من در ذاك من دنانير. قال: وإخوته ثقات كما تحب، قال: وأثبت في مالك هو معن، وقال مرة وأثبتهم القعنبي. قال أحمد هو ثقة. وقال الكوفي: هو ثقة، رجل صالح. وقال سعيد بن منصور إنا لنقول أو إنه ليقال: ما يطوف بهذا البيت أحد من خلق الله أفضل من القعنبي. قال ابن مفرج: هو بصري ثقة عابد. قال عبد الله بن داود: حدثني القعنبي، وهو عندي والله أخير من مالك. قال ابن أويس: كان مالك إذا جلس قال ليليني منكم ذو الصلاح والنهى، فربما جلس القعنبي عن مجلسه. قال عبد الله بن عبد الحكم: كنت عند عبد الرزاق فنهرني مرة وأبى أن يكتب فبقيت مغموماً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قصتي مع عبد الرزاق، فقال لي اكتب عن أربعة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 عبد الله هذا، وإسماعيل، ويحيى، وعبد الملك بنو مسلمة، كلهم رووا عن مالك. قال أحمد بن الهيثم: كنا إذا أتينا القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم. قال البخاري توفي سنة عشرين بمكة يوم السبت، ست خلون من المحرم منها. وقال أبو إسماعيل الترمذي لست خلون، يوم خميس. وقيل يوم عاشوراء. وقاله ابن الجزار في كتاب التعريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 عبد الرحمان بن مهدي بن حسان العنبري يكنى أبا سعيد، مولى الأزد بصري، سمع السفيانيين والحمادين ومالكاً، وشعبة وعبد العزيز وشريكاً وهماماً، وأبا عوانة وزائدة والأسطواني، وغيرهم. روى عنه ابن وهب وابن حنبل ويحيى وزهير وابن المديني، وابنا أبي شيبة وإسحاق، وأبو عبيد وأبو ثور وابنه موسى بن عبد الرحمان وإسحاق ابن سعيد وغيرهم. وخرج عنه البخاري ومسلم، ولازم مالكاً فأخذ عنه كثير الفقه والحديث وعلم الرجال، وله معه حكايات. قال ابن المديني: كان ابن مهدي يذهب إلى قول سفيان بن يسار، وكان سليمان يذهب إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال أحمد بن عبد الله بن صالح: رسالة الشافعي ابن مهدي ابتدأها، وأتمها الشافعي. وذكر أبو إسحاق الشيرازي: إن الشافعي إنما كتب الرسالة إلى ابن مهدي، وهو الأشبه عندي. وكان يجالس الشافعي ويصحبه مع أحمد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 حنبل، فكان الشافعي يقول لهما: ما صح عندكما من الحديث فاعلماني لأتبعه لأنكما أعلم مني بالحديث. ويقال إن ما أرسله مالك من غير ابن مسعود فعن ابن مهدي أخذه. والله تعالى أعلم. ثناء العلماء عليه وذكر فضله قال علي بن المديني غير مرة: لو أخذت فحلفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من ابن مهدي. وقال أيضاً: كان ابن مهدي أعلم الناس. وقال ابن مهدي اختلفت إلى حماد بن زيد زماناً، وما بي إليه حاجة. قال ابن حنبل: كان ابن مهدي ثقة. وقال: هو أشد توقيعاً من وكيع. قال أحمد بن سنان: كان ابن مهدي ورعاً منذ كان. وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى ابن مهدي يمسح وجهه. قال أبو حاتم كان ابن مهدي خياراً ثقة من معادن الصدق صالحاً مسلماً. ولما حضر سفيان الموت قال لمولى حميد: انطلق إلى ابن مهدي فجيء به يفحصني. وقال سفيان: كتبي بالكوفة عند عجوز وددت لو وقدت عليها. فنظر فيها ابن مهدي نظرة. قال علي بن المديني قدمت الكوفة فعنيت بحديث الأعمش فجمعته، فلما قدمت البصرة لقيت ابن مهدي فسلمت عليه فقال هات ما عندك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فقلت ما أحد يفيدني عن الأعمش شيئاً. فغضب. فقال: هذا كلام أهل العلم. ومن يضبط العلم ويحيط به، مثلك يتكلم بهذا؟ معك شيء تكتب فيه؟ فقلت: نعم. قال اكتب. قلت ذاكرني فلعله عندي. فقال الكتب لست أملي عليك إلا ما ليس عندك. قال: فأملى علي ثلاثين حديثاً لم اسمع منها حديثاً ثم قال: لا تعد. قلت: لا. قال علي: فلما كان بعد سنة جاء سليمان فقال: امض بنا إلى ابن مهدي حتى نفضحه اليوم بالمناسك. وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج. قال: فذهبنا فدخلنا عليه فسلمنا وجلسنا بين يديه، فقال هاتا ما عندكما وأظنك يا سليمان صاحب الخطبة. قال نعم. ما أحد يفيدنا في الحج شيئاً. فأقبل علي بمثل ما أقبل عليه. ثم قال يا سليمان: ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ فاندفع سليمان فروى يتفرقان حيث اجتمعا ويجتمعان حيث تفرقا. فقال وحتى يجتمعان ومتى يتفرقان؟ قال: فسكت سليمان. فقال اكتب. وأقبل يلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثيين ويقول سألت مالكاً وسألت سفيان وعبيد الله بن الحسن، قال فلما قمت قال: لا تعد ثانياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 فأقبل علي سليمان فقال: إيش خرج علينا من صلب مهدي هذا. وجاء رجل إلى ابن مهدي فقال: يا أبا سعيد حديث رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة. فقال عبد الرحمان هذا لم تروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: من أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال إذا أتيت الصراف بدينارك فقال لك: هذا سرح. تقدر أن تقول له من اين قلت؟ فقال: فسره لي. قال هذا الحديث لم تروه إلا حفصة بنت سيرين. فسمعه هشام بن حسان منها وكان في الدار معها. فتحدث به الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له من أين سمعه الزهري؟ قال كان سليمان بن أرقم يختلف إلى الحسن والزهري، فسمعه من الحسن، فذاكر به الزهري فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لي أحمد بن صالح، لم يكن ابن مهدي يرويه إلا عن ثقة. وكل ما أرسله مالك عن ابن مسعود فإنما أخذه عن ابن إدريس، وما كان عن غير ابن مسعود، فإنما أخذه عن ابن إدريس، وما كان عن غير ابن مسعود، فإنما أخذه عن ابن مهدي. قال يحيى بن سعيد: سماع ابن مهدي نائماً أحب إلي من إملاء غيره. وكما قال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 قال ابن أخته كان خالي قد خط علي أحاديث، ثم صحح عليها بعد، وقرأتها عليه، فقلت له في ذلك، فقال: تفكرت في فصل ذلك لعله إسقاط لعدالة قبلها، فيكونون خصماء لي عند الله. يقول رأيتني؟ تعرفني؟ سمعت كلامي؟ ومرض ابن مهدي لأهل هذا البلد مرتين. وقال القطان: ما قرأ ابن مهدي على مالك أثبت مما سمع عنه الناس قال ابن مهدي: كتب عني الحديث بحلقة مالك. قال ابن أبي صفوان لو كتب عنه مالك ما ضره. قال ابن المبارك: من لقي ابن مهدي فلم يأخذ بخطه منه، فقد (كذا) وذكره أيضاً. فقال: ذلك رجل منذ عرفناه يزداد في كل يوم خيراً. وقال محمد بن عبد الله بن السكوني: هو ثقة. وقال أبو داود فيه: حدثنا الثقة عبد الرحمان بن مهدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 بقية أخباره ووفاته قال ابن حنبل: قدم ابن مهدي علينا بغداد، وهو ابن ست أو خمس وأربعين سنة. وقد خضب. قال صالح بن أحمد: شرف ابن مهدي وأبو داود الطيالسي للحفظ، فأما ابن مهدي فما مات حتى برص، وأما أبو داود فجذم. قال ابن اللباد: كان عبد الرحمان بن مهدي يبيع الجوهر، وأبوه طحان. قال البهلول بن راشد: لم آسف على شيء أسفي على كتاب رأيت ابن مهدي يعرضه على سفيان الثوري، فأعجب به سفيان. قال الصمادحي: فلما قدمت على ابن مهدي ذكرت له، فأخرج لي كتابه في السنة والفتوى من تأليفه. قال ابن مهدي: اختلف إلي حماد بن زيد ثلاثين سنة، فما رجعت منه إلا بفائدة. وقيل لابن مهدي: إن فلاناً صنع كتاباً في الرد على الجهمية. فقال عبد الرحمان: رد عليهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله. قالوا له بل بالرأي والمعقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فقال: أخطأ، رد بدعة ببدعة. قال القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت فشكوت ذلك إلى ابن مهدي، فقال لي مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله. قال القواريري: رأيت عبد الرحمان بن مهدي على درجة من المنبر يحدث، وأبوه مهدي على الدرجة الأخرى، وجده حسان من فوق ثبة في الدرجة العليا، وهو يحدث الناس. قال العباس رأيت ابن مهدي جاء يوم الجمعة فجلس خارجاً عن الحلقة فقال له يحيى: ادخل الحلقة. فقال أنت حدثتني عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل خروج الإمام. قال يحيى: فإني رأيت حبيب ابن الشهيد وهشاماً وابن أبي عروبة يتحلقون. قال ابن مهدي: فهؤلاء بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ففعلوه. فسكت يحيى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 قال ابن المهدي (هكذا) : كان ابن مهدي، يقال له في الحديث روى معن كذا. فيقول هو خطأ وينبغي أن يكون أخطأ عن وجه كذا. فيفتش عليه، فيوجد. كما قال ابن مهدي: من فر من الرئاسة تبعته. ومن طلبها لم يكن ينالها. وتوفي ابن مهدي رحمه الله تعالى بالبصرة في جمادى الأخرى سنة ثمان وتسعين، ويقال أربع ويقال ست وثلاثين ومائة. وله ابن روى عنه، اسمه إبراهيم، يروي عنه أحمد الدوري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 ؟ محمد بن عمر بن واقد الواقدي مولى بني سهم بن أسلم أبو عبد الله مدني: عداده في البغداديين. سكن بغداد وولي القضاء بها للمأمون، بعسكر المهدي والجانب الشرفي، والصلاة بالرصافة. ولي القضاء من قبل الرشيد، روى عن مالك حديثاً كثيراً، وفقهاً ومسائل، وفي حديثه منقطع كثير وغرائب، وكذلك في مسائله عنه منكرات على مذهبه لا توجد عند غيره، وكان واسع العلم كثير المعرفة، أديباً نبيلاً عالماً بالحديث والسير والأخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 قال أحمد بن عبد الله بن صالح: ما رأيت أحفظ للحديث منه. وإنما تكلم فيه ابن المبارك. قال محمد بن سعد كاتبه في تاريخه الكبير: كان عالماً بالمغازي والسير والفتوح، واختلاف الناس في الحديث والأحكام، وإجماعهم، ووضع الكتب، وحدث. قال القاضي وكيع: كان الواقدي من المتسعين في العلم. وسئل عنه أحمد، فقال: دعونا من بحار الواقدي، زعم أن عنده عشرة آلاف حديث عن معمر ليست لغيره، فنظرنا إلى من هو أقدم منه مجالسة منه لمعمر فلم نجد هذا عنده. قال ابن البرقي هو كذاب. قال النسائي: ليس هو بثقة. ولا يكتب حديثه. قيل له فلم لم تضرب على اسمه؟ قال أستحي من ابنه وهو صديقي. وقال أحمد ابن عبد الله: كتبت نحواً من ستين ألف حديث. فبلغني أن ابنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 المبارك قال له: لا ترفع هذين الحديثين، فإنهما غير مرفوعين. فلج فيهما. فقال الناس: كذاب. فقال الجارود تركوه. وذكره أبو عمرو المقرىء في طبقات القراء. فقال روى القراءة عن نافع بن أبي تميم وعيسى بن وردان وسليمان ابن مسلم بن حبان، وسمع معمر بن راد هكذا روى عنه ابنه وكاتبه محمد بن سعد. ؟ ذكر جمل من أخباره وكرمه وذكر وفاته قال مصعب بن عبد الله: كلمت الواقدي في توكيل رجل من أهل المدينة بعض الوكالات التي يرتزق فيها. فأرسل إلي بصرة فيها مائة درهم فقلت لم أكلمك أن تصله. قال وأي شيء ينفق إلى أن أوكله؟ قال محمد ابن سعد: زارني الواقدي مغتماً، فقال لي: لا تغتم فإن الرزق يأتي من حيث لا تحتسب، أملقت مرة حتى بعت برذوني فاستبطأني يحيى بن خالد فاعتذرت إليه، فوقف على حالي، فأمر لي بخمسمائة دينار فصرت بها إلى البيت فأنا في تصريفها في قضاء الدين وعلى العيال إذ طرقني رجل من أهل المدينة قد قطع عليه الطريق، من ولد أبي بكر، فشكا إلي حاله، فدفعت إليه ما فضل ولم أشتر برذوناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 فاستبطأني يحيى فأخبرته الخبر. فوجه إلى البكري، فقال: نعم أخذت الدنانير منه، فلما صرت بها إلى البيت جاءني فلان الأنصاري فشكا إلي حاله فدفعتها إليه، فوجه يحيى إلي الأنصاري فأخبره، فتعجب من الكرم ثم أمر لي بألف دينار وللبكري بمثلها، ولزوجتي بخمسمائة لغمها حين دفعت الدنانير إلى البكري. قال هارون بن عبد الله القاضي: رفع الواقدي في رقعة إلى المأمون يذكر فيها غلبة الدين عليه، وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهرها: أنت رجل فيك خلتان الحياء والسخاء. فأما السخاء فهو الذي أطلق ما عندك وأما الحياء، فهو الذي منعك من إطلاعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بكذا وكذا، فإن أصبنا إرادتك فازدد في بسطتك وإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك. وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير إن خزائن الرزق مفتحة بإزاء العرش فمن أكثر كثر الله عليه ومن قلل قلل عليه. قال الواقدي: وكنت قد أنسيت هذا الحديث، فكان ما ذكر فيه أعجب إلي من جائزته. قال هارون: وبلغني أن جائزته كانت مائتي ألف درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 قال الواقدي: كان لي صديقان أحدهما هاشمي فنالتنا ضيقة، فقالت لي إمرأتي أنا نحن فنصبر إلى البؤس وأما صبياننا فقد قطعوا قلبي، فلو نظرت لهم في شيء تصرفه في صلاح شأنهم. فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة بما حضره، فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم. فما استقر قراره، حتى كتب إلي الصديق الآخر يذكر مثل شكواي، فوجهت إليه بالكيس كهيئته وخرجت إلى المسجد أبيت فيه حياء من امرأتي، ثم رجعت فاستحسنت فعلي إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال اصدقني عن الأمر فأخبرته، فقال: وجهت إلي وما أملك إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيس بخاتمي، قال فتواسينا الألف وقسمنا ما بيننا أثلاثاً بعد أن أخرجنا إلى المرأة مائة درهم، ونمى الخبر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الأمر فأمر لي بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا الفان وللمرأة ألف. وقد ذكر في رواية أخرى في هذا الخبر نحوه، وأن البرمكي وجه فيه وقال: رأيتك البارحة في المنام بحالة دلت على شدة، فاشرح لي أمرك فذكر له القصة. فقال: ما أدري أيكم أكرم وأمر لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين ألفاً، وقلدني القضاء، ولم يذكر فيها المأمون. قال الواقدي: لقيت أشعب يوماً فقال لي: يا ابن واقد، وجدت ديناراً فكيف أصنع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 قلت: تصرفه. قال: سبحان الله. ما أنت في علمك إلا في غرر. قلت: فما الخبر با أبا العلا. قال أشتري به قميصاً وأعرفه بقبا. قلت إذن لا يعرفه أحد. قال فذاك أريد. قال المؤلف رحمه الله تعالى كذا وجدت هذا الخبر عنه. ولا أدري من هذا أشعب، فإن أشعب الطماع متقدم عن زمن الواقدي، سمع من سالم بن عمر، وقد قال أهل هذا الباب لا يعرف بهذا الاسم غيره. وتوفي الواقدي ببغداد وهو على قضاء عسكر المهدي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع ومائتين، مولده سنة ثلاث ومائة. وصلى عليه محمد بن مسلم وأوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه. ؟؟؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمان التميمي الحنظلي مولاهم ويقال مولى بني منقر بن سعد بن عمر بن تميم النيسابوري. روى عن مالك الموطأ، وقيل إنه قرأه عليه، وهو الذي يدل عليه حديثه في صحيح مسلم وغيره، ولازمه مدة في الاقتداء به، وعده أبو عمر بن عبد البر في كتابه المنتقى في الفقهاء من أصحاب مالك، وروى عن الليث والحمادين وأبي عوانة وابن لهيعة وابن عيينة وهشيم وابن المبارك وزهير بن معاوية، وسليمان بن بلال وغيرهم. قال أبو عمر: وكان له مال بنيسابور وحظ في الفقه. وكان ثقة مأموناً مرضياً. روى عنه جماعة من أهل بلدنا وغيرهم من الأئمة. كإسحاق بن راهويه، والذهبي والبخاري ومسلم، وخرجا عنه في الصحيح كثيراً. قال ابن خلاد الرامهرمزي في كتابه الفاضل: ورحل يحيى إلى مصر والشام واليمن والعراق، وكان ابن حنبل يثني عليه، ويقول: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله. وكان من ورعه يشك في الحديث كثيراً حتى سموه الشكاك. وذكر من فضله وإتقانه أمراً عظيماً، وذكر نحوه أبو حاتم الرازي وأثنى عليه أبو زرعة الرازي ووثقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وقال إسحاق بن راهويه: لم أكتب العلم على أحد أوثق في نفسي منه. ومن الفضل بن موسى السناني. قال: وكان يحيى رجلاً عاقلاً. وقال: يحيى أثبت من ابن مهدي. وقال ما رأيت مثل يحيى بن يحيى. ولا أراه رأى مثل نفسه. قال محمد بن مسلم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له: عمن اكتب العلم؟ قال عن يحيى بن يحيى. قال أحمد بن عدي: وكان من العباد فاضلاً. قال يحيى بن الشهيد: ما رأيت محدثاً أورع من يحيى ولا أحسن لباساً منه. قال ابو بكر بن إسحاق: لم يكن بخراسان أعقل من يحيى بن يحيى. وكان أخذ تلك الشمائل من مالك بن أنس، أقام عليها لأخذها سنة بعد أن فرغ من سماعه، فقيل له في ذلك. فقال: إنما أقمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين. قال أبو أحمد بن عدي في معجمه: يقال أن إسحاق بن راهويه ركبه الدين، فركب ابن مروان إلى عبد الله بنيسابور، فكلم أصحاب الحديث يحيى بن يحيى في أمره. فقال ما تريدون؟ فقالوا له تكتب إلى عبد الله بن طاهر رقعة، وعبد الله أمير خراسان إذ ذاك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فقال يحيى: ما كتبت إليه، فألحوا عليه، فكتب في رقعة: إلى عبد الله بن طاهر، إسحاق بن إبراهيم رجل من أهل العلم والصلاح. فحمل إسحاق الرقعة إليه فلما جاء الباب فقال للحاجب: معي رقعة يحيى ابن يحيى إلى الأمير. فقال يحيى بن يحيى: قال نعم. قال: أدخله. فأدخله وناوله الرقعة فقبلها ابن طاهر وأقعد إسحاق بجنبه، وقضى دينه ثلاثين ألف درهم، وصيره في جلسائه، وكان لا يختلف إليه، وكان يحيى بن يحيى من المياسير، وذكر أنه أهدى هدية إلى مالك باع مالك من فضلتها بثمانين ألفاً. قال البخاري وتوفي ضحى يوم الأربعاء منسلخ صفر في سنة ست وعشرين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 انتهى الجزء الأول بحمد الله وحسن عونه. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الجزء الثاني من المدارك اعتمدنا في مقابلتنا لهذا الجزء على أجزاء أربعة مخطوطة مثل الجزء الأول، إلا أننا عوضنا الجزء الثاني من نسخة - ص - التي ينقصها جزء بجزء آخر موجود بمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة الأعظم دام عمرانه، مرقمة 3241. يقع هذا الجزء المنفرد من كتبا المدارك في 153 ورقة حجمه 19 - 25 من أحباش المشير أحمد باشا الأول باي تونس يبتدئ بترجمة عبد الله بن وهب، وينتهي بترجمة حبيب بن نصر بن سهل التميمي صاحب مظالم سحنون. خطه مغربي ضعيف، كثير الأنماط الرسمية، إلا أنه واضح مقروء. لا تاريخ لكتابها أو اسم الناسخ، إلا أنها تبدو من أقدم النسخ عندنا بتونس، وقد يرجعها بعض أصحاب الدراية إلى أواخر القرن الثامن أو أوائل التاسع. كتب على الوجه من الورقة الأولى قيمة الكتاب وهي: خمسون ريالاً. ثم نص الوقف مشهود عليه ببيان عدلين وطابع المشير أحمد باش باي الأول وآخر ما كتب فيه بعد ترجمة حبيب بن نصر، تعليق في ثلاثة أسطر على قول المؤلف قليل الفائدة. وفي أسفل الورقة بيتان من البردة وهي: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من إدم أشرنا إلى هذه النسخة في تحقيقنا للنصّ ب أ بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم من أهل الشام الوليد بن مسلم بن السائب أبو العباس، مولى بني أمية، دمشقي. قال ابن شعبان: له عن مالك ما لا يحصى كثرة. الموطأ والمسائل والحديث الكثير. يروي عن مالك وابن جريج والأوزاعي، وهو مختص به، والليث والثوري وعبد الرحمان بن يزيد ومسلمة بن علي وعمر بن جابر ويزيد بن جابر وأبي بكر بن أبي مريم وغيرهم، وروى عن شريك عشرة أحاديث. قال الألكاني: روى عنه الليث والحميدي وأحمد بن حنبل وابن المديني وأبو خيثمة وغيرهم، وروى عنه أيضاً اسحاق بن راهويه وهشام ابن عمار وصفوان بن صالح، وأخرج عنه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 قال أبو مسهر: رحم الله أبا العباس، لقد كان معتنياً بالعلم. وقال أحمد: هو ثقة في الحديث. قال يحيى: كان يدلس. قال أحمد: ليس أحد أروى لحديث الشاميين منه ومن إسماعيل بن عياش. قال الوليد: وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم يقصر الصلاة بمنى وعرفة. فأعاد سفيان الصلاة وأمها ابن جريج فأتيت المدينة وذكرت ذلك لمالك، فقال لي أصحابي والأمير: أخطأ سفيان وابن جريج، وأن الأوزاعي قال فيه مثله. فأتيت مصر، فذكرت ذلك للشافعي، فقال لي: أخطأ الأمير والأوزاعي ومالك وأصحاب سفيان وابن جريج. أما مالك فيرى القصر للحاج وإن كان من أهل مكة كما فعل الأمير، وقاله الأوزاعي ويقصر الناس معه من أهل مكة وغيرهم، وعند الشافعي يتمون وراءه المكيون. وهو قوله الثوري وابن حنبل وأهل الرأي. وقال الخطابي في إعادة سفيان لأنه يرى للمفترض أن يصلي خلف المنتفل، وصلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مكي، فاستأنف سفيان الصلاة، وهذا خلاف ما ذكر عنه في الاتمام، وفي روايته عن مالك شذوذ وغرابة. قال أحمد فيه: ثقة. وقال أحمد بن صالح الكوفي: قال البخاري وابن أبي خيثمة وابن وضاح. وتوفي سنة خمس وتسعين في منصرفه من الحج بذي المروة. وقال ابن شعبان وغيره: توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وماية. مولده سنة تسع عشرة وماية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى ابن مسهر الغساني الدمشقي قال أبو عمر المقرىء، أحمد بني كعب بن هند، قال أبو سفيان: روى عن مالك الموطأ وغيره من المسائل والحديث الكثير. قال ابن أبي حازم: سمع سعيد بن عبد العزيز وعبد الله بن العلاء بن زمر، وخالد بن يزيد بن صالح يروي عن أبي الجواري، وأبو زرعة الدمشقي ويحيى بن معين وأبو حاتم. قال ابن شعبان: ما رأيت مثله منذ خرجت من بلادي. أشبه بالمشيخة الذين أدركت من أبي مسهر. وهو ثقة. قال أبو حاتم: ما رأيت ممن كتبنا عنه الصحيح أثبت منه، وهو إمام. وقد خرج عنه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 قال ابن وضاح: كان فاضلاً ثقة. وقد روى عنه محمد بن يوسف السكري والنسائي وأبو داود. قال الزبيري: وقرأ القرآن على نافع وأيوب بن تميم، وروى عنه أبو زرعة الدمشقي وأبو عبيد بن سالم. قال ابن مفرج: وأبو مسهر سيد أهل الشام وفقيههم وعابدهم. قال ابن معين فيه: ثقة. قال الكوفي: هو ثقة. قال عبد الباقي بن الحسن: رجعت الإمامة بعد ابن ذكوان في القراءة، إلى أبي مسهر. وسأل أبا مسهر رجل عن مسألة فلم يجبه، ثم أعاد عليه فلم يجبه، ثم أعاد عليه فلم يجبه. فقيل له في ذلك فقال: سمعت مالكاً يقول من إذالة العلم أن تجيب كل من سألك. فصل في أخباره ونوادره وحديثه سئل أبو مسهر عن حديث بقية فقال: احذر الأحاديث بقية وكن منها على تقية، فإنها غير نقية. وكان على خاتمه مكتوب: عبد الأعلى قل الحق. وكان نقش خاتم أخيه علي أبرمت فقم. فكان إذا استثقل جليسه ناوله خاتمه ليقرأ نقشه، وحاجبه محمد بن عبد كلان فكتب إليه أبو مسهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 إني أتيتك للتسليم أحامل فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب وقد علمت بأني لم أردَّ ولا ... مارد إلا الإخا والعلم والأدب فأجابه: ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس ففي استقفائه أدب قال هارون بن موسى: دخلت علي أبي مسهر وكان مستلقياً على قفاه فترنم بقول الشاعر: يمسي الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا نزل الداء الذي هو قاتله ذكر محنته قال موسى بن الحسن: سمعت أبا مسهر وقد وجه به المأمون إلى اسحاق ابن إبراهيم ببغداد فأحضر له اسحاق جماعة ليقرّ بكتاب المحنة الذي كتبه المأمون في خلق القرآن، ونفي الرؤية وعذاب القبر، وإن الميزان ليس بكفتين وإن الجنة والنار غير مخلوقتين. فلما قرىء الكتاب على أبي مسهر قال: أنا منكر لجميع ما في كتابكم هذا. بعد مجالسة مالك والثوري ومشائخ أهل العلم: إذاً لا أكفر بالله بعد إحدى وتسعين، ولا أقول القرآن مخلوق ولا أنكر عذاب القبر ولا الموازين إنها كفتان ولا أن الله يرى في القيامة ولا أن الله تعالى على عرشه، وعلمه قد أحاط بكل شيء، علماً نزل بذلك القرآن وجاءت به الأخبار التي نقلها أهل العلم فإن كانوا متهمين في القرآن فهم الذين تلقوا القرآن والسنن عن رسول اله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 فجر برجله وطرح في أضيق المحابس فما أقام إلا يسيراً حتى توفي رحمه الله تعالى. فحضر جنازته من الخلق ما لا يحصيهم إلا الله. وقال أبو داود في المحنة فلم يجب. وقال أبو جعفر الطبري: حمل أبو مسهر إلى المأمون بالرقة للمحنة في القرآن، فلم يجبه. فدعا له بالسيف والنطع ليقتله. فلما رأى ذلك قال: مخلوق. فتركه فلم يقتله، وأشخصه إلى بغداد في ربيع الآخر سنة ثمان عشرة. فحبس فلم يلبث إلى يسيراً حتى مات في غرة رجب من السنة المذكورة. وذكر البلخي أن المأمون لما ورد دمشق ذكر له أبو مسهر ووصف بالعلم والفقه، فأحضره وناظره في القرآن ثم سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم هل أختلف. فقال: لا أدري. فسبّه وأقامه وهذا إنما فعله المأمون به عداوة لمخالفته إياه في القرآن. ومن قال لا أدري فقد أنصف. وقيل لأبي مسهر في الرجل يصحف ويخطىء ويهم في الحديث. فقال: بيّن أمره. فقيل له: أذلك عيب؟ قال لا. توفي فيما قاله الطبري والبراني والبخاري: سنة ثمان عشرة ومائتين وقال ابن مفرج: سنة عشرة. مولده سنة أربعين ومائة ونحوه قال البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 مروان بن محمد بن حسان الأسد الظاهري دمشقي صحب مالكاً وروى عنه حديثاً ومسائل كثيرة وعن الليث بن سعد وسعيد بن عبد العزيز ومعاوية بن سلام. قال ابن وضاح: مروان بن محمد كبير فاضل. قال ابن معين: ومن كان مرجئاً بدمشق عليه عمامة، ومن لم يكن مرجئاً لم يعتم. قال البخاري: وإنما قيل له الظاهري لثياب نسب إليها. سمع معاوية بن سلام وخرّج عنه مسلم في الصحيح وأبو داود وغيرهما من الأئمة وضعفه بعضهم. حدث عنه الهيثم بن خارجة ومحمود بن خالد وأحمد ابن أبي الجواري والرازي وأحمد بن أبي الأزهر النيسابوري، وسلمة بن شيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 روى عنه انه قال: ثلاثة لا يؤتمنون في دين: الصوفي والقصاص ومبتدع يرد على أهل الأهواء وابنه إبراهيم بن مروان بن محمد يروي عن أبيه، كتب عنه أبو حامد الرازي وقال: كان صدوقاً قال البخاري: مات مروان سنة عشر ومائتين وقال غيره سنة ست عشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 إسحاق بن عيسى بن نجيح أبو يعقوب المعروف بابن الطباع وهم ثلاثة أخوة: محمد ويوسف وأسحق سمع أسحق مالك بن أنس وصحبه وسمع شريك بن عبد الله وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم وأبا ضمر أنس بن عياض روى عنه ابن أخيه محمد بن يوسف بن حنبلي وأسحق ابن بهلول ويعقوب بن شيبة وعباس الدوري، والحارث بن أسامة والحسن ابن مكرم، ومسلم بن الحجاج، وخرّج عنه في صحيحه وغيرهم قال الخطيب أبو بكر كان قد انتقل آخره عمره إلى أذن، فأقام بها إلى أن مات سئل عنه صالح بن محمد فقال: لا بأس به صدوق وقال محمد بن سعد: توفي سنة خمس عشرة ومائتين أسحاق بن الطباع الفقيه وقال ابن سنة أربع عشرة قال أبو بكر الحافظ والأول أصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 من أهل مصر عبد الله بن وهب بن مسلم القريش مولاهم مولى يزيد بن رمانة ويقال، بني فهر قاله البادي وقال الدارقطني: مولى يزيد بن ربابة مولى يزيد أنس الفري وقال أبو عمر الكندي مولى يزيد بن رمانة، مولى آل شيبان بن محارب بن فهر قال وقد اختلف في ولائه فقيل أن ابن رمانة مولى امرأة من الأنصار من بني بياضة كان زوجها فهرياً قال غيره فرجع ولاؤه إلى بنيه بسببها قال البخاري: هو مولى رمانة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وقال ابن حاتم مولى ابن رمانة مولى فهر وقال ابن شعبان وابن عبد البر: مولى ريحانة مولاة لأبي عبد الرحمان يزيد ابن أنس الفري قال الكندي: وكان ابن وهب زعموا ربما قال: الأنصاري، ربما قال القرشي، ثم ثبت على القرشي وذكر نحوه ابن محبر هكذا وقال ابن بكير: وجدت شهادته في صك، الأنصاري قال أبو الطاهر: كان مسلم جده بربرياً روى عن مالك والليث وابن أبي ذئب، ويونس بن يزيد والثوري وابن عيينة وابن جريح وابن أنعم، وعبد العزيز بن الماجشون ويحيى بن أيوب ونحو أربعمائة شيخ من المصريين والحجازيين والعراقيين وقرأ على نافع، وروى عنه الليث وصرح باسمه. وقيل أن مالكاً روى عنه عن ابن لهيعة حديث العرباض ومن أروى الناس عنه أصبغ بن الفرج، الحنون وأحمد بن صالح وابن بكير، ويونس وأبو الطاهر وقتيبة وابن غفير والوقار والقراطيسي، والحارث بن مسكين، وبنو عبد الحكم وحرملة وأبو مصعب الزهري وغيري واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 قال الشيرازي تقفه بمالك وعبد الملك بن الماجون وابن أبي حازم، وابن دينار والمغيرة والليث قال حرملة سمعت ابن وهب يقول لقيت ثلائمائة عالم وستين عالماً، ولولا مالك والليث لضللت في العلم وقال: أدركت من أصحاب ابن شهاب أكثر من عشرين رجلاً وقد حدث الليث عن ابن وهب بحديث كثير قال أبو الطاهر سمع ابن وهب من مالك قبل ابن القاسم ببضع عشرة سنة وصحب مالكاً من سنة ثمان وأربعين إلى مات ولم يشاهد ابن وهب موته، كان يخرج للحج وقال ابن وضاح حج ابن وهب سنة أربع وأربعين وفيها لقي مالكاً أولاً، ولم يسمع منه إلا مسألة واحدة، وسمع فيها من المثنى بن الصباح بمكة، والمسألة التي سمع من مالك في الجمع في المطر بين العشاءين وقد أرسل إليه الوالي في ذلك وكان مطراً يسيراً فأمره بالجمع قال الشيرازي صحب ابن وهب مالكاً عشرين سنة قال ابن وضاح: وسمع العلم صغيراً ابن ست عشرة سنة وذكر ابن الحنون عنه أنه قال طلب العلم ابن سبع عشرة سنة. ذكر مكانته في العلم والفقه والحديث وسماع الإجلاء عليه قال أبو عمر: يقولون إن مالكاً لم يكتب لأحد بالفقيه، إلا إلى ابن وهب وقاله ابن وضاح وكان يكتب إليه: عبد الله بن وهب فقيه مصر قال الشيرازي: كان مالك يكتب إليه: إلى أبي محمد المفتي وحكى مثله أبو الطاهر، زاد ولم يكن يفعل هذا لغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وقال مالك: ابن وهب إمام وقال: ابن وهب عالم ونظر إليه يوماً فقال: أي فتى لولا الإكثار. وقال أحمد بن حنبل: ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم وقال أيضاً ابن وهب صحيح الحديث عن مشايخه الذين روى عنهم بفضل السماع من العرض والحديث من الحديث، ما أصح حديثه وقال أيضاً ما أصح حديثه وأعرفه بالإسلامي إلا أن الذين حملوا عنه لم يضبطوا، إلا هارون ابن معروف وقال يوسف بن عدي: ما أدركته الناس: فقيهاً غير محدث، ومحدثاً غير فقيه، خلا عبد الله بن وهب فإني رأيته فقيهاً محدثاً زاهداً. قال أبو مصعب: كنا إذا شككنا في شيء من رأي مالك بعد موته كتب ابن دينار والمغيرة وكبار أصحابه إلى ابن وهب فيأتيناً جوابه قال ابن حنبلي أخبرنا من رأي ابن أبي حازم يعرض له ابن وهب، رأي مال قال هارون القاضي الزهري: كان أصحاب مالك بالمدنية يختلفون في قول مالك بعد موته فينتظرون قدوم ابن وهب فيصدرون عن رأيه وقال ابن وضاح: كان أهل الحجاز يحتاجون إلى ابن وهب في علم الحجاز، وأهل العراق، يحتاجون إليه في علم أهل العراق وكان عنده علم كثير ونعي إلى ابن عيينة فترحم عليه وقال: أصيب به المسلمون عامة وأصبت به أنا خاصة وقال ابن رشدين: ابن وهب أعلم من ابن القاسم بكثير وقال مالك وقد قام عنه: كذا يكون أهل العلم، لما رأى من تخشع وقال له سيفان: أنت ابن وهب المصري قال: نعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 قال له: ما زلت أعرف مكانك من الإسلام منذ بلغني عنك قول يحيى بن معين ابن وهب ثقة. قال أحمد بن خاله: كان ابن وهب من الفضلاء الكبار وممن يضبط ويحسن وكان ابن القاسم يقول: حدثني أوثق أصحابه، يريده وقال ابن رشدين قال لي الحسن بن توبان وزاد: لئن عاش هذا الفتى ليكون أمام هذا العصر إن شاء الله تعالى قال أحمد بن صالح: ليس أحد من خلق الله أكبر في ملكه من ابن نافع وابن وهب وابن نافع أحب إلى أحمد وابن وهب المقدم في كثرة العلم والمسائل لم يكن مالك يتكلم بشيء إلا كتبه ابن وهب وكان ابن وهب يتساهل في المشايخ ولو أخذ بما أخذ مالك كان خيراً له قال أحمد بن صالح: حديث ابن وهب مائة ألف حديث وما رأيت أكثر منه وقع عندنا في حديثه سبعون ألفاً. قال أبو زرعة: نظرت من حديث ابن وهب نحو ثمانين ألف حديث فما رأيت له حديثاً لا أصل له وهو ثقة وهوأفقه من ابن القاسم وقال الكوفي هو ثقة صاحب سنة وآثار، رجل صالح وقال محمد بن عبد الحكم: هو أثبت الناس في مالك وسأل رجل علي بن معبد عن مسألة، وكان بالإسكندرية مرابطاً، فقال: ما كنت لأجيب بموضع فيه ابن وهب، فأذهب فأسأله قال محمد بن الحسين، كان ابن وهب في عصره محدث بلده، وكان عبداً صالحاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 قال محمد بن عبد الحكم وابن بكير كان ابن وهب أقفه من ابن القاسم إلا أنه كان يمنعه الورع من إلفنا وقال ابن وضاح: كان علم ابن وهب أحب المناسك، وعلم ابن القاسم البيع وقال أبو حاتم الرازي: ابن وهب أحب إليّ من ابن نافع ومن الوليد بن مسلم، وهو أصح حديثاً من الوليد بكثير، وابن وهب صالح الحديث صدوق قال ابن معين والنسائي: ابن وهب ثقة وقال ابن معين: هو ثقة إلا أنه روى عن الضعفاء وسئل: لم تركت ابن القاسم ورويت عن ابن وهب؟ قال: كان ابن القاسم فاضلاً، ولكن ابن وهب صاحب آثار. وخرج عنه البخاري ومسلم وكان أبو مصعب يعظم ابن وهب، وسمع مسائله عن مالك وكان يقول: هي صحيحة وقال أصبغ: ابن وهب أعلم أصحاب مالك بالسنين والآثار وقال عبد الرحمان بن محمد السهمي: رأيت مالكاً في النوم على بغلة فأخذت بلجامها لأسأله عن اختلاف قوله، فتأبّى عليّ، وقال: كأن تسأل عن اللؤلؤ والجوهر المكنون؟ قلت نعم. قال عليك بكتاب ابن وهب القديم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 قال الحارث: جمع ابن وهب الفقه والرواية والعبادة، وكان إماماً ورزق من العلماء محبة، وحظوة من مالك وغيره. وما أتيته قط إلا وأنا أفيد منه خيراً. قال أبو زيد بن أبي الغمر: سمعت ابن وهب يقول: حججت أربعاً وعشرين حجة ألقى فيها مالكاً قال أبو زيد: وكنا نسمي ابن وهب ديوان العلم. قال حرملة: رأيت كتاب مالك، إلى ابن وهب مفتي مصر. قالوا وما من أحد إلا زجره مالك إلا ابن وهب، فإنه كان يعظمه ويحبه. وكان ابن القاسم يقول: لو مات ابن عيينة لضربت إلى ابن وهب أكباد الإبل، ما دوَّن أحد العلم تدوينه. قال يونس: ما رأيت أبا الحسن الإسكندراني قال لابن وهب قط إلا: يا عم. ولقد كانت تلك المشيخة إذا رأت ابن وهب خضعت له. قال أبو الطاهر: وقيل لابن وهب في المسائل الجدد، فقال: أدع أنا السائل القدم التي قرأناها عليه وهو نشيط لها حتى أنه ربما محا لي بكمه من كتابي. قال ابن أخيه: كنت معه بالإسكندرية مرابطاً، فاجتمع الناس عليه يسألونه نشر العلم، فقال لي: هذا بلد عبادة. وقال ما أمهد لنفسي فيه مع شغل الناس. فترك الجلوس لهم في الأوقات التي كان يجلس، وأقبل على العبادة والحراسة، فبعد يومين أتاه إنسان فأخبره، أنه رأى نفسه في المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وأبو بكر عن يمينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وعمر عن شماله وأنت بين يديه وفي المسجد قناديل تزهر أحسن شيء وأشدها ضياء، إذا طفيت منها قنديلاً فانطفأ. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبد الله أوقده، فأوقدته ثم آخر كذلك ثم أقمت أياماً فرأيت القناديل كلها همت أن تطفأ، فقال أبو بكر يا رسول الله: أما ترى هذه القناديل. فقال صلى الله عليه وسلم: هذا عمل عبد الله يريد أن يطفيها. فبكى ابن وهب وقال له الرجل جئت لأبشرك ولو علمت أنه يغمك لم أأتك. فقال: خير. هذه الرؤيا وعظت بها نفسي ظننت أن العبادة أفضل من نشر العلم. فترك كثيراً من عمله للعلم، وحبس نفسه لهم يقرأون عليه ويسألونه. ذكر مذهبه في الرواية قال ابن وهب: كل شيء في كتبي كتب إليّ مالك فقد سمعته منه. وكانت له منه خاصة. قال ابن وهب سألت مالكاً أن يخليني في شيء يعرضه لي ففعل. فأنا عنده اقرأه عليه إذ استأذن عليه عبد الصمد الهاشمي والي المدينة، فسأله مثل ما سألته، فأبي وقال: قد أرداني الخليفة على هذا فلم أجبه. فقلت في نفسي: كيف لم يحتج عليه بي. قال ابن وهب كنت بين يدي مالك أكتب فأقيمت الصلاة، وفي رواية فأذن المؤذن وبين يديه كتب منشورة، فبادرت لأجمعها فقال لي على رسلك. فليس ما تقدم إليه بأفضل ما أنت فيه، إذا صحت فيه النية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قال ابن وهب: قال لي مالك: ما خلفك عنا منذ ليال. فقال: كنت أرمد. قال مالك: أحسب من كتب الليل. قلت أجل. فصاح مالك بالجارية هاتي من ذلك الكحل لصديقي المصري ابن وهب. قال إسماعيل ابن قعنب: كنت مه ابن وهب عند مالك فكانت الهدية تأتي إلى مالك بالنهار ويهديها إلى ابن وهب باللّيل. قال ابن وهب دخلت المسجد فإذا الناس يزدحمون علي ابن سمعان وهشام بن عروة جالس فقلت اسمع من هذا وأصغي إليه، فلما فرغت قام، فأتيت منزله فقيل هو راقد. فقلت أحجّ وأرجع إليه، فرجعت وقد مات. وقيل لابن وهب: ابن القاسم يخالفك في أشياء. فقال: جاء ابن القاسم إلى مالك وقد ضعف. وكنت أنا آتي مالك وهو شاب قوي، يأخذ كتابي فيقرأ منه، وربما وجد فيه الخطأ فيأخذ خرقة بين يديه فيبلها في الماء فيمحوه، ويكتب لي الصواب. قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيرني. فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا. قال نعيم بن حماد: كان ابن وهب جعل للغرباء يوم الثلاثاء، فيقرأون عليه فيأتي الداخل وقد بقي عليه من الكتاب الذي يقرأ شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فيقول أجزه لي. فيجيبه ويفعل ذلك بغير واحد حتى يقوم إليه فيسأله عن الحديث فيقول: الساعة قرىء هذا. فيقول أنا أن قرأنا عليك قلنا قرأنا على أبي محمد، وإن قرىء ونحن حضور قلنا قرىء على أبي محمد، ونحن حضور. وكان لنا حسن الخلق. فيقول لم نكن نأخذ الحديث كما نريد. قال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بعد موته بثلاثمائة دينار. وفي رواية أخرى ستين، وأصحابنا متوافرون. وكان أبي وصيّه فلم ينكر ذلك أحد. ولولا أنه أوصى بعضهم أن لا يزيد لبلغت أكثر. وروي أنه دفع لإحدى زوجتيه من ثمنها ثمانون ديناراً، ولم يورث بولد. وهذا الحساب أكثر من الأول والله أعلم. ذكره في المبسوطة، قال أبو زيد: اجتمع ابن وهب وابن القاسم واشهب على أني إذا أخذت الكتاب من المحدث أن أقول فيه: أخبرني. وقيل لابن حنبل وقد أثني على حديثه: أليس كان سيء الأخذ؟ قال: نعم. ولكن إن نظرت إلى حديثه وما أخذ عن شيوخه وجدته صحيحاً. باب في غير شيء من أخباره قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم فولع بي الشيطان في ذكر عيسى عليه السلام، وكيف خلقه الله فشكوت ذلك إلى شيخ، فقال لي: اطلب العلم. فكان سبب طلبي. وقال حسين بن عاصم كنت عند ابن وهب فوقف على الحلقة سائل، فقال يا أبا محمد، الدرهم الذي أعطيتني بالأمس زائف فقال يا هذا إنما كانت بأيدينا عارية. فغضب السائل وقال صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الله على محمد. هذا الزمان الذي كان يحدث به أنه لا يلي الصدقات إلا المنافقون من هذه الأمة. فقام رجل من أهل العراق فلطم المسكين لطمة خرج منها لوجهه. فجعل يصيح يا أبا محمد يا إمام المسلمين يفعل بي هذا في مجلسك. فقال ابن وهب: ومن فعل هذا؟ قال العراقي أنا أصلحك الله. فعلته للحديث الذي حدثتنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حمى لحم مؤمن من منافق يغتابه حمى الله لحمه من النار وأنت مصباحنا وضياؤنا. يغتابك في وجوهنا؟ فقال: لأحدثنكم بحديث. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الزمان يكون مساكين يقال لهم الغناة كذا لا يتوضأون لصلاة ولا يغتسلون من جنابة، يخرج الناس من مساجدهم وأعيادهم يسألون الله من فضله، ويخرجون يسألون الناس، يرون حقوقهم على الناس، ولا يرون حقوقهم عليهم حقاً. وكان ابن وهب يقول: من قال في موعد إن شاء الله فليس عليه شيء. وطلب ابن وهب من مالك كحلاً، فقال لجاريته أعطي من الكحل لصديقي المصري. قال فأتوه بأنبوبة أو أنبوبتين. قال الربيع صاحب الشافعي: جئنا عبد الله بن وهب للسماع واجتمع على بابه خلق كثير، فقام ليفتح، فلما فتح ازدحمنا للدخول فسقط وشج وجهه، فقال ما هذا إلا الخفّة وقلة الوقار ونحو هذا، والله لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 أسمعتكم اليوم حرفاً. ثم قعد وقعدنا. فلما رأى ما بنا من الهدوء، قال أين سكينة العلم، إنما أنا أكفِّر عن يميني وأسمعكم، فكفّر وأسمعنا. ونظر ابن وهب إلى رجل يمضغ اللبان فقال له: إنه يقسي القلب ويضعف البصر ويكثر القمل. قال ابن وهب: كنت أصلي في المسجد بالإسكندرية فسمعت العلا بن كثير يقول لأصحابه: ما منكم من يقترف هذا الفتى فيزوجه ابنته، تفرسنا فيه. قال سحنون: نذر ابن وهب أن لا يصوم يوم عرفة، أبداً. وذلك أنه صام مرة فاشتد عليه الحر والعطش في الموقف قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا انتظر الإفطار. قال ابن وهب: قال لي مالك: لا تترك أحداً من أهل الكتاب يعلم المسلمين. قال ابن وهب: وكان معلمي نصرانياً. قال يحيى بن يحيى: سمعت ابن وهب يحدث بحديث فيه: بعد العشرين ومائة ليربّي أحدكم جرواً خيراً له من أن يربي ولداً. فاستنكرت ذلك عليه. فقال له: يا أبا محمد ما أراك فيما أتاك الله من فضله ولدت إلا بعد هذا الرجل. فقال لي: نعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 فوالله ما عاد إلى ذكر الحديث حتى فارقته. قال يحيى ولم كان أحد يسلم من عيب الإكثار لسلم منها ابن وهب. وقال النسائي: لا بأس به، إلا أنه تساهل في الأخذ تساهلاً شديداً. قال ابن سعيد: وكان يدلس. قال سعيد بن منصور: وكان عبد الله بن وهب يسمع معنا عند المشايخ؛ فكان ينام في المجالس ثم يأخذ الكتب من بعضنا فيكتبها. قالوا وهو أول من فرق بمصر بين نا وأنا. ؟ ذكر عبادته وزهده وخوفه ووفاته قال أبو عمر: كان ابن وهب صالحاً خائفاً لله. قال غيره: كان كثير الحج. قال سحنون: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثاً، ثلثاً في الرباط، وثلثاً يعلم الناس بمصر. وثلثاً في الحج. وذكر أنه حج ستاً وثلاثين حجة. قال ابن وهب جعلت على نفسي كلما اغتبت إنساناً صيام يوم، فهان علي، فجعلت عليها إذا اغتبت إنساناً علي صدقة درهم فثقل علي ّوتركت الغيبة. قال أبو جعفر الأيلي: قال ابن وهب: ما من ليلة تمر إلا وأنا استهولها واذكر بها هول الآخرة، ولما طلب لقضاء مصر، استخفى عند حرملة سنة وأشهراً. قال الحجاج بن رشدين: فأشرفت عليه من غرفتي وكانت تحاذيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن بينا أنا أرجو أن أحشر في زمرة العلماء أحشر في زمرة القضاة. قال ابن أخيه: ما رأيت قط أزهد في الدنيا منه. كان ينهدم عليه بعض بنيانه فلم يصلحه، وما بنى قط شيئاً، ولا رأيت أكثر رباطاً منه. قال: وشهدت عبد الله ابن وهب يقرأ عليه في منزله كتاب الأهوال الذي كان يرويه أنه بلغه عن أبي هريرة وشهده أبو أسامة البكاء فأخذ في البكاء، ثم أن أبا أسامة قام بتلك الرِّقة وابن وهب على حاله والقارىء يقرأ وابن وهب ينشج رافعاً صوته، حتى أني لأحسب من كان على خمسين ذراعاً يسمعه، فلم يزل كذلك حتى مال على الحائط الذي كان مستنداً إليه، ثم احتمل إلى منزله فلم يزل على حاله لا يعقل، حتى توفي. فكنا نرى أن قلبه انصدع قال يونس. قال ابن وهب: إن أصحاب الحديث طلبوا مني أن أسمعهم صفة الجنة والنار، وما أدري القدر على ذلك ثم قعد لهم فقرأوا عليه صفة النار، فغشى عليه ورش بالماء وجهه فقيل اقرأوا عليه صفة الجنة، فلم يفق وبقي كذلك اثني عشر يوماً فدعي له طبيب فنظر إليه فقال: هذا رجل انصدع قلبه. وكانت وفاته بمصر سنة سبع وتسعين ومائة. فيما قاله أحمد ابن صالح وأبو محمد الكندي. قال ابن الجزار: يوم الأحد لخمس بقين من شعبان منها وقيل سنة ثمان وتسعين وقال الباجي: سنة تسعين. والأول أصح وأشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وقال ابن سحنون: الثابت أنه مات سنة ست وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقيل ابن خمس وسبعين سنة. وقيل ابن ثمانين. ولد بمصر سنة أربع وعشرين ومائة وقيل سنة خمس وعشرين قال أبو اسحاق: وكان أسنّ من ابن القاسم بثلاث سنين، وعاش بعده خمس سنين. قال ابن أخيه لما توفي ابن وهب رأى رجل في المنام تلك الليلة أنه قيل له مات الليلة أربعمائة عالم. فلما انتبه سمع النوح، فسأل فقيل له: مات ابن وهب قال وكان ابن وهب روى أربعمائة عالم قال الطباع فلما غسلوا ابن وهب وجدوا فيه رطبة وصلى عليه عبّاد والي مصر. قال أبو بشر بن قعنب رايت ليلة مايت ابن وهب كأن مائدة العلم رفعت. قال الطباع وغيره: وبيعت كتبه بعد موته، فبلغت خمسمائة دينار قال محمد بن عبد الحكمصى ابن وهب إلى أبي في كفّارة الأيمان، وأمره فيها بمّدين مدّين، وأوصى إليه بها ابن القاسم بمدّ بمدّ. وألف تآليف كثيرة جليلة المقدار عظيمة المنفعة منها سماعه على مالك، ثلاثون كتاباً. موطأه الكبير وجامعه الكبير وكتاب الأهوال وبعضهم يضيفها إلى الجامع، وكتاب تفسير الموطأ، وكتاب البيعة وكتاب لا هام ولا صفر. وكتاب المناسك. وكتاب المغازي. وكتاب الردة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وله أخ اسمه عبد الرحمان والد أحمد، وعبد العزيز. وأخ اسمه عمر بن وهب، قيل: له حديث وما أعرفه. توفي في محرم سنة سبع وتسعين ومائة. قال ابن يونس: وكان ابن اسمه حميد. ذكر الكندي أنه كان مقبولاً عند قضاة مصر، قال الطحاوي وكانت فيه بطالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 عبد الرحمان بن القاسم العتقي قال أبو عمر الكندي في كتابه موالي مصر: كنيته أبو عبد الله، وهو عبد الرحمان بن القاسم بن خالد ابن جنادة. كذا ضبطه الدارقطني والأمير، ونقله الباجي: جبارة وهو وهم، مولى زبيد بن الحارث العتقي. وكان زبيد في حجر حميد، وذلك أن العتقاء جماع فيهم من حجر حميد، ومن سعد العشيرة، ومن كنانة مصر وغيرهم. قال ابن وضاح: وأصله من الشام من فلسطين، من مدينة الرملة. وسكن مصر، قال الدارقطني: وله بمصر مسجد يعرف بمسجد العتقي. قال ابن الحارث: وهو منسوب إلى العبيد الذين نزلوا من الطائف إلى النبي صلى الله عيه وسلم، فجعلهم أحراراً. وكان أبوه في الديوان وعنه ورث ابن القاسم المال الذي أنفقه في رحلته إلى مالك، وأعطى سعداً منها خمسين ديناراً. وسمعت أنه خرج عن مورثه كله منه لأجل ذلك وروى عن الليث وعبد العزيز ابن الماجشون، ومسلم ابن خالد الزنجي، وبكر ابن مضر وابن الداروردي، وابن زبيد وابن أبي حازم وسعد وعبد الرحيم وعثمان ابن الحكم وغير واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وروى عنه أصبغ وسحنون وعيسى بن دينار، والحارث ابن مسكين وعيسى بن تليد ويحيى ابن يحيى الأندلسي، وأبو زيد ابن أبي الغمر ومحمد بن المواز وأبو ثابت المدني ومحمد عبد الحكم وأكثر روايات محمد بن المواز وابن عبد الحكم عن رجل عنه وخرج عنه البخاري. ثناء الأجلاء عليه قال الكندي في ذكر ابن القاسم لمالك، فقال: عافاه الله، مثله كمثل جراب مملوء مسكاً. وقال الدارقطني: ابن القاسم صاحب مالك من كبار المصريين وفقهائهم. قال أبو عمر بن عبد البر كان قد غلب عليه الرأي وكان رجلاً صالحاً مقلاً صابراً، وروايته في الموطأ صحيحة قليلة الخطأ. وكان فيما رواه عن مالك متقناً حسن الضبط. سئل مالك عنه وعن ابن وهب، فقال ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه. قال ابن معين: هو ثقة. قال أبو زرعة: هو ثقة رجل صالح كان عنده ثلاثمائة جلد عن مالك من المسائل أو نحوها. سأله عنها أسد، وذكر باقي القصة وستأتي بعد. وقال النسائي: ومن فقهاء الأمصار بمصر عبد الرحمان بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز. وقال النسائي: ابن القاسم ثقة رجل صالح، سبحان الله ما أحسن حديثه وأصحّه عن مالك، ليس يختلف في كلمة أحد ولم يرو أحد الموطأ عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 مالك أثبت من ابن القاسم، وليس أحد من أصحاب مالك عندي مثله. قيل له: فأشهب؟ قال: ولا أشهب ولا غيره، هو عجب من العجب، الفضل والزهد وصحة الرواية وحسن الدراية وحسن الحديث، حديثه يشهد له. وقال ابن وهب لأبي ثابت: إن أردت هذا الشأن، يعني فقه مالك، فعليك بابن القاسم، فإنه انفرد به وشغلنا بغيره. وبهذا الطريق رجح القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي مسائل المدونة لرواية سحنون لها عن ابن القاسم، وانفراد ابن القاسم بمالك وطول صحبته له، وأنه لم يخلط به غيره إلا في شيء يسير. ثم كون سحنون أيضاً مع ابن القاسم فهذه السبيل ما كان عليه من الفضل والعلم. قال يحيى بن يحيى: كان ابن القاسم أحدث أصحاب مالك بمصر منا، وأحدثهم طلباً وأعلمهم بعلم مالك وآمنهم عليه. قال ابن الحارث: هو أفقه الناس بمذهب مالك. قال: وسمعنا شيوخنا يفضلون ابن القاسم على جميع أصحابه في علم البيوع. وقال له مالك اتق الله وعليك بنشر هذا العلم. قال أبو عبد الله بن أبي صبرة: لم يقعد إلى مالك مثله. يعني ابن القاسم. قال وكان الأصيلي يقول ذلك فيه، وقال الحارث بن مسكين: كان في ابن القاسم الزهد والعلم والسخاء والشجاعة والإجابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 قال أحمد بن خالد: لم يكن عند ابن القاسم إلا الموطأ، وسماعه من مالك كان يحفظها حفظاً. قال أحمد: إلا أنه كان لا يحسن يقرأ. غاب القارئ يوماً، فاحتاج إلى أن يقرأ فما تم صفحة حتى أحمرّ وجهه، ولم يقدر على شيء: وقال: انظروا من يقرأ لكم، ورمى بالكتاب. وسئل أشهب عن ابن القاسم وابن وهب فقال: لو قطعت رجل ابن القاسم لكانت أفقه من ابن وهب. وكان ما بين أشهب وابن القاسم متباعد، فلم يمنعه ذلك من قول الحق فيه. قال أبو الطاهر: أخبرني خالي وكان من المجتهدين ومن أهل العلم، رأيت في المنام كأن قائلاً يقول لا يفتي الناس إلا ابن وهب وابن القاسم المهذّب ثم رأيت ذلك بعد حول. قال ابن وضاح: لم يخرج لمالك وعبد العزيز مثل أشهب وابن القاسم وابن وهب. كان علم أشهب الجراح، وعلم ابن القاسم البيوع، وعلن ابن وهب المناسك. وقال أبو اسحاق الشيرازي: جمع بين الفقه والورع. صحب مالكاً عشرين سنة، وتفقه به وبنظرائه. قال ابن الحارث، وذكر ابن القاسم واقتصاره على مالك قال: سمع من سفيان أن أحاديث يكتبها في الواحد، ثم سمع من مالك شيئاً فمحا تلك وكتب ما سمع من مالك. قال الحارث: قلت لابن القاسم: أخبرني بالرؤيا التي بلغني أنك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 رأيتها سنة كذا. قال ولا تخبر بها أحداً، رأيت كأنه يقول لي: إن الله يصلي عليك وعلى سعيد بن زكريا. يعني سعيد الأدم. قال بعضهم وقف أشهب على قبر ابن القاسم فقال: رحمك الله يا عبد الله قد - كنا نترك كثيراً خوفاً من نقدك فسنهلك بعدك. ذكر ابتداء طلبه وسيرته في ذلك قال ابن وضاح: سمع ابن القاسم من الشاميين والمصريين وإنما طلب وهو كبير ولم يخرج لمالك حتى سمع من المصريين. وأنفق في سفرته إلى مالك ألف مثقال. قال سحنون عنه: ما خرجت لمالك إلا وأنا عالم بقوله. وقال له - لابنه موسى بن عبد الرحمان -: إلا أخبرك كيف طلبت العلم؟ قال: بلى. قال: كان لي أخ فنازع رجلاً فسار إلى السلطان فتبعته حتى أتياه، فأمر بأخي إلى السجن فتبعته، فدخلت المسجد وعليّ نعل سندي، ومعصفرة. فإذا حلق الناس يتلاقون العلم، فبهت فيهم وشغلت عن الذهاب إلى أخي. فرجعت إلى المنزل وأخذت حذاء ورداء آخر غير الأول، فأتيت المسجد فجلست فيه، وحدي أنظر إلى الناس، فانصرفت فقمت فأتاني آت فقال لي: إن أحببت العلم فعليك بعالم الآفاق. قلت ومن عالم الآفاق؟ قيل لي هذا الشيخ فإذا شيخ أشقر طوال حسن اللحية فاستيقظت وقد مضى أكثر شوال، فاكتريت إلى مكة وحججت مع الناس فلما أتينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 المدينة اغتسلت ودخلت إلى المسجد، ونظرت فإذا انا بالصفة التي رأيت في المنام، وإذا هو مالك ابن أنس والناس يعرضون عليه، فعرفته إنه الذي قيل لي في النوم أنه عالم بالآفاق، فلزمته. وقال إصبع: قال ابن القاسم حملتاأحاديث المصريين فوقع في نفسي طلب الفقه، فاتيت أبا شريح وكان صالحاً حكيماً، فاستشريته وقلت له: أردت أن أشخص إلى مالك، فقال لي: ما أحسن الفقه، وإن كان أهله يعتريهم الكبر، ولكن اطلب فإن توسد العلم خير من توسد الجهل. قال: ترنمت بأثر ذلك فرأيت في منامي كان عقاباً انقض على راسي. وقال غيره: كأن بازياً رفرف على رأسه او على حجره، فأخذه فبقر جوفه. فقال له قائل: لا تضيع جوفه فإن حشوه جوهر. وفي رواية فجعلت ابتلعه حتى أتيت عليه. فعبر الرؤيا على أبي شريح. قال غيره: وعلى رجل كان بصيراً بالعبادة يقال إنه زين بن شعيب، فقال: البازي سيد الطير والجوهر العلم، هذا عالم أمرت أن تأخذ من علمه وإن تأتيه. وفي حديث أصبغ: العقاب سيد الطير، والعالم سيد الناس، ولئن صدقت رؤياك لترثن علم عالم، فاتق الله يا عبد الرحمن. فأمرني أن اخرج إلى مالك وألزمه. فخرج إلى مالك وسمع منه ولازمه، وفي رواية، أنه قال له: لعلك حدثت نفسك بشيء من طلب العلم؟ قلت: نعم. قال: فمن ذكرت؟ قلت: مالكاً. قال هو بازيك الذي صدت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 قال ابن القاسم: كنت أسمع من مالك كل يوم غلساً إذا خرج من المسجد ثلاثة أحاديث، سوى ما أسمع مع الناس معه بالنهار. وفي رواية: كنت آتي مالكاً غلساً، فأسأله عن مسألتين ثلاثة أربعة، وكنت اجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتي كل سحر، فتوسدت مرة في عتبته فغلبتني عيني، فنمت وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: ان مولاك قد خرج ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة. ظنت السوداء انه مولاه من كثرة اختلافه إليه. وفي جزء آخر أنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً. قال: فبينما انا عنده إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا فسلم على مالك. فقال أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إلي فاقبل يقبل عيني ووجدت منه ريحاً طيبة، فإذا هي رائحة الولد وإذا هو ابني، وكان ترك أمه به حاملاً، وكانت ابنة عمه، وكان اسمع عبد الله، وكان خبر أمه عند سفره لطول إقامته فاختارا البقاء، ولم يذكر الناس عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم هذا في ولده، وسنذكرهم. ولعله مات شاباً قبله والله أعلم. قال أبو زيد: سمعت ابن القاسم يقول: ما ضن احد بعلمه فأفلح. لقد كنت أحضر مجلس مالك فاسمع منه، فإذا لم يحضر أصحابي سألوني ما سمعت أخبرهم، ويحضرون وإلا احضر فاسألهم فلا يخبرونني. وقال ابن القاسم كأني كنت أنا وأشهب نختلف إلى عاملين مختلفين، لاختلافهما في الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 قال الصمادحي: من أجل هذا تركت السماع من أشهب. وذكر الطالبي: أن ابن القاسم لما رجع إلى مصر اجتمع حوله الناس في المسجد، فسأل عن ذلك الليث فقيل له: هذا ابن القاسم. فقال يأبى الله ذلك والمسلمون. فرأى في المنام تلك الليلة: هاتفاً ينكر عليه ذلك. فاستيقظ وهو يقول لا يأبى الله ذلك ولا المسلمون. تحراني الجامع فحدث الناس حوله برؤياه. ولابن القاسم سماع من مالك عشرون كتاباً وكتاب المسائل في بيوع الآجال. ذكر فضله وعبادته وورعه وكرامته وشيء من خبره قال ابنه موسى: قال لنا أبي، وأمرنا بالصلاة والخير ثم قال: كنت وأنا ابن ثمان عشرة سنة أختم في كل يوم، وأحسبه قال وكل ليلة القرآن. قال الحارث ابن مسكين: سمعت ابن القاسم يقول: اللهم امنع الدنيا مني وامنعني منها بما منعت به صالحي عبادك. فكان في الورع والزهد شيئاً عجيباً. قال غيره: ذكر أنه شهد عند بعض قضاة مصر فلم يعرفه وطلب من يعدله لخموله وانقباضه. فخرج وهو يقول بل الله يزكي من يشاء. حتى عرف به، فلما عرف له، حكم بشهادة ويمين الطالب وكان عراقياً لا يرى ذلك ولكنه فعل لفضل ابن القاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وقيل بل شهد عند بعض القضاة، فقال القاضي: الاسم عدل ولا أعرف العين. فجئني بمن يعنيها، إذ كان لا يداخل القضاة. قال: وإنما كان مشتغلاً بالعبادة والعفاف. قال سحنون: وكان مالك معلم ابن القاسم في العلم، وكان معلمه في العبادة سليمان بن القاسم. وقال ابن القاسم فيهما: رجلان أقتدي بهما في ديني، سليمان في الورع، ومالك في العلم. وذكر أن بعض سياسي مصر أراد أن يزوجه ابنته وينقد عنه ويتكلف مؤونته، فقال: حتى أشاور. فشاور عمه سليمان بن القاسم. فقال له: تحب أن يخدمك الخصيان وتلبس الخز وتركب الخيل ويراح عليك غدوة وعشية بالجفان؟ قال: لا. فقال له فلم تشغل نفسك بمال فلان! فترك ذلك. قال أسد: كان ابن القاسم يختم في كل يوم وليلة ختمتين فنزل لي حين جئته عن ختمة رغبة في إحياء العلم. وقال يحيى بن يحيى، وقيل له: بلغنا أنه ابن القاسم كان لا يأكل من حنطة مصر. فقال: كذبوا ما كان يأكل هو ومالك إلا منها. ولقيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 ابن القاسم مقبلاً في سوق مصر ومعه حمال بطعام، فسألته، فقال: طعام اشتريته، فأدخلت يدي فيه لابصره، فغذا هو كثير الغلث فقلت له: فهل كان أطيب من هذا؟ فقال: لا ياابا محمد، إني رضيت باليسير، ما يكفيني في الدنيا، فاستجزيت به. قال يحيى ولو أراد ابن القاسم أن يحمله له كبراء أهل مصر على ظهورهم لفعلت. ولكنه كان لا يفعل ذلك، ولا يشتهيه، من الورع. قال: وسمعت ابن القاسم يقول: ما كذبت منذ شددت على مئزري. يعني: الحلم. قال يحيى: وما كان أخلقه بذلك. قال يحيى: سمع رجلان من أهل الاندلس على ابن القاسم وكتبا عنه بما أفتاهما. قالا له: تشهد لنا رجلاً من أهل بلدنا بما سمعنا منك؟ فأنكر ذلك وقال: لا خير في قوم لا يصدقهم أهل بلدهم فيما ينقلون إليهم إلا بلبينة. قال يحيى: ولما قرأ أسد على ابن القاسم الأسدية وضع أشهب يده في مثلها، فخالفه في جلها، قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: وهي المعروفة بمدونة أشهب، وبكتب أشهب. فقلت لابن القاسم: يا أبا عبد الله لو أعدت نظرك في هذه الكتب، فإن صاحبك قد خالفك فما لائمك عليه أقررته، وما خالفك فيه، أعدت النظر فيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 فقال: افعل إن شاء الله، فلما تقاضيته بعد أيام في ذلك فقال: يا أبا محمد نظرت في مقالتك، فوجدت إجابتي يوم أجبت، لله وحده، فرجوت أن أوفق، وإجابتي اليوم إنما تكون نقضاً على صاحبي، فأخاف أن أوفق، وإجابتي اليوم إنما تكون نقضاً على صاحبي، فأخاف أن لا أوافق في الأمر فتركته. قال يحيى: وكان طول ما يقرأ عليه، رافعاً إصبعه مبتهلاً إلى اله تعالى في التوفيق والسلامة، قال: وتذاكرنا يوماً مع ابن القاسم هذا الأمر بكلنا، قال: لاورع أشد ما في هذا الدين. فقال ابن القاسم ما هو عندي كذا. فقلت له يا أبا عبد الله وكيف ذلك. فقال: أنا أمرنا ونهينا فمن فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه فذاك أورع الناس، فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد خف عليك ما ثقل على غيرك، فأي شيء وجدت من هذا الأمر أثقل؟ فقال ما وجدت شيئاً أثقل علي من مكابدة أجزاء الليل. وحكى يحيى بن عمر عن بعضهم قال: شهدت العيد مع عبد الرحمن بن القاسم فلما انصرفنا دخل ابن القاسم المسجد فصلى، ثم سجد فطول حتى خفت أن يفوتني الغداء مع أهلي، فدنوت منه فسمعته يقول: إلهي انقلب عبادك إلى ما أعدوه لهذا اليوم وانقلب عبد الرحمان إليك يرجو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 مغفرتك في هذا اليوم العظيم، فإن كنت فعلت فبخ بخ وإن كنت لم تفعل فيا ويلي ويا حسرتي، قال فجعلت على ثوبه علامة ثم سرت إلى أهلي، فتغديت معهم ووطئت وقمت ثم جئت المسجد فوجدته على هيأته كما تركته، قال يحيى: وخرج ابن القاسم إلى الحج، فلما كان بالأبواء، إذ أتته جارية كأحسن الجواري فناولها شيئاً، فقالت له ما أريد هذا، إنما أريد منك ما يكون من الرجل إلى المرأة، فأدخل رأسه بين ركبتيه وجعل يبكي، وأتاه أصحابه وهو كذلك فسألوه فأخبرهم، فجعلوا يبكون. فقال لهم لم تبكون؟ قالوا لأنا لو ابتلينا بما ابتليت به لم نأمن من الفتنة. فرأى ابن القاسم في المنام يوسف عليه السلام، فقال له: لقد كان في شأنك مع امرأة العزيز عجب فقال له يوسف شأنك مع صاحبة الأبواء أعجب إني هممت وأنت لم تهم، ومن كتاب الفقيه أبي مروان بن مالك القرطبي: قال ابن القاسم: خرجت إلى الإسكندرية ومعي وديعة فأرسينا في موضع مخوف فآثرت السهر لحفظ الوديعة، فإذ في شط البحر رجل أبيض على برذون أشهب فشق البحر إليّ حتى وقف على السفينة فقال لي: نم يا ابن القاسم فنحن نحرسها، قال ابن القاسم للحارث: لا نخبر به أحداً في حياتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وفي رواية أخرى إن الوديعة كانت عشرة آلاف، وأن الفارس قال له أن ربي أرسلني إليك أحرس لك هذه الأمانة فنم آمناً، فكنت إذا استيقظت نظرت إليه يجول حوالينا. كان دأبه ذلك ثلاثة ليال حتى مضى من مصر إلى الإسكندرية وقال يحيى بن يحيى: خرج ابن القاسم إلى بعض صحارى مصر فعطش، وكان بعض ملوكها خرج متنزهاً فبينما هو يسير إذ وقفت دوابه فلن تنطلق، فضربت فلم تنهض. فقال لمن معه، هذا الأمر فانظروا، فنظروا. فقالوا: هذا شخص. فقال: سلوه، فسألوه. فقال: عطشت. فسقوه. فانطلقت الدواب. قال عيسى بن دينار: وكنت بالإسكندرية مع ابن القاسم في الرباط ومعه رجل كان يألفه، فينما نحن في السفينة ليلة سبع وعشرين من رمضان، إذ قال رجل من أهل السفينة أخبرك بشيء عظيم رأيت في نومي ساعتي هذه. فأخبره، فقال لصاحبه: إن كان ما قال حقاً فهي ليلة القدر. وذكر أن علامة ذلك عذوبة ماء البحر، ومالا إلى صدر السفينة، فرأيتهما يشربان ثم استقبلا القبلة، فقمت فأتيت الموضع الذي آتياه فشربت فوجدته عذباً. قال الحارث: كان ابن القاسم لا يقبل جوائز السلطان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وكان يقول: ليس في قرب الولاة ولا في الدنو منهم خير. وكان أولاً يأتيهم، ثم ترك ذلك. قال ابن وضاح، كان ابن القاسم لا يجالسه إلا واحد، أو اثنان. ولم يكن فيه منفعة للناس، ولا لأبويه ولا ابنيه ولا نفسه في شيء من أمور الدنيا إلا بالعلم. وكان أشهب وابن وهب يقعدان في جماعة. وتنقضي عندهما الحوائج، وينفعان الناس. قال سحنون: كثيراً ما كنت اسمعه يقول إياك ورقّ الأحرار. فيسأل فيقول كثرة الإخوان. ولم يكن يشهد جنازة لأحد، ولا يخرج من المسجد. وذكر حديث سليمان بن القاسم لا تحمل لغيرك ما لا تحمله لنفسك على نفسك. قال، وكان سبب موت ابن القاسم أنه اغتسل بماء بارد، بمدين ولم يرد أن يسخن له منها، لأنها كانت غصباً لبعض بني أمية. قال سحنون، قمت يوماً في المسجد الحرام أشرب ماء، فقال ابن القاسم من أين تشرب؟ قلت، أليس في الفيء قدر أشرب به ماء. قال وأي فيء بمكة. إنما هي صدقات. قال سحنون، أشترى عبد الصمد الأطرابلسي لابن القاسم جارية ثم أخرى، لم يتخذ غيرهما حتى ماتتا، لما ماتت الأولى أرسل إليه يشتري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 له جارية صقلبية كما تقول. فاشتراها له وبعثها له، وهي أم ابنيه. وسيأتي ذكرهما بعد هذا. وكان عبد الصمد هذا نم العباد، لزم المحرص باطرابلس، قال ابن وضاح وإنما قصد للصقالبة لأنهم لا عهد لهم، قال، وحكى أبو محمد بن أبي زيد ابن القاسم كان يتصدق بنصف قوته، يعمله كعكاً صغيراً فإذا وقف به السائل أعطاه كعكة صغيرة، كما عملت. وأنه باع نصف قوته سنة فاشترى به تمراً يعطي السائل تمرة. قال أبو محمد: كأنه رأى أن هذا أقل للمتكلف وأزكى في القدر لإشفاقه من رد السائل بغير شيء وهذا بقدر النية. وقال ابن وهب حين مات ابن القاسم: كان أخي وصاحبي في هذا المسجد منذ أربعين سنة. ما رحت رواحاً ولا غدوت غدواً قط إلى هذا المسجد إلا وجدته سبقني إليه. وحكى عن أبن القاسم أنه كان يقرأ عليه الموطأ إذ قام قياماً طولاً، ثم جلس. فقيل له في ذلك فقال: نزلت أمي تسأل حاجة، فقامت وقمت لقيامها، فلما صعدت جلست. قال: فسرَّت. قال سحنون: لما حججت كنت أزامل عبد الله بن وهب، وكان معنا أشهب وابن القاسم، فكنت إذا نزلت ذهبت إلى عبد الرحمان أسائله إلى وقت الرحيل، فقال لي ابن وهب وأشهب لو كلمت صاحبك ليلة واحدة يفطر عندنا. فكلمته. فقال إن ذلك يقل علي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فقلت له فيم يعلم القوم مكاني بك. فأجابني. فانتهيت إليهم فأعلمتهم، فلما كان وقت التعريس قام وقمت معه إلى القوم، فوجدت أشهب قد مدّ أنطاعه وأتى من الأطعمة بأمر عظيم، وصنع ابن وهب دونك ذلك. فسلم ابن القاسم وقعد ثم أدار عينيه فإذا بسكرجة فيها دقة، فأخذها بيدها بيده فحرك الأبزاز إلى ناحية ولعق من الملح ثلاث لعقات، وهو يعلم أن اصل ملح مصر طيب. ثم قام وقال بارك الله لكم. قال سحنون: فاستحيت أن أقوم. فتكلم أشهب وعظم الأمر. فقال ابن وهب: دعه. قال أبو الفضل مولى نجم: كان ابن القاسم يأكل في الشهر عشرين مداً من دقيق بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً عابداً. قال غيره: لأنه كان رد قوته إلى ثلث مد من شعير في اليوم. وذكر أن رجلاً من أهل العلم والخير قدم من العراق وأراد الاجتماع به فأتاه رجل في ذلك فوعده وقتاً لذلك، فلما استنجزه قال ابن القاسم: إني نظرت في ذلك فرأيت أنه يدخله المباهاة يتزين لي وأتزين له. دعني من ذلك وكان المصريون يقولون للكوفيين: اذكروا أخلاق سفيان، وتذكروا أخلاق ابن القاسم وأشهب حتى أفسدوا ما بينهما، وحلف أشهب بالمشي إلى مكة أن لا يكلم ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 القاسم، فندم، وأراد أن يمشي، فلما سمع بذلك ابن القاسم قال: هو يحنّث نفسه ويمشي، وأمشي معه. فمشيا جميعاً وحجا وعيسى بن دينار معهما. قال يحيى: سمعت ابن القاسم يدعو على رجلين من أهل الأندلس، ادخلا بينه وبين أشهب. فسمعته يقول اللهم أعنهما بسعيهما ولا تنفعهما بحملهما. فما ماتا حتى عرف ذلك فيهما. وقيل بل كان ابن القاسم وأشهب اختلفا في قول مالك في مسألة. وحلف كل واحد منهما على نفي قول الآخر، فسألا ابن وهب فأخبرهما أن مالكاً قال القولين جميعاً قضاء لليمين التي حنثا فيها. ذكر وفاته قال ابن سحنون وغيره: كانت وفاة ابن القاسم بمصر ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة إحدى وتسعين ومائة. بعد قدومه من مكة بثلاثة أيام. وقيل ستة. وقد ذكرنا سبب ذلك، ومرض ستة أيام وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل توفي سنة اثنتين وتسعين وهو ابن ستين سنة. قال الكندي والشيرازي: مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقال أبو الطاهر وابن بكير، وقال أبو عمر بن عبد البر وابن حارث مولده سنة ثمان وعشرين ومائة. وترك ابنين يأتي ذكرهما. وذكر الكندي عمر بن القاسم أخا عبد الرحمان بن القاسم. قال: كان مقبولاً عند القضاة. وكان فاضلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 قال الأمير أبو نصر: كانت فيه غفلة. ورئي ابن القاسم بعد موته فسئل فأخبر بما لقيه من الخير، فقيل له بماذا قال بركعات ركعتها بالإسكندرية. فقيل بالمسائل. فقال لا وأشار بيده، أي وجدناها هباءً. قال علي ابن معبد: رأيته في النوم فقلت له: كيف وجدت المسائل قال أف أف. قلت له: فما أحسن ما وجدت قال الرباط بالإسكندرية. قال عبد الله بن عبد الحكم: بينا أنا أفكر في وحشة القبر إلى أن قيل لي أما في ابن القاسم أسوة. قال عبد بن الحكم: كنت أرى في النوم كأني أموت فاجزع من الموت فيشتد شدة شديدة ويقال لي: أنا ترضى أن تكون رفيقاً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ومع عبد الرحمان ابن القاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 أبو عمرو أشهب هو أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي المعافري الجعدي. من ولد جعدة بن كلاب بن ربيعة ابن عامر. اسمه مسكين. وأشهب لقب. وكنيته أبو عمرو زوى عن مالك والليث والفضيل بن عياض، وسليمان بن بلال وابن لهيعة، ويحيى بن أيوب وبكر بن مضر والدراوردي، والمنذر ابن عبد الله الحزامي. وروى عنه الحارث ابن مسكين ويونس الصدفي وبنو عبد الحكم، وأبو الطاهر وسعيد بن حسان وسحنون بن سعيد، فيما لا ينعد كثرة، وجماعة. قال الشيرازي: تفقه بمالك والمدنيين والمصريين. قال أبو عمر المقريء: وقرأ على نافع. قال الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وكانت المنافسة بينه وبين ابن القاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 فقال لي: أنا مشغول بنفسي، وجعلت الأخرة أمامي، ولكن، عليك بابن وهب فأتيته. فقال إنما أنا صاحب آثار، ولكن ايت أشهب. قال أبو عمر الحافظ كان أشهب فقيهاً نبياً. حسن النظر من المالكيين المحققين. وكان كاتب خراج مصر، وكان ثقة فيما روى عن مالك. وصنف كتاباً في الفقه رواه عنه سعيد بن حسان وغيره، قال أبو عمر الكندي في كتاب قضاة مصر: كان أشهب على مسائل القاضي العمري بمصر، قال محمد بن الحكم: أشهب. أفقه من ابن القاسم مائة مرّة. قال ابن لبابة: ليس هذا عندنا، كما قال. وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه. قال ابن لبابة: ليس هذا من عندنا، كما قال. وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه. أبو عمر: كلاهما معلمه وشيخه وهو أعلم بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: لم يسمع محمد بن عبد الحكم من ابن القاسم. وستأتي الحجة على هذا، ولا أدري من أين أتى على أبي عمر في هذا مع تقدمه في هذا الباب. وسئل سحنون عنهما أيهما أفقه، فقال: كانا كفرسي رهان، ربما وفق هذا وخذل هذا ووفق هذا، وقال سحنون: حدثني المتحري في سماعه. وقال رحم الله أشهب، ما كان أصدقه وأخونه لله تعالى، ما كان يزيد حرفاً واحداً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 ولقد قال له ابن عبد الحكم يوماً لو أمسكت قليلاً. قال لقد علمت الذي تقول. ولو فعلت ذلك لكنت أن أجّلّ في عيون الناس، ولقطعت بعض كلا مهم، ولكن والله لا أعمل شيئاً أبداً إلا أريد به الله. وكان سحنون يعطي لأشهب الورع في سماعه، ولم يسمعه منه، إنما سمعه من ابن نافع. قال ابن الوضاح: وسماع أشهب أقرب، أشبه من سماع ابن القاسم. وعدد كتب سماعه عشرون كتاباً. قال ابن وضاح: ولما سمعناه أنا وابن حميد من محمد بن عبد الحكم قال لنا: ابن السكري - وكان يجالس محمد بن عبد الحكم ويسمع قراءتنا - أحبّ أن تعيداه لي. فقلنا له: وقد سمعته؟ قال لم ألو سماعه عن السكري. قال عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات. وسمعته جيّد المسائل حسناً جداً. ولو أردت أن أخرج على كل مسألة منه حديثاً لفعلته. قال سحنون: ما كان أحد يناظر أشهب، إلا اضطره بالحجة حتى يرجع إلى قوله. ولقد كان يأتينا في حلقة ابن القاسم فيتكلم في أصول العلم، ويفسّر ويحتج، وابن القاسم ساكت ما يرد عليه حرفاً. وكان أشهب مهيباً. وكان أزرق العينين فإذا كلمه إنسان في مسألة يرفع عينيه إليه إذا، تعذرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 المسألة. وكان يلبس قلنسوة سوداء. وكان آمرهم بمعروف أنهاهم عن منكر. قال: ثم سمعه من محمد بن عبد الحكم واعتقده. وكان الشافعي وأشهب يتصاحبان بمصر ويتذاكران الفقه. وكان ما بينهما متقارباً. وذكره أبو عمر مع عبد الله بن عبد الحكم فيمن أخذ الشافعي من كبار أصحاب الشافعي، وإنما كانا - يريد الشافعي وأشهب - متناظرين. وألف أشهب كتبه المدونة رواها عنه سعيد بن حسان وغيره، وهو كتاب جليل كبير كثير العلم. قال ابن الحارث: لما كملت الأسدية أخذها أشهب، وأقامها لنفسها، واحتج لبعضها. فجاء كتاباً شريفاً. فبلغني أنه لما وجد كتاباً تاماً فبنى عليه. فأرسل إليه أشهب: أنت إنما غرفت من عين واحدة، وأنا من عيون كثيرة. فأجابه ابن القاسم: عيونك كدرة وعيني أنا صافية. وله كتاب اختلاف في القسامة. وله كتاب في فضائل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 ذكر شيء من فضائله - وجوده وأخباره قال سحنون: كتب أشهب إلى رجل كان يقع فيه: أما بعد، فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم إني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر. السلام. وجلس أشهب يوماً بمكة إلى ابن القاسم فسأله رجل عن مسألة، فتكلم فيها عبد الرحمان فصعّر له أشهب وجهه، وقال ليس هو كذلك. ثم أخذ يفسرها ويحتج فيها. فقال ابن القاسم: الشيخ يقوله، عفاك الله. يعني مالكاً. فقال أشهب: لو قاله ستين مرة. فلم يرادّه بن القاسم. قال أشهب: أتيت الفضيل أستشيره في إتيان الوالي وكيف أتيته فليس أحد يأتيه أقوم بأمره ونهيه مني، وربما قيل وانتفع بذلك المسلمون، فقال لي أنت رجل تسألني عن خاصة نفسك لأنك لا تأتيهم ولا تودهم ولا تود من يودهم. ولا تود من يودّ من يودّهم. قال ابن وضاح: كان أشهب يقول: إنما الورع في المشتبهات وأما الكبائر فكل أحد يتقيها. قال أشهب أمرني أبي أن أتخذ سقاية بموضع سمّاه فبنيتها مرات ويهدمها جيران حسدوني فيها. فأدركني يوماً غمّ ذلك، فقعدت عندها باكياً مفكراً، فسمعت صوتاً من الصحراء يقول: ونريد أن نمنَّ على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة الآية، فحرّكت دوابي نحو الصوت فلم أر أحداً. فعدت إلى موضعي فسمعت الصوت فقمت فلم أر أحداً. فعدت للقعود فعاد الصوت ثالثة، فعلمت أني المراد فحمدت الله. وقامت لي نية في طلب العلم وبنيتها ووكّلت من يحرسها، بأجرة. فلم يعد أحد إلى خرابها. وقد حكيت مثل هذه الحكاية لليث بن سعد حين بنى داره والله أعلم. وقال ما مرت بي إلا أعوام يسيرة حتى أحتاج أولئك وغيرهم من أهل بلدي إليّ. قال ابن أبي مريم: شيعنا أشهب إلى الرباط ما يملك نصف درهم، فما مات حتى كان ينفق كل يوم على مائدته عشرة مثاقيل. وكان فتح عليه في الدنيا. وقال سحنون: كانت بمصر مجاعة فحضرته يتصدق بالدنانير من الغدوة إلى الليل. ويتصدق بما كان معه من طعام. وذكر عنه سحنون، أنه رآه يتصدق في يوم واحد بألف دينار. وذكر ابن الجزار في كتاب التعريف: أن ابن القاسم ترك كلام أشهب لأنه تقبل خراج مصر. فسأل رجل ابن القاسم عن فيالة أرض مصر، فقال له: لا تجوز. فقال له: فأشهب يتقبلها. فقال له ابن القاسم: افعل أنت ما يفعل أشهب. وتقبل الجامع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وذكر أن رجلاً سأل أشهب عن الحرث في أرض مصر. فقال لا تجوز. فقال له أنت تحرث فيها. فقال له: فأحمل لنفسي ولك أيضاً. وسأل عنها ابن وهب فنهاه. فقال له: فأشهب يفعله. فقال أعطنا آخر كأشهب. يكفل ايتامنا، ويرق لضعفائنا، ونبيح لك أن تحدث في مسجدنا. قال سحنون: كان يتصدق بأضعاف كرائها. قال سحنون: حضرنا أشهب يوم عرفة بجامع مصر، وكان من حالهم إقامتهم بمسجدهم إلى غروب الشمس، يعني للذكر والدعاء كما يفعل أهل عرفة بها، وكان يصلي جالساً يعني النافلة. وفي جانبه صرة يعطي منها السوّال، فنظرت فإذا بيد سائل دينار، مما أعطاه، فذكرته له، فقال لي وما كنا نعطي من أول النهار، وذكر يونس قال: زعم أشهب أنه سمع سليمان السائح في مساجد الصحراء يقول: يا رب عبدك سليمان جائع، لم يأكل منذ ثلاث ليال. فلما فرغ سمعته يمضغ فكرهت أن أدخل عليه فأحشمه، وكان للمسجد بابان فخرج من القبلي ودخلنا من آخر. فإذا بأنواء تمر وتمرة منتبذة فأكلتها، فأقمت معصوباً عشرة أيام لا آكل ولا أشرب. قال سحنون: اجتاز أشهب بابن القاسم يوماً وعلى أشهب ثياب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 تتقعقع، وتحته بغلة هملاج، فقال ابن القاسم: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون. ثم سكت ساعة وقال بلى: يا رب نصبر ونصبر. وقد نمت هذه الحكاية وهذا الكلام للمزني، وقد مرّ به بنو عبد الحكم في موكبهم بمصر أيضاً والله أعلم. وذكر أن رجلاً من أهل العراق لقي أشهب فقال له العراقي: أنتم تحلون إتيان النساء في أدبارهن، فقال أشهب: أنتم تحرمونه ولكن تعال أحلف لي ما فعلته، واحلف لي أنت بمثله، فلم يفعل العراقي. وذكر أن أشهب بينما هو في أصحابه إذ سمع إنساناً ينذر بلص، فقام وأخذ سلاحه وخرج يتبعه، فقيل له في ذلك أن مثلك لا يليق به هذا؟ فقال: ما كنت لأتخلَّق بغير ما حبلني الله عليه. ذكر مولده ووفاته قال ابن عبد البر وأبو عمر المقريء: ولد أشهب سنة أربعين ومائة. وحكاه ابن حزم الصدفي عن أبي الطاهر، وحكى الشيرازي أنه ولد سنة خمسين ومائة، وتوفي بمصر سنة أربع ومائتين في رجب، وقيل لثالث وعشرين ليلة خلت من شعبان. قال الشيرازي: بعد الشافعي بشهر. وقال ابن عبد البر: ثمانية عشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 يوماً. وقيل بثلاثة وعشرين يوماً. وهذا هو المشهور من تاريخ وفاته. قال أبو علي البصري في كتاب المعرب: وقيل توفي سنة ثلاث ومائتين. قال محمد بن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت. فذكرت ذلك له فأنشد متمثلاً: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد فمات الشافعي واشترى أشهب من تركته غلاماً طباخاً، فمات بعده بثمانية عشر يوماً واشتريت أنا الغلام من تركة أشهب ونهيت عن شرائه. وقيل لي دعه فقد دفن العالمين في بضعة عشر يوماً فاشتريته وتركت التطيّر. وحكى الربيع بن سلمان، قال: سمعنا أشهب يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك. فبلغ ذلك الشافعي، فأنشأ يقول، البيتين. قال محمد بن حفص المعافزي: مرض أشهب فرأيته في المنام أن قائلاً يقول لي يا محمد فأجبته، فقال: ذهب الذين يقال عند فراقهم ... ليت البلاد بأهلها تتصدع فقلت لامرأتي ما أخوفني أن يموت أشهب. فخرجت فإذا هو قد مات. وقال آخر نمت في القائلة فرأيت هاتفاً يقول: ليبك على الإسلام من كان باكياً ... فقد أوشكوا هلكاً وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملّها من كان يقلقه الوعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 فخرجت إلى المسجد، فنعي إلي أشهب رحمه الله تعالى. قال يونس: دخلت على أشهب في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا يونس. قلت لبيك. قال: انظر ما ها هنا وأشار إلى كتبه، فإذا جمعت من الحجج على هذا البدن الضعيف ما أستريح. أن آخذ المصحف فأضعه على صدري. قال وكانت كتبه في زنبيل بجلد كبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم أبو عثمان الأنصاري المصري، سمع من مالك الموطأ وغير شيء، وصحبه. وغلب عليه علم الحديث، وعلم الخبر، وكان علامة بأخبار الناس، وله تاريخ. وسمع الليث بن سعد وابن لهيعة ويعقوب بن إبراهيم وابن وهب. وكان آخر مشائخ مصر في وقته. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وقال أبو حاتم: هو صدوق، وليس بالثبت. كان يقرأ في كتب الناس. روى عنه البخاري ومسلم ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وخرج عنه البخاري ومسلم. ولما ورد المأمون مصر وحضر عنده أهلها، كان فيهم سعيد بن عفير، فقال المأمون: هذه مصر التي قال الله فيها ما قال. وأقبل يحقرها فقال له ابن عفير: يا أمير المؤمنين، هذه مصر وقد دمرها الله فما ظنك بها قبل التدمير؟ قال الله تعالى: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه. فقال المأمون: من المتكلم؟ فقيل: سعيد بن عفير صاحب مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 فقال يا سعيد ما تقول فيمن قال: عليّ المشي إلى مكة؟ قال: عليه المشي. فقال له المأمون: لقد تيس مالك في هذه المسألة. فقال سعيد: أتيس من التيس، من سمع التيس. يريد أن أباه الرشيد، لما حلف بذلك أفتاه مالك بالمشي، فمشى. فوجم لها المأمون. فهم كذلك. إذ تشكى بعاملين فقال: يا سعيد ما تقول فيهما؟ فكيف تشهد عليهما؟ قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين قبل أن أراك. قال ابن عفير: سمعت في المنام قائلاً يقول أن الله لا يعبأ بصاحب رواية ولا حكاية، وإنما يعبأ بصاحب قلب ودراية. مولده سنة سبع وأربعين ومائة. ومات سنة ست وعشرين ومائتين، وبقي العلم في بيته زماناً طويلاً وكان لابن عفير ابنان عبد الله وأبو الحارث أسد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 روى أبو الحارث عن أبيه، وابن وهب الشافعي، وتوفي في صفر ستين ومائتين وإبراهيم بن عبد الله ابن ابنه أبو إسحاق يعرف بالصيّوفي حدث أيضاً. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. والحسين بن زيد بن أسد بن سعيد، أبو عبد الله، ويقال أبو علي. توفي في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة. أبو عمر إدريس بن يحيى مولى بني أمية يعرف بالخولاني. من أصحاب مالك توفي في أول سنة إحدى عشرة ومائتين وغلبت عليه العبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 المفضل بن فضالة هو المفضل بن فضالة بن عبيد، أبو معاوية الحميدي القتباني، وقتبان بقاف مكسورة وتاء باثنين من فوق وباء واحدة في أسفل، قبيلة من رعين، إليها ينسب المفضل. يروي عن ابن عجلان ويونس بن يزيد وعقيل بن خالد. قال أبو عبد الله الجيزي في كتابه في قضاة مصر: كان المفضل أحد أهل الفضل وخيار الناس. قال ابن شاهين: هو رجل صدق روى عنه ابنه فضالة، وقتيبة بن سعيد وحسان الواسطي وابن بكير، وحجاج ويونس بن محمد وأخرج عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقال أبو حاتم: هو صدوق. وقال يحيى بن معين ليس بذلك. قال أبو زرعة يكتب حديثه. وله أخ اسمه عبد الله بن فضالة. قال ابن يونس لا أعلم له رواية. قال محمد بن سعد: ولي القضاء وكان محموداً منكر الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 سيرته وأخباره ولي المفضل قضاء مصر مرتين: إحداهما في سنة وثمان وستين ومائة، وصرف سنة تسع ثم رجع إلى القضاء عند عزل أبي الطاهر الحزمي، وكان عزله سنة أربع وسبعين، وبقي المفضل قاضياً إلى صدر سنة تسع وسبعين. قال الجيزي: وهو أول القضاة بمصر، طول الليث. وكان إذا أشكل عليه القضاء في شيء كتب به إلى مالك حتى يأتيه جوابه، فيعمل به. قال غيره: كان يفتي بقول مالك. قال ابن شاهين كان إذا جاءه رجل قد انكسرت يده أو رجله، جبرها. وكان يصنع الأرحية. ذكر أبو الحسن ابن ضمضم قال، بلغني أن المفضل بن فضالة بلغه هذا الدعاء، فقال يا ذا الجلال والإكرام بحرمة نور وجهك الكريم أسألك صحة بصري وطول عمري في حسن عمل ورزقاً واسعاً لا منَّة لأحد عليَّ فيه. فأعطي الثلاث. وذكر الجيزي عنه قال: كتبت إلى مالك في حبس ابن أبي مدرك، ونسخته حرفاً بحرف وأعلمته أن الذين طلبوه وأحازوه ولد البنين، واحتجوا بأن جبير بن نعيم القاضي كتب لهم إجازة للأخير فالآخر منهم. وأن القضاة إجازته ولن يقتضوا فيه للنساء البنين ولا غيرهم بميراث، واحتج غيرهم بأن المحبس لم يذكر في حبسه كونه الآخر، ولمن يصرفه بعد انقراض البنين إلى شيء من وجوه الأحباس في سبيل الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فكتب إليّ: نظرت في حبس ابن أبي مدرك وفيما احتج به من أراد رده ميراثاً، فوجدت في كتاب ابن أبي مدرك الذي جاء به بنوه، وأقروا به وأنفذوه: إن كل دار هي له حبس على بنيه، وثلت فضل خراجها بعد سكن بنيه في سبيل الله. وذكر في الطاحونة مثل ذلك. وذكر ابن الجراح صاحب كتاب الورقة: أن اسحاق بن معاذ الشاعر كان يخاصم عند الفاضل بمصر، فأتاه يوماً وكان قد هجاه ببيتين وهما: خف الله واسمع واتئد أي مفضل ... فإنك عن فضل القضاء ستسأل وقد قال أقوام عجيب لقولهم ... أقاض له شعر طويل مرجل وكان كتبها وجعلها في كمه مع ظلامته، وحضر عنده فأدخل يده ليخرج للقاضي رقعة الظلامة فأخرج له رقعة الهجاء، فلما قرأها ردها إليه وقال: اللهم غفراً، ليست هذه يرحمك الله. توفي المفضل سنة إحدى وثمانين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فتيان بن أبي السمح وضبطه بفاء مكسورة بهدها تاء باثنين من فوقه ساكنه، وياء باثنتين من أسفل، مفتوحة وألف ونون، مولى تجيب تقدم نسبه. قال أبو الحسن الدارقطني وغيره: هو أبو الخيار مصري، يروي عن مالك. وكان من كبراء أصحابه المتعصبين لمذهبه، وقال أبو حارث في كنيته: أبو السمح. قال أبو عمر الكندي: في كتاب أعيان موالي مصر: ومنهم أبو الخيار فتيان بن أبي السمح، واسمه عبد الله بن السمح بن أسامة بن زكي. مولى بني عامر ابن عدي من تجيب. وكان فقيهاً من أصحاب مالك. وكنى ابن وضاح أبا السمحاء. وفد تقدم ذكر أبيه في الطبقة الأولى، كان أيضاً من أصحاب مالك. قال ابن وهب: كان يشتري لمالك حوائجه وكان له منه عشر مسائل فيجيبه، فقدم على مالك فسأله عن مسائله فأجابه. ثم زاد فأجابه ثم قال مالك: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض.. الآية. قال غيره: كان فتيان يخدم ابن القاسم. قال أبو عمر: كان فيما حكي أنه شغب في المناظرة وكانت بينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وبين الشافعي مناظرة. في بيع الحر في الدين. فكان الشافعي يقول يباع وفتيان يقول: لا يباع. فقال فتيان له أن ثبتّ على هذا فهل بك كيت وكيت. وذكر عن محمد بن عبد الحكم أن فتيان كلم الشافعي في مناظرة وكانت في عجلة. فخاطب الشافعي لخطاب أغلظ فيه. ثم افترقا وبعث السري بن الحكم أمير مصر إلى الشافعي يستخبره عما بلغه من الأمر، فيقال أن الشافعي أخبره فضرب السري فتياناً بالسّوط. قال محمد فرأيته والمنادي ينادي عليه: هذا جزاء من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتيان يقول عائذاً بالله من ذلك. وقال ابن وزير حضرتهما جميعاً فتناظرا فيما لا يعجبني إعادته. ثم جرى بينهما الكلام إلى أن ذكر الأئمة. فقال فتيان: حدثني مالك أن الإمام لا يكون إماماً أبداً إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: وليتكم ولست بخيركم. ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه. ألا وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني. فاحتج الشافعي بأشياء لا أذكرها أبداً. فبلغ ذلك السري، فضرب فتياناً فوثب أهل المسجد بالشافعي، فدخل منزله فلم يخرج منه إلى أن مات. وقال الطحاوي: وكان أبو زيد ممن حضر مناظرتهما وكانت بينه وبين فتيان منازعة في صدقة البقر. فكان فتيان يقول هي كصدقة الإبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ويحتج في ذلك بأشياء حتى تواثبا. فكان أبو زيد ممن دخل إلى السري مع الشافعي، فيقال أنه شهد عليه وسمع فتيان يقول: الله بيني وبين الشافعي، أولاً. أحلل الشافعي. قال الدارقطني: أتهم الشافعي في أمر فتيان، فسئل عن ذلك فقال: والله ما ذكرته قط للسلطان. ولقد سمعت منه ما لو شهدت به عليه لحل دمع. قال غيره: ولعصبيته لمالك وإفراطه فيها، نشأت العداوة بين المالكيين والشافعيين. بمصر، فثاروا بالشافعي وأرادوا نفيه فضرب الأمير أجلاً فمات فيه. قال الكندي: وتوفي سنة خمس ومائتين، وولد سنة خمسين ومائة. قال ابن حارث ولد سنة خمس وعشرين ومائة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 اسحاق بن الفرات بن الجعد بن سليم أبو نعيم مولى معاوية بن حديج الكندي، قاضي مصر. قال ابن وضاح: كان من أكابر أصحاب مالك، ولقى أبا يوسف وأخذ عنه. قال الكندي: كان فقيهاً. قال الشافعي: ما رأيت بمصر أعلم باختلاف الناس من اسحاق ابن الفرات. وقال إبراهيم بن علية: ما رأيت ببلدكم أحداً يحسن العلم إلا اسحاق بن الفرات. ولي القضاء بمصر سنة أربع وثمانين ومائة فكان شديداً رفيقاً. قال الشافعي: أشرت على بعض الولاة أن يولي اسحاق بن الفرات القضاء. وقلت له: إنه يتخيّر وهو عالم باختلاف من مضى. قال أحمد بن سعيد الهمداني. قرأ علينا اسحاق بن الفرات موطأ مالك من حفظه، فما أسقط حرفاً فيما أعلم. وصرف عنها صدر سنة خمس وثمانين، وهو أول من ولي مصر من الموالي. ذكر ذلك كله أبو عمر الكندي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 قال الكندي: وقال ابن أبي حاتم: اسحاق بن الفرات قاضي مصر يروي عن يحيى بن أيوب ومعاذ بن محمد الأنصاري. روى عنه محمد بن عبد الحكم ويحيى بن نصر وعيسى بن أحمد العسقلاني. قال أبو حاتم ليس بمشهور. قال العقيلي: لا بأس به. وقال الكوفي: هو ثقة. قال الكندي: وتوفي سنة خمس ويقال أربع ومائتين وولد سنة خمس وثلاثين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 سليمان بن برد بن نجيح التجيبي مولاهم أبو الربيع. روى عن مالك الموطأ والفقه وغير ذلك. قال بن حبيب: كان سليمان بن برد من فقهاء مصر، وعده من طبقاته. قال محمد بن عبد الحكم: الموطأ الذي سمع ابن برد أصح موطأ. وذكره أبو عمر الكندي في كتاب القضاة، وكتاب الموالي، فقال: كان مقبولاً عند قضاة مصر. فقال: ولم ير في عصر ابن برد أعلم منه بالقضاء وآلته. وكان القائم بأمر عيسى ابن المنكدر أيام قضائه بمصر، لم يضطرب أمر ابن المنكدر حتى مات ابن برد، وولي عبد الله بن عبد الحكم مسائل ابن المكندر، وقال مقداد بن داود: ما رأيت أحداً أعلم بالقضاء ورتبته من سليمان، وتوفي سنة عشر ومائتين. وقيل اثنتي عشرة ومائتين وأورث العلم عقبه بمصر. فلم يزل منهم مقدم للمالكية في كل طبقة على ما يأتي ذكره. وذكر ابن أبي دليم وغيره من رواة مالك بن سليمان بن برد في الإسكندرانيين. وذكر أبا الربيع بن سليمان بن برد في المصريين ولم يذكر غيره وهو وهم والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 يوسف بن عمرو بن يزيد بن يوسف بن خرخسن الفارسي كذا قيده أبو نصر الحافظ بخاءين معجمتين بينهما راء ساكنة وبعدها سين مهملة ونون ساكنين وقال ابن أبي دليم: خرخسرو، وجعل مكان النون راء مضمومة بعدها واو. كذلك قاله الكندي. وكنيته أبو يزيد، سمع من مالك وسمع ابن وهب وغيره من أصحابه. وكان من فضلاء أصحاب مالك ذا زهد وفضل. قال غيره وسنّه قريب من سنّ هؤلاء، وفي طبقتهم. ذكره ابن حبيب، روى عنه ابن عبد الحكم قال سعيد الأدم: هو ثقة صالح. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً أحد أوصياء الشافعي، وكان مصاباً بعينه، وكانت لحيته قد ملأت صدره. قال الحارث ابن مسكين: كان يوسف لا يقبل جوائز السلطان، وكان عليه دين، ولقد مات فما بلغ ما ترك وفاء دينه، قال يوسف: صحبت مالكاً ونحن شباب نتعاطى النحو، فما أنكرنا لسانه. قال الحارث: كان أشهب أو يوسف بن عمرو، أكثر ظني أنه يوسف، شك الرواي عنه. قد جعل على نفسه إن أتى أحداً من الولاة صدقة خمسين ديناراً وكأنه يأتيهم. ثم ترك ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وسئل محمد بن عبد الحكم عن القراءة بالألحان فقال: مالك يكرهه. ولكن كان أبي ويوسف بن عمر، وغيرهما في بينت الشافعي، فقال له بعضهم: اقرأ الراهب. أو نحو هذا. فاستبشع أبي تلك الكلمة. وقال يوسف: تعالى فاقرأ: يوم يجمع الله الرّسل. حكاية الرهبان. قال محمد: أحضر لهيعة القاضي أصحابنا للمشاورة فيهم أبي ويوسف بن عمر، فقال يوسف لا تحضرنا، إن كان فلان يحضر بمجلسك فليس هو من يرضى. قال أبو الربيع الرشيدي: كان يوسف بن عمر يقول ليحيى بن بكير اذهب بنا إلى رشدين ابن سعد، لعل قلوبنا ترقّ، فيأتونه وبيته بيت رجل صالح. قال أبو الربيع: وسمعت يوسف بن عمر يقول والله الذي لا إله إلا هو لا تصلح الدنيا لشيء مما خلق الله إلا للزهد فيها. قال محمد بن عبد الحكم: كان أبي والشافعي وابن بكير وجماعة من أصحابنا في منزل يوسف بن عمر، وفي صنع، غرس لهم. وكان ثم لهو ودف فما أنكره واحد منهم. قال يونس: مرض يوسف مرضاً شديداً ثم نقه، فاشتهى رطباً فأتاه به بعض أهله في السوق فأكله وغلبت عليه شهوته، وكأنه قبله لا يأكل شيئاً، حتى يبحث عن أصله، فلما فرغ من أكله نام فاستيقظ فازعاً وسأل الذي اشتراه له من أين هو؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 فقال: لا أدري. إلا أني اشتريته من السوق فوجه ليبحث عنه. فقيل له من رطب حلوان. قال يوسف رأيت في منامي كأني أقيء خنافس وكان والله أعلم في أرض حلوان شيء. وتوفي في صفر سنة خمسين ومائتين مولده سنة خمس ومائة وسيأتي ذكر ابنه بعد هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 سعيد بن هشام بن صالح المخزومي بصري نزل الفيوم. قال الحارث بن مسكين: كان من أصحاب مالك. وكان قد تقدم. قال ابن شعبان أسند عن مالك حديث: لا تسبوا الدهر. روى عنه الحارث بن مسكين، وقال الحارث: قدم مصر قاض عمري كأنه شعلة نار. وكان يجلس للناس من صلاة الغداة إلى الليل. وكان حسن الطريقة مستقيم الأمر، وكان ابن وهب وأشهب وجميع أهل العلم يحضرون مجلسه. فقال: أعينوني ودلوني على قوم من أهل البلد استعين بهم، فمن يرضى؟ قال سعيد: فكتب إليَّ أن أخلفه بالفيوم، وأعينه. وكتب إلي أصحابي يسألونني ذلك ويخبرونني بصحة واستقامة أمره، فأشكل علي الأمر ولم أدر ما اصنع. فسمعت قائلاً لا أراه ويقول: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار.. الآية. فقلت لقد بيّن الله لي ووعظت، وعزمت على أن لا أدخل في شيء، وكتبت إلى أصحابنا أن كفيتموني وإلا انتقلت فكتب إلى بعضهم يعتذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 سعيد بن الجهم بن قاسم مولى الحارث بن داخر الأصبحي. ثم السحلولي أبو عثمان الجيزي. مسكنه الجيزة. ذكره أبو عمر الكندي: وكان فقيهاً من أصحاب مالك، وهو أحد أصفياء الشافعي، وقبل شهادته قضاة مصر. قال الأمير: هو مقبول القول لا نعلمه أسند إلاّ حديثاً واحداً. ويروي عن ابن عفير، والربيع بن سليمان، روى عنه أبو الربيع الرشديني في كتاب عبد مصر المصريين والحارث بن مسكين. قال الكندي: لما اشتهر سعيد بن الجهم عند العمري، تصدق العمري واعتق فرجا بشهادته. وذكر أبو الربيع الرشديني في كتاب عباد مصر، المصريين. قال: كان يرجى بعد يوسف ابن عمرو، وكان من أصحاب مالك. وقد رايته وجالسته. قال سعيد ابن الجهم: جمع أبو شريح عبد الله بن شريح، وعمر بن الحارث الصلاة في المسجد، يعني بمصر، فقال أبو شريح لعمرو بن الحارث: ما تقول في رجل ورث مالاً حلالاً فأراد أن يخرج من جميعه إلى الله زهداً في الدنيا، ورغبة فيما عنده؟ قال: لا يفعل. فقال أبو شريح سبحان الله، لا يفعل، لا يزهد في الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 فقال عمرو بن الحارث: ما أدب الله به نبيه أفضل من ذلك. قال الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم. ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك.. الآية. ولكن تقدم بعضاً وتمسك بعضاً. فقال أبو شريح ما أفقهك يا أبا أمية، أزهد في الدنيا، يا أبا أمية، فقال عمر وادعو الله لي يا أبا شريح. توفي سنة تسع ومائتين. أبو مسعود الماضي بن محمد بن مسعود الغافقي: ويقال أبو يعقوب، ويقال أبو عبد الملك، وذكروه في الرواة عنه. وعده من القائلين بقوله من علماء مصر، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 أبو الحسن علي بن زياد الإسكندراني من رواة مالك المشهورين، من أهل الخير والزهد. يعرف بالمحتسب. ولم يشتهر في الفقهاء من أصحابه، ولكن له رواية عن مالك في الحديث والمسائل. وهو روى عن مالك إنكار مسألة وطء النساء في أدبارهن. قال بعض رواة مالك: حضرت علي بن زياد يسأل مالكاً، فقال عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يحدثون عنك أنك تجيز وطء النساء في أدبارهن، فقال مالك: كذبوا عليّ عافاك الله. وقد ذكرنا في باب علي بن زياد التونسي في الطبقة قبل هذا. وذكرنا أخباره وفضائله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 ومن أهل أفريقية أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سليم بن قيس. كنيته أبو عبد الله. قال أبو العرب في طبقاته: وأبو علي البصري في معربه، أنه من خراسان من نيسابور. قال بعضهم ولد بحرّان من ديار بكر. وقيل بل قدم أبوه وأمه حامل، وقد كان علم القرآن ببعض القرى، ثم اختلف إلى علي بن زياد بتونس، فلزمه وتعلم منه وتفقه بفقهه، ثم رحل إلى المشرق، فجمع من مالك ابن انس موطأه، وغيره. ثم ذهب إلى العراق فلقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو، وكتب عن يحيى ابن أبي زائدة وهشيم، والحسيب وأبي شريك، وأبي بكر بن عياش وغيرهم. وأخذ عنه أبو يوسف موطأ مالك. وذكر يحيى بن اسحاق أنه قال: أخذه عني محمد بن الحسن، ولا أدري كيف هذا، محمد قد سمع الموطأ من مالك، وسمع عليه حديثاً كثيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 قال محمد: أقمت عند مالك ثلاث سنين، ولا سمعت منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث. قال أسد: رأت أمي كأنَّ حشيشاً نبيت على ظهري، ترعاه البهائم فعبر لها بأنه علم يحمل عني والله تعالى أعلم. ذكر أخباره في رحلته قال أسد: لما خرجت من المشرق وأتيت المدينة فقدمت مالكاً وكان إذا أصبح خرج آذنه، فأدخل أهل المدينة، ثم أهل مصر، ثم عامة الناس فكنت أدخل معهم. فرأى مالك رغبتي في العلم، فقال لآذنه: ادخل القروي مع المصريين. فلما كان بعد يومين أو ثلاثة قلت له: إن لي صاحبين وقد استوحشت أن أدخل قبلهما فأمر بإدخالهما معي. وكان ابن القاسم وغيره يحملني أن اسأل مالكاً، فإذا أجابني قالوا لي قل له فإن كان كذا وكذا، فضاق علي يوماً وقال هذه سلسلة بنت سلسلة. إن كان كذا كان كذا. إن أردت فعليك بالعراق. فلما ودعته حين خروجي إلى العراق، دخلت عليه وصاحبان لي، وهما حارث التميمي وغالب صهر أسد. فقلنا له: أوصنا. فقال لي أوصيك بتقوى الله العظيم والقرآن ومناصحة هذه الأمة خيراً. فراسة من مالك فيه. فولي أسد بعدها القضاء. وقال لصاحبي أوصيكما بتقوى الله والقرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 ونشر هذا العلم. قال سليمان بن خالد: لما سمع أسد الموطأ عن مالك قال له: زدني سماعاً. قال حسبك ما للناس. وكان مالك إذا تكلم بمسألة كتبها أصحابه فرأى أسد أمراً يطول فرحل إلى العراق، وقال: فلما أتيت الكوفة، أتيت أبا يوسف، فوجدته جالساً ومعه شاب وهو يملي عليه مسألة. فلما فرغ منها قال ليت شعري ما يقول فيها مالك؟ قلت كذا وكذا. فنظر إليّ، فلما كان في اليوم الثاني كان مثل ذلك، وفي الثالث مثله، فلما افترق الناس دعاني، وقال، من أين أنت ومن أين أقبلت؟ قال فأخبرته. قال وما تطلب؟ قلت ما ينفعني الله به، فعطف عليّ الشاب الجالس، فقال ضمه إليك، لعل الله ينفعك في الدنيا والآخرة فخرجت معه إلى داره، فإذا هو محمد بن الحسن. فلزمته حتى كنت من المناظرين من أصحابه. قال أسد: قلت لمحمد من الحسن أنا غريب والسماع منك قليل. قال اسمع العراقيين بالنهار وجئني بالليل وحدك تبيت معي، فأسمعك. فكان إذا رآني نعست نضج وجهي بالماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 ورآني يوماً أشرب ماء السبيل فقال لي، تشربه؟ فقلت له أنا ابن سبيل. فلما كان الليل بعث إليّ بثمانين ديناراً. وقال ما عرفت أنك ابن سبيل، إلا الآن. فلما أراد الانصراف إلى إفريقية لم يكن عنده ما يتحمل به، فذكر ذلك لمحمد بن الحسن، فقال له، أذكر شأنك لولي العهد. فلقيه ابن الحسن وذاكره أمره ثم قال لأسد، قف بالحاجب يوم كذا يدخلك عليه، واعلم أنك حيث تنزل نفسك أنزلوك. فمضى أسد وأستأذن، فأذن له فدخل حتى أنتهى إلى موضع أمر بالجلوس فيه، ومضى الخادم الذي أدخله، فجاء بمائدة مغطاة فجعلها بين يديه قال أسد ففكرت وقلت ما أرى هذا إلا منقصة. وقلت للخادم، هذا الذي جئتني به منك أو من مولاك. قال مولاي أمرني به. قلت: مولاك لا يرضى بهذا يأكل ضيفه دونه. يا غلام هذا برّ منك وجبت مكافأتك عليه. وكانت في جيبي أربعون درهماً لم يبق معي سواها فدفعتها إلى الخادم، وقلت له أرفع مائدتك. ففعل وعرّف مولاه. فبلغني أنه قال حر والذي لا إله إلا هو. ثم قال الخادم ادخل. فدخلت عليه. وهو على سرير ومعلمه على آخر، وسرير ثالث. قال فأمرني بالجلوس عليه، فجلست. وجعل يسائلني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وأجيبه، فلما قرب انصرافي كتب رقعة وختمها ودفعها إليّ وقال قف بهذا إلى صاحب الديوان وتعود إليّ. فأخذت الرقعة وحضرتها. ولقيت محمداً من الغد فسألني، فأعلمته. فقال لي أوصل الساعة الرقعة. ففعلت. فدفع إليّ صاحب الديوان عشرة آلاف درهم، فأعلمت محمد بن الحسن فقال لي إن عدت إلى القوم صرت لهم خادماً، وفيم أخذت عون لك. قال أسد، ورغب إليّ محمد أن أزامله إلى مكة. فكأني كرهت هذا. فقال لي أصحابه وددنا لو اشترينا هذا منه بعشرة آلاف درهم، فزاملته. فكنت أسأله عما أريد، وربما سألته وهو في الصلاة، فيمهد بالقراءة يعلمني أنه يصلي، فأقول: تشغل عني الصلاة وقد قطعت البلاد إليك. فيقطع ويجيبني. قال محمد بن الحارث وأبو اسحاق الشيرازي ويحيى بن اسحاق وبعضهم يزيد على بعض، رحل أسد إلى العراق فتفقه بأصحاب أبي حنيفة. ثم نعي مالك فارتجت العراق لموته. قال أسد فوالله ما بالعراق حلقة إلا وذكر مالك فيها. كلهم يوقل مالك، واجتماعهم على ذلك ذكرته لمحمد بن الحسن، وهو المنظور فيهم. وقلت له لأختبره ما كثرة ذكركم لمالك، على أنه يخالفكم كثيراً. فالتفت إليّ وقال لي اسكت. كان والله أمير المؤمنين في الآثار. فندم أسد على ما فاته وجمع أمره على الانتقال إلى مذهبه. فقدم مصر ولم يذكر أبو اسحاق أسداً فيمن أخذ عن مالك ولا أن له عنه سماعاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وإنما ذكره في اتباع أصحابه. وأرى أنه لم يبلغه ذلك وإلا فأخذه عنه صحيح مشهور. قال ابن الحارث: فقال أسد عن ذلك: إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه. والله تعالى أعلم. م يذكر أبو اسحاق أسداً فيمن أخذ عن مالك ولا أن له عنه سماعاً، وإنما ذكره في اتباع أصحابه. وأرى أنه لم يبلغه ذلك وإلا فأخذه عنه صحيح مشهور. قال ابن الحارث: فقال أسد عن ذلك: إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه. والله تعالى أعلم. ذكر الكتب الأسدية والمدونة قال أبو اسحاق الشيرازي: لما قدم أسد مصر أتى إلى ابن وهب وقال هذه كتب أبي حنيفة، وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك. فتورع ابن وهب وأبى. فذهب إلى ابن القاسم فأجابه إلى ما طلب. فأجابه فيما حفظ عن مالك بقوله. وفيما شك قال: أخال وأحسب وأظن به، ومنها ما قال فيه، سمعته يقول في مسالة كذا وكذا. ومسألتك مثله، ومنه ما قال فيه باجتهاده على ًاصل قول مالك، وتسمى تلك الكتب الأسدية. قال أبو زرعة الرازي: كان أبو أسد قد سأل عنها محمد بن الحسن. قال أسد: فكنت أكتب الأسئلة بالليل في قنداق من أسئلة العراقيين على قياس قول مالك. وأغدو عليه بها، فأسأله عنها. فربما اختلفنا فتناظرنا على قياس قول مالك فيها. فارجع إلى قوله أو يرجع إلى قولي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 قال: وقال لي ابن القاسم: كنت اختم في اليوم والليلة ختمين فقد نزلت لك عن واحدة رغبة في إحياء العلم. قال: ولما أردت الخروج إلى إفريقية دفع إليّ ابن القاسم سماعه من مالك. وقال لي ربما أجبتك وأنا على شغل. ولكن أنظر في هذا الكتاب فما خالفه مما أجبتك فيه، فأسقطه. ورغب إلي أهل مصر في هذه الكتب فكتبوها مني. قال وهي الكتب المدونة وأنا دونتها. وأخذ الناس عن ابن القاسم تلك الكتب. وقال سليمان بن سالم: إن أسداً لما دخل مصر اجتمع مع عبد الله بن وهب، فسأله عن مسألة فأجابه بالرواية. فأراد أن يدخل عليه، فقال له ابن وهب: حسبك إذ أدّينا إليك الرواية. ثم أتى إلى أشهب فأجابه. فقال له من يقول هذا: قال أشهب. هذا قولي. فدار بيننا كلام فقال عبد الله بن عبد الحكم الأسد: كذا مالك. ولهذا أجابك بجوابه. فإن شئت فأقبل وإن شئت فأترك. فرجع إلى ابن القاسم فسأله، فأجابه. فأدخل عليه، فأجابه حتى انقطع أسد في السؤال. فقال له ابن القاسم كذا. ازياد مغربي. وقال له من أين أقبلت؟ حتى أتبين لك. فقام أسد في المسجد على قدميه، وقال: معاشر الناس، إن كان مات مالك، فهذا مالك. فكان يسأله كل يوم، حتى دون عنه ستين كتاباً، وهي الأسدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 قال وطلبها منه أهل مصر، فأبى أسد عليهم، فقدموه إلى القاضي، فقال لهم: أي سبيل لكم عليه! رجل سأل رجلاً فأجابه وهو بين أظهركم فاسألوه كما سأله. فرغبوا إلى القاضي في سؤاله قضاء حاجتهم في نسخها، فسأله، فأجابه، فنسخوها، حتى فرغوا منها وأتى بها أسد إلى القيروان، فكتبها الناس. قال ابن سحنون: وحملت لأسد بتلك الكتب في القيروان - رياسة. قال غيره: وأنكر عليه الناسإ إذ0جاء بهذه الكتب، وقالوا أجئتنا بأخال وأظن وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف. فقال: أما علمتم أن قول السلف هو رأي لهم وأثر لمن بعدهم، ولقد كنت أسال ابن القاسم عن مسألة فيجيبني فيها، فأقول له: هو قول مالك؟ فيقول: كذا أخال وأرى وكان وربما. ورعاً يكره أن يهجم على الجواب. قال: والناس يتكلمون في هذه المسائل، ومنعها اسد من سحنون، فتلطف سحنون حتى وصلت إليه. ثم ارتحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم فيها شيء لا بد من تفسيره، وأجاب عما كان يشك فيه، واستدرك فيها أشياء كثيرة، لأنه كان أملاها على أسد من حفظه. قال ابن الحارث: رحل سحنون إلى ابن القاسم وقد تفقه في علم مالك. فكاشف ابن القاسم عن هذه الكتب مكاشفة فقيه يفهم، فهذبها مع سحنون، وحكي أن سحنون لما ورد على ابن القاسم سأله عن أسد فأخبره بما انتشر من علمه في الآفاق، فسرّ بذلك. ثم سأله وأحله ابن القاسم من نفسه بمحل، وقال له سحنون: أريد أن أسمع منك كتب أسد فاستخار الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وسمعها عليه. وأسقط منها ما كان يشك فيه من قول مالك، وأجابه فيه على رأيه. وكتب إلى أسد أن أعارض كتبك على كتب سحنون فإني رجعت عن أشياء مما رويتها عني. فغضب أسد وقال: قل لابن القاسم أنا صيرتك ابن القاسم، ارجع عما اتفقنا عليه إلى ما رجعت أنت الآن عنه. فترك أسد سماعها، وذكر أن بعض أصحاب أسد دخل عليه وهو يبكي، فسأله. فأخبره بالقصة. وقال أعرض كتبي على كتبه وأنا ربيته؟ فقال له هذا: وأنت الذي نوهت لابن القاسم، فقال له لا تفعل. لو رأيته لم تقل هذا. وذكر أن أسداً همّ بإصلاحها، فرده عن ذلك بعض أصحابه، وقال لا تضع قدرك تصلح كتبك من كتبه وأنت سمعتها قبله؟ فترك ذلك. وذكر أن ذلك بلغ ابن القاسم، فقال: اللهم لا تبارك في الأسدية. قال الشيرازي فهي مرفوضة إلى اليوم. قال الشيرازي: واقتصر الناس على التفقه في كتب سحنون، ونظر سحنون فيها نظراً آخر فهذبها، وبوّبها ودونّها، والحق فيها من خلاف كبار أصحاب مالك ما أختار ذكره، وذيّل أبوابها بالحديث والآثار، إلا كتباً منها مفرقة، بقيت على اصل اختلاطها في السماع، فهذه هي كتب سحنون المدونة والمختلطة. وهي أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها، عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوههم، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم، ونسيت الأسدية فلا ذكر لها الآن وكان لمحمد بن عبد الحكم فيها اختصار، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 ولأبي زيد بن أبي الغمر فيها اختصار، وللبرقي فيها اختصار، وهو الذي كان صححها على ابن القاسم، وكان عليها مدار أهل مصر. قال أحمد بن خالد: كان واضع كلام ابن القاسم - يريد الأسدية - رجل من أهل مصر، يقال له الأحدب. فأخذها سحنون ودوّنها، وأدخل فيها الآثار. قال سحنون: عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح، وروايته: وكان يقول إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن. تجزي في الصلاة عن غيرها، ولا تجزي غيرها عنها. أفرغ الرجال فيها عقولهم، وشرحوها وبينوها فما اعتكف أحد على المدونة ودارسها إلا عرف ذلك في روعه، وزهده، وما عداها إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، ولو عاش عبد الرحمان أبداً ما رأيتموني أبداً. قال محمد بن عبد الحكم: جاء ابن وهب إلى أبي، بعد موت ابن القاسم، فقال له: تبرأ - ابن القاسم في قبره. لا ترو عنه شيئاً من كتبه. يعني الأسدية. فما رأى أبي فيها شيئاً إلا مثل المسألة والمسألتين على سبيل المذاكرة. ومال أسد بعد هذا إلى كتب أبي حنيفة، فرواها وسمعها منه أكثر الكوفيين يومئذ، ومال إليهم. ولما أحرق عباس الفارسي كتب المدونة وغيرها من كتب المدنيين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 ضربه أسد درراً. فعنته رجل في ذلك، فقال: إنما أنجيته بضربي هذا من القتل بين يدي - الأمير لحرقه كتباً فيها العلم، وفيها ذكر الله تعالى. فقلت: أيها الأمير دعني أضربه وأشهره، فهو أبلغ له، فاستنقذته بذلك من القتل. وكان عباس هذا محدثاً يبغض أهل الفقه، والرأي، ويقع في أسد وابن القاسم. فيقال أن ابن القاسم دعا الله عليه أن يمنحه في بلده وأنه تشكى منه الأسد. ذكر مكان أسد من العلم والفضل والسنة قال أبو العرب: كان أسد ثقة، لم يرم ببدعة. قال بكر بن حماد: قلت لسحنون: يقولون أن أسداً قال بخلق القرآن. فقال: والله ما قاله. قال داود بن يحيى: رأيت أسداً يعرض التفسير فتلا هذه الآية: فاستمع لما يوحى إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. فقال أسد: ويح أهل البدع، هلكت هوالكهم، يزعمون أن الله خلق كلاماً يقول ذلك الكلام المخلوق. إنني أنا الله.. الآية. قال يحيى بن سلام: حدث أسد يوماً بحديث الدومة، وسليمان البراء المعتزلي في آخر المجلس، فأنكر. فسمع أسد فقام إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وجمع بين طوقيه ولحيته واستقبله بنعله، فضربه حتى أدماه وطرده من مجلسه، وقيل بل كان يقرأ عليه في تفسير المسيب بن شريك: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. وسليمان حاضر، فقال: من الانتظار، يا أبا عبد الله. فأخذ أسد بتلابيبه ونعلاً غليظة بيده الأخرى، وقال: يا زنديق لتقولنها أو لا: تبصر بها عينيك. فقال سليمان: نعم، تنظر. قال سلمان بن عمران: سمع أسد بن هشيم اثني عشر ألف حديث. وقال: سمعت من أبي زائدة عشرين ألف حديث. وقال ربما رأيت أسداً يدق صدره ويقول: واحسرتا إن مت ليدخلن القبر مني علم عظيم. قال: وبسبب أسد ظهر العلم بإفريقية. قال غيره. كان أسد أعلم العراقيين بالقيروان كافة. ومذهبه السنة لا يعرف غيرها. قال: ولما قدم أسد القيروان سمع منه علماؤها ووجوهها سحنون ابن سعيد وأمثاله من المدنيين، وأصحابه المعروفون به، كعمرو بن وهب وسليمان بن عمران وبني قادم، وابن المنهال، وسائر الكوفيين سمعوا منه كتب أبي حنيفة. وكان أسد إذا سرد أقوال العراقيين يقول له مشائخ المدنيين: أوقد القنديل الثاني يا أبا عبد الله. فيسرد أقوال المدنيين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 قال أسد: بعث إليّ ابن غانم يشاورني، فأجبته. فقال بعدما خرجت: ما أحب أن أشاور في هذا البلد غير هذا الفتى. وكان أسد إذا جاء باب ابن غانم فقرعه، فقيل: من؟ قال: أسد الفقيه. فيقول ابن غانم: صدق. يشاورني فأجبته. فقال بعدما خرجت: ما أحب أن أشاوره. قال عمران بن أبي محرز: جاءنا موت أسد فاستعظمه أبي، وقال: اليوم مات العلم. قال أسد: كان مالك يقول من بنى أو غرس في أرض بينه وبين قوم مشاعة، فللشركاء عوض من ذلك في الأرض، إن كان بقي منها عوض. ثم رجع مالك فقال: يقول أهل العراق أن الأرض تقسم، فإن صار الغرس في نصيب غارسه كان له، وإن صار في نصيب غيره قيل للغارس أرفع غرسك. واستفتى زيادة الله أمير إفريقية، أسداً وأبا محرز الكوفي وزكريا ابن الحكم في زنديق. فقال أبو محرز وأسد: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال أبو زكريا: قد روى أهل العلم أنه إن كان مظهراً للإسلام ثم أطلع بعد ذلك لم تقبل له توبة، قال أبو محرز: فأعطه السيف يقتله. قال زكريا: إنما رويت هذا، ولا تأخذ به. فقال أبو محرز: يا أحمق، فتجري هذا على قتله، وأنت لا تأخذ به. قال أسد: لو قتل بعد التوبة كان عندي شهيداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وكان أسد لا يرى في التعريض الحد، ويقول بتحريم النبيذ. وسأله رجل عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكون الرجل مؤمناً حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله وماله والناس أجمعين. وقال له: أخاف أن لا أكون كذلك. فقال له: ارأيت لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فقرب ليقتل أكنت تفديه بنفسك؟ قال: نعم. وبأهلك وولدك؟ قال: نعم. فقال لا بأس. فقال له الرجل: فرّجتها عني فرج الله عنك. ولاية أسد القضاء والإمارة ولي زيادة الله أسداً القضاء شريكاً لأبي محرز الكناني، سنة ثلاث أو أربع ومائتين. فاشتركا في القضاء. وكان ما بينهما غير جميل، فكان أسد أغزرهما علماً وفقهاً، وأبو محرز أسدهما رأياً، وأكثرهما صواباً. قام قاضياً إلى أن خرج إلى صقلية، سنة اثنتي عشرة والياً على جيشها. وكان على علمه وفقهه أحد الشجعان. فخرج أسد في عشرة آلاف رجل منهم تسعمائة فارس، وكان سبب غزوة صقلية أنهم كانوا معه في هدنة، وكان في شرطهم أن من دخل إليهم من السلمين وأراد أن يرد بعضهم رده، فرجع إلى زيادة الله أن عندهم أسرى، فجاء رسل طاغيتها، فجمع زيادة الله العلماء وسألهم عن الأمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 فقال أبو محرز: يستأنى حتى يتبين. وقال أسد: يسأل رسلهم عن ذلك، فقال أبو محرز: كيف يقبل قولهم عليهم. فقال أسد: بالرسل هادناهم وبهم نجعلهم ناقضين. قال الله تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلّم وأنت الأعلون. فنحن الأعلون. فسأل الرسل، فاعترفوا أنهم في دينهم لا يحلُّ لهم ردهم. فنحن الأعلون. فسأل الرسل، فاعترفوا أنهم في دينهم لا يحلُّ لهم ردهم. فأمر زيادة الله بالغزو إليها. فقال أسد إذ ذاك لزيادة الله: من بعد القضاء، والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟ فقال: لا، ولكني وليتك الإمرة، وهي أشرف، وأبقيت لك اسم القضاء. فأنت أمير، قاض، فخرج إلى صقلية وظفر بكثير منها وتوفي وهو محاصر سرقوسة منها. وكان أيضاً قد غزا سردانية، فأشرف على فتحها، وحسده بعض من كان معه، فانهزم. وبلغ ذلك الأمير. فقال له: بلغني كذا. فهمّ لي من فعل ذلك معه، فلم يفعل. ولك خرج أسد إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم والناس يشيعونه، وأمر زيادة أن لا يبقى أحد من رجاله إلا شيعه. فلما نظر الناس حوله من كل جهة، وقد صهلت الخيل وضربت الطبول وخفقت البنود، قال: لا غله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر المسلمين ما ولي لي أب، ولا جدّ ولا رأي أحد الناس من سلفي، مثل هذا. ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 بلغت ما ترون إلا بالإقلام فاجتهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة. وحكى سليمان بن سالم أن أسداً لقي ملك صقلية في مائة ألف وخمسين ألفاً. قال الرواي فرأيت أسداً لقي ملك صقلية في مائة ألف وخمسين ألفاً. قال الرواي فرأيت أسداً وفي يده اللواء وهو يزمزم وأقبل على قراءة يس، ثم حرض الناس، وحمل وحملوا معه، فهزم الله جموع النصارى، ورأيت أسداً وقد سالت الدماء على قناة اللواء. حتى صار تحت إبطه، ولقد رد يده في بعض تلك الأيام فلم يستطع مما اجتمع من الدم تحت إبطه والله تعالى أعلم. بقية أخباره ووفاته قال عبد الرحيم الزاهد: قلت لأسد لما قدم علينا بكتب أهل المدينة وأهل العراق: أي القولين تأمرني اتبع واسمعه منك؟ فقال لي: إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بقول مالك، وإن أردت الدنيا، فعليك بقول أهل العراق. وقال ابن حاري فكان هذا الرجل بعد يطعن على أسد بهذه القصة. وكان يقول الحق عنده في مذهب مالك. وكان يفتي بغيره. ولما غلب عمران بن مجاهد على القيروان، بعث إلى أسد أن اخرج معنا، فتمارض ولزم بيته، فبعث إليه: إن لم تخرج معي وإلا بعثت إليك من يجر برجلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 فقال للرسول: لئن أخرجتني لأنادين القاتل والمقتول في النار. فلما سمع ذلك تركه. قال بعضهم: بعث الأمير إلى أبي محرز وأسد، وهما قاضياه فأقبل أسد، فإذا أبو محرز ينتظره مع بعض الرسل، فقال كيف أصبحت أبا محرز؟ فلم يرد عليه شيئاً، وصار إلى الأمير، فأجلس أبا محرز عن يمينه وأسداً عن شماله، ثم دفع صكاً إلى أسد ليقرأه، فلم يقرأ، باسم الله الرحمان الرحيم. فقال له أبو محرز: أخطأت. فقال أسد أيها الأمير لقيته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، ولم أقرأ إلا كلمتين فقال لي أخطأت. فنظر زيادة الله إليه، فقال أبو محرز: ما سلّم علي ولو سلّم علي لرددت عليه، وإنما قال: كيف أصبحت؟ وأصبحت مغموماً فلو أخبرته لسررته. ثم دخل عليهم رجل فذكر للأمير أنه رأى كأن جبرائيل هبط من السماء، ومعه نور حتى وقف بين يديك وصافحك. وفي رواية وقبل يدل، فابتسم زيادة الله، وقال: هذا عدل يجريه الله على يدي. فقال أسد كذب الشيخ أيها الأمير، فغضب ونظر إلى أبي محرز كالمحرك له، ليعلم ما بينهما. فقال أبو محرز: صدق أسد وكذب الشيخ. لأن جبريل لا ينزل بوحي إلا على نبي، وقد انقطع الوحي. وهذا وأمثاله يأتونكم بمثل هذا طلباً للدنيا، فاتق الله. فسكت الأمير وخرجا. فجزى أسد أبا محرز خيراً فقال له: لله فعلت ذلك لا لك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وكانا على تباعدهما لا يستحل أحدهما من صاحبه ما لا يحل. ولم يكن عند أسد عربية، وكان صاحبه معرباً قليل الكلام. وقيل له: ما هذا الذي يقول الناس في أمر أبي بكر وعلي. فقال: والله ما يخفى علينا من يستحق الولاية بعد والينا وقاضينا. فكيف يخفى على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من يستحق الأمر بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام. ولما قدم منصور على ابن الأغلب ودنا من القيروان، خرج إليه أسد وأبو محرز وهما قاضيان، وكان من قوله لهما اخرجا معنا، أما تعلمان أن هذا أظلم المسلمين. فقال أبو محرز: وقد خاف منه. نعم، واليهود والنصارى. وأما أسد: لما انصرفت من العراق إلى مصر، قصدت أشهب واعتمدت عليه، وكان في خلقه ضيق، وكان علمه خيراً من دينه، فذكر يوماً أبا حنيفة، فأزرى عليه، ثم فعل بمالك مثل ذلك، فنهضت إليه وقلت له: يا أشهب. فأخذ الطلبة بثوبي وأقعدوني وقالوا: ما أردت أن تقول له؟ قال: أقول إنما مثلك ومثلهما مثل من بال بين بحرين، فرغى بوله فقال: هذا بحر ثالث. قال فتركته. ومات ابن الاسم فخير لي، وكان أورع منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وكان أسد يقول: أنا أسد، وهو خير الوحوش، وأبي فرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح. وكانت وفاة أسد في حصار سرقوسة، من غزوة صقلية، وهو أمير الجيش وقاضيه. سنة ثلاث عشر ومائتين. وقيل أربع عشرة، وقيل سبع عشرة. وقبره ومسجده بصقلية. مولده سنة خمس وأربعين ومائة، بحران ويقال سنة ثلاث ويقال سنة اثنتين وأربعين وكان قدومه من المشرق، سنة إحدى وثمانين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 عبد الله بن أبي حسان اليحصبي من أنفسهم واسم أبي حسان فيما قاله أبو العرب وغير واحد: يزيد بن عبد الرحمان. وقال ابن سحنون: اسمه عبد الرحمان. ويقال عبد الرحمان ابن يزيد. قال أبو علي بن أبي سعيد في كتابه: هو من أشراف أفريقية، بشرف أبيه وبيته وفقهه وأدبه. وكان يسكن بالقيروان بحارة يحصب المنسوبة إليهم. وأبوه من عربها البلديين من أنفسهم. وله في حرب البرابرة بلاء حسن، وولي الأريس، قال أبو العرب: ورحل إلى مالك فكان عنده مكرماً، وسمع من ابن أبي ذئب وابن عيينة وابن أنعم، وكان ثقة. ولم يطعن بشيء إلا بهفوة كانت منه عند زيادة الله فيما حكي، والله أعلم بها. وروى عنه سحنون بن سعيد، وفرات وسليمان ومحمد بن وضاح. قال ابن أبي حسان: لما أتيت مالكاً وجدته قد ارتفع، وباب داره مغلق، فقرعت الباب فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أهل المسائل أنت أم من أهل الحوائج؟ قلت غريب أتيته قاصداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 فقالت: ليس هذا وقتك. أدخل السقيفة. فدخلت فلما كان وقت خروجه، فتحت الباب ووصف صورة المجلس، ثم خرج مالك بين تلك الجارية وفتى، يخط رجلاه الأرض كبراً. كأني أنظر إلى جماله وبهائه وشعر رأسه قد تعقف جعوده، فلما استوى جالساً عم بسلامه، فردّوا عليه. فقمت فسلمت عليه، ودفعت إليه كتاب ابن غانم، فقال لي: صاحبك على القضاء. قلت نعم. قال: ما ذاك بخير له. ثم قرء عليه، فقال للقوم: هذا كتاب أتاني من هذا الرجل، يخبرني عن حاله في بلده وقدره، وقد قال عليه السلام: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. فقمت بين يديه، فأوسع لي رجل منهم، فجلست. فذكروا العلم. فقال: لا يؤخذ العلم إلا عن الموثوق بهم في دينهم. قم جلس يسال، وأنا قاعد. فربما قال: العلم أوسع من ذلك. فسئل وأنا قاعد عن خمس وعشرين مسألة. فما أجاب إلا اثنتين. وقال لا حول ولا قوة إلا بالله. واختلف إليه فلم يزل لي مكرماً رحمه الله تعالى وكان قد جعل لرجل ثلاثة دراهم كل يوم، يأخذ له مجلساً يجلس فيه عند مالك. فإذا جاء ابن أبي حسان قام له الرجل، فجلس فيه. وكان أبن أبي حسان إذا جاء مجلس ابن عيينة قال أصحابه: جاءكم السؤوم لميل سفيان إليه، وحديثه معه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 قال ابن أبي حسان: سمعت مالكاً يقول: أهل الذكاء والذهن والعقول من أهل الأمصار ثلاثة، المدينة ثم الكوفة ثم القيروان. قال ابن وهب: ما رأيت مالكاً أميل إلى أحد منه لابن أبي حسان. ذكر علمه وفضله وبقية أخباره قال سحنون: كنت أول طلبي إذا تعلقت على مسألة من الفقه، آتي ابن ابي حسان. فكأنما في يده مفتاح لما انغلق. وجاء رجل إلى ابن وهب فأخبره بموت ابن غانم فاسترجع ابن وهب، فقال له من ولي بعده: قال أبو محرز: قال ما أعرفه. فأين ابن أبي حسان، فوالله ما رأيت مالكاً أميل إلى أحد منه إليه. قال أبو علي البصري: كان عبد الله بن أبي حسان غاية في الفقه بمذهب مالك. حسن البيان عالماً بأيام العرب وأنسابها، راوية للشعر، قائلاً له. وعنه أخذ الناس أخبار إفريقية وحروبها. روى ذلك عن أبيه وكان جواداً. قال المالكي وكان مفوهاً قوياً على المناظرة ذابّاً عن السنة متبعاً لمذهب مالك، شديداً على أهل البدع، قليل الهيبة للملوك، لا يخاف في الله لومة لائم. دخل مرة على الأغلب فإذا الجعفري والعنبري يتناظران في القرآن، فقال الجعفري: هذا شيخنا أبو محمد يعنيني عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 فقال ابن أبي حسان للعنبري ما أنت وذا؟ هذا بحر عميق، عليك بكذا بكذا. فقال: إن كان معه أبو محمد فهذا الأمير معي. فقال ابن أبي حسان ما للملوك والكلام في الدين. فأحفظ ذلك على الأغلب. ثم قال: من أتى السلطان فهو مثله. فقال ابن أبي حسان إنما أتاكم الآتي، لأنكم خير ممن هو شر منكم، ولم أتى من هو شر منكم أتاه الناس، ولم يأتوكم. وجاء رجل إلى ابن أبي حسان فأعلمه: أن داره تهدمت، وشاوره في بنيانها، ومن يبني عنده، فدفع ابن أبي حسان إليه ثلاثين ديناراً، وقال استعن بها على بنائك. فقال له بعض ولده: أتاك يشاورك فأعطيته. قال لست ببناء وإنما تعرض لمعروفي. ولما ثار الجند على زيادة الله أغاروا على منازل ابن أبي حسان، وانتهبوها وطلبوه فاستخفى، وكان سيء الرأي فيهم، فقال شعراً منه: أباح طغام الجند جهلا حريمنا ... وشقوا عصا الإسلام من كل جانب وعاشوا وثاروا في البلاد سفاهة ... وظنوا بأن الله غير معاقب وما عجب بعض الأعاجم ضلّة ... نزارا وقحطان الكرام المناسب ولكن من قوم إلينا اعتزاؤهم ... فبغضاؤهم فيها لإحدى العجائب ولما اشتد طلبهم له لجأ ابن أبي حسان إلى من بالسّوس من قومه يحصب، من جملة الجند الجائرين. ومتّ إليهم بالنسب واستجار بهم، فأجاروه، وأمنوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 فما ظفر زيادة الله بعد بالقيروان، جمع العلماء فسألهم في حال الجند القائمين علي، فعرّفوه ما في العفو، ورغبوه فيه. فقال ابن أبي حسان: العفو مفسدة، ولن يلدغ المؤمن من جحر مرتين. ويقال بل أنشد: من لم يؤدبه الجميل ... ففي عقوبته صلاحه فقال أبو محرز القاضي، وقال غيره: العفو أقرب للتقوى. وقال لابن أبي حسان: من أجل شويهاتك أو رمنكاتك، تستحل دماء المسلمين. ووجد هؤلاء الكوفيون أعداؤه السبيل إلى التشنيع عليه، عند الجند والعامة بهذه الكلمة. فحفظت عليه وسقط بها. وقيل وعمد كل من سمع منه علماً فكتبه عنه، فقطعها على باب داره، وأصبح على باب داره منه شيء كثير، واعتذر عنه من أنصف، إنما أراد فتّاك الجند الذين أفسدوا البلد. قال ابن أبي حسان: رأيت هارون الخليفة وهو يسعى بين الصفا والمروة، فمشى في بطن الوادي ونسي السعي، فلما جاوزه ذكر فرأيته رجع القهقري، حتى رجع إلى ما دون بطن الوادي، ثم سعى في بطنه واستدرك ما فاته، فأعجب ذلك من حضره من العلماء. ولما أصلح زيادة الله جامع القيروان، قال ابن أبي حسان: عاد المسجد مضرياً. لأن مختطه عقبة القريشي، وزيادة الله تميمي وهما مضريان. وكان حسان بن النعمان الغساني، ويزيد ابن حاتم الأزدي، قد جدداه قبل زيادة الله، فقال له: ابن أبي حسان: إبل عثرت أحلاسها. وقال له مرة: محونا أثاركم من الجامع. وقال: الأصل لنا، والفرع لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 قال ابن أبي حسان وجه إليَّ زيادة الله، وعنده قاضياه أبو محرز وأسد يتناظران في النبيذ، وأبو محرز يحله وأسد يحرمه. فقال ما تقول في النبيذ الشديد، فقلت قد علمت سوء رأيي فيه، وهذان قاضياك وهما فقيها البلد يتناظران فيه. فقال لا بد لك أن تقول أنت. وقال لهما: اسكتا فقلت أعوذ بالله عقل يساوي ألف درهم، يزيله من النبيذ ما يساوي درهما. وقال لي: ثم يعود. قلت بعد انكشاف السوءة للأم، والعورة للأب، وفي رواية: بعد أن قاء في لحيته، وكشف عورته لأهله وقتل هذا. وضيف هذا. قال: صدقت. كذا ذكر أبو علي البصري، ومحمد بن حارث هذه الحكاية، وإن كان بعضها على نحو ما ابن حارث. ولا أدري كيف هي، إذ لا خلاف بينهم أن المسكر منه حرام. وتوفي ابن أبي حسان سنة سبع وقيل ست وعشرين ومائتين. وقال ابن سحنون: مات وهو ابن سبع وثمانين سنة. مولده سنة أربعين ومائة والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 أبو عثمان وأخوه حاتم وأخوه أبو طالب أبناء عثمان المعافري ويعرف بالابزاري. فيما ذكره بعضهم. وذكر أبو العرب وابن الحارث: أبا طالب أخا أبي عثمان. ولم يسمياه، ولا قالا في الابزاري. وذكر أبا طالب عبد الله ابن عثمان الابزاري ممن روى عن مالك، على أنه آخر، والله أعلم. قال أبو العرب: لهما سماع من ابن أنعم، ومن مالك، وأحسب أن رحلتهما كانت مع ابن غانم. روى عنهما داود بن يحيى الصدفي، وغيره. وكان أبو عثمان رسول ابن غانم إلى مالك في مسائله. وكانا تقيين. قال أبو عثمان: سمعت مالكاً يقول: ينبغي للقاضي وللمعدل أن يحترس من الناس، بسوء الظن. قال حاتم: أكلت معه فرايته يأكل بثلاثة أصابع. قال: وسمعت مالكاً يقول: حياة الثوب طيّه، وعيبه قصر أكمامه. قال: وكنت إذا أتيت بكتاب ابن غانم إلى مالك قال لي: ادفع إلى ابن كنانة. فكتب ابن كنانة الجواب. ثم أتى به مالكاً فأعرضه، فإن أنكر شيئاً أصلحه. قال ابن شعبان: ويقال لأبي عثمان أبا طالوت. ولم يذكره غيره. قال واسم أبي طالوت عبد الله. وقال غيره: اسمه كنيشة ويكنى بأبي محمد والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 أبو خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي من أنفسهم قال ابن شعبان: ويقال أبو خالد أيضاً. سمع من مالك وسفيان الثوري والليث واليسع بن حميد وعبد الله بن وهب، ورشدين بن سعد، والمغيرة ابن عبد الرحمان المخزومي، وسفيان بن عيينة وله سماع مدون من مالك، كسماع ابن القاسم وأشهب. قال المالكي: كان شيخاً صالحاً عالماً باختلاف العلماء، مستجاباً. وأكثر اعتماده على مالك. متفنناً في العلوم من الحديث والفقه، والعبادة والعربية وغير ذلك. سمع منه نظراؤه بأفريقية، البهلول بن راشد وغيره، وسمع من بعضهم كعدن ين يوسف وعبد الله بن يونس، وسعيد بن حسان القزويني والجعفري وأبي داود والعطار وابنه، قال: وكان سحنون يجله، ويعرف حقه. وإذا سئل بحضرته أحال عليه، وكان أسنّ من سحنون. وكان سكناه بحصن، بجهة صفاقس. قال أبو العرب: وسماعه من سفيان صحيح. وهو ثقة. وحكى بعضهم قال: دخلت معه إلى سفيان، فأصبناه قد مات، وسأله بعضهم، قال أنا سمعت من سفيان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 قال أبو العرب: أراه لقي سفيان في رحلة قبل والله أعلم. وهو ثقة مأمون لا يشك في سماعه من سفيان. وسئل أحمد بن برد عن أبي خارجة، فقال بمثله يقال ثقة. وهو رجل صالح. لقي أبا يوسف ولم يأخذ عنه. روى عن مالك عن الذي يعتم بالعمامة ولا يجعلها تحت ذقنه، فأنكره، إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ. قال ابن حارث: سمعت كثيراً عن الناس يحكون عن أبي خارجة عجائب من الأخبار والوصف، لما لم يكن فيكون ذلك، مثل ما يحكى بالأندلس عن بقية بن مخلد، إلا أن الحكاية عن أبي خارجة أكثر استفاضة، وأكثر عجائب. قال ابن الجزار المتطبب في تعريفه: وذكره مثل ما ذكره ابن حارث، فبعضهم يقول: بل من خدمة الجان، ومنهم من يزعم أنه كان صالحاً يجري الله الحق على لسانه، فينطق به. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض: وأنا بريء من عهدة هذه التأويلات إلا الأخيرة فالحديث الصريح يحتج لها. ؟ ذكر عجائب أخباره وبراهينه ووفاته ذكر بعضهم، أنه نزل في طريق سوسة فاستلقى، ثم قال لأصحابه يأتيكم الساعة رجلان يسألان عن شيء، فتسمعان ما تكرهان، ومعهما طعام تأكلانه أنتم، ولا نأكله أنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وإذا برجلين على بغلة، فسألا عن الشيخ وقالا له: رجل له عجل رأى في المنام أنه يخالفه إلى خمير عنده يأكله، قال، فقال له أبو خارجة له عبد خلاسي يخالفه إلى أهله. فقال أحد الرجلين للآخر قد نبهناه عن دخوله إليه، فلم يفقه. ثم قالا معنا شيء من زادنا فأخرجا خبز شعير ودجاجاً وزيتوناً، فأكل من حضر، ولم يأكل هو منه. إذ كانت بعض أرواح يضر بها هذا الطعام. وسأله رجل. أنه كان يرى أنه يحرث في حفر، ففسر أبو خارجة وقال: هذا رجل يطلب الصبيان. وكان أبو خارجة يقول اللهم أمتني قبل أن يخرج من ها هنا قوم ينبحون نباح الكلاب، يشير نحو أرض المغرب. وكان بنى مسجد عظيماً فيه نحو عشرين سارية عظاماً. فقالوا له من يرفع هذه السواري؟ قال الذي خلقها. فأصبحت السواري مرفوعة، ورؤوسها عليها. قال ابن مسكين: كان عندنا رجل له تابع فقال له يوماً: لأخوفن أبا خارجة. فنهاه صاحبه. فقال لأفعلن. فلما كان في الليل ركب أبو خارجة إلى منزله، فلقيه خيال، ثم عرض له شخص، فقصده أبو خارجة إلى منزله، فلقيه خيال، ثم عرض له شخص، فقصده أبو خارجة وجعل يضربه، ويفر منه، وهو يصيح، حتى غاب في الزيتون فذهب أبو خارجة. فأتى التابع صاحبه، وهو مما به أخبره، فقال: قد نهيتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 قال وكان أبو خارجة يصلي من الليل في مسجدٍ استضافه أهله، فبينما هو يصلي، نظر في ركن المسجد، وأراه بعد غلقه إلى شيخ قائم يصلي، فلما سلم أبو خارجة استل سيفه فهزه وقصده ويقول: أعلي تجسر، فاستمع منه وذهب! وكان يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى تمحى كتب أبي حنيفة. فكان كذلك أيام سحنون ومن حكمه قوله: ثلاثة من أعلام الإحسان كظم الغيظ، وحفظ الغيب، وستر العيب. وثلاثة من أعلام المعرفة: الإقبال على الله، والانقطاع إلى الله، والافتخار بالله. وثلاثة من أعلام الفكرة: سرعة الأفكار، وإدمان الاعتبار، وكثرة الاستغفار. وكان يقول عند إفطاره: الحمد لله الذي هداني فصمت، والحمد لله الذي رزقني فأفطرت، أن تعذبني فأنا أهل لذلك، وأن تغفر لي فأنت أهل لذلك. وكان يقول: ثلاث من أعطيهن فقد اغتبط: علم نافع، ورزق طيب، وعمل متقبل. وذكروا أنه أصاب الناس بصفاقس سبع سنين قحط، فأتوا أبا خارجة يستسقي لهم، فقال لهم تأتون غداً بنسائكم وصبيانكم، وبهائمكم، وتبيتون الصيام الليلة، فإذا كان غداً قفوا بين يده، وتضرّعوا إليه، فإنه يرق لحالكم. ففعلوا ذلك. فخرج أبو خارجة، فصلى بهم وخطب ودعا، ثم جلس إلى صلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 الظهر، ثم بسط يديه وقال: أنت مولانا ما لنا غيرك ولا سواك. بك نالوا الدرجة الرفيعة، والمواهب العالية، ولولاك ما نالوها، وأنت ذو رحمة واسعة، وأنت العالم بأحوالنا، وقبيح أعمالنا، وما لنا غيرك ولا سواك، وقد قامت آمالنا بك وقد جثونا بين يدك. بهائمنا جائعة، وأرضنا سوداء يابسة، وقلوبنا خائفة، وبيوتنا فارغة، وسماؤك عامرة، وخزائنك واسعة، فاسقنا سقية نافعة تجدد الإيمان في قلوبنا، ولا نبرح بين يدي كريم حتى يسقينا، وسيلتنا إليك نبينا الذي جعلته رحمة لنا. صلى الله عليه وسلم. وقال: فإذا بريح بيضاء بدت بهم، ثم اندفعت بالغيث. فمضى أبو خارجة يرفع ثيابه ويقول: بهذا يعرف الكريم، هذا فعلك فيمن قصدك. وبهذا تعرف وتوصف. وتوفي أبو خارجة في ربيع الأخير سنة عشر ومائتين، سنُّه ست وثمانون سنة. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 ؟ الحارث بن أسد من أهل نقطة. كان ثقة خياراً مستجاباً يختم القرآن في كل ليلة من رمضان. أخذ عن مالك. روى عنه البهلول بن راشد، وعبد الله بن القاري، ومحمد بن تميم وغيرهم. قال الحارث لما أردنا وداع مالك دخلت عليه أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصنا. فقتل اتق الله وانظر عن تنقل. وقال لابن القاسم اتق الله وانشر ما سمعت. وقال لي اتق الله وعليك بتلاوة القرآن. قال الحارث لم يرني أهلاً للعلم. وقال محمد بن حارث رأيت في بعض الروايات أنه كان يستفتى فلا يفتي. ويقول لم يرني مالك أهلاً للعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 محمد بن معاوية الحضرمي طرابلسي من أصحاب مالك، وله عنه سماع، ثلاثة أجزاء. وله غيرها عن الليث رواها عنه محمد بن وضاح. قال أبو العرب التميمي: سمع من أبي معمر ومالك بن أنس موطأه، ومن الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، مشهور ثقة. وكان له سن وإدراك. سمع من أبي معمر صاحب أنس بن مالك. سمع منه بكر بن حماد، وفرات بن محمد. وحكى بكر أن سحنوناً قال فيه شيئاً. قال أبو علي بن البصري: هو أعلم من محمد بن ربيعة الحضرمي الطرابلسي. وكان أيضاً ابن ربيعة ممن روى عن مالك، وابن لهيعة، وأبي معمر وابن أبي حازم، وإبراهيم بن أبي يحيى. قال أبو العرب: قال محمد بن معاوية: كان بقي عليه شيء من الموطأ، من كتاب الصلاة، فأتيت إلى مالك وقد دخل الناس، فقال لي من يقرأ لك؟ قلت: حبيب. وكنت قاطعته بخمسة دراهم، ويضم الكتاب خمساً وعشرين ورقة. فقرأها لي حبيب في مجلس واحد. قال لي حبيب: لم تفتني دراهمك يا مغربي. وفي روايته في الموطأ، جامع الجامع. وليس ذلك عند غيره، من أصحاب مالك. ذكر ذلك أبو بكر بن محمد المالكي في كتاب الرياض ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 زكريا بن محمد بن الحكم اللخمي أبو يحيى قال أبو العرب: كان ثقة مأموناً صالحاً. وكان من أهل العلم. سمع من مالك وحيوة بن شريح. وكان يستفتي بالقيروان مع أسد وأبي محرز وطبقتهم. وكان في عداد المدنيين منهم. ذكر أنه كان مع جماعة من العلماء عند زيادة الله بن الأغلب، فأتى بجراب فيه حلي من حلي النساء، ودنانير. فأعطى منه لمن حضر وأخذوا غير زكريا فأبى، ثم أنصرف فلما ولي جعل زيادة الله يقول وهو ينظر إليه: لله درك يا ابن الحكم. وذكر أبو العرب أيضاً في رواة مالك من أهل أفريقية: محمد بن عبد الحكم اللخمي، وأنه مأمون ثقة، وأنه توفي سنة ست ومائتين، ويحيى بن زكريا بن محمد ابن الحكم ابن التجيبي. قال أبو العرب: هو ثقة صالح. قال ابن فهري روى عن مالك. قال ابن وضاح: لقيت يحيى بن زكريا بن الحكم بالقيروان وهو شيخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 من أهل الأندلس قرعوس بن العباس بن قرعوس بن حميد ويقال عبيد بن منصور بن محمد بن يوسف الثقفي. قال القاضي أبو الوليد ابن الفضي: من أهل قرطبة. يكنى أبا الفضل. ويقال أبا محمد. رحل فسمع من مالك والثوري، وابن جريج والليث وابن أبي حازم وغيرهم. وكان رجلاً متديناً فاضلاً ورعاً، كان علمه المسائل على مذهب مالك وأصحابه ولا علم له بالحديث. وقيل: أنه سمع من مالك الموطأ. وغير شيء من ولا علم له بالحديث. وقيل: أنه سمع من مالك الموطأ. وغير شيء من مسائله. وقال يحيى بن يحيى وذكره: وهو رجل من أهل العلم كثير الفقه. لقي مالكاً وحمل عنه. وقال غيره: لم أر بالأندلس مرءة مثل قرعوس. قال القاضي أبو الوليد: وكان ممن اتهم في أمر البهج. فوفاه الله. يعني الذي هلك فيه أصحابه. وذكرنا عنه طرفاً في خبر يحيى بن مضر في الطبقة الأولى. روى عنه أصبغ بن خليل، وابن حبيب، وعثمان بن أيوب. وسأل قرعوس مالكاً عن الضرب الذي كان يضرب أبوه الناس، وكان أبو ولي السوق، وكان رجلاً صالحاً شديداً على أهل الريب، يضرب ضرباً شديداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 فقال له مالك: إن كان فعل ذلك غضباً لله وذباً عن محارمه فأرجو أن يكون خفيفاً. وكان ممن اتهم بالهيج والقيام بالربض على السلطان، فسيق فيمن سيق ملببّاً. ووقف به تحت النطع، وكلمه فتى على لسان الأمير، وقال له: مثلك من أهل الديانة والأمانة في العلم، يتابع السفلة. فلو نفذ لهم أمركم كان يهتك من الستور ويستحل من الفروج، إلى أن يقوم إمام يريح الناس. فقال معاذ الله أن أفعل وأن أقع في مثل هذا. بيدٍ أو لسان، فقد سمعت مالكاً والثوري يقولان: سلطان جائر سبعين سنة خير من أمة سائبة ساعة من نهار. فقال له الحكم أنت سمعت منهما؟ قال لقد سمعته منهما. فخلّى سبيله. وتوفي قرعوس سنة عشرين ومائتين. وقد اعترض على ما ذكر من روايته عن سفيان وابن جريج. فقال علي بن حزم: من المحال أن يروي قرعوس عن ابن جريج، إذ مات ابن جريج سنة خمسين ومائة، وقرعوس مات سنة عشرين ومائتين. ولم يطل عمر قرعوس طولاً يحتمل هذا. وكذلك وفاة سفيان سنة إحدى وستين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 محمد بن بشير القاضي قال الفقيه أبو عبد الله بن حارث: هو أبو عبد الله، محمد بن سعيد بن بشير ابن شراحيل. ويقال، إسرافيل المعافري، أصله من جند باجة، وعداده في عرب مصر. كتب في حداثته للقاضي المصعب بن عمران. ثم رحل إلى المشرق، فلقي مالكاً وجالسه، وسمع منه، واقتبس أيضاً بمصر، ثم انصرف إلى الأندلس، فلزم ضيعته بباحة إلى أن استدعي للقضاء بقرطبة. قال غيره: روى عن مالك الموطأ قال أحمد بن خالد: طلب ابن بشير العلم بقرطبة عند مشيختها، فأخذ منه بخط وافر، ثم كتب لوالي باجة ليعتصم به من ظلمة نالته، ثم انقبض وخرج حاجاً، فقضى الفريضة وأشبع في المعرفة. قال ابن القوطية: كتب أولاً لوالي بلده، ثم رغب عن ذلك ومال إلى العلم، وقال: أن المصعب القاضي إنما استكتبه بعد صدوره من المشرق. وحكى عن مالك أنه كان يقول: انظروا في هذه الكتب ولا تخلطوها بغيرها. يعني الموطأ. وكان يحيى بن يحيى كثيراً ما يحكى عنه، عن مالك من ذلك أنه سأل مالكاً عن لبن الأتن فلم ير به بأساً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 الثناء عليه قال: كان يحيى بن يحيى، أشدَّ الناس تعظيماً لمحمد بن بشير، وأحسنهم ثناء عليه. في حياته، وبعد وفاته. ولقد سئل عن لباس العمائم فقال: هي لباس الناس بالمشرق، وعليه كان أمرهم في القديم. فقيل له لو لبستها، لتبعك الناس. فقال قد لبس محمد بن بشير الخزّ، فلم يتبع فيه، وكان ابن بشير أهلاً أن يقتدى به. وذكره ابن القوطية فقال فيه، خير القضاة بالأندلس، وأفضلهم وأعدلهم. وقال عبد الملك بن حبيب: كان ابن بشير، من خيار المسلمين. ووصف عدله وفضله، قال: وكان يصلي بنا الجمعة، وعليه قلنسوة خز. قال ابن حارث: من مستفيض الأخبار التي لا يتواطأ على مثلها، لسعة الاجتماع عليها، أنّه كان من عيون القضاة الهداة، ومن أولي السداد والمذاهب الجميلة، وأصالة الرأي والسيرة العادلة، والذكر الجميل الخالد، وكان شديد الشكيمة ماضي العزيمة، صلباً في الحق، مؤيداً لا هوادة عنده لأحد. ولا مداهنة لديه لأحد. من أصحاب السلطان، لا يؤثر غير الحق في أحكامه. جيّد الفطنة حسن الإنبساط صادق الحسّ قوي الإدراك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 ولايته القضاء وسيرته قال ابن القوطية: لما توفي المصعب بن عمران القاضي، استشار الأمير الحكم فيمن يستقضيه، فأجمع له وزراؤه وأعلام الناس، على محمد، بن بشير كاتب المصعب، وكان قد شهر عفافه واستقلاله بعهد المصعب، فولاه القضاء. فأثر على المصعب، وبعد في الفضل والعدل وصيته، وخلدت آثاره بعد. فلم يزل قاضياً إلى أن توفي فولي ابنه سعيد مكانه، قال ابن حارث: رأيت في بعض الكتب، أن ابن بشير لما وجه فيه، عدل في بعض طريقه إلى صديق له عابد، فنزل عليه، وتحدث معه في شأن نفسه، وتوقعه أنه وجه إليه في الكتابة التي قد تخلى عنها، فقال له صديقه: ما أرى بعث فيك إلا للقضاء. فقد مات قاضي قرطبة. فقال له ابن بشير: فإذا قبلتها فما ترى، فانصح لي وأشر علي. قال له العابد: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها. كيف حبك لأكل الطيب، ولباس اللين، وركوب الغاره؟ فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به عورتي، وحملت به رجلي، فقال هذه واحدة. فكيف حبك للوجوه الحسان وشبه هذا من الشهوات. فقال ابن بشير هذه حالة والله ما استشرقت نفسي إليها قط، ولا خطرت ببالي. قال: هذه ثانية. كيف حبك للمدح والثناء وكراهتك للعزل، وحب الولاية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 قال والله ما أبالي في الحق من مدحني أو ذمني وما أسرّ بالولاية ولا أستوحش للعزل. فقال له: أقبل القضاء، ولا بأس عليك. وذكر أن ابن بشير ولي القضاء بقرطبة مرتين، وكان بعض أخوانه يعتبه في صلابته في الحكومة، ويقول: أخشى عليك العزل. فكان يقول: ليته رأى الشقراء تقطع الطريق إلى ماردة، فما قضى إلا يسير حتى حدثت حادثة أظهر ابن بشير صلابته، فكانت سبباً لعزله. فانصرف لبلده كما تمنى. فما لبث إلا يسيراً حتى أتى فيه بريد من قبل الأمير، فرفعه إلى قرطبة، فعدل في بعض الطريق إلى صديق له زاهد، فاجتمع معه، وقال له قد أرسل فيّ الأمير، وأظنه أنه يردني على القضاء ثانية. فما ترى؟ فقال له صديقه: إن كنت تعلم أنك تنفذ الحق على القريب، والبعيد ولا تأخذك في الله لومة لائم، فلست أرى لك أن تحرم الناس خيرك، وإن كنت تخاف أن لا تعدل فترك الولاية أفضل لك. قال ابن بشير: أما الحق فلست أبالي على ما أمررته، إذا ظهر لي. فقال له: لست أرى أن تمنع الناس خيرك. فورد إلى قرطبة وولي القضاء ثانية. وقال بعضهم: إن سبب عزله، أن يده قصرت عن بعض الخاصّة، ومنع من الحكم عليها، فحلف بطلاق زوجته ثلاثاً وعتق مماليكه وبصدقة ما يملك على المساكين أن حكم بين اثنين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 فعزل. فلما أراد رده، اعتذر إليه، بتلك الأيمان، فعزم الأمير عليه، واعتق وطلق وتصدق وأخرج إليه الأمير جارية من جواريه ومالاً عوضاً من ماله، ومماليكاً عوضاً من مماليكه. قال أبو عبد الملك بن عبد البر: كان محمد بن بشير، قد اشترط على الأمير الحكم عندما تولى له القضاء، ثلاثة شروط مضمونة إن التزمتها لي تقدمت، وإلا فلا أقبل البتة، نفاذ الحكم على كل أحد ما بينك وبين حارس السوق، وإن ظهر لي من نفسي عجز، أستعفيتك، فأعفني. وأن يكون رزقي من الفيء. فضمنها له. قال ابن الحارث: وكان محمد بن بشير فيما قاله لي عنه بعض العلماء: أنه كان قبل الشاهد عنده على التوهم والفراسة. وربما عول على تزكية السر من أهل الثقة. قال: وكان يقضي في سقيفة مغلقة بقبلي مسجد أبي عثمان، بأول الربض الغربي، فكان إذا قعد للقضاء هناك، جلس وحده وخريطته بين يديه. فتولى تقليبها بيده، ويتقدم إليه الخصوم على كتبته، مرتبة، فيقف الخصمان على أقدامهما، بين يديه. ويدليان بحجتهما من غير صخب، فيفصل بينهما. وكان رسمه القعود للخصوم من غدوة إلى وقت الزوال. ثم يعود للقعود بعد صلاة الظهر، إلى العصر، فلا ينظر غير أسماعه من البيّنات، ويقيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 الشهادات، لا يسمع ذلك في غير ذلك الوقت، ولا يخلو به أحد في مجلس نظره، ولا داره. ولا يقرأ كتاباً لأحد في سبب خصومه، ولا يرخص إليه. قال ابن وضاح: تولى محمد بن بشير القضاء، طبع عشر طوابع يرفع بها الناس إليه. ثم لم تزل في خريطته بعينها، إلى أن مات. فإذا سأله رجل طابعاً لرفع خصم كشفه له، عما يريده له. فإن كان قريباً بقرطبة أعطاه إياه، وأمر كاتبه يزمُّ اسمه ومسكنه، واسم من أخذ الطابع فيه، ويعهد إليه بصرف الطابع إليه، إذا حضر خصمه، ويعنفه ويدعوه إن كان أخذه مبطلاً، فإن كان بعيداً أجل له بقدر بعده. قال يحيى لمحمد بن بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير سجل فوجدتها مختصرة جداً، محتوية على فص المعنى، من غير إكثار. إنما هي أسطار قليلة. خلاف ما يختلف الآن في زماننا من الكلام. ذكر بعضهم أن ابن سماعة صاحب الخيل، شكا إلى الأمير، أن ابن بشير يحيف عليه. فقال: أنا أمتحن قولك الساعة بواحدة. أخرج من فورك فاقصده، واستأذن عليه. فإن إذن لك صدقت قولك وعزلته. وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه. فخرج نحوه، فلما استأذن عليه خرج الإذن له أن كانت لك حاجة فاقتصد لذكرها مجلس القضاء. إذا جلس القاضي فيه، فلا سبيل إلى لقائه. وأعلم الأمير بذلك، فوافقه. قال قاسم بن هلال: شهد عند ابن بشير رجل من أهل البادية في معارفه، فاحتاج إلى تعديله، فدخلت أنا وابن مرتيل وثالث معنا. فقال: ما جاء بكم؟ قلت لأعدل هذا الرجل. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبها كان يستفتح حكومته. قال قاسم: فلما سمعته قهقرت، فحوّل وجهه نحونا. وقال لنا: الله الذي لا إلاه إلا هو إنه عندكم رضى. فقلنا له: بيمين أصلحك الله. قال والله لا أكتب له اسماً إلا أن تحلفوا بها، أنه كذلك. فتورعنا وانصرفنا. وشهد عنده رجل، رافقه من الحج، له منه مكانة، فلم يقبل شهادته. فقال الخصم: عرفني بمن لم تقبل، لأنظر في تعديله. فقال له محمد: فلان صاحبي. ولن ينفعك تعديله عندي. فبلغ ذلك الرجل، فجاءه في مجلسه على رؤوس الناس وسأله عن سبب ذلك، وقال له: جمعنا وإياك المنشأ والحضر، وطلب العلم وطريق الحج، وعلمت من باطني ما علمت من باطنك فعرفني بالسبب أمام الناس، لأعرفه وأعرف بخطئي فيه أمام الجماعة. فقال ابن بشير: صدقت. وما عثرت لك في كل ذلك على جرحة في دينك، ولكن صدرنا من الحج فنزلنا مصر، وأخذنا في السماع من شيوخنا، والمقام بها، وشكوت لي الغربة ونظرت في شراء خادم، فقلت لي: وجدت خادماً تساوي على وجهها كذا وكذا، وبيدها صنعة. فقلت لك: لا حاجة لك بصناعتها. وإنما تشتريها للمتعة. فدعها فلا معنى للزيادة فيها. فعصيتني واشتريتها. فلما رأيت الشهوة قد غلبتك في إتلاف ذلك في المغالاة فيها، خشيت أن تكون مثلها، قادتك إلى مثل هذه الشهادة. وشهد عنده صديق له يكنى بأبي اليسع، فرد شهادته، فعتبه في ذلك وقال: على محبتي فيك وخاصتي بك. فقال له الورع: يا أبا اليسع الورع يا أبا اليسع. فلم يزده على ذلك. وشهد عنده رجلان ممن يُظنُّ بهما خيراً لمملوكٍ لمتوفى، أن مولاه أعتقه وزّوجه ابنته، وأوصى إليه بماله، وقضى بشهادتهما، فلم يلبث أحد الشاهدين أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى القاضي أنه يريده. فدخل عليه، فلما أبصر به الشاهد، وهو في كربة، جثا على ركبتيه، وجعل ينجز إليه، فقال له القاضي: ما شأنك؟ فقال إني في النار إن لم تنقذني منها. الشهادة التي شهدت بها عندك بفلان لم يكن منها شيء فاتق الله وافسخ الحكم. فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه على ركبتيه، ثم قام وجعل يقول قضي الحكم، وأنت في النار. وخرج عنه. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما فعله ابن بشير من إمضاء الحكم صواب، وقوله وأنت في النار دون استثناء. لعله قصد به الإغلاظ لأمثاله من شهداء السوء. وإلا فحتمية الله في العفو عنه. من وراء هذا بفضلة، بقبول توبة مثله، ومحو سيئته بها، موعود به. بشير: إن الحالات بالناس تتغير، ولا تثبت. فإذا عدل عندك الرجل فحكمت بشهادته عن صحة نظر، حتى تطاول العهد وعادت الشهادة عندك، فأعد فيه نظرك، وكلفه التعديل، إن رابك، واستأنف الكشف عنه، فعمل بذلك وأخذ الشهود وحذرهم منه. وكان ابن بشير يشاور في قضائه عبد الملك بن الحسن زونان والغازي بن قيس، والحارث ابن أبي سعد، وإسماعيل ابن البشير التجيبي، ومحمد بن سعيد السبائي. قال ابن حارث: وكانوا إذا اختلفوا عليه، كتب إلى مصر إلى عبد الرحمان بن القاسم، وعبد الله بن وهب، قال القاضي أسلم عبد العزيز بن بقي بن مخلد؛ قال: كانت لمحمد بن بشير في قضائه مسالك رقاق، ومذاهب لطاف لم تكن لقاض قبله في الأندلس. ولا يقارن إلا بمن تقدم في صدر هذه الأمة. ورأيت له غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 سجل فوجدتها مختصرة جداً، محتوية على فص المعنى، من غير إكثار. إنما هي أسطار قليلة. خلاف ما يختلف الآن في زماننا من الكلام. ذكر بعضهم أن ابن سماعة صاحب الخيل، شكا إلى الأمير، أن ابن بشير يحيف عليه. فقال: أنا أمتحن قولك الساعة بواحدة. أخرج من فورك فاقصده، واستأذن عليه. فإن إذن لك صدقت قولك وعزلته. وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه. فخرج نحوه، فلما استأذن عليه خرج الإذن له أن كانت لك حاجة فاقتصد لذكرها مجلس القضاء. إذا جلس القاضي فيه، فلا سبيل إلى لقائه. وأعلم الأمير بذلك، فوافقه. قال قاسم بن هلال: شهد عند ابن بشير رجل من أهل البادية في معارفه، فاحتاج إلى تعديله، فدخلت أنا وابن مرتيل وثالث معنا. فقال: ما جاء بكم؟ قلت لأعدل هذا الرجل. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبها كان يستفتح حكومته. قال قاسم: فلما سمعته قهقرت، فحوّل وجهه نحونا. وقال لنا: الله الذي لا إلاه إلا هو إنه عندكم رضى. فقلنا له: بيمين أصلحك الله. قال والله لا أكتب له اسماً إلا أن تحلفوا بها، أنه كذلك. فتورعنا وانصرفنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 وشهد عنده رجل، رافقه من الحج، له منه مكانة، فلم يقبل شهادته. فقال الخصم: عرفني بمن لم تقبل، لأنظر في تعديله. فقال له محمد: فلان صاحبي. ولن ينفعك تعديله عندي. فبلغ ذلك الرجل، فجاءه في مجلسه على رؤوس الناس وسأله عن سبب ذلك، وقال له: جمعنا وإياك المنشأ والحضر، وطلب العلم وطريق الحج، وعلمت من باطني ما علمت من باطنك فعرفني بالسبب أمام الناس، لأعرفه وأعرف بخطئي فيه أمام الجماعة. فقال ابن بشير: صدقت. وما عثرت لك في كل ذلك على جرحة في دينك، ولكن صدرنا من الحج فنزلنا مصر، وأخذنا في السماع من شيوخنا، والمقام بها، وشكوت لي الغربة ونظرت في شراء خادم، فقلت لي: وجدت خادماً تساوي على وجهها كذا وكذا، وبيدها صنعة. فقلت لك: لا حاجة لك بصناعتها. وإنما تشتريها للمتعة. فدعها فلا معنى للزيادة فيها. فعصيتني واشتريتها. فلما رأيت الشهوة قد غلبتك في إتلاف ذلك في المغالاة فيها، خشيت أن تكون مثلها، قادتك إلى مثل هذه الشهادة. وشهد عنده صديق له يكنى بأبي اليسع، فرد شهادته، فعتبه في ذلك وقال: على محبتي فيك وخاصتي بك. فقال له الورع: يا أبا اليسع الورع يا أبا اليسع. فلم يزده على ذلك. وشهد عنده رجلان ممن يُظنُّ بهما خيراً لمملوكٍ لمتوفى، أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 مولاه أعتقه وزّوجه ابنته، وأوصى إليه بماله، وقضى بشهادتهما، فلم يلبث أحد الشاهدين أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى القاضي أنه يريده. فدخل عليه، فلما أبصر به الشاهد، وهو في كربة، جثا على ركبتيه، وجعل ينجز إليه، فقال له القاضي: ما شأنك؟ فقال إني في النار إن لم تنقذني منها. الشهادة التي شهدت بها عندك بفلان لم يكن منها شيء فاتق الله وافسخ الحكم. فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه على ركبتيه، ثم قام وجعل يقول قضي الحكم، وأنت في النار. وخرج عنه. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما فعله ابن بشير من إمضاء الحكم صواب، وقوله وأنت في النار دون استثناء. لعله قصد به الإغلاظ لأمثاله من شهداء السوء. وإلا فحتمية الله في العفو عنه. من وراء هذا بفضلة، بقبول توبة مثله، ومحو سيئته بها، موعود به. ذكر زيّه وكان ابن بشير، قبل استقضائه يفرّق شعره إلى شحمة أذنيه، ويلتحف رداءاً معصفراً على الرسم الأقدم، وكان حسن الزي جميل الخلق، فتمادى على زيه في قضائه. قال ابن وضاح: أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلاً على باب المسجد الجامع يوم الجمعة، وعليه رداء معصفر، في رجليه حذاء صرَّار. وعليه جمة مفروقة. ثم يقوم يخطب ويصلي في زيه وكذا كان يجلس للقضاء بين الناس، وأن العيون لتغضي عنه مهابة، فإن رام واحد نيل شيء من دينه، وجده أبعد منالاً من الثريا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 ولقد أتى رجل طاريّ مجلسه لحاجة عنّت له، فسأل عنه بعض من جلس إلى قربه، فأرشده إليه، فلما رآه في زيه ذلك، وآثار الزينة في أطرافه من الخضاب والكحل والسواك، بمحياه، رابه أمره، واتهم من أرشده، وقال يا هؤلاء: رجل غريب سألكم عن قاضيكم فسخرتم بي، أسألكم عن قاض فتدلوني عن زامر. فأسكتوه. فقالوا: ما كذبناك. وزجر من كب ناحية. فقال له ابن بشير: تقدم واذكر حاجتك. ففعل الرجل. فوجد عنده فوق ظنه. قال زونان: عاينت محمد بن بشير في إرساله اللمة ولبسه الخز والمعصفر، فقال إني على بينة من ربي، حدّثني مالك، أن محمد بن المنكدر كان سيد القراء، وكانت له لمة. وأن هشام بن عروة كان فقيه هذا البلد، يعني المدينة. وكان يلبس المعصفر، وأن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، كان يلبس الخز. فماذا تعيب من هؤلاء. ألا إنهم إسوة. وكان محمد بن عيسى الأعشى يعرض بالقاضي محمد لزيه هذا، ويسميه في جميع ذكره بعشر الدلاّل - اسم مخنث كان بالمدينة - حتى بلغ ذلك ابن بشير. فجمعه والأعشى مجلس أمكنه فيه القول، فانعطف ابن بشير وقال: يا أبا عبد الله. إن الشر لا يعجز عنه أحد، وإن الخير لا يناله إلا أهل الصبر الجميل، ومن يقدم على نفسه بالرياضة المحمودة، فاقصر عما بلغني عنك، فإنه أجمل بك، واستحياه، واقتصر فيما بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 ومن المبسوطة قال يحيى بن يحيى: لا تجد من يعقل، يلزم ما يعاب عليه، ولقد رأيت محمد بن بشير لبس ما لا يعرف ببلده، يعني الخزّ فما لبسه إلا أربعين يوماً، ثم ترك ذلك لاستبشاعه، لا لغير ذلك. ذكر شيء من أعيان اقضيته التي دلت على ثبات قدمه في الحق وبقية خبره قال أحمد بن خالد: كان أول ما أنفذه ابن بشير من نافذ أحكامه، التسجيل على الأمير الحكم، في أرحي القنطرة بباب قرطبة، إذ أثبت عنده حق مدعيها، ولم يكن عند الأمير مدفع. فسجل فيها، وأشهد على نفسه. فما مضت مديدة حتى ابتاعها ابتياعاً صحيحاً، فسر بذلك الحاكم، بعد مسألة وجعل يقول: رحم الله ابن بشير فقد أحين فيما فعل بنا على كره منا، إذ كان في أيدينا شيء مشتبه فصحح ملكه لنا. قال ابن وضاح: حكم ابن بشير على ابن فطيس الوزير في حق ثبت عنده، دون أن يعرّفه بالشهود عليه. فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير، وتظلم منه. وأومأ إلى ابن بشير بذلك، وذكر شكوى ابن فطيس من امضائه الحكم عليه، دون أعذار، وهو حق له بإجماع أهل العلم. فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممن يعرَّف بمن شهد عليه، لأن إن لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرج عن أذاهم، فيدعون بالشهادة هم ومن ائتسى بهم ويضيع أمر الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وقال ابن وضاح: وكان سعيد الخير، عم الأمير الحكم، وكلّ وكيلاً يخاصم له عند محمد بن بشير في مطلب، فهم به عنده عليه، وكانت في يد سعيد وثيقة فيها شهادات جماعة من العدول، أتى الموت عليهم ما عدا شاهد واحد، من أهل القبول، مع شهادة الأمير الحكم ابن أخيه، فاضطر عمّه إليها في خصومته لما قبل القاضي شهادة الأخير، وضرب الآجال لوكيله في شاهد ثان. فدخل سعيد على الأمير وعرفه حاجته، إلى شهادته، وكان الحكم معظماً لعمه، فقال له: يا عم، اعفني من هذه الكلفة. فقد تعلم أنا لسنا من أهل الشهادة عند حكامنا. إذ التبسنا من فتن هذه الدنيا بما لا نرضى به عن أنفسنا، ولا نلومهم على مثل ذلك فينا. ونخشى أن توقفنا مع هذا القاضي موقف خزي نفديه بملكنا. فصر في خصامك حيث ظهر لي الحقن وعلينا خلف ما ينقصك وأضعافه، فهمّ سعيد في ذلك وعزم عليه، إلى أن وجه شهادته مع فقيهين يؤدياهما إلى القاضي، فأدّياها إليه. فقال لهما: قد سمعت منكما فقوما راشدين، وجاءت دولة وكيل سعيد الخير، فتقدم مدلاً واثقاً، فقال أيها القاضي: قد نقلت إليك شهادة الأمير، فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة وعاد النظر فيها. ثم قال: هذه شهادة لا تعمل عندي، فجئني بغيرها. فمضى الوكيل إلى سعيد فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم، فقال ذهب سلطاننا وأهينت عزتنا بتجري قاضيك الحروري على ردّ شهادتك! هذا ما لا يجب أن نتحمله عليه. وأكثر من هذا وأغرى بابن بشير، والأمير مطرق. فلما فرغ من كلامه، قال له: يا عم هذا ما قد ظننته، وقد آن لك أن تقصر عنه بالحق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 فالحق أولى بك. والقاضي قد أخلص يقينه لله، وفعل ما يجب عليه ويلزمه. ولو لم يفعل ما فعله، لأجال الله بصيرتنا فيه، فأحسن الله جزاءه عنا، وعن نفسه، ولست اعترض للقاضي بعد فيما احتاط لنفسه. فذكر أن بعض أقران ابن بشير اعتبه فيما أتاه في ذك. فقال له: يا عاجز ألا تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجتريء على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها. ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه. وحكي أنه كانت لمحمد بن بشير، أيام نزوله بقرطبة خادم سوداء، اسمها بلاغ، تخدمه. ويستمتع بها عند حاجته. فكان إذا غشيها وقضى وطره منها، دفع صدرها بيده وقال: بلاغ أن فيك بلاغاً إلى حين. قال ابن حارث: إن حظية للأمير الحكم بات عندها في بعض الليالي فافتقدته في بعض الليل، ولم تصبه، فهاجت غيرتها وقامت تقفو أثره، فأصابته قائماً تحت شجرة في الحائط يصلي ويدعو ويجتهد فلما انصرف إلى مرقده ألّحت عليه في السبب الموجب لذلك، وظنت أن أمراً طرقه، فقال: ما ذاك إلا أن محمد بن بشير القاضي، لما به فأشفقت من نقده، وأعجزني الاعتياض منه، فقد كنت جعلته فيما بيني وبين الله في أحكام الناس، فأسندت منه إلى ثقة إذ كانت نفسي مستريحة إلى عدله، فناجيت الله تعالى ودعوته دعوة مضطر إلى إجابته، في أن يحسن عزائي عنه، ويجعل عوضي منه. وكانت وفاة ابن بشير سنة ثمان وتسعين ومائة. فاستقضى الحكم بعده ابنه سعيد بن محمد. وقيل، الفرج ابن كنانة، وسيأتي ذكرهما في طبقتهما إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 طالوت بن عبد الجبار المعافري من أهل قرطبة. قال أبو بكر بن القوطية: كان أحد ممن أخذ عن مالك بن أنس ونظرائه، من أهل العلم. وشهر بالصلاح والفضل. وإليه ينسب المجد والحفرة، بداخل مدينة قرطبة. وهناك كان مسكنه. وكان هذا المتخفي من أعلام فقهاء قرطبة، في ثورة أهل قرطبة على أميرهم الحكم بن هشام. وظفر بهم، وهو صاحب القصة المشهورة المضروب بها المثل في الوفاء بالذمة. وكان طالوت قد استخفى خوفاً على نفسه، عند رجل من اليهود من جيرانه، وثق به. فتقبله أحسن قبول. ومكث عنده بأفضل حال، حولاً. حتى طفيت الثائرة وظن الفتية أنه أهل اليهودي. وكانت بينه وبين أبي البسّام الوزير، وصلة جذبها إليه رجاء الأخذ له الأمان. فساء اليهودي تحوّله عنه، ونصحه. فلج وقصد الوزير خفية بين العشائين فأظهر القبول، وسأله أين كان قبل. فأخبره فصوّب رأيه في انتقاله إليه، ووعده الشفاعة له، وبادر بالركوب في وقته، وقد وكل به من يحرسه، فقال الأمير ما رأيك في عجل سمين عاكف على مذودة منذ سنة يلذ مطعمه، هذا طالوت رأس المنافقين عندي. قد أظفرك الله له. قال: قم فعجّل به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 ووثب فجلس على كرسي بباب مجلسه، يتوقد غيظاً عليه. فلم يلبث أن أدخل طالوت عليه، فجعل يتقرعه بذنوبه، ويقول: طالوت الحمد الله الذي أظفرني بك، ويحك أخبرني لو أن أباك أو أبنك قعد مقعدي بهذا القصر، أكانا يزيدانك من البر وألإكرام على ما فعلته أنا بك؟ هل رددت قط حاجة لك أن لغيرك؟ ألم أشاركك في حلوك ومرِّك؟ ألم أعدك مرات في محلاتك؟ ألم أشاركك في حزنك على زوجتك؟ ومشيت في جنازتها راجلاً إلى مقبرة الربض؟ وانصرفت مقك كذلك إلى منزلك؟ وغير شيء من التوقير فعلته بك؟ ما حملك على ما قابلت به إجمالي؟ ولم ترض مني إلا بخلع سلطاني، وسعي لسفك دمي، واستباحة حرمتي؟ فقال له طالوت: ما أجد لي في هذا الوقت مقالاً أنجى من صدقك به. أبغضتك لله وحده. فلم ينفعك عندي كل ما صنعته، عوض دنياك. فسري عن الأمير وسكن غيظه، وملىء عليه رقة. فقال: والله لقد أحضرتك، وما في الدنيا عذاب إلا وقد عرضته اختار بعضه لك، وقد حيل بيني وبينك، فأنا أعلمك أن الذي أبغضني له، صرفني عنك، فانصرف في أمان الله تعالى، وانصرف حيث شئت، وارفع إليّ حاجتك، فلم تعدم فيّ براً. فيا ليت الذي كان لم يكن. فقال له طالوت صدقت فلو لم يكن كان خيراً لك، ولا مرد لأمر الله. فلم يزل طالوت لديه بعد مبروراً، إلى أن توفي عن قريب، فأنبىء له الحكم وحضر جنازته وأثنى عليه به بصدقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وسأل الحكم طالوتاً بعد أن أمنه في ذلك المجلس، كيف ظفر بك صاحبك الوزير؟ قال أنا أظفرته بنفسي عن ثقة، لوصلة بيني وبينه، ليشفع لي عندك، فكان منه ما رأيت. فقال له: فأين كان مثواك قبل؟ فأخبره بخبر اليهودي، فقال الحكم للوزير: سوءة لك رجل في أعداء الملة حفظ لهذا الشيخ محله في الدين والعلم، فأخطر بنفسه فيه، وناقضت أنت ذلك وهو من خيار أهل ملّتك، وأردت أن تزيدنا فيما نحن قائمون عليه، في سوء الانتقام. أخرج عني قبّحك الله. ولا ترني وجهاً ووفر أرزاقه، وطويت في بيت الوزارة فراشه. فسقط آخر الدهرن وذهب عقبه وما زالوا في ارتكاس وخمول، وقد قيل إن إعلامه إياه بهذا القضية، وتباين ما بين الرجلين، كان سبب عفو الأمير عن طالوت، وانقلاب حقده على الوزير الواشي به. فالله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 عبد الرحمان بن موسى، الهوَّاري أبو موسى من أهل استجه ذكر ابن حارث، إنه استقضي على بلده، أيام الأمير عبد الرحمان في الحكم قال القاضي أبو الوليد: رحل أول خلافة الإمام عبد الرحمان بن معاوية، فلقي مالك بن أنس، وابن عيينة، ونظرائهما من الأئمة. ولقى الأصمعي وأبا زيد، وغيرهما من رواة الغريب. وداخل الغريب. وداخل العرب وتردد في محالها، وصدر إلى الأندلس، من سفره، فعطب ببحر تدمير فذهبت كتبه، فلما قدم استجه أتاه أهلها يهنئونه بقدومه، ويعزونه بذهاب كتبه فقال لهم: ذهب الخرج وبقيت الدرج. يعني ما في صدره. وكان فصيحاً ضرباً من الإعراب، حافظاً للفقه والتفسير والقراءة. وله كتاب في تفسير القرآن قد رأيت بعضه. رواه عنه محمد بن أحمد العتبي، ومسيب بن سليمان الأستجي، وروى عنه أيضاً اصبغ بن خليل، وهو كان القائم بالقضاء أيام الحكم بن هشام بعد صعصة بن سلام ووفاته. قال القعنبي وكان أبو موسى إذا قدم قرطبة لم يفت عيسى، ولا سعيد بن حسان، حتى يرتحل عنها، توقيراً له. وكان يسكن بعض قرى مورور، ثم انتقل إلى استجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 عبد الرحمان بن عبيد الله من أهل الأشبونة. قال ابن الفرضي: قال خالد: كان متردداً إلى قرطبة. وكان قد سمع من مالك ابن أنس، وكان له مكرماً. ذكر هذا غير واحد. ويقال إنه من روى الموطأ عنه. روى عنه عبد الملك زونان، وغيره. قال عبد الرحمان: كنت يوماً جالساً إلى جنب مالك ابن أنس، فنظر إلى ابن وهب وقال: سبحان الله أيما فتى، لولا الإكثار. حسان وحفص ابنا عبد السلام السلمي من أهل سرقسطة، ذكر غير واحد. رحلتهما إلى مالك، وسماعهما منه. قال ابن أبي دليم: ورويا عنه الموطأ. قال ابن الفرضي: وكان جميعاً فاضلين، ورحلا معاً إلى مالك. وكان حسان أسنّ من حفص. وكان من أهل العلم والتديّن. وكان حفص متفنناً في العلوم بليغاً حاذفاً. كنيته أبو عمر. ويحكى أنه لزم مالك مدة سبعة أعوام. وكان مالك يُدني منزلته. وسرد الصيام أربعين سنة. وكان الأمير الحكم يستقدمه كل عام يؤم به في رمضان. شبطون بن عبد الله الأنصاري الطليطلي. ولي القضاء ببلده، وذكره أبو سعيد وابن مفرج وابن أبي دليم، وغيرهم. في الرواة عن مالك. وذكر ابن أبي دليم أنه سمع منه الموطأ، وقيل إنه سمع منه كثيراً. وكان يسمع منه حتى مات. وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 محمد بن يحيى السبائي من أهل قرطبة يكنى أبا عبد الله. كان يعرف بفطيس بن أم غازية. روى عن مالك بن أنس الموطأ، فيما ذكره ابن دليم. وسمع منه مسائل معروفة. روى عنه قاسم بن هلال. قال ابن الفرضي: وفي كتاب أحمد بن محمد بن سعيد السبائي، وفي رواية ابن لبابة: محمد بن يحيى. فلا أدري أهما رجلان أم واحد. اختلف في اسم أبيه. وفي كتاب أبي سعيد المصري، في موضع محمد ابن يحيى السبائي قرطبي. سمع من مالك ابن أنس. وقال في موضع آخر: محمد بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمان بن سالم بن خشخاش بن أبي وعلة السبائي. أندلسي قديم. كان المفتي في أيامه، فجعلهما رجلين. وقال أحمد: هو جد السبائيين بقرطبة. قال: ولا أعلم له رحلة. وتوفي في صدر أيام الأمير عبد الرحمان بن الحكم، بعد ست ومائتين. وقال ابن حارث: كان ابن بشير القاضي يشاور في قضائه، محمد بن سعيد السبائي. قال الأمير: لعلّ هذا هو المعروف بابن الملون؟ ووهم فابن الملون متأخر عن هذه الطبقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وقال ابن حارث: محمد بن سعيد بن عبد الله السبائي. ذكره عبد الملك في كتابه. سمع يحيى بن يحيى وعيسى بن دينار وأمثالهم، وكان من أهل الورع والسمت الحسن. يروي عن يحيى بن يحيى. توفي نحو الثمانين ومائتين. داود بن جعفر بن الصغير. ويقال ابن الصَّغير، مولى بني تميم، قرطبي. سمع عن مالك والدراوردي ومعاوية بن صالح، وابن عيينة، وزكريا بن منظور. وقال ابن الفرضي: وقد روى عن ابن وهب، وابن القاسم، ومن الأندلسيين حسين بن عاصم، والأعشى ومطرف بن عبد الرحمان بن قيس، محمد بن وضاح. قال ابن وضاح: وروى هو عني. وكان ولي قضاء قلنبريه. قال ابن أبي دُليم، وذكره في المالكية: كان يميل إلى الحديث، ولم يذكر له سماعاً من مالك. وذكر سماعه ابن الفرضي عن أبي لبانة. وذكره أيضاً غيره. وسماعه في المدينة كثير، مشهور. وقال داود: رأيت ابن عيينة يطوف بالبيت متكئاً على رجل يسأله عن حديث. فنحى يده عنه وقال له: نكراً. فانضممت إليه. واتكأ علي، حتى فرغ من طوافه ثم تحول إليَّ فقال: بارك الله عليك، قال علي بن أبي طالب: المؤمن حسن المعونة قليل المؤونة. قال مطرف بن قيس: كان داود بن جعفر لبيباً فاضلاً. كتب عنه نحواً من ثلاثة آلاف حديث، وأكثر. قال ابن وضاح: هو جدّ بني الصغير، عندنا بالأندلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 الطبقة الصغرى من أصحاب مالك من أهل المدينة أبو مصعب أحمد بن أبي بكر واسم أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمان ابن عون الزبيري. روى عن مالك الموطأ وغيره من قوله، وتفقه بأصحابه: المغيرة وابن دينار وغيرهما. وله كتاب مختصر في قول مالك مشهور. قال الزبير بن بكار: كان على شريط عبيد الله بن الحسن بالمدينة. ثم ولاه قضاءها. قال مصعب بن عبد الله: ويعرف بكنيته: أبو مصعب وهو فقيه أهل المدينة. قال الزبيري: ومات وهو فقيه أهل المدينة. غير مدافع. قال أبو إسحق الشيرازي: كان من أعلم أهل المدينة. روي أنه قال لأهل المدينة: لا تزالون ظاهرين على أهل العراق: ما دمت لكم حياً. روى عن مالك والمغيرة، وابن دينار وإبراهيم بن سعد، وابن أبي حاتم، وصالح بن قدامة والداروردي والعطاف بن خالد، وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 روى عنه البخاري ومسلم والذهلي وإسماعيل القاضي، وأخوه حمّاد والرازيان وابن نمير، ومحمد بن رزين وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم عنه في صحيحيهما قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبي وأبو زرعة وقالا: هو صدوق. وقال القاضي وكيع في كتاب طبقات القضاة: هو من أهل الثقة في الحديث. قال أبو بكر بن أبي خيثمة: خرجت من سنة تسع عشرة ومائتين إلى مكة، فقلت لأبي محمد أكتب؟ فقال: لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت. قال القاضي المؤلف: وإنما قال ذلك، لأن أبا مصعب كان يميل إلى الرأي، وأبو خيثمة من أهل الحديث، وممن ينافي ذلك، فلذلك نهى عنه. وإلا فهو ثقة لا نعلم أحداً ذكره إلا بخير. قال ابن أبي خيثمة: وأبو مصعب ممن حمل العلم، وولاَّه عبيد الله بن الحسن قضاء الكوفة. ثم ذكر أنه ولي قضاء الكوفة. ثم ذكر أنه ولي قضاء المدينة. قال ابن نمير: سمعت أبا مصعب يقول: سمعت أبا مصعب يقول: سمعت مالكاً يقول: كلام الله غير مخلوق. وقال أبو مصعب: فمن شك أو وقف فهو كافر. وقال حبيب: قال أبو مصعب: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. فمن قال غير هذا فهو كافر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 قال أبو مصعب: وحدثني عبد العزيز ابن أبي حازم قال. قلت لمالك ابن أنس من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر وعمر قال ابن أبي حازم، وهو رأيي. قال أبو مصعب: وهو رأيي. ولو كان المحاباة لحابيت جدي عبد الرحمان بن عون. قال البخاري: ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين بالمدينة. وقال ابن عبد البرّ وغيره: سنة إحدى وأربعين. قال ابن الجزّار: في آخرها. قال الشيرازي وعاش تسعين سنة. أبو محمد الحكم - مدني - ذكره ابن شعبان في جملة رواة مالك. وهو مشهور بمحبة محمد بن مسلمة، وعبد الملك بن الماجشون. يروي عنه إسماعيل القاضي، وأخوه حماد، ومحمد ابن عبد الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 يعقوب بن حميد بن كاسب أبو يوسف، مدني، سكن مكة. روى عنه مالك وإبراهيم بن سعيد والداروردي وابن أبي حازم، والمغيرة وأنس بن عياض وعبد المالك بن الماجشون. روى عنه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والزبير بن بكار، وعبد الله ابن شهاب وصعصعة بن معين، لعله قال: وهو في سماعه ثقة. وإنما ضعّفه لأن الطالبيين حدّوه. قال أبو داود: فناظرت ابن معين في خبره وتحامل أولئك عليه، فأمسك عنه. قال ابن وضاح: ما رأيت بالحجاز أعلم بقول أهل المدينة منه. قال سحنون: كان حافظاً، وكان يعرف بابن القسام، وضعفّه أبو حاتم وأبو زرعة. قال البخاري: مات أول سنة إحدى وأربعين أو آخر أربعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 أبو عبد الله محمد بن صدقة الفدكي كان يسكن ناحية المدينة. قال البخاري: سمع مالكاً ومحمد بن يحيى ابن سهل. سمع منه إبراهيم بن المنذر، وله عن مالك مسائل كثيرة وحديث. قال محمد بن صدقة: سئل مالك، عن الرجل يبتاع العبد، فيشبح عنده موضحة، فيأخذ لها عقلاً، ثم يردّه بعيبه، فيطلب سيده أرش الموضحة أنه لا شيء له منها، لأن الموضحة لا تشينه وإن كان جرحاً يشينه لم يرده إلا بما أخذ. وقال ابن القاسم: وكذلك الجائفة، والمأمومة. وقال عيسى ابن دينار: إذا شأنه كان بالخيار إن يُرد، وما نقص الشين ليس العقل الذي يأخذه، وإن شاء حبس وأخذ قيمة العيب، وإن لم يُشن. وكل ما أخذ أو أمسك فلا شيء له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام. مدني يروي عن مالك وأبي ضمرة، وأبيه محمد. يكنى بأبي عبد الله. قال ابن أبي خيثمة: هو من أهل العلم. سمعت عمه مصعب بن عبد الله غير مرة يقول: لي بالمدينة ابن أخ إن بلغ أحدٌ منا فسيبلغ، يعنيه، كان الزبير علامة قريش في وقته. الحديث والفقه والأدب، والشعر والخبر والنسب، وهذا الباب هو الغالب عليه، وله فيه كتاب: جمهرة أنساب قريش، وغير ذلك. ولي قضاء مكة وبها توفي في ذي الحجة سنة ست وخمسين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 ومن المكيين ممن عداده في البغداديين هارون بن عبد الله الزهري أبو يحيى قال المصعب الزبيري: هو هارون بن عبد الله بن محمد بن معن بن عبد الرحمان ابن عوف. وأمه سهلة ابنة معن بن خنجر بن عمر بن معن بن عبد الرحمان. مكي نزل بغداد، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في الطبقة الأولى من الإتباع، وقد ذكر أبو إسحاق ابن القرطبي وأبو مفرج القرطبي: إنه ممن روى عن مالك وأسندوا له عنه أحاديث، وحكاية تشهد بسماعه. قال الشيرازي: تفقه بأبي مصعب الزبيري. قال القاضي: وسمع من ابن وهب وابن أبي حازم والقاضي هارون أيضاً، رواية عن المغيرة وعبد الملك والواقدي. روى عنه يحيى بن عمر ويونس بن عبد الأعلى والوليد بن مسافر والعداس، وأبو جعفر ابن هارون الإيلي، وجعفر بن يزيد، والقاضي أبو المغيرة محمد بن إسحاق المخزومي ومطرّف بن قيس. قال الشيرازي: هو أعلم من صنّف الكتب في مختلف قول مالك. قال الزبير في جمهرته: كان من الفقهاء وكان يقوم بنصرة أهل المدينة فيحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 قال مطرف بن قيس: سمعت منه بمكة وكان ألزمها، وكان عظيم القدر وله رواية عن مالك. وقال لي محمد بن عبد الحكم: إن لقيته فاحمل عنه. وقال القاضي وكيع: كان هارون الزهري من الفقهاء لمذهب أهل المدينة من أصحاب مالك. ومن أهل الأدب الواسع. قال هو والجيزي: كان في قضائه محموداً عفيفاً عدلاً ذا قدر. ولايته القضاء وسيرته ومحنته قال المصعب الزبيري: ولاه المأمون قضاء المصيصة ثم صرخد، ثم قضاه الرقة، ثم صرفه. ثم قضاء عسكر المهدي ببغداد. ثم صرفه. ثم قضاء مصر، فلم يزل على قضائها إلى أن صرف آخر أيام المعتصم. قال الحميدي في قضاة مصر. قال: بقيت مصر بعد ابن المنكدر دون قاضٍ، إلى أن ولًّى المأمون قضاءها هارون بن عبد الله الزهري. قال هارون: دعاني المأمون فقال: يا هارون قد وليتك بلداً يقولون بقولك، مصر. قال أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر: قدم هارون الزهري مصر، في رمضان سنة سبع عشرة ومائتين من قبل المأمون، وجلس في المسجد الجامع ولم يُبقٍ شيئاً في أمور القضاء إلا شاهده، بنفسه. وحضره مع أهل مصر. وتقصّى الأحباس وأموال الأيتام، ووقف على وجوهها بنفسه، وحاسب عليه، وضرب رجلاً على حال رآه منه في مال يتيم، كان ينظر له، وأطافه. وأورد أموال الغيَّب ومن لا وارث له بيت المال، وسجل بجميع ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وكتب إليه المعتصم يأمره بأخذ الفقهاء بالمحنة فاستعفى من ذلك. فكتب ابن أبي دؤاد إلى أبي بكر الأصم يأمره بأخذهم بذلك. فكان رأساً في ذلك يحمل الناس فيها، فكان هارون يقول: الحمد لله على معافاتي مما ابتلي به غيري. فذكر أنه نال علماء مصر في ذلك محنة عظيمة. وإن ابن عبد الحكم الكبير ضرب بالسياط، وضرب بنو عبد الحكم كلهم، وامتحنوا. وامتحن الأصم أيضاً أبا الطاهر وأبا جعفر الإيلي، ويحيى بن بكير وأبا إسحاق الفريقي، وأبا راشد، وضرب ظهره بالسياط. وجعل على حمار وجهه إلى ذنبه، وطيف به. وضرب ابن كاسب، وعبد الله ابن زيد بن ظبيان، وقابوس ابن أبي ظبيان وغيرهم. وأجابه بعضهم تقية. وكل من أجابه تركه، ومن أبى عليه، بعثه إلى العراق، إلى ابن أبي دؤاد، وفرّ جماعة على وجوههم، منهم ابن المواز. واختفى آخرون. منهم أصبغ بن الفرج، فلزم داره. وذكر الكندي: أن المأمون لما أخذ الناس بالمحنة في القرآن، كتب إلى أمير مصر، يأخذ به القاضي هارون، فزعم أنه أجابه وأنه كان لا يقبل من الشهود إلا من أقرَّ به. وذلك تقية، والله أعلم، وامتثالاً لما أمر به، ويدل على أنه تقية استعفاؤه من الأمر بعد ذلك وامتحانه على يد هذا الأصم المذكور، وما تذكره بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 قال أبو عمر والجيزي وثقل مكانه على ابن أبي دؤاد، فصرفه عن قضاء مصر، سنة ست وعشرين، ولم يجد سبيلاً إلى عزله. لأن المعتصم كان وقع اختياره عليه. حتى قرّر عند المعتصم، أنه استعمل أصحاب ابن المنكدر، الذي كان يشابه المعتصم كما ذكرنا في أخباره، وأنه صيرهم بطانة فعزله، وولى أبا بكر ابن أبي الليث الأصم، فأقام رجلاً فرفع على هارون باستهلاك مال من بيت المال. وكان هارون يدفع مفتاح التابوت إلى غير ثقة. فأتى عليه منه. فأمر الأصم، بإحضار كتاب المعتصم برفع ذلك عنه. فأخذ الله عما قريب من الأصم، ما فعل بهارون وزيادة، على يد الحارث بن مسكين، لما ولي قضاء مصر. أقام الأصم أياماً يضربه كل يوم عشرين سوطاً في رد مال بيت المال، ثم أمر المتوكل لما ولي بعد ذلك بحلق لحية الأصم وضربه، وطوافه في مصر على حمار، وسجنه وحمله على حمار وأصحابه. واستصفى ماله ولعنه على المنبر، فنفذ ذلك كله. وكان الأصم مبتدعاً متعزلياً خبيثاً. وكانت وفاة القاضي هارون سنة ثمان وعشرين ومائتين. ذكر ملح وحكم من شعره أنشد له القاضي وكيع في طبقات القضاة، ما قاله عند انصرافه عن ابن أبي دؤاد: أيام معروفك ما لم تكن ... بالصبر أحوال وأحوال فاصبر لها واصبر لمكروهها ... فللذي يدبر إقبال ورب أمر مرتج بابه ... عليه أن يفتح أقفال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 ضاق بذي الحيلة في فتحه ... حيلته والمرء محتال حتى تلقته مفاتحه ... من حيث لم يخطر به البال والرزق فاطلبه على أنه ... آت له وقت وآجال وليس يبطىء عنك في وقته ... ولا له عن ذاك إعجال فلا تقم عبداً على مطمع ... فربما أخلفك الحال فالفقر خير فاعلمن من غنى ... يكون كل فيه إذلال والمال للمكثر شين إذا ... لم يك منه فيه إفضال والحرّ حرّ حيث أمسى ولا ... يمنعه من ذاك إقلال وأنشد الزبير بن بكار له: هل الشوق إلا أن يحن غريب ... وأن يستطيل العهد وهو قريب أرى الشوق يدعوني إلى من أوده ... وللشوق داع مسمع ومجيب سقى الله أكناف المدينة أنه ... يحل به شخص إليَّ حبيب وإني وإن شطت بي الدار عنهم ... إليهم لمشتاق الفؤاد طروب وقائلة ما بال جسمك شاحباً ... وأهون ما بي أن يكون شحوب فقلت لها في الصدر مني حرارة ... تقطع أنفاسي لها وتنوب إذا ما تذكرت الحجاز وأهله ... فللعين من فيض الدموع غروب وأنشد له أبو عمر الكندي: ولما رأيت البين منها فجاءة ... وأهون للمكروه أن يتوقعا ولم يبق إلا أن يشيٍّع ظاعنا ... مقيم وتذري عبرة أن تودعا نظرت إليها نظرة فرأيتها ... وقد أبرزت من جانب الخدر إصبعا وذكر عن هارون أنه قال: أنشدتها لعبد الملك ابن الماجشون ونسبتها إلى رجل من بني قيس، فقال: احسن والله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 فقلت أنا والله قلتها في طريقي إليك. فقال قد عرفت فيها اللين حين أنشدتها. وأنشد له القاضي وكيع قصيدة كثيرة الحكم والوصايا، أولها: أمسى مشيبك في المفارق شائعا ... ورددت من عهد الشباب ودائعا وتركت وصل الغاتيات وطالما ... عاصيت فيهن العواذل طائعا ولقد لبست من الشباب غضارة ... ونضارة لو كان ذلك رايعا أزمان تصغي للصباوحديثه ... سمعاً يميل إلى الغواية سامعا فدع الغواني والشباب وذكره ... كم موضع في الغي أصبح نازعا والله فاحش وخف ذنوبك عنده ... يوم الحساب وكن لنفسك وازعا لا تعط نفسك ما تريد ولا تكن ... فيما يضرّك أن دعيت مسارعاً لا تمس عبداً للمطامع ولتكن ... للفضل متبوعاً ولا تك تابعاً كن للعشيرة في الأمور إذا عدت ... كهفاً وعنها في الأمور مدافعاً لا تحسدن نبيها واخضع له ... خير من أن تبقى لآخر خاضعاً سهل له فيما يريد طريقه ... حتى يكون برفعة لك رافعاً فمتى ينل خطأ يكن لك حظه ... وتكون فيه مفارقاً ومجامعاً فإذا نشأ لك ناشيء فانهض له ... وامنعه من ضيم يكن لك مانعاً حافظ عليه واتخذه عدة ... سيفاً إذا لقي الكريهة قاطعاً أكثر صديقك ما استطعت فما به ... ضرّ إذا ما لم يكن لك نافعاً داو العداوة من عدوّ بالتّقى ... واحذر عدوّك دانياً أو شاسعاً وإذا دعاك إلى الرجوع مجاملاً ... فارجع له وليلف سربك واسعاً إلا الحسود فإن تلك عداوة ... تبدي الرضا وتكون سمّاً ناقعاً فاصبر عليه فليس فيه حيلة ... وليطلعنّ طوالعاً وطالعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وينشد أيضاً: ماذا على الحي يوم البين لو رفعوا ... أو وصلوا من حبال البين ما قطعوا بل لم يبالوا أسيراً في الديار ولو ... بالوه لم يصنعوا في ذاك ما صنعوا لما رأيت حمول الحي باكرة ... يحثها جذل بالبين مندفع ناديت ليلاً ولا ليلاً يودعني ... منها السلام فكاد القلب ينصدع يا ليل أهلك أحموني زيارتكم ... والدار واحدة والشمل مجتمع فالآن مرّ عليّ العيش بعدكم ... فلست بالعيش بعد اليوم انتفع هل الزمان الذي قد مر مرتجع ... أم هل يرد على ذي الصورة الجزع قالت سليمي علاك الشيب من كبر ... والشيب أهون ما لم يأتك الطمع يا سلم إني وإن شيب يفزّعني ... رحب اليدين بما حملت مضطلع ولن أرى أطير يوماً لمفرحه ... ولا أرى لمصروف الدهر يختشع قد جربتني صروف الدهر فاعترفت ... صلب القناة صبوراً كيفما يقع نزه الخلائق لا يقتادني طمع ... إن اللئيم الذي يقتاده الطمع هذا وخائن قوم ظل يشتمني ... كالكلب ينبح حيناً ثم ينقمع تركته معرضاً لي واستهنت به ... إذا لم يكن لي فيه ريّ ولا شبع لا واضعاً غضبي في غير موضعه ... ولا انتظاري إذا ما نالني الفزع ولا ألين لقوم خاضعاً لهم ... ولا أكافيهم بالشر إن جمعوا حلماً بحلم وجهلاً إن هم جهلوا ... إني كذلك ما آتي وما أدع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 من أهل المشرق قتيبة بن سعيد ابن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي، البلخي البغلاني. وبغلان قرية بخراسان. مولى ثقيف. كنيته أبو رجاء. عداده في أهل بلخ. وكان طريف أبو جده الحجاج، وخباز. قال أبو احمد بن عدي وغيره: قتيبة لقب، واسمه يحيى. قال ابن شعبان له عن مالك الكثير من جيد الحديث والمسائل. سمع من مالك والليث، وابن لهيعة. وهو آخر من روى عنه، وبكر بن مضر، ويعقوب الاسكندراني، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وعبد الواحد بن زياد، وإسماعيل بن جعفر. روى عنه عبد الله ابن الزبير الحميد، وابن حنبلي وابن معين، وأبو خيثمة، وأبو بكر ابن أبي شيب، وابن نمير والحسن بن عرفة، وسيف بن موسى القطان، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وأبو داود، والترمذي والنسائي والبخاري ومسلم. وأخرجا عنه في الصحيح، فاكثروا. وأثنى عليه أحمد بن حنبلي، وقال يحيى: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 قال عبد الرحمان: سمعت أبي يقول: حضرت قتيبة بن سعد ببغداد، وجاء ابن حنبلي فسأله عن أحاديث فحدثه بها. ثم جاء ابن أبي شيب، وابن نمير بالكوفة. فلم يزالا ينتجان، عليه، وأنتج معهما إلى الصبح. وذكر أبو القاسم البلخي في مقالاته: أن حمزة بن محمد الحافظ، قال: اجتمع قوم من الطلبة بباب قتيبة بن سعيد، فسأله أحدهم أن يسمعه الحديث وبعضهم يسأله أن يسمعه الفقه. وأتى عليه الرحالون، وكان روى كثيراً، ولقي رجالاً فتبسم ثم قال: تسألني أم صبيي جملاً ... يمشي رويداً ويكون أولاً مهلاً خليلي فكلانا مبتلى قال القاضي وكيع: ولي قتيبة القضاء ببغداد، واستتاب بشراً المريسي فأقامه على صندوق من صناديق المصاحف، فقال بشر: معاذ الله، لست بتائب. فكثر الناس عليه حتى كادوا يقتلونه. قال أبو داود: سمعت قتيبة ابن سعيد، وقيل له الواقفة يعني في القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 فقال له: الواقفة شر منهم يعني ممن قال بالمخلوق. وذكر أن إسحاق بن راهويه كتب إلى قتيبة مرة وثانية، فلم يجبه. فكتب إليه الثالثة: إذا الأخوان فاتهم التلاقي ... فلا شيء أسرّ من الكتاب وأن كتب الصديق إلى أخيه ... فحق كتابه ردّ الجواب وذكر أبو القاسم البلخي في مقالاته، قال أبو عبد الله البخاري: وتوفي قتيبة غرة شعبان، سنة أربعين ومائتين، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، ومولده ببلخ في رجب، سنة ثمان وأربعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 من أهل مصر عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث مولى عميرة. امرأة من موالي عثمان بن عفان. قال ابن شعبان: يكنى أبا محمد، سمع مالكاً والليث وبكر بن مضر وعبد الرزاق، والقعنبي وابن لهيعة، وابن علية وإسماعيل بن أبي عياش، ويعقوب بن عبد الرحمان الزهري. والعطاف بن خالد، وبن عيينة. روى عنه ابن نمير، وهارون بن إسحاق وبنوه، والمقدام بن داود، وأبو يزيد القراطيسي والربيع بن سليمان، وابن المواز، والعداس وأحمد بن ركبان وابن حبيب، وأحمد بن صالح ومحمد ابن مسلم، وغير واحد. قال أبو عمر بن عبد البر: كان ابن عبد الحكم رجلاً صالحاً، ثقة محققا بمذهب مالك. قال الكندي: كان فقيهاً. قال أبو زرعة الرازي: هو صدوق ثقة قال محمد بن مسلم، كتبت عنه وهو شيخ مصر. وقال مثله أحمد بن صالح. قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 قال أحمد بن عبد الله الكوفي: عاقل، حليم، ثقة، كتبت عنه. قال الشيرازي: وإليه أفضت الرئاسة بمصر بعد أشهب. وكان أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله. ولابن عبد الحكم سماع من مالك الموطأ، ونحو ثلاثة أجزاء. وروى عن ابن وهب وابن القاسم، وأشهب كثيراً. وصنف كتاباً اختصر فيه أسمعته، ثم اختصر منه كتاباً صغيراً وعلى هذين الكتابين مع غيرهما نقول المالكيين من البغداديين، في المدارسة وإيّاهما شرح أبو بكر الأبهري وغيرهما، بل وغير واحد من العراقيين وأهل المشرق، قال بشر بن بكر: رأيت مالكاً في النوم بعد الممات بأيام، فقال: لي ببلدكم رجل، يقال له ابن عبد الحكم، فخذوا عنه فإنه ثقة. جملة من أخباره وفضائله وتواليفه قال أبو عمر الكندي: وليّ ابن عبد الحكم بعد ابن برد، مسائل عيسى ابن المنكدر، قاضي مصر. فأدخل في العدول من استحق ذلك عنده، وأن لم يكن له قدم. وقبل شهادته، فاضغن ذلك عليه بعض مشيخة المصريين. فقال له يوماً أبو خليفة الرعيني: كان هذا الأمر مستوراً فكشفته. وأدخلت في الشهادة من هو يسمى بأهل لها. فقال له ابن عبد الحكم: هذا الأمر دين، وقد فعلت ما يجب علي. فقال: وبلغ بنو عبد الحكم بمصر من الجاه والتقدم، ما لم يلقه أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 قال ابن عبد البر: وكان عبد الله صديقاً للشافعي، وعليه نزل أن جاء من بغداد، فأكرم مثواه وبالغ الغاية في بره، وعنده مات. قال الشيرازي: يقال أنه دفع للشافعي ألف دينار، وأخذ له من أصحابه ألفاً، ومن رجلين آخرين ألفاً. قال ابن عبد البر: وقد روى عبد الله عن الشافعي وكتب كتبه بنفسه، وابنيه. وضم ابنه محمد إليه وكانت بين عبد الله بن عبد الحكم وبين اصبغ منازعة، ومباعدة. حتى كاد يرمي كل واحد منهما صاحبه بالبهتان فقيل لابن عبد الحكم: أن هذا الرجل قد وجب لك عليه حد، فحدّه فأبى. وقال أن جلد صرناً حديثاً. يقال جلد فلان، بسبب فلان. ومن تواليف عبد الله بن عبد الحكم: المختصر الكبير. يقال أنه نحا به اختصار كتب أشهب، والمختصر الأوسط والمختصر الأصغر، قصره على علم الموطأ. والمختصر الأوسط، صنفان. فالذي في رواية القراطيسي فيه، زيادة الآثار، خلاف الذي في رواية محمد ابنه، وسعيد بن حسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وله أيضاً كتاب الأهوال. وكتاب القضاء في البينان. وكتاب فضائل عمر بن عبد العزيز. وكتاب المناسك. وقد اعتنى الناس بمختصراته، ما لم يعتن بكتاب من كتب المذهب بعد الموطأ والمدوّنة فشرح المختصر الكبير الشيخ أبو بكر الأبهري، وللخفاف فيه شرح أيضاً. ولأبي جعفر بن الجصاص عليه تعليق. نحو مائتي جزء فيما ذكر وقد رأيت بعضه. وشرح أيضاً الشيخ أبو بكر الأبهري المختصر الصغير، ولأبي بكر ابن الجهم فيه، شرح أيضاً كبير، غير أنه اختصره محمد ابن أبي زيد، وآخر من شرحه من طبقة شيوخنا ابن باخي البصري؟ ولمحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم في الصغير زيادة خلاف الشافعي، وأبي حنيفة. وفيه عمل على هذا لأبي عبد الله بن عبد الرحيم البرقي. زاد على هذا قول سفيان، وابن راهويه والأوزاعي والنخعي، وبعضهم جعله لابنه، أبي القاسم عبيد الله بن محمد البرقي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 ولأبي الحسن علي بن يعقوب الزيات المعروف بابن رمضان، على هذا زيادة أقوال بعض الفقهاء، ممن لم يذكره البرقي، ثم لعبيد الله بن عمر البغدادي الشافعي، من أهل قرطبة المعروف بعبيد، على ما ذكر ابن رمضان، زيادة مذهب داود ابن علية، والليث والطبري، ذكر بعضهم أن مسائل المختصر الكبير ثمانية عشر ألف مسألة. وفي الأوسط أربعة آلاف مسألة. وفي الصغير ألف ومائتا مسألة، وذكر بعضهم أن مسائل المدوّنة ستة وثلاثون ألف مسألة، وألف أيضاً كتاب الأهوال. ذكر خبره مع ابن معين ومحنته ووفاته ذكر الباجي، في كتابه خبره مع ابن معين، فاختصرته على المعنى، وذكر أنه كان صديقاً له، وأعلمه أنه يحضر مجلسه في الغد، وأمره بالتحفظ، فغدا عليه يحيى من الغد، وهو يحدث بكتاب الأهوال، من تأليفه. فقال حدثنا فلان وفلان وذكر عدة من شيوخه بما في هذا الكتاب، فقال له يحيى: كلهم حدثك بجميع ما فيه، أو بعضهم ببعضه، فجمعت حديثهم. فهاب كلامه ابن عبد الحكم، ودهش، وقال: كلهم حدثني به. فقام يحيى وقال: الشيخ يكذب. وذكر أبو العرب التميمي، في كتاب المحن، عن عبد الله بن عبد الحكم، أنه امتحن في القرآن على يد الأصم، وضرب بالسياط في مسجد مصر، أقل من ثلاثين سوطاً أيام المأمون وابن أبي دؤاد على قضائه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وترجم أبو العرب في الترجمة عبد الله بن عبد الحكم الكبير، وذكر في الحكاية أن فعل به هذا هو ابن عبد الحكم الكبير، وأراه ابنه فإن محنة الأصم كانت بعد موت عبد الله على ما ذكرناه، في أخبار القاضي الزهري، قبل. قال أبو عمرو الكندي: وكان القاضي عيسى بن المنكدر قد كتب إلى المأمون كتاباً في شأن المعتصم أخيه، لما ولاه مصر. فعرضه المأمون على المعتصم. فلما ورد المعتصم مصر عزل ابن المنكدر، وسجنه إلى أن مات في سجنه ببغداد، رحمه الله تعالى. وسجن عبد الله بن عبد الحكم بالتهمة، في هذا الكتاب إذا كان الغالب على ابن المنكدر وصاحب مسائله، وكان أشار على ابن المنكدر ألا يفعل، فعصاه. عبد الله فمات لإحدى وعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة أربع عشرة ومائتين، وهو ابن ستين سنة. قيل مولده بمصر سنة خمس وخمسين. وقيل سنة ست في السنة التي ولد فيها الحارث بن مسكين، وعبد الله أكبر منه بشهرين. وقيل سنة خمسين ومائة. وإليه أوصى ابن القاسم وابن وهب وأشهب وأبو عبد الحكم يكنى أبا عثمان، كذلك له عن مالك مسائل في المدّبر وغيرها. وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائة. وأما بنوه فسيأتي ذكرهم بعد هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 يحيى بن عبد الله بن بكير بن زكريا المخزومي - مولاهم قال الكندي: هو مولى عمرة مولاة أم حجر ابنة أبي ربيع بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وقال ابن وزير: ثلاثة من أهل مصر لا يعرف لهم ولاء صحيح: ابن بكير، وأصبغ، وابن عفير. قال الكندي: كان ابن بكير، فقيه الفقهاء بمصر في زمانه ولاه القاضي العمري مسائله مع أشهب سمع من مالك موطأة، وغير ذلك. ومن الليث بن سعد والعطاف ابن خالد، وابن لهيعة وبكر بن مضر، ومفضل بن فضالة، والمغيرة بن عبد الرحمان، وابن وهب روى عنه البخاري وخرج عنه في صحيحه، وابن إبراهيم والزبيري، وأسحق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبو داود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 السجستاني، وعلي بن عمر التميمي، والرمادي وأبو زرعة ويونس بن عبد الأعلى والذهلي. قال أحمد بن عبيد الله الكوفي: كنت آتي ابن عبد الحكم فيمر به ابن بكير، ويسلم عليه، ويقول: شيخنا ابن بكير، ومحدث بلدنا ويتبعه ثناء حسناً ذكر عن يحيى بن معين أنه قال: شر العرضات عرضة ابن بكير كان حبيب يصافح له ورقتين في ورقة، وعنده الحكاية باطلة والله أعلم، لأن مالكاً رحمه الله تعالى ومن حضره، لم يصح جواز مثل هذا عليهم لحفظ حديث الموطأ. وقد أنكر هذا بعض أصحاب مالك الجلة: وقال: إنما كان عرضتنا على مالك ورقتين، من الموطأ. فكيف يصح هذا. قال الباجي: تكلم بعض أهل الحديث في سماعه للموطأ وأنه إنما سمعه بقراءة حبيب وهو ثبت في الليث، وقد روى عنه من طريق بقي بن مخلد وغيره أنه سمعه من مالك سبع عشرة مرة وأن بعضها بقراءة مالك. قال أبو أحمد بن عديّ: هو أثبت الناس في الليث. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. كان يفهم هذا الشأن. ذكر ليحيى بن معين: يحيى بن بكير فقال: ثقة إلا أن حديثه عن ابن وهب لم يكن بالجيد القراءة له. وضعّفه النسائي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وذكر ليحيى بن معين أيضاً فقال: لا صلى الله عليه. دخلت عليه بمسجده فلما رآني سجد. وقال ما كنت أرى أنك تأتيني. وأراه لم يحدث عنه بغير هذه القصة. وذكر ابن باز: قرأ لنا يحيى بن بكير بمصر كتاباً كان يرويه عن عبد الله ابن لهيعة من حديثه. فلما فرغ من قراءته قال للناس: اسمعوا هذا الكتاب سمعته من ابن لهيعة بعدما اختلط. روى عنه من أهل الأندلس وأفريقية والغرب جماعة، منهم: يحيى بن عمر، وفرات بن محمد، وإبراهيم بن باز. توفي في مصر سنة إحدى ويقال اثنتين وثلاثين ومائتين. مولده سنة ثلاث وخمسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 عبد الملك بن مسلمة بن يزيد مولى بني أمية أصله من نوبية، يكنى أبا مروان. قال أبو عمر الكندي: وكان فقيهاً من أصحاب مالك. مولده سنة أربعين ومائة. وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. يونس بن تميم بن يونس مولى زوف بن مراد، قال الكندي: كان فقيهاً، وذكر ابن شعبان وابن مفرج روايته، عن مالك. توفي سنة خمس عشرة ومائتين. هاني بن المتوكل بن إسحاق بن إبراهيم بن حرملة مولى بني شبابة، من فهم. نزل بالإسكندرية. وذكر له رواية عن مالك. قال الكندي: كان فقيهاً سنياً. توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. مولده سنة ثمان وثلاثين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 سعيد بن الحكم بن محمد ابن أبي مريم الجمحي قال الكندي: مولى أبي فطيمة، مولى بني جمح. كنيته أبو محمد. كذا نسبه الكندي، وكذا قال البخاري، وأبو حاتم. وحكى الألكاني عن غيرهما: سعيد بن محمد بن عبد الحكم، يروي عن مالك وعبد الله العمري وابن عيينة، والليث وابن وهب وسليمان بن بلال وغيرهم. روى عنه ابن معين والذهلي وأبو عبيد، ومحمد بن إسحق الصاغاني، والبخاري وأبو هاشم. ويعقوب بن سفيان. وأخرج عنه البخاري ومسلم. ويقال إنه سمع الموطأ من مالك، وله عنه حديث كثير وغير ذلك. قال الكندي: كان فقيهاً من أهل الفضل والدّين. قال ابن معين فيه: ثقة. وقال أبو حاتم: مثله. وقال يحيى أيضاً: هو ثقة الثقات. وسئل أحمد بن حنبل عمن يكتب بمصر، فقال: عن ابن أبي مريم. وقال أحمد بن عبد الله الكوفي: هو ثقة، وأثنى عليه ابن أيمن، والأعناقي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وذكره ابن وضاح، فذكر من فضله وثقته، فأطنب فيه. وقال: هو ثقة الثقات، كتبت عنه بمصر مسألتين لا غير. قال ابن وضاح: وسمعت ابن أبي مريم يقول: كان لديه طوماران يكتب في أحدهما شهادته، وفي الآخر إيمانه. قال بعضهم كنا عند سعيد بمصر، فأتاه رجل فسأله كتاباً ينظر فيه، أو سأله أن يحدثه فامتنع عليه، وسأله رجل آخر فأجابه. فكلمه الأول في ذلك، وقال: ليس هذا من الحق أو نحوه. فقال ابن أبي مريم: إن كنت تعرف من الشبائي وأبا حمزة من أبي جمرة، وكلاهما عن ابن عباس، حدثناك وخصصناك كما خصصنا هذا. قال الكوفي: كان له دهليز طويل، يقف الآخر إنه يردّ عليه، فيقول ما هذا: فيقول قدري خبيث. ثم يأتي آخر، فيفعل به مثله. فيسأله، فيقول: جهمي خبيث، أو رافضي خبيث. وكان عاقلاً لم أرَ بمصر أعقل منه، ومن ابن عبد الحكم. قال البخاري: توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. مولده سنة أربع وأربعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 ؟ عبد الرحمان ابن أبي جعفر الدمياطي قال أبو إسحق ابن شعبان: روى عن مالك، وأسند عنه. قال ابن أبي دليم، وابن حارث: سمع من أعالي أصحاب مالك، كابن وهب وابن القاسم، وأشهب. وله عنهم سماع مختصر، مؤلف حسن. رواه عنه يحيى ابن محمد، وغيره. وهذه الكتب معروفة باسمه، تسمى بالدمياطية. قال الشيرازي: تفقه بأشهب وابن وهب وابن القاسم، ومطرف وعبد الملك وابن نافع، وقد روى عن الفضيل بن عياض. قال الدمياطي: أتينا الفضيل نسمع منه، فلم يخرج إلينا. فقلنا للرجل كان معنا، حسن الصوت بالقرآن. اقرأ: فخرج إلينا، وإن الدموع على لحيته يبكي. فقال مالي ولكم؟ آذيتموني. العلم تريدون؟ تتركونه والله، كتاب الله. وروى عنه يحيى بن عمر والوليد ابن معاوية. وعبيد بن عبد الرحمان وغيرهم. توفي سنة ست وعشرين ومائتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 ؟ عبد الله بن محمد بن إسحق البيطاري نسب إلى ذلك، لأنه كان ينزل عنده بلال البيطار، مولى لقيس. كنيته أبو محمد. قال أبو عمر الكندي: كان فقيهاً، ولقي مالكاً. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. ؟ بلال بن يحيى بن هارون الأسواني من بني أمية. قال الكندي: من أصحاب مالك، وذكره فيهم. وكان مقبولاً عند قضاة مصر. وغمصه ابن عفير بما يقال في أهل اسوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 محمد بن رمح بن المهاجر ابن المحرز بن سلام التجيبي، مولاهم، أبو عبد الله. ويقال أبو بكر، صحب مالكاً وسمع الليث والفضيل وابن لهيعة. حدث عنه مسلم، وعلي بن الحسن بن المنذر، وحازم بن يحيى الحلواني، وابن وضاح، والحسن بن سفيان وابن ريان، وغلبت عليه الرواية. وهو ثقة مأمون. قال الكندي: خرج له مسلم في صحيحه كثيراً. قال ابن الجيري: وكان رجلاً صالحاً، أوثق من ابن أبي زرعة. قال ابن ريان: هو ثقة. قال ابن وضاح: هو نعم الشيخ. قال الكندي: كان فقيهاً، قال، ابن رمح. واختلف عندنا في مالك والليث، فذكر من اختلافهم شيئاً غاظه. حتى كانوا أحزاباً. فرأيت النبي صلى الله عليه، في النوم. فقلت يا رسول الله: اختلف عندنا في مالك والليث. فما ترى؟ فقال: مالك ورث جدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 قال الحسن ابن علي الأشناني: قال قائلون: جدي يعني إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: الولي وقال آخرون: السنة. وقال أبو عمر الكندي في كتاب القضاة: كان أبو بكر الأصم قاضي مصر، قد أخذ أهلها، تبرك لباس القلاسي الطوال، وكانت ترى على شيوخهم، وفقهائهم وعدولهم. وقال لهم: لا تشبهوا بلباس القاضي فلم ينتهوا. فاجتمعوا مرة عنده، في الجامع. فأمر الأعوان بضرب رؤوسهم، حتى ألقوها. فكان الصبيان يلعبون بها، ولم يلبسوها في مدته، إلا ابن رمح فإنه ثبت على لباسها فلم يعارض. توفي في شوال سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وقال الكندي: ثمان وأربعين. مولده سنة اثنتين وخمسين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 من أهل الأندلس يحيى بن يحيى الليثي قال القاضي أبو الوليد، ابن الفرضي: يحيى بن يحيى بن بكير بن وسلاس بن شملل بن صيغا. يكنى أبا محمد. قال الأصيلي: ويحيى أبوه هو المكنى بأبي عيسى، وهو من مصمودة طنجة وينتمي إلى بني ليث. ولا يعلم على الصحة سبب ذلك. قال الرازي في كتاب الاستيعاب: هو من مصمودة من مضارة قبيلة منها. دخل يحيى بن وسلاس، مع ابن أخيه نصر بن عيسى في جيش طارق، وأسلم وسلاس جدهم، على يدي يزيد ابن عامر الليثي، ليث كنانة. فهذا - والله أعلم - سبب انتمائهم إلى ليث. قال الرازي: ثم دخل بعدهما كثير بن وسلاس، وهو جد يحيى. وولي ابنه يحيى الجزيرة، وشذونه. وطلب يحيى ابنه العلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وقال أبو عمر بن عبد البر، وكثير: هو المكنى بأبي عيسى. وهو الداخل إلى الأندلس، وكانوا يعرفون بأبي عيسى، والعلم عند الله. ذكر ابتداء طلبه العلم ورحلته قال الرازي: كان سبب طلب يحيى بن يحيى العلم، إنه كان يمر بزياد وهو يقول على أصحابه. فيميل إليه ويقعد عنده، فأعجبه ذلك زياداً، وأدناه يوماً، وقال له: يا بني إن كنت عازماً على التعلم فخذ من شعرك واصلح زيك. وكان يرى الخدمة، ففعل ذلك بحين، فسر به زياد واجتهد بتعليمه حتى برع تلاميذه. ثم قال له زياد بعد مدة: إن الرجال الذين حملنا العلم عنهم، يدفنون. وعجز بك أن تروي عمن دونهم. فخرج يحيى، بعد أن استسلف زياد له مالاً. إذ رغب من مال أبيه، فحج وسمع مالكاً، والليث. وكان لقاؤه لمالك سنة تسع وسبعين. السنة التي مات فيها مالك. وانصرف إلى الأندلس، فلم يلبث إلا يسيراً حتى هلك أبوه بمحله بالجزيرة. فأخذ ما طاب من مال أبيه، ثم عاد، فحج ولقي جملة أصحاب مالك، ثم انصرف. وذكر مثل هذا ابن حارث: إنه كانت ليحيى رحلتان من الأندلس. سمع في أولهما من مالك والليث وابن وهب، واقتصر في الأخرى على ابن القاسم وبه تفقه. وقال ابن الفرضي وأبو عمر بن عبد البر وغيرهما، وبعضهم يزيد على بعض: سمع يحيى لأول نشأته من زياد، موطأ مالك بن أنس، وسمع من يحيى بن مضر. ثم رحل وهو ابن ثمان وعشرين سنة. فسمع من مالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 الموطأ، غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شك فيها، فبقي يحدث بها عن زياد. وسمع من نافع بن أبي نعيم القارىء، والقاسم بن عبد الله العمري، وحسين بن ضميرة، وعبد الله بن نافع، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة، وبمصر من الليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، موطأة وجامعه. وسمع من ابن القاسم مسائل، وحمل عنه عشرة كتب. فكتب سماعه، قال أبو عمر: ثم انصرف إلى المدينة، ليسمعه من مالك. فوجده عليلاً. فأقام بالمدينة إلى أن توفي مالك رحمه الله تعالى، وحضر جنازته. وقدم الأندلس بعلم كثير، فعاد فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار إلى رأيه، وقوله. وأخذ عليه في روايته في الموطأ، وفي حديث الليث وغيره أوهام نُقلت وكُلَّم فيها، فلم يغير ما في كتابه، واتبعه الرواة عنه. وقد عرفها الناس، وبينوا صوابها. وأما ابن وضاح، فإنه أصلحها ورواها الناس عنه على الإصلاح. وكان يفتي برأي مالك، لا يدع ذلك إلا في مسائل نذكرها بعد. قال الشيرازي: رحل يحيى بن يحيى إلى مالك، وهو صغير، وتفقه بالمدنيين والمصريين من أصحابه قال أبو عبد الملك بن عبد البر: وبه وبعيسى بن دينار، انتشر مذهب مالك، وانتمى الناس إلى سماع الموطأ، من يحيى. وأعجبوا بتقليده، فقلّدوه، وتبعوه. قال ابن الفرضي: وسمع منه رجال الأندلس في وقته. وكان آخر من حدث عنه ابنه عبيد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 ذكر شيء من فضائله وأخباره قال أحمد بن خالد: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلت الإسلام من الخطوة، وعظم القدر وجلالة الذكر، ما أعطيه يحيى بن يحيى. وكان الأمير عبد الرحمان بن الحكم يبجله، بتبجيله الأدب، ولا يرجع عن قوله، ويستشيره في جميع أمره، وفيمن يوليه ويعزله، فلذلك كثر القضاة في مدته. وكان يفضل بالعقل على علمه، وألح عليه الأمير عبد الرحمان في ولايته القضاء، فأبى عليه. فوكل عليه من يقعده في الجامع، وقال للناس: هذا قاضيكم. فأبى على الحكم. فقال له يحيى: إن المكان الذي أنا فيه أنفع وخير لكم مما تريدون. إنّا إذا تظلم الناس من قاض أجلستموني، فنظرت لكم في أحكامه. وإن كنت قاضياً فتظلم مني كما يتظلم من القضاة من تقعدون ينظر في أحكامي؟ فكفوا عنه. قال ابن لبابة: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها ابن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى. قال الشيرازي: إليه انتهت الرئاسة بالأندلس في العلم. وكان مالك يعجبه سمت يحيى وعقله. روي عنه إنه كان عنده يوماً جالساً في جملة أصحاب مالك، إذ قال قائل: قد حضر الفيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه. فقال له مالك لِمَ لم تخرج فتراه، إذ ليس بأرض الأندلس. فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي، لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، لا إلى أن أنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه العاقل. قال أبو عمر بن عبد البر: كان يحيى إمام بلده المقتدى به، المنظور إليه، المعول عليه. وكان ثقة عاقلاً، حسن الهدي والسمت يشبًّه سمته بسمت مالك. ولم يكن له تبصر بالحديث. قال إبراهيم بن باز: والله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت أوقر من يحيى بن يحيى قط. ما رأيته يبصق، ولا يسعل في مجلسه، ولا يتحرك عن حاله، وكان أخذ بزي مالك وسمته. قال يحيى: لما ودعت مالكاً سألته أن يوصيني. فقال لي: عليك بالنصيحة لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ثم قدمت على الليث، فلما حان فراقي إياه، قلت له مثل مقالتي لمالك. فقال لي مثل قوله سواء. قال ابن حارث: كان يحيى لا يرى القنوت في الصبح، ولا غيرها، إقتداء بالليث أيضاً. وخالف أيضاً مالكاً بالأخذ باليمين مع الشاهد، فلم ير القضاء به. وأخذ بقول الليث أيضاً فيه. وقضى برأي أمينين إذا لم يوجد من أهل الزوجين حكمان. ورأى كراء الأرض بما يخرج منها، على مذهب الليث. وذكر أبو عبد الملك بن عبد البر، أن يحيى كان لا يرى الحكمين، وأن ذلك مما أنكر عليه. وكان يأتي الجمعة معتماً راجلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وحكى عبيد الله بن يحيى عن أبيه، قال: كنت مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث في الغزو يوم اربونة، ومعي صاحبي سعيد بن محمد ابن بشير، وكان يكرمنا ويرسل إلينا، ويستشيرنا. وربما استخصني، بالإرسال، حتى قلت له: لا تفعل، فربما احفظ ذلك صاحبي. ووجّه إلي يوماً بصلة، مائة دينار. وإلى سعيد بمثلها. فصرفتها إليه، وقلت له: أما أنا فمستغنٍ عنها، بحمد الله. ولكن أجمعها لصاحبي، لحاجته إليها. فلما فتح الله على المسلمين، وقفلنا، قال لي يوماً: يا أبا محمد، أردت أن أكرمك أنت وصاحبك، فأمكن بكما الأندلس. قلت وبما ذاك؟ قال بأن أسمعكما سماعاً حسناً عندي. قلت: أنت والله تريد إساءتنا، لا إكرامنا. فقال لي يا أبا محمد: لا تظن إلا خيراً. فما كان رأي من قبلك، إذا تبالغ في تكريمهم حتى نفعل ذلك بهم. فقلت لا جزاهم الله خيراً عن أنفسهم، ولا عنك، فقد والله خانوا الله ورسوله. فخجل واعتذر. وذكر أحمد بن عبد البر، أن قاضياً من قضاة قرطبة سماه، جميل المذهب، كان أشار بن يحيى بن يحيى، فكان طاعة له في قضائه، لا يعدل عن رأيه، إذا اختلف الفقهاء عليه، فاتفق إن وقعت قصة تفرد فيها يحيى وخالف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 جميعهم، فأرجأ القاضي القضاء فيها، حياء من جماعتهم، وردفته قصة أخرى، فشاورهم فيها أيضاً، فلما أتى كتاب يحيى وقد أحضره توقفه على إنفاذ الأولى، صرفه على رسوله، وقال: ما أفك له ختاماً، ولا أشير عليه بشيء، إذ قد توقف عن القضاء لفلان بما أشرت عليه به، وعابه. فلما انصرف إليه رسوله، وعرفه بقوله، قلق منه وركب من فوره إلى يحيى معتذراً وقال له: لم أظن الأمر وقع منك هذا الموقع. وسوف أقضي له غداً يومي إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقاً. قال: نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي، فإني ظننت إذ خالفني أصحابك، إنك توقفت مستخيراً الله، متخيراً في الأقوال. فأما إذا صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف، فلا خير فيما تجيء به، لا فيّ إن رضيته منك. فاستعف من ذلك، فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك، فرجع ليستعفي، فعزل. قال عبيد الله بن يحيى: قال لي أبي: لما قام الناس على قاضي قرطبة يحيى بن معمر؟ وتساعدوا فيما كتب عليه، أتاني سعيد بن حسان فقال لي: ما ترى في الشهادة عليه. فقلت له لا تفعل. وانتظر أن تكون مشاوراً في شهادة غيرك. فتكون فتواك أنفذ من شهادتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 فغلبته الشهوة، وخالفني، فشهد فجاءني كتاب الأمير يقول: تصفحت الشهادة على فلان فلم أرَ لك فيه شهادة. وقد وجهت إليك بكتاب الشهادات عليه، فتصفحها وأكتب إلينا برأيك إن شاء الله. فأجابه يحيى: ما عندي من أخبار الرجل علم، لأنه لم يكن يحضرني مجلسه، ولا يشاورني في أحكامه، فأما الشهادة الواقعة عليه، فقد تصفحها ولو شهد على مالك والليث رحمهما الله تعالى بمثلها ما رفعا بعدها رأساً. فعزل لحينه. قال يحيى: وأخبرني الليث أنه أخذ بركاب ربيعة. فقال له ربيعة: يا ليث: خدمك العلم. قال يحيى وإنما أراد ربيعة أن يبلغ مبلغ الكرامة، فما خرج يعني الليث من الدنيا حتى رأى ذلك. قال يحيى: وأخذت أنا بركاب الليث. فقال لي: أقول لك ما قال لي ربيعة: خدمك العلم يا يحيى. قال يحيى بن إسحق: ذكر يحيى ابن يحيى حديثاً يرويه عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم. قال وإن رجلاً ممن بلغه هذا الحديث من طلبة العلم، ذكره وهو على بطن امرأته، قبل أن يفضي إليها. فأخذ دفتراً من العلم ينظر فيه. قال يحيى: ولقد طلبت هذا الأمر يوم طلبته ولا أريد إلا نفسي. حتى هيّأ الله ما هيأ. فعلمت أن الناس يحتاجون إلي، ولقد تقت إلى النساء في أيامي، مع ابن القاسم بمصر، فاشتريت جارية بها. فوالله ما رأيت لها وجهاً نهاراً، طول ما قامت عندي، حتى بعتها اشتغالاًً بابن القاسم وعلمه. وكان ابن القاسم موضع دلك وأهله، في روعة وأمانته. وقيل لي يا أبا محمد فتمني هذا الأمر، مما يفسد النيّة. فقال: لا والله. وما عقل من لم يتمن ذلك؟ قال الله تعالى وجعلنا للمتقين إماماً. قال يحيى: كنت آتي عبد الرحمان بن القاسم، فيقول لي من أين يا أبا محمد؟ فأقول له: من عند عبد الله بن وهب. فيقول لي: اتق الله، فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل. ثم آتي عبد الله بن وهب، فيقول لي من أين؟ فأقول له: من عند ابن القاسم، فيقول لي اتق الله، فإن أكثر هذه المسائل رأي، ثم يرجع يحيى فيقول: رحمهما الله فكلاهما قد أصاب في مقالته. نهاني ابن القاسم عن إتباع ما ليس عليه العمل من الحديث، وأصاب. ونهاني ابن وهب عن كلفة الرأي، وكثرته، وأمرني بالإتباع وأصاب. ثم يقول يحيى: إتباع ابن القاسم في رأيه رشد. واتباع ابن وهب في أثره هدى. وكان يحيى جمع مسائل، سأل عنها أشب وابن نافع وغيرهما من أصحاب مالك، وكتبها عنهم. فعرضها على ابن القاسم، ليرى فيها مذهبه، فجعل ابن القاسم ينتقص عليهم، فلما رأى يحيى ذلك طوى كتابه، وادخله في كمه. فقال له ابن القاسم ما بالك. فقال إن هؤلاء لهم علي حق كحقك، وقد كتبت عنهم ولم أرد أن أعرّض بهم، إلى الوقوع فيهم. فإذا كان هذا، فلا حاجة لي بذلك، ومثله له معه في سماع وزياد. وقد ذكرناه، في خبره. ووقع الأمير عبد الرحمان على جارية له في يوم من رمضان ثم ندم، وبعث في يحيى وأصحابه، فسألهم. فبادر يحيى وقال: يصوم الأمير، أكرمه الله شهرين متتابعين. فلما قال ذلك يحيى: سكت القوم. فلما خرجوا سألوه لم خصه بذلك دون غيره مما هو فيه، تخير من الطعام والعتق؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب وطىء كل يوم وأعتق. فحمل على الأصعب عليه لئلا يعود. م طلبته ولا أريد إلا نفسي. حتى هيّأ الله ما هيأ. فعلمت أن الناس يحتاجون إلي، ولقد تقت إلى النساء في أيامي، مع ابن القاسم بمصر، فاشتريت جارية بها. فوالله ما رأيت لها وجهاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 نهاراً، طول ما قامت عندي، حتى بعتها اشتغالاًً بابن القاسم وعلمه. وكان ابن القاسم موضع دلك وأهله، في روعة وأمانته. وقيل لي يا أبا محمد فتمني هذا الأمر، مما يفسد النيّة. فقال: لا والله. وما عقل من لم يتمن ذلك؟ قال الله تعالى وجعلنا للمتقين إماماً. قال يحيى: كنت آتي عبد الرحمان بن القاسم، فيقول لي من أين يا أبا محمد؟ فأقول له: من عند عبد الله بن وهب. فيقول لي: اتق الله، فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل. ثم آتي عبد الله بن وهب، فيقول لي من أين؟ فأقول له: من عند ابن القاسم، فيقول لي اتق الله، فإن أكثر هذه المسائل رأي، ثم يرجع يحيى فيقول: رحمهما الله فكلاهما قد أصاب في مقالته. نهاني ابن القاسم عن إتباع ما ليس عليه العمل من الحديث، وأصاب. ونهاني ابن وهب عن كلفة الرأي، وكثرته، وأمرني بالإتباع وأصاب. ثم يقول يحيى: إتباع ابن القاسم في رأيه رشد. واتباع ابن وهب في أثره هدى. وكان يحيى جمع مسائل، سأل عنها أشهب وابن نافع وغيرهما من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 أصحاب مالك، وكتبها عنهم. فعرضها على ابن القاسم، ليرى فيها مذهبه، فجعل ابن القاسم ينتقص عليهم، فلما رأى يحيى ذلك طوى كتابه، وادخله في كمه. فقال له ابن القاسم ما بالك. فقال إن هؤلاء لهم علي حق كحقك، وقد كتبت عنهم ولم أرد أن أعرّض بهم، إلى الوقوع فيهم. فإذا كان هذا، فلا حاجة لي بذلك، ومثله له معه في سماع وزياد. وقد ذكرناه، في خبره. ووقع الأمير عبد الرحمان على جارية له في يوم من رمضان ثم ندم، وبعث في يحيى وأصحابه، فسألهم. فبادر يحيى وقال: يصوم الأمير، أكرمه الله شهرين متتابعين. فلما قال ذلك يحيى: سكت القوم. فلما خرجوا سألوه لم خصه بذلك دون غيره مما هو فيه، تخير من الطعام والعتق؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب وطىء كل يوم وأعتق. فحمل على الأصعب عليه لئلا يعود. ذكر فصول من كلامه، وحكمه وأخبار، من تنزهه وعقله وزيه وكتب إلى يحيى رجل من قريش، يسأله عن حنث شك فيه، وإنه لم يرض مسألة غيره. فكتب إليه: أرى لك أن تتورع عنها، ولا يهوننّ الناس عليك، فتكون عليهم أهون، والسلام. وقال لآخر سأله عن مسألة حنث وقعت في مجلسه: لا ينبغي لك أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 تسأل العلماء عن كل ما يحضر مجلسك، مما لا ينبغي أن يخرج دينك، فإنه أزين لك والسلام. وجمع بعض أصحاب يحيى وفوده عن ابن القاسم، فأراد أن يقرأها عليه، فتعظم ذلك وأبى منه، فقيل له: أو ليست حسنة؟ وقال: إنا لا نحبّ كل حسن أكون فيه مخالفاً لمالك وابن القاسم. ثم لم يكن من عرضها عليه. وكان يحيى يقول: تعاونوا على قطع المعانقة. وأول من أحدثها عنّا النساء والصبيان والخصيان. وقيل ليحيى: قال الحسن: لولا الحمقى ما عمرت الدنيا. فقال، يحيى: لكني أقول: لولا الحلماء ما عمرت الدنيا. وقيل له، قال سفيان الثوري: ما أخاف على دمي إلا القراء والفقهاء. أما أنا قلت قاله إبراهيم النخعي. فجعل يحيى يتعوذ ويقول اللهم لا تخف بنا أحداً من خلقك، مراراً. ثم قال: إن رجلاً يخيفه الله خيار خلقه، رجلُ سوءٍ، وكان يحيى يقول: ادخل الحشمة بينك وبين الناس. فإنه أوقر لحرمتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وسأله رجل في غير مجلسه عن مسألة فأنكر ذلك، وقال: إذا جلست مجلس السائل من المجيب، أجبناك. وقيل له: لم لا تنبسط في الملا، كانبساطك في الخلا. فقال: لو فعلت ذلك لتلوعب بين يدي، وأنا أحب أن يقتدي بي كما اقتديت بغيري. وأراد أن يجاوب في مسألة، فاستمد فلم يجد المداد، ثم تكرر فلم يمكنه. فقال له رجل إلى جنبه: عنده الدواة. يا أبا محمد. فقال: لو كان، لكان. فضم الفتى الدفتر إلى وجهه، وتبسم، ولحظه يحيى لحظة، فقال: لو جلست في بيتك كان أستر لك. وقال: من أراد أن يعمل بما يقول، اقتصد. ومن لم يرد ذلك لم يسأل ما يقول. وكان يحيى يعجب بكلمة حكمة قالها له الحاجب عبد الكريم بن مغيث. وقال له يحيى مرة إني أريد أن أكلمك بشيء يرق وجهي عندك رقة، شديدة. فقال له يا أبا محمد: كل شيء تبلغ الحشمة منك فيه هذا، فضعه عن نفسك. وكان يحيى يعجبه ويقول: ما أزين الحلم بالرجال. وسمع يحيى بن يحيى يقول في قول الله تبارك وتعالى: يا بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التَّقوى. قال: لباس التقوى، السكينة والوقار وحسن السمّت. ثم رجع يحيى يقول: مع العمل بما يشبه ذلك. وسئل عن الزهد في الدنيا، فقال: ِ من لم يرض منها إلا بالحلال فهو فيها زاهد، وإن كان عليها مكباً حريصاً. وقال: من جاءه الموت وهو يطلب العلم، لم يكن بينه وبين الأنبياء في الجنة إلا درجة. وذكر يحيى أصحاب الأعراف فترجع واسترجع، وقال: قوم أرادوا وجهاً من الخير، فلم يصيبوه. فقيل له أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب؟ فقال: ليس في خلاف السنة رجاء الثواب. وقال قوم ليحيى يا أبا محمد. لو توكلنا على الله حق توكله، لأتانا بالرزق إلى بيوتاً، كما يأتي الطير. قال: والله ما كان يأتي عيسى بن مريم البقل البري حيث هو جالس، حتى يخرج إليه إلى الصحراء يلتمسه. وقيل ليحيى أن من مضى كان يتمنى الفقر، فأنكر ذلك، وقال: لا ينبغي لمن يعقل أن يتمنى ما تعوذ منه نبيه صلى الله عليه وسلم. وكان يحيى يلبس الوشي الرفيع، يريد القطني، ثمنه المال العظيم في الأعياد والدخول على الأمراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وقال الأمير محمد: ركبت يوماً في حياة أبي، فلقيت يحيى بن يحيى، فراكبني ثم ضرب على يدي، وقال لي: إن هذا الأمر صائر إليك، فاتق الله في عباد الله. فكانت في نفسي حتى صرت إليه، ووليت الأمر بعده. محنة يحيى بن يحيى رحمه الله تعالى كان يحيى ممن اتهم بالإجلاب بالهيج بقرطبة، على الأمير الحكم بن هشام. فلما أظفره الله بالقائمين عليه، وأستباحهم، ثم أجلى بقيتهم، كان ممن فر عنه: عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. فذكر أن يحيى بن يحيى خرج مع أخيه، فتم وكان رأساً في أهل الخلاف، متنكرين على باب اليهود بقرطبة، يريدان الفرار، وقد أنذر الأمير أهل الأبواب أن يقتلوا كل من اجتاز بهم، ممن ينكرونه، فعدل أخو يحيى إلى كبير أولئك البوابين، لصداقة كانت بينه وبينه. وثق بها منه ليودعه، ويوصيه بمن يخليه. وقد نهاه أخوه يحيى عن ذلك، فلما دنا منه، كشف له عن وجهه وطلب خلوته. فساعة وقعت عينه عليه قبض عليه، وأمر بضرب عنقه، ويحيى ينظر بناحيته فتزايد ذعره، وبالغ في تنكر نفسه، ولزم بقوم من مصمودة قومه في طريقه. فراموا الفتك به، لأخذ ما كان على بطنه من المال. فأنذرته ابنة أحدهم بذلك. فلما اجتمعوا معه للعشاء قام كأنه يريد حاجة، وركب رمكة وجدها في الدار سائبة، عرياً، فنجي عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 فلما أبطأ عليهم خرجوا فوجدوه وقد فات وسار إلى أن نجا. فلحق بطليلة وردّ رمكتهم، فتقبله أهلها، وأجاروه. وكان يحيى المعروف بأبزي وطالبهم الأمير الحكم، بإسلامه إليه. فلم يفعلوا ومنعوه بعزة أنفسهم. فأتاه كتاب الأمير أخيرا في الرجوع الى وطنه، وبذل له الأمان، ؤيرد عليه متاعه وماله، وكان يحيى قد كتب اليه في ذلك فاستجاب له، وعاد الى قرطبة أخريات أيام الحكم، فلم يزل تحت كرامته بقية أيامه، وأيام ولده، وعرض جاهه وشهر فضله وعلمه. ولما انصرف الى قرطبة، باع جميع عبيده، واستبدل بهم. فقيل له في ذلك، فقال: نكره ان يصحبنا من عرف ما دار علينا، من الهرب والذل. وامتدت أيامه، الى أن توفي، لثمان بقين في رجب، سنة أربع وثلاثين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال الرازي عشية يوم الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة. وقيل إنما توفي سنة ثلاث وثلاثين. حكاه أبو عمر الحافظ، وكان سنّه يوم توفي: سنتين وثمانين سنة. وترك ابنين يأتي ذكرهما. ولما مات يحيى، أسند وصيته إلى القاضي محمد بن زياد بن ربيع، أجل خاصته. وهو الذي صلى عليه بعد موته، فذكر أن ابنه الأصغر عبيد الله كان قدّمه، وأن ابنه الأكبر، اسحاق، تقدم بتقدمه للصلاة عليه، يكبر بتكبيرابن زياد، ويسلّم بتسليمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 فلما وري يحيى، أنكر ابن الزياد على إسحاق ما فعله، ووبخه، وقال له: ما أقدمك عليّ بهذا؟ فقال له إسحاق: ومن أقدمك أنت على أبي؟ فقال ابن زياد؟ أمر الصلاة إلي، ومع هذا، فإن أخاك عبيد الله قدمني، وهو أرشد منك على شبابه. وكان سن عبيد الله إذ ذاك سبع عشرة سنة. والله لولا حفظي لصاحب الحفرة، لأدبتك. فكان ثناء ابن زياد يومئذ على عبيد الله، أول أسباب سؤدده. قال يحيى بن إسحاق، في كتابه المبسوطة: قال لي أبي: دخلت أنا وعبد الملك بن زونان على أبي يحيى، وهو مريض، فسأله عن علته، فقال له يا أبا الحسن إنه ليخفف عني ما أنا فيه، تفكري في عضيم ما له خُلقت. فكان زونان يردد هذا، في كلامه ويعجب به. وقال له مرة أخرى: يا أبا الحسن ليتني أن أزحزح عن النار، على أن لا أسمع بذكر الجنة. وليحيى وصية لطلبة العلم مشهورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما قال القاضي الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رضي الله تعالى عنه. قد انتهى بنا القول في الطبقات الثلاث من أصحاب مالك، الذين أخذوا عنه، وسمعوا منه منتهاه، وبلغ بنا الذكر بعون الله تعالى تعيين ما نصحنا عليه مداه، واستوفينا من أخبارهم ومختلف أحوالهم، ما شرطناه. فلنعج على من بعدهم من أتباعهم، ورواتهم الملتزمين مذهبهم، الناهجين في التفقه على مذهب مالك، نهجهم. وأن كان منهم من قارن الطبقة الوسطى والصغرى من أصحاب مالك، ومن تقدم بعضهم من الزمان، ولكن قدمنا أولئك لمرتبتهم لصحبة إمامهم، وجئنا بهؤلاء. ثم بمن جاء بعدهم، إلى زماننا. مرتباً لهم على طبقاتهم، في تقدم الزمان، وتأخره ذاكراً لكل واحد ما بلغني علمه، من مفيد شمائله، وخبره. والله المعين لا رب غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 الطبقة الأولى الذين انتهى إليهم فقه مالك والتزموا مذهبه ممن لم يره ولم يسمع منه من أهل المدينة أبو ثابت محمد بن عبد الله بن محمد بن زيد مولى عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه. روى عن ابن وهب وابن القاسم وابن نافع. قال الشيرازي: وبهم تفقه. روى أشهب، وعن إبراهيم بن سعد، وإبراهيم بن علي الرافقي وابن أبي حازم وحاتم بن إسماعيل وحماد بن زيد وغيرهم. روى عنه إسماعيل القاضي وأخوه حماد والبخاري ومحمد بن إبراهيم وخرج البخاري عنه في الصحيح. قال أبو حاتم: صدوق. وقال القاضي إسماعيل: كان الإجماع ونحن بالمدينة، إنه ليس بها أفضل من أبي ثابت وكان شريك والقعنبي، فكان أبو ثابت بالبصرة. فسمع من حماد بن زيد، وكان القعنبي بالمدينة، ولم يسمع منه أبو ثابت. قال أبو ثابت: رآني ابن وهب عن أشهب بعد موت ابن الاسم، فقال لي: أنت كما قال القائل: كما تبدّلت بعد الخيزران، جريدة ... البيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 أبو بكر بن ثابت المدني من أصحاب محمد بن مسلمة، وعبد الملك بن الماجشون. يحكي عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق في مبسوطه. نسبه ولم يسمِّه. وكناه القاضي أبو عبد الله التستري. وقرأت بخط الفقيه أبي عبد الله بن عتاب، إن الكتب الثمانية التي أدخل أبو زيد القرطبي من سماعه، عن عبد الملك ومطرف واصبغ، أن أبن ثابت أيضاً رواها عنهم، إلا ما منها لاصبغ، وقد روى ابن ثابت عن ابن بابين أبو شاكر محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل، بن الوليد بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم. يروي عن أبيه. روى عنه القاضي إسماعيل بن إسحاق وأخوه حماد. يعقوب بن عيسى بن عبد الملك بن حميد ابن عبد الرمان بن عوف الزهري المدني أبو يوسف ذكر الخطيب أبو بكر، عن محمد بن سعد أن أبا يوسف هذا، كان كثير العلم والسماع للحديث حافظاً له. قال: ولم يجالس مالكاً. لكنه جالس من كان بعده من فقهاء المدينة، ورجالهم، وأهل العلم منهم. وكذا نسبه الخطيب في أصل النسخة التي وقعت إلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 ورأيت أنا في كتاب محمد ابن سعد فيه، يعقوب بن محمد بن عيسى. قال الخطيب: وقدم بغداد فحدث بها عن عبد العزيز الدّراوردي وابن أبي حازم، وإبراهيم بن سعد، ومحمد بن فليح، وصالح بن قدامه، وسفيان بن حمزة، وحاكم بن إسماعيل، وابن أبي فديك. روى عنه الحارث ابن أبي أسامة. وعباس بن إسماعيل، وأبن أبي فديك. روى عنه الحارث ابن أبي أسامة. وعباس الدوري، وحجاج بن الشاعر، وحاتم ابن الليث الجوهري، وأحمد بن زياد السحار، وإسحاق الجزلي، وأبو العباس الكرسي، قال يعقوب: مررت ببغداد فعرض لي رجلان قاما من مجلس، فأخذا بعنان دابتي، ثم قالا: اختلفنا في شيء فأردنا أن نعرف فيه قول أهل بلدك، فقلت: ما هو. فقال أحدهما: قلت القرآن مخلوق، وقال الآخر قلت ليس بمخلوق. فقلت لهما: قول أهل بلدي، لو أخذوكما لأوجعوكما ضرباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وضعفه ابن حنبل، وقال: ليس بشيء. وسئل عنه ابن معبن، فقال: إذا حدث عن الثقات. وقال أيضاً: هو صدوق، ولكن لا يبالي عمّن حدّثك. وقال أيضاً: أحاديثه تشبه أحاديث الواقدي. وقال مثله صالح بن محمد، وأبو زرعة الرّازي. قال ابن نافع: توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين. وكان أبوه محمد من سراة المدنيين، وأهل المروءة منهم. من أهل العراق أحمد بن المعذَّل هو: أحمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم، بن المختار بن ذهل، بن عجل ابن عمر، بن وديعة بن بكير بن أفصى بن عبد القيس، الفهدي. يكنى أبا الفضل، بصري، وأصله من الكوفة، وأبوه المعذل بن غيلان، بذال معجمة مفتوحة، مشدّدة. كذا ضبطه الداراقطني وغيره. على أن أبا الحسن الداراقطني، ذكر اسمين في هذا الباب. المعذل بن غيلان وأحمد ابن المعذل. ولم يقل أنه ابنه، وهو ابنه كما قدمنا. وكان المعذل سريانياً شاعراً. قال الدارقطني: روى المعذل بن غيلان البصري، عن فضيل بن مرزوق روى عنه محمد بن شعبة. قال وأحمد بن المعذل بن غيلان البصري الفقيه المتكلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وكان مفوهاً ورعاً، متبعاً للسنة. وله مصنفات وكتاب في الحجة، وكتاب الرسالة. قال الإمام أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: وسمع أيضاً من إسماعيل ابن أبي أويس، وبشير بن عمر والسندي، ابن هارون وغيره، وعليه تفقه جماعة من كبار المالكية، كإسماعيل ابن إسحق القاضي، وأخيه حماد ويعقوب ابن شيبة وسمع منه ابنه محمد بن أحمد وعيد العزيز بن عمر البصري. ذكر الثناء عليه وفضائله قال أبو عمر الصدفي: هو ثقة. كان أبو حاتم يثني عليه. قال أبو سليمان الخطابي: أحمد بن المعذل، مالكي المذهب، يعد في زهاد البصرة وعلمائها. وكان أبو خليفة الفضل بن الحباب الجعفي القاضي يثني على ابن المعذل. قال أبو بكرالنقاش: قال لنا أبو خليفة: أحمدنا يعني ابن المعذل: أفضل من أحمدكم، يعني ابن حنبل. والله أعلم. قال أبو القاسم الشافعي المعروف بعبيد: كان ابن المعذل من العلماء الأدباء الفصحاء النظار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 قال ابن حارث: كان فقيهاً بمذهب مالك. ذا أفضل وورع ودين وعبادة. ذكر الدينوري في كتاب المجالسة. وجّه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء، بجمعهم في داره. ثم خرج عليهم فقام الناس كافة على أحمد. فقال المتوكل لعبيد الله: هذا لا يرى بيعتنا؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن في بصره سوء. يريد: العذر عنه. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يمتثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار. فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه. وقال الحسن بن عبد الرحمان بن عبيد البصري في كتابه: وممن كان يقرض الشعر من الفقهاء النساك: أحمد بن المعذل. وكان من أفصح الناس وأبلغهم وأنسكهم وأصمتهم، حتى نسب بذلك إلى الكبر. وله مواعظ وأخبار حسان. وكان أهل البصرة يسمونه لفقهه ونسكه الراهب. وكان فقيهاً بقول مالك، لم يكن لمالك بالعراق أرفع منه، ولا أعلى درجة ولا أبصر بمذهب أهل الحجاز، منه وعنه أخذ اسماعيل بن اسحاق، وهو فقهه. وذكر الحسن بن عبد الرحمان عنه، وذكر ابن الجراح أيضا، وأحدهما يزيد على الاخر: انه كان سكن مع أخيه عبد الصمد في دار واحدة. وكان عبد الصمد منهمكا في الشراب، فكان أحمد يبكر الى صلاة الصبح، وكان امام المسجد، فيمر سحرا بأخيه وهو سكران، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ويحركه ويقول: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ... الآيات. وفي الرواية الأخرى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. فيرفع عبد الصمد رأسه، ويقولك وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.. الآية. قال أحمد: دخلت المدينة، فتحملت على عبد الملك بن الماجشون، برجل يخصني، ويعني بي، فلما فاتحني، قال ما تحتاج أنت إلى شفيع. معك من الحذاء والسقاء ما تأكل به لب الشجر، وتشرب به صفو الماء. وكان أحمد يذهب إلى البادية، ويكتب عن الأعراب. قال المبرد: رأيت أحمد بعرفان مضحيا للشمس لا يستظل، فقلت ما هذا يا أبا الفضل؟ فقال: ضحيت لكي استظل بظله ... إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً فيا أسفاً إن كان أجرك حافظاً ... ويا حزناً إن كان أجرك ناقصاً وحكى الدينوري، قال: كان أحمد بن المعدل إذا حج لا يستظل، فلقيه بعض أصحابه بين مكة والمدنية، في يوم صائف شديد الحر، ليس له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 مظلة وقد أحرقته الشمس، فقال له: سترت نفسك من الحر؟ فأنشأ يقول: ضحيت له كي استظل ظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصاً وعادت نفوس الناس عند حلوقهم ... يريقون زيفاً غابر الماء شاخصاً وما كنت ترجو أن ينالك حرها ... وقد كنت في حر الظهيرة حائضا لعمري لقد ضاعت أمور لأهلها ... ليغتبطن بالصدق من كان خالصاً قال: وكان أحمد بن المعدل، إذا أحزنه أمر، قام في الليل يصلي، ويأمر أهله بذلك. ويتلو: وأمر أهلك بالصّلاة الآية وينشد: أشكو إليك حوادث أقلقنني ... فتركنني متواصل الأحزان لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطار جناني من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني وأنشد أبو عبيد الله له: التمس الأرزاق من عند الذي ... ما دونه أن سئل من حاجب ومن يغمر التارك تسأله ... جوداً ومن يرضى عن الطالب ومن إذا قال جرى قوله ... من غير توقيع ولا كاتب وله قصيدة مشهورة في صفة النخلة، ولأخيه أرجوزة مشهورة فيها. وأنشد له الحصر وابن الجراح: أخو دنف رمته فأقعدته ... سهام من لحظك لا تطيش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 قواتل لا قداح سوى أحورار ... بهن ولا سوى اللحظات ريش أصبن سواد مهجته فأضحى ... سقيماً لا يموت ولا يعيش كئيب أن تحمل عنه جيش ... من البلوى ألم به جيوش وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد، قال: خرج أحمد بن المعدل من البصرة إلى طرسوس فأطال بها المكث فكتب إليه ابنه: يا أبت وحشت بقاع، وفقدك إخوانك. فكتب إليه أحمد: أتأمن بالنفس النفيسة ما بها ... وليس لها في الناس كلهم ثمن بها أملك الدنيا فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا فذلكم الغبن إذا ذهبت نفسي بدنيا تنالها ... فقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن فبعها بها فمن إليه مصيرها ... فإنك فيها للمنية مرتهن ودع لذة الدنيا لنعم خالد ... لدى جنة لا خوف فيها ولا حزن فتبذل شيئاً لست تملك نفعه ... فيجزيك بالإحسان ذو الفضل والمتن وأنشد له القاضي وكيع: وقالت سل المعروف يحيى بن أكتم ... فقلت سلي رب يحيى بن أكتم وقال ابن الجراح في كتاب الورقة: كان ابن المعدل فقيهاً نبيلاً. له أشعار ملاح. قال القاضي إسماعيل بن أسحق: وكان أحمد أستاذه إلا أنه كان ورعاً حرجاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 بقية أخباره وفضائله وآدابه وشعره قال أبو أسحق الحضرمي وغيره: كان أحمد بن المعدل من الفقه والنسك والأدب، والحلاوة في غاية وكان أخوه عبد الصمد يؤذيه ويهجوه. فكتب إليه أحمد: أما بعد، فإن أعظم المكروه ما جاء من حيث يرتجي المحبوب، ولقد كنت مرجواً حتى أشمل شرّك وعمً أذاك، فصرت فنيناً كالابن العاق، إن عاش نغّض وأن مات نقصّ، وأعلم أنك حسنت صدر أخ ناصح. والسلام. وكان يقول له: أنت كالإصبع الزائدة، أن تركت شانت وأن قطعت ألّمت. وذكر أبو علي القالي الكلام الأول بقريب من هذا اللفظ، فأجابه عبد الصمد: أطاع الفريضة والسنة ... فتاة على الإنس والجنة كأن لنا النار من دونه ... وافرده الله بالجنة وينظر نحوي إذا زرته ... بعين حماة إلى كنة قال أبو العباس. كان أحمد بن المعدل، من الأبهة والتمسك بالمنهاج، والتجنّب للعيب والتعرض له في أيدي الناس، وإضمار الزهد فيه على غاية، فلما حمل إلى بغداد في جملة فقهاء البصرة، وقبل الصلة، نقم عليه. فتسبب به أخوه إلى أذاه، ووجد سبيلاً. فذكر له في ذلك أشعاراً تركناها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 قال الحضرمي، وابن الجراح: عن القاضي إسماعيل وكانت أم عبد الصمد طباخة فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه له: ما عسيت أن أقول فيمن القح بين قدر وتنور. ونشأ بين زق وطنبور. أبو العباس!؟ وذكر الدلائي في كتاب نزهة الأسرار: أن ابن المعدل قالت له أهله، حين ورد القاضي يحيى بن أكتم البصرة: لو أتيت يحيى فسألته، لضّر أصابهم. فلم يجبها ثم قال هذين البيتين: تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وكان عليها أن أذلّ فتكرما تقول: سل المعروف يحيى بن أكتم ... فقلت سلي رب بن اكتم وذكر الدّنيوري، عن محمد بن موسى البصري، كنا عند أحمد بن المعدل بالبصرة يوم مات ابنه، فاسترجع ثم أنشأ يقول: تؤمل جنة لا موت فيها ... ودنيا لا يكدرها البلاء وأنشد ابن الجراح له: ألا أبلغ أبا سوار عني ... رسالة كاتب أهدي سلاماً أفي حق الأخوة أن أقفّي ... ذمامكم ولا تقفّوا ذماماً وقد قال الحكيم مقال صدق ... رآه الأولون لهم إماماً إذا أكرمتكم واهنتموني ... ولم أغضب فذلكم فداماً وأنشد له في وصف الرطب: انشق جيب قميصها ... فالدمع عنها واكف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 يلغى بقاع إنائها ... حيث استعرنا خاطف ومن الغرائب أنها ... بكر عوان ناصف قال القاضي إسماعيل: عرضت على أحمد بن المعدل هذه الأبيات بكمالها، فقال: هي هكذا، إلا البيت الأخير، فإني لم أقلها، وينبغي أن يكون عبد الصمد قاله. قال القاضي: فانظر توقيه في هذا المقار الشعري، وذكر أبو علي القالي عن المعذل والد أحمد، أنه ركب إلى الأمير عيسى بن جعفر، فوقف ينتظره، فلما أبطأ عليه، أقبل يصلي، فخرج. وكان المعذل لا يقطع الصلاة. فناداه عيسى: يا معدل، يا أبا عمر، وهو مقبل على صلاته، فغضب عيسى ومضى، فلما أنهى الصلاة لحق عيسى، وأنشد شعراً منه: قد قلت إذ هتف الأمير ... يا أيها القمر المنير حرم الكلام فلم أجب ... وأجاب دعوتك الضمير وأنشد له ابنه أحمد، في كتاب الورقة: ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر وإني لذو صبر على ما ينونبي ... وحسبك أن الله أثنى على الصبر وأنشد له ابن الجراح أيضاً: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى صالح الأعمال لا أستطيعها أرى خلة في أخوة وقرابة ... وذي رحم ما كنت ممن أضيعها وذكر ابن الحارث عنه، أنه كان يقف في القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 ولعل ذلك تقية. ولعله في وقت المحنة، أو كراهة للكلام في فيما لم يتكلم فيه السلف، كما ذكرنا عن غيره. وأما أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الكبير، فنحله ما لا يقوله، ولا يعرف له بوجه. وجدت في بعض الكتب أنه توفي وقد قارب الأربعين سنة. إسحاق بن إسماعيل بن حماد ابن زيد بن بابك البصري، أبو يعقوب الأزدي الجهني مولاهم، لآل جرير بن حازم، والد إسماعيل القاضي، ولي المظالم بمصر، أيام المأمون والحطابة والأشراف على المعتصم، وولي مظالم البصرة. ولم يكن بالحافظ. لكن ولده وآل تجردوا لمذهب مالك في أيامه، وتفقهوا فيه. مولده سنة ست وسبعين ومائة. وتوفي بالبصرة سنة ثلاثين ومائتين. نقلت هذا كله من الأوراق المؤلفة، للحكم عبد الرحمان في ذكر المالكية، من أهل العراق. ومن كتاب ابن الحارث. وذكر أبو بكر الخطيب عن حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: دخلت على ابن شكلة في بقايا غضب المأمون عليه. فقلت: هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال يوماً تريك خسيس الحال ترفعه ... إلى السماء ويوماً تُخفض العالي فاطرق ساعة ثم قال: عيب الإناءة إن سرت عواقبها ... إن لا خلود وإن ليس الفتى حجرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 قال: فقمنا. فما مضى ذلك اليوم حتى بعث إليه المأمون بالرضا، ودعاه إلى مجالسته. قال: فالتقيت معه، في مجلسه. فقلت: ليهنك الرضا. فقال: ليهنك مثله من متيّم - جارية أهواها - فحسن موقع كلامه عندي. فقلت: ومن لي بأن ترضى وقد صحّ عندها ... ولُوعي بأخرى من بنات الأعاجم وجده، حماد بن زيد إمام البصرة، مشهور، كان أولاً بزازاً، فلزم العلم، فانتفع وانُتفع به. وارتفع ولده به. قال الفرغاني: فلا نعلم أحداً من أهل الدنيا بلغ مبلغ آل حماد. يعقوب بن إسماعيل بن حماد - أخوه - أبو يوسف قال محمد بن خلف القاضي، في كتاب طبقات القضاة: كان يعقوب هذا من حملة العلم. أخذ عن يحيى بن سعيد، وابن مهدي وغيرهما، وسمع أيضاً من ابن وهب بن جرير، وجرير بن صخرة، وحدث عنه ابنه يوسف، ومحمد بن هارون، وذكر أبو بكر بن ثابت البغدادي: إن ابنة القاضي أبو عمر، روى عنه، حديثاً أيضاً واحداً. لقنه إياه وهو ابن أربع سنين. قال الخطيب: ولي القضاء بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم بغداد، فحدث بها عن سفيان ابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 مهدي، ووهب بن جرير، وروح ابن عبادة، وابن عاصم النبيل، وأبي أحمد الزبيري. وروى عنه إسماعيل القاضي، وعبد الله بن أبي سعد الوراق، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد ابن حنبل، وابن ناجيّة، وقاسم المطرّز وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبي، فقال: صدوق. وكتبت عنه، وكان يعقوب في صحابة المعتصم وقدّم إلى المعتصم وهو في صحبته للعشاء: هريسة. فقال المعتصم: ليست بطيبة. فقال يعقوب: أنا آكلها، فأتى عليها. فقال له المعتصم: أنت آكل الناس هريسة رديئة. قال ابنه: كان أبي يقول: أهل البيت في الشتاء إذا لم يأكلوا، ويصطلوا، فكأنهم غضاب. قال وكيع: ولاه المتوكل قضاء المدينة، ثم صرفه. قال ابن نافع: وتوفي بفارس وهو يتولى قضاءه سنة ست وأربعين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 من أهل مصر أصبغ بن الفرج ابن سعيد بن نافع. مولى عبد العزيز بن مروان. قال أبو عمر الكندي في موالي مصر: كذا زعم أصبغ، وكثير من أهل مصر لا يصححون له، ولاء. يكنى أبا عبد الله. يسكن الفسطاط. روى عن الدراوردي، وابن سمعان، ويحيى بن سلام وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم. كان قد رحل إلى المدينة ليسمع من مالك، فدخلها يوم مات وصحب ابن القاسم وأشهب وابن وهب، وسمع منهم وتفقه معهم. قال أبو أحمد الجرجاني: كان كاتب ابن وهب. قال الإلكاني: وكان ورّاقه وأخص الناس به. روى عنه الذهلي والبخاري ويعقوب بن سفيان ومحمد بن أسد الخشني، وابن رنجويه، وابن وضاح، وسعيد بن حسان، وأخرج عنه البخاري. ذكر مكانه من العلم والثناء عليه قال ابن أبي دليم: كان فقيه البدن كذا طويل اللسان، حسن القياس من أفقه هذه الطبقة. قال أبو حاتم الرازي: هو أعلى أصحاب ابن وهب، صدوق. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن وضاح مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 قال ابن حبيب: كان أصبغ من أفقه أهل مصر، وعليه تفقه ابن المواز وابن حبيب وأبو زيد القرطبي، والصيرفي وابن مزين وعبد الأعلى القرطبي وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: روى عنه أبو حاتم الرازي. قال ابن حارث: كان ماهراً في فقهه، وفقيه البدن طويل اللسان، حسن القياس، من أفقه هذه الطبقة، والتبيان والبيان. وتكلم في أصول الفقه. قال ابن حبيب: كان أفقههم بعد أن ذكر ابن القاسم وطبقته، ثم ذكر أصبغ وعبد الله بن عبد الحكم. قال أحمد بن صالح الكوفي: هو ثقة. صاحب سنة. حكى القاضي أن أشهب مرض، فدخل عليه عوّاده وفيهم أصبغ، فلما خرجوا قالوا له من لنا بعدك؟ قال: هذا الخارج عنا. قال وكان ابن وهب يقول: لولا إن تكون بدعة لسّورناك يا أصبغ، كما تسوّر الملوك فرسانها. قال أبو عمر الكندي: كان أصبغ فقيهاً، نظاراً. وسأل مطرف بعض المصريين عن عبد الله بن الحكم، فقال: مات. قال: فما فعل أصبغ؟ قال: باق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 قال مطرف: الحي عندنا أفقه من الميت. قال ابن اللباد: ما انفتح لي طريق الفقه إلا من أصول أصبغ. وقد روي أن ابن القاسم قال: إن قيل أصبغ، سرُّوا به. قال عبيد بن سعيد: قدمت على أصبغ بن الفرج، فلما كان توجهي إلى المدينة، كتب معي إلى عبد الملك بن الماجشون يسأله أن يخير له كتبه. قال: فقدمت على عبد الملك بكتابه، وهو يومئذ قد كف بصره، فقال لي: قل له: اشخص للعلم إن كنت تريده فإن العلم لمن شخص له. قال: فذاكرته، حال أصبغ. قال ما أخرجت مصر مثل أصبغ. قلت له: ولا ابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم، كلفاً منه به. وقال ابن مزين فلما قدمت على أصبغ سلمت عليه، وهو محتب فأخرج يده من تحت حبوته، وكنت أعرف مروءة أصحابنا بالأندلس، فقلت في نفسي: ما يضرك لو أخرجتها عن طوقك. وكان أصبغ بمصر يستفتي مع أشهب وغيره، من شيوخه. قال ابن غالب: خرجت من الأندلس، وأصبغ عندي أكبر أهل زمانه: لما كنا شاهدناه من تعظيم شيوخنا له. وحكى الكندي عن المزني والربيع قال: كنا نأتي أصبغ قبل قدوم الشافعي، فقلنا له: علمنا مما علمك الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 قال ابن معين: كان أصبغ من أعلم خلق الله كلهم، برأي مالك. يعرفها مسألة مسألة. متى قالها مالك ومن خالفة فيها. ولأصبغ تآليف حسان، ككتاب الأصول، له عشرة أجزاء. وتفسير غريب الموطأ. وكتاب أدب الصائم. وكتابه سماعه من ابن القاسم، اثنان وعشرون كتاباً. وكتاب المزارعة، وكتاب أدب القضاة، وكتاب الرد على أهل الأهواء. قال أبو بكر بن أصبغ: قال أبي: أخذ ابن القاسم بيدي يوماً، فقال لي: يا أصبغ، أنا وأنت اليوم في هذا الأمر سواء، فلا تسألني عن هذه المسائل الصعبة بحضرة الناس ولكن بيني وبينك، حتى انظر وتنظر. قال: وقدم طومار عليه من الأندلس، أو من المغرب فيه مسائل، فقال لي أجب فيها، وائتني بجوابك. وقال لعيسى بن دينار مثله فجئنا بذلك. وقرأنا عليه، فأخذ جوابي وطبع عليه، وأعطاه لصاحب المسألة، وقال أخبرهم أن هذا جوابي وما غيّر منه شيئاً. جمل من أخباره قال أصبغ: خرجت إلى مكة، سنة تسع وسبعين للسماع من مالك. فدخلت المدينة فلم ألق إلا باكياً، أو مسرجاً أو ضارباً يداً على أخرى، أو محددة. فقلت لبعضهم ما شأن الناس لم يكلمني أحد، وجعلت كل ما لقيت فوجاً أسأله حتى قال لي رجل جالس متقنع يبكي، وقد رأى حالي غريباً: أراك غريباُ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 قلت: نعم. الساعة دخلت. قال لي مات اليوم عالم المشرق والمغرب. قلت يرحمك الله، ومن هو: فال لي أراك جاهلاً أقول لك عالم المشرق والمغرب، فتقول: ومن هو؟ فاسكتني. فلما نظر لي وقد وجمت قال: مات مالك بن أنس. قال: فصحت مات مالك؟ ومضيت مع الناس إلى منزله. فإذا به قد مات ذلك اليوم. فحضرت جنازته، وذكر أبو عمر الكندي في كتاب الموالي: قال كانت بين عبد الله ابن عبد الحكم وأصبغ منازعة، ومباعدة. وقال في طبقات القضاة بمصر إن أبا ضمرة الزّهري، كان أشار بين يدي ابن طاهر بأصبغ القضاة. وقال أصبغ، الفقيه، العالم لها لم يوافقه عليها ابن عفير، وقال: ما بال أبناء الصبّاغين يذكرون هنا؟ فأشار ابن عبد الحكم، بعيسى ابن المنكدر، فولي، ولم يكن له رأي في أصبغ فبلغ قول ابن عفير أصبغ فقال: من أخبره إن في آبائنا صباغاً. محنته قال أبو العرب: قال يحيى بن عمر، اختفى أصبغ بن الفرج أيام الأصم، وأخذه الناس بالمحنة في القرآن، فطلبه الأصمُّ فاختفى في داره، وكان إخوانه يأتونه فيها الواحد بعد الواحد، حتى مات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وقال أبو عمر الكندي: إن المعتصم كتب في أصبغ ليحمل في المحنة. فهرب إلى حلوان، فاستتر بها. وفي ذلك يقول الجمل المصري، في مدحه الأصم. وطويت أصبغ خفيةً في بيته ... فسترته جُدرُ البيوت الستر أبدلته برجاله وجموعه ... خوفاًُ مقاعدة النساء الخدر وتوفي أصبغ بمصر، سنة خمس وعشرين ومائتين. قال ابن سخنون وذلك في يوم الأحد لخمس ليال بقين من شوال منها. وقال نحوه الكندي: وقال أبو نصر الكلاباذي: توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. قال الكندي مولده بعد الخمسين ومائة. أبو زيد ابن أبي الغمر واسمه عبد الرحمان ابن عمر بن أبي الغمر. كذا قال الكندي والدارقطني وغيرهما. مولى بني فهم. يروي عن يعقوب بن عبد الرحمان الإسكندراني، والمفضل وابن القاسم وأكثرهم عنه، وحبيب كاتب مالك، وابن وهب ومعاوية ابن يحيى الطرابلسي. قال ابن أبي دليم: ورأى مالكاً فلم يأخذ عنه شيئاً. وحكي ذلك الكندي عنه. روى عنه ابناه محمد وزيد والبخاري. وأخرج عنه في الصحيح، وأبو زرعة وأبو الزنباع روح ابن الفرج. وأحمد بن رشدين، ومحمد ابن المواز وأبو إسحاق البرقي. ومحمد بن عامر الألوسي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وأبو الطاهر المصري، والحارث ويونس بن عمر، ومحمد بن عيسى الأعشى. وهو رواية الأسدية. والذي صححها علي بن القاسم بعد ابن الفرات. وله كتب مؤلفة حسنة، موعبة لطيفة، في مختصر الأسدية. وله سماع من ابن القاسم مؤلف، قال ابن وضاح: لقيته بمصر، وهو شيخ ثقة. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، وذكر لسحنون فقال: أن أبا زيد لم يكن من أهل هذا الشأن، يعني الفقه. قال ابن باز والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت أفضل من أبي زيد ابن أبي الغمر. لا أحاشي أحداً. وقال ابن أبي دليم: كان رجلاً صالحاً. قال غيره: كان لا يرى مخالفة ابن القاسم. وكتب أبو زيد إلى أبي سنان القيرواني: عليك يا أخي بنفسك. فلها فاعمل، وعلى حظها فاحرص، وعلى دوام بقائها في النّعيم المقيم فقم لها بذلك. فكأن قد حجبت عن القيام بذلك. بما ذكرت لك، فاغتنم ذلك ما كان لك مبذولاً، وأعلم أنك لن تقوى على ذلك حتى تترك ما تحب إلى ما تكره. فعند ذلك تقوى على ما تريد، ويهون عليك طلب ذلك. وتقدر عليه إن شاء الله، وأبعد ما تكون منه حين تعطي لنفسك مناها وتدرأ عنها ما تكره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وأعلم أن ذلك بالله ومنه، فعليك بالإستكانة إليه في ذلك. فلعلك تعطاه إن حسنت فيه نيّتك. قال ابن باز: سألت. أبا زيد ابن أبي الغمر، عمّن تزّوج وبشرط أنه إن لم يأت بمهر إلى كذا، فأمرها بيدها. فقال النكاح حائز فقلت له يُروى عن مالك، لا يجوز. فقال لي ومن أعلم بقول مالك؟ أنا أو أنت؟ قلت: أنت. ولكن أخبرني سحنون عن ابن القاسم عن مالك: إنه لا يجوز: قال إبراهيم ثم وجدتها رواية كما قال محمد بن عيسى. قال إبراهيم: صليت وراء أبي زيد ابن أبي الغمر، على جنازة. فرفع يده في التكبير كله، ثم صليت وراءه على أخرى فلم يرفع لا في الأولى ولا في غيرها. وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين سنة ستين ومائة. أبو علي بن مقلاص واسمه عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص، الخزاعي. وهو ابن ابنة سعيد بن أبي أيوب بن مقلاص، مولاهم، من أكابر أصحاب ابن وهب أخذ عنه وعن الشافعي، وعن لهيعة بن يحيى. روى عنه أبو إبراهيم الزهري، ويعقوب بن سفيان، وابن وضاح، وجماعة من الأندلسيين، وابن حارث، وكان فقيهاً زاهداً صوفياً حسناً. ذكره ابن أبي دليم، والكندي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. وله ابن اسمه محمد روى عنه ابن جرير قال ابن وضاح: لقيته بمصر، وكان كثير الرواية ضابطاً للحديث حافظاً له، نعم الشيخ ثقة. وكان جده لأمه سعيد بن أبي أيوب يكنى بأبي يحيى من رواة الحديث. يروي عن عقيل. روى عنه ابن المبارك والمقري، وأبو مطيع معاوية بن يحيى. قال ابن معين: هو مولى أبي هريرة، وثّقه هو والنسائي. توفي فيما قاله البخاري، سنة تسع وأربعين. وقال ابن بكير: سنة إحدى وستين ومائة. سعيد بن عيسى ابن تليد، بفتح التاء، أبو عثمان القتباني، ثم الرعيني مولاهم، وقتبان قبيلة من رعين، بقاف مكسورة بعدها تاء باثنتين، من فوق ساكنة، وباء موحدة مفتوحة، وبعدها نون. فقيه مشهور بمصر. قال الكندي: في كتاب الموالي، وهو عم مقدام بن داود بن عيسى، وكان كاتباً لغير قاض، بمصر. يروي عن المفضل بن فضالة، وبكر بن مضر، وابن عيينة وابن وهب، وابن القاسم، والليث بن عاصم، وغيرهم. روى عنه ابن أخيه المقدام، وأبو حاتم الرازي، وعلي بن محمد النفيلي، والبخاري. وخرج عنه في صحيحه. قال أبو حاتم: هو ثقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 قال أبو عمر الكندي، في قضاة مصر، ولاه لهيعة بن عيسى، على مسائله. وكان أول شأنه خياطاً وقال الجيزي: إن الفضل بن حاتم قاضي مصر، استكتبه، بعد أن أبى عليه، فحلف له إن لم يفعل ليعاقبنه. قال الدارقطني: وتوفي سنة تسع عشرة ومائتين، وقال الكندي: سنة أربع عشرة. أبو الزنباع روح بن عبد الجبار بن نصير مولى مراد. وهو أخو أبي الأسود. يروي عن ابن القاسم، وكان مقبولاً عند قضاة مصر. ذكره ابن أبي دليم في المالكية. قال: وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين ومائتين. وأخوه أبو الأسود: النضر ابن عبد الجبار. كان يكتب للهيعة، قاضي مصر. ذكره الكندي في علماء موالي مصر، مولده سنة خمس وأربعين ومائة، وتوفي سنة سبع عشرة ومائتين، وابن أخيهما محمد بن عبد الله بن عبد الجبار، يكنى أبي العوام. قال الكندي: كان فقيهاً مقبول الشهادة توفي سنة ثمان وستين. أبو عمرو الحارث بن مسكين ابن محمد بن يوسف. مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان. سمع من ابن القاسم، وأشهب وابن وهب، ودوّن اسمعتهم وبوّبها. وبهم تفقه وعد في أكابر أصحابهم. وله كتاب فيما اتفق فيه رأيهم الثلاثة، ورأي الليث ومالك والمفضل بن فضالة. وروى أيضاً عن سفيان بن عيينة، وسعيد ابن الجهم، ويوسف بن عمر. وحدث ببغداد وبمصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وممن روى عنه ابن زبان الحضرمي، وأبو داود وابنه يعقوب بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي ويحيى ومحمد بن عمر ومحمد بن رمضان والنسائي وابن وضاح وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والقاسم بن المغيرة الجوهري، وحمدان بن علي. سئل أحمد بن حنبل عن الحارث بن مسكين، قبل أن يستقضي فأثنى عليه خيراً وقال: إنه رآه. وقال: ما بلغني عنه، إلا خير. قال: وكانوا يتساهلون في الأخذ عن ابن وهب والمصريين، تساهلاً شديداً. وقال يحيى ابن معين: لا بأس به. قال ابن وضاح: هو ثقة الثقات. قال الكندي: كان مفتياً فقيهاً. قال يحيى بن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب، وبعد وفاته على طريقة زهادة وورع، وصدق لهجة، حتى مات. قال أبو بكر الخطيب: كان فقيهاً على مذهب مالك، ثقة في الحديث ثبتاً. وحكى الخطيب عن علي بن الحسين بن حيان، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه. وقال النسائي: الحارث بن مسكين، خير من إصبغ وأفضل من عبد الله ابن صالح. وقال النسائي: الحارث بن مسكين ثقة مأمون، وللحارث بن مسكين كتاب حسن، دون فيه سماع ابن القاسم وابن وهب. قال أبو حاتم: هو صدوق. قال عبد الله بن محمد القاضي: كان الحارث من علماء هذه الطبقة بمصر، مع خيره وفضله وثقته في روايته. وكان عدلاً في قضائه، محموداً في سيرته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 قال الكندي: وكان أصحاب الأصم قد أشاروا عليه بامتحان الحارث في القرآن، عند قدوم الحارث من العراق فقال لهم: السلطان لم يمتحنه هناك، أنا أمتحنه، اسكتوا عن هذا. وذلك إن ابن أبي دؤاد كان أوصاه به، لأن الحارث حضر جنازة له، فشكر ذلك له. قال الأمير أبو نصر: حمل إلى بغداد للفتنة، فحبس بها إلى أن ولي المتوكل فأطلقه. وقال الخطيب مثله. وزعم أن الذي حمله المأمون، وفيه يقول سعد بن زيد: لو تراه وأبا زيد معاً ... وهما للدين حصن وعضد يدرسون العلم في مسجدهم ... وإذا جنّهم الليل هجد وإذا ما وردت مغلقة ... أسند للقوم إليهم ما ورد نوّر االله بهم مسجده ... فهم للمسجد نور يتقد ذكر ولايته القضاء وسيرته في ذلك قال الجيزي في كتاب قضاة مصر: ولي الحارث بن مسكين قضاء مصر سنة سبع ثلاثين في جمادى الأولى منها. قال أبو عمر في كتاب قضاة مصر وفي كتاب الموالي: ولي الحارث بن مسكين قضاء مصر من قبل المتوكل، وأتاه كتاب القضاء وهو بالإسكندرية. فلما قرأه امتنع من الولاية فأجبره أصحابه على ذلك، وشرطوا عونهم له. فقدم الفسطاط وجلس للحكم، وكان مقعداً من رجليه. فكان يحمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 إلى الجامع في محفة، ويركب حماراً مبرقعاً، وطولب بلباس السواد فامتنع، فخوفه أصحابه سطوة السلطان واتهمه لتولي قيصر أمية. فلبس كساء صوف أسود. قال بعضهم: رأى بعض من بمصر كأن ابن أكتم ذبح الحارث بن مسكين. فلم يكن حتى جاءه قضاء مصر. وكان على يدي ابن أكتم قاضي القضاة حينئذ. قال أبو محمد الضراب في كتابه: روى الحارث عن ابن وهب، عن مالك في رجل يدعى للعمل فيكره أن يجيب إليه، وخاف على دمه أو جلد ظهره وهدم داره، كيف ترى في ذلك؟ فقال أما هدم داره أو جلد ظهره أو سجنه فإنه يصبر على ذلك، ويترك العمل خيراً له. وأما أن يباح دمه فلا أدري ما حدث ذلك، ولعله في سعة من ذلك، أن عمل. قال يونس: روى الحارث هذا الخبر وولي. والله لقد سألني حارث: تراني أهلاً للفيتا كما قال مالك؟ وحكى القاضي يونس: ولي جعفر المتوكل الحارث، قضاء مصر، بعد أن سجنه على إبائه، ذلك زماناً. قال محمد بن عبد الوارث: كنًّا عند الحارث فأتاه علي بن القاسم الكوفي، المدني. فقال له: رأيت في النوم الناس مجتمعين في المسجد الحرام، فقلت ما اجتماعكم؟ فقالوا عمر بن الخطاب جاء يقعد الحارث بن مسكين للقضاء. فرأيته أخذه وسمر مقعده في الحائط، وانصرف. فتبعته، فلما أحسّ بي، قال: ما تريد؟ قلت أنظر إليك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 قال: اذهب إلى الحارث، فاقرأه مني السلام، وقل له يقضي بين الناس بإمارة إنك كنت في الحبس بالعراق. فقمت في الليل فعثرت بنكبة إصبعك، ودعوت بذلك الدعاء، فجئت من الغد، فقال لي الحارث: صدقت. وهذا شيء ما أطّلع عليه أحد إلا الله. فسألته عن الدعاء، فقال: يا صاحبي. عند كل شيء، ويا غياثي عند كل كربة، ويا مؤنسي في كل وحشة، صل على محمد وعلى آله، واجعل لي من أمري فرجاً. قال: ودعي إلى لباس السواد، فأبى من ذلك. فخاطب الوالي المتوكل، فرد كتابه: إن لم يلبس السواد فاخلعه، وركبه، ووجه الوالي وراءه رسلاً، فأسلمه القريب والبعيد. قال الطحاوي عن محمد ابن سعيد: فلقيته والرسل تزعجه، وقد وله. فعلمت إنه قصد وجهاً من الحق، فخالف فيه هوى السلطان، فدنوت منه وقلت له: سر يا شيخ لا يهولنك ما ترى، فإن إبراهيم أسلمه أهل الأرض فلم يضره، لما كان الله له. فاعتنقني وقال: أحييتني والله يا أخي بهذا الكلام، فأحياك الله سعيداً. فلما أتي به إلى الوالي، أمر بكتاب المتوكل فقرأ عليه، فامتنع من لباس السواد وقال رجل من ناحية المسجد: إن الشيخ رأيته يلبس هذه الثياب العرجية التي تعمل باليمن، فقال الحارث: بلى. إني ربما لبستها. فقال له الوالي: فألبسها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فقال أما تلك فنعم. وقنع منه بذلك. وكتب به إلى المتوكل، وخلي عن الشيخ. قال الكندي: وأمر الحارث بإطراح أصحاب الشافعي وأبي حنيفة. ومنع أصحاب أبي حنيفة من الجامع، وفض مجالسهم، وأمر بنزع حصورهم بين العُمد. ومنع عامة المؤذنين من الآذان. ومنع قريشاً والأنصار من طعمة رمضان. وعمر المساجد، فبنى سقاية. وحفر خليج الإسكندرية. ونهى عن تقبل المصائد، وأباحها ونهى عن النداء على الجنائز، وضرب القراء الذين يقرأون بالألحان. وهو أول من ولي على مصاحف الجامع أميناً. وترك تلفي الولاة والسلام عليهم. ولاعن. وقتل ساحرين نصرانيين وقتل نصرانياً سبًّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعد أن جلده الحد. ونفى وحد من سبَّ عائشة. ولم يكن في ولايته خلل. وهدّم مسجداً، كان بناه خراساني، بين القبور، بناحية القطب؟ في الصحراء. وكان يجتمع فيه للقراءة والقصص والتعبير، وبمثل هذا أفتى يحيى بن عمر في كل مسجد بني نائباً عن القرية. حيث لا يصلي فيه أهل القرية. وإنما يصلي فيه من ينتابه، وبذلك أفتى في مسجد السبت بالقيروان، وبمثله أفتى أبو عمران في المسجد الذي بني بجيل فاس، وحمله أصحابه على النظر في أمر أبي بكر الأصم القاضي قبله. وكانوا قد لعنوه لما عزل ورموا حصره، وغسلوا من المسجد موضعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فكان الحارث يوقف الأصم كل يوم، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج ما وجب عليه من الأموال. أقام على ذلك أياماً. فقال بعضهم للحارث: إنه قبيح بالقاضي أن يتولى مثل ذلك. فخلى عنه. وألقيت إليه سحابة فيها مكتوب ميزان حراني، وصنجة ناقصة. فلما قرأها، استبدل بكتّابه وأعوانه غيرهم. وكان كاتب الحارث، أبو إسحاق القسطال. وعلى مسائله عمر ويزيد، أبناء يوسف بن عمر. وقال أبو عمر الكندي: وحكم الحارث في حُبسٍ بمذهبه، بمذهب مالك بإخراج أولاد البنات منه. فشكى أصحابه ذلك إلى المتوكل، فأفتى أهل العراق على مذهبهم وخطأوا الحارث، ونقصت القضية فاستعفى الحارث، إذ ذاك. فأعفي. وكان في كتاب استعفائه: انتهى إلى أمير المؤمنين، أن كتاباً وصل باستعفائك فيما تقلدت من القضاء بمصر. فأمر أيده الله بإجابتك إلى ذلك وإعفائك فيما تقلدت منه، إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً لما أدّى لموافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل على حسبه. وذلك سنة خمس وأربعين ومائتين. فكان أمد قضائه سبع سنوات واحد عشر شهراً. وولي بعده بكار ابن قتيبة. فلم يكشف أحداً من أصحاب الحارث. وقال: حارث في فضله ودينه، أعلم بأهل بلده مني، إلى أن يتبين لي جرحه. وذكر أبو عمر الصدفي: إن رجلاً أتى الحارث برجل معه نصرانية، معها صغير أراد أن يبيعها من نصراني، فذكر ذلك للحارث. فقال له الحارث: فما أصنع به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فرد عليه الرجل الخبر، والحارث يقول: ما أصنع به، حتى أكثر عليه. فقال يزيد بن يوسف: أصلح الله القاضي، هو رجل صالح. فقال له الحارث: إذا كان صالحاً وأحمق، فما أصنع. قال بعضهم: حضرت جنازة. فأخذ يونس بن عبد الأعلى في الكلام والرشاد حتى بكى بعض من حضر، فقال الحارث: يونس، تحسن هذا كله، وأنت تصنع ما تصنع. فقال له يونس: أنت قاض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين. وذكر أن رجلاً تقدم إلى حارث في خصومة، فناداه رجل باسمه. وكان اسمه إسرافيل. فقال له الحارث ما حملك على أن تسمّى بهذا الاسم؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تسمعوا بأسماء الملائكة. فقال له: فلمَ سمي مالك بن أنس مالكاً؟ وقد قال الله تعالى: ونادوا يا مالك. ثم قال: والله لقد تسمي الناس بأسماء الشياطين. فما عيب ذلك. يعني الحارث اسمه. ويقال هو اسم إبليس لعنه الله. هـ الرجل الخبر، والحارث يقول: ما أصنع به، حتى أكثر عليه. فقال يزيد بن يوسف: أصلح الله القاضي، هو رجل صالح. فقال له الحارث: إذا كان صالحاً وأحمق، فما أصنع. قال بعضهم: حضرت جنازة. فأخذ يونس بن عبد الأعلى في الكلام والرشاد حتى بكى بعض من حضر، فقال الحارث: يونس، تحسن هذا كله، وأنت تصنع ما تصنع. فقال له يونس: أنت قاض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين. وذكر أن رجلاً تقدم إلى حارث في خصومة، فناداه رجل باسمه. وكان اسمه إسرافيل. فقال له الحارث ما حملك على أن تسمّى بهذا الاسم؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تسمعوا بأسماء الملائكة. فقال له: فلمَ سمي مالك بن أنس مالكاً؟ وقد قال الله تعالى: ونادوا يا مالك. ثم قال: والله لقد تسمي الناس بأسماء الشياطين. فما عيب ذلك. يعني الحارث اسمه. ويقال هو اسم إبليس لعنه الله. ذكر محنته وبقية خبره قال الكندي: لما قدم المأمون مصر، تلقاه الناس يرفعون على عمال مصر، وجاء متظلم من ابن تميم وابن أسباط، فجلس الفضل بن الربيع في الجامع، وحضر مجلسه القاضي ابن أكثم، والقاضي ابن أبي داؤد وإسحاق ابن إسماعيل بن حماد، وكان على مظالم مصر، وجماعة من فقهاء مصر ومحدثيها. وأحضر الحارث ليولى قضاء مصر، فدعاه الفضل، فسأله عن ابن تميم وابن أسباط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فقال ظالمين غاشمين. فقال ليس لهذا أحضرناك، واضطرب المسجد فقام الفضل وسار إلى المأمون وقال له: لقد خشيت على نفسي، من قيام الناس مع الحارث. فأرسل فسأله عنهما، فقال: ظالمين غاشمين. فقال له: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا. قال فعاملتهما؟ قال لا. قال: فكيف شهدت عليهما؟ قال كما شهدت إنك أمير المؤمنين، ولم أرك إلا الساعة. وكما شهدت إنك غزوت ولم أحضر غزوتك؟ قال أخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد، وأجمع قليلك وكثيرك فإنك لا تعانيها أبداً. وحبسه في رأس الجبل في خيمة. ثم انحدر لبعض بلاد عاربة مصر، وأحدره معه. فلما فتحها سأل حارثاً عن مسألته الأولى، فرد عليه جوابه بعينه. قال فما تقول في خروجنا هذا؟ فقال اخبرني عبد الرحمان بن قاسم بن مالك، إن الرشيد كتب إليه يسأله عن قتال أهل دهلك. فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان، فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا، فقتالهم حلال، فجاوبه المأمون بجواب قبيح، سبّه فيه، وسبّ مالكاً، وقال له: ارحل عن مصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 فقال: يا أمير المؤمنين، إلى الثغور. قال، إلحق بمدينة السلام. فقال أبو صالح الحراني: يا أمير المؤمنين تغفر زلته. فقال يا شيخ شفعت فارتفع. قال: كان لما حضر قال له المأمون: يا ساعي، يرددها عليه. فقال له: لست بساعي، وإن أذن أمير المؤمنين في الكلام تكلمت. قال: تكلم. قال: والله يا أمير المؤمنين ما أنا بساعي، ولكني أحضرت، فسمعت وأطعت حين دعيت. ثم سئلت عن أمر فاستعفيت. فلم أعف ثلاثاً. فلما رأيت أنه لابد لي من الكلام، كان الحق آثر عندي من غيره. قال المأمون هذا رجل أراد أن يرفع له علم في بلده، خذه إليك. ثم حمله إلى العراق. وخرجت إليه امرأته، وحمل ابنه إبراهيم إلى الثغور. فأقام الحارث بالعراق ستة عشر سنة، حتى مات المأمون، والمعتصم. وذكره الواثق لابن أبي داؤد. فقال له: هو حاضر. فقال: ما ظننت أنه حي. فأرسل إلى الحارث وهو ببغداد، يقول له: سل حاجتك. قال حاجتي ألا تحملني إلى سرَّ من رأى. فقال ابن أبي دؤاد للواثق: هو شيخ ضعيف، خفت أن أحمله فيموت. قال فاكتب له يتوجه حيث شاء فانصرف إلى مصر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. فلما ولي المتوكل، ولاه قضاءها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قال محمد بن عبد الحكم: قال لي ابن أبي داؤد: لقد قام حارثكم مقام الأنبياء. وكان ابن أبي داؤد يحسن ذكره، ويعظمه جداً، ويكتب إلى الأصم بالوصاية له به. وتوفي الحارث سنة خمسين ومائتين. وقيل: سنة ثمان وأربعين. والأول الصواب. وسنّه خمس وتسعون. وصلى عليه أمير مصر. مولده سنة أربع وخمسين وقيل سنة ست وخمسين ومائة. محمد بن أبي ركين واسمه: يحيى بن أبي إسماعيل، أبو عبد الله. مولى آل خالد بن يزيد ابن السيد الصدفي، مولى لهم. هو: أبو مزاحم المحتسب، قاله الكندي في أعيانه، موالي مصر. وقيل، بل اسمه ركيز بضم الراء مصغراً. قاله الأمير والدارقطني. كان فقيهاً، من أكابر أصحاب ابن وهب، ويروي عن الشافعي. حدّث عنه أبو إبراهيم الزهري، وأبو زكريا البرذعي، والمصريون. قال أبو عمر الصدفي: سألت عنه أبا جعفر العقيلي، وأبا بكر الحضرمي، فقالا: ثقة. وابنه مزاحم، ولي الحسبة. وكان مقبولاً بمصر. توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. الوقار قال أبو حارث: هو أبو يحيى، زكريا بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الله، من موالي قريش، مصري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 قال غيره: هو مولى بني عبد الدار. روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب وغيرهم. وكان مختصاً بابن وهب. قال أبو العرب في كتابه، في علماء إفريقية: قدم علينا إفريقية، سنة خمس ومائتين، وكان إذا حدث عن ابن وهب يقول حدثني سيدي ابن وهب، قال: وفي حديثه، لين وانقطاع، وعن رجال شاميين، وغير أعلام. وسمع عليه بإفريقية. ثم انصرف إلى مصر، وكان يلقب بالبرطنج. قرأ القرآن على نافع المدني، وعنه أخذ عبد الرحمان المقري، حرف نافع. قال: وأوطن طرابلس. قال أبو عمر الداني: أبو يحيى، يلقب بالبرطنج، مقريء، روى القراءة عندنا على نافع ابن أبي تميم، روى عنه القراءة محمد بن رغوث المقريء. قال: وأبو يحيى هذا مجهول. قال الفقيه القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه. وأبو يحيى هذا المجهول عند أبي عمر، هو أبو يحيى الوقار. ولم يذكر أبو عمر الوقار، جملة. وأراه لم يبلغه خبره. أو لم يعلم أن البرطنج هو الوقار وقد بين أبو العرب وابن حارث ذلك بحمد الله. قال أبو عمر والكندي: كان فقيهاً صاحب عجائب، ولم يكن بالمحمود في روايته. قال: وكان ممن خرج من مصر أيام أبي بكر الأصم، وأخذه الناس بمحنة القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 قال ابن هلال: كان الوقار بمصر، يقضي فيجتمع إليه الناس. وكان لا يقعد المزني إلا النفر اليسير، فقلت في ذلك للوقار أو قيل له، فقال: إنّ كلّ ما ترى حولي، لو خطرت به دبّة أو قردة، افترقوا عني. ولو سقط المسجد على أصحاب المزني، لوجد حوله. وسمع عبد العزيز بن يحيى المدني، الخروج عنا استعّنا عليه، أن يصبر علينا حتى يستوعب الناس سماعهم منه، فصبر. فقال لنا الوقار: إني أريد الخروج، فإن استعنتم علي، كما استعنتم على عبد العزيز، جلست. أو كما قال أبو إسحاق الشيرازي. كان الوقار يغلو في مالك، ويتعصب له على أبي حنيفة. ويقول: ما مثل أبي حنيفة إلا كما قال جرير: يعد الناسبون إلى معد ... بيوت المجد أربعة كبارا يعدون الرباب وآل سعد ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا ويذهب بيننا المريّ لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا وعدّه أبو إسحاق الشيرازي، في صغار الآخذين عن مالك، ولم يذكر ذلك أحد. ولا أراه يصح. وتوفي سنة أربع وخمسين ومائتين بمصر. هذا المعروف، والذي قاله الكندي، وابن أبي دليم وغيرهم. وقيل سنة ثلاث وستين. وقال الأمير، أبو نصر، قتله اللهجة، بالحرس، سنة سبع ومائتين. وسيأتي ذكر ابنه أبي بكر بعد هذا. أبو جعفر أحمد بن صالح يعرف بابن الطهري، كان أبوه من أصحاب ابن الأشعث، من عجم الجند، من أهل طبرستان، سمع ابن وهب وعنبسة بن خالد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 قال أبو محمد المقري: كان حافظاً للحديث وأخذ القراءة عن ورش، وقالون، وابني أبي أويس، وحرمي بن عمارة. كتب عنه أحمد بن حنبل والبخاري والذهلي، وخرّج عنه البخاري، من الصحيح. وأحمد بن رشدين، والحسن بن أبي مهران، وأبو داود السجستاني وغيرهم. وكان أحمد بن حنبل والبخاري وابن نمير وابن المديني ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، يوثقونه. قال يحيى: هو ثقة. وقال أحمد: ثبت ثقة، صاحب سنّة. وقال سلمة بن القاسم: الناس مجمعون على ثقته وخيره، وفضله. وقال الكوفي: هو ثقة صاحب سنّة. قال الكندي: كان فقيهاً نظاراً. قال البخاري فيه: ثقة مأمون ما رأيت أحداً تكلم فيه بحجة. وقال يحيى: سلوه فإنه ثبت. وقال محمد بن الحسن فيه: أبو جعفر أحد الأئمة. وذكر الرشديني عنه، إنه كان يقول في المخيرة، إنها واحدة. وإن اختارت ثلاثاً. وبذلك كان يأخذ. وهو قول عبد الله بن عمر وابن العاصي. قال أبو نعيم: ما قدم علينا فتى أعلم بحديث الحجاز منه. قال أحمد: هو يفهم حديث المدينة. قال ابن خلاد: هو ممن جمع الأقطار في رحلته، اليمن والعراق ومصر. وتكلم فيه النسائي، فضعّفه. قال: وكان سبب ذلك أن ابن صالح، كان لا يحدث أحداً حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 يشهد عنده رجلان من المسلمين، إنه من أهل الخير والعدالة. فحينئذ كان يحدثه ويبذل له علمه على مذهب زائدة وغيره. فدخل عليه النسائي دون إذن ولا معرفة ولا تزكية. فأنكره وأمر بإخراجه. قال العقيلي: كان النسائي يصحب قوماً من أهل المدينة، ليسوا هناك. أو كما قال: فأبى أحمد أن يأذن له، فلم يره. فجمع النسائي أحاديث قد غلط فيها أحمد. فشنّع بها. ولم يضر ذلك أحمد شيئاً هو إمام ثقة. قال القاضي أبو الوليد الباجي: أحمد بن صالح من أئمة المسلمين الحفاظ المتقنين. لا يؤثر فيه تجريح. قال ابن نمير: حدثنا أحمد بن صالح: وإذا جاوزت الفرات فليس أحد مثله. وقال فيه أبو حاتم: ثقة. قال ابن زنجويه: ذاكر أحمد بن صالح ببغداد أحمد بن حنبل في حديث الزهري: فما رأيت مذاكرة أحسن منها، وما يطرب أحدهما على الآخر. وذكر خبراً طويلاً. قال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: من قال القرآن كلام الله، ولم يقل مخلوق، ولا غير مخلوق. قال هذا شاك، والشاك كافر. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً صاحب مناظرة. وألف في الصحابة. وكان يرى في الجنب إذا لم يقدر على طهره بالماء من برد وخوف على نفسه، إنه يتوضأ ويصلي، ويجزيه على ما جاء في بعض الروايات في حديث عمرو بن العاص، فتوضأ وصلى بهم. ولم يقل بهذا الرأي أحد من فقهاء الأمصار، سوى طائفة ممن ينتحل الحديث لهذا الحديث. ولأن الوضوء عندهم فوق التيمم. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً صاحب مناظرة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وتوفي في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين ومائتين. مولده سنة اثنتين وسبعين ومائة. قاله الكندي وغيره. وقال أبو عمر والمقريء مولده بمصر سنة سبعين ومائة. عيسى بن المنكدر ابن محمد بن المنكدر القرشي. قاضي مصر أيام ابن طاهر. أشار به عبد الله بن عبد الحكم، وأعلمه أنه فقير، فأجرى له سبعة دنانير كل يوم. وأجازه بألف دينار، وكان رجلاً صالحاً، وكان قد أشار أبو ضمرة الزهري بأصبغ بن الفرج فرد عليه سعيد بن عفير، فأشار عبد الله بن عبد الحكم بعيسى واستكتب أبا الأسود النضر بن عبد الجبار، وداود بن أبي طيبة، واستكتي أيضاً فيما حكاه ابن أبي دليم: أبا إسحاق القسطال. وكان القائم بأمره، سليمان بن برد، إلى أن مات. فولى بعده مسائله عبد الله بن عبد الحكم. قال محمد بن عبد الحكم: أشار والدي على ابن المنكدر بوجوب اليمين للمدعي على المدعى عليه، بالمال. وإن لم يقم بينة بخطله. وبه أخذ الناس، وقد فسدوا. وذكر نحوه عن أصبغ في الغرباء الذين يضربون في الأرض، وهل يشترون ويبيعون إلا ممن لم يعرفوه، ويخالطوه. قال ابن أخي ابن وهب: سمعت القاضي ابن المنكدر يصيح بالشافعي: يا كذا يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا ورأينا واحد، ففرّقت بيننا، ودعا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وكانت له طائفة من أصحابه يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فلما ولي كانت تلاقيه، فتعرّفه بما حدث، فيترك الحكم ويصير معهم لتغييره، فكان إذا عذله أحد في هذا، يقول: لابد من القيام بأمر الله. وكان يتنكر بالليل، فيستخبر أحوال الشهود، ويسأل عنهم. فولي نحو السنتين. وعزله المعتصم عند قدومه مصر، وأقامه للناس، وسجنه، وأخرجه معه إلى بغداد، فمات بها مسجوناً. وكان سبب حقده عليه، ما ذكرنا في خبر عبد الله بن عبد الحكم، قبل هذا. ذكر هذا كله أبو عمرو الكندي. وقال الجيزي: قال ابن عبد الحكم: قال لي ابن طاهر حين طلبت منه لابن المنكدر: كم ترى إنه يعطيه:؟ فخشيت أن أقول ما يريد أكثر منه. فقلت يقول الأمير. فقال: أمرنا له بألف دينار. فكرهت أن أعظمها عنده، أو أصغرها، وليست بصغيرة. فقلت: في ألف ما أغناه. فأمر له بها، وأجرى عليه أربعة آلاف درهم في الشهر. وكان أول قاض بها عليه. قال سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم: لما ولي ابن المنكدر، وكانت حاشيته الصوفية، فكان إذا بلغ أبي، إنه كان منه ما ينكره الناس، بعث له أخي عبد الحكم ينهاه عن ذلك، ويأمره بما يراه. فبعث إليه مرة، فالتفت إلى أخي وقال: ما يظن أبوك إلا أنه أعتق المنكدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 فأمسك عبد الله أن ينهاه عن شيء. وغلبت عليه الصوفية. فقالوا له: اكتب إلى أمير المؤمنين تشتكي عمال الخراج. فكتب ودفع المأمون كتابه إلى المعتصم، وكانوا عماله. فأغاظه. ولما قدم مصر عزله وأوقفه للناس، فجعلوا يثنون عليه، ويصيحون. فبعث إلى أخوانه، وذلك بعد موت ابن عبد الحكم في السجن بسبب التهمة معه، فاستشارهم فيما نزل به. فقالوا: كم تحتج، أنت، تحفظ كلما قضيت. إذا ناظرك غداً ابن أبي دؤاد فقلت له: لم أقض لأحد ولا عليه، إلا وقد كتبت قضيته في الديوان، فانظروها. فإن كان ما اختلفت فيه العلماء، فللقاضي أن يختار. وإن كان إنما خرج عن أقاويل المسلمين، لزمني غرمه. فلما أصبح ووقف على ذلك. قال ابن أبي داؤد لأصحابه: علم هذا الرجل خلاف ما كنا فيه. فأعلموا المعتصم، فقال يفتش الديوان. حنقاً عليه. فأرسل عيسى إلى إخوانه في ذلك، فقالوا له: إذا سألوك أن تحضر الديوان: فقل هو ديوان أمير المؤمنين، فإن كان أمركم بذلك، فهو بين أيديكم، وأما أنا فلا أدخل فيه. فكره المعتصم هذا، وخاف المأمون وأمر بإشخاصه، وذلك سنة أربع عشرة ومائتين. أبو الأزهر عبد الصمد وأبو هارون موسى أنباء عبد الرحمان بن القاسم، كانا فاضلين عابدين ورعين سمعا من أبيهما. وغلب على عبد الصمد علم القرآن. وله في ذلك كتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وغلب على موسى العبادة. وروى عنهما ابن وضّاح. وروى عبد الصمد عن ورش، وهو من جلة أصحابه المتصدرين. ومن وقته اعتمد أهل الأندلس على رواية ورش. وروى أيضاً عن داود ابن أبي طيبة وسمع سفيان بن عيينة، وروى عنه الفضل ابن يعقوب، والمحاربي، ومحمد ابن سعيد الأنماطي، وإسماعيل بن عبد الله النحاس. وبكر بن سعيد الدمياطي، وحبيب بن إسحاق القرشي وابن باز، وابن وضاح، وغيرهم. وقد روى الحارث ابن مسكين على أحد ابني عبد الرحمان ابن القاسم. قال ابن اللباد: كان لابن القاسم ثلاثة من الولد، موسى وعبد الصمد وابنة. فأما عبد الصمد، فكان يقرأ مقرأ نافع، وأما موسى، فكان يروي موطأ مالك، وكان لموسى مع أخيه سدة مقابل سدته في بيت واحد. حتى ماتا شيخين. ولم يتزوج واحد منهما. قال الكندي: كانا يشهدان ثم امتنعا من الشهادة، بعد. وكانا من أفضل الناس. ذكر محمد ابن عبد الحكم عن عبد الصمد بن عبد الرحمان بن القاسم: حلف أخي بالمشي إلى مكة في شيء. فسألت أبي عن ذلك وأخبرته بيمينه، فاشتد عليه، وأمره أن يكفر يمنيه، ولا يعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 قال ابن يونس الصدفي: توفي عبد الصمد ابن عبد الرحمان في رجب سنة إحدى وثلاثين. وقال الكندي: سنة خمس. قالا: ومات موسى أخوه في جمادى الآخرة سنة تسع، وأربعين. وقرأت أنا بخط بعض الشيوخ عن ابن القرطبي: أن موت موسى سنة ثمان وأربعين ومائتين. من أهل إفريقية وأقصى المغرب أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي صليبة من المغرب. أصله شامي من حمص، وقدم أبوه سعيد في جند حمص. قال محمد ابنه: قلت: يا أبت أنحن صليبة من تنوخ؟ فقال لي: وما تحتاج إلى ذلك. فلم أزل به، حتى قال لي: نعم. وما يغني عنك ذلك من الله شيئاً، إن لم تتقه. قال المهدي: قدم رجل من أهل الشام على سحنون، فقال له: لو رأيت أهل بلدك بالشام، فرأيت علماء يؤخذ بأنوفهم. فانتهزه سحنون، وقال له: اسكت أتحاضر العلماء بهذا في مجلسكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وسحنون، لقب له. واسمه عبد السلام. سمعت بعض مشائخ أهل الحديث يحكي عن بعض شيوخ إفريقية، أنه قال: سمي سحنون باسم طائر حديد لحدّته في المسائل. قال أبو العرب التميمي: وله أخ، يقال له حبيب أسن منه. سمع من ابن الأصم وابن فروخ، وكان ثقة صالحاً، روى عنه أخوه. وقد جمع الناس أخبار سحنون مفردة، ومضافة وممن ألف فيها تأليفاً معروفاً: وقال أبو العرب التميمي، ومحمد بن حارث القروي. ذكر طلبه ورحلته أخذ سحنون العلم بالقيروان عن مشائخها: أبي خارجة وبهلول، وعلي بن زياد وابن أبي حسان، وابن غانم، وابن أشرس، وابن أبي كريمة وأخيه، حبيب. ومعاوية الصمادحي وأبي زياد الرعيني. ورحل في طلب العلم أول سنة ثمان وثمانين ومائة، فيما قاله أبو العرب، وابن حارث. قال ابنه: خرج إلى مصر أول سنة ثمان وسبعين في حياة مالك، ومات مالك وهو ابن ثمانية عشر أو تسعة عشر. وكانت رحلته إلى زياد بتونس، وقت رحلة ابن بكير إلى مالك. قال سحنون: كنت عند ابن القاسم، وجوابات مالك ترد عليه. فقيل له: فما منعك من السماع منه. قال قلة الدراهم. وقال مرة أخرى لحى الله الفقر، فلولاه لأدركت مالكاً. فإن صحّ هذا، فله رحلتان. وإلا فما قال ابنه أصح. فإنه سمع ممن مات قبل ثمان وثمانين من المدنيين بها، كابن نافع. توفي سنة ست الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وثمانين. فسمع سحنون في رحلته إلى مصر والحجاز، من ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وطليب ابن كامل، وعبيد الله بن عبد الحكم، وشعيب بن الليث، ويوسف بن محمد، وسفيان بن عيينة، ووكيع وعبد الرحمان ابن مهدي، وحفص بن غياث، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، والوليد بن مسلم، وابن نافع الصائغ، ومعن بن عيسى، وأبي ضمرة وابن الماجشون، ومطرف وغيرهم. وانصرف إلى إفريقية، سنة إحدى وتسعين ومائة. قال سحنون: سمع مني أهل جدابية سنة إحدى وتسعين. وفيها مات ابن القاسم. قال: وخرجت إلى ابن القاسم، ابن خمس وعشرين. وقدمت إفريقية ابن ثلاثين سنة. وأول من قرأ على عبد الملك زونان. ذكر أن البهلول بن راشد، كتب إلى علي بن زياد، أن يُسمع سحنون، وقال له: إنما كتبت إليك في رجل يطلب لله. وقد روي إنه إنما كتب البهلول في عهد المتعالي الجدري، فسأله علي عن موضعه، ثم أخذ علي الموطأ. فأتاه ليسمعه في موضعه. وقال له: إن بهلول كتب إلي يعلمني إنك ممن تطلب لله. قال فرات: سمعت سحنون يقول: انقفلت عليّ مسألة حتى أردت الرجوع فيها إلى المدينة، حتى اتضحت لي. حتى اتضحت لي. قال سحنون: لما حججت كنت أزامل ابن وهب، وكان أشهب يزامله يتيمه. وابن القاسم يزامله ابنه موسى. وكنت إذا نزلت سألت ابن القاسم، وكنا نمشي باالنهار، ونلقي المسائل، فإذا كان الليل قام كل أحد إلى حزبه من الصلاة. فهو يقول ابن وهب: ألا ترون هذا المغربي يلقي بالنهار، ولا يدرس بالليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 فيقول ابن القاسم هو نور يجعله الله في القلوب. ذكر مكانه من العلم والثناء عليه قال محمد بن أحمد بن تميم في كتابه قال: كان سحنون ثقة حافظاً للعلم فقيه البدن. اجتمعت فيه خلال قلّما اجتمعت في غيره. الفقه البارع والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشن في الملبس، والمطعم، والسماحة. كان لا يقبل من السلاطين شيئاً. وربما وصل أصحابه بالثلاثين ديناراً أو نحوها، ومناقبة كثيرة. قال أبو بكر المالكي: وكان مع هذا رقيق القلب، غزير الدمعة، ظاهر الخشوع متواضعاً، قليل التصنع، كريم الأخلاق، حسن الأدب، سالم الصدر، شديداً على أهل البدع، لا يخاف في الله لومة لائم. انتشرت إمامته في المشرق والمغرب. وسلم له الإمامة أهل عصره، واجتمعوا على فضله وتقديمه. ومناقبه كثيرة قد ألف فيها أبو العرب التميمي كتاباً مفرداً. وسئل أشهب من قدم إليكم من المغرب؟ قال: سحنون. قيل: فأسد؟ قال: سحنون والله أفقه منه بتسع وتسعين مرة. وقال أشهب: ما قدم إلينا من المغرب مثله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 ولقد حثه ابن القاسم على أن يقيم عنده يطلب العلم، ويدع الخروج إلى الغزو، لما استفرس فيه. وقال ابن القاسم لابن رشيد: قل لصاحبك يعني سحنون يقعد. فالعلم أولى به من الجهاد، وأكثر ثواباً. ويعطي هذه الخيل التي قدم بها هو، في مثل حاله، يؤديها عنه. فما قدم إلينا من إفريقية مثل سحنون، ولا ابن غانم. قال حمديس: رأيت أبا مصعب بالمدينة، وغيره. وبمصر أصحاب ابن القاسم. وبمكة علماء من أهل بغداد. والله ما رأيت فيهم مثل ابن سحنون ولا رأيته بعده. وقال محمود بن يزيد: أول ما تعلمت مسائل الصلاة من سحنون. وإن قلت أن سحنون أفقه من أصحاب مالك كلهم، إني لصادق. قال أبو العرب: وكل ما لقيت من أصحاب سحنون الذين سمعوا منه وسمعنا منهم عشرات من مشاهير الفقهاء والشيوخ، منهم: يحيى بن عمر، وحبيب، وابن مسكين، وابن أبي سليمان، وابن سالم، وابن الحداد، وحمديس، وجبلة، وابن معتب، وغيرهم. قال: ومنهم من سمع، وهو أسنّ من سحنون. ولقي أصحاب مالك وسفيان الثوري، ورأى الناس في الآفاق كلهم يقولون ما رأيت أحداً مثل سحنون في ورعه وفقهه وزهده. وكان يزيد بن بشير يبجل سحنون ويعظمه. وقال: كنت بتونس، فبلغني مقامه من الإسلام وبركته ويقدم إلي رجل من أصحابه فأعرف فيه الأدب، وربما قدم إلي رجل من عند حرملة فأعرف فيه قلة الأدب، فأقول له: فهلا كنت مثل من يؤدبه سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 قال أبو زيد بن أبي الغمر: لم يقدم علينا أحد أفقه من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لساناً منه. يعني ابن حبيب. وقال يونس بن عبد الأعلى: هو سيد أهل المغرب. فقال له حمديس (القطان) : أو لم يكن سيد أهل المشرق والمغرب؟ قال: قد كان رجلاً نبيلاً فاضلاً خيّراً، من شأنه ومن شأنه. فأثنى عليه ورفع به. اخذ من ابن وهب مغازيه، إجازة. يعني سحنون. قال سليمان بن عمران: إذا سألت أسداً عن مسألة أجابني من بحر عميق، ومعنى جوابه لا تزد. وإذا سألت سحنون أجابني من بحر عميق ومعنى جوابه زد في سؤالك. وكان العلم في صدر سحنون كسورة في القرآن من حفظه. وكان سحنون رجلاً صالحاً. وقال سحنون أني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن. وكان أبو عياش بن عيشون يقول إذا ذكره: قال الإمام أبو سعيد. وكان ابن طالب وغيره لا يسميه، ويكنيه إجلالاً له. وكان ابن عبد الحكم يقول لبعض من يحضر مجلسه: ما يقول أبو سعيد في هذه المسألة؟ قال بكر بن حماد: سمعت سحنون يقول: عندي في البيت سماع سنتين لسفيان بن عيينة وقال غيره: كنا عند ابن القاسم، فقال: أن يكن يسعد أحد بهذه الكتب، فسحنون. ثم التفت إلى ابن عبد الحكم، فقال وان قبل، أبي محمد العلم. والتفت إلى اصبغ فقال: وان قبله لراوية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 قال برأت. وقد روى اصبغ أولاً عن سحنون ثم ترك ذلك. قال برأت. قال سحنون: عندي ستة، أو أربعة وأربعون كتاباً، من البيوع، منها كتابان أو ثلاثة اصلها أربع مسائل في الموطأ. قال ابن وضاح: كان سحنون يروي تسعة وعشرين سماعاً، وما رأيت في الفقه مثل سحنون في المشرق. قال سعيد بن الحارث: كان أبو سعيد عاقلاً بمرة، ورعاً بمرة، عالماً بمذاهب المدنيين بمرة. وقال: جالست الناس بهذه البلد، منذ بلغته، ما رأيت أجود غريزة من سحنون. قال محمد بن الحارث: كانت أفريقية قبل رحلة سحنون، قد غمرها مذهب مالك بن انس، لأنه رحل إليها اكثر من ثلاثين رجلاً، كلهم لقي مالك بن انس وسمع منه. (أن) كان الفقه والفتيا إنما كان في قليل منهم، كما ذلك في علماء البلاد، ثم قدم سحنون بذلك المذهب، واجتمع له مع ذلك فضل الدين، والعقل والورع والعفاف والانقباض. فبارك الله فيه للمسلمين. فمالت إليه الوجوه، وأحبّته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدئاً قد مّحى ما قبله. فكان أصحابه سرج أهل القيروان، (فرأيته) عالمها وأكثرهم تأليفاً وابن عبدوس فقيهها وابن غانم عاقلها وابن عمرو حافظها وجبلة زاهدها وحمديس أصلبهم في السنة وأعذلهم للبدعة وسعيد بن حداد لسانها وفصيحها وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث وأشهدهم للوقار وتصاوناً لكل هذه الصفات مقصورة على وقتهم. قال محمد ابن سحنون: قال لي أبي: إذا أردت تقدم اطرابلس. وكان فيها رجال مدنيون ومصر وبها الرواة. والمدينة عسير مالك ومكة فاجتهد جهدك، فان قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك اصلها، فاعلم أن شيخك كان مفرطاً. قال سليمان بن سلام في مجالسه: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين بين الحكم والحارث بن مسكين وأبا الطاهر وأبا اسحاق البرقي وغيرهم. ودخلت المدينة، وبها أبو المصعب والقروي. ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثاً. ودخلت غيرها من البلدان، ولقيت علمائها ومحدثيها. فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده. وقال عيسى ابن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة. ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون. وقال أبو الحسن القابسي: أني لأجد في نفسي، من خلاف سحنون لمالك، ما لا أجده في خلاف ابن القاسم لمالك. وكان يشق عليه مخالفة مالك، وسحنون، ويقول: لا اقدر على مخالفتهما، وأهاب ذلك هيبة عظيمة. وقال سعيد بن الحداد: جالست المتكلمين، فكل من لقيت من أهل العلم، فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون. وكان وقوراً فيها. وقال بعضهم: دخلت على الملوك وكلّمتهم، فما رأيت أحداً أهيب في قلبي من سحنون. قال الشيزاري: إليه انتهت الرئاسة في العلم بالمغرب. وعلى قوله الموصل به. وصنّف المدونة. وعليها يعتمد أهل القيروان. وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. قال أبو علي البصري: سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته. قال بعضهم صحبت أسداً وابن فروخ، فلم أر أنفع من هذا الشافي. يعنيه. قال عبد الرحيم الزاهد: لما خرج أسد إلى العراق، شاورته فيمن اقصد بعده، أسمع منه. فقال: عليك بهذا الشيخ. يعني سحنون، فما أعرف أحداً يشبهه. قال ابن حارث: سحنون أمام الناس في علم مالك. وكان فاضلاً عادلاً، مباركاً. أظهر السنة، وأحمد البدعة، وثقف رسوم القضاء بعقله وعلمه. سمع منه. (أن) كان الفقه والفتيا إنما كان في قليل منهم، كما ذلك في علماء البلاد، ثم قدم سحنون بذلك المذهب، واجتمع له مع ذلك فضل الدين، والعقل والورع والعفاف والانقباض. فبارك الله فيه للمسلمين. فمالت إليه الوجوه، وأحبّته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدئاً قد مّحى ما قبله. فكان أصحابه سرج أهل القيروان، (فرأيته) عالمها وأكثرهم تأليفاً وابن عبدوس فقيهها وابن غانم عاقلها وابن عمرو حافظها وجبلة زاهدها وحمديس أصلبهم في السنة وأعذلهم للبدعة وسعيد بن حداد لسانها وفصيحها وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث وأشهدهم للوقار وتصاوناً لكل هذه الصفات مقصورة على وقتهم. قال محمد ابن سحنون: قال لي أبي: إذا أردت تقدم اطرابلس. وكان فيها رجال مدنيون ومصر وبها الرواة. والمدينة عسير مالك ومكة فاجتهد جهدك، فان قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك اصلها، فاعلم أن شيخك كان مفرطاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 قال سليمان بن سلام في مجالسه: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين بين الحكم والحارث بن مسكين وأبا الطاهر وأبا اسحاق البرقي وغيرهم. ودخلت المدينة، وبها أبو المصعب والقروي. ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثاً. ودخلت غيرها من البلدان، ولقيت علمائها ومحدثيها. فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده. وقال عيسى ابن مسكين: سحنون راهب هذه الأمة. ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون. وقال أبو الحسن القابسي: أني لأجد في نفسي، من خلاف سحنون لمالك، ما لا أجده في خلاف ابن القاسم لمالك. وكان يشق عليه مخالفة مالك، وسحنون، ويقول: لا اقدر على مخالفتهما، وأهاب ذلك هيبة عظيمة. وقال سعيد بن الحداد: جالست المتكلمين، فكل من لقيت من أهل العلم، فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون. وكان وقوراً فيها. وقال بعضهم: دخلت على الملوك وكلّمتهم، فما رأيت أحداً أهيب في قلبي من سحنون. قال الشيزاري: إليه انتهت الرئاسة في العلم بالمغرب. وعلى قوله الموصل به. وصنّف المدونة. وعليها يعتمد أهل القيروان. وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. قال أبو علي البصري: سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته. قال بعضهم صحبت أسداً وابن فروخ، فلم أر أنفع من هذا الشافي. يعنيه. قال عبد الرحيم الزاهد: لما خرج أسد إلى العراق، شاورته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 فيمن اقصد بعده، أسمع منه. فقال: عليك بهذا الشيخ. يعني سحنون، فما أعرف أحداً يشبهه. قال ابن حارث: سحنون أمام الناس في علم مالك. وكان فاضلاً عادلاً، مباركاً. أظهر السنة، وأحمد البدعة، وثقف رسوم القضاء بعقله وعلمه. ذكر بقية شمائله قال أبو العرب: كان سحنون ربع القامة، بين البياض والسمرة. حسن اللحية كثير الشعر. حسن اللحية كثير الشعر. أعين، بعيد ما بين المنكبين. كثير الصّمت، قليل الكلام، يتكلم بالحكمة، مهيباً جداً. يأخذ من شاربه على المشط، حسن اللباس، وكان به فتق في جوفه. فكان يعصبه بلبد. وكان له بر دون يركبه، وقلما رئي متطوعاً في المسجد. قال ابن بسطام: كانت لسحنون قلنسوة طويلة، ربما لبسها وساجاً، وربما حمل في يده، وقد لبسها حزم البصل، وغير ذلك إلى داره، تواضعاً. قال سليمان بن سالم: رأيت لسحنون ساجاً أزرق، ورداء وقلنسوة حبرة، وقلنسوة زرقاء، وشياً، وقلنسوة تشبه الأغلب. فإذا قعد للسماع لبس الرداء، وقلنسوة الأغلب، وإذا شهد الجمعة لبس الساج، وقلنسوة الحبر، وإذا حضر الجنازة لبس الأزرق، والقلنسوة الزرقاء. هذا كان أكثر فعله. وقال أبو العرب: وكان عريض الطوق، نحو الإصبعين. قال سليمان بن سالم: أخذ سحنون بمذهب أهل المدنية. في كل شيء. حتى في العيش. كان يقول: ما أحب أن يكون عيش الرجل إلا على قدر ذات يده. ولا يتكلف أكثر مما في يده. وأن احتاج امرأة طلبها على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 قدر ذات يده، في مؤونتها، وقناعتها، حتى يبقى في يده ما استغنى به. فإن كان له مال حلال، اعتمد عليه، وتفرغ للعبادة. وأن لم يكن عنده فعليه بكسب يده. فذلك أولى به من مسألة الناس. وأن كان مستغنياً عن الزوجة، فتركها أحب إلي، وأكل أموال الناس بالمسكنة والصّدقة، خير من أكله بالعلم والقرآن. قال سليمان: كان سحنون يركب بلجام حديد، ليس فيه فضة. وكان له برنس أسود، يلبسه في المطر والبرد. قال غيره: كان سحنون يجلس للسماع على باب داره، ونحن نجلس على الأرض، إلا من أتى منّا بحصير. فإذا تمنا، قال: قوموا قوم رجل واحد. فنفترق. قال عبد الجبار، بن خالد: كنا نسمع من سحنون جالساً بمنزلة، بالساحل. فخرج علينا يوماً وعلى كتفه المحراث، وبين يديه الزوج. فقال لنا: إن الغلام حمّ البارحة، فإذا فرغت أسمعتكم. فقلت له: أنا أذهب وأحرث وأنت تسمع أصحابنا، فإذا جئت قرأت عليك ما فاتني، ففعل. فلما جئته. قرّب إليّ غداءه، خبز شعير وزيتاً قديماً. قال حبيب: خرج سحنون علينا يوماً وعليه برنس، وكان يلبس الشاشية، والطويلة. قال عيسى: كان سحنون صمته لله، وكلامه لله، إذا أعجبه الكلام صمت، وإذا أعجبه الصمت تكلم. قال ابن بسطام: دخلنا عليه في مرضه الذي مات فيه، وعند رأسه حقيبة، وما في بيته إلا الحصير. قال غيره: قيل له: يا أبا سعيد، كيف يسعك أن تترك الطلبة، وحاجتهم إليك، وتخرج إلى البادية فتغيب بها الشهور الكثيرة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 قال أتريدون أن تروا كتبي بهذا الغدير؟! قال: احتاج إلى دراهم هؤلاء، يعني السّلاطين، فأخذها، فتطرح كتبي. قال ابن متعب: كان يشتري سحنون كل يوم ربع رطل لحماً، يفطر عليه. ثم تركه اقتضاء بالصالحين في مطعمهم، ما عمل سحنون قط شيئاً إلا لله. ولا تكلم بشيء إلا لله. فلذلك عظم خطره. قال بعض العلماء: كان سحنون أعقل صاحباً، وأفضل الناس صاحباً. وأقفه الناس صاحباً. قال ابن الحارث: كانت هذه الصفات صفات سحنون. فتخلق بها أصحابه. قال إبراهيم ابن شعيب: كان سحنون يخرج علينا، ونحن تنتظره في مجلسه، فوا الله ما علمته يسلم في مجلسه علينا قط. وفي حلال يمشي بالأسواق، فلا يمر بأحد إلا التفت إليه وسلم عليه، توقيراً للعلم وهيبة له، عند طالبيه. ذكر ولايته القضاء ولي سحنون قضاء إفريقية، سنة أربع وثلاثين ومائتين، وسنه إذ ذاك أربع وسبعون سنة. فلم يزل قاضياً إلى أن مات. قال أبو العرب: لما عزل ابن أبي الجواد، قال سحنون: اللهم ولّ هذه الأمة خيرها، وأعدلها. فكان هو الذي ولي بعده. وذكر غريب الكاتب في تاريخه: أن سحنون مرّ يوماً بابن أبي الجواد، فدار منه. فقال: اللهم لا تمتني، حتى أراه بين يدي قاض عدل يحكم فيه بالحق. فعزل وولي سحنون، فامتحنه. فقال الناس: أجيبت دعوته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 ولما أراد محمد بن لأغلب أن يولي سحنون، جمع الفقهاء للمشاورة. فأشار سحنون سليمان بن عمران، وأشار سليمان بسحنون، وأشار غيرهم بسليمان، فادخلوا فرادى، فقالوا: كقولهم الأول وذلك أن أكثر الفقهاء كانوا إذ ذاك على رأي الكوفيين. وكان سليمان يرى رأيهم. وقال سليمان: ما ظننت أنه يشاور في سحنون. حجبت فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين أظهرهم. وما يستحق أحد القضاء وسحنون حيّ. وبعث ابن الأغلب إلى سحنون يقول له: إني أريد أن استكفي قضاء رعيتي، فاعلمه. فقال: أصلح الله الأمير، لا أقوى عليه. أدلك على من هو أقوى. سلميان بن عمران. قال محمد بن سحنون: ولي سحنون القضاء بعد أن أدير عليه حولاً، وأغلظ عليه الغلظة. وحلف عليه محمد بن الأغلب بأشد الإيمان، فولي يوم الاثنين الثالث من رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. فأقام أياماً ينظر في القضاء، يلتمس أعواناً. ثم قعد للناس يوم الأحد بعده، في المسجد الجامع، بعد أن ركع ودعاء بدعاء كثير. وقال سحنون: لم أكن أرى قبول هذا الأمر، حتى كان من الأمير ضمينان: أحدهما أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت له: أبداً بأهل بيتك، وقرابتك، وأعوانك، فإن قبلهم ظلمات الناس، وأموال لهم، منذ زمان طويل. إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي. فقال لي: نعم لا تبدأ إلا بهم، واجر الحق على مفرق رأسي. فقلت له: الله، قال لي: الله، ثلاث مرات. وجاءني من عزمه مع هذا، ما يخاف المرء على نفسه، وفكرت فلم أجد أحد يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة فر رده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 قال سليمان بن سالم: لما تمت ولاية سحنون، تلقّاه الناس، فرأيته راكباً على دابة، ما عليه كسوة ولا قلنسوة، والكآبة في وجهه، ما يتجرأ أحد يهنّيه. فسار حتى دخل على ابنته خديجة، وكانت من خيار الناس، فقال لها: اليوم ذبح أبوك بغير سكين. وعلم الناس قبوله للقضاء، ولما ولي، جاءه عون بن يوسف، فقال له: نهنئك أو نعزيك. ثم سكت. ثم قال: إنه بلغني أنه من أتاها من غير مسألة، أعين عليها. ومن أتاها عن مسألة لم يعن عليها. فقال له سحنون: من ولته الشفاعة عزلته الشفاعة. ومن ولته الشفاعة، حكم بالشفاعة. فقال له رجل من الأندلس: إن لله وإن إليه راجعون، وددنا أنا رأيناك اليوم على أعواد نشعك، ولم نرك في هذا المجلس قاعداً. وكتب عبد الرحيم الزاهد إلى سحنون، لما ولي القضاء: أما بعد فإني عهدتك، وشأن نفسك عليك مهم، تعلم الخير وتؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، تؤدبهم على دنياهم، يذلّ الشريف بين يديك والوضيع. قد اشترك فيك العدو والصديق ولكلّ حظه من العدل. فأي حالتيك أفضل: الحالة الأولى أم الثانية؟ والسلام. فكتب إليه سحنون: أما بعد فإنه جاءني كتابك فهمت ما ذكرت فيه، وأني أجيب أنه لا حول ولا قوة في شيء إلا بالله تعالى، عليه توكلت وإليه أنيب. فأما ما كتبت أنك عهدتني وشأن نفسي عليّ مهم، أعلم الخير وأؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، أؤدبهم على دنياهم، ولعمري أنه من لم تصلح له دنياه، فسدت له أخراه. وفي صلاح الدنيا إذا صح المطعم والمشرب، صلاح الآخرة. فكلا الأمرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 متصل بالآخرة. أؤدبهم في معاملتهم، ودفع ظالمهم عن مظلومهم، وأخذهم الأمور من وجوهها، أدب لأخرتهم. لأن بصلاح دنياهم لهم آجرتهم. وبفساد الدنيا تفسد الآخرة. وقد حدثني ابن وهب، ورفع سحنون سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم المطية الدنيا، فارتحلوا، فإنها تبلغكم الآخرة. ولن تبلغ الدنيا الآخرة من عمل في الدنيا بغير الواجب من حق الله. وأما قولك وليت أمر هذه الأمة، فإني لم أزل متبلي ينفذ قولي، منذ أربعين سنة، في أشعار المسلمين وأبشارهم. حدثني ابن وهب: أن عبيد الله بن أبي جعفر قال: لن تزالوا بخير ما تعلمتم. فإذا احتيج إليكم فانظروا كيف تكونوا. قال ابن أبي جعفر فرأيت في المنام، إنما المفتي قاض يجوز قوله، في أبشار المسلمين وأموالهم. فعليك بالدعاء. فألزم ذلك نفسك والسلام. قال سليمان بن عمران: لما ولي سحنون قال لي: إذا القاضي السعي كيف يكتب كذا. فكتب له ذلك. وكان سليمان يكتب لسحنون في قضائه، إلى أن ولاه بجاية وباجة الأربُس. فلما مات سحنون ولي سليمان مكانه. قال سليمان: قال لي سحنون: ابتليتني. فوا الله أيبتلينك فولاني القضاء وقال لي: عليك يا أبا الربيع بالحجازية الحجازية. فقلت: القاضي مفتي، بما كنت أفتي به، فبه أقضي. فسكت عني وكان سليمان عراقي المذاهب. قال: فلما ولي سليمان القضاء دخل عليه من الغد، فقال له سحنون: عزمت يا أبا الربيع. فقال له: أن قلت لا كذبتك، أنا أريد. فقال سحنون لمن عنده: انظروا أن كان دخله رياء أو أظهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 تمنعاً. مثلك يا أبا الربيع يكون ناظراً للمسلمين. قال جبلة: كان سحنون لا يأخذ لنفسه رزقاً، ولا صلة من السلطان في قضائه كله. ويأخذ لأعوانه وكتابه وقضائه من جزية أهل الكتاب. قال ابن سحنون: وسمعته يقول للأمير: والله لو أعطيتني ما في بيت مالك، وقال له لو ملأت مجلسك هذا لي دراهم ودنانير، ما سألني الله أن أقبل منك ذلك. ولا آخذ منك شيئاً ويقول لو أخذته لجاز لي. ولكنه تورع. وسمعته يقول للأمير: حبست أرزاق أعواني وهم أجراؤك. وقد وفوك عملك ولا يحل لك ذلك. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أعط ألأجير حقه قبل أن يجف عرقه. قال ابن مسكين: كان سحنون قبل أن يلي أشرف منه بعد ما ولي. ولقد امتنع من النظر وجلس في بيته مدة. حتى حضر جنازة فرأى منكراً فأمر بتغييره، وانصرف، فنظر بين الناس. قال ابن سحنون: يضرب الخصوم إذا آذى بعضهم بعضاً بكلام. أو تعرضوا للشهود. ويقول: إذا تعرض للشهود كيف يشهدون. ويؤدب الخصوم إن طعن على الشاهد بعيب، أو تجريح، أو يقول سل لي عن البينة. فإنهم كذا، حتى يسأله هو عن تجريحه. ويقول للخصم: أنا أعني بذلك منك، وهو علي دونك. وكان إذا دخل عليه الشاهد، ورعب منه، أعرض عنه، حتى يستأنس، ويذهب روعه. فإن طال ذلك به هون عليه. وقال له: ليس معي سوط ولا عصا، فلا عليك بأس. أد ما علمت ودع ما لم تعلم. قال جبلة: كان سحنون يؤدب الناس على الإيمان التي لا تجوز في الطلاق، والعتق. حتى لا يحلفوا بغير الله. ويؤدبهم على سوء الحال، في لباسهم، وما نهي عنه، ويأمرهم بحسن السيرة، والقسط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قال ابنه محمد: وتخاصم إليه رجلان صالحان من أصحابه، ممن نظر في العلم، فأقامهما، وأبى أن يسمع منهما. وقال استرا عني ما ستر الله عليكما. قال غير واحد: أول ما نظر سحنون في الأسواق، وإنما كان ينظر فيها الولاة دون القضاة. فنظر فيما يصلح من المعاش، وما يغش من السلع، ويجعل الأمناء على ذلك، ويؤدب على الغش، وينفي من الأسواق من يستحق ذلك، وهو أل من نظر في الحسبة من القضاة، وأمر الناس بتغيير المنكر، وأول القضاة فرق حلق أهل البدع، وشرد أهل الأهواء منه. وكانوا فيه حلقاً. من الصفرية والإباضية المغيرية، وكانوا فيه حلقاً. يتناظرون فيه. ويظهرون زيفهم. وعزلهم أن يكونوا أئمة للناس، أو معلمين لصبيانهم. أو مؤذنين. وأمرهم أن لا يجتمعوا. وأدب جماعة منهم بعد هذا، خالفوا أمره، وأطافوا، وتوب جماعة منهم، فكان يقيم من أظهر التوبة، منهم علي البوا كذا وغيره، فيعلن بتوبته عن بدعته. وهو أول القضاة جعل في الجامع إماماً يصلي بالناس. وكان ذلك للأمراء. وأولهم جعل الودائع عند الأمناء. وكانت قبل في بيوت القضاة. وأول من قدم الأمناء في البوادي، فكان يكتب إليهم، وكان من قبله يكتب إلى جماعة من الصالحين، منهم. فأخذت القضاة هذه السيرة بعده، وكان يجلس في بيت الجامع، بناه لنفسه. إذ رأى كثرة الناس وكثرة كلامهم. فكان لا يحضر عنده غير الخصمين. ومن يشهد بينهما في دعواهما. وسائر الناس عنه بمعزل لا يراهم ولا يسمع لغطهم، ولا يشغل باله أمرهم فصار الجلوس في ذلك البيت سنة لقضاة المالكية. فإذا ولي عراقي، هدمه. وإذا ولي مدني، بناه، وحكم فيه. وكان سحنون يكتب للناس أسماءهم في رقاع، تجعل بين يديه، ويدعو بهم واحداً واحداً إلى أن يأتي مضطر أو ملهوف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وكان يضرب بالدرة، وما خف من ألأدب في الجامع، فإذا أقام الحدود، أخرجهم عن الجامع. وكان كثيراً ما يؤدب بلطم القفا. وقيد امرأة كانت تتهم بسوء، حتى شهد عنده أنها باتت. وضربت أخرى كانت تتهم بالجمع بين الرجال والنساء بالسوط، في قفة! وبني باب دارها، ونقلها بين قوم صالحين. وجاءت إليه امرأة من القصر، غاب عنها زوجها، فأرادت أن تقطع بشرطها فأبى. ثم قال لها: إياك أن تشهدي أحداً من أهل القصر، لا أكتب شهادتهم. وكتب مراراً يأمر بقتل الكلاب، وسيب الأعوان وراءها بالحراب. ويعطي الطابع لأهل العدوى، فإذا جاءه المستعدي بصاحبه، أخذ منه الطابع لئلا يعبث به الناس، ويضرب على اللدد، قال عيسى بن مسكين: فحصل الناس بولايته على شريعة من الحق، ولم يل قضاء أفريقية مثله. قال سعيد بن إسحاق: كل من ولي قضاء أفريقية اكتسب، إلا سحنون. وكان سحنون أيام قضاء ابن أبي الجواد، يقول: إن لأمره لآخراً .... ولكني أخشى أن الوالي بعده لا يحسن، أن يقتص منه. فكان هو الوالي بعده. وخاصم ابن أبي الجواد رجل بين يدي سحنون، فحكم له على ابن أبي الجواد، وحبسه. وقال له: إ، لم تؤد ضربتك بالسوط. وقال: ما عندي مال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 فيقول إنه أخرجه. وضربه في جمعة بالسياط مائة سوط. وقيل أكثر من ذلك. حتى أسأل دمه على كعبه، فمر في طريقة على صباغ فصب عليه قصرية مصاره. وقال: اقتلوا الزنديق. ورد إلى السجن فمات فيه. وقيل كان سبب ضربه أنه شهد عليه، بقبض وديعة فأنكرها. فضربه ثمانية عشر سوطاً مجرداً من الأسماط يضربه، سبعة بعد سبعة. وهو متماد. وقيل، أنها وجدت بخطه، فأنكره، وشهد على خطه، فحبسه أياماً وضربه عشرة أسواط. وكان يخرجه في كل جمعة فيضربه عشرة. كل جمعة إلى أن مرض. وقيل بل فعل ذلك به لما كان عليه من البدعة. وكانت أسماء بنت أسد ابن الفرات زوج ابن أبي الجواد، قالت: لسحنون: أنا أهبه هذا المال، يقضيه عن نفسه. فلم يقبل ذلك سحنون. وقال لها: حتى يقول: أؤدي ما لزمني. وقيل فعل ذلك به، لأن مالكاً لا يلزم قبول الهبة، ولو قالت أنا أقضي عنه، ما طلب منه. لما رد ذلك سحنون. والله أعلم. وقيل بل قالت له أفدي به زوجي. فقال لها: إن أقر ذلك، هو المال، أو بدل منه، أطلقته. فامتنع وأبى سحنون من قبول المال، إلا بإقراره. اً وضربه عشرة أسواط. وكان يخرجه في كل جمعة فيضربه عشرة. كل جمعة إلى أن مرض. وقيل بل فعل ذلك به لما كان عليه من البدعة. وكانت أسماء بنت أسد ابن الفرات زوج ابن أبي الجواد، قالت: لسحنون: أنا أهبه هذا المال، يقضيه عن نفسه. فلم يقبل ذلك سحنون. وقال لها: حتى يقول: أؤدي ما لزمني. وقيل فعل ذلك به، لأن مالكاً لا يلزم قبول الهبة، ولو قالت أنا أقضي عنه، ما طلب منه. لما رد ذلك سحنون. والله أعلم. وقيل بل قالت له أفدي به زوجي. فقال لها: إن أقر ذلك، هو المال، أو بدل منه، أطلقته. فامتنع وأبى سحنون من قبول المال، إلا بإقراره. ذكر أخباره مع الملوك وثبوته في الحق قال أبو العرب: وكان لا يهاب سلطاناً، في الحق يقيمه عليه. ولما أكثر من رد الظلامات في رجال ابن الأغلب وأبى أن يقبل منهم الوكلاء على الخصومة إلا بأنفسهم: وجه إليه الأمير وقد شكوه إليه، بأنه يغلظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 عليهم. فأرسل إليه ابن الأغلب وقال إنهم فيهم غلظة وقد شكوك، ورأيت مما فاتك من شرهم فلا تنظر في أمرهم. فقال سحنون للرسول: ليس هذا الذي بيني وبينه. قل له: خذلتني خذلك الله. فلما أنهى الرسول الرسالة إلى الأمير، قال له: ما نعمل به. إنما أراد الله. فقال ابن أبي سليمان وغيره: إن المحتسبين لم يكونوا يعرفون بإفريقية، حتى كان سحنون جالساً على باب داره، إذ مر به حاتم الجراوي ومعه سبي من سبي تونس. فقال سحنون لأصحابه: قوموا فأتوا بهم، حتى خلوصهم من حاتم. أتوا بهم وهرب حاتم على برذونه وخرق ثيابه ودخل على الأمير فشكا أمره. فأرسل الأمير إلى سحنون: إنهم أحرار ولا سبي عليهم وقد أطلقتهم. فرد الأمير إلى سحنون لا بد من ردهم. فأبى سحنون، وقال للرسول: قل للأمير جعل الله حاتماً شفيعك يوم القيامة. أقسم عليه ليبلغن ذلك إلى الأمير. ثم قال سحنون: هذا الأسود، يعني حاتماً، يمضي هكذا. فأمر بسجنه، فطرحت عمامته في عنقه، وحمل إلى الحبس، فلحقه معتب، وقال له: يا حاتم لا تلق الشر بين الأمير والقاضي. وأعطاه معتب من عنده سبعة دنانير. فخلى حاتم عن السبي، وأخبر معتب سحنون بذلك، فأمر بإطلاق حاتم من السجن. وحكى ابن اللباد: أن رجلين اختصما إلى سحنون، حلف أحدهما بالطلاق على صاحبه ليستوفي حقه في حائط بينهما. فأمر سحنون بصفع قفاه ثم قال له: لا تحلف بالطلاق. فأرسل إلى رجل يقال له عبد الله البناء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 فسأله هل من يمينه مخرج في الاستقصاء؟ فقال: نعم، بالخاتم والشعرة قال ابن الحداد: كنت يوماً عند سحنون، إذ جاءه رسول الأمير محمد بن الأغلب، يأمره برد النسوة على حاتم. فإنهن له. قال سحنون إن كن إماء فمثل حاتم لا يؤتمن على الفروج. فانصرف ثم رجع. فقال: يقول لك: لا تعبث. ارددهن، كما أمرتك. فقام سحنون على قدميه، وقال: إنما يعبث هو، والله الذي لا إله إلا هو، يعبث، ثلاثاً. والله لا أفعل، حتى يفرق بين رأسي وجسدي. وجاء محمد ابنه، يقول دون ذا. لا تفعل يا أبت. اكتب إليه ولاطفه: فكتب إليه وابنه وقال له حتى فرغ من طبع كتابه. وبعث إليه. فأخذه ابن الأغلب وضرب به الأرض، ثم قال: ما أدري هو علينا أن نحن عليه. واسود وجهه ولم يدخل عليه أحد، إلى بعد العصر. فأذن لأصحابه بالدخول، وقال لهم: ما أظن هذا الرجل يريد بنا إلا خيراً، ونحن لا نعلم. أرسلوا إليه، يرسل إلينا المحتسبة، لنكتب لهم السجلات، حتى يذهبوا بها إلى أقصى عملي، ليأخذوا من يجدوه من الحرائر. فكان ذلك. ولم يرض سحنون حتى فض الكتب التي كتبها لهم، وقرأها، ورضيها. وكتب سحنون إلى أبي زكي البربري: أن يفتش الرفاق فاعترضها، وكشف البراقع. فمن زعم أنه من سبي تونس، رفعه إلى سحنون فأطلق منهم عدة. ولما ثار القويع على محمد ابن الأغلب، قال بعض القواد: اليوم نستمكن من سحنون، إما يخسر دينه، أن دنياه. فقالوا للأمير: سحنون داعية مطاع، فأمره بنصرك على هذا الخارجي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 فبعث فيه الأمير، وأعلمه بالأمر واستشاره في قتاله، وإن يعلم الناس بعرض ذلك عليهم. فقال له سحنون: غشك من دلك على هذا. متى كانت القضاة تشاورها الملوك في صلاح سلطانها. ونهض من عنده. وقال ابن اللباد، عن أبيه: رأيت ابن أبي الجواد بين يدي سحنون، وعليه كساء قرمسي وعمامة. فقال: أصلحك الله بأي قول أخذتني. قاض ينظر منذ ثمانية عشر عاماً. فقال له: من اين، وأين. وقد أخبرني أسد بن الفرات عن مالك، في القاضي يعزل ثم يلي آخر: هل ينظر فيما ينظر فيه. فقال: لأن له في نفسه ما يشغله. وفي رواية فإن الناس اختلفوا. فلو كان للمتولي أن ينظر، لما استقر قضاء ولا صح لأحد. فرد عليه سحنون كلاماً، رده عليه ابن أبي الجواد. فقال سحنون: الدرة. فنزعت عمامته. فقال ابن أبي الجواد: سألتك بالله أن تفعل. فتركه. قال ابن طالب: اشغلني معنى قول سحنون لابن أبي الجواد أضربك حتى تقول أؤدي. قال وسألت معنى قول سحنون لابن أبي الجواد أضربك حتى تقول أؤدي. قال وسألت عنها ابنه وابن عبدوس، فكلهم وقف، حتى بان لي أن معناه: أنه كان أظهر العدم. وكان عند سحنون ذلك. فضربه ليرجع إلى الحق ولم يقبل منه ما جاد إليه، من أداء زوجته عنه. اذلوا كان كما زعم عديماً ما لزمه أداء شيء ولا أدى غيره هذا معنى قول ابن طالب. وعندي أنا: أن امتناعه لقول زوجته: أفديه. وقوله: حتى يقرأ أنه المال أو بدل منه، وإباء ابن أبي الجواد من هذا، فقه حسن دقيق، وحجة بينه لسحنون. إذ مضمون فعله وفصل زوجته، فداء له، من مظلمة نزلت به. وإنه بحكم المضغوط الذي لا يلزمه ما بذله. فلم ير إطلاقه، بهذا الوجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وذكر أنه لما مات من ضربه في السجن، توسوس سحنون، وحفظ عنه، أنه كان يردد: ما أنا قتلته. الحق قتلة. ولو كان على ما ذهب إليه، ابن طالب، لكن من أدى عنه كمال وهب له. يقضي به دينه، فلا يكون حكمه بحكم العديم. وقد جاء في كتاب سحنون إلى محمد بن زياد، قاضي قرطبة، يأمره بالشد والمعاقبة لمن تفالس، وتكرار الأدب والضرب عليه، حتى يؤدي أو يموت. قال أبي: وبذلك أخذت في ابن أبي الجواد، ضربته أربعاً وعشرين، ومائة درة. وأوقفته يوم الجمعة للناس في صحن الجامع. وسوف أضربه أبداً، حتى يؤدي تحت الدرة أو يموت. وقال ابن أبي الحارث قيل لسحنون: هذا منصور دخل من تونس بالحرائر. فركب وانتزع منه ما بيده، فدخل منصور على ابن الأغلب وقد شق ثوبه، وذكر إليه ما نزل به، فأرسل ابن الأغلب إلى سحنون، أن تصرفهم على منصور مرة وثانية وثالثة. فقال: لا أفعل. وأقبل ابن الأغلب حتى دنا من موضع سحنون، وضربت له قبة، نزل فيها، وقد استشاط غيظاً لمصارمته إليه، على منصور، ودعا فتى قال له: اذهب إلى سحنون فقل له: فاردد السبي على منصور، وإلا فأتني برأسه. فجاء الفتى إلى سحنون يبكي ويتضرع ويقول له: أمرت فيك بعظيم. فأخذ سحنون ورقاً فكتب فيه بعد الاسم: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى لنجاة وتدعونني إلى النار ..... الآية. ودفع الكتاب للفتى، ثم قال: ادفعه لابن الأغلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 فلما قرأه أمره برفع مضربه، واحتجب ثلاثاً. ثم قال لمنصور: سلني عما شئت من حوائجك، واعرض عن خبر سحنون. وكان ابن الأغلب يقول في قضيته مع سحنون أن سحنون لم يركب لنا دابة ولا عقل كمه بصرة. فهو لا يخافنا. وذكر بعضهم، أن بعض قواد بني الأغلب، انصرف من بعض الحروب بعدد حرائر. فأرسل سحنون إلى جميع البوادي، في الصوفية، فاجتمع إليه نحو من ألف رجل. فقالوا: مرنا بما شئت. فقال: تخيروا منكم مائة رجل، فكونوا عنده إلى المغرب. ولا يعلمون غرضه. فلما صلى بهم، قال لهم: تمضوا إلى دار فلان، فتضربوها عليه، فإذا فتح أبلغوه سلامي، وإن يخرج الحرائر اللواتي أتى بهن من الجزيرة الساعة. ولا تجعلوا له إلى غلق الباب سبيلاً لئلا يخرج هو، ومن معه، فيدافعكم ويفضي الأمر إلى إراقة الدماء. وإن هو لاطفكم ومانعكم، فاشغلوه حتى يلج سبع مشائخ منكم، حتى تنتهوا الباب ألأوسط، وتنادوا .... بهن، اين الحرائر المسبيات بالجزيرة يخرجن إلى القاضي. فإذا خرج جميعهن أتيتم بهن، وتركتموه. ففعلوا ما أمرهم به، فلما ابى عليهم قبضوا عليه، حتى أخرجهن الشيوخ كما حده سحنون لهم، وحملوهن إلى سحنون. فركب القائد إلى القصر، فوجد الأبواب مغلقة. فبات هناك حتى أصبح ودخل على ابن ألأغلب، وقد شق ثيابه ونتف لحيته، وأخذ في البكاء. فسأله، فأخبره، فأنكر ذلك، ووجه فتى إلى سحنون يأمره بردهن له. فقال له سحنون: قل له والله الذي لا إله إلا هو إن أخرجتهن من داري، حتى تعزلني عن القضاء، ويعلم الله أنه لا نظر لي على رجلين من المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ثم وجه ابنه محمد بسجله مع الفتى إلى الأمير، وقال: قل له هذا سجلك، وجعل الله فلاناً شفيعك يوم القيامة. فوصلا إليه، وأبلغاه ما قال. فقال محمد: هذا سجلك بعث به لتولي أمور المسلمين من تراه. فقال أبو العباس: اقرأ على أبيك السلام، وقل له: جزاك الله عن نفسك وعنا وعن المسلمين خيراً. فقد أحسنت أولاً وآخراً. ونحن نرضي قائدنا من أموالنا. وامض على أحسن نظرك. فبلغ ذلك سحنون واجتمع إليه وجوه الناس وأهل الخير، وشكروا فعله. فقال لهم: إن الله قد أحب الشكر من عباده، فتقدموا إلى باب الأمير واشكروه على تأييد الحق، ففي ذلك صلاح الخاصة والعامة. ففعلوا ذلك. قال سليمان بن عمران: ودخل سحنون على محمد بن الأغلب يشكو إليه، رفع الخصوم عن بابه إلى باب الطبني شريكه في القضاء. وذلك، أن ابن الأغلب لما لم يمكنه عزل سحنون، لمكانه من قلوب الناس، وقصده من تحامل رجاله وضيق عليهم، ولي الحكم معه الطبني، رجلاً جافياً جاهلاً. مضادة لسحنون. فكان يرفع الخصوم عن بابه، إلى الطبني، فلما ذكر ذلك لمحمد بن الأغلب قال له محمد: ما عندي من هذا علم. ثم التفت إلى بعض جلسائه، فقال أعندك من هذا علم؟ قال: لا. فضرب سحنون بيده على لحيته. وقال بتلعب بي وأنا إمام في العلم منذ ستين سنة. وهذا يشهد لي. يريد بن عمران. فقلت: وما حاجتك إلى ذلك؟ أدركت الناس بمصر يتمنون أن لو كنت فيه. وأسمعه يعقوب بن المضار! كلاماً غليظاً فيما ينفذه من لحق عليهم، بحضرة ابن الأغلب، فقال له سحنون: أين أنت من هذا القول، إذ جيء بك، وفي عنق يعقوب حبل كالكلب، ثم خرج سحنون، فقال يعقوب، للأمير: شيخ من مشائخك وعم من أعمامك يفعل بي سحنون بين يديك مثل هذا؟ ولا يرى لمجلسك حرمة! فقال ألأمير لأصحاب الأعمدة: لو قتلتموه ما كنت أصنع بكم؟ فعافاه الله. ولما رأى سحنون حال الطبني، وفهم المراد، لزم داره مدة. وترك الجامع. وكان الطبني يحكم في الجامع، وحبيب أيضاً صاحب مظالم سحنون ينظر. إلى أن بلغه أن الطبني مد يده إلى بعض أصحابه. فخرج سحنون إلى الجامع، وسمع بذلك الناس، فأتوا إليه من كل جهة. فخرج الطبني من الجامع إلى داره. فكان ينظر في داره، وسحنون في الجامع على عادته، نحوا من أربعين يوماً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وكتب زيادة الله ابن الأغلب إلى علماء أفريقية، يسأله عن مسألة، فأخبروه، إلا سحنون. فعوتب في ذلك. فقال: أكره أن أجيبه، فيكتب إلي ثانية، اشتغال لمعرفة ألأمراء. فقال له إبراهيم بن عبدوس، في مثلها: اخرج من بلد القوم، أمس لا تصلي خلف قاضيهم. واليوم لا تجيب في مسألتهم. فقال سحنون: أجيب رجلاً يتفكه بالدين، ولو علمت أنه يقصد الحق، أجبته. وذلك قبل قضائه. يق عليهم، ولي الحكم معه الطبني، رجلاً جافياً جاهلاً. مضادة لسحنون. فكان يرفع الخصوم عن بابه، إلى الطبني، فلما ذكر ذلك لمحمد بن الأغلب قال له محمد: ما عندي من هذا علم. ثم التفت إلى بعض جلسائه، فقال أعندك من هذا علم؟ قال: لا. فضرب سحنون بيده على لحيته. وقال بتلعب بي وأنا إمام في العلم منذ ستين سنة. وهذا يشهد لي. يريد بن عمران. فقلت: وما حاجتك إلى ذلك؟ أدركت الناس بمصر يتمنون أن لو كنت فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 وأسمعه يعقوب بن المضار! كلاماً غليظاً فيما ينفذه من لحق عليهم، بحضرة ابن الأغلب، فقال له سحنون: أين أنت من هذا القول، إذ جيء بك، وفي عنق يعقوب حبل كالكلب، ثم خرج سحنون، فقال يعقوب، للأمير: شيخ من مشائخك وعم من أعمامك يفعل بي سحنون بين يديك مثل هذا؟ ولا يرى لمجلسك حرمة! فقال ألأمير لأصحاب الأعمدة: لو قتلتموه ما كنت أصنع بكم؟ فعافاه الله. ولما رأى سحنون حال الطبني، وفهم المراد، لزم داره مدة. وترك الجامع. وكان الطبني يحكم في الجامع، وحبيب أيضاً صاحب مظالم سحنون ينظر. إلى أن بلغه أن الطبني مد يده إلى بعض أصحابه. فخرج سحنون إلى الجامع، وسمع بذلك الناس، فأتوا إليه من كل جهة. فخرج الطبني من الجامع إلى داره. فكان ينظر في داره، وسحنون في الجامع على عادته، نحوا من أربعين يوماً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وكتب زيادة الله ابن الأغلب إلى علماء أفريقية، يسأله عن مسألة، فأخبروه، إلا سحنون. فعوتب في ذلك. فقال: أكره أن أجيبه، فيكتب إلي ثانية، اشتغال لمعرفة ألأمراء. فقال له إبراهيم بن عبدوس، في مثلها: اخرج من بلد القوم، أمس لا تصلي خلف قاضيهم. واليوم لا تجيب في مسألتهم. فقال سحنون: أجيب رجلاً يتفكه بالدين، ولو علمت أنه يقصد الحق، أجبته. وذلك قبل قضائه. ذكر محنته قال غير واحد من العلماء بالأثر: كان سحنون قد حضر جنازة. فتقدم ابن أبي الجواد، الذي كان قاضياً قبله. وكان يذهب إلى رأي الكوفيين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 ويقول بالمخلوق. فصلى عليها. فرجع سحنون ولم يصل خلفه، فبلغ ذلك الأمير زيادة الله. فأمر بأن يوجه إلى عامل القيروان، يضرب سحنون خمسمائة سوط. ويحلق رأسه ولحيته. فبلغ ذلك وزيره علي بن حميد. فأمر الوزير أن يتوقف، ولطف حتى دخل على الأمير وقت القائلة، وقد نام. فقال له ما شيء يلغني في كذا. قال: لا تفعل. فإ، العكي إنما هلك في ضربه للبهلول بن راشد. فقال: وهذا مثل البهلول. قال: نعم. وقد حبست البريد شفقة على الأمير. فشكره، ولم ينفذ أمره. وبينما سحنون يقرأ للناس، إذ أتاه الخبر بما أزاح الله عنه. وقيل: لو ذهبت إلى علي بن حميد فشكرته. قال: لا أفعل. قيل له: لو وجهت ابنك لذلك، فأبى. قيل: فاكتب إليه. فأبى. قال: ولكني أحمد الله الذي حرك علي بن حميد، لهذا. فهو أولى بالشكر، وأقبل على إسماعه. فقال له قوم من أصحابه: لهذا والله كتب اسمك بالحبر على الرقرق. قال ابن وضاح: كنت عند سحنون، فجاءه إنسان، فساره بشيء، فتغير لونه، ثم جاءه آخر فساره، فرجعت إليه نفسه. ثم قال: لم أبلغ أنا مبلغ من ضرب. إنما يضرب مثل مالك، وابن المسيب. ولما ولي أحمد بن الأغلب الإمارة، وأخذ الناس بالمحنة بالقرآن، وخطب به بالقيروان، توجه سحنون إلى عبد الرحيم الزاهد بقصر زياد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 فاراً. فكان عنده. فوجه في طلبه إلى هناك رجل، يقال له، ابن سلطان، وكان مبغضاً في سحنون، فظاً غليظاً. أختاره في ذلك في خيل، وجهها معه. فلما وصل إلى سحنون، قال له ابن سلطان: وجهني الأمير إليك، وقصدني فيك لبغضي فيك، لأبلغ منك، وقد حالت بغيتي عن ذلك. وأنا ابذل دمي دون دمك، فاذهب حيث شئت من البلاد، أو أقم، فأنا معك. فشكره سحنون، وقال له: ما كنت أعرضك لهذا. بل اذهب معك، وخرج، فشيعه أصحابه. فقال عبد الرحيم للرسول: قل للأمير أوحشتنا من صاحبنا وأخينا في هذا الشهر العظيم. وكان شهر رمضان، سلبك الله أنت فيه وأوحشك منه، وفي رواية: عرضتني في ضيفي، فو الله لأعرضنك على رب العالمين. فلما وصل الأمير جمع له قواده، وقاضيه ابن أبي الجواد وغيره. وسأله عن القرآن، فقال سحنون: أما شيء أبديته في نفسي فلا. ولكني سمعت من تعلمت منهم، وأخذت عنهم، كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقال ابن أبي الجواد: كفى فاقتله، ودمه في عنقي. وقال غيره: مثله. ممن يرى رأيه. وقال بعضهم: يقطع أرباعاً، ويجعل كل ربع بموضع في المدينة. ويقال ها جزاء من لم يقل بكذا. فقال الأمير لدواد بن حمزة: ما تقول أنت؟ قال: قتله بالسيف راحة. ويقال قائل هذا، علي بن حميد والحضرمي. ورجال أهل السنة من أصحاب السلطان، ولكن قتل الحياة. نأخذ عليه الضمناء، وينادي عليه بسماط القيروان: لا يفتي. ولا يسمع أحداً، ويلزم داره. ففعل ذلك. وأخذ عليه عشرة حملاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ويقال أن ابن أبي الجواد: هو الذي أمر بأخذ الحملاء عليه، حتى يتبين عليه، فرجع، ففعل ذلك وأمر الحرس أن يأخذوا ثياب من دخل عليه. قال سهل فدخلت عليه، ومعي دراهم أشتري بها ثيابي من الحرس، إن يأخذوا. فعافاني الله. فقلت: البدعة فاشية، وأهلها أعزاء. فقال: أما علمت أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهراها. قال جبلة: ولما قرب سحنون في قصته هذه من القصر، لقيه في الموالي رجل سكران، على برذون، بيده قناة فأدخلها بين رجلي برذون سحنون، ليثب بسحنون ليقتله، فتحامل برذون السكران به، وقفز. فدخل زج القناة في صدر المولى. فمات وسلم سحنون. وقيل: بل الأمير أوصى إنساناً بركوب بغل شموس، وقال له اصدم به سحنون بعد أن تحميه، فلعل الله يريحنا منه. فلما قرب سحنون من القصر، فعل الرجل ما أمر به، فطرحه البغل الشموس فمات. وكان في طريقه نزل تحت شجرة، والرسول الذي جاء به تحت أخرى، فأتى رجل إلى سحنون بقصعة ثريد، عليها دجاجة، فأكل سحنون ولم يدع الرسول. فعاتبه في ذلك، وقال له: أحسنت صحبتك، وتفعل هذا معي. فقال له سحنون: ليس في السنة أن أدعوك إلى طعام غيري، ولو كان لي لفعلت. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: ما قال سحنون صواب. ولكن لا أدري لم يستأذن. ربّ الطعام في أكله معه، كما فعل عليه الصلاة والسلام. ولعله فعل ذلك، ولم يأذن له. والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وفي هذا الخبر قال: كان سحنون يقول في طريقه: الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم ... الآية. وحكى، أنه لما دخل سحنون على ابن الأغلب، قال له سحنون: قد كنت خائفاً، حتى دخلت عليك. فأمنت بالله. وكان ابنه محمد، قد توارى معه. فلما أتى باب القصر، نفر الشرط إلى انتهابه، فأخذ لجام دابته، فلما دخل على الأمير قال له: تكلم. فقال: إنما يتكلم من معه عقله، وأما أنا فقد ذهب. فسأله، فأعلمه بما جرى عليه. فأمنه. وأمر بصرف لجامه. قال ابن وضاح: دخلت مصر، فلقيت الحارث بن مسكين، فسألني عن سحنون، فقلت له: إنه مغموم من قبل الأمير. فقال الحارث: قال الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله عبداً سلط عليه من يؤذيه. ال: كان سحنون يقول في طريقه: الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم ... الآية. وحكى، أنه لما دخل سحنون على ابن الأغلب، قال له سحنون: قد كنت خائفاً، حتى دخلت عليك. فأمنت بالله. وكان ابنه محمد، قد توارى معه. فلما أتى باب القصر، نفر الشرط إلى انتهابه، فأخذ لجام دابته، فلما دخل على الأمير قال له: تكلم. فقال: إنما يتكلم من معه عقله، وأما أنا فقد ذهب. فسأله، فأعلمه بما جرى عليه. فأمنه. وأمر بصرف لجامه. قال ابن وضاح: دخلت مصر، فلقيت الحارث بن مسكين، فسألني عن سحنون، فقلت له: إنه مغموم من قبل الأمير. فقال الحارث: قال الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله عبداً سلط عليه من يؤذيه. ذكر بقايا فضائل سحنون وتقاه وخوفه وزهده وتحريه في الفتيا وعبادته وفقر من كلامه ووصاياه وأخباره قال محمد بن أحمد بن تميم: كان الذين يحضرون مجلس سحنون من العباد أكثر من يحضره من طلبة العلم، كانوا يأتونه من أقطار الأرض. قال بعض أصحابه: عرست فدعوت ليلة عرسي جماعة من أصحاب أصحابنا وفيهم رجل من أهل المشرق، من أصحاب حنبل، قدم علينا. وكنا نسمع منه. فكان أصحابنا في أول الليلة في قراءة وبكاء، وتعبد وخشوع ثم أخذوا بعد ذلك في مسائل العلم، ثم ابتدروا بعد ذلك إلى زوايا بالدار، يصلون أحزابهم. فقال الشيخ: أصحاب من هؤلاء، ومن معلمهم؟ فوالله ما رأيت قط أقبل منهم، وما صحبوا رجلاً إلا نبلوه. فقال: أصحاب سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 فقال: والله لقد رأيت العلماء عندنا بالمشرق، فوالله ما رأيت مثل هؤلاء. قال ابن عجلان الأندلسي: ما بورك لأحد بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بروك لسحنون في أصحابه، إنهم في كل بلد ائمة قال ابن حارث سمعتهم يقولون كان سحنون من أيمن العلماء؟ دخل المغرب، كأن أصحابه مصابيح، في كل بلدة، عدّ له نحو سبعمائة رجل، ظهروا بصحبته وانتفعوا بمجالسه، وسمعتهم يقولون: كان سحنون أعقل الناس صاحباً وأفضل الناس في باب الدين صاحباً، وأفقه الناس صاحباً. وقام سحنون بقصر زياد مرابطاً، خمسة عشر يوماً من رمضان. وحكى ابن اللباد، إن سحنون قال لأبنه محمد: يا بني، سلم على الناس، فإن ذلك يزرع المودة. وسلم على عدوك وداره، فإن رأس الإيمان بالله المداراة بالناس. وحكى المالكي أنه نقب بيت سحنون وهو قائم في تهجده، وأخذ ما كان في البيت، وهو لا يشعر، ثم أخذت القلنسوة من رأسه، فلم يلتفت لشغله بما كان فيه، وجيء إليه للصلاة على مقتول، فقال لم تحضرني نية. فأتى آخرون فقالوا له: فلان أصلحك الله، قتل وطرح في بئر، وقد أخرجناه، فصّل عليه. فقال: ومن قتله؟ قالوا: هذا المقتول الذي سئلت قبل الصلاة عليه. فصلى سحنون على هذا. وكانت منه فراسة. قال سليمان بن سالم: أتى رجل من صطفورة فسأل سحنون عن مسألة، وتردد عليه. فقال له: أصلحك الله مسألتي في ثلاثة أيام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 فقال له: وما أصنع لك؟ ما حيلتي في مسألتك؟ نازلة معضلة، وفيها أقاويل، وأنا أتخير في ذلك. فقال الرجل الصطفوري: وأنت أصحك الله لكل معضلة. فقال: هيهات، ليس يا ابن أخي. فقولك أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف، إن صبرت رجوت إن تنقلب بمسألتك، وإن أردت غيري فامضِ، تجاب عن ساعة. فقال: إنما جئت إليك ولا أبتغي غيرك. قال: فاصبر عافاك الله. ثم أجابه بعد ذلك. وأرسل أسد بن الفرات وهو قاض إلى سحنون، وعون وابن رشيد وموسى الصمادحي، فسألهم عن مسألة في الأحكام، فأجاب فيها ابن رشيد وعون، وأبى فيها سحنون عن الجواب. فلما أخرجوا عذلاه في تركه. فقال لهما: منعني إنكما بدرتما بالجواب فأخطأتما، وكرهت إن أخالفكما فندخل عليه إخواناً ونخرج أعداء، وبيَّن لهما وجه خطأهما. فجزياه خيراً، واعترفا. ورجع إلى أسد، فأخبراه برجوعهما. قال القاضي: لعل سحنون عدل على ما عرف من فضلهما، من أنهما إذا بين لهما وجه خطأهما رجعا، فأعلم أسداً برجوعهما كما فعلا. وإن الحكم، كان بعد لم يحن وقت نفوذه. وإلا فهو في فضله وورعه كان لا يسكت على مثل هذا، إلا رجاء أن يستبين الحق بلا تعلة، ولا مخالفة. قال سحنون: أجراً للناس على الفتيا، أقلّهم علماً. يكون عند الرجل باب واحد من العلم، فيظن أن الحق كله فيه. قال سحنون: إني لأسأل عن المسألة، فأعرف في أي كتاب وورقة وصفحة وسطر، فما يمنعني عن الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتيا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 قال سحنون: وأنا أحفظ مسائل ما فيه ثمانية أقاويل من ثمان أئمة. فكيف يسعني أن أعجل بالجواب، حتى أتخيّر، وهو الأمر في حبس الجواب، أو كما قال، عبد الجبار بن خالد، قال رجل من الطلبة لسحنون: جئت اليوم ولم أسمع منك شيئاً. فقال له: إن كنت في وقت خروجك ممن شيعته الملائكة، فقد سمعت، وإن لم تسمع. وإن كنت ممن لم تشيعه، فلم تسمع، وإن كنت سمعت. قال عيسى: قلت لسحنون تأتيك المسائل مشهورة مفهومة، فتأبى الجواب فيها. فقال سحنون: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال. قال يحيى بن عمر: لما قدمت إلى سحنون فسألت عنه، فقيل لي خرج إلى البادية، فجئته، فرأيت رجلاً أشعر عليه جبة صوف ومنديل، وهو متول حرثه وشأنه، فاستصغرته وندمت على تركي من تركت بالمشرق، ومجيئي إليه. وقلت ما أراه يحفظ شيئاً من العلم. فرحب بي. فلما جالسته في العلم رأيت بحراً لا تكدره الدلاء، والله العظيم، ما رأيت مثله قط. كأنما جمع العلم عينيه في صدره. اً من العلم. فرحب بي. فلما جالسته في العلم رأيت بحراً لا تكدره الدلاء، والله العظيم، ما رأيت مثله قط. كأنما جمع العلم عينيه في صدره. قال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيه. فيسأل عنه، فيقال: هو عند الأمير، هو عند الوزير، هو عند القاضي، فإن هذا وشبهه شرٌّ من علماء بني إسرائيل. وبلغني إنهم يحدثونهم من الرخص ما يحبون، مما ليس عليه العمل، ويتركون ما عليه العمل، وفيه النجاة، لهم، كراهة أن يشتغلوهم. ولعمري لو فعلوا ذلك لنجوا، ووجب أجرهم على الله، فوالله لقد ابتليت بهذا القضاء، وبهم. ووالله ما أكلت لهم القمة، ولا شربت لهم شربة، ولا لبست لهم ثوباً، ولا ركبت لهم دابة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وما أخذت لهم صلة. وإني لأدخل عليه، فأكلمهم بالتشديد، وما عليه العمل وفيه النجاة. ثم أخرج عنهم، فأحاسب نفسي، فأجد عليّ الدرك مع ما ألقاهم به في الشدة والغلظة، وكثرة مخالفتي هواهم، ووعظي لهم. فوددت أن أنجو مما دخلت فيه كفافاً. وقيل له: إن يعقوب بن المضار لا يحبك فقال: الحمد لله، الذي لم يجمع حبي وبغض أبي بكر وعمر في قلب واحد قال سليمان بن سالم: رأيت سحنون إذا قرىء عليه الكتاب الجهاد لابن وهب. وكتاب الزهري، يبكي حتى تسيل دموعه على لحيته. وقال مرة لرجل: اقرأ علي: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة ... فقرأها. فلما بلغ: فستذكرون ما أقول لكم ... قال: حسبك. وهو يبكي. قال بعضهم: خرج سحنون وابن رشيد وابن الصمادحي إلى المنستير، ومعهم ابن نعيم، قال: نظرت إلى سحنون تسيل دموعه على لحيته. ثم سكت الفتى فقال سحنون: يرتجي أن يرتفع صوته، لو كان من يقول له، له. قال بعضهم: دخلت على سحنون وفي عنقه تسبيح يسبح به. قال حبيب: قال سحنون يتمثل بهذه الأبيات: كل شيء قد أراه نكراً ... غير وكزا الرمح في ظل الفرس وقيام في حناديس الدجا ... حارساً للقوم في أقصى الحرس وحكي الإيباني، عن سحنون، إنه قال في الحديث: فيمن أخاف أهل المدينة، قال: ليس هم سكانها، بل كان من قال بقولهم، حيث كان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 قال المؤلف رحمه الله تعالى. أراه والله أعلم فيمن كان على سنتهم وهديهم. وهم جماعة المسلمين. قال ابن وضاح: وكان إنسان يشرب قريباً من سحنون ويغني، ولم يغير عليه، فلما قدمت الأندلس، ابتليت بمثله، فأردت رفع أمره، ثم تذكرت أمر سحنون، فاقتديت به، وصبرت. ثم لقيت سحنون بعد ذلك، فلم أسمع جاره ذلك بعد، فسألته عنه، فقال لي: ماذا حملت منه، ولقد كفانيه الفقر، وها هو مؤذن في المسجد. وكنت أقدر أن أغير عليه، وأكلم السلطان فيه، فخشيت أن يحملني في ديني ما هو أضر مني، فرأيت أن أصبر حتى لا يكون السلطان علي منة. قال إبراهيم بن محمد بن باز: كنت أقرأ كتاب الهبات، من النذور على سحنون. فمرت مسألة في الكتاب كان في جانب كتابي فيها كلام لأصبغ، فقرأته على سحنون. فقال: إيه. فظننت إنه استفادني. فقلت له: قال: أصبغ. فقال: إيه. فأعدت، فنظر إليّ، وقال: من جرأك علي؟ قلت أصلحك الله، كذا هو في حاشية كتابي. وحدثني بها سعيد بن حسان عن أصبغ. فقال لي: تكذب. سعيد بن حسان أعلم الله. يا أهل الأندلس، ما تبالوا عمن تأخذون دينكم. قم والله لا قرأت لكم حرفاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 منها. فلما كان بعد أيام، لم نشعر إلا وسحنون واقف على بيتي، عليه فروة وبيده عصا، فقال: السلام عليكم، أي شيء تكتب؟ فرددت عليه السلام وقلت له: أكتب كتاباً من المدونة. فقال لي يا أهل الأندلس: أنا أحبكم لأنكم قوم سنة، وخير. ثم مضى، فجئناه يوماً ثانياً، وكنت أنا القارىء عليه، وأخذتني زكمةٌ فربطت رأسي، وجلست ناحية، فلما اجتمعنا قال: أين ذا؟ قال: اقرأ. فقلت: عرض لي شيء، قال اقرأ كما أقول لك. قال واستأذنه رجل أن يبني قنطرة، يجوز عليها الناس إلى دار سحنون، فأبى سحنون، لأن كسبه كان من بلدان السودان. وكان لا يشرب من المواجل التي يبينها السلاطين تورعاً. ويفتي بجواز ذلك. ويقول: إنما هي حجارة جمعوها، ساق الله إليها الماء. وقال بعض أصحابه: خرج سحنون يوماً على أصحابه للسماع، مغضباً، على وجهه كآبة. إذ جاءه رجل بدوي، وفي رواية غلام له، فساره بشيء، فضحك سحنون. وأمر بالقرآن. ثم قال لأصحابه: إنا أصبنا في عامنا هذا ثمرة كثيرة، وزرعاً، ولم أصب بمصيبة. فخفت أن أكون سقطت من عين الله تعالى. وإن هذا جاء فأخبرني أن أجود جمالي مات؟ فسررت بذلك وعرفت أن الله ذكرني. ويخلف ما ذهب. وأهلك الريح مائة وخمسين شجرة. قال أحمد بن أبي سليمان: كان العلماء يأكلون طعام علي بن حميد الوزير، خلا سحنون وولده. فلم يكن يأتيهم، ولا يأكل طعامهم. ورغبوا إليه في تحرك ولده، فقال أخشي أن أعودِّهم عادةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 قال أحمد بن سليمان: كنا يوماً جلوساً عنده، إذ جاء غلام بدرهم ونصف فضة، باع له له زيتوناً. فقال: أحمد الله زيتوننا، وغلامنا ودابتنا. ثم رمى بها، وقال لنفسه: يا شقيّة، تدري ممن باعها لك. قال ابن معتب: كان سحنون يتصدق على الرجل الواحد، بالمال الذي تجب فيه الزكاة. الثلاثين ديناراً، أو أكثر. قال عبد الله بن سعيد الصائغ: دفع سحنون يوماً لرجل صرّة دنانير، وهو في بيته. ثم قال له: اذهب، فأول من تلقاه ادفعها إليه. فجعل الرجل يتخلل الأزقة إذ برجل عليه ثوب أبيض وتحته شيء يحمله، فدفع إليه الصرّة، فلما أخذها ألقى الذي بيده. وقال: هي ميتة، كانت لنا حلاً فحرمت الآن علينا. فكانت فراسة من سحنون. قال حمديس: دخلت عليه يوماً، وهو يأكل خبزاً، يبله في الماء ويغطسه في الملح، فقال: أما أني لم أكله زهادة في الدنيا، ولكن لئلا أحتاج إلى هؤلاء، فأهون عليهم. ثم صاح بجارية، فأتت بصرة فيها عشرون ديناراً. فقال: ادفعه لثلاثة رجال صالحين، ممن يسكن عندكم، فإن لم تجد ثلاثة، فإلى اثنين فإن لم تجدهما، فإلى واحد. قال العنبري: كانت غلة سحنون في زيتونه، خمسمائة دينار في السنة. فما تنقضي السنة إلا والديون عليه لكثرة صدقته ومعروفه. فصول في حكمه وكلامه كان سحنون، يقول: ليس للأمور بصاحب، من لم ينظر لها في العواقب، وكان يقول: ترك الحلال لله أفضل من أخذه. وترك الحلال لله، أفضل من أخذه وإنفاقه، في طاعة الله. وقال: ترك دانق مما حرم الله، أفضل من سبعين ألف حجة، تتبعها سبعون ألف عمرة، مبرورة متقبلة، وأفضل من سبعين ألف فرس، في سبيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الله، بزادها وسلاحها. ومن سبعين ألف بدنة يهديها إلى بيت الله العتيق، وأفضل من عتق ألف رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل. فبلغ كلامه هذا لعبد الجبار بن خالد، فقال: نعم. وأفضل من ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً أو فضة، كسبت وأنفقت في سبيل الله. لا يرد بها إلا وجه الله. وكان سحنون يقول: مثل العلم القليل، في الرجل الصالح، مثل العين العذبة في الأرض العذبة، يزرع عليها صاحبها ما ينتفع به. وكان يقول: انظر أبداً الأمرين، يكون فيها الثواب، فأثقلهما عليك، هو أفضل. وكان يقول: كلّ دابة، تعمل على الشبع إلا ابن آدم، إذا شبع رقد. وقد قال مالك: ألا أدلكم على درّ، بلا ثمن؟ قيل: وما هو؟ قال: هو صر الجوع في كمك. وكان سحنون إذا ضاق عليه أمر، يقول: ضيقي تنفرجي يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. وكان سحنون يقول: من لم يعمل بعلمه، لم ينفعه العلم. وروى عنه عيسى ابن أيوب، أنه قال: إذ تردد على القاضي ثلاث مرارٍ بلا حاجة، فلا تجوز شهادته. وكان سحنون يقول: من لم يعمل بعلمه، لم ينفعه العلم، بل يضره. وإنما العلم نور يضعه الله تعالى في القلوب. فإذا عمل به نوّر الله قلبه. وإن لم يعمل به، وأحب الدنيا، أعمى حبٌّ الدنيا عليه. ولم ينوّره العلم، وكان سحنون إذا رأى إعراض الجهال عن العلماء يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 لمنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في رأي هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه باب ذكر كرمه وجوده قال محمد بن عبد الله الرعيني: لما سرت إلى الغزو إلى صفاقس مع سحنون فتح لنا مطمورة شعير، لعلف دوابنا، فما كنا نأخذ منها بكيل، سماحة منه في ذات الله. قال غيره: وفدى سحنون يومئذ أسارى المسلمين، وظن أن الأمير يعطيه ما فداهم به. وأخذ سحنون الأموال التي فداهم بها سلفاً. فلما قدم على الأمير أبى أن يعطيه الفدى، فألزم سحنون الأسارى. فأمروا به. وقال لهم: قد كنتم عبيداً للعدو، ولا تملكون من أموالكم ولا تأمنون الفتنة على دينكم، فمن أعطى تركته، ومن أبى حبسته. قال أبو داود القطان: باع سحنون زيتوناً له، بنحو ثلاثمائة دينار، ودفع ذلك إليّ، فكان يبعث إليّ البطائق يتصدق من ذلك المال، إلى أن نفد، فأتيته بتلك البطائق ليحاسبني عليها، فقال لي: بقي من المال شيء؟ فقلت: لا. فرمى البطائق، ولم يحاسبني عليها، فقال لي: بقي من المال شيء؟ فقلت: لا. فرمى البطائق، ولم يحاسبني. وقال: إذا فرغ المال فلم أحاسبك؟ قال حمديس: ماتت لأبي خادم ثمنها ثمانية وعشرون ديناراً، فعرض علي سحنون ثمنها لأشتري لأبي منه خادماً، فقلت: أنا عن هذا غني. وحكى المالكي عن الجزري، قال: بينما أنا عند سحنون، إذ أتاه رجل، فسأله عن مسألتين أو ثلاثة، ثم قال: ما اليوم وما غد وما بعد غد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 فقال له سحنون مجيباً: اليوم عمل وغداً حساب وما بعد غد جزاء. فلما ولَّى تبعته، حتى دخل المقبرة. فلما خفت فواته، قلت له: بالله قف لي. فقال: ما تريد، أنا رجل من الجانّ، كنت أغشى مجلس أبي سعيد أسأله عن مسائل، فقد حرمتني المسائل، ثم غاب عني، فخطر لي الخروج إلى الحج، فبينا أنا في الطواف إذ جبن بثوبي من ورائي، فالتفت فإذا بالجنيّ، فسلم عليّ وأخبرني بخير من خلقته. ثم قال لي: رأيت الطلبة، يختلفون إلى شيخ، فمضيت إلى الرجل معه، فلما أشرفنا على الجماعة، جبنني الجني بثوبي، وقد تغير لونه وقال لي: هذا إبليس، والله لو رآني لقتلني. قلت له: فما العمل؟ قال: ارجع فالطمه للرأس، وقل له: يا لعين، يا ملعون. إيش أتى بك ها هنا؟ ففعلت. فاضمحل حتى صار مثل الدخان وأخبرت الطلبة بالقصة، فعجبوا وخرقوا ما كتبوا عنه. وحكى ابن اللباد هذه الحكاية وزاد في أولها: كان فتى يغشى مجلس سحنون، ذا سكينة وصمت، لا يتكلم. فإذا كان آخر المجلس، سأله عن ثلاث مسائل أو أربعة أو نحوها. ويستغرب لا يعرفه أحد من الطلبة، فشغل أحد الطلبة نفسه به، وأتبعه حتى خرج، وذكر الحكاية، وفيها زيادة ألفاظ، وفيها: وها هنا قوم من صالحي الجن فهم يرسلونني أسأل عنهم، عن دينهم وما يحتاجون إليه. فقد قطعت حظهم من ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وفيها إنه أخبره حين لقيه في الطواف بحال أهله، وولده. وقال له: عهدي بهم بالأمس. فقال له: ها هنا شيطان قد تمثل في صورة شيخ، وحوله جمع يكتبون عنه، فإذا جئته فلا تهبه، وارفع العصا عليه. وذكر تمام الخبر بمعناه. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه: وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: إن الشيطان يتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فينصرفون عنه، فيقول الرجل منهم، سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري من هو، وفيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إن في البحر شياطين مسجونة، أوثقها سليمان عليه السلام. يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً. وحكى أبو الحسن القابسي قال: أتى رجل إلى سحنون فجلس، حتى انصرف الناس، فأخذ في البكاء. فسأله سحنون عن سبب ذلك، فذكر له: إنه رأى أمراً استعظمه، فلم يزل به حتى ذكر له، إنه رأى كأن القيامة قد قامت، وحشر الناس، وأتى سحنون فرأى إنه ألقي في النار، بعد أن لقي من الأغلال والنكال أمراً عظيماً، فصبّره سحنون، فأرسل في رؤساء كنيسة النصارى، فجاء إليه منهم اثنان، فسألهم هل مات لكم ميت ممن تعظمونه؟ قالوا: نعم. قال: أفرأيتم له شيئاً؟ قالوا: نعم رؤى كثيرة، ووصفوا فيها من الخير والترفيع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ثم صرفها وقال للرجل: هل تشك أن هؤلاء وميتهم من أهل النار؟ قال: لا. فقال له: إن الشيطان يأتي للمؤمن، بما يثبّطه عن الخير، ويمقت له أهله، ويأتي إلى الكفار بما يغبط إليه حاله ويثبته على كفره، وقد رآك تختلف إلينا فأراد أن يضرك. ورأى سحنون الناس يقبّلون يدا ابن الأغلب، فقال له: لا تعطيهم يدك. لو كان هذا يقرّبك من الجنة ما سبقونا إليه. وستأتي مثل هذه الحكاية في إخبار ابن وضاح إن شاء الله تعالى. ؟؟؟ ذكر وفاة سحنون رحمه الله تعالى ومرائي رؤيت له لم يختلف أن سحنون توفي في رجب، سنة أربعين ومائتين. قال أبو علي: يوم الأحد قبيل نصف النهار، لثلاث خلون منه. وقال غيره: لسبع خلون منه، ودفن في يومه وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب، ووجه إليه بكفن وحنوط، فاحتال ابنه محمد حتى كفّن في غيره. وتصدق بذلك، واستعفى رجال ابن الأغلب من الصلاة عليه. وقالوا: قد علمت ما بيننا وبينه، وأنه يكفرنا ونكفره، لأن أكثرهم كانوا معتزلة، وإنما خرجنا طاعة لك، فإن صلينا عليه رأى الناس أنا رضينا حاله، فأعفاهم. فتقدم فصلى في عبيد، وعامة أهل السنة، وجماعة من المسلمين، وكان سنة يوم مات ثمانون سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 ؟؟؟؟ مولده سنة ستين ومائة. ويقال إحدى وستين. وقال له رجل: يا أبا سعيد، الناس يقولون إنك دعوت الله أن لا يبلغك سنة أربعين ومائتين. فقال: ما فعلت، ولكن الناس يقولونه. وما أرى أجلي إلا فيها. قال أبو بكر المالكي: لما مات سحنون، رجتّ القيروان لموته، وحزن له الناس. قال سليمان بن سالم: لقد رأيت يوم مات سحنون، مشائخ من أهل الأندلس يبكون ويضربون خدودهم، كالنساء. يقولون يا أبا سعيد، ليتنا تزوّدنا منك نظرة، نرجع بها إلى بلدنا. قال بعضهم لأبي بكر الحضرمي: رأيت في نومي رجلاً صعد إلى سماء الدنيا، ثم من سماء إلى سماء، حتى صار تحت العرش. فقال ينبغي أن يكون هذا سحنون. فقال الرائي: هو ذاك. وقيل: إنّ الرائي رأى الحضرمي في النوم، فسأله عنها. ففسرها له بمثل ما ذكرنا. وفي أولها: رأيت باباً فُتح في السماء، ونودي بسحنون فأتي به، فصعد. وقال، آخر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقبوراً، والناس يجعلون على قبره التراب، وسحنون ينبشه. فقال: قل لسحنون هم يدفنون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تحييها. قال عيسى بن مسكين: رأينا في المنام كان سحنون يبني الكعبة، فغدوت عليه فوجدته يقرأ للناس كتاب مختصر المناسك، له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 قال عبد الله بن الخشّاب الأندلسي، وكان ثقة: رأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، يمشي في طريق، وأبو بكر خلفه، وعمر خلف أبي بكر، ومالك خلف عمر، وسحنون خلف مالك، قال ابن وضاح: فذكرتها لسحنون فسر بذلك. وقال غيره: رأيت سحنون في النوم بيده لواء قد بلغ السماء وقد امتلأ الفضاء فراشاً، فكنت أسأل بعض الحضور، فيقال لي: هذا لواء محمد، وهذا الفراش ملائكة. وذكر ابن الحارث: إن رجلاً من أهل طرابلس، كان على بدعة، وفي رواية كان يقرأ كتب أهل العراق، فرأى في النوم كأنه في ماء قد غرق فيه إلى الذقن، ويكاد مع ذلك أن يموت عطشاً، ولا يقدر على الشرب. وفي رواية فإذا شرب صار فيه دماً. فأتاه في تلك الحال، رجل، فسقاه حتى روى. قال فانتبهت وبقيت صورة ذلك الرجل في نفسي، فجعلت أمشي في البلدان وأتأمل في وجوه الناس، لعلي أرى تلك الصفة، حتى رأيت سحنون فعرفته بتلك الصفة، فصحبته وتركت مذهبي، وصرت إلى مذهبه. قال ابن حارث: أقام سؤود العلم في دار سحنون، نحو مائة عام وثلاثين عاماً، من ابتداء طلب سحنون وأخيه، إلى موت ابن أبنه محمد بن محمد بن سحنون. قال أبو الأحوص المتعبد: رأيته في المنام وقد تهيأ للخروج إلى المصلى مع ابنه محمد، فأتيته بثوب أبيض، فقال لي: أما علمت أنا لا نقبل الهدية. فقلت: ليس بهدية، ولكن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أدفعه إليك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 قال لي وأين رسول الله؟ فقلت له: ها هنا، حابس. فما قام سحنون إلا يسيراً، حتى مات. ورأى بعض المتعبدين قائلاً يقول: من أراد أن يشرب من ماء الحيوان فليسمع من سحنون. قال ابن أبي سليمان: رأيت في شأن سحنون، قبل موته، رؤيا فقصصتها على معبر يقال له ابن عياض، فقال: هذا رجل يموت على السنّة، ورثاه عبد الملك الهذلي بقوله كذا ورثاه أيضاً عبد الملك بن فطرن بقصيدة أولها: من يبصر البرق فوق الأفق قد لمعا ... لمّا تسربل ثوب الليل وادّرعا ولّى لعمري بأرض الغرب قاطبة ... ميت له البدو والحضار قد خشعا لله أنت إذا ما هاب فاصلة ... من القضاء بكيل الحد فارتدعا هناك برِّزت يا سحنون منفرداً ... كسابق الخيل لما بان فانقطعا ؟ فاذهب فقيداً حباك الله جنته واحصد من الخير ما قد كنت مزدرعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ؟؟؟ عون بن يوسف الخزاعي أبو محمد من أهل القيروان. قال أبو العرب: كان أسن من سحنون بعشر سنين. قال: وقدمت المدينة سنة ثمان ومائة بعد موت مالك بسنة. فأدركت بها أربعين رجلاً من معلمي ابن وهب منهم عبد الرحمان بن زيد بن أسلم وسمع من المفضل بن فضالة وابن وهب وابن غانم والبهلول وغيرهم. سمع منه ابنه، وبكر بن حماد، وابن طالب، وسليمان بن سالم، وجماعة من أصحاب سحنون وغيرهم. وقال الشيرازي: وبابن وهب تفقه. قال أبو بكر ابن حماد: لما فرغت بقراءة كتب ابن وهب، على عون، قلت يا أبا محمد: ثم قال لي: والله ما أحب أن يعذب الله أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنار. أبطل الله سعيه وصومه وصلاته، وسائر عمله، إن كنت أخذتها من ابن وهب شيئاً إلا قراءة قرأتها عليه. وقرأ هو عليّ، ولو كانت إجازة، نقلت إجازة. ولقد حضرت ابن وهب، فأتاه رجل يلتمس، فقال: يا أبا محمد، هذه كتبك. فقال له ابن وهب: صحت وقوبلت؟ فقال له: اذهب فحدث بها. فقد أجزتها لك. فإني حضرت مالكاً فعل ذلك. قلت يا أبا محمد، وكتاب الأهوال سمعته منه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 قال: لا. حدثني به رجل عنه؟ وكان عون يفرق بين السماع والإجازة. فيقول في السماع حدثنا وفي الإجازة أخبرنا. ذكر فضله وثناء العلماء عليه كان إبراهيم بن محمد بن بان، يفضل عون بن يوسف ويذكر دينه، وكان ابن وضاح يفضله. وكان سحنون يقع فيه، ويعيف الأخذ عنه، ويقول: لم يسمع من ابن وهب، وإنما أخذ عنه إجازة. قال ابن وضاح: كان عون الله خيراً منه، وأتقى لله. قال أبو العرب: كان عون، رجلاً صالحاً، ثقة مأموناً. وكان أحمد بن خالد يعجب به. وكان يبيع الكتان في حانوت ومعه حبة شعير، إذا أعطى الدراهم، جعلها مع المثقال، وإذا أخذها جعلها مع الدراهم. حتى يعطي زائداً بجة ويأخذ ناقصاً بحبة. وكانت عنده قفة تين، إذا جاءه السائل أعطاه تينتين، لا يزيد عليهما ولا يرد سائلاً. وحكى أبو مروان بن مالك الفقيه عنه، إنه قال: كنت أجهر بالقراءة في الليل، فسمعت قراءة جار لي من الجن يقرأ معي في سورة الرعد، وكان ما بينه وبين سحنون فاسداً، وكان الوالي يكره سحنون ويدس من يرفع عليه، فقيل له ما بينه وبين عون، وقد أضرّ به سحنون، فطمع أن يجد السبيل بشهادة عون عليه، فأرسل في عون، فسأله عن سحنون وما يتردد عليه من الشكاية به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 فقال عون: سبحان الله، مثلي يكشف أو يسأل عن سحنون. والله إن سحنون لأفضل أو أخير من أن يسأل مثلي عنه. فزاده ذلك شرفاً. فاندفعوا عنه. قال ابن وضاح: لو لم يكن له غير هذه، وكان يقول: والله إني لأحب أن ألقى الله وأنا طالب، ويقول الخلائق كلهم أعداء بني آدم، والخلائق وبنو آدم كلهم أعداء المسلمين، وجميعهم أعداء أهل السنة. وكان يعود الأصدقاء، ويتعاهدهم، ويعود المرضى. قال ابن حارث: نزلت نزلة أحضر لها ابن الأغلب فقهاء القيروان، فتقدم عون فقال له ابن الأغلب: تقدم يا أبا محمد، فلك السبق والجلالة. ألم يقل مالك كذا؟ ألم يقل؟ وهو يقول: نعم. وحكى عون عن أبي محمد الضرير، قال لي جار من الجن جزاه الله عني خيراً: إني لا أقوم من الليل أقرأ فيسايرني بالقراءة. قال سحنون: وأنا أجد ذلك آخر الليل. قال بعضهم: كان عون شديداً على أهل البدع، قائماً بالسنّة. قال سليمان بن سالم: كنت جالساً عنده إذ جاءه ثلاثة رجال فأخبره أن رجلاً مات عندهم، يقول بخلق القرآن. فقال: إن وجدتم من يكفيكم مؤونته، فلا تقربوه. فسكتوا. ثم سألوه ثلاثاً. قال ذلك، يجيبهم بمثله، فقالوا: لا نجد. قال اذهبوا فواروه من اجل التوحيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 ؟؟؟ وفاته ومات يوم الأحد ثاني جمادى الأولى، سنة تسع وثلاثين ومائتين، قبل وفاة سحنون بنحو عام، على ما قاله العرب. وذكر ابن الجزار وابن يونس، أن وفاته كانت سنة أربعين، قال أبو العرب: ومولده سنة سبع وأربعين ومائة. وقال الآخر سنة خمسين. وأوصى عون ابنه يحيى أن يصلي عليه، فإن سحنون يزعم أني كذاب لم أسمع من ابن وهب. فلما قدم للصلاة، تقدم سحنون ليصلي عليه، فتقدم ابنه يحيى، وقال له أوصى أن لا يصلي عليه غيري، فضرب سحنون رأسه بالسوط وصلى عليه ظهراً. قال سليمان بن سالم: ابتدأنا القراءة على سحنون يوم مات عون بيسير. فقال سحنون للقارىء: ما أفهم عنك ما تقرأ انصرفوا. وظهر عليه الحزن، ورأت امرأة بيسير من موته كأن القيامة قامت، وحشر الناس، وقد جيء بثلاثة أفراس بسرجها ولجمها، مكللة بأنواع الجوهر. ويقال: هذه لسليمان المؤذن المقتول غدا، شهيداً. ثم يؤتى بخمسة وصفها بأحسن من الأولى، فيقال هذه لعون. فأقول: هذا شهيد له ثلاثة، ولعون خمسة، فيقال فضل عليه بالعلم. وأعلمت بذلك عوناً. فبكى وقال: لو أن لي دنيا، تصدقت بها شكراً لله تعالى، لهذه الرؤيا. وما أملك إلا هذين الثوبين اللذين علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 //الجزء الثاني أبو جعفر موسى بن معاوية الصمادحي مولى آل جعفر بن أبي طالب. قال ابن أبي دليم رحمه الله تعالى: يقال معاوية ابن أحمد بن عون بن معاوية بن عبد الله بن أبي طالب. ويقال إن عون ابن عبد الله، أودع جارية له مالاً، فجحدته، فأخرجها الى غلام له اسمه صمادح، فقدم بها الى إفريقية وهي حامل من عون، فيما يقال. فقال الناس أبو جعفر على هذا؟ والله أعلم. فاستوطن القيروان. وقال ابن اللباد عن شيوخه: إن معاوية بن عون بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد العزيز بن مروان فوصله، واتخذ عنده جارية فأولدها ولداً، سماه عوناً، فمات. فغيبت المال وتزوجت غلاماً له، يقال له الصمادحي. فقدم بها إفريقية واشترى له غلاماً وصياغاً كثيرة. فعرف بالصمادحي. قال: ويقال إن موسى بن معاوية ابن الفضل بن عون بن عبد الله بن جعفر، رحل موسى من إفريقية في طلب العلم، في رجب سنة أربع وثمانين ومائة، وانصرف الى القيروان سنة تسع وثمانين. ثناء العلماء عليه وفضله قال أبو العرب: وكان على فقهه مأموناً عالماً بالحديث والفقه، كثير الأخذ عن رجاله المدنيين، والكوفيين والبصريين، وغيرهم. سمع من وكيع ابن الجراح، والفضل بن عياض، وعلي بن مهدي، وطبقتهم، وجرير بن عبد الله، وأبي معونة الضرير، وسمع من ابن القاسم وغيره. سمع منه سحنون وعامة أهل إفريقية، وسمع منه ابن وضاح، وأحمد بن يزيد القرشي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وعمي بعد قدومه من المشرق بيسير. ثم أصابه الفالج. قال أبو الحسن الكوفي: لم يكن في إفريقية محدث، إلا موسى بن معاوية، وعباس الفارسي، قال مغيث: قلت لسحنون إن موسى جلس يفتي في الجامع، فقال: ما جلس في الجامع منذ ثلاثين سنة أحق بالفتوى منه. وكان سحنون يجله ويعظمه ويوفي حقه في العلم ويقدمه بين يديه في المجالس. قال: قرأت عن سحنون كنا برابطة المنستير في جماعة فكان موسى أطولهم صلاة وأدومهم عليها. فإذا كانت ليلة سبعة وعشرين من رمضان، طبقها من أولها الى آخرها. فإذا أصبح، قال: توجهوا بنا الى القيروان، فنقول له: أقم نتعبدها هنا. فيقول: كان النبي عليه السلام يجهد في العشر الأواخر، فإذا مضت ليلة سبعة وعشرين دبت فيه الفترة. قال سحنون: فلا نجد بداً من مساعدته. قال ابن أبي دليم: والأغلب عليه الحديث والرواية. وكان من أهل الورع والدين منابياً لأهل البدع. وذكره بعض، فقال: فيه بعض فقه مع كره الرواية. فقال هذا الصمادحي، عرضت له مسألة في حمار فما عرف ما يجب له حتى استفتى. قال فرات حضرة الأمير، زيادة الله. سئل الصمادحي، عن عمود في مسجد خرب، أراد تحويله الى الجامع. فقال: لا تحركه من موضعه يحتج له قال أبو الفضل ابن حميد: كنا نسمع من الصمادحي وقد كف فاستسقى فجئنا الى الماجل فإذا فيه ماء قليل، وفأر كبير، فأعلمناه. فقال: اروني منه نشمه، فلم يجد له رائحة. فقال: كيف ترون الماء؟ فقلت: صافياً. فشرب منه وشربنا، وتوضأ وتوضأنا. وتوفي ليوم الإثنين يقين من ذي القعدة سنة خمس، وقيل سنة ست وعشرين ومائتين، وسنّه خمس وستون سنة. قال ابن سحنون في تاريخه: ويقال أربع وستون. بعد أن أصابه ريح أبطله. فكان كالخشبة الملقاة. مولده فيما ذكر أبو العرب، مولد سحنون: بينهما ليلة. وقيل سنة. وكان موسى إذا رأى تقديم سحنون له، يقول: ما ترك علينا تلك الليلة. يريد أن بسببها. كان يجله سحنون، وأما أبوه معاوية، فله سماع من الثوري وابن أنعم، وحنظلة بن أبي سفيان. وكان معدوداً في شيوخ إفريقية. روى عنه ابنه وسحنون وأبو داود العطار، وكان ثقة ورمي برأي الصفرية، ولعله لا يصح عنه. توفي معاوية والد موسى سنة تسع وتسعين ومائة. بقية أخباره رحمه الله ولقي موسى محمد بن الحسن، فلم يأخذ عنه. فسئل عن ذلك، فقال: لو ملأ لي مسجدي هذا ذهباً ما سمعت منه حرفاً. وذكر أنه بلغه عنه شيء من مخالفة السنة، وامتحنه ابن أبي الجواد قاضي القيروان، وكان معتزلياً، فسأله عن القرآن. فقال موسى: سمعت فلاناً وفلاناً وذكر جماعة من أهل العلم، يقولون لمن قال القرآن مخلوق فهو كافر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 فقال له ابن أبي الجواد: لقد أعمى الله قلبك، كما أعمى بصرك. وكان موسى إذ ذاك قد كفّ بصره. وكان موسى إذا نزل عنده اسماعيل بن رباح الزاهد يستجد له الطعام، فلا يأكل منه إسماعيل شيئاً. فيذهب موسى الى السؤال وأهل الطرق، فإذا رآهم إسماعيل كذلك وقرب إليهم موسى الطعام دنا إسماعيل، فأكل معهم، وألف موسى بن معاوية كتاب الزهد، وكتاب مواعظ الحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 محمد بن رشيد مولى عبد السلام بن مفرج الربعي القائد. وقال المالكي: مولى عمر. كانت رحلته ورحلة سحنون الى الحجاز، والى ابن القاسم واحدة. وكان سماعهما واحداً. وإنما نابه سحنون برجال الشام. لأنه رحل الى الشام دونه. قال سحنون: كان فقيهاً فهماً طويل اللسان، حسن البيان، قال غيره: كان من أهل العلم والفقه، ثقة في نقله. قال أبو سعيد يونس: روى عن سفيان بن عيينة وابن القاسم، وابن وهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قال ابن حارث: كان ذكياً مصاحباً لسحنون، عند ابن القاسم، وكان ابن القاسم إذا تكلم في العلم أسرع ابن رشيد الى فهمه، وكان إذا فهم شيئاً رسخ في قلبه. قال أبو العرب وكان أهل الأندلس في أول أمره يسمعون منه. فيأتونه أكثر مما كانوا يأتون سحنون. ثم يرخص في المعاملة بالعينة. فأحبه كثير من من الناس. قال أبو العرب: وأما في نقله العلم، فكان ثقة، وكان أبوه رشيداً صقلياً، رجلاً صالحاً. فرأى في منامه كأنه أتى مسجد الجامع، فبال في محرابه، فقص رؤياه على البهلول بن راشد. فقال له: يخرج من صلبك ولد يكون إماماً. فولد له محمد. وذكر أن الفرج والد اصبغ رأى مثلها قال ابن حبيب: لما مات ابن رشيد، كره سحنون أن ينظر في تركته، وأمرني وأيوب فيها. فمات محمد وسحنون قاض، فيما قاله أبو العرب. وذكر ابن الجزار أنه توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. وغلط ابن حارث هذا القول ولم يسم قائله. قال: والصواب ما رواه أبو العرب. وقال ابن يونس توفي سنة اثنتين ومائتين، وصوب المالكي هذا. وخطأ ما قاله أبو العرب، وابن حارث. والله أعلم وهو الموفق للصواب لا ربّ غيره ولا معبود سواه. حماد بن يحيى أبو يحيى السجلماسي عداده في أهل القيروان. سمع عبد الله بن بكر السهمي وابن الماجشون. وهو أول من قدم بفقه ابن الماجشون القيروان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 قال محمد بن أحمد بن تميم: وقد سمع من سحنون، وكان شيخاً صالحاً تاجراً. وكان في كتبه تصحيف كثير، لم يكن يقوم بها. سمع منه عامة أصحاب سحنون، وكان له ابن ابنه حسن، روى عن أبيه، مات قديماً. سمع منه ابن بسطام. زيد بن بشر بن زيد بن عبد الرحمن الأزدي صليد أم ابنه، مولده لبني سريح الحضرمي، يجري على أبيه العتق من قبلها. فكان زيد يقر بولائهم، مع صحة نسبه في الأزد. قال الكندي: هذا، ويكنى أبا البشر. أصله من أهل مصر، وعداده في أهل تونس، وبها نزل. قال أبو العرب: وقدم أولاً القيروان، في قضاء سحنون. فأتاه فسلم عليه، ثم لحق بتونس. وكان فقيهاً ثقة مأموناً أديباً مصوناً. سمع زيد بن بشر، من ابن القاسم ومن وهب وأشهب وضمام بن إسماعيل، ويحيى بن سليمان الطائفي، وبشر بن بكر وغيرهم. قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً كريم النفس، كثير التواضع، حسن الأدب، وعدّه ابن سفيان فيمن لقي مالكاً. ولا أراه يصح ذلك. قال الكندي: كان في حجر ابن لهيعة، ولم يسمع منه شيئاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 قال: وكان فقيهاً من أكابر أصحاب ابن وهب، وعدّه الشيرازي في فقهاء هذه الطبقة. قال ابن وضاح: وكان ثقة الثقات. ذكر جمل من أخباره وفضائله والذي أخرجه الناس حتى سمعوا منه وعرفوا مكانه، محمد بن وضاح. وقال: قال لي سحنون، في زيد بن بشر: تؤجر فيه. وكان من أكرم الناس. انصرف ليلة من الجامع بتونس فانقطع شسع نعله، فوثب إليه حائك من دكان حانوته، فأعطاه شسعاً. فأصلح نعله ونظر في وجه الحائك، الى قنديل معه ليعرفه فيكافيه، فكان بعد ذلك كلما مرّ الى الجامع في جماعة أو منفرداً، مال الى الحائك وسأله عن حاله وسلم وشكر الفعلة. وقيل بل دخل الحمام سحراً وفيه زحمة. فقام له رجل فأجلسه في موضعه. فنظر وجهه الى القنديل، فسأله الرجل عن ذلك. فقال أريد مكافأتك. قال ابن أخي هشام: كان طريق زيد بتونس الى الجامع على الحواريين، فأقبل يوماً على الطلبة إذا شاب من الحواريين، قام على دكانه وقال لجاره: ما رأيت أوحش من هذا الشيخ، ولا أوحش لباساً منه. وكان زيد يلبس المفرح فنكس زيد رأسه، فلما انصرف من الجامع عاوده الفتى، بقبح. فلم يلتفت إليه زيد، وهمّ طلبته بضرب الفتى، فبلغ ذلك زيداً فسألهم عن ذلك. فقالوا: هو كما بلغك أصلحك الله لاستخفافه بحقك، واستهانته علمك. فقال لهم: أعطي لله عهداً، لئن تقدم إليه أحد، لا نعينه، ولا وطئ لي بساطاً. أنا أصلح شأنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وصرّ في صرة عشرة دراهم، وجعلها في جيبه، واستعمل لفرد نعل قبالاً واهياً، ثم توجه الى الجامع، فلما مر بالشاب قام لعادته وتكلم بقبيح كلام. فلما حاذاه الشيخ اتكأ على نعله فقطع القبال. ثم مال الى الشاب فسلّم عليه، وقال: أي بني لعل عندك قبالاً، فأعطاه قبالاً. فأدخل زيد يده فأخرج الصرة من جيبه ودفعها له. فقال الشاب ما هذا؟ فقال زيد: صنعت لنا قبالاً، فكافيناه، ولك عندنا أمثالها. وسار الى الجامع. فلما كان انصرافه منه، مرّ بالشاب. فقام على قدميه، وقال: الحمد لله الذي خصّ بلدنا بهذا الشيخ الفاضل. اللهم ابقه لنا واحرزه على المسلمين. فلقد انتفع به شبابنا وحظي به شيوخنا. فقال له جار له: ما هذا؟ فقال له الشاب: اسكت، إنه أعطاني عشرة دراهم على إصلاح قباله. فليت له بهذه أخر. وكان سبب خروجه من مصر، الفرار من المحنة في العراق، بعد أن منع من السماع. فخرج سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حين ولاية أبي بكر الأصم، ولي قضاء مصر وأخذ الناس بالمحنة. فاختفى زيد في بيته ثم خرج فارّاً. قال ابن سالم: لقيت بالمدينة محمد بن مالك بن أنس، فقلت له: حدثني عن أبيك. فقال: ما أحفظ شيئاً. فقلت له: تذكر. فقال: سمعته يقول: أدركت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم تقوم فيه طائفة من الناس الى ثلث الليل، ثم تذهب وتأتي أخرى، فتقوم الى الصبح، ثم أخرى قبل هذه تقوم ثلث الليل الآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 قال زيد: استفتاني رجل في مسألة فأفتيته بقول مالك، ثم أدركني ندم، فقلت: تركت مذهب من هو خير من مالك، زيد بن ثابت وأصابني شيء فغلبني النوم، فرأيت كأني في ظلمة إذ سقيت. فبينما أنا أهوي، إذ لقيتني جارية والتقتني بكفها. فقلت: من أنت؟ قالت: بنت مالك بن أنس. فانتبهت من رطوبة كفها. قال سليمان ابن سالم: كنت عند زيد بن بشر، فسأله سائل عن رجل صلى الظهر، فتذكر في الرابعة سجدة لا يدري من أين هي، فقال له: تأتي بركعة بسجدتيها، وتسجد لسهوة. قال: قال سليمان: فرآني تحركت. فقال: ما بك أصلحك الله؟ أثمّ جواب عن هذا، ثم قال: لعلك تريد جواب ابن القاسم يسجد الآن سجدة بتحرى أن يكون من هذه، ثم تأتي بركعة. قلت: نعم. فقال لي: إني رأيت السائل لا يفطن لمثل هذا. فأتيته بقول أشهب. وتوفي بتونس سنة اثنتين وأربعين ومائتين فيما قاله أبو العرب. وقال الكندي سنة أربعين. شجرة بن عيسى المعافري أبو شجرة ويقال أبو زيد، أصله من المغرب سمع ابن زياد وابن أشرس ومن أبي كريمة، وأبيه عيسى. وعداده في أهل تونس. وأبوه عيسى ممن روى عن مالك والليث، وابن لهيعة. وأصله أندلسي. نزل بتونس. قاله الأصيلي عن الابياني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وولي شجرة قضاء تونس أيام سحنون وقبله. قال سحنون: ما رأيت من قضاة البلدان إلا شجرة وشرحبيل قاضي طرابلس. وأخذ عن شجرة جماعة من أصحاب سحنون وغيرهم. وزعم بعضهم أنه ممن سمع من مالك. وسماه شجرة بن عيسى القيرواني. فلعله آخر، والله أعلم. قال أبو العرب: وكان شجرة من خير الفضلاء، وأعلمهم، ثقة عدلاً مأموناً وكان يلبس الثياب الخشنة ويخضب لحيته ويركب الفرس العاري، ويجيد الركوب. وكان كثير المعروف والفضائل وله كتاب في مسائله لسحنون. وعمّر حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. مولده سنة تسع وستين ومائة، وابنه، أبو شجرة عمر. وابن شجرة ولي قضاء تونس. وكان صالحاً ثقة. روى عنه يحيى بن عمر، وقيل ابن قاده: سنة إحدى وثمانين ومائتين في ثورة أهل الأندلس، على ابراهيم بن أحمد، بعد أن حبس. ذكر ابن كدنه أن شجرة خرج يوماً للسماع، فنظر في الناس ولده، فلم يره. فأمر داحة ابنته، أن تحركه للسماع، فمضت ثم رجعت وهو نائم، وكرهت أن تنبهه من نومه فأنشد شجرة يقول: شرب العشي ويوم بالعدوات ... موكلان بأخلاق المروءات لا خير فيمن حوت كفاه مكرمة ... فباعها بغنا أو بلذات ثم قال: اقرأوا رحمكم الله: اللهم لا تفتنا، وعافنا من الغفلات. قال ذلك بيدك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 دحنون بن راشد كان من أصحاب البهلول بن راشد. وكان ثقة من شيوخ إفريقية. أبو سنان زيد بن سنان الأسدي قال أبو العرب: كان ثقة. وكان سعيد بن الحداد وسعيد بن إسحق وأحمد بن يزيد يذكرونه بخير كثير. وكان سعيد بن إسحق، يذكر فضله وفقهه. وسمع عبد الرحمن بن القاسم. وكان ابن القاسم قد كتب إليه من مصر أيضاً كتاباً. وسمع سفيان بن عيينة وأبا ضمرة وبهلول بن راشد. ولقي عبد الله بن عبد الحكم، وعنده نزل بمصر، وأدرك أبا معمر صاحب أنس بن مالك، ولم يسمع منه، ولم يسمع من سفيان غير أربعة أحاديث، فيما ذكر. سمع منه أبو عثمان بن الحداد، وسعيد بن إسحق، وسليمان بن سالم وغيرهم. وكان يفتي بالقيروان مع سحنون في أيام قضائه. قال ابن الحداد: ما سمعت الدنيا قط تذكر عنده. وكان خياطاً. وكان يحمل خبزه الى الفرن على يده، ولا يترك طلبته يحملونه تواضعاً. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً نبيهاً مأموناً، فقيهاً. قال بعضهم: رأيت البهلول بن راشد في النوم. فقال: جزى الله عني أبا سنان خيراً، فأخبرت بذلك أبا سنان، فقال: رحم الله معلمي، وجزاه خيراً. قال أبو سنان: رأيت عبد الرحمن ابن القاسم مكفناً في النوم، فرفعته في حجري، فرجع فيه الروح، فأخبرت بذلك أسد بن الفرات. فقال لي: سترجع الى علمه. قال عيسى بن مسكين: أتى أبو سنان الى مسجد سفيان بن عيينة، فلم يجده حينئذ ووجد أخاه ابراهيم. فقال له: هلم أحدثك يا مغربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 فقال له أبو سنان: إذاً آن من الأمور أمور نحسات. التقدم عليها هلكة والتأخر عنها هلكة. وقد ولي هذا الرجل القضاء، وقد كان يكره فتياناً قبل أن يصير الى هذا الأمر فأحب أن أسأله إن كان يروي الفتيا على نحو ما كنت أفتي، فعلت. وإن رأى غيره لتركت. فمضى الى سحنون فأخبره. فجعل يقول: كيف قال الخياط؟ من الأمور أمور نحسات، التقدم عنها هلكة، والتأخر عنها هلكة. ثم قال: نعم. مروه يفتي على نحو ما كان. قال سليمان بن سالم: قال لي أبو سنان: إذا كان طالب العلم لا يتعلم أو قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح. وكان لا يتكلم أحد في مجلسه بعينه في أحد. فإذا تكلم بذلك نهاه وأسكته. توفي سنة أربع وأربعين ومائتين. مولده سنة خمس وخمسين ومائة. قاله أبو العرب. ودفن بالقيروان وقال ابن يونس المصري: توفي في سوسة والله أعلم. من أهل الأندلس عبد الرحمن بن دينار ذكر الرازي في كتاب الاستيعاب، في أنساب الأندلس. قال: أخبرنا دينار بن واقد الغافقي، أبو أمية، غلبت عليه كنيته. وكان عالماً زاهداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وذكر عبد الرحمن، فقال: كان فقيهاً عالماً حافظاً يكنى أبا زيد شدور بقرطبة. قال في كتاب آخر: وكانت له رحلات استوطن في إحداها المدينة، وهو الذي أدخل الكتب المعروفة بالمدينة. سمعها منه أخوه عيسى، ثم خرج بها عيسى فعرضها على ابن القاسم. قال: وكان عبد الرحمن، قد أخذه بالأندلس عن محمد بن يحيى السماني، ومن الصغير. ويروي عن محمد بن إبراهيم بن دينار المدني، وغيره. وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من المحرم سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة ستين ومائة وكان هو وأخوه يتواليان الى يزيد العتبي، وذكر أن أصلهم من طليطلة. وبنو دينار معروفون بالعلم. قال غيره: هو عبد الرحمن بن دينار بن واقد ورجا بن عامر بن مالك الغافقي وذكر أنه لما لقي ابن القاسم في رحلته الأخرى، وروى عنه سماعه. وعرض عليه المدونة وضمنها أشياء من رأيه، وكان من الحفاظ المتقدمين، والخيار الصالحين. استوطن قرطبة. عيسى بن دينار وأخوه قال ابن الفرضي: سكن قرطبة، ويكنى أبا محمد، ورحل فسمع ابن القاسم وصحبه وعول عليه، وانصرف الى الأندلس. وكانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 الفتيا تدور عليه. لا يتقدمه في وقته أحد بقرطبة. وكانت له بها رئاسة. وذلك بعد انصرافه من المشرق. وقال ابن أبي دليم: كان ابن القاسم يعظمه ويجله ويصفه بالفقه والورع. وكان لا يعد في الأندلس أفقه منه في نظرائه. وقال الرازي: كان عيسى عالماً زاهداً مفتياً. حج حجات. وولي قضاء طليطلة للحكم والشورى بقرطبة. وقال محمد بن عبد الملك بن أيمن: كان عيسى عالماً مفتياً. وهو الذي علم أهل مصرنا المسائل. وكان أفقه من يحيى بن يحيى على جلالة قدر يحيى. وقال ابن مزين وابن لبابه: فقيه الأندلس عيسى. قال أبو عمر الصدفي: هو من أهل الفضل والفقه التام. قال ابن حارث: كان عيسى فقيهاً بارعاً غير مدافع، ومن مقدمي العلماء بالأندلس. خيراً فاضلاً عابداً ناسكاً ورعاً من أهل العلم والورع الحسبة. قال أصبغ بن خليل: كان مجاب الدعوة. مضت له أعوام صلى فيها الصبح بوضوء العتمة. يقول: وما قاله مخبراً: والله الذي لا إله إلا هو، ما كتب بيني وبين مخلوق ذنب، في ظلم، أو سئل عليه هوى أو اعتقاد سوء. منذ ألبسني الله العلم عن تعمده. قال أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم: خرجت الى المشرق، ومعي كتاب البيوع من سماع عيسى، فأريته ابن الماجشون، وقرأته عليه فصلاً، فصلاً. فكان لا يمر بفصل إلا قال: أحسن والله عيسى. هذا، وقوله من سماع عيسى، وهم. فليس في سماع عيسى كتاب بيوع معينة، ولا غيرها. وإنما هو مختلط. وإنما كتاب البيوع من تأليف عيسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 من كتاب الهدية. وهو الذي يدل عليه ثناء عبد الملك، إذ إنما بنى على فقهه، وبالغه لأسماعه. وقال الشيرازي عنه: إنه صلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة. وسمعه ابن القاسم عند انصرافه عنه، بثلاثة فراسخ فعوتب على ذلك. فقال: يلومونني أن سمعت رجلاً لم يخلف بعده أفقه منه، ولا أورع ووصاه ابن القاسم عند ذلك. وقال له: عليك بأعظم مدائن الأندلس، فأنزلها. ولا تنزل منزلاً يضيع فيه ما حملت من العلم. وقال ابن القاسم: أتانا عيسى، فسألنا سؤال عالم. قال أصبغ بن خليل: وهو أول من أدخل الأندلس رأي ابن القاسم. قال غيره: وكان أكبر الفقهاء بالأندلس، قبل رحلته على أخيه عبد الرحمن. قال ابن الفرضي: وكان عيسى عابداً فاضلاً ورعاً. كانوا يرون أنه مستجاب الدعوة. وكان يبلغ بلده طليطلة بها توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، وقبره هناك مشهور. وقال غيره: توفي منصرفه عن طليطلة، وكان لحقته محنة الهيج ومبتدأ فتنة الربض بقرطبة. ففر واستخفى، الى أن أمنه الأمير الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. وامتحن أيضاً أول وصوله من الشرق الى بلده طليطلة بميل الناس إليه حتى شرف مكانه القاضي والوالي. وكتب الى الأمير عنده رجل يعرف بابن دينار ورفعوا علي. فوجه الأمير الحكم فيه، وسجن بقرطبة نحو عام، الى أن علم الأمير به، أنه عيسى، ومكانه من الناس باختلاف أهل العلم للسجن، فأطلقه وأحضره واعتذر إليه. فقال عيسى: هذا ذنب عجلت عقوبته لي، وأخبره بوصية ابن القاسم له ونهيه إياه عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 سكنى طليطلة، لما وصفها له، وأنه أمره أن يسكن دار السلطان، فلم يأخذ بوصيته. فعوقب بسكنى قرطبة، وأغرب أهل تاريخ الأندلس وهو عبد الملك بن عبد البر في شأن عيسى، بأن جعله رحل الى مالك وعده مع زياد ويحيى بن مضر وقرعوس بن العباس، قال: فأما زياد فسمع منه الموطأ، وأما يحيى وعيسى وقرعوس فلم يبلغنا أنهم سمعوا منه الموطأ. ولا ندري ما الذي منعهم منه، إلا أن نظن أن لقاهم كان قبل تكلمه وتخرجه فانصرفوا كلهم إلا عيسى، فإنه بقي بعدهم بالمشرق، ولزم عبد الرحمن بن القاسم، فأخذ عنه سماعه في الرأي عن مالك. فجمع علماً عظيماً. ثم قال: فانتشر به وبيحيى علم مالك بالأندلس، ورجعت الفتيا بالأندلس الى رأيه. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله. لم يذكر أحد من أصحاب علم الرجال والأثر سماعاً لعيسى بن مالك. ولا أثبتوه. ولا روى أحد الفقهاء وعلماء الرأي والمسائل له مقالاً، عن مالك. ولا رفعوا له عنه فتيا. وعيسى في شهرته لا يخفى مثل هذا من فضائله. ويعد أول مناقبه، كما عد لغيره ممن شهد له، كشهرته. وقد ذكرنا في خبر يحيى بن مضر وقرعوس غير ما ذكر من دوامهما للموطأ عن مالك، ولا شك أن رحلته مع أولئك الأكابر، ولم يدر ما الذي منعه من سماع الموطأ. ويتم كله، فقد ذكر أبو محمد بن حزم، أن رحلة عيسى كانت في حدود سبعين ومائة. هذا بعد موت مالك بنحو عشر سنين. ويصح هذا، لأنه لم يرو عن أحد من أكابر أصحاب مالك. الذين ماتوا في هذه المدة، كالمغيرة وابن أبي حازم وابن نافع، وابن الصائغ وغيرهم. إنما روى أقوالهم عن أخيه عبد الرحمن. وكانت رحلة أخيه أيضاً بعد موت مالك. قال ابن حارث: رحل عيسى وأصحاب مالك متوافرون، ابن القاسم وابن وهب وأشهب. سمع من ابن القاسم، واقتصر عليه، واعتلت في اللفظ طبقته. وكان من أهل الزهد البائس، والدين الكامل، قالوا: في العلم البارع والفضل الكامل، مشهور، مع قوته في الفقه لمالك، وأصحابه. فلقد كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه. قال ابن وضاح: حضر عيسى ويحيى جنازة. فلما صلى عليها أقبل الناس على عيسى وحفوا به. قال له يحيى: ما أشك أن الذي ألقى الله لك في قلوب الناس لخيبة صالحة. قال أصبغ بن خليل، كان يقرأ على عيسى فإذا مرّ بذكر الجنة والنار لم ننتفع به يومنا. وكان ذا هبة حسنة وعقل رزين، ومذهب جميل، ولما أصلح سحنون على ابن القاسم، كتاب أسد، وكان عيسى قد أتى بها وحضر سؤال أسد لابن القاسم، فكتب عيسى الى ابن القاسم في رجوعه عن ما رجع عنه من ذلك فيما بلغه. وسأله أعلامه فكتب إليه ابن القاسم: اعرضه على عقلك فما رأيت حسناً، فأمضه. وما أنكرت فدعه. وهذا يدل على ثقة ابن القاسم بفقهه. وذكر ابن لبابة، عن ابن بن عيسى، أن أباه أجمع في آخر عمره على ترك الفتيا بالرأي، والاعتماد على مقتضى الأثر، فأعجلته المنية، ولعيسى سماع من ابن القاسم عشرون كتاباً. وله تأليف في الفقه يسمى كتاب الهدية، الى بعض الأمراء. عشرة أجزاء. قال ابن عتاب: وله كتاب الجدار. وله تأليف آخر حسن أيضاً، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين وخلف أولادً فقهاء يأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى. ومن غريب خبره وكرامته أنه ذكر أنه سئل في مرضه وحضور موته، من يصلي عليه. فقال: ابني. فلما مات وحملت جنازته وكان ابنه مسافراً، فلما وضعت التمسوا من يصلي عليه، فإذا رجل راكب على حمار مقبلاً نحو الجنازة، فنزل وصلى عليها فإذا هو ابنه. وقد ذكرت هذه الحكاية أيضاً لابراهيم بن باز والله أعلم. يدر ما الذي منعه من سماع الموطأ. ويتم كله، فقد ذكر أبو محمد بن حزم، أن رحلة عيسى كانت في حدود سبعين ومائة. هذا بعد موت مالك بنحو عشر سنين. ويصح هذا، لأنه لم يرو عن أحد من أكابر أصحاب مالك. الذين ماتوا في هذه المدة، كالمغيرة وابن أبي حازم وابن نافع، وابن الصائغ وغيرهم. إنما روى أقوالهم عن أخيه عبد الرحمن. وكانت رحلة أخيه أيضاً بعد موت مالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 قال ابن حارث: رحل عيسى وأصحاب مالك متوافرون، ابن القاسم وابن وهب وأشهب. سمع من ابن القاسم، واقتصر عليه، واعتلت في اللفظ طبقته. وكان من أهل الزهد البائس، والدين الكامل، قالوا: في العلم البارع والفضل الكامل، مشهور، مع قوته في الفقه لمالك، وأصحابه. فلقد كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه. قال ابن وضاح: حضر عيسى ويحيى جنازة. فلما صلى عليها أقبل الناس على عيسى وحفوا به. قال له يحيى: ما أشك أن الذي ألقى الله لك في قلوب الناس لخيبة صالحة. قال أصبغ بن خليل، كان يقرأ على عيسى فإذا مرّ بذكر الجنة والنار لم ننتفع به يومنا. وكان ذا هبة حسنة وعقل رزين، ومذهب جميل، ولما أصلح سحنون على ابن القاسم، كتاب أسد، وكان عيسى قد أتى بها وحضر سؤال أسد لابن القاسم، فكتب عيسى الى ابن القاسم في رجوعه عن ما رجع عنه من ذلك فيما بلغه. وسأله أعلامه فكتب إليه ابن القاسم: اعرضه على عقلك فما رأيت حسناً، فأمضه. وما أنكرت فدعه. وهذا يدل على ثقة ابن القاسم بفقهه. وذكر ابن لبابة، عن ابن بن عيسى، أن أباه أجمع في آخر عمره على ترك الفتيا بالرأي، والاعتماد على مقتضى الأثر، فأعجلته المنية، ولعيسى سماع من ابن القاسم عشرون كتاباً. وله تأليف في الفقه يسمى كتاب الهدية، الى بعض الأمراء. عشرة أجزاء. قال ابن عتاب: وله كتاب الجدار. وله تأليف آخر حسن أيضاً، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائتين وخلف أولادً فقهاء يأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 ومن غريب خبره وكرامته أنه ذكر أنه سئل في مرضه وحضور موته، من يصلي عليه. فقال: ابني. فلما مات وحملت جنازته وكان ابنه مسافراً، فلما وضعت التمسوا من يصلي عليه، فإذا رجل راكب على حمار مقبلاً نحو الجنازة، فنزل وصلى عليها فإذا هو ابنه. وقد ذكرت هذه الحكاية أيضاً لابراهيم بن باز والله أعلم. عبد الله بن زونان هو عبد الملك بن الحسن، بن محمد بن يونس، بن عبيد الله بن أبي رافع. مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أهل قرطبة. يكنى أبا مروان. وقيل أبا الحسن. ويعرف بزونان. بضم الزاي بعد الواو نون. قال ابن الخيري: ويقال في اسم جده زريق. بتقديم الراق وتأخيرها سمع من صعصعة بن سلام، ورحل فسمع من أشهب وابن القاسم. وابن وهب وغيرهم من المدنيين. وهو أقدم هؤلاء كلهم طبقة. وأولهم في الظهور في العلم والفتيا. أفتى في أيام هشام بن عبد الرحمن مع يحيى بن يحيى، قال ابن الفرضي: كان يذهب أولاً مذهب الأوزاعي، ثم رجع الى مذهب مالك. وكان الأغلب عليه الفقه. ولم يكن من أهل الحديث. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً فاضلاً، ورعاً. أدخل العتبي سماعه في المستخرجة. وزعم الرازي أنه لقي مالكاً. ولم يذكر هذا غيره، من أهل علم الحديث الرحال الجامعين لرواية مالك من أهل الأندلس وغيرهم. ولا أراه يصح. ولم يرو الفقهاء عنه مسألة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 قال أبو عمر الهدني: له فضل وخير، ومذهب جميل جداً. من طبقة يحيى بن سعيد بن حسان، وعليهم كان مدار الفتيا. قال الخيري: كان فقيهاً زاهداً. قال ابن حارث: كان فاضلاً. وكان الزهد غلب عليه. وكتب لقاضي قرطبة إبراهيم بن العباس بن أبي يحيى بن يحيى. وولي قضاء طليطلة. وكان يحيى بن يحيى معجباً من كلام زونان، أنه قال يا أبا محمد: ما أشقى من لم تسعه رحمه الله، التي وسعت كل شيء. وضاقت عليه الجنة التي عرضها السموات والأرض. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال غيره سنة أربع وثلاثين. والله أعلم. سعيد بن حسان الصائغ مولى الأمير الحكم بن هشام من أهل قرطبة. يكنى أبا عثمان. رحل الى المشرق سنة سبع وسبعين ومائة. فروى عن عبد الله بن نافع الزهري وعبد الله بن عبد الحكم، وأشهب بن عبد العزيز، ومنه استكثر. سمع منه سماعه من مالك، وكتب رأيه. وعن ذلك. وانصرف الى الأندلس، سنة أربع ومائتين. قال ابن أبي دليم، وابن حارث: لم يكن في زمانه أروع منه. قال ابن حارث: حتى يقال إنه مجاب الدعوة. لفضله واجتهاده، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 قال ابن وضاح: رويت عنه مسائل، وهو ثقة. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً في المسائل زاهداً فاضلاً حافظاً. مشاوراً مع يحيى بن يحيى، وطبقته. وكان منقطعاً الى مواخاة يحيى آخذاً بهديه معظماً له. لم يخالفه في شيء يراه. وكان الأغلب عليه حفظ رأي أشهب وفقهه. وروايته عن مالك. حدث عنه ابن باز وغيره. ذكر ابن حارث: إن سعيد بن حسان، لقي قاضي قرطبة سعيد بن سليمان الغافقي، وكان ابن حسان منقبضاً عنه، فقال له القاضي، أبا عثمان: ما لك تنقبض عني، ولا تأتيني؟ فوالله ما أريد إلا الحق، ولا أقصد غيره. فقال سعيد بن حسان: والله لو علمت هذا ما قعدت عنك، ولحملت هذه الخريطة بين يديك. قال ابن زونان: كنت أعرض على سحنون مرة في حاشية في جانب كتابي. أخبرني سعيد بن حسان عن أصبغ. فقال: يكذب سعيد بن حسان إنا لا نعرف بالأندلس إلا يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وغيره حطب النار. وأتاه نصر الفتى يوماً، فوجده يصلي متنفلاً يطول صلاته. فانصرف نصر مغضباً يتوعده. فلما أكمل صلاته، كلِّم في ذلك. فقال: كنا بين يدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 الله نناجيه. وسيكفينا أمره من كنا بين يديه. ما كنا لننصرف لنصر، وندع ما كان أولى منا. ودخل سعيد بن حسان على يحيى بن يحيى، فتعجل له الإذن، وكانت زوجة يحيى حاضرة. فدخلت جنبة البيت، وتركت نعلها في البيت، وكان مفصصة بالدر والياقوت. كانت من المياسير فلما رآهما سعيد أنكر ذلك جداً. ووبخه، وقال له: هذا من السرف الذي يسأل عنه. وكان متورعاً في فتياه. توفي سنة ست وثلاثين بعد يحيى بعامين وسيأتي ذكر ابنه إن شاء الله. حارث بن أبي سعيد مولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية قال القاضي ابن الفرضي يكنى أبا عمرو. واسم أبي سعد، سابق. رحل فسمع من ابن القاسم، وابن كنانة وغيرهما من المدنيين، والمصريين. كان يفتي في آخر أيام الحكم بن هشام، وهو جد بني حارث بقرطبة. وولي الشرطة الصغرى. وهو أول من وليها بالأندلس، فلم يزل عليها الى أن توفي. فقال ابن أبي دليم: وعليه دارت الفتيا في عصره. قال أحمد بن سعيد: هو من أهل العلم والفتيا. قال ابن حارث واستفتاه ابن بشر. وتوفي حارث سنة اثنتين وعشرين ومائتين فيما قاله أحمد بن عبد البر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وأما ابن حارث فقال: سنة إحدى وعشرين. وسيأتي ذكر ابنه، إن شاء الله تعالى، وهو حسبي ونعم الوكيل. حاتم بن سليمان بن أبي يوسف بن أبي مسلم الزهري قرطبي. رحل مع الأعشى وحارث بن أبي سعد. فسمع من ابن كنانة وغيره من المدنيين والمصريين. قال ابن أبي دليم: وجل روايته عن ابن كنانة. وكان ابن كنانة يصفه بالفقه ويثني عليه وكان ذا زهد وفضل وورع. قال ابن الفرضي وكان فقيهاً في المسائل والرأي. موصوفاً بالفضل والزهد. وإليه ينسب المسجد الذي على مقبرة بلاط مغيث بقرطبة. قال أبو سعيد الصدفي: توفي آخر أيام عبد الرحمن بن الحكم. وذلك قبل الأربعين ومائتين. محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح المعافري المعروف بالأعشى، قرطبي يكنى أبا عبد الله. قال ابن الفرضي: رحل في العام الذي مات فيه مالك. وذلك سنة سبع وسبعين ومائة. فسمع من سفيان بن عيينة، ووكيع ويحيى بن سعيد القطان، وعيسى بن كنانة والمخزومي وغيرهم من العراقيين والمدنيين. وكان الغالب عليه الحديث والأثر. وكان عاقلاً سرياً جواداً قال ابن أبي دليم: كان في بصره شيء. وكانت له وجاهة في العلم مع فضل وورع. قال الأعشى: دخلت مصر فرويت بها أربعين ألف مسألة. قال ابن حارث: يعني عن ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب. سوى ما روى عن أصحاب مالك المدنيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 قال ابن الفرضي: وكان يذهب في الأشربة مذهب أهل العراق. وكانت فيه دعابة له فيها أخبار فاشية محفوظة. من غريبها التي كفت من عرفه أنه كان يمازح كثيراً أبا عقبة الأسوار بن عقبة. ويكنيه أبا عقبة بفتح العين والقاف. فلما تولى الأسوار القضاء بقرطبة، أتاه محمد بن عيسى، فشهد عنده مع آخر من أهل القبول. فاعلم على اسم ذلك دونه. وقال له: زدني في بينة. وذلك بمحضر الأعشى. فقال له الأعشى: أظنك أكرمك الله لم تقبل مثلها في شهادتي. فقال له: أنت أكرمك الله جاد في شهادتك هذه أو هازل. فإني أعرفك كثير الهزل، فعرفني إن كنت صدعت بها عن حق. فمثلك لا ترد شهادته. وإن كانت من اهتزالك فقد وقفتها. فقال عنه الأعشى منقطع الحجة. فكان يقول بعد ذلك قاتل الله الأسوار. فلقد قطعني عن كثير مما كنت أستريح إليه من الدعابة، بعد مجلسي معه. فربما هممت بالشيء فأذكر كلامه لي فيسمعني. قال أحمد بن سعيد: وعوتب في كثرة دعابته، وأن يتركها. فقال: علي لم يتركها للخلافة. فأتركها أنا للشهادة والعدالة. قال أحمد بن عبد البر: كان خيّراً عاقلاً، حليماً جواداً. روى عنه بقي ابن مخلد، وأصبغ بن خليل، ونظراؤهما وأصاب الناس مسغبة. وغلا السعر جداً. فأمر منادياً ينادي في الناس، من أحب أن يبتاع طعاماً بسعر يومه بتأخر عام، فليأت وكيل محمد بن عيسى وأمر وكيله بذلك فبادر الناس، فأخذوا منه حتى أوقف الله لي الذي أباحه لهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 ثم أمر منادياً ينادي: من كان لمحمد بن عيسى عنده شيء فقد وضعه عنه. فقيل له: لو تصدقت به كان أفضل. فقال: لو كان ذلك لم يأخذه إلا من يأخذ الصدقات من الطوافين وشبههم. والآن أخذه الشريف والمحتاج والمتعفف المستور، ومن لا ينكشف لأخذ الصدقة. ومن أحواله أن صديقاً له رد القاضي شهادته، فجاء إليه مستغيثاً به راغباً إليه، في أن يسير معه الى القاضي. فيعدّله. فركب معه وكان ركوبه حماراً بسرج. فلما كان في بعض الطريق قال له: يا هذا، كم من ركعة في صلاة الاستسقاء. قال: لا أدري. قال له: ففي صلاة الخسوف. قال: لا أدري. فمضى معه هنيهة ثم قال له: كم في السوق من ثقبة. فقال: لا أدري. فقال له: يا هذا، لا خير تدري ولا شر تدري، وتلوم القاضي أن يرد شهادتك. فرجع وتركه. واختلف في وفاته، فقيل توفي في سة ثمان عشرة. وقيل إحدى وعشرين وقيل اثنتين وعشرين ومائتين. إسماعيل بن البشر ويقال ابن البشير. ويقال بشير بن محمد التجيبي. أبو محمد القرطبي هو جد ابن أبي الأغبس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 قال ابن الفرضي: كان مفتياً أيام الأمير الحكم بن هشام، وابنه عبد الرحمن، وولي الصلاة أيام عبد الرحمن والحكم. وفيها مات. وقال ابن حارث: كان القاضي ابن بشير، يستفتي في قضائه زونان ومحمد بن سعيد السبائي والغازي بن قيس، والحارث بن أبي سعد، واسماعيل بن بشر، وقد ذكره ابن حبيب في كتابه مع يحيى، وعباس وطبقاتهم. محمد بن خالد بن مرتنيل، مولى عبد الرحمن بن معاوية يعرف بالأشج. قرطبي، بيته. رحل فسمع من ابن وهب وأشهب وابن نافع ونظرائهم من المدنيين، والمصريين. وكان الغالب عليه الفقه. ولم يكن له علم بالحديث. وقد ذكره العتبي في المستخرجة. وولي الشرطة والصلاة والسوق بقرطبة. قال الصدفي: قيل إنه كان يخطب عند باب المقصورة من خارج. وبيده عصا، وكان صليباً في أحكامه، ورعاً فاضلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم. فحمدت سيرته. ولم يزل على وتيرة الى أن توفي. وكان ينفذ أحكامه على أصحاب السلطان، وضرب منهم رجلاً وحبسه، وشنع ذلك عليه عند الأمير، فوجه إليه وأوصى إليه. لم فعلت هذا به؟ فقال له: لم أفعله. إنما الأمير أعزه الله فعله. لأنه ولاني وأمرني بنصفة الحقوق، وتغيير المناكر. على جميع الناس. ولم يستثن هذا ولا غيره. ولو استثناه كنت أفعل ما يأمرني به، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 فأعرض عنه. وروى أنه عزله مرة. فعزله غدوة ورده عشية، لما رأى في ذلك من الصلاح. وقال لأصحابه: تحفظوا منه. قال يحيى: حملني ابن بشير بمسائل أسأل عنها ابن القاسم، فأجابني فيها. ثم قدم محمد بن خالد من المدينة، فسأله أيضاً عنها. فخالفت روايتي روايته. فقدمت على ابن القاسم فقلت له: يا أبا عبد الله، وفدنا إليك بمسائل، أنا وصحابي، وأهل بلدي ينظرون إلينا وقد اختلفت روايتنا عنك. فمتى سرنا الى بلدنا عن رجل واحد، بروايتين مختلفتين في شيء واحد أدخلنا عليهم فتنة، فتدارك النظر فيها. فقال: صدقت ونصحت. ثم أرسل الى صاحبي فقال له: أوهمت عليك فرد ما معك الى ما مع صاحبك. ففعلنا. وتوفي سنة عشرين ومائتين. وقيل سنة أربع وعشرين. وله اثنتان وسبعون سنة. وبيته بقرطبة بيت فقيه في العلم والسؤدد، وصحبة السلطان. وسيأتي ذكر ولده إن شاء الله تعالى. قاسم بن هلال بن يزيد بن عمران بن مالك القيسي أبو محمد القرطبي. سمع بالاندلس من زياد بن عبد الرحمن، ورحل فسمع من ابن القاسم وابن وهب وغيره. وأخذ من المصريين والمدنيين من أصحاب مالك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وكان عالماً بالمسائل، ولم يكن عنده علم بالحديث، وكان رجلاً معضلاً وقوراً. ذا فضل وورع. وكان سحنون يؤثر ابنه لاجتماعه معه عند ابن القاسم. روى عنه بنوه، واختلف في وقت وفاته. فقيل سنة إحدى، وقيل سنة سبع وثلاثين ومائتين، وبيته بيت فقه في العلم بقرطبة. ساد هو وبنوه، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى. سعيد بن محمد بن بشير قد قدمنا في ذكر أبيه نسبه، وأوليته. ولي القضاء بقرطبة بعد والده، فيما قيل. وكان رجلاً صالحاً عاقلاً. سمع من يحيى وغيره، وكان يشاور في بعض المجالس، وكان له على بر وصحبة. قال ابن حارث: وكان نبيلاً فاضلاً. معيناً لأبيه على العدل. بصيرته من بصيرة أبيه في جميل المذهب، واستقامة الطريقة. وكان سبب ولايته القضاء. أن ربيع القوسي أودعه وديعة. فلما سخط عليه وهتف الأمير لمن كان لربيع عنده وديعة. ولم يظهرها بعد ذلك بثلاث، سفك دمه، ونهب ماله بجبر، فأتى ليحيى بن يحيى فاستشاره فاستفظع يحيى الأمر، ثم فكر طويلاً، ثم قال له: أرى والله ألا تخفي أمانتك، للحديث الذي جاء إذ الأمانة الى البر والفاجر، وفشا الخبر حتى انتهى الى الأمير، فدعا بسعيد وقيل له: ما حملك على ما فعلت؟ وقد سمعت النداء والعزيمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 فقال سعيد: للحديث الذي جاء، وذكره. قال: ولا أفجر من ربيع. فقال الأمير للوزراء: هذا رجل مأمون. فولاه القضاء. توفي فيما قاله الرازي سنة عشر ومائتين. وقال ابن حارث: سنة إحدى عشرة. حسبن بن عاصم بن كعب بن محمد بن علقمة ابن حباب بن مسلمة بن محمد بن مرة بن عوف الثقفي ويقال: عاصم بن مسلم بن كعب بن حباب بن علقمة بن هلال، ابن كعب بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل، بن عروة بن مسعود الثقفي. ويقال إنه مولى عبد الرحمن بن يعقوب أبي الحكم الثقفي. وهو المشهور. أبو الوليد قرطبي. حبيب. أبوه عاصم، يعرف بالعريان. لأنه أول من شق نهر قرطبة وهو عريان بين يدي الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل. عند قصره بقرطبة. رحل حسين فسمع من ابن القاسم وأشهب وابن وهب ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع ونظرائهم. وأدخل العتبي سماعه في المستخرجة أيضاً. وأسقطه منها قوم. قال الشيرازي عنه: كان في سن عيسى بن دينار. ويعتمد عليه ابن حبيب في الأسمعة وعده فيمن ذكر منه في هذه الطبقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 وتوفي فيما ذكر أصحاب التاريخ: سنة ثمان ومائتين. وأما ابن عبد البر فزعم أنه ولي السوق أيام الأمير محمد. وكان شديداً على أهلها، في القيم. فضرب الباعة على ذلك ضرباً مبرحاً. أنكر عليه، فسقط بذلك. وزعم أنه توفي سنة ثلاث وستين أيام الأمير محمد، وهذا بعيد من الخلاف، وقال غيره: توفي سنة ثمان ومائتين. وزعم أن سنه يوم توفي سبعون سنة. وهذا أبعد، إذ لو صح هذا، لما صح له سماع من ابن القاسم وابن وهب، لأنه إن كان مات سنة إحدى وتسعين وابن وهب سنة بضع وتسعين، على خلاف في تعيين سنة موته في ذلك، أو يكون موت ابن وهب وهو في السن في حيز من الإسماع له. كيف ولم يكن ببلده وإنما هو رحل إليه في سن من يصح رحلته، بالأشبه، والله أعلم أن وفاته متقدمة وإثبات العتبي سماعه في المستخرجة يبعد تراخي موته، الى هذا الوقت. لأن العتبي توفي سنة خمس وخمسين ومائتين، قبله على هذا بمدة. وتوفي ابنه ابراهيم بن حسين بن عاصم سنة ست وخمسين. وكان أيضاً قد تصرف في الولاية سنين للأمير محمد وبلغ في الشدة مبلغاً حاد فيه عن سنن القضاء. وسيأتي ذكره. فلعل من اشتباه هذا دخل هذا الوهم، والخلاف والله أعلم. ومات ابن القاسم وقد بقيت على حسين مقابلة كتبه بأصوله، بعد تمام سماعه منه. فكاد أصبغ بن الفرج وقال له: أنت خلف أبي عبد الله. فلو خليت نفسك، قرأت عليك ما بقي علي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 فقال له أصبغ وأشهب وابن وهب شيخان حيان. فقال له: أنت عندي أجلّ، فأسعفه. فلما تم له مراده قال له: إنما ذهبت الى المقابلة لصحة كتبك. وأما السماع فلا نحب ذلك. فإني أقدم منك سماعاً، وعناية. تعود الى الحاضرة. قال ابن وضاح: قلت لسحنون: إن ابن عاصم يحلف الناس بقرطبة بالطلاق. قال: ومن أين أخذ هذا؟ قلت له: من قول مالك يحدث للناس، فتحدث لهم أقضية. فقال سحنون: ابن عاصم تأول هذا التأويل. قال الصدفي: وابن عاصم المذكور، هو هذا. عبد الملك بن حبيب قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي، في كتابه في رجال الأندلس. هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن عباس بن مرداس السلمي. يكنى أبا مروان. ونقلت عن خط الحكم المستنصر بالله، أنه عبد الملك بن حبيب بن ربيع بن سليمان. وقال علي بن معاذ عن علي بن الحسن، إنه عبد الملك بن حبيب بن ربيع بن سليمان السلمي. وكان يعرف أبوه الحبيب العصار. كان يعصر الأدهان ويستخرجها. قال ابن الفرضي قيل إنه من مواليهم. وقال ابن حارث من أنفسهم. كان بالبيرة. وقال بعضهم: كان يعصر الأدهان ويسخرجها غيرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 كان أصلهم من طليطلة وانتقل جده سليمان الى قرطبة. وانتقل أبوه حبيب وإخوته في فتنة الربض الى البيرة. وروى بالأندلس عن صعصعة بن سلام والغازي بن قيس وزياد بن عبد الرحمن، ورحل سنة ثمان ومائتين. وقيل سنة سبع. فسمع ابن الماجشون ومطرف وابراهيم بن المنذر، وعبد الله بن نافع الزيدي، وابن أبي أويس وعبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن المبارك والحزامي، وأصبغ بن الفرج، وأسد بن موسى وجماعة سواهم. وانصرف الى الأندلس سنة عشرة. وقد جمع علماً عظيماً. قال ابن حارث: فنزل بلدة البيرة، وقد انتشر علمه وروايته. فنقله الأمير عبد الرحمن بن الحكم الى قرطبة ورتبه في طبقة المفتيين بها. فأقام مع يحيى بن يحيى زعيمها في المشاورة والمناظرة. وكان الذي بينهما يسيء جداً. قال غيره: وتقدمه يحيى بالممات. فانفرد عبد الملك وحده بالرئاسة مديدة. سمع منه ابناه محمد وعبد الله وسعيد بن نمير، وأحمد بن راشد، وابراهيم بن خالد، وابراهيم بن شعيب، ومحمد بن فطيس. وروى عنه من عظماء القطربيين، مطرف بن قيس، وبقي بن مخلد، وابن وضاح والمغامي في جماعة. وكان المغامي آخرهم موتاً. ذكر مكانه من العلم وثناء الفضلاء عليه قال ابن الفرضي: كان عبد الملك حافظاً للفقه على مالك، نبيهاً فيه. غير أنه لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بصحيحه من سقيمه. وقال ابن لبابة: ويروى مثله عن ابن مزين عبد الملك، عالم الأندلس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وسئل ابن الماجشون من أعلم الرجلين. القروي التنوخي، أم الأندلسي السلمي " فقال: السلمي مقدمه علينا، أعلم أن التنوخي منصرفه عنا. ثم قال للسائل: أفهمت؟ قال أحمد بن عبد البر: كان جمّاعاً للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيه البدن، نحوياً عروضياً شاعراً، نسابة إخبارياً. وكان أكثر من يختلف إليه الملوك وأبناؤهم من أهل الأدب. وقال نحوه ابن غلبون قال وكان يأبى إلا معالي الأمور. وقال ابراهيم بن قاسم بن هلال رحمه الله: عبد الملك بن حبيب: فلقد كان ذاباً عن قول مالك. وذكر أنه لما رحل قال عيسى: إنه لأفقه ممن يريد أن يأخذ عنه العلم. وقال سعيد بن نمير: حدثنا المأمون عبد الملك بن حبيب. لا أراه الله في إخوته قبحاً. قال غيره: رأيته يخرج من الجامع وخلفه نحو من ثلاثمائة من طالب حديث وفرائض وفقه، واعراب. وقد رتب الدول عليه كل يوم ثلاثين دولة؟ لا لا يقرأ عليه فيها شيء إلا تأليف وموطأ مالك. وذكر أنه يلبس الخز والسعيدي. قال ابن عبيد: وإنما كان يفعله إجلالاً للعلم، وتوقيره. وإنه كان يلبس الى جسمه مسح شعر، تواضعاً. وكان صواماً قواماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 قال: وعذلته على مأخذه على قلة ماله. فقال لي: قيل لأبي حازم، ما مالك؟ قال: مالان: القناعة بما في يدي، واليأس مما في أيدي الناس. وأنا أقول: لي مالان غنائي في ظاهر أمري، وقصدي خاصة نفسي. قال غيره: أكثر فقهاء الأندلس وشعرائهم، فعن عبد الله أخذوا، وعن مجلسه نهض. قال المغامي: لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب، لازدريت غيره. ذكر الزبيدي أنه نعي الى سحنون، فاسترجع وقال: مات عالم الأندلس، بل والله عالم الدنيا. وهذا يرد ما روي عنه من خلاف هذا. وذكره الشيرازي فقال فيه: فقيه الأندلس. وذكره أيضاً ابن الفرضي في كتابه المؤلف في طبقات الأدباء فجعله صدراً فيهم. وقال: كان قد جمع الى إمامته في الفقه والتنجيح في الأدب، والتفنن فيه في ضروب العلوم. وكان فقيهاً مفتياً نحوياً لغوياً، نسّابة إخبارياً عروضياً فائقاً. شاعراً محسناً مرسلاً حاذقاً. مؤلفاً متفنناً. ذكر بعض المشيخة، أنه لما دنا من مصر، في رحلته أصاب جماعة من العلماء بارزين لتلقي الرفقة على عادتهم، فكلما أطل عليهم رجل له هيبة ومنظر، رجحوا الظن به، وقضوا بفراستهم عليه، حتى رأوه، وكان ذا منظر جميل، فقال قوم: هذا فقيه. وقال آخرون: شاعر. وقال آخرون: طبيب. وقال آخرون: خطيب. فلما كثر اختلافهم تقدموا نحوه، وأخبروه باختلافهم فيه، وسألوه عن ما هو؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فقال لهم: كلهم قد أصاب. وجميع ما قررتم أحسنه، والخبرة تكشف الحيرة والامتحان يجلي عن الإنسان، فلما حطّ رحله ولقي الناس شاع خبره. فقصد إليه كل ذي علم يسأله عن فنّه، وهو يجيبه جواب متحقق. فعجبوا من ثبوت علمه، وقصدته طائفة من المتفقهة، وقد أعدوا له مسائل من الحجج، لا زالوا يقتنصون بها متفقهة الأندلس، ففطن لمرادهم، وكان عهده بعيداً بمطالعة كتب الحجج. فلما فاتحوه بها أخر مجلسهم واعتذر بقيامه فيما لابد للغريب منه، ووعدهم لغد يومه، وأتى رحله وسهر ليلته، على مطالعة مسائل الحجج حتى أحكم النظر فيها. فلما كان من الغد تهافتوا عليه، وألقوا عليه صعابها، فأجابهم عنها جواب عالم. وذكر أنهم أخذوا عنه، وعطلوا حلق علمائهم. قال ابن وضاح: كنت عند الخزامي، فقيل له ابن حبيب، سمع التاريخ. فقال حفظه الله، أبا مروان فإنه يثني عليه ذكر ابن حارث أن ابن المواز أثنى عليه بالعلم والفقه وقال ابراهيم بن قاسم: يقول رحم الله عبد الملك لقد كان ذاباً عن قول مالك، وإن خالفه في البعض بما يسوغ إلا الحق. ولا أخذ إلا بالصواب. وقال العتبي: وذكر الواضحة: رحم الله عبد الملك ما أعلم أحداً ألف على مذهب أهل المدينة تأليفه، ولا لطالب أنفع من كتبه ولا أحسن من اختياره. وقال محمد بن أبي زيد في صدور النوادر. وذكر اختيار سحنون وأصبغ وعيسى وابن عبدوس، وابن سحنون، وابن المواز، وقال: وليس يبلغ ابن حبيب في اختياره وقدره رواياتهم مبلغ من ذكرنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وقيل للمغامي: لو أوضحت هذا السماع في واضحة ابن حبيب؟ يريد ما لم يوضحه ابن حبيب من كتابه: فقال: حاولت نفسي من ذلك، فوجدت نفسي معه كمرقع الخز باللبود. فقال بعضهم: ركبت البحر الى الأندلس، مع ابن حبيب، فهال علينا وخشينا العطب، فرأيت ابن حبيب متعلقاً بحبل السفينة وهو يقول: اللهم إن كنت تعلم أني إنما أردت بما أفتيته لوجهك وما عندك فخلصني برحمتك وانفع بما آتيتنا به عبادك. فما كان يسيراً حتى سكنت الحال، ووصلنا سالمين بحمد الله. لت نفسي من ذلك، فوجدت نفسي معه كمرقع الخز باللبود. فقال بعضهم: ركبت البحر الى الأندلس، مع ابن حبيب، فهال علينا وخشينا العطب، فرأيت ابن حبيب متعلقاً بحبل السفينة وهو يقول: اللهم إن كنت تعلم أني إنما أردت بما أفتيته لوجهك وما عندك فخلصني برحمتك وانفع بما آتيتنا به عبادك. فما كان يسيراً حتى سكنت الحال، ووصلنا سالمين بحمد الله. ذكر تواليفه وألف ابن حبيب كتباً كثيرة حساناً في الفقه والتواريخ والأدب. ومنها الكتب المسماة بالواضحة في السنن والفقه. لم يؤلف مثلها. والجوامع. وكتاب فضائل الصحابة. وكتاب غريب الحديث. وكتاب سيرة الإمام في الملحدين. وكتاب طبقات الفقهاء والتابعين. وكتاب مصابيح الهدى. قال بعضهم، قسّم ابن الفرضي هذه الكتب، وهذه الأسماء وهي كلها يجمعها كتاب واحد لابن حبيب. إنما ألف كتابه على عشرة أجزاء. الأول، تفسير الموطأ حاشى الجامع، والثاني شرح الجامع، والثالث والرابع والخامس في حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة التابعين. وكتاب مصابيح الهدى جزء منها. ذكر فيه من الصحابة والتابعين، والعاشر طبقات الفقهاء، وليس فيها أكثر من الأول، وتحامل في هذا الشرح على أبي عبيد، والأصمعي وغيره، وانتحل كثيراً من كلام أبي عبيد، وكثيراً ما يقول فيه أخطأ شارح العراقيين. وأخذ عليه فيه تصحيف قبيح، وهو أضعف كتبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 ومن تواليف ابن حبيب أيضاً، كتاب إعراب القرآن، وكتاب الحسبة في الأمراض وكتاب الفرائض، وكتاب السخاء واصطناع المعرف. وكتاب كراهية الغنا قال بعضهم: فقلت لعبد الملك: كم كتبك التي ألفت؟ قال: ألف كتاب وخمسون كتاباً. وقال عبد الأعلى بن معلى: هل رأيت كتباً تحبّب عبادة الله الى خلقه، وتعرفهم به، ككتب عبد الملك بن حبيب. يريد كتبه في الرغائب والرهائب. ومنها كتب المواعظ سبعة. وكتب الفضائل سبعة، فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة. وفضائل عمر بن عبد العزيز. وفضائل مالك بن أنس. وكتاب في أخبار قريش، وأخبارها وأنسابها، خمسة عشر كتاباً. وكتاب السلطان، وسيرة الإمام ثمانية كتب. وكتاب الباه والنساء ثمانية كتب. وغير ذلك من كتب سماعاته في الحديث والفقه وتواليف في الطب، وتفسير في القرآن ستون كتاباً. وكتاب المغازي والناسخ والمنسوخ ورغائب القرآن، وكتاب الرهون والمغازي والحدثان خمسة وتسعون كتاباً، وكتاب مغازي مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنان وعشرون كتاباً. وكتاب في النسب، وفي النجوم، وكتاب الجامع، تأليفه. وهي كتب فيها مناسبك النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الرغائب، وكتاب الورع في العلم، وكتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 الورع في المال، وكتاب الرياء، وكتاب الحكم والعمل بالجوارح وغير ذلك. ذكر ما تحومل به عليه قال بعضهم: كان الفقهاء يحسدون عبد الملك بن حبيب لتقدمه عليهم بعلوم لم يكونوا يعلمونها، ولا يشرعون فيه. قال أحمد بن خالد: لم يخرج ابن وضاح لابن حبيب شيئاً. وكان لا يرضى عنه. قال أبو محمد القلعي: سألت وهب بن مسرة، عن قول ابن وضاح في ابن حبيب. فقال: ما قال فيه خيراً، ولا شراً. إلا أنه قال: لم يسمع من أسد. وحكى الباجي وابن حزم أن أبا عمر بن عبد البر، كان يكذبه. وقد ذكرنا في أخبار ابن وهب، بعد هذا قصته التي تحومل عليها به منها. وليس فيها ما تقوم به دلالة على تكذيبه، وترجيح نقل غيره عن نقله. وكان أحمد بن خالد يسيء الرأي فيه. قال ابن الفرضي: لم يكن لابن حبيب علم بالحديث. وكان لا يعرف صحيحه من سقيمه. وذكر عنه أنه كان يتساهل في سماعه، ويحل على طريق الإجازة أكثر روايته. قال ابن وضاح: قال لي الخزامي: أتاني صاحبكم ابن حبيب بغرارة مملوءة كتباً. فقال لي: هذا علمك تجيزه لي. فقلت له: نعم، ما قرأ علي منه حرفاً ولا قرأته عليه. وفي رواية أخرى: فوالله ما ترون فإنه، وإنه. يثني عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 قال ابن أبي مريم: كان ابن حبيب عندنا نازلاً بمصر. وما كنت رأيت أدوم منه على الكتاب، دخلت إليه في القائلة في شدة الحر، وهو جالس على سدة وعليه طويلة. فقلت: قلنسوة في مثل هذا الوقت. فقال: هي تيجاننا. فقلت: فما هذه الكتب؟ متى تقرأ هذه؟ فقال: ما أشتغل بقراءتها. قد أجازها لي صاحبها. فخرجت من عنده، فأتيت أسداً، فقلت: أيها الشيخ تمنعنا أن نقرأ عليك، وتجيز لغيرنا. فقال: أنا لا أرى القراءة فكيف أجيز، وإنما أخذ مني كتبي، يكتب منها ليسردها علي، قال خالد: إقرار أسد له بروايتها ودفع كتبه لنسخها، هي الإجازة بعينها. وذكر عن يونس، قال: أعطاني يونس كتبه عن ابن وهب فقابلناه بها فقلت: أصلحك الله كيف تقول في هذا؟ فقال: إن شئتم فقولوا: حدّثنا. وإن شئتم فقولوا أخبرنا. قال القاضي: أبو الفضل رضي الله عنه. وقد قال مالك رحمه الله: لمن سأله عن الأحاديث التي كتبها من حديث ابن شهاب، ليحيى بن سعيد الأنصاري، وقال له: أقرأها عليك. فقال: كان أفقه من ذلك. أي أن مثل هذا يغني عن القراءة. وقد بينا هذا الأصل في كتاب الإلماع الى أصول الرواية، وضروب السماع. وحكى ابن الفرضي أنه ذكر أن ابن حبيب كان يأخذ بالرخصة في السماع، وأنه كان له جوار يسمعنه وقد عرض به الغزال الشاعر في ذلك، فيما أذاه به من شعره، وأذى به غيره من الفقهاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه: الأشبه بطلان هذه الحكاية. فإن لابن حبيب كتاباً في كراهة الغناء. قال القاضي منذر بن سعيد: لو لم يكن من فضل عبد الملك، إلا أنك لم تجد لمن يحكي عنه معارضته والرد لقوله ساواه في شيء. وأكثر ما نجد أحدهم يقول: كذب عبد الملك، أو أخطأ ولا يأتي بدليل على ما ذكره. ذكر باقي أخباره وفضائله ونوادر أشعاره ذكروا أنه رفع للأمير عبد الرحمن بن الحكم، أن قاضيه ابراهيم بن العباس المرواني، ويحيى بن يحيى في جماعة يعملون على خلعه، وتقديم القاضي ابراهيم مكانه. وإن القاضي لا يقبل من أهل قرطبة إلا من أشار يحيى بقبوله. وكان يحيى هو الذي أشار على الأمير بتوليته القضاء. وأن يكون زونان كاتبه. فوجد الأمير على ابن حبيب وقال له: تعلم يدي عنك، وأريد أن أسألك عن شيء فأصدقني فيه. فقال: نعم. لا تسألني عن شيء إلا صدقتك فيه. فقال: إنه رفع إلينا عن يحيى والقاضي، أنهما يعملان علينا في هذا الأمر. فقال ابن حبيب: قد علم الأمير ما بيني وبين يحيى، ولكني لا أقول عليه إلا الحق، ليس يحيى بن يحيى إلا ممن يحيي الحق، وكل ما رفع عليه فباطل. وأما القاضي فلا ينبغي للأمير أن يشاركه في عدله، من يشركه في نسبه، فعزل القاضي. وقد رأينا أن يحيى قارضه أيضاً بمثل هذا. ولست أعلم أي قصة صاحبها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وقد ذكر أن بعض جيران ابن حبيب اشتكى إليه، بأن بعض المنصرفين لبعض الوزراء، أنه يؤذيه، ويستطيل عليه. فأمر عبد الملك برصده، فجيء به إليه، فضرب بين يديه ضرباً مبرحاً، فشكا الى صاحبه فكتب الى يحيى بن يحيى، فذكر له ما صنع ابن حبيب، بصاحبه وحاشيته. وسأله تأييده عليه عند الأمير. فكتب إليه يحيى: ما كنا نعينك على العلم وأهله، وأيم الله لأقلامنا أنفذ من سهامكم. فانصرف عن رأيك والسلام. وذكر أنه لما أراد أن يرحل، سأل عيسى بن دينار، أن يوصيه في مذهبه في رحلته، فقال له عيسى: إذا أصبت عالماً، فلا تظهر له مع علمه علماً، فيحرمك ما عنده. ومن فتاويه القصة المشهورة، وذلك أنه فيما ذكر أن المعروف بابن أخي عجَب، كان قد تكلم بعبث من القول في يوم غيم، شهد به عليه، فأمر الأمير عبد الرحمن بحبسه فأبرمته عمته عجب في إطلاقه. وكانت مكينة عند الأمير في حظاياه. فقال لها: نكشف أهل العلم، عما يجب عليه. وأمر والي المدينة بإحضاء الفقهاء، وفيهم القاضي موسى بن زياد وابن حبيب وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب، وأبو زيد بن ابراهيم وابان بن عيسى. فشاورهم في أمره فتوقفوا كلهم عن سفك دمه، إلا ابن حبيب وأصبغ وخرج عليهم فتى يقول لصاحب المدينة: قد فهم الأمير ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق. وهو يقول للقاضي: اذهب فقد عزلتك. وأما أنت يا عبد الأعلى، فقد كان الشيخ يحيى يشهد عليك بالزندقة ومن كانت هذه عنده صفته فكيف تسمع فتياه. وأما أنت يا ابان بن عيسى، فأردنا أن نوليك قضاء جيان فزعمت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 أنك لا تحسن القضاء. فإن كنت صادقاً، فما آن لك أن تتعلم، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يكون أميناً. وقال للآخر لم يروه الراوي. ثم قال لصاحب المدينة: وقد أمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين عبد الملك وأصبغ مع أربعين غلاماً، لينفذوا في هذا الفاسق ما رأياه. فخرج عبد الملك وهو يقول: سب رباً عبدناه. إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء. ثم أخرج ووقف على خشبة وهو يقول لعبد الملك: اتق الله في دمي أبا مروان، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وعبد الملك يقول: الآن وقد عصيت قبل. فلم يزالا حتى صلب وقتل، وانصرفا. فلما كان بعد هذا قيم على هارون بن حبيب أخي عبد الملك بن حبيب بمثل هذا. وكان ضيق الصدر كثير التبرم. ساكناً بالبيرة متحاملاً على أهلها. سيئ القول فيهم. وكان طالع بعض كلام المتكلمين فشهد عليه قوم عند قاضي البيرة، عبد الملك بن سلام المعافري، في شهادات. منها أن رجلاً جاء يطلب منه سلماً لصلاح مسجد، فقال له: لو أردته لكنيسة أعطيتكه. فقال له الآخر: المسجد أولى. قال: لا والله. إني رأيت من تعلق بالله مخذولاً. ومن تعلق بالشنيرة والقرابين عزيزاً الى حسن الحال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 ودخل عليه رجلان، في حال استبلاله من علة. فسألاه عن حاله. فقال لهما: أما الآن فلا بأس بي، إلا أني لقيت في مرضي هذا، ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم أستوجب هذا كله. فبعث قاضي البيرة بكتاب الشهادات الى الأمير عبد الرحمن بن الحكم، بعد أن سجن هارون في الحديد، فاختلف الفقهاء فيما يجب عليه. فبعث الأمير بالكتاب الى أخيه عبد الملك وغيره من الفقهاء. فأجاب في ذلك عبد الملك بجوابه العريض الطويل، المتضمن أوراقاً كثيرة. يتضمن حسن المخرج بكلام أخيه، وإسقاط الحد عنه، والعقوبة، فأسقط شهادة صاحب السلم بأن قال: هو شاهد واحد. ولم يجعل الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في شهادة الواحد. وإن كان مرضياً قطعها مقطعاً بحق. ولا يجب بها على أحد عقوبة بحبس ولا ضربة بسوط، فما فوقه بلاء. لو شهد عليه أحد أنه كفر وزنى وسرق وسكر لما ضرب بشهادته سوطاً. قال فكيف لو اجتمع عليه شاهدان، لما وجب عليه فيه شيء لتصرفه في المعنى، الى ما لا يجب به فيه شيء. واحتج بقول عمر لا يحل لامرئ مسلم يسمع الكلمة من أخيه المسلم أو عن أخيه المسلم أن يظن بها ظن سوء وهو يجد لها في شيء من الخير مصدراً. ثم قال: ومن تصريف اللفظ أن يقول: عنيت بقولي إني رأيت من تعلق بالله مخذولاً عندكم. ولا تعينونه، ولا تصرفون حقه. ومن تعلق بالقرابين كان عزيزاً عندكم، حسن الحال فيكم. إذا كان البلد بلد عجم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 واحتج على ما ورد من هذا المعنى بقول النبي صلى الله عليه وسلم: سيأتي على الناس زمان يكون الغني التاجر فيهم كالعالم الزاهد، فيكم، الحديث. فيصرفه الى معنى فساد الزمان. قال: ولو كان لا ينصرف الى هذا لوجب عليه القتل دون السوط لأنه كفر وأجاب عن شهادة السائلين له عن حاله، في المرض، وجوابهما. فقال: لو قتلت أبا بكر وعمر ما استجوبت هذا كله. بأن قال: هذا أحق من الأول. ولكنه ليس من كلام العقلاء. ولكنه من كلام السفهاء وأهل الجهالة، ومثله من كلام كثير من الناس عند شدة تصيبه، وينبغي أن يعنف قائله ويؤدب لسوء لفظه، وينهى عنه، بلا عقوبة تجب في ذلك، من ضرب ولا سجن ولا يحمل على تجوير الله وأطال الكلام في نفي العقوبة والحجة في ذلك. ثم قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: ادرأوا الحدود بالشبهات عن أمتي. فكيف ما لا حدّ فيه، ولا عقوبة، وما يتسع فيه المذهب والمعاني. ولو كانت تجب عليه عقوبة لقد كان في طول حبسه في الكبول، منذ ستة أشهر. ما يستقر كل عقوبة. ثم ذكر أن المدفع له فيمن شهد عليه، وبسط له في ذلك. وأجاب في القصة ابراهيم بن حسين بن خالد بضد ما أفتى به عبد الملك من التحريض على قتله، وترك التأويل لكلامه. وأودع ذلك جواباً طويلاً في أوراق، قريباً من جواب عبد الملك في العدد واحتج فيه بفعل عمر بصبيغ، وفعل علي لمن اتهمه بالزندقة. وقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة بقوله: أرى صاحبكم. وأطال بمثل هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وصرح بأن كلام هارون تصريح لمن أبصر وتعريض عند من رق بصره. والتعريض كالتصريح يقتل بهما وإن قوله في قصة أبي بكر وعمر تجوير لله وتظلم منه. ثم احتج في هذا الفصل بأن التعريض كالتصريح ثم قال: لو أن سلطاناً مثّله بقصة السلّم بشاهد واحد، ما عنفته وما خطأته لتكذيبه الله. إذ يقول: " ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون ". مع ما هو به معروف من الاستخفاف بالله والجرأة عليه. ثم قال: فليعزم الأمير في أمره. وفي رواية أخرى عند خذل الجاهلين، الذين لم يعرفوا حرمة الله، والدين. وأطال في الطعن على هؤلاء، وتحريض الأمير على الإضراب عنهم. ثم قال: ولا تشبهوا عليه الحديث. ادرأوا الحدود بالشبهات. ونحوه، فإنهم لا يعرفون تأويله. فقد كان ربيعة يقول: إنما ورد في الزنى لما أراد الله من ستره. واستشهد بحديث عمر: إنما جعل الله في الأربعة ستراً. ستركم به من فواحشكم. وقال بعضهم تفسيره ما لم يبلغ السلطان في زلة ذي الهيئة لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا حداً من الحدود. وهذا حد به هارون ليس من ذوي الهيئات. وكثير من هذا. ثم قال: وإن لم يتبين للأمير قولي، فليتحر ضربه. ويخلد سجنه، ويكتب الى المشرف بمسألته، ونحو هذا من الطعن على ابن حبيب وبيته. وكتب في ذلك ابراهيم بن حسين بن عاصم بقريب من جواب عبد الملك، من إسقاط الواجب عليه في قصة السلم، لكونه بشاهد واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 ولتأويل قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واحتج بما احتج به عبد الملك من حديث عمر وتأويل كلامه في التشكي من ذلك. وإنه لم يقدح في أبي بكر وعمر بقبيح. إنما ذكر فضلهما ولا ألحد في دين الله. والعفو عن الحدود أولى، واحتج بقوله: ادرأوا الحدود بالشبهات. قال: ولا حد أعظم من القتل وقد التبس الأمر في هارون، والله يوفق للأمير السداد. وكتب القاضي بقرطبة إذ ذاك سعيد بن سليمان البلوطي بنحو جواب ابن عاصم. قال فيه: جاءت الآثار المحكمة والسنة الماضية بالحدود الجارية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قتل قُتل ومن سبّ الله وأنبياءه، قتل. ومن غيّر دينه، قُتل. ومن حارب، قتل، أو حكم فيه بما جاءت فيه الآية. ولم يجد فيما لفظ به هارون شتماً، يوجب القتل. وكان لقوله مذهب لا يوجب عليه القتل، رأيت عليه الحبس والتثقيل فيه. والشدة في الأدب لما فاه به، وجدف فيه. وجاء من ابن حبيب جواب آخر طويل نحو الأول، يناقض فيه ابراهيم بن حسين بن خالد فيما ناقضه به. ويطلف عليه وعلى جميع المذكورين من الفقهاء والقاضي، وينقض عليهم ويعرض بما يوجب إسقاط فتواهم، ويصفهم واحداً واحداً، ويذكر الأمير ما يوجب عداوته هو، معهم. من تأليبهم عليه وتخريجه قبل هذا هولهم. وأنه أفتى بتجويز الظلم منهم، وأن القاضي عزل فتواه مرتين، وأن قاضي البيرة عدو لأخيه. وأساء القول جداً في ابراهيم وابن حارث، وعبد الأعلى وغيرهم ممن رأى قتله. وممن لم ير قتله، أو رأى ضربه، ثم قال: أيشك الأمير في عداوتهم لي؟ ولأهل المقام الذي قمت فيهم؟ فكيف يشاورون في أحد من الناس ويقبل لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 قولاً، ولئن كنت عنده فيما قلت كاذباً، ما يحل للأمير أن يستشيرني، ويقبل لي قولاً أبداً. فأوصى الأمير الى عبد الملك أنا أخذنا بقولك في أخيك. وأمرنا بالكتاب الى عاملنا بإطلاقه، فسأله عبد الملك أن يقدم به الى قرطبة فيكون بها مسجوناً أدباً لحده وعصيانه له. قال المغامي: طرقت عبد الملك بن حبيب يوماً بغلس حرصاً على الاقتباس منه، واستأذنت عليه، فأذن لي، ودخلت. فإذا به جالس في مجلسه، عاكفاً على الكتب، قد أحاطت به. فنظر فيها والشمعة بين يديه تقد، وطويلة عليه، فسلمت فرد علي، وقال لي: يا يوسف أوَقد انسلخ الصبح. قلت: نعم، وقد صلينا. فقام الى صلاة الصبح، فصلاها، ثم رجع الى مقعده. وقال: يا يوسف ما صليت هذه الصلاة إلا بوضوء العشاء الآخرة. قال المغامي: كانت لابن حبيب قارورة، قد أذاب فيها اللبان في العسل، يشرب منها كل غداة على الريق، للحفظ. وكتب ابن حبيب، الى الرشاش الأديب يستهديه مداداً، ووجه إليه بقارورة كبيرة. احتجت من حبر الى سقيه ... فأمدد لنا منه مرساك وابعث وإن قل به طيباً ... ولا تكن دوناً فنلحاك ولا تهولنك قارورتي ... فإنها أقنع من ذاك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وأنشد له الزبيدي: صلاح أمري والذي أبتغي ... هين على الرحمن في قدرته ألف من الصفر وأقلل بها ... لعالم أوفى على بغيته زرياب قد يأخذها قفلة ... وصنعتي أشرف من صنعته ويروى فأخذها زرياب في نومه وأنشد له ابن الفرضي قصيدة كتب بها الى أهله من المشرق، سنة عشرين ومائتين: أحب بلاد الغرب والغرب موطني ... ألا كل غربي إليّ حبيب فيا جسداً أضناه شوق كأنه ... إذا نضيت عنه الثياب قضيب ويا كبداً عادت رفاتاً كأنها ... يلدغها بالكاويات طبيب بليت وأبلاني اغترابي ونأيه ... وطول مقامي بالحجاز أجوب وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ... ومن دونهم بحر أجشّ مهيب وهول كريه ليله كنهاره ... وسير حثيث للركاب تنوب فما الداء إلا أن تكون بغربة ... وحسبك داء أن يقال غريب فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بأكناف نهر الثلج حين يصوب وحولي صِحابي وبنتي وأمها ... ومعشر أهلي والرؤوف مجيب ولما بلغه من تحامل الفقهاء عليه، ما شق عليه كتب الى الأمير عبد الرحمن: أسبغ الله على الأمير كرامته، وأعلا في الجنة درجته، أن العذري، أكرم الله الأمير، قال أبياتاً أعجب بها العلماء، ما فيها مثل يضرب على الأمير في خاصة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 نفسي واليسير من التعرض يكفي غيره من التصريح، كما قال الشاعر: لذي اللهب قبل اللوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما وهي: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلنَ لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم يلقى اللبيب مشتماً لم يحترم ... شيم الرجال وعرضه مشتوم وما هذا إلا كما قال زهير: وأخذ التحمي ليس يبرح حاملاً ... ذنباً عليك عرفت أم لم تعرف وكتب الى الأمير عبد الرحمن بن محمد في ليلة عاشوراء: لا تنس لا ينسينك الرحمن عاشورا ... واذكر لا زلت في الأحياء مذكورا قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولاً وجدنا عليه الحق والنورا من يأت في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول مبرورا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وتوفي ابن حبيب في ذي الحجة، سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين. وقد بلغ سنة ستاً وخمسين سنة. وقال الشيرازي ثلاثاً وخمسين سنة. وقبره بقرطبة أم سلمة في قبلة مسجد الضيافة. وصلى عليه ابنه يحيى. وقال محمد بن حارث: توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين إلا ستة شهور في ولاية الأمير محمد. قال ابن لبابة: حفر الى ابن وضاح الى جانب قبر ابن حبيب فانفتح ما بين القبرين فأدخل الحافر يده الى جنبه، وافر؟ لم تأكله الأرض. والتصق بيده من الكفن ورثاه أبو عبادة الرشاش وغيره: لئن أخذت منا المنايا مهذباً ... وقد قل فينا من يقال المهذب لقد طال فيه الموت والموت غبطة ... لمن هو مهموم الفؤاد معذب ولأحمد بن باجي فيه من قصيدته: ماذا تضمن قبر أنت ساكنه ... من التقى والندى يا خير موعود عجبت للأرض أن غيبتك وقد ... ملأتها حكماً في البيض والسود وخلف ابنين. محمد، وعبد الله، من ولده، وكان له حظ من العلم، إلا أن الزهد غلب عليه والعبادة. فانقطع إليها ولم يرغب في الدنيا، وعاد الى بلده البيرة، فلزمها الى أن توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. وقيل في نيف عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 حدث عنه محمد بن فطيس الألبيري وكان يثني عليه ويحيى بن مطر وغيرهما. وقد روى أنها عن محمد. ووصف بالفضل والعلم. هارون بن سالم قرطبي يكنى أبا عمر. عده ابن أبي دليم في هذه الطبقة. قال ابن عبد البر: سمع من عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، ورحل الى المشرق، فلقي أشهب وروى عنه، وعن أصبغ وعلي بن معبد، وسحنون، وروى عنه عامر بن معاوية القاضي. وأدخل العتبي من روايته المستخرجة، في كتاب الايمان بالطلاق. وكان منقطع القرين في الفضل والزهد، والعلم. وكان أحمد بن خالد يقول: إنه مجاب الدعوة. وإن دعوته استجيبت في أشياء. وكان بينه وبين ابن خالد قرابة، من قبل الأم، وكان يحفظ المسائل حفظاً حسناً. إلا أن العبادة غلبت عليه. قال ابن أبي دليم: وكان إذا دخل رمضان قال لزوجه أطوي الفراش. فلا ينام على فراش، حتى ينسلخ رمضان. وتوفي حدثاً في الأربعين من سنه متقدماً لقرنائه. سنة ثمان وثلاثين ومائتين. وكانت كتبه موقوفة عند أحمد بن خالد، وسنّه أربعون سنة. وقال ابن وضاح: ما رأيت هنا مثله. كنت إذا رأيته يصلي رحمته. قال غيره: كان إذا صلى يرتعد. وهو خال بني هلال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 موسى بن الفرج قرطبي يلقب بالثلجيلي. روى عن أشهب بن عبد العزيز. قال خالد: كان فقيهاً في المسائل على مذهب مالك. قال ابن حارث: كان من أهل الفتيا. وكان أبو صالح يصفه بالفقه. قال ابن وضاح: أخبرني سحنون وزياد بن المبشر أن ابن القاسم دعا عليه. وقال: لأعرضنّه على الله بالبكور والأسحار. وكان دعاؤه عليه سبب ما مشى بينه وبين أشهب، حتى أفسد ما بينهما. هشام بن حبيش طليطلي بضم الحاء المهملة وبعدها باء. كان صاحب رأي ومسائل. ورحل فسمع من ابن القاسم، وأشهب. وكان من أهل الفتيا والأسماع بصير بالاعراب. ذكره ابن حارث. الفضل بن عميرة وابنه عبد الرحمن قال أبو سعيد: فضل بن عميرة بن راشد بن عبد الله بن سعيد بن شريك بن عبد الله بن مسلم بن نوفل بن ربيعة بن مالك بن مسلم الكناني العتقي من أهل تدمير يكنى أبا العافية. قال ابن أبي دليم، وغيره: رحل مع ابنه عبد الرحمن فحجّا، وسمعا من ابن القاسم، وابن وهب، ومطرف وابن الماجشون. وكانا سمعا بالأندلس من يحيى بن مضر وغيره. وولي الفضل قضاء تدمير في إمرة الحكم بن هشام الى أن توفي، سنة سبع وتسعين ومائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 ثم ولي مكانه القضاء بها ابنه عبد الرحمن، ويكنى أبا المطرف. وكان سمع من أبيه، ومن شيوخ أبيه، كما ذكرنا. قال ابن حارث: وكان له طلب وعناية. وتوفي سنة سبع وعشرين ومائتين. ولهما عقب جميل في العلم، وبيته جليل في النباهة الى وقتنا. الفرج بن كنانة قال ابن حارث: هو الفرج بن كنانة بن نزار بن عتبان بن مالك الضمري. من ولد عمر بن أمية الضمري الكناني. نسبه في كنانة. ومسكنه في جند فلسطين. وكان مسكنه شذونة. قال ابن عبد البر: كنيته أبو القاسم. قال ابن حارث: وكان من أهل العلم والعبادة. وكانت له رحلة الى المشرق، سمع فيها من عبد الرحمن بن القاسم وغيره، من أهل العلم. قال غيره وسمع من ابن وهب. ولاه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن قضاء قرطبة سنة ثمان وسبعين. فكان قاضياً أيام فتنة الربض، فاستنقذ الله بشفاعته كثيراً. وسكن من الأمر عند الأمير، فقال له إن قريشاً حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطردته، وبالغت في أذاه، وهو يدعوهم الى الهدى، ثم كان من صفحه عنهم لما أظهره الله عليهم ما علمت. وأنت أحق الناس بالاقتداء به لمكانك من قرابته وخلافة الله في عباده. فسكن عنهم وبذل لسيئاتهم الأمان على الجلاء عن قرطبة، وتردد القضاء في عقبه ببلده، مدة طويلة. ولم يزل القضاء متردداً في ولده بشذونة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 قال: وكان الفرج مع فهمه فارساً شجاعاً، يتصرف للسلطان في قود الخيل وسد الثغور، وقيادتها. وقد ولاه الأمير الحكم، سرقسطة عند انتقاض طاعة بعض أهلها، من الغرب. لمكانه منهم. فألف كلمتهم وصلحت به أحوالهم. قال ابن عبد البر: كان فارساً شجاعاً شريفاً حكيماً جزلاً خيراً فاضلاً. ولي أثر ابن بشير فسلك سبيله. وكان صلب القناة في حكومته يعطي طوابعه في كل أحد من قرابة السلطان ووزرائه. فلا يرد له طابع. ولي سنة ثمان وتسعين واستعفى سنة مائتين فأعفي. قال ابن أيمن: كان للفرج قدر جليل، في الناس، ومكان عند السلطان. وله عقب فاش بشذونة. ذوو نباهة تردد فيهم قضاء بلدهم. يحيى بن معمر بن عمران بن حنبل بن عبيد بن أنيف الألهاني من العرب الشاميين. من أهل إشبيلية. كان منزله بمعدانة. قال ابن عبد البر: كنيته أبو بكر. قال ابن حارث: وكان في وقته فقيه إشبيلية وفارضها. وله رحلة. لقي فيها أشهب بن عبد العزيز. وأخذ عنه، وعن غيره من أهل العلم، وكان ورعاً زاهداً، فاضلاً عفيفاً مقبلاً على عمارة ضيعته. باب ولايته القضاء وسيرته وفضله قال ابن حارث: استقدمه الأمير عبد الرحمن بن الحكم ببلده، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 قضاء قرطبة، فعدّ من خير القضاة في قصد بصيرته، وحسن هديه، وصلابة قناته. لا يميل بلومة لائم وكان إذا أشكل عليه أمر، من أحكامه، واختلف عليه الفقهاء. تأنّى به، وكتب فيه الى مصر، الى أصبغ بن الفرج وغيره، من نظرائه بكشفهم عنه، فيجابهونه بما يعمل عليه. فكأنه يحقر بذلك فقهاء قرطبة فيدنونه؟ ويتبعون عثراته. وكان أشدهم عليه، زعيم الجماعة يحيى بن يحيى، وكانت آفة هذا القاضي، قلة رضاه عن الفقهاء، وتتبعه سقطاتهم، وقلة مداراته لهم. حتى سجل سبعة عشر رجلاً منهم السخط؟ فتفرقوا عنه بأجمعهم، ورفعوا عليه من كل جانب، وسعوا عليه جهدهم، حتى عزل. وذكر أنه لما عزل وأزمع على الرجوع الى وطنه، إشبيلية، أرسل إليه رجل من الوزراء كانت له به خاصة، ودالّة، بزوامل وأعوان، وقال له: عرّفه بثنائي على حفظ عهده، وسله أن يجعل على هذه الزوامل ثقلته. فلما أتاه بذلك جزاه خيراً على فعله. وقال له: أدخل حتى ترى ما عندنا من الثقلة، لتقيم العذر فيما رددناه على أبيكم من مكرمته. فإذا بيته خلا إلا من حصير، وخابية بدقيق، وقصعة، وقلة الماء، وقدح وفراش بتبن وسريرة كان يرقد عليها. وقال هذه والله ثقلتي. والله المحمود على اليسير. ثم قال لخادمه: فرّق الدقيق على من بالباب من الفقراء. وادفع الحصير والآنية الى ضعفاء الحومة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ثم ركب منصرفاً الى بلده. قال ابن وضاح: صليت صلاة الكسوف مع ابن معمر في جامع قرطبة، سنة ثمان عشرة ومائتين، فأحسن الصلاة، ولم يقم لها وطوّلها. بدأها ضحى وأتمّها في القايلة وقد تجلت الشمس وذلك في الصيف. بقية أخباره قال يحيى بن يحيى: لما قام الناس على ابن معمر أتاني سعيد بن حسان فقال لي: ما ترى في شهادتي عليه؟ قلت: لا تفعل، وانتظر أن تُشاور فيه، فيكون رأيك أنفذ من شهادتك. فغلبته شهوته وشهد فيه. فلم أنشب أن أتاني كتاب الأمير يقول لي: تصفحت الشهادات فلم أرَ فيها شهادتك وقد وجهتها إليك لتتصفحها، وتكتب برأيك فيها. فكتبتها الى الأمير: ما عندي من أخبار القاضي شيء. لأنه لم يكن يحضرني مجلسه. ولا يشاورني. وأما الشهادات عليه فلو وقع مثلها على مالك والليث ما رفعا بعدها رأساً. فأمسى معزولاً. قال ابن حارث: ثم ولي بعد الأسوار بن عقبة البصري، وكان من أهل الخير والتواضع والتحري، كان يحمل خبزه الى الفرن بنفسه، ولما عزل وأريد منه ثانية أبي، وقال فيّ عيوب كثيرة ضعف بدني، وكثر ولدي، فقيل له أو كثر ولدك من العيوب؟ قال: من أشدها. فولي يحيى بن معمر ثانية. وذلك أن الأمير ورد إشبيلية، فوجد بعض حواشيه، يحيى ابن معمر في جنة له، يستقي الماء بخطارة، ويسقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 بقل جنانه. فذكر ذلك للأمير، فقال، الأمير: والله ما أشك في فضل الرجل وورعه، وإني لأظن أن الواقعين تألبوا بالباطل، وأمر من ساعته بتوجيهه الى قرطبة. فلما قدم حلف ألا يستبقي يحيى بن يحيى، ولا زونان، ولا سعيد بن حسان. فبقيت الأحكام معلقة الى مقدم الأمير، فبلغه. فأنكر ذلك. فقال له: قد أقسمت على ذلك. وفي البيرة رجل من أهل العلم والتقدم، ستغنى به عنهم. يعني عبد الملك بن حبيب. فأقدمه، وانفرد بفتياه. قال ابن أيمن، عن محمد: كنت يوماً عند ابن معمر. إذ دخل عليه ابن حبيب. فلما أخذ مجلسه قال له: قضيته، الآن أحب أن تنفذ فيها، بما أشرت به عليك هو الحق إن شاء الله. وكان ابن معمر، يريد أن يحكم فيها بقول ابن القاسم، وأفتاه ابن حبيب بقول أشهب. فقال ابن معمر: والله لا أفعل، ولا أخالف ما وجدت عليه أهل البلد من العمل على قول ابن القاسم. فما زال التراجع بينهما، حتى قام ابن حبيب مغضباً. فقلت له: هذا ابقه على أعدائك، كأني به قد صار في عددهم، ثم يعزلونه ثانية. فقال بالعزل تخوفني. ليت بغلتي عجزت في سهلة الحدود منصرفاً الى إشبيلية. وقد اختلفت الأخبار هل مات معزولاً أو قاضياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 قال ابن عبد البر: كان أول ما ظهر من حذق ابن معمر، أن تقديمه الى القضاء وافق ليلة فطر، وأضحى فمشى صبيحتها الى المصلى يقيم الصلاة، وكانت الصلاة للقاضي. وكان ابراهيم يومئذ أمر، أن يقام للإمام عترة. يصلي إليها، إذ لم يكن يومئذ للمصلى محراب. فإذا بأهل النباهة والفطنة من ذوي الهيئات، قد احتشدوا العترة، ليتعرفوا خطبته. فلما جاء وراءهم فهم الأمر. فكادهم بأن قال لقومه: إنذي أرى الناس قد ازدحموا، الى العترة، فقدّموها الى الفضاء، ليستوسعوا، فقدموها، وشط أنشاط الناس واخفاؤهم، فاصطفوا قربها، وتشاغل أولو الهيئات عن ذلك، ومكثوا مكانهم. فحصل قرب الشيخ من لم تكن عليه مؤونة. وقطع بأولئك. وذكر عن عثمان بن سعيد الزاهد، قال: لما احتضر يحيى بن معمر بإشبيلية، قال لمولى له من أهل الصلاح: أقسم بالله عليك، أجل الأقسام، إذا أنا متّ ألا ما ذهبت ليحيى بن يحيى فقل له يقول لك ابن معمر: " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلَبٍ ينقلبون ". ففعل ذلك. فبكى يحيى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما أظنه إلا خدعنا في الشيخ وسيء بيننا وبينه. ثم استغفر الله ملياً. ودعا له. وذكر ابن حارث: أنه ولي القضاء بقرطبة مرتين. إحداها سنة تسع ومائتين والأخرى بعد ذلك. قال ابن الفرضي: وهو الصحيح. قال ابن أبي دليم: وتوفي سنة ست وعشرين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 طبقة ثانية بعد هؤلاء منهم من أهل المدينة أبو الحكم المعروف بالبربري قال القاضي اسماعيل بن إسحاق: أبو إسحاق بن الحكم المدني. المعروف بالبربري. كان من أصحاب عبد الملك بن الماجشون. وكان مشهوراً بكنيته. روى عنه القاضي اسماعيل في المبسوط، مسائل من الاحباس. ثم سأل عنها القاضي يحيى بن أكثم، عبد الملك بن الماجشون فأجابه فيها. من أهل العراق يعقوب بن شيبة ابن الصلت بن عصفور بن شداد بن هيمان السدوسي مولاهم. أبو يوسف وقال الخطيب عن حفيده محمد بن أحمد في نسبه: عصفور بن ميدان مولى شداد ابن هيمان السدوسي. قال في الكتاب، الحكمي، وابن حارث: إنه كان بارعاً في مذهب مالك. وألّف في تآليف جليلة. أخذ ذلك ابن المعذل وأصبغ بن الفرج، والحارث بن مسكين، وسعيد بن أبي زيد، ولقي جماعة من أصحاب مالك. قال ابن كامل الفرضي: كان من فقهاء البغداديين على قول مالك، ومن كبار أصحاب أحمد بن المعذل والحارث، وكان من ذوي السند وكثرة الرواية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 ويعقوب هذا أحد أئمة المسلمين، وأعلام أهل الحديث المسندين. يروي عن فريد بن هارون، ويونس بن محمد، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي بكير، وجماعة ممن روى البخاري عن رجل منهم، فمن دونهم. قال أبو بكر الخطيب في تاريخ البغداديين: سمع يعقوب بالبصرة على ابن عاصم. ويزيد ابن هارون، وروح بن عبادة وعفان بن مسلم، ويحيى بن عبد الله الأنصاري، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي بكير، وأبا الوليد الطيالسي، وجماعة ذكرهم. روى عنه ابن ابنه محمد بن أحمد ويوسف بن يعقوب بن البهلول. قال: وكان ثقة سكن بغداد، وحدث بها، وبسرّ من رأى. ورماه أحمد بن حنبل بهواء وبدعة، حين أمر المتوكل بسؤال أحمد عمن يتقلد القضاء. فذكر له. قال الخطيب: إنما رماه بذلك لوقوفه في القرآن. قال ابن كامل: كان يقف بالقرآن. وقرأت بخط الحكم، والله أعلم، أن يعقوب كان ممن يقف في القرآن. قال القاضي: أصل وقوفه فيه. تقيه. أو سكوتاً عن الكلام فيما لم يتكلم فيه السلف، مع اعتقاده الحق والله أعلم. قال ابن كامل وكان لا يغير شيبة. قال ابن عبد البر: يعقوب أحد أئمة أهل الحديث. وصنف مسنداً معللاً. إلا أنه لم يتمه. قال الأزهري: سمعت الشيوخ يقولون، إنه لم يتم مسند معلل قط. قال عبد الغني بن سعيد: لم يتكلم أحد عن علل الحديث بمثل كلام يعقوب، وعلي بن المديني والدارقطني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 قال شيخنا أبو علي القاضي، وكان أبو عبد الله بن أبي نصر الحميدي يقول: لو وجد كلام يعقوب على أبواب الحمامات للزم أن يُقرأ، ويُكتب. فكيف، ويوجد بسند لا مثل له. إعجاباً بكلامه. وقد ذكر الخطيب عن الدارقطني، وأبي عمر بن حيوة أنهما قالا: لو كان كتاب يعقوب على حمام. سطوراً لوجب أن يكتبها. وذكر عن الأزهري، أنه بلغه أنه كان في منزل يعقوب أربعون لحافاً، معدة لمن يبيت عنده من الوراقين، لتبييض كتابه، ونقله. ولزمه على ما خرج منه عشرة آلاف دينار. قال وقيل لي: إن مسند أبي هريرة منه. ومر بمصر في مائتي جزء. قال الخطيب: والذي ظهر منه مسند العتبة، وابن مسعود، وعمار، وعتبة بن غزوان، والعباس، وبعض الموالي. هذا الذي رأينا في مسنده حسب ما قال الباجي. وكان وقع لشيخة القاضي أبي علي منه قطعة صالحة. قال يوسف بن إسحاق بن البهلول، قال يعقوب بن شيبة: أظل عيد من الأعياد رجلاً. وعنده مائة دينار. لا يملك سواها فكتب إليه أخ يخبره أن العيد أظلّه، ولا شيء عنده ينفقه على الصبيان ويستدعي منه نفقة. فوجه إليه المائة في صرة، قد ختمها. فلم يكتب حتى كتب أخ آخر الى ذلك الرجل، يشكو له مثل شكواه هو للأول، ويستدعي مثل ما استدعاه. فوجه الصرة إليه، بختمها. وبقي الأول بلا شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 فكتب الى صديق له: يستدعي منه نفقة. ويذكر إضاقته، فإذا به الثالث الذي عنده الصرة. فوجه بها إليه بختمها. فعرفها واستراب شأنها. فركب إليه ومعه الصرة. وسأله عن شأنها. فأخبره أنها وصلت إليه من صديقه فلان، بعدما استدعيت منه ما أنفقه. فلما وردت رقعتك عليّ آثرتك بها. فقال له: قم بنا إليه. فركبا جميعاً الى الثاني ومعهما الصرة. فتواصلوا الحديث. ثم فتحوها. فاقتسموها، أثلاثاً. قال يوسف والثلاثة: يعقوب بن شيبة، وأبو حسان الزيادي، وفلان، سماه. وقد تقدم شبه هذه القصة للواقدي، في أخباره. قال يعقوب: سألت أبا عمرو يعني الحارث بن مسكين عن المراكب في البحر. ينفق عليها السلطان ويجعل فيها ما يكفي، لمن يركب فيها، مما يأكلون الى أن يرجعوا، أترى للمطوعة أن يركبوها. فكأنه كره. ولم يعجبه. وسألته عن مبايعة الجند والسلطان. فكره ذلك للطعام والشراب وغير ذلك. وأن يجلب الى عسكرهم شيء. فقال ألا يخرجوا في غزو فأرجو أن لا يكون بمبايعتهم في جهتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 قال: وسألته عما أخرج السلطان مباحاً للناس، كالجسور والقناطير، وما يوضع في الطريق للشرب وشبهه. فقال أما ما لا يجد الرجل منه بداً، كالمساجد الجامعة، والجسور وشبهها فلا بأس به. وقد يبسطون به للمسافر. ويسرجون القناديل، وأما ما وجد منه بداً، فلا. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنتين وستين ومائتين. مولده سنة اثنتين وثمانين ومائة. مع ابن عبد الحكم. في سنة واحدة. وقال ابن عبد البر: سنة أربع وثمانين. ي الطريق للشرب وشبهه. فقال أما ما لا يجد الرجل منه بداً، كالمساجد الجامعة، والجسور وشبهها فلا بأس به. وقد يبسطون به للمسافر. ويسرجون القناديل، وأما ما وجد منه بداً، فلا. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنتين وستين ومائتين. مولده سنة اثنتين وثمانين ومائة. مع ابن عبد الحكم. في سنة واحدة. وقال ابن عبد البر: سنة أربع وثمانين. أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن ضمره النيسابوري المعروف بالعطار وكان فن فقهاء المالكية الخراسانيين فيهم. درس المذهب بنيسابور. وهو آخر من درس مذهب مالك رحمه الله تعالى ذكر ذلك أبو نصر بن ماكولا الحافظ، قال: وتفقه بعبد الله بن عبد الحكم. وسمع أبا عبد الله ابن أخي ابن وهب، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن منيع، ومحمد بن رافع، وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين. من أهل مصر أبو إسحاق البرقي واسمه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عمرو، ابن أبي الفياض، مولى زهير. قال عبد الله بن محمد بن أبي دليم القاضي: كان صاحب حلقة أصبغ معدوداً في فقهاء مصر، يروي عن أشهب وابن وهب، وقد أخذ عن البرقي الناس بمصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وروى عنه يحيى بن عمر. قال أبو عياش القروي: كنا عند البرقي بمصر، فامتنع علينا من إسماع بعض ما سألناه. فقلت لأصحابه: دعونا من هذا. فقد تركنا خلفنا من يكفينا عن الناس كلهم. قال، من هو؟ قلت: سحنون. فلم ينكر ذلك. وله مجالس وسماع، وكتب عن أشهب. حملنا عنه. قال ابن أبي دليم: وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين. ذكر بني عبد الله بن عبد الحكم وهم أربعة قد قدمنا في ذكر أبيهم وجدهم، نسبهم. وهم عبد الحكم، وعبد الرحمن، وسعيد، ومحمد. قال ابن حارث: وكانوا بمصر أربعة إخوة فقهاء علماء. بنو عبد الله بن عبد الحكم. فأما عبد الحكم بن عبد الله، أبو عثمان، فكان أكبر بني عبد الله. قال ابن أبي دليم، وابن حارث، ولم يكن فيهم أفقه منه ولا أجود حظاً، وكان خيراً، فاضلاً. له سماع كثير من أبيه، وابن وهب، وغيرهما من رواة مالك. وكان من أكابر أصحاب ابن وهب. قال الكندي: كان فقيهاً. قال أبو الطاهر: لم يكن في أصحاب ابن وهب أتقى منه، ولا أجود حظاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 حدث عنه الزيادي. وتوفي بمصر، في سجن يزيد التركي وعذابه سنة سبع وثلاثين ومائتين. قال زكريا بن يحيى بن الحكم. شهدت يحيى بن عبد الله بن عبد الحكم، ابن عبد الحكم. فقال لي أبوه: يحضر طعام ابن أخيك. فأتى بثريدة فأكلنا. ثم أتى بجفنة بطيخ، وكان ابن عبد الحكم هو الذي يخدمنا، ويوصينا. وكذلك كان طعامه للناس. ووجه الى المسلمين الذين حوله، في صلاة المغرب لكل مسجد ثريدة وجفنة بطيخ. خبر محنته كان القاضي نصر ابن أبي الليث الأصم، وكان معتزلياً. وقد امتحن بني عبد الحكم مع سائر الفقهاء، وأهل الفضل في القرآن، كما قدمنا. ثم وردت على الأصم كتب من العراق، في استخراج مال الجروي. من عند بني عبد الله بن عبد الحكم وغيرهم. فشهد جماعة بذلك، وشهد بنو عبد الحكم وآخرون: أن الجروي ابراهيم فتحامل عليهم ابن أبي الليث، وحكم على بني عبد الحكم بألف ألف دينار، وأربعمائة ألف، وأربعة آلاف دينار وحكم على زكريا بن يحيى كاتب العمري، بثمانية آلاف. وألزمهم المال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 ودفع القصة الى يزيد التركي، الموجه في الحال من قبل المتوكل. فألزم المال بني عبد الحكم، وشدد عليهم، وسجنهم. فعذب عبد الحكم بن عبد الله حتى مات في عذابه، لأربع بقين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين. واستصفيت أموال بني الحكم وأصحابهم، ونهبت منازلهم، وملئت السجون من الناس، الى أن ورد كتاب المتوكل بإخراجهم من السجن، ورد أموالهم إليهم، وسجن الأصم القاضي، وقد كان ورد قبل هذا كتابه بسجنه، وسجن أصحابه، واستصفاء أموالهم، ولعنه على المنبر، فلعن. ولعنته الأمة على إثر ذلك. ثم أخرج من السجن، لينظر في أمر بني عبد الحكم، فوضع يده على بيت المال، فبذره. وذلك نحو مائة ألف وعشرين ألفاً. ودفعوا الى كل واحد منهم من الذين سجنوا معه العشرة الآلاف ونحوها، فأمر المتوكل بسجنه، وأمر بحلق رأسه ولحيته، وضربه بالسوط. وحمله على حمار بأكافٍ، وتطويفه بالفسطاط، ففعل ذلك كله به. وحكى ذلك أبو عمر الكندي، في كتاب الموالي، وفي كتاب القضاة. وذكر غيره، أن موت عبد الحكم إنما كان بسبب المحنة في القرآن، وأنه دخّن عليه بالكبريت حتى مات. وقال المالكي: سجنه الأصم وابن أبي الجواد فلم يرجع. فضرب في مسجد مصر أقل من ثلاثين سوطاً في خلافته. أخوه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله، سمع من أبيه وابن وهب، وأشهب وابن القاسم، وشعيب ابن الليث وغيرهم، من أصحاب مالك والليث. وصحب الشافعي، وكتب كتبه، وأخذ عنه. كان أبوه ضمه إليه، وأمره أن يعول عليه، وعلى أشهب. وكان محمد أفضل الناس فهماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 ويروي عن أبي فديك، وأنس بن عياض، وشعيب بن الليث، وبشر بن بكير، وحرملة بن عبد العزيز، وإسحاق بن الفرات. وخالد بن عبد الرحمن الخراساني. وأيوب بن سويد. روى عنه أبو بكر النيسابوري، وابراهيم بن محمد الحلواني، وأبو حاتم الرازي. وابنه عبد الرحمن، وأبو بكر الأصم، وأبو إسحاق بن خزيمة. وعيسى بن مسكين. وسعيد بن إسحاق، وعمر بن يوسف الإشبيلي، وعمر بن حفص بن غالب، ومحمد بن فطيس، وعبد الله بن خالد الفارسي، وأبو جعفر الطبري. ومحمد بن الربيع الجيزي، وسعد بن معاذ. ذكر مكانه من العلم والفضل قال ابن حارث: كان من العلماء الفقهاء، مبرزاً من أهل النظر، والمناظرة، والحجة فيما يتكلم فيه ويتقلده من مذهبه، وإليه كانت الرحلة من المغرب في العلم والفقه من الأندلس. قال أبو عمر بن عبد البر: كان فقيهاً نبيلاً جليلاً، وجيهاً في زمانه. وحكي لابن القاسم قوله فيه: أن قيل بحر العلم. وهذا يبعد لما نذكره. قال الشيرازي: إليه انتهت الرياسة بمصر. قال ابن أبي دليم: كان فقيه مصر في عصره، على مذهب مالك، وصحب الشافعي، فرسخ في مذهبه. وربما تخير قوله عند ظهور الحجة له. وكانت له مناظرة في الفقه. قال الكندي: كان أفقه أهل زمانه، وإليه انتهت الفتيا بمصر، وناظره ابن ملول صاحب سحنون، فقال لي معه، صاحبكم أعلم من سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 قال سعيد بن عثمان: محمد بن عبد الحكم ثقة، فاضل عالم. رأيته بمصر يركب حماراً قصيراً حقيراً، منتوف الذنب، ويقول: فقيه الطريق. ويروح الى الجمعة بقميص مرقوع بين كتفيه. ولو شاء لبس أرفع الثياب، وركب أفره الدواب، لسعة ماله. وذكر كثيراً من فضله وتواضعه. وقال ابن أبي حاتم: هو صدوق ثقة، ونبيل، الثناء عنه، هو أطرف وأنصف من أن يكذب. قال محمد بن فطيس الأيسري: لقيت في رحلتي، نحو مائتي شيخ، ما رأيت فيهم مثل محمد بن عبد الحكم. قال أبو عمر الصدفي: ورأيت أنا أهل مصر، لا يعدلون به أحداً. ويصفونه بالفضل والعلم والتواضع. ووجدت حلقته قائمة بجامع مصر، قد جلس فيها ابن رمضان، وذكر الخطيب في تاريخ البغداديين، عن أخيه سعد بن عبد الله: كان الشافعي يأتي راكباً الى الباب، يعني باب بني عبد الحكم. فيقول ثمّ محمد؟ فيدعوه فيذهب معه الى منزله، فيقيل عنده. قال أبو بكر بن خزيمة: وهم أربعة إخوة، فسماهم. قال ولم ندرك نحن منهم إلا اثنين. يعني محمداً وسعداً. قال: ومحمد أعظم من رأيت في مذهب مالك، وأحفظهم له. وسمعته يقول: كنت أتعجب ممن يقول في المسائل، لا أدري. فأما الآثار، فلم يكن يحفظها. وكان أعبدهم، وأكثرهم اجتهاداً، وصلابة سعد. وكان محمداً من أصحاب الشافعي، وممن يتعلم منه. وله تواليف كثيرة، في فنون العلم، والرد على المخالفين. كلها حسان. ككتاب أحكام القرآن، وكتاب الوثائق والشروط، وكتاب مجالسه أربعة أجزاء وكتاب الرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 على الشافعي، فيما خالف فيه الكتاب والسنة، وكتاب الرد على أهل العراق، وكتابه الذي زاد فيه على مختصر أبيه، وكتاب أدب القضاة، وكتاب الدعوات والبينات، وكتاب اختصار كتاب أشهب، وكتاب السبق والدين، وكتاب الرد على بشر المريسي، وكتاب الصوم وكتاب الكفالة، وكتاب الرجوع عن الشهادات، وكتاب المؤيدات. قال ابن حارث: وأرى أنها مولفة عليه. لأنها مسائل منثورة لم تضم لباب كالأسمعة. ذكر أخباره ذكر أبو إسحاق الشيرازي محمداً في الشافعية، ولم يذكره في المالكية. ولا أدري لم فعل هذا. والتزامه لمذهب مالك، وإقامته فيه مشهورة. وتواليفه على مذهبه والرد على الشافعي وغيره معروفة، مع أن غيره من أصحاب الشافعي، يذكرون أنه كان أولاً من أصحاب الشافعي، وأنه رجع عنه آخراً. ويذكرون لذلك سبباً، فذكر أبو حامد الطوسي الغزالي في كتاب آداب الصحبة، له: أن سبب ذلك أن أصحاب الشافعي سألوا الشافعي في مرضه لمن يجتمعون إليه بعده، فتطاول بها ابن عبد الحكم، وكان من أحب الناس الى الشافعي وأخصهم به. فحضهم الشافعي على البويطي، فأنكرها ابن عبد الحكم وانحرف عند ذلك عن رأي الشافعي، ورجع الى مذهب أبيه. وهذا كله ظن منهم. وإلا فقد عرف درس ابن عبد الحكم لمذهب أبيه عليه، وعلى أصحابه أكثر من درسه لمذهب الشافعي. بل إنه صحب الشافعي واستفاد منه، واختص به وذكر أنه زار الشافعي في مرضه. فأنشد الشافعي رضي الله عنه: مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 ذكر أبو عمر الصدفي عن محمد أن أباه قال له: الزم هذا الرجل. يعني الشافعي. فإنه كثير الحجج. فليس بينك وبين أن تقول: قال ابن القاسم فيضحك منك. إلا أن تخرج من هذا البلد الى غيره. فكان كما قال. ما هو إلا أن خرجت للعراق، فتكلمنا في مسألة. فقلت لابن أبي داؤود من يقول بقولك أنت؟ قال: أبو يوسف. وقلت إنما قال ابن القاسم. فقال لي من ابن القاسم؟ قلت: رجل يقال بقوله من مصر الى مغرب الشمس، فكأنه اهتم حيث لم يعرفه. فقال له: كاتب لابن أكتم، هو من عبادهم وفقهائهم. قال البلخي أبو عبد الله: كنت يوماً عند محمد بن عبد الحكم، إذ خرج له صبي صغير عليه حلية ذهب. فقلت ما هذا؟ فقال إنه صبي. فقلت إن لم يكن متعبداً في نفسه، فأنت متعبد فيه، بأن لا تسقيه خمراً ولا تطعمه الخنزير. فقال: إنه من عمل النساء. يعني فعلته بغير أمره. قال محمد بن عبد الحكم: قلت للشافعي: لأي شيء أخذتم أنه إذا مسح الإنسان بعض رأسه، وترك بعضه، أنه يجزيه. قال: من سبب الباء الزائدة. قال الله تعالى: فامسحوا برؤوسكم. ولم يقل رؤوسكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 قلت له: فأي شيء ترى في التيمم، إذا مسح الإنسان بعض وجهه وترك بعضاً. قال: لا يجزيه. فقلت له: لم وقد قال الله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. فسكت. وكان محمد يقول: التوقر في الزهد، مثل التبذل في الحفلة. قال بعضهم: أنشد محمد بن عبد الحكم: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من غم العداوات إني أجيء عدوي عند زاويته ... لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر الشر للإنسان أبغضه ... كما أملي قلبي من محبات ولست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات وقد ذكر أبو بكر بن خزيمة، قال: جرت بين محمد وبين البويطي وحشة في مرض الشافعي الذي مات منه. فتنازعا مجلس الشافعي. كل واحد منهما يقول: أنا أحق بمجلسه منك. فجاء الحميدي، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف. يعني البويطي. فكذبه ابن عبد الحكم، فرد عليه الحميدي، فغضب ابن عبد الحكم، وترك مجلس الشافعي. وتقدم فجلس في الطاق الثالث. قال معد بن معاذ: حضرت محمد بن عبد الحكم يفتي في المشي الى مكة، بكفارة يمين. وحكى ذلك عن ابن القاسم أنه أفتى به ابنه، وذكر عنه أن قوماً استشاروه في الحج، أو الجلوس الى السماع. فأشار على بعضهم بالحج وبعضهم بالجلوس. فسأله عن ذلك، الذي أمره بالحج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 فقال له: رأيت عند أصحابك فهماً، ورأيتك بخلافهم. وهذا الأمر، برهان. قال: إني ذاكرت الشافعي يوماً بحديث، وأنا غلام. فقال: من حدثك؟ قلت: أنت. فقال: في أي كتاب؟ قلت: في كتاب كذا. فقال: ما حدثتك به من شيء فهو كما حدثتك. وإياك والرواية عن الأحياء. وسئل محمد: هل للجد جزاء في الآخرة، على قدر أعمالهم؟ فقال: نعم. قال الله: " ولكلٍ درجاتٌ مما عمِلوا ". وسئل محمد بن عبد الحكم، كيف يُعزّى الرجل المسلم في أمه النصرانية؟ فقال: يقال له: الحمد لله على ما قضى. قد كنا نحب أن تموت على الإسلام، ويسرك الله بذلك. وسئل أيضاً عن مثل هذا في القريب النصراني، يموت للمسلم. كيف يعزى عنه. فقال: يقول إن الله كتب الموت، والموت حتم على الخلق كلهم. محنته قال القاضي عياض أبو الفضل رضي الله عنه: قد تقدم ما جرى عليهم في محنته، في خبر قال الجروي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وأما محنته في القرآن، فذكر أبو إسحق الشيرازي، أنه حمل في المحنة بالقرآن الى بغداد، الى ابن أبي دؤاد. ولم يجب الى ما طلب منه. فرد الى مصر. وقال غيره: ذكر أنه ضرب في ذلك، وأدخل الكبريت تحت ثيابه، وأوقد في جوانب ثيابه، فاحترق ثيابه، فتنحوا عنه، فهرب واستتر في دار امرأة. وقيل إنه علق ودخِّن من تحته. قال أبو عمر الكندي: لما أمر الواثق الناس بالمحنة، في القرآن. ورد كتابه الى أبي بكر الأصم، قاضي مصر. فأخذ الناس بذلك. فلم يبق فقيه ولا مؤذن ولا معلم إلا أخذ بها. فهوى كثير من الناس، ومليت السجون ممن أنكرها، وأمر القاضي أن يكتب المخلوق على أبواب المساجد. فذكر بعضهم، أنه رأى مطراً غلام الأصم، يسوق هارون الأيلي بعمامته. وهي في عنقه وطيلسانه تحت عضده. وهارون ينادي على نفيه بالمخلوق حتى أخرجه من السجن. وطاف به الطرق كلها، كذلك أتى مطر الى محمد بن عبد الحكم، فأخذ برجله، فوثب محمد، فلما همّ مطر أن يتناول قلنسوته، بادر محمد فجعلها في كمه. فأطافه مطر ينادي بالمخلوق، فمضى به على حلقة المعتزلة، فقالوا له: الحمد لله الذي هداك يا عبد الله. ففي هذا يقول الجمل المصري من قصيدة يمدح الأصم: ومحمد الحكمي أنت أطفته ... وأخاه ينعق بالصياح الأجهر كل ينادي بالقران وخلقه ... فشهرتهم بمقالة لم تشهر أعطتك السنة أتتك ضيرها ... وأتتك ألسنة بما لم تضمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 ومات في ذي القعدة منتصف سنة اثنتين وثمانين ومائتين فيأتي على هذا أن سماعه من ابن القاسم، كان وهو ابن نحو تسعة أعوام. لأن وفاة ابن القاسم في صفر سنة إحدى وتسعين ومائة. ومن ابن وهب وهو ابن بضعة عشر عاماً. رحمه الله وهذا يضعف ما تقدم فيما حكى ابن القاسم قال: إن قيل محمد لعلم. إذ يبعد أن يقال ذلك لمن هو في هذا السن حمله، ولعل ابن القاسم إنما قاله لأبيه عبد الله. فقد روى عنه كثيراً ابن أخيهم عبد الحكم. والله أعلم. أخوهما عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم أبو القاسم روى عن أبيه وعن ابن الماجشون وابن بكير والقعنبي، وعن جماعة من أصحاب مالك، وعن شعيب بن الليث، وزيد بن الحسن. وعبد الله بن صالح، وسعيد بن عفير، وعبد الله بن يزيد المقري، وعن يونس بن يحيى ابن يحيى بن نباته. وادريس بن يحيى الخولاني. ووهب الله بن راشد، وأسد بن موسى، وطلق بن السمح، وهاني بن المتوكل. كتب عنه أبو جعفر الطبري، وأبو عبيد الله الحميدي، وأبو حاتم بمصر. وفتح ابن محرّق. روى عنه أحمد بن بشير الدمشقي، وعيسى بن مسكين، وابراهيم بن أبي روح. له كتاب فتوح مصر، رواه علي بن قرين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وله كتاب آخر، رواه عنه عيسى بن مسكين. قال عبد الرحمن بن الحكم: لما رميت جمرة العقبة، قبل أن أفيض، دعوت ببان فمسيت منه. فقال لي أبي: ما تصنع. قلت ادهن به، فسكت. واتبع عبد الرحمن في ذلك حديث عائشة. كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محرمة. قبل أن يحرم، وبحله قبل أن يطوف بالبيت. فقيل لمحمد أخيه أتقول بهذا الحديث. فقال: والله إني لا أعظم أن لا أقول؟ قال ابن أبي دليم: توفي في محرم سنة سبع وخمسين ومائتين. قال أبو زرعة الرازي: هو رجل صالح من أفاضل المسلمين. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. يقال إنه من الأبدال وهو صدوق. أخوهم أبو عمر سعد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو القاسم عبد الرحمن. روى عن أبيه وعن ابن الماجشون يروي عن وهب بن راشد، ويحيى بن حسان التنيسي وابن نافع، وعبد الملك بن الماجشون، وعلي بن جعفر بن محمد، وآدم بن أبي إياس العسقلاني وجل روايته عن أبيه. وهو أصغر إخوته. وكان من علماء هذه الطبقة. قال الكندي: كان فاضلاً، قال أبو حاتم: هو صدوق - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 قال أبو بكر بن خزيمة: كان أعبدهم وأكثرهم اجتهاداً وصلاة، وسمع منه. وتوفي في رجب سنة ثمان وستين ومائتين وفي السنة التي توفي فيها أخوه. وكذا قال ابن أبي دليم. وقال ابن شعبان: توفي قبل أخيه محمد بستة أشهر. وحكى أبو عمر الصدفي، عن النسائي قال: سعد أقدم موتاً من أخيه محمد. وكان موسى بن هارون الحمال ينتحب عليه. وروى عنه محمد بن القاسم المصري، وابراهيم بن محمد الحلواني، وابن أبي حاتم، وأبو بكر بن خزيمة، ومحمد بن الربيع، وعمر بن حفص بن غالب. مولده سنة إحدى وتسعين ومائة. محمد بن ابراهيم بن رباح الاسكندراني المعروف بابن المواز قال أبو إسحق الشيرازي: تفقه بابن الماجشون، وابن عبد الحكم، واعتمد على اصبغ وروى محمد أيضًا عن ابن بكير وأبي زيد بن أبي أنعم. والحارث بن مسكين، ونعيم بن حماد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقرأت في كتاب القاضي ابن أبي دليم، أنه روى عن ابن القاسم، وابن وهب، وأن مولده في رجب سنة ثمانين ومائة. فإن صح فإنما روى عن ابن القاسم صغيراً، كما ذكرنا في كتاب محمد بن عبد الحكم والله أعلم. قال الشيرازي: والمعول بمصر على قوله. قال ابن حارث: كان راسخاً في الفقه، والفتيا. علماً في ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 قال الشيرازي: وطلب في المحنة بالقرآن فخرج هارباً الى الشام. فلزم حصناً بها الى أن مات. قال أبو نصر السوسي: كنت ربما أقول قال محمد بن عبد الحكم: قال سحنون، في هذه المسألة كذا. وأنكر كذا. فيتلقى ذلك بالقبول ويعظم عندي ويترحم عليه. قال: وكان ابن المواز، لا يتلقى ذلك بالقبول. ويقول لي من هذا خرج العلم، ومن عندنا أتاكم. ومثل هذا من القول. وذكر أبو عمر الكندي أن سبب خروجه، أن المعتمد لما خرج للاجتماع بطولون، أمير مصر فخرج أبو أحمد الموفق أخوه، يريد صرف المعتمد عن طريقه ورده الى سر من رأى، ووكل به. فبلغ ذلك ابن طولون بعد خروجه فانصرف الى دمشق، وكتب الى جميع عماله بإحضار الفقهاء والقضاة والأشراف، وكتب إليهم بما جرى من قضية المعتمد، وأنه في حالة المأسور، وأنه يبكي. وقال الخطيب بمصر يذكر ذلك يوم الجمعة، وما قيل في الخليفة. وقال اللهم اكفه من حصره وظلمه، وخرج من مصر بكار بن قتيبة القاضي، ومنهال بن حبيب، وإسحق بن محمد بن معمر وابراهيم المهلبي وفهد بن موسى، ومحمد المواز، وعلي بن محمد بن عبد الكريم وآخرون. فلما اجتمع الناس بدمشق، أمر ابن طولون بالكتاب فيه خلع أبي أحمد الموفق من ولاية العهد، لمخالفته الخليفة وحصره. وأنه قد وجب جهاده على الأمة، وشهد في ذلك جميع من حضر إلا بكار بن قتيبة ومحمد بن المواز وفهد بن موسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 فقال البكار: لم يصح عندي ما فعله موسى أبو أحمد. وذلك سنة تسع ومائتين. وله كتابه المشهور الكبير، وهو أجل كتاب ألّفه قدماء المالكيين وأصحها مسائل، وأبسطها كلاماً، وأوعبها. وذكره أبو الحسن القابسي، ورجحه على سائر الأمهات، وقال: لأن صاحبه قصد الى بناء فروع أصحاب المذهب، على أصولهم، في تصنيفه، وغيره. إنما قصد بجمع الروايات ونقل مقصور السماعات ومنهم من نقل عنه الاختيارات في مشروحات أفردها، وجوابات لمسائل سئل عنها، ومنهم من كان قصده الذب عن المذهب، فيما فيه الخلاف، إلا ابن حبيب فإنه قصد الى بناء المذهب عن معان، تأدت إليه، وربما قنع بنص الروايات على ما فيها. وفي هذا الكتاب جدة تكلم وعلى أهل العراق بمسائل من أحسن كلام وأنبله، وهو من رواية ابن ميسر وابن أبي مضر، عنه. وفي بعض النسخ زيادة، كتب على غيرها، ونقص من أصل الديوان، كتب منها الصلاة والطهارة إلا أن له في الصلاة كتاب فيه، من أبواب السهو وقضاء الصلاة، إذا نسيت. وصلاة السفر، وله كتاب الوقوف وإن الكتاب رواه بكماله قوم من أهل مكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وتوفي فيما قاله ابن حارث وابن أبي دليم بدمشق، لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة تسع وستين ومائتين. وقال غيرهما: سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة ثمانين ومائة. قال ابن أبي مضر: ومولده في رجب من سنة ثمان ومائة. محمد بن سلمة بن عبد الله بن أبي فاطمة ابن الحارث مولى مراد. قال الكندي: كان فقيهاً، روى عن ابن وهب، وابن القاسم، وكان يكتب للحارث بن مسكين في قضائه، وقال ابن أبي دليم: وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. عبد الملك بن شعيب بن الليث ابن سعد، بن عبد الرحمن. مولى خالد بن ثابت الفهمي ثم الكتاني وجده الليث إمام مصر في وقته. وابنه شعيب، من فقهائها. ذكر عبد الملك هذا ابن أبي دليم، وابن حارث، في هذه الطبقة من المالكية. وقال الكندي كان فقيهاً، وكان عسيراً في الحديث. وجل روايته عن أبيه عن جده، وكان من أصحاب ابن وهب، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. حبيش بن سليمان بن برد التجيبي مولاهم، تقدم ذكر أبيه، وضبط اسمه بحاء مضمومة وباء موحدة مفتوحة وياء التصغير، وشين معجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 كنيته أبو القاسم، يروى عن أبي ضمرة. حدث عنه يحيى بن عثمان بن صالح. توفي سنة خمس وأربعين ولسليمان ولد آخر، اسمه؟ لم نجد من ذكرهما في الفقهاء. ولكن ذكر الناس أولادهما وسيأتي ذكر ولده في موضعه إن شاء الله تعالى. يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة حرمله بن يحيى التجيبي أبو حفص، هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن مراد، مولى بني زميله بزاي معجمة، ذكره ابن أبي دليم، في فقهاء المالكية قال الكندي: كان فقيهاً روي عن ابن عيينة وابن وهب، والشافعي، وبهما تفقه، ويروى عن العلاء بن عاصم، ولم يكن بمصر أكتب عن ابن وهب منه، وكان سبب ذلك أن ابن وهب، حين طلب للقضاء، استخفى في منزله مدة طويلة، وكان أبوه يحيى قد ولي القصص والسوق، وكان مقبولاً عند القضاة، وولي على الجزيرة وجده حرملة بن عمران من فقهاء مصر توفي سنة ست عشرة ومائتين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وكان يحجب الأمراء، ويعرف بالحاجب، حدث عنه عبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن المبارك، وقال فيه: كان من ذوي الأنساب، قال عبد الله بن يزيد: جئناه في قوم بسبب السماع، فخرج علينا راكباً، وقال: هذا يوم لا أشتغل فيه بغير المنابر، قلنا له: وما تصنع في المنابر؟ قال: أبكي على أصل الشرف، فإنما الدين مع الشرف، إذا ذهب الدين ذهب الشرف، قال ابن حنبل وابن معين: هو ثقة، توفي سنة ستين ومائتين، روى عن حرملة بن يحيى الناس، ومسلم بن الحجاج، وخرج عنه في صحيحه، وذكره البخاري في تاريخه، وروى عنه الرازيان: أبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو علي الغساني، والرمادي، ويحيى بن عمر، وابن وضاح، وعده أبو إسحاق الشيرازي في أصحاب الشافعي، وكان راوية كتبه الأخيرة، قال: وكان حافظاً للحديث وصنف المبسوط والمختصر، قال ابن أبي دليم: كان رسخ في مذهبه، وترك الفتيا به، فكان لا يفتي إلا بمذهب مالك، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، قال يحيى بن معين: كان أعلم الناس بابن وهب، وتكلم فيه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 قال الحافظ الحاكم: هو شيخ جليل القدر والمحل، في الحديث والفقه معاً، ومثله لا يترك، وقال ابن وضاح: قلت يوماً لحرملة، مثله يا أبا حفصل مثلك، وأنت تذهب مذهب أصحابك المصريين، تقرأ مثل هذه الكتب، يعني كتب الشافعي، فقال لي: يطلبها مني هؤلاء. فقلت له: أوَكلما طلب منك تخرجه، قال: أستحي والله منهم، قال الكندي: ونظر أشهب الى حرملة، فقال: هذا خير أهل المسجد. قال حرملة: عادني ابن وهب من رمد بي، فقال: يا أبا حفصل إنه لا يعاد من الرمد، ولكنك من أهلي، وشرح حرملة الموطأ، فما سأل عنه ابن وهب قال حرملة: سمعت سفيان. وسئل عن قول الناس السنّة والجماعة، ما تفسير ذلك؟ فقال: الجماعة ما أجمع عليه أصحاب محمد، من بيعة أبي بكر، وعمر، والسنّة: الصبر على الولاة، وإن جاروا، وإن ظلموا. وتوفي حرملة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. قال الأمير مولده سنة ستين ومائة. أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله ابن عمر بن السرح. مولى عتبة بن أبي سفيان. وقيل مولى فيصل مولى عتبة. وكان سرح جده أندلسياً. طباخاً، سكن أسيوط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 قال أبو عمرو وجلّ روايته عن ابن وهب. وغلب عليه الحديث، وسمع من ابن عيينة، وبشر بن بكر، وسالم بن ميمون، وغير واحد. وروى عنه أبو زرعة، وأبو داود السجستاني، وأبو حاتم السجستاني، وأبو حاتم، ومسلم، وخرج له في صحيحه. قال أبو حاتم: لا بأس به. كان صدوقاً. قال ابن أبي دليم: هو من متقدمي هذه الطبقة. وكان ثقة. قال الكندي: كان أبو الطاهر فقيهاً، وكان موضحاً كله، وشرح موطأ عبد الله بن وهب. وتوفي سنة خمسين ومائتين. وقيل سنة ثلاث وخمسين. مولده سنة تسعين ومائة. أبو بكر عبد الكريم بن الحارث بن مسكين ابن الحارث بن باقية الزهري. مولاهم. وليس بولد الحارث بن مسكين، القاضي. هذا حارث آخر. قال عبد الله بن محمد: هو من أكابر أصحاب ابن وهب. وعنه جلّ روايته. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. وبيته بيت جلالة ونباهة بمصر. يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسره ابن حفص بن حيان الصدفي. أبو موسى من آل خالد بن يزيد ابن السيد الصدفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 سمع من ابن عيينة، وابن وهب، وأشهب، ومعن بن عيسى، والوليد بن مسلم، ووكيع، وعبد الله بن نافع الصايغ والشافعي، وسفيان بن عيينة. وروى عن العلا بن عاصم، وبشر بن بكر، وقرأ على ورش، وصقلاب وغيرهما. كان أحد الرواة المشهورين، رحل إليه الناس، فسمعوا منه، وطال عمره. قال ابن أبي دليم: وكان ثقة حافظاً، سمع منه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابنه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو بكر بن خزيمة، وأبو جعفر الصدفي، وأحمد بن محمد الواسطي، ومحمد بن الربيع، ويونس بن سهل، وأحمد بن كامل، وفتح بن شجر، وأبو بكر النيسابوري، ومسلم بن الحجاج، وخرج عنه، ومن الأندلسيين: سعيد بن عثمان، والأعشابي، وابن خمير، ومحمد بن وليد بن أسلم بن عبد العزيز القاضي. قال أبو حاتم الرازي: قدمت مصر، فلقيت أبا الطاهر بن السراج فقال لي: كم لك هنا؟ قلت شهراً. قال لقيت يونس أبا موسى؟ قلت: لا. فأنكر ذلك علي، وجعل يعظم من شأنه. وقال أبو حاتم الرازي: هو ثقة. ورفع من شأنه. قال الباجي: هو من أجلّ أصحاب ابن وهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 قال الطبري: كان فقيهاً وكان شديد التقشف في أول أمره، مقبولاً عند القضاة. قال ابن علاثة: قال لي أبي، ما يدخل من باب المسجد أعقل من يونس. وقال يحيى بن حسان: يونسكم هذا من أركان الإسلام. قال أبو عبد الله: هو ثقة. وفوق الثقة. ورفع من قدره. وكتب عن سفيان كثيراً، كتبه الناس من حفظه. قال النسائي: هو أوثق أصحاب ابن وهب. قال: وكان فقيراً، وأقطعه محفوظ أرضاً. فكان يزرعها ولا يأخذ منه خراجاً. أقام على ذلك سنين كثيرة. فكان ذلك أول غناه، ولما حكم الحارث بن مسكين، بإخراج بني البنات من حبس بني السائح، وتشكوا الى المتوكل، وأفتى أهل العراق بفسخ حكمه، واستغفر الحارث على ما ذكرناه، وولي القضاء بكار بن قتيبة، ورد كتاب المتوكل عليه في النظر في حكم الحارث، في هذه القضية، وأحضر يونس لها. فاستعظم بكار فسخ القضية، إذ حكم الحارث فيها بمذهب أصحابه المدنيين. فلم يزل به يونس حتى جهر بالحكم، بفسخها. قال يونس: قال لي الحارث: ما علمت أحداً اختلف الى الشافعي، شق علي كما شق اختلافك عليه. قال يونس: إنما أخذت عنه من أحكام القرآن كتاباً واحداً. قال يونس: وجدت غير شيء، فرأيت في المنام قائلاً يقول: اسم الله الأكبر لا إله إلا الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فقلتها عليه، ومسحت بيدي، فأصبحت معافاً. وقال ابن بكير لرجل شكا إليه الفقر: ألا أتيت يونس، فدعاك، فوالله إني لأجد له بركة وتوفي سنة أربع وستين. وصلى عليه الأمير ابن طولون. وقيل في هذه السنة توفي المزني وابن أخي ابن وهب، وأبي بكر بن الوقار، ويزيد بن سنان وتوفي سنة أربع وستين. مولده سنة إحدى وسبعين ومائة، وقيل سنة سبعين في ذي الحجة. محنته قال الكندي، عن ابن عثمان: كان جعفر بن قادم، أوصى الى يونس وكان ذا مال عريض، فحبسه ابراهيم بن الجراح، حتى استخرجها من يده. وقال غيره: أوصى أحمد بن أبي أمية، الى يونس وثلاثة معه، بمال. فصرف اثنان منهم الى يونس، وصيتهما. فطولب يونس بها عند ابن أبي الليث. فسجنه في ذلك. فيقال إنه بقي في السجن ثمان سنين من سنة ثمان وعشرين الى سنة خمس وثلاثين. فلما قدم قوصرة، من عند المتوكل، ليكشف أمر أبي الليث، قيل له: إئت يونساً يشهد عليه وهو في سجنه. فأخرجه وسأله عنه، فقال: ما علمت إلا خيراً. قيل إنه في سجنك منذ كذا وكذا سنة. قال لم يظلمني هو، إذ ظلمني من شهد علي بخلاف قوصرة. ودخل يونس الى منزله، فلما أخرج ابن أبي الليث من السجن ليحكم في قصة بني عبد الحكم، وحكم عليهم. راعى يونس مقاله، وحكم له أنه بريء من تلك الوصية. وكانت عدتها ثلاثة وثلاثين ألف دينار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان ابن المهاجر. مولى الأزد بن رفاعة التجيبي. قال ابن أبي دليم: كان من أكابر أصحاب ابن وهب. قال الكندي: كان فقيهاً من أعلم أهل زمانه بالشعر والغريب، وأيام الناس. مولده سنة إحدى وسبعين ومائة. وتقبل فأنكرَ عليه. قال، فسجنه ابن سدير. وتوفي في السجن بمصر سنة خمسين ومائتين. وأخوه سليمان بن يحيى كان صوفياً جلداً، مقبولاً عند قضاة مصر. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. أبو جعفر هارون بن سعيد بن الهيثم ابن محمد بن الهيثم بن فيروز الايلي. مولى عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، من بني سعد بن بشر بن قيس من أهل أيلة. وأصلهم من بلنس، سمع ابن وهب، وخالد بن نزار، والقاسم بن فيروز، وأسد بن موسى، وأشهب بن عبد العزيز، وأبا زيد بن أبي الغمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 روى عنه مسلم وخرج عنه في صحيحه، والنسائي، وأبو داود، وقال النسائي: هو ثقة. قال الكندي: كان فقيهاً من أصحاب ابن وهب. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وولد سنة تسعين ومائة. قال الكندي: بعد السبعين، وهو أصح. قال الحارث: مات وقد جاوز التسعين. أبو الربيع سليمان بن داود بن حماد أبو سعيد المهدي. مولى لهم. ابن أخي رشدين بن سعد، ويعرف بالرشديني، روى عن أشهب، وابن وهب، وسعيد بن الجهم، ويوسف بن عمر، وعن جماعة من أصحاب مالك وغيرهم، وعن أبيه، وبشر بن بكر وأبي الطاهر، وأصبغ بن عبد العزيز، ويوسف بن أبي ظبية، وأبي بشر بن قعنب، والحارث بن مسكين، والتميمي، وعلي بن المبارك، وسعيد الادم، وأبي زيد بن أبي الغمر الدمياطي، وأدرك خاله رشدين بن سعد صغيراً. حدث عنه. قال: وصحب ادريس بن يحيى الخولاني، وفضالة بن صيفي وغيرهم من الزهاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وألف كتاباً في عباد المصريين. فرويت عنه وليس هو دونه. قاله يحيى بن عمر، وهو رواه عنه. وأخذ القراءات عن ورش، وكان متصدراً فيها. وكان فقيهاً زاهداً، ذكره ابن أبي دليم، وأبو عمر الداني، روى عنه يحيى بن عمر، ومحمد بن النفاخ، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود السجستاني، ومحمد بن عبد الرحيم الأصبهاني، وأبو عبد الرحمن النسائي. ولد سنة ثمان وتسعين ومائة. وتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال أبو الربيع: شهدت جنازة ابن القاسم، وقال أبو الربيع: كنت أمشي مع ادريس بن يحيى، فالتفت إلي، وقال: يا ابن أخي، ما رأيت بلداً قط أفسد لعالم، ولا لقارئ منهم. يعني الفسطاط. إنما يكفيك أن يقال فلان، فاستمسك قال أبو الربيع: حضرت رشدين بن سعد، ليلة توفي، فأخبرت أنه دعا بماء توضأ للصبح، فغسل وجهه فزهت شفتاه، من قرحة أصابته. فرفع يديه وقال: اللهم اقبضني إليك. فما صلى الصبح حتى مات. محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن أبي زرعة البرقي. مولى بني زهرة. كان من أصحاب الحديث، والفهم، والرواية أغلب عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وبيته بمصر بيت علم. وله تأليف في مختصر ابن عبد الحكم الصغير، زاد فيه اختلاف فقهاء الأمصار. وكتاب في التاريخ، وفي الطبقات، وفي رجال الموطأ، وفي غريبه. يروي عن عبد الله بن عبد الحكم ولم يلق ابن وهب فيما قاله الكندي، ويروي أيضاً عن أشهب وابن بكير وعثمان بن صالح، وعبيد الله بن صالح، وعمر بن يوسف، وحبيب كاتب مالك، وسعيد بن أبي مريم، ونعيم بن حماد، وأصبغ بن الفرج، وابن هشام وأسد بن موسى، ويحيى بن حسان التنيسي، وعمرو بن أبي سلمة، وخالد بن نزار، ويحيى بن معين، وادريس بن يحيى الخولاني، ومحمد بن يوسف الفريابي، وسعيد بن منصور، وروى عنه أبو حاتم الرازي، وابن وضاح، وابراهيم بن يوسف، والخشيني ومطرف وعبد الرحمان بن قيس، وعبيد الله بن يحيى بن يحيى، وقاسم بن محمد، ومحمد بن عمر، وأبو علي الجدوى، وقاسم بن أصبغ. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. وأخوه عبد الرحيم يروي عن أبي هشام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 روى عنه ابن الورد، ومحمد بن بسطام. أخوهما أحمد ألف في الصحابة، والتاريخ، والرجال. يروي عن عمرو بن أبي سلمة، والحميدي. وقد روى عنه أيضاً. توفي سنة سبعين ومائتين. سمع منه أبو حفص بن غالب، وابن غالب الصفار، من الأندلسيين، والقاضي أسلم. قال أبو جعفر العقيلي: محمد بن عبد الله البرقي، وإخوته كلهم ثقات. ما بهم من بأس. من بيت علم وخير. وقال غيره: ومحمد أكبرهم وأجلهم قال ابن وضاح: كتبت عنه بمصر حديثاً واحداً، وكان لا يرضاه. والحديث الذي روي عنه، أنه قال: كنت جالساً عند وراق بمصر، فلما أردت القيام خدرت رجلي، فجلست، فقال لي محمد بن البرقي، نادِ بأحبّ الناس إليك، قلت له: تذكر في هذا شيئاً؟ فحدث: وأن رجلاً خدرت رجله عند ابن عمر، فقال له ذلك. فقال: يا محمد، ذهب خدرها. فلما قام، قال لي الوراق: ما رأيت أكذب من هذا. ما حدث به أحد مما رواه الساعة عندي في هذا الكتاب. قال: نص الحديث يروى عن ابن عمر، وأنه هو خدرت رجله، وجرت له القصة. وأبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الله البرقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 يروي عن أبيه. وله كتاب مختصر على مذهب مالك، وبعض الناس يضيف إليه زيادة اختلاف فقهاء الأمصار. في مختصر ابن عبد الحكم. يحيى بن سليمان الجعفي أصله من الكوفة، وسكن مصر، هو ويحيى بن سليمان بن يحيى بن سعيد بن مسلم بن عبيد الله بن مسلم. ابن ابنة أبي مسلم قديد الأعمش. يكنى أبا سعيد. سمع من ابن وهب، وحفص بن غياث، وأبي بكر بن أبي عياش. قال ابن أبي دليم: وكان ثقة. روى عنه ابن وضاح، وقاسم بن محمد، وأحمد بن رشدين، وروح بن الفرج، وغيرهما. توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين. عبيد الله بن معاوية بن حكم الجفناوي من أصحاب أصبغ بن الفرج، أبو محمد. مولى قريش. ومن جملة هذه الطبقة. يروي عنه يحيى بن عمر فقهه، ويعتمد عليه. وحكى عنه مسائل. توفي سنة خمسين ومائتين. أبو محمد الربيع بن سليمان بن داود بن ابراهيم الجيزي الأزدي مولى قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة. سكن الجيزة. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً ديناً. روى عن ابن وهب ونظرائه. قال الكندي: روى عن ابن وهب ولم يتقن السماع منه. وكان فقيهاً ديّناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ويروي عن أسد بن موسى، وعبد الله بن عبد الحكم، وهاني بن المتوكل، وابن أبي أويس، وخالد بن نزار، وغيرهم، ثقة. مات سنة ست وخمسين ومائتين. روى عنه ابنه محمد وابراهيم الحلواني وعبد الله بن وهب الدينوري. أبو محمد عبد الغني بن عبد العزيز بن سلام المعروف بالغسال. مولى قريش. روى عن ابن عيينة، وابن وهب، والشافعي. وكان حافظاً. وروى عنه روح بن الفرج. وقال: سمعت ابن وهب يقول: قراءة أهل المدينة سنة. قيل له: قراءة نافع؟ قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً. وذكره ابن أبي دليم، وتوفي في المحرم سنة أربع وخمسين ومائتين وسيأتي ذكر ابنه، وكان أخوه محمد مقبولاً بمصر. أبو محمد صالح بن سالم الخولاني مولى لهم. كان أسود. روى عن ابن وهب والشافعي، وأشهب. وكان حافظاً للفقه، وتفقه بالشافعي، ثم مال الى المالكية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وتوفي سنة سبع وستين ومائتين. إسحاق بن المتوكل بن إسحاق مولى بني مخزوم أبو يعقوب. يروي عن ابن وهب ونظرائه. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً على مذهب مالك. قال الكندي: كان مقبولاً عند قضاة مصر، وولي المظالم. وكان وجهه صغيراً جداً. فكان يلقب لقمة. وتوفي سنة عشرين ومائتين. وقال ابن أبي دليم: توفي سنة خمسين ومائتين. عبد الله بن أبي رومان عبد الملك بن يحيى بن هلال المعافري. أبو محمد، مولاهم من أهل الاسكندرية. وأصله من مراقبة. من أصحاب ابن وهب. ذكره في هذه الطبقة: ابن أبي دليم، وابن حارث. قال الكندي: ولم يكن بالمجود في روايته. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. أحمد بن أبي زيد بن أبي الغمر أبو جعفر. مولاهم. ذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، وسماه أحمد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ورأيت فيمن روى عنه، ابناه محمد وزيد. والله أعلم. وتوفي أحمد في ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين. أبو محمد اسماعيل بن محمد بن زيد الغافقي مولى لهم. كان يروي عن أشهب، وكان من أصحابه، وعن ابن وهب. قال ابن أبي دليم. وكان حافظاً لأقاويل الناس. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. مدلج بن عبد العزيز بن رجاء المدلجي أندلسي. أبو خِندِف. سكن مصر. وكان ذا علم وأدب. ودخل العراق، فسمع بها علماً كثيراً. أخذ عنه بمصر، وتوفي يوم الخميس آخر صفر سنة تسع وخمسين ومائتين. ذكره أبو سعيد المصري وابن أبي دليم في المالكية. أبو إسحاق ابراهيم بن أبي يعقوب بن عيسى بن عبد الله القسطال. وقيل ابن عيسى بن عيسى بن أيوب، مولى سلمة بن عبد الملك الطحاوي، مولى الأزد. ويقال مولى قريش. من أصحاب ابن وهب عنه جلّ روايته، وعن الشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وكتب لعيسى بن المنكدر، وهارون الزهري، والحارث بن مسكين، قضاة مصر. وكان من قبطها. قال الكندي وكان فقيهاً. وتوفي في صدر ستين ومائتين. عيسى بن ابراهيم بن عيسى بن شروح الغافقي. مولاهم. أبو موسى. يروى عن ابن القاسم، وابن وهب، ورشدين بن سعد، وابن عيينة، وحجاج بن سليمان، وغيرهم. روى عنه النسائي وقال فيه: مصري لا بأس به. توفي سنة إحدى وستين ومائتين. قاله ابن يونس. ذكره في هذه الطبقة، ابن أبي دليم. قال الكندي: كان مقبولاً عند أبي الليث. وكان فقيراً. فقيل له ما حملك على أن شهدت عند ابن أبي الليث؟ فقال كان بي بَرّاً وَصُولاً، ما ذقت الفقر، حتى انقطعت أيامه. أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمان بن أخي عبد الله بن وهب جل روايته عن محمد، وروى عن شعيب بن الليث، وبشر بن بكر. قال عنه محمد بن عبد الحكم: ما رأيت إلا خيراً. وقال مثله عبد الملك ابن شعيب بن الليث. وقال أبو حاتم: صدوق. كتبنا عنه. وأمره مستقيم. ثم خلط. ثم جاءنا الخبر أنه رجع عن التخليط. قال أبو زرعة: رجوعه مما يحسّن في حاله، ولا يبلغ به منزلته قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وقال العقيلي، والحصري: ليس بمشئ. وقال محمد بن قاسم: ليس بثقة عندي. وأهل مصر يرمونه بالكذب. وكان من مشائخ الأندلس سعد بن معاذ، ومحمد بن فطيس، وسعيد بن عثمان الاعناقي، يحسنون الثناء عليه. وعنف سعيد النسائي في تحامله عليه. قال الأمير، وأخوه عبد العزيز بن عبد الرحمن أبو السري روى عن أسد، وغيره. توفي سنة ثمان وستين وقيل أربع وستين ومائتين. محمد بن يوسف بن محمد بن عديد الفارسي أبو محمد. تقدم ذكر أبيه. مولده بمصر. أخذ عن جماعة من أصحاب مالك. يروي عن عبد الله بن المغيرة. توفي سنة ستين ومائتين. وأخوه يزيد بن يوسف. قال ابن يونس: كان هو وأخوه على مسائل الحارث بن مسكين، وأمره كله. وكان يرفع بهما. شبيب بن حفص بن اسماعيل الفهري مولاهم. فيما يقال. وأنكر هو ذلك. يكنى بأبي الأصبغ. قال الكندي: كان فقيهاً. توفي بمصر، منصرفه من الحج سنة ست وثلاثين ومائتين وذكره ابن أبي دليم فيهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 بكر بن ادريس بن الحجاج بن هارون مولى أبي الكنود الأزدي. أبو القاسم، يعرف بالحمراوي. قال ابن أبي دليم: جلّ روايته عن عبد الله بن عبد الحكم. وروى عن غيره. قال الطحاوي: وكان فقيهاً مفتياً. توفي سنة سبع وستين ومائتين. أبو بكر محمد بن أبي يحيى زكريا الوقار كان حافظاً للمذهب، وألف كتاب السنة، ورسالته في السنة، ومختصرين في الفقه، الكبير منهما في سبعة عشر جزءاً. قال سلمة بن سعيد الأشج: رأيت أهل القيروان، يفضلون مختصر أبي بكر الوقار، على مختصر ابن عبد الحكم. قال الشيرازي: تفقه بأبيه، وابن عبد الحكم، وأصبغ. روى عنه إسحاق بن نصر ومحمد بن مسلم بن بكار الفيومي، وأبو الطاهر محمد بن سليمان القوصي، وأبو الطاهر محمد بن جعفر البرسمي، وتوفي في رجب سنة تسع وستين ومائتين. وقيل ثلاث. وقيل أربع سنين. القراطيسي اسمه بريد بن كامل بن حكيم. مولى عبد العزيز بن مروان. كنيته أبو زيد. وأصله من الروم. ذكره ابن أبي دليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 يروي عن عبد الله بن عبد الحكم، وأسد بن موسى، ويعقوب بن أبي عياد الملزمي. روى عنه ابن أبي الأصبغ، وأبو الورد، وأبو بكر محمد بن يحيى بن حكيم، وأبو العباس الرازي، وأحمد بن مسلمة الهلالي، ومحمد بن كامل الحضرمي، وجماعة. روى عنه الناس. قال أحمد بن خالد: لم ألق من الناس بالمشرق، إلا من مُسّ أو تُكلِّم فيه، إلا القراطيسي، ويحيى بن أيوب العلام، فإنهما ثقتان، لا متكلم فيهما لأحد. والقراطيسي، من أوفى الناس. لم أر مثله. ورفع من شأنه. وعُمِّر. وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين. ومولده سنة سبع وثمانين ومائة. مسعود بن أبي مسعود واسم أبي مسعود مسعدة. قال ابن أبي دليم: كان ذا علم ورئاسة، مقدماً في المالكية بمصر. توفي سنة سبع وستين. وهو ابن أربع وستين. من أهل إفريقية محمد بن رزين قال أبو العرب: كان ثقة صالحاً. سكن بسوسة. سمع من أسد، وعبد الله بن عبد الحكم، وابن بكير، وأسد بن موسى، ونعيم بن حماد، وزهير بن عباد، وسمع أيضاً من عبد الله بن نافع الزبيري، وأصبغ بن الفرج وعلي بن معبد وكان عنده حديث كثير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 سمع منه سليمان بن سالم وبكر بن حماد وسعيد بن إسحاق وأبو الغمر روى سحنون عنه حديثاً يرويه عن نافع فوجه إليه وقال له أنت سمعته من ابن نافع الصايغ؟ فقال له: أصلحك الله إنما سمعت من ابن نافع الزبيري. فقال له: لم دلست؟ ثم قال سحنون: ماذا يخرج بعدي من العقاريب. وذلك أن ابن رزين لم يدرك عبد الله بن نافع الصائغ. وإنما أدرك عبد الله بن نافع الزبيري مات الصائغ قديماً. وتأخر موت الزبيري. وقد ذكرناهما، وكان ابن رزين يقول: ما نزلت في حسرة ما نزلت في محمد بن يوسف الفريابي. وكنت رحلت إليه، فوجدته يقبر. قال: وابن رزين، أول من باع من أهل العلم داراً بسوسة. إذ كانوا لا يرون بيع دورها. قال بعضهم: رأيت محمد بن رزين خرج في عيد، بثياب مهنته. فسألته عن ذلك. قال: رأيت نعيم بن حماد، في عيد كذا. فعلمت أنه تبذل له فيه. فاتبعته. قال ابن حارث في تاريخ الافريقيين: وتوفي ابن رزين بسوسة، سنة خمس وخمسين ومائتين. محمد بن شبيب أبو يوسف. من أهل تونس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 ذكره ابن أبي دليم في المالكية. قال وله سن عالية، وسمع من أنس بن زياد. وولي القضاء بتونس، وذكره أبو العرب في طبقاته بمثله وشك في سماعه من علي قال: وحدثني عبد الله بن خليل، قال: كنت أجيء الى أبي يوسف، فأجده ملقى من الكبر فأجتذبه حتى أقعده على نفسه. فلم يسمع منه. ولم يذكره إلا بخير. قال ابن حارث: وتوفي سنة ست وسبعين ومائتين. وابن أخيه: محمد بن سعيد ابن شبيب، ولي قضاء صقلية. وذكر عنه خيراً وعفة وعدلاً. محمد بن تميم القسطلي، القمري، من أهل قفصه، قسطليه. قال أبو العرب: كان ثقة. سمع من أنس بن عياض كثيراً، ومن عبد الله بن وهب وابن بكير. وكان يقدم سوسة فيأتيه أهل القيروان، يسمعون منه. روى عنه ابنه هبة الله، وسليمان بن سالم، وأبو جعفر بن زياد، وعمر. توفي سنة ستين ومائتين. ومات ابنه هبة الله قريب من هذا. قال أبو العرب: ولم أسمع أحداً ذكر ابنه بسوء. عبد الله بن سهل القبرياني أبو محمد، وضبط اسمه بقاف مكسورة، وباء واحدة ساكنة، وراء مكسورة بعدها ياء، باثنتين تحتها، وبعد الألف نون، من أهل القيروان، وأصله من العجم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 قال محمد بن أحمد التميمي: كان شيخنا ثقة فاضلاً، فقيه البدن، صحيح الكتب، لقي ابن الماجشون، وسمع ابن سلام، ويحيى، وأسد بن فرات، وسحنون بن سعيد، وعليه كان اعتماده. وكان معدوداً في قدماء أصحابه، قريباً في السن منه. ولاه سحنون قضاء طليطلة وقفصة ونفزاوه، وعملها. وكان عدلاً في قضائه. وولي بعد سحنون قضاء صقلية. شهد له حماس بالفقه البارع. سمع منه سهل ابنه، وغير واحد، وقال ابن حارث: كان عالماً بالمذهب، حسن الحفظ، جيد القريحة، من ذوي المال والجاه العريض. توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين فيما قاله أبو العرب. وذكر ابن أبي دليم: سنة تسع وأربعين. مولده سنة اثنين وسبعين ومائة. عبد الرحيم بن عبد ربه الربعي المعروف بالزاهد. أبو محمد. قال أبو العرب: كان ثقة. وكان في السن قريباً من سحنون، في أصحابه. سمع منه، ومن أسد بن فرات. وحكى المالكي أنه: كان أكبر من سحنون بليلتين. وكان سحنون يعرف له فضله، ويعظمه، ويسأله الدعاء له. وكان يقول: رأيت ابن القاسم وفلاناً. وذكر شيوخه. فما رأيت مثل عبد الرحيم. يعني هذا. وذلك أني علمت ظواهر أولئك وعلمت ظواهر هذا، وباطنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وكان أولاً بزازاً. ثم لزم الرباط، حتى مات. أخذ عنه عيسى، وٌيره من أصحاب سحنون. وقال سحنون لرجل فاته بعض السماع منه: أين أنت من الشيخ؟ يعني عبد الرحيم أسمعها منه، فكأنك سمعت مني. قال ابن حارث: كان ثقة فاضلاً. ويقال إنه مستجاب الدعوة. كان عبد الرحيم كثير التهجد، طول ليله بين راكع وساجد، فكان السهر قد غيره، كأنه مبهوت. ومن كراماته ما حكاه المالكي: أن سحنون بلغه أن عبد الرحيم أقام ستة أشهر، لم يشرب ماءً، فأنكر ذلك سحنون. وركب مع جماعته من الشيوخ إليه فبات عنده وسأله عما بلغه، واستشفع عليه. فقال: ومن يأكل ولا يشرب؟ فلما انصرف عنه سحنون، رجعه، وقال له: سألتني عن شيء، فكتمته. ثم حاسبت نفسي. والذي قيل لك صحيح. ولي ستة أشهر، لم أشرب ماءً. وذلك أني كنت أصلي، فأصابني عطش شديد، فقلت افرغ من حزبك واشرب. فلما فرغت مددت يدي الى القسط، فانقلب، وذهب ما فيه من ماء. وكانت ليلة كثيرة الريح والبرد، والماجل أسفل القصر، فكبر علي النزول. وقلت: يا رب إن هذا أشغلني عن حزبي. فاحمل عني المؤونة. فأجابني من زاوية البيت، ولا أحد فيه، يقول: أنا من مؤمن الجن. أصلي بصلاتك، مدة. فمر هذه الليلة شيطان مارد، وهم علينا أضرّ مما هم عليكم، فحسدك ورمى لك في القسط شيئاً. فلو شربته لعرض في جسمك ما لا طاقة لك به. فلما مددت يدك الى القسط، سبقتك إليه، وأهرقته. قال عبد الرحيم: فأخلصت لله الدعاء، فحمل عني المؤونة. وإن احتجت الماء بعدُ شربتُه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 فنزل سحنون الى الناس وقال: عبد الرحيم سأل مولاه حاجته، فقضاها له. وقد ذكرنا رسالته الى سحنون وقد ولي القضاء. قال المالكي: كان من أهل الزهد والاجتهاد. شهر بالإجابة. وكان سحنون يقصده كثيراً. وقصد ابنه بعده. وسنذكر خبره معه. قال عبد الرحيم: لما أراد الخروج الى صقلية، قلت له: على من ترى أعتمد؟ فقال لي: إن أردت الله والدار الآخرة، فعليك بعلم مالك. قال ابن حارث: ومناقبه كثيرة. وذكر أنه كان بقرب قصره، رجل له فرس يطلقه في زرع المرابطيين. فنهوه فلم ينته. فأتوا الى عبد الرحيم، فرفع عينيه الى السماء وقال: اللهم اجعله آية للمسلمين، واكف المسلمين شره. فطارت عين الفرس. وكان سأل الله أن لا يبيت أحداً في قصر زياد بالجوع. فكان بيسر الله لكل من احتاج فيه، ما يأكله. وحدث اللبيدي، عن بعضهم، أنه فني زاده فيه. وأخذه الجوع، فقال: أين ما يذكر عن عبد الرحيم؟ فبينما هو كذلك، إذ دخل عليه صاحب له بطعام واسع، فقلت هذه دعوة عبد الرحيم. وذكر سليمان بن سالم عن محمد بن صباح، قال: سرت أسبح على البحر حتى صرت الى قصر عبد الرحيم، فدخلت إليه، قرب الماء. فلما رآني سلم عليّ، وأجلسني وهو يقول: الحمد لله الذي كنت أنت. فكرر ذلك. فقلت له: ما هذا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فقال: أرسل إلي أخي بحمام البرية. فأمرت بطبخه، فرأيته سميناً. فقلت اللهم سق إلي ولياً من أوليائك، من يأكل معي. فلما رأيتك، حمدت الله إذ كنت أنت هو. وذكر أنه خرج مرة الى المنستير، فنزل القصر الكبير، فلما كان العشي سمع صر المهارس، فقال: ما هذا؟ قال: المرابطون يدقون التابل لمزورهم. فاسترجع، وقال: ما هكذا أعرف المنستير، حالة أنا أعرفها، عند أهلها شيء من دقيق شعير وزيت. فإذا جاء وقت الإفطار، لثوا الدقيق وأكلوا لبّه، عليّ أن لا أبيت في شيء منه. فخرج منه، فغابت له الشمس بقصر لمطه. ولم يعد إليه بعد ذلك. قال المالكي: وكان يقال له اجتمع مع الخضر، صلى الله عليه وسلم. وذكر اللبيدي أن فقيراً نزل بعبد الرحيم، فلم يجد عنده شيئاً إلا قرصاً، أعدها لإفطاره. فقدمها إليه، وبقي بلا شيء. فقال له: أصلحك الله ما يكون منك وأنت لا تقبل من أحد شيئاً. فقال: اللهم إن الله لا يتركني بلا شيء. فلما كان بعد ساعة سمع كلاماً فدخل عليه. فلم يوجد عنده أحد، وبين يدين قرص سخن، وثمر. فقال عبد الرحيم للرجل: كل، فسأله بالله من أين. فقال أتاني به الخضر، وقال لي هذا الثمر أتيتك به من اجراينة. قال: وكان عبد الرحيم يأخذ الفتات في يده ويبسطها. فينزل الغراب فيأكله. وأتى رجل الى سحنون يسأله عن مسألة ومعه عبد الرحيم. فسبقه عبد الرحيم بالجواب. فسكت سحنون. فلما ذهب السائل، وقام عبد الرحيم، قال: تجد الرجل يصبر الى الصيام والصلاة، ويتورع فإذا جاءت الفتيا، لم يصبر. قال المؤلف رضي الله عنه: وسكوت سحنون عن جوابه، دليل على صوابه وأنه كان ممن يفتي مع سحنون، وبحضرته. وقال له رجل: أوصني بكلمات، ينفعني الله بها، ويأجرك عليها. فقال أوصيك يا بني أن تتقي الله. وتجتنب محارم الله. وتؤدي فرائض الله. وتحسن الى عباد الله. وإن زدت زادك الله. ويذكر أنه ما تزوج قط. ولا تسرى. وكانت له جاريتان، تقومان به، وتخدمانه. فقيل له ألا تتسرى بإحداهما؟ فإنهما يصلحان لذلك. فحلف أنه لا يعرف صفة وجوههما، لشغله بعبادة ربه عز وجل. وكان يقول: زيادة الاخوان، نقص من العمل. قال بعضهم: يريد أنه يقطع عما يكون فيه الإنسان من عمل، وهو الذي بنى قصر زياد وأنفق فيه اثني عشر ألف دينار، ستة آلاف من عنده، وستة آلاف من عند إخوانه. وكان قد استشار سحنوناً في الخروج الى غزو صقلية ذكر أنه كان له سبعة عشر ألف أصل من الزيتون. وكان لسحنون اثني عشر ألف أصل. وكان لعبد الرحيم ضيعة. قد استشار سحنون في بيع ضيعتيه، والتصدق بهما. فنهاه. وتوفي سنة ست ويقال سبع وأربعين ومائتين. ورثاه بعضهم بقصيدة أولها: الخضر، وقال لي هذا الثمر أتيتك به من اجراينة. قال: وكان عبد الرحيم يأخذ الفتات في يده ويبسطها. فينزل الغراب فيأكله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 وأتى رجل الى سحنون يسأله عن مسألة ومعه عبد الرحيم. فسبقه عبد الرحيم بالجواب. فسكت سحنون. فلما ذهب السائل، وقام عبد الرحيم، قال: تجد الرجل يصبر الى الصيام والصلاة، ويتورع فإذا جاءت الفتيا، لم يصبر. قال المؤلف رضي الله عنه: وسكوت سحنون عن جوابه، دليل على صوابه وأنه كان ممن يفتي مع سحنون، وبحضرته. وقال له رجل: أوصني بكلمات، ينفعني الله بها، ويأجرك عليها. فقال أوصيك يا بني أن تتقي الله. وتجتنب محارم الله. وتؤدي فرائض الله. وتحسن الى عباد الله. وإن زدت زادك الله. ويذكر أنه ما تزوج قط. ولا تسرى. وكانت له جاريتان، تقومان به، وتخدمانه. فقيل له ألا تتسرى بإحداهما؟ فإنهما يصلحان لذلك. فحلف أنه لا يعرف صفة وجوههما، لشغله بعبادة ربه عز وجل. وكان يقول: زيادة الاخوان، نقص من العمل. قال بعضهم: يريد أنه يقطع عما يكون فيه الإنسان من عمل، وهو الذي بنى قصر زياد وأنفق فيه اثني عشر ألف دينار، ستة آلاف من عنده، وستة آلاف من عند إخوانه. وكان قد استشار سحنوناً في الخروج الى غزو صقلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 ذكر أنه كان له سبعة عشر ألف أصل من الزيتون. وكان لسحنون اثني عشر ألف أصل. وكان لعبد الرحيم ضيعة. قد استشار سحنون في بيع ضيعتيه، والتصدق بهما. فنهاه. وتوفي سنة ست ويقال سبع وأربعين ومائتين. ورثاه بعضهم بقصيدة أولها: قل للتقى والدين بعد محمد ... جودا على عبد الرحيم فقد غبر ما كان أتقاه وأحسن أمره ... في الله يسعى قدماً وما عثر أما النهار فصائم متهجد ... والليل يهتف بالقُران الى السحر وقال الصدفي في أرجوزته: وبني بقصر الصائم القوام ... عبد الرحيم الصائم القوام ما كان إلا علم الإسلام أبو السري واصل العابد الحمّي من قصر حمّة قال سعدون الخولاني، وكان يخدمه: كان واصل من رجال مالك. يعني من أصحابه. وذكر غيره سبب طلبه العلم، وكان أولاً مشتغلاً بالعبادة. قال أبو العرب: كان مجتهداً بالعبادة، له مناقب كثيرة، لم أعلم أن العلم روي عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 قال أبو ميسرة: قال واصل: جئت الى جامع سوسة، يوم جمعة، فصليت وسحنون قريباً مني، فأذّن المؤذن، وقد بقي عليّ شيء من السورة فأتممتها. وقد أخذ الإمام في الخطبة. فلما سلم الإمام سأل سحنون عني. فأخبروه. فنودي بي. فقال من أنت؟ قلت: واصل. قال واصل الذي يقال. قلت اسأل الله بركة ما يقال. فقال لي رأيتك تصلي والإمام يخطب. اطلب شيئاً من العلم. قلت: لا. قال: اطلب العلم أو فلا تسكن في شيء من هذه الحصون. فاختلفت الى عون بن يوسف، سبع سنين. قال المالكي: فتفقه به. وحفظ من العلم ما قمع به الشيطان. ثم شمّر للعبادة، وقيام الليل، وصيام النهار، حتى مات. وكان أبو عبد الله بن سحنون يعظمه. وكان واصل يسكن بقصر الطوب من سوسة. ذكر عبادته وصومه وزهده ذكر سعيد بن الحداد، أن واصلاً أقام أربعين سنة لم يدخر شيئاً من الدنيا. وأنه ليقيم الأيام لا يطعم شيئاً. فإذا أجهد خرج فأكل من مثاقل الأرض ثم عاد لمصلاه. وحكى المالكي، أنه خرج ليلة من المسجد، فلما صارت إحدى رجليه خارج المسجد، والأخرى داخله، عرضت له فكرة، فرفع رأسه، وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 لنفسه: أطاعت السماوات والأرض، وما فيها، وعصيته أنت على صغرك. وبقي باهتاً حيناً طويلاً. ثم استرخى وسقط مغشياً عليه. فصادف رأسه الحائط، فجرحه. فحمل وهو على حاله. وذكر أنه قدم الى القيروان، يوم جمعة. فعرض له وهو في صلاته شيء من فهم القرآن، استغرقه حتى خطب الإمام، وصلى. ولم يشعر. فسأله سحنون عن ذلك، فأخبره بما استغرقه. فقال له سحنون: وصلت، والله يا واصل. قال: وقصده رجل من أهل المشرق، سمع به. فقال له: أنت واصل. قال: نعم. قال له فرصتك من أين؟ قال بين الكاف والنون. قال: فأخبرني أنت ساكن في المسجد، وليس لك ماء، ولا غيره. فإذا طبخ المرابطون قدورهم، ودخلوا بها بيوتهم، وسمعت حساً على الداموس، تستشرف نفسك الى من يأتيك بما تأكل؟ فقال واصل: ما لنا عند أحد شيئاً، ننتظره يجيئنا به. فقال: أنت واصل حقاً. وذكر أن واصلاً كان قبل أن يتعبد، يتجر في حانوت بما يوزن، ويكال. فجاءته امرأته فساومته في شيء فخالفها فيه. فقالت له كفاك ما أنت فيه، من مكيال وميزان. فقال لها صدقتني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وترك جميع ما كان فيه. ولزم قصر الرباط، قال أحمد بن أبي سليمان: قلت لواصل، بلغني أنك لم تشرب الماء دهراً. فقال لم أشربه ثمانية أشهر. ثم غلبتُ. وذلك أني كنت في البسبس والموز، والمرق. قلت له: فالخبز. كم لك لم تأكله. قال أكثر من عشرين سنة. فلما استغنيت عنه، تركته تأديباً لنفسي. قلت له: بلغني أن إبليس كلمك. قال: لا. قلت له: فرأيته؟ قال: دخلت عليّ جارية من المسجد في حلي وصياغ، فقمت إليها بالعصا، فهربت. فاتبعتها الى باب القصر فوجدت القصر مسدوداً. فعلمت أنها إبليس. بعض ما يحكى من كراماته ذكر أنه لما نزل قصر الرباط، لقي شيئاً أقام فيه أياماً، مقبلاً على الصلاة والصوم. فتبين فيه أهل الحصن، الضعف، من كثرة مداومته، وقلة غذائه. فأتوه ليالي بطعام يفطر عليه، من الشعير والبقل. فلما طال عليهم، تركوه. فأقام ليلة وثانية، لم يطعم فيها شيئاً. فلما كان في الثالثة إذا بضارب يضرب عليهم باب القصر، فسألوه، فقال: غلام فلام، رجل من مشاهير القيروان مذكور بخير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وجّهني الى الشيخ واصل بطعام، وقال لي: إما وصلت إليه هذه الليلة، أنت حر. وكانت الحصون لا تفتح بالليل. فشاوروا واصلاً، فقال: ما عليكم أن تفتحوا له، وتعتقوه. ففتحوا له. فإذا ببغل عليه حمل به دجاج وفراخ، وسنوسج وعجج، وحلو وجرادق، فمد يده الشيخ الى شيء منه. فأكله، ثم قال: اقسموا، جميعه. فقسموه فيما بينهم. وقالوا: إن تطعموه الشعير، ببقل البرية، فقد أطعمكم هذا الطعام الطيب. وقيل في مثل هذه الحكاية عنه: إن امرأة رأت في المنام قائلاً يقول لها: أخوك واصل جائع، فابعثي إليه بطعام. فقالت لعبدها: إن وصلت إليه، فأنت حر. وأتت مراكب للروم عند قصره، فأرادوا أخذ الماء، فمنعهم المسلمون. فلما آيسوا بسطوا الأنطاع واستسقوا فسقوا. فبلغ ذلك واصلاً. فاشتد عليه. وقال اللهم اهزمهم، واجعلهم نقلاً للمسلمين. فأرسل الله عليهم للوقت ريحاً شديدة، فكسرت مراكبهم، ورمت بهم الى البر. فغنمهم المسلمون. قال سعدون: قال لي واصل: مكثت أحد عشر سنة، أتعرف فيها حالي عند الله، كل ساعة. فما علمت أن الشيطان ظهر لي ولا ساعة واحدة، إلا في ثلاث خطوات، خطوتها في طريق. ثم عاد علي العلم ببركته. فرجعت وذلك أني كنت أمشي في طريق الساحل، فلما كان آخر النهار عارضني طريقان، أحدهما الى قرية رجل صالح، غني. والأخرى الى قرية رجل صالح، فقير. وهما صديقان لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 فوقفت أنظر من أقصد. فقالت لي نفسي: إن قصدت الفقير، عساك لا تجد عنده شيئاً يتعشى عياله وأطفاله. وإن كان عنده، ضيعت عليهم، وغممتهم. وإن قصدت الغني، وجدت عنده خبزاً طيباً، من القمح من أرضه الموروثة، وزيتاً من زيتونه، وتيناً فاخراً. عسى يذبح لك خروفاً من غنمه، وهي ترعى في أرضه، وتسره وتجد بغيتك. وتأكل شهوتك. فخطوت في طريقه ثلاث خطوات، ثم استيقظت، فقصدت طريق الفقير، فرحب بي وطيب وأخذ بيدي الى بيته. فلما جلسنا لنتعشى، دقّ الباب علينا. فأتاني بصحبته ثريد من القمح، عليه لحم خروف سمين. فقال لي: كل. فأكلنا حتى شبعنا. وحمل البقية الى عياله. ثم ضرب الباب، فخرج. فإذا بطبق فيه صفحة زيت، وتين فاخر، فأكلنا حتى شبعنا. ثم سألته عن ذلك. فقال لي: أتاني به جار لي. فقلت له: صح به. فسألته عن السبب، فقال: نعم. كان عندنا خروف سمّنّاه، وكنا ننتظر به يوماً نفرح الصبيان بذبحه. فحل ذلك اليوم بقلوبنا. فلما ذبحناه وثردنا ورأيتك نزلت بجارنا قلت لامرأتي لا ينزل بصالح إلا صالح مثله. وليس له طاقة. ونحن نجد العوض في غير يومنا. فهل تري أن نطعمهم إياه، ونسأله دعوة لنا ولأولادنا. فقالت: افعل. فجئناكما بها، من على المائدة. قالت لي الزوجة: لابد من حلاوة. فأعطتني هذا التين والزيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 قال أبو الحسن القابسي: ذكر أن ابن سحنون، كان يوم ضحوة يلقي على أصحابه المسائل، وهو يشرح. إذ وجم ساعة. ثم نهض للقيام. ثم قال من حضرته نية لزيارة الشيخ واصل، فليقم. وخرج من فوره. فوصل عصر غده. فأتى المسجد. فدخل واصل، فصلى بهم. ثم خرج يتنفل الى جانب ابن سحنون. فلما سلم، وسلم ابن سحنون من ركوعه. قال الشيخ لابن سحنون: أعد الركعتين، فإني رأيتك أمررت يدك على لحيتك، وهو عمل في الصلاة. فقال له محمد: وأنت فأعد. لأنك أشغلت سرك بي. فقال له واصل: أظنك محمد بن سحنون . قال: نعم. فمد يده إليه، وصافحه. وقال سألت الله أمس ضحوة من النهار، أن يجمع بيني وبينك. وأخبار واصل كثيرة. وكانت وفاته سنة اثنين وخمسين ومائتين. محمد بن سحنون مرّ نسبه في أبيه. تفقه بأبيه. وسمع من ابن أبي حسان، وموسى بن معاوية، وعبد العزيز بن يحيى المدني، وغيرهم. ورحل الى المشرق، فلقي بالمدينة أبا مصعب الزهري، وابن كاسب. وسمع من سلمة بن شبيب. قال أبو العرب: وكان إماماً في الفقه، ثقة. وكان عالماً بالذب عن مذهب أهل المدينة. عالماً بالآثار، صحيح الكتاب، لم يكن في عصره أحذق بفنون العلم منه، فيما علمت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 قال ابن أبي دليم: وكان الغالب عليه الفقه، والمناظرة. وكان يحسن الحجة والذب عن السنة، والمذهب. قال ابن حارث: كان عالماً فقيهاً مبرزاً، منصرفاً في الفقه والنظر ومعرفة اختلاف الناس، والرد على أهل الأهواء، والذب عن مذهب مالك. وكان قد فتح له باب التأليف، وجلس مجلس أبيه بعد موته، قال يحيى بن عمر: كان ابن سحنون من أكثر الناس حجة، وأتقنهم بها، وكان يناظر أباه. وكان يسمع بعض كتب أبيه في حياته، يأخذها الناس عنه قبل خروج أبيه. فإذا خرج أبوه، قعد مع الناس يسمع معهم من أبيه. وقال سحنون: ما أشبهه إلا بأشهب. وقال: ما غبنت في ابني محمد، إلا أني أخاف أن يكون عمره قصيراً. وكان يقول لمؤدبه: لا تؤدبه إلا بالكلام الطيب، والمدح. فليس هو ممن يؤدب بالتعنيف والضرب، واتركه على بختي، فإني أرجو أن يكون إمام وقته، وفريد أهل زمانه. قيل لعيسى بن مسكين: من رأيت في العلم؟ فقال: محمد بن سحنون. وقال أيضاً: ما رأيت بعد سحنون مثل ابنه. وكان رأى جماعة بالمشرق وغيره. قال حمديس القطان: رأيت العلماء بمكة والمدينة ومصر، فما رأيت فيهم مثل سحنون ولا مثل ابنه بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وذكر ابن مغيث: أن القاضي اسماعيل بن إسحاق، ذكر له فقال فيه، الإمام ابن الإمام. وذكر مرة، ما ألّفه العراقيون م الكتب، فقال اسماعيل: عندنا من ألّف في مسائل الجهاد عشرين جزءاً، وهو محمد بن سحنون، يفخر بذلك على أهل العراق. قال ابن حارث: كان من الحفاظ المتقدمين المناظرين، المتصرفين. وكان كثير الكتب غزير التأليف. له نحو مائتي كتاب في فنون العلم. ولما تصفح محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كتابه، وكتاب ابن عبدوس، قال في كتاب ابن عبدوس: هذا كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه. وفي كتاب ابن سحنون: هذا كتاب رجل يسبح في العلم سبحاً. قال ابن الجزار: كان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب. جامعاً لخلال قل ما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر والجدل والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز. سمحاً بماله، كريماً في معاشرته، نفاعاً للناس، مطاعاً، جواداً بماله وجاهه. وجيهاً عند الملوك والعامة. جيد النظر في الملمات. قال حمديس: جئت يوماً الى محمد بن سحنون فأخرج إلي كتاب الرجوع عن الشهادات. فقال لي: خط مَن هذا؟ فقلت خط سحنون. وكان ابن عبدوس أنكر أن يكون لسحنون. فقال لرجل: امض بالكتاب إليهما، ولا يمساه وأرهما إياه، ورقة، ورقة. وقل لهما خط مَن هو؟ ففعل الرجل ذلك. فقالا: خط سحنون، وما ظننا ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 فقال قل لهما يا مساكين مقامي مقامك. وأنا معه في الدار، والله أبداً. ذكر تآليفه وألف ابن سحنون كتابه المسند في الحديث. وهو كبير. وكتابه الكبير، المشهور، الجامع. جمع فيه فنون العلم والفقه. فيه عدة كتب، نحو ستين. وكتاباً آخر في فنون العلم. ومنها كتب السير عشرون كتاباً. وكتابه في المعلمين. ورسالته في السنة ورسالته في أدب المناظرة جزآن. وكتاب تفسير الموطأ، أربعة أجزاء. وكتاب الحجة على القدرية. وكتاب الحجة على النصارى. وكتاب الإباحة. وكتاب الرد على البكرية. وكتاب الوردع. وكتاب الإيمان والرد على أهل الشرك. وكتاب الرد على أهل البدع، ثلاثة كتب. وكتاب في الرد على الشافعي، وعلى أهل العراق، وهو كتاب الجوابات، خمسة كتب. وكتاب طبقات العلماء، سبعة أجزاء. وكتاب الأشربة، وغريب الحديث، ثلاثة كتب. وكتاب التاريخ، ستة أجزاء. قال بعضهم: ألف ابن سحنون كتابه الكبير، مائة جزء وعشرون في السير، وخمسة وعشرون في الأمثال، وعشرة في آداب القضاة، وخمسة في الفرائض، وأربعة في الاقرار، وأربعة في التاريخ، والطبقات، والباقي في فنون العلم. قال غيره: وألّف في أحكام القرآن. ذكر بقية أخباره وفضائله قال ابن سحنون: دخل علي أبي وأنا أؤلف كتاب تحريم المسكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 فقال: يا بني إنك ترد على أهل العراق، ولهم لطافة أذهان، وألسنة حداد، فإياك أن يسبقك قلمك، لما تعتذر منه. وذكر أبو القاسم البيدي: إن ابن سحنون أتى بعد موت سحنون، هو وأصحابه زائراً، الى عبد الرحمان بن عبد ربه الزاهد، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وتركه حيث انتهى به المجلس، ولم يقبل عليه حتى انصرف. فلما كانت الجمعة الأخرى، استنهض محمد أصحابه لزيارته ثانية. فقالوا له: رأيناه لم يقبل عليك. فقال: ليس هذه بغيتي. هو رجل صالح نرجو بركة دعائه. وقد كان سحنون يأتيه، ويتبرك بدعائه، ويلجأ إليه عند المهمات. فعاد إليه ابن سحنون وأصحابه، فلما رآه قام على رجليه، ورحب به وأجلسه في موضعه. ولم يزل مقبلاً عليه، حتى انصرف. فقيل له في ذلك، مع فعله الأول. فقال: والله ما أردت بذلك إلا الله. رأيت اجتماع الناس عليه، فخفت فتنة فعملت ما عملت لأجربه، فرأيت في ليلتي، قائلاً يقول لي، في ذلك: لم تقبل على ابن سحنون، وهو ممن يخشى الله. وفي رواية: وهو ممن يحب الله ورسوله. فبلغت ابن سحنون. فبكى بكاءً شديداً، وقال: لعله يذبّي عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما خرج الى الحج، نزل على أبي رجاء بن أشهب بن عبد العزيز، فقصده علماء مصر، ووجوههم، يسلمون عليه، وابن المزني، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 فأطال الجلوس معه، ليخلو به. فلما خرج أبو رجاء، سألته عنه فقال: لم أرَ والله أعلم منه، ولا أحدّ ذهناً، على حداثته. ووجه به الى الخليفة. قال عيسى بن مسكين: وما ألف في هذا الفن مثله. قال سليمان بن سالم: واختلف إذ ذاك وهارون بن سعيد الايلي، في مسألة، فتحاكما الى محمد بن سحنون. قال سليمان بن سالم: قدم رجلان من بني كنانة، ليسمعا العلم. ويقصدا ابن أبي المنهال وابن قادم، فيأتيا على ذلك. فرأى أحدهما في المنام أن سائلاً سأله، فأخبره عن قصدهما، ولمن قصدا. فقال لمن قصدكما، من تطلبان؟ قال الرائي فأخذني على طريق منحرفة، حتى أوقفني على مسجد فيه شيخ، والناس حوله. فقال لي: هنا اطلب من العلم من هذا، ولا تعدل. فلما أصبح الرائي قال لصاحبه: سر بنا الى حيث سير بي البارحة. وأخبره بالرؤيا. فمضى معي. وسرت الى الموضع الذي رأيته في المنام. حتى مسجد ابن سحنون، فعرفه بالرؤيا التي رأى، وعرفه، وسلم عليه، ولزمه. حكى بعض سكان القصر: أنه خرج ليلة في القصر بعد العشاء الآخرة. فإذا بقارئ يقرأ في بعض البيوت، وقاسمَهما إني لكما لمنَ النّاصحين. فدلاهُما بغُرور. ويردد الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 فرجع الرجل الى صلاة الصبح، وهو على حالته. قال وأسمع وقع الدموع على الحصير، الى أن خرج لصلاة الفجر، مستور الوجه. فلم أزل أرتقبه، إذا به محمد بن سحنون. قال عيسى بن مسكين: قلت لابن سحنون: كيف الرشّ؟ يعني النضح. قال: تبسط الثوب ثم ترش عليه، ثم تقلبه، ثم ترش عليه، ثم تجففه. قيل لعيسى: الطاق الواحد من الناحيتين؟ قال: نعم. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: يحتمل والله أعلم أن يكون هذا فيما يشك في نجاسته من الناحيتين أو من إحداهما. ولم يتعين أو شك أن النجاسة داخلته. قال: وقد رأيت لأبي الحسن القابسي، في صفة النضح قال: يرش الموضع المتهوم بيده، رشة واحدة. وإن لم يعمه، لأنه ليس عليه غسل، فيحتاج أن يعمه. قال وإن رشه بفيه أجزاه. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: بعد غسل فيه من البصاق، وتنظيفه. وإلا فإنه يضيف الماء. ويغلب عليه. قال عيسى: كنت قد أخذت منه كتابين، أمهات. فحضرت الصلاة. فقدمني فأخرجتهما من كمي، ووضعتهما، فأخذهما محمد وأدخلهما في كمه، وصلى فأخجلني بفعله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 قال أبو اللباد: حج محمد بن سحنون سنة خمس وثلاثين. فغلطوا في يوم عرفة، فأراهم محمد، أن ذاك يجزئ من حجّهم. واختلف فيها قول أبيه. قال المؤلف رحمه الله: حكى ذلك الطائي عن ابن أسلم المالكي. أجمع مالك وأبو حنيفة والشافعي، على أجزاء هذه المسألة. قال بعضهم: كنت عند محمد بن سحنون فجاءه يعقوب الجري فأنشده: محمد يا من بالعدل قد نفذت قضاياه ... ويا ابن مناصح لله يرجوه ويخشاه أبوك أب أهاب بجنة الفردوس وهي دنياه ... فمن والى أبوك بوده فالله مولاه مولاي وقد ينال المرءُ عفواً ما تمناه ... كتاب منك تنجح حاجتي إن كنت أُعطاه فطل وامنن علي به ... وحطني حاطك الله فقال له محمد بن سحنون: نعم، وكرامة. وكتب له في حاجته. قال أبو العرب: كان ابن سحنون من أطوع الناس في الناس. سمحاً، كريماً، نفاعاً للناس، إذا قُصِد. قال ابن حارث: كان كريماً في نفسه، جواداً بماله، وجاهه. يصل من قصده بالعشرات من الدنانير. ويكتب لمن يعنى به الى الكور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 فيعطى الأموال الجسيمة، مقدماً عند الملوك، وجيهاً عند العامة، نهاضاً بالأثقال، واسع الحيلة، جيد النظر عند الملمات. وهو كان السبب المقيم لسليمان بن عمران، وعبد الله بن طالب، وذلك أنه عني بسليمان حتى استكتبه أبوه. ثم ولاه قضاء باجة. فلما مات سحنون، وولى سليمان بن عمران قضاء القيروان مكانه، فأساء صحبة محمد بن سحنون، وفسدت الحال بينهما، الى أن وجّه به سليمان، فأتاه محمد في خلق ممن تبعه، فأغلظ له سليمان في القول، فحفظ من كلامه: ما أحوجك الى من يُمضِغْك قطن قلنسوتك هذه. ولم يجسر عليه بمكروه. وكان سليمان يلقبه ويؤذيه بالقول. وجاء رجل الى ابن سحنون وقال له: يا أبا عبد الله، الرسول يبلّغ ولا يلام: ابن العيّاد، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أنبَتّ أقواماً لو أن السماء أمطرت عليهم أربعين خريفاً ما أنبتوا. يعرض بسليمان بن عمران. فقال ابن سحنون: هذا جزاء من فعل شيئاً لغير الله. ولم تزل الحال تتزايد في فساد ما بينهما، الى أن توارى ابن سحنون خوفاً على نفسه. فكتب في تواريه الى الأمير محمد بن الأغلب، بما كتب به عثمان الى علي رضي الله عنهما: فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا تداركني ولمّا أمزّق فقال ابن الأغلب: ومن يمزقه، مزق الله جلده. ثم رفع يد سليمان عنه، وأمنه منه. وقيل إن ابن سحنون لما طال ترقيه، لما ينفعه من الأمير، ركب متنكراً إليه. ولقيه مؤدب أولاد الأمير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 إذا أذنت لابن سحنون في الخروج، مع من أبقى؟ أخبره: إني قد رفعت يد سليمان بن عمران عنه. فظهر ابن سحنون وشق السماط الأعظم، حتى أتى الجامع، فصلى فيه. فبلغ ذلك سليمان فعلم أنه أمن، ورفعت يده عنه. وظهر محمد بن سحنون، وقامت رئاسته. وشجي به سليمان وجماعة العراقيين، ورد سليمان غضبه على أصحاب ابن سحنون. فأخذ فرات بن محمد فضربه بالسياط. وبينما محمد بن سحنون يمشي يوماً، لقيه صاحب الصلاة بالقيروان، المعروف بابن أبي الحواجب، وكان من أعدائه. فأومأ الى أذنه فأمكنه ابن سحنون منها. فقال له سراً: يا كذا ابن كذا نسباً قبيحاً - فأجابه ابن سحنون جهراً: تُقْضى حاجتك. يغالط من حضره. وسار ابن أبي الحواجب فأخبر سليمان بن عمران بذلك. فقال إن صدقت فتحفظ. وركب ابن سحنون الى أحمد بن محمد الحضرمي، فسأله أن يزين للأمير تولية ابن طالب على الصلاة. فأجابه الأمير إليه. فخرج الحضرمي بذلك الى ابن سحنون فسأله ابن سحنون كتم ذلك الى وقت الخطبة. ووجه ابن سحنون في طلب ابن طالب، فأعلمه بذلك. وقال له: تهيأ. فإذا رأيت ابن أبي الحواجب قد خرج الى المقصورة، فقم بين يديه، وارق المنبر، واخطب. فلما كان يوم الجمعة، هجِر ابن أبي الحواجب الى الجامع، فنزل في المقصورة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 وأتى ابن طالب فركع الى جانب ابن سحنون، وسليمان بن عمران عند المنبر. فلما خرج ابن أبي الحواجب الى المقصورة، وهي حجرة قبلي الجامع، ورفع رجله الى درجة المنبر، صعد ابن طالب على المنبر، وقد تقلد السيف، ومد القيّم يده الى ثوب ابن أبي الحواجب، فجبذه، وكان سليمان بن عمران جالساً، وقد نعس حينئذ، فما راعه إلا صوت ابن طالب، وكان فصيحاً، يقول: الحمد لله الذي يشكر على ما به أنعم، والحمد لله الذي عذب على ما لو شاء منه عصم، والحمد لله الذي على عرشه استوى، وعلى ملكه احتوى، وهو في الآخرة يرى. فعلت سليمان بن عمران كآبة، وتهلل وجه ابن سحنون. واستمر ابن طالب في خطبته، وتمت الصلاة. فلما انصرف سليمان الى منزله، جمع شيوخ القيروان، وأمرهم أن يسيروا الى الأمير، ليزكوا عنده ابن أبي الحواجب، ويسألوه رده على الصلاة. فبلغ الخبر ابن سحنون فوجه الى الحضرمي، فأعلمه بالأمر. فلما أطل القوم على القصر، أرسل إليهم الحضرمي، أما تستحيُون أن تسألوا الأمير، أن يحط ابن عمه، ومن أراد التنويه به، وأن يشرف صاحبكم - وكان ابن طالب من بني عم الأمير - انصرفوا. فإنا لا نسألكم عن تزكية، ولا جرحة. فانصرف القوم، فكانت تلك أول نكبة سليمان. ثم لم تزل أمور ابن طالب تنتمي، الى أن عزل سليمان وولي ابن طالب قضاء إفريقية مكانه. ووجه ابن الأغلب في ابن سحنون، فسأله ما تقول في يزيد؟ فقال أصلح الله الأمير. ما أقول ما قالت الإباضية، ولا ما قالت المرجئة. قال: وما قالت؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 قال: قالت الإباضية: إن من أذنب ذنباً فهو من أهل النار. وقالت المرجئة: لا تضر الذنوب مع التوحيد. أما يزيد عظيماً جسيماً، ويفعل الله في خلقه ما أحب. ثم انصرف. وذكر أن رجلاً من أصحاب محمد، دخل بمصر، حماماً، عليه رجل يهودي فتناظر معه الرجل فغلبه اليهودي، لقلة معرفة الرجل. فلما حج محمد بن سحنون صحبه الرجل، فلما دخل مصر، قال له: امض بنا، أصلحك الله، الى الحمام الذي عليه اليهودي. فلما دنا خروج محمد، سبقه الرجل. وأنشب المناظرة مع اليهودي، حتى حانت الصلاة. فصلى محمد الظهر، ثم رجع معه الى المناظرة، حتى كانت العصر، فصلاها. ثم كذلك العشاء، ثم الى العشاء الآخرة، ثم الى الفجر، وقد اجتمع الناس وشاع الخبر بمصر، الفقيه المغربي يناظر اليهودي، فلما كانت صلاة الفجر انقطع اليهودي، وتبين له الحق وأسلم. فكبّر الناس وعلت أصواتهم. فخرج محمد وهو يمسح العرق عن وجهه، وقال لصاحبه: لا جزاك الله خيراً. كاد أن يجري على يديك فتنة عظيمة. تناظر يهودياً، وأنت بضعف، فإن ظهر عليك اليهودي، لضعفك، افتتن من قدر الله فتنته، أو كما قال. وذكر أن رجلاً عراقياً كان يؤذي محمد بن سحنون، وينال منه. فاشتد عليه مرة الفقر، فقام بباله قصده. فنهته امرأته لما عرفت منه، فلم يقبل منها. ووصل إليه. فقال: جئت أستعينك وأستعفيك. فقال: اذكر حاجتك. فقال: ما جئت الى هذا. قال: لابد أن تذكر حاجتك. فشكا إليه حاله. فاسترجع محمد، وقال: يا أخي بلغ منك هذا وأنا في الدنيا. وكتب له رقعة الى صيرفي بعشرين ديناراً. وقال اشتر بها لأهلك ما يحتاجون. ففعل الرجل، وأخبر الرجل بذلك ابن سحنون، فسر، ثم قال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب له كتباً، وقال له: تمضي بها الى قسطنطينه. فمضى الرجل بها وأوصلها الى أصحابها. فأكرم وأضيف، وأعطي ثلاثمائة دينار. فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون وأنه وجهه وراءها. فلما وصل الى القيروان دفعها لمحمد بن سحنون مع أجوبة القوم. فقال محمد: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال القاسم: قال الرجل: يا سيدي، إن كان بقي شيء رجعت إليه، أقتضيه لك. فقال: ليست لي، إنما هي لك. وما عهدناهم كذلك. وجعل يستقلها. وفي حكاية أخرى، أن رجلاً من العراقيين كان يغري به، حتى قيل إن صاحبه يشتمه علانية وسراً، إذا وجده مع الناس، فشتمه يوماً في أذنه، وهو في أصحابه. فقال: نعم وكرامة. إذا تفرّغت تقضي حاجتك. وبلغ ذلك العراقيين. فتهموا صاحبهم وأضاعوه. فشكا حاله الى بعض الصالحين. فدله على محمد بن سحنون. فسار إليه، فأصغى إليه محمد أذنه، وهو يظن أنه يجري على عادته. فقال هو: والله ما جئتك إلا نائباً منيباً. فأجلسه. فلما قضى مجلسه أخذ بيده، وحمله الى منزله، ودفع إليه عشرين ديناراً. ثم كتب له ثلاثين كتاباً الى ثلاثين رجلاً من أصحابه بالساحل، يسأل كل رجل أن يشتري له جارية. فوصلت إليه ثلاثون جارية. فأمر ببيع خمسة منهن. وأصلح بها حال خمس وعشرين، ودفعهن الى الرجل. وحكى المالكي قال: كانت لمحمد بن سحنون، تسعة أسرة. يريد لكل سرير سرية. وكانت له سرية يقال لها أم قدام. فكان عندها يوماً، وقد شغل في تأليف كتاب الى الليل، فحضر الطعام، فاستأذنته، فقال لها: أنا مشغول الساعة. فلما طال عليها، جعلت تلقمه الطعام، حتى أتت عليه. وتمادى هو على ما هو فيه الى أن أذن لصلاة الصبح. فقال: شغلنا عنك الليلة يا أم قدام. هات ما عندك. فقالت قد والله يا سيدي ألقمته لك. فقال لها: ما شعرت بذلك. قال سليمان بن سالم: قال لي محمد بن سحنون: دخلت مسجد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بحلقة عظيمة، فيها شيخ متكئ، فجلست كما نزلت، بثياب السفر. فوجدتهم يتنازعون في مسألة من أمهات الأولاد. فأدخلت عليهم فيها حرفاً، فنبههم الشيخ عليه، فاسترد جالساً. ثم زدت حرفاً آخر. فقال لي أين بلدك؟ فقلت: أصلحك الله، رجل حاج. فقال أين بلدك؟ قلت إفريقية. فقال ينبغي أن تكون ابن سحنون، أو ابن أخي سحنون. فقام إلي الشيخ في جميعهم فسلموا عليّ، وعتبوني إذ لم أعلمهم بنفسي. فوَالله ما خرجت من المسجد إلا والشيخ يكتب المسألة، وأنا أمليها عليه. ك وأستعفيك. فقال: اذكر حاجتك. فقال: ما جئت الى هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 قال: لابد أن تذكر حاجتك. فشكا إليه حاله. فاسترجع محمد، وقال: يا أخي بلغ منك هذا وأنا في الدنيا. وكتب له رقعة الى صيرفي بعشرين ديناراً. وقال اشتر بها لأهلك ما يحتاجون. ففعل الرجل، وأخبر الرجل بذلك ابن سحنون، فسر، ثم قال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب له كتباً، وقال له: تمضي بها الى قسطنطينه. فمضى الرجل بها وأوصلها الى أصحابها. فأكرم وأضيف، وأعطي ثلاثمائة دينار. فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون وأنه وجهه وراءها. فلما وصل الى القيروان دفعها لمحمد بن سحنون مع أجوبة القوم. فقال محمد: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال القاسم: قال الرجل: يا سيدي، إن كان بقي شيء رجعت إليه، أقتضيه لك. فقال: ليست لي، إنما هي لك. وما عهدناهم كذلك. وجعل يستقلها. وفي حكاية أخرى، أن رجلاً من العراقيين كان يغري به، حتى قيل إن صاحبه يشتمه علانية وسراً، إذا وجده مع الناس، فشتمه يوماً في أذنه، وهو في أصحابه. فقال: نعم وكرامة. إذا تفرّغت تقضي حاجتك. وبلغ ذلك العراقيين. فتهموا صاحبهم وأضاعوه. فشكا حاله الى بعض الصالحين. فدله على محمد بن سحنون. فسار إليه، فأصغى إليه محمد أذنه، وهو يظن أنه يجري على عادته. فقال هو: والله ما جئتك إلا نائباً منيباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 فأجلسه. فلما قضى مجلسه أخذ بيده، وحمله الى منزله، ودفع إليه عشرين ديناراً. ثم كتب له ثلاثين كتاباً الى ثلاثين رجلاً من أصحابه بالساحل، يسأل كل رجل أن يشتري له جارية. فوصلت إليه ثلاثون جارية. فأمر ببيع خمسة منهن. وأصلح بها حال خمس وعشرين، ودفعهن الى الرجل. وحكى المالكي قال: كانت لمحمد بن سحنون، تسعة أسرة. يريد لكل سرير سرية. وكانت له سرية يقال لها أم قدام. فكان عندها يوماً، وقد شغل في تأليف كتاب الى الليل، فحضر الطعام، فاستأذنته، فقال لها: أنا مشغول الساعة. فلما طال عليها، جعلت تلقمه الطعام، حتى أتت عليه. وتمادى هو على ما هو فيه الى أن أذن لصلاة الصبح. فقال: شغلنا عنك الليلة يا أم قدام. هات ما عندك. فقالت قد والله يا سيدي ألقمته لك. فقال لها: ما شعرت بذلك. قال سليمان بن سالم: قال لي محمد بن سحنون: دخلت مسجد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بحلقة عظيمة، فيها شيخ متكئ، فجلست كما نزلت، بثياب السفر. فوجدتهم يتنازعون في مسألة من أمهات الأولاد. فأدخلت عليهم فيها حرفاً، فنبههم الشيخ عليه، فاسترد جالساً. ثم زدت حرفاً آخر. فقال لي أين بلدك؟ فقلت: أصلحك الله، رجل حاج. فقال أين بلدك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 قلت إفريقية. فقال ينبغي أن تكون ابن سحنون، أو ابن أخي سحنون. فقام إلي الشيخ في جميعهم فسلموا عليّ، وعتبوني إذ لم أعلمهم بنفسي. فوَالله ما خرجت من المسجد إلا والشيخ يكتب المسألة، وأنا أمليها عليه. ذكر مذهبه في الإيمان كان محمد بن سحنون لا يستثني في مسألة الإيمان. وغالبَ ابن عبدوس وغيره. وكان يقول: أنا مؤمن عند الله. وكان ابن عبدوس وأصحابه، وأهل مصر والمشرق ينكرون ذلك عليه وعلى من يقوله. وينسبون قائله الى الأرجاء. وتكلم ذلك مرة رجل بمصر، في حلقة أبي الذكر الفقيه، فأنكروا عليه. فقال أبو الذكر: وعندنا فرقة بالمغرب يقال لها السحنونية تقول ذلك. وكان ابن سحنون يقول: المرء يعلم اعتقاده. فكيف يعلم أنه يعتقد الإيمان، ثم يشك فيه. وبقي بينه هو وأصحابه بعده، وبين أصحاب ابن عبدوس وغيرهم، في المسألة تنازع، ومجادلات، ومطالبات. وكانوا يسمون من خالفهم، الشكوكية، لاستثنائهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وسيأتي من أخبار بعضهم، وما جرى بينهم، بعد هذا في موضعه، ما يليق بالكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: والمسألة قد كثر الخوض فيها، وكلام الأئمة عليها. والحقيقة فيها، أنه خلاف في ألفاظ لا حقيقة. فمن التفت الى مغيب الحال والخاتمة، وما سبق به القدر، قال، بالاستثناء. ومن التفت الى حال نفسه، وصحة معتقده، في وقته لم يقل به. ثم نشأ بينهم بعد اختلاف آخر، بعد ثلاثمائة سنة، في القول في الغير، هل يقال هو مؤمن من عبد الله. وجرى بين أبي التبان وابن أبي زيد، والمسيسي، وأبي ميسرة، والدراوردي، وغيرهم في ذلك مطالبات ومهاجرة، سنذكر منها في أخبارهم عند ذكر طبقتهم، والصحيح في هذا أيضاً ما قاله أبو محمد بن أبي زيد: إن كانت سريرتك مثل علانيتك، فأنت مؤمن عند الله. زاد الدراوردي، وختم لك بذلك. وأما ابن التبان وغيره، فأطلق القول بأنه مؤمن. سأل محمد بن أبي زيد، وكان يقول: ابن سحنون ورعاً لم ينسب هذا القول الى أبيه. ذكر وفاته توفي محمد بن سحنون رحمه الله ورضي عنه بالساحل، سنة ست وخمسين ومائتين بعد موت أبيه بست عشرة سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وكانت وفاته بالساحل، وجيء به الى القيروان. فدفن بها. وسنه أربع وخمسون سنة. مولده سنة اثنتين ومائتين. فيما قاله أبو العرب. وقال ابن حارث: مولده على رأس المائتين. وفي رثاء أحمد بن سليمان له: وقد عاش خمساً بعد خمسين حجة ... يحامي عن الإسلام إلا ثمانيا وصلى عليه الأمير حينئذ ابراهيم بن أحمد بن الأغلب. وضرب على قبره قبة. وضربت الأخبية حول قبره. وأقام الناس فيها، شهوراً كثيرة، حتى قامت الأسواق، والبيع والشراء، حول قبره، من كثرة الناس، حتى خاف من ذلك ابن الأغلب، وبعث الى ابن عم ابن سحنون، المعروف بابن لبدة، ففرق الناس. ورئي في النوم، فسئل، فقال: زوجتي وبي سبعين حوراء، لما علم من حبي النساء. ورأى بعضهم حين مات، سحابة تظلل القيروان، والناس يعجبون من حسنها، إذ قال قائل: أتدرون ما هي هذه السحابة؟ قلنا لا. قال: محمد بن سحنون، ويده بيد الله تعالى. ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة. من ذلك قول محمد بن داود وكان من أصحابه: اذر الدموع على أخرّ مُحجل ... بسطت له أيدي المنون حبالها ما ضرها لو متّعت بمحمد ... هيهات رب العالمين قضى لها يا عين جودي بالدموع على الذي ... نشرت عليه المكرمات ظلالها ولقد رأيت الأرض يوم رأيته ... فوق المناكب زلزلت زلزالها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 قل للمنية بعد موت محمد ... تكسو الخليقة بعده إجلالها يا صاحب القبر الذي لبس البلى ... ورّثت نفسي همها وخبالها لما رأت تعطيل مسجدك الذي ... بإزاء قبرك غالها ما غالها ذاك المحل الأرحب العالي إذا ... أعطى البرية ربها أعمالها وقال آخر: فقد مات رأس العلم وانهدّ ركنه ... وأصبح من بعد ابن سحنون واهيا فمن لرواة العلم بعد محمد ... لقد كان بحراً واسع العلم ضافيا بنى لك سحنون من المجد معجزاً ... وأورثك العلم الذي كان بانيا وأصبحت مخصوصاً بكل فضيلة ... وشيدت ما قد كان شيخك جانيا وكنت لأهل العلم حصناً وملجأ ... فأصبح منك اليوم حظك خاليا وقال أحمد بن أبي سليمان: ألا فابك للإسلام إن كنت باكيا ... لحلٍ من الإسلام أصبح واهيا تهدم حصن الديار وانهار ركنه ... عشية أمسى في المقابر ثاويا إمام حباه الله فضلاً وحكمة ... وفقهه في الدين كهلاً وناشيا وزوّده التقوى وبصره الهدى ... فكان بلا شك الى النور هاديا وهي طويلة. قال ابن اللباد: حج محمد بن سحنون سنة خمس وثلاثين، وترك محمد بن سحنون ابنه. وسمي محمد أيضاً. ويكنى بأبي سعيد. له سماع من أبيه. وغلبت عليه العبادة. وسيأتي ذكره. أحمد بن لبدة أبو جعفر. ابن أخي سحنون، ولبدة أخو سحنون. سمع من عمه. قال أبو العرب: هو ثقة. أخذ الناس عنه. وكان وجيهاً بإفريقية، ذا فضل ودين. قال ابن حارث: ولم يكن في الفقه هناك، إلا أنه قام له جاه في البلد بعد موت سحنون بأثرته ومكانه منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 قال ابن نصر: كانت المسائل ترد إليه من كل جانب، فمرة يلقيها إليّ، ومرة الى موسى القطان. فنتولى الجواب عنه. وكان أناس يقولون: ابن لبدة عالم الأمير. قال الإيماني: كانت خديجة ابنة سحنون من أحسن النساء وأعقلهن. فذكر لي أبو داود القطان، أن أحمد بن لبدة أرسله لسحنون يخطبها عليه. فذكرت له. فقال: هممت بذلك. فأتاه محمد، يعني ابنه فشاوره، فقال: لا أصنع - ما يحبه - فسكت عنه، الى أن توفي سحنون. فأرسلني الى محمد. فذكرت ذلك له. فقال: كيف أصنع ما لم يصنع أبي؟ فسكت عنه، حتى توفي محمد. فأرسلني إليها. فقالت لي: ما لم يصنع أبي وأخي، أنا أصنعه؟ لا أفعل. فماتت وهي بكر. وتوفي ابن لبدة هذا سنة إحدى وستين ومائتين. محمد بن ابراهيم بن عبدوس بن بشير أصله من العجم. قال أبو سعيد المصري: وهو من موالي قريش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: هو من كبار أصحاب سحنون، وأئمة وقته. وهو رابع المحمدين الأربعة، الذين اجتمعوا في عصره، من أئمة مذهب مالك، لم يجتمع في زمان مثلهم، اثنان مصريان: محمد بن عبد الحكم، وابن المواز، واثنان قرويان: ابن عبدوس، وابن سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 ذكر مكانه من العلم والفضل قال محمد بن أحمد بن تميم: كان محمد بن عبدوس ثقة، إماماً في الفقه، صالحاً زاهداً، ظاهر الخشوع ذا ورع، وتواضع، بذُّ الهيئة. من أشبه الناس بأخلاق سحنون، في فقهه وزهادته في ملبسه ومطعمه. وكان صحيح الكتاب، حسن التقييد، عالماً بما اختلف فيه أهل المدينة، وما اجتمعوا عليه. قال حماس القاضي: ما رأيت مثل ابن عبدوس، في الزهادة والفقه. وقال مثله محمد بن بسطام. وقال أحمد بن زياد: ما أظن كان في التابعين مثله. يعني في الفضل والزهد. وهذا غلو. قال ابن حارث: كان حافظاً لمذهب مالك، والرواة من أصحابه، إماماً فقيهاً، غزير الاستنباط، جيد القريحة، ناسكاً عابداً متواضعاً. يقال إنه مستجاب الدعوة. وإنه دعا على ابن الأغلب المعروف بأبي الغرانيق، فعرفت استجابته. قال ابن حارث: وكان نظير أحمد بن المواز، وألف كتاباً شريفاً، سمّاه المجموعة على مذهب مالك وأصحابه. وأعجلته المنيّة، قبل تمامه. وكان قرناً لابن سحنون، وجاراً لهم. نشأ معه بين يدي سحنون رحمه الله. وله أيضاً كتاب التفاسير، وله كتب فسر فيها أصولاً من العلم، كتفسير كتاب المرابحة، وتفسير المواضعة، وتفسير كتاب الشفعة، وكتاب الدور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 قال أحمد بن زياد: شاهدته يوماً، قد أخذ في شرح أصل من أصول اللعان. فلما توسط كلامه، فهم عمن كان يكلمه أنه لم يفهمه. فقطع كلامه وقال: هذا الأمر يموت مع أصحابه. يعني الفقه الجيد. وذكر مرة عند حماس القاضي، ففضلوه على محمد بن مسحنون. فقال حماس: كان ابن عبدوس يلقي علينا المسائل. فإذا أشكلت شرحها فلا يزال يفسرها، حتى نفقهها. فيسر بذلك. وإن لم يرنا فهمناها غمّه. قال لقمان: بلغ ابن عبدوس، أن محمد بن سحنون قال يوماً: يتكلمون في الفقه، ولعل أحدهم لو سئل عن اسم أبي هريرة ما عرفه. فكان ابن عبدوس، ربما قال للرجل، من أصحابه: أفهم هذه المسألة، فإنها أنفع لك من اسم أبي هريرة. وفي رواية عن حماس: هذا أحب إلي من معرفة اسم أبي سعيد الخدري. تعريضاً بابن سحنون، لعلمه بالرجال. وكان ابن طالب شديد الإعظام لابن عبدوس، عارفاً بحقه، وعليه كان يعتمد في أحكامه ويطالبه بالمشاورة، في كل وقت. وكان سليمان بن عمران يقول لابن طالب: إن مات لك ابن عبدوس ما تصنع؟ قال لقمان: كان وجه ابن طالب الى ابن سحنون، وقلبه الى ابن عبدوس. وكان ابن طالب يقول: اللهم ابقني ما أبقيت محمد بن عبدوس، أقتدي به في ديني ودنياي. وكان يثني عليه. قال حبيب: كنت أسأل في المسائل النازلة لسحنون، فإن تعذّر، فابن عبدوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 وبه تفقه جماعة من أصحاب سحنون، فمن بعدهم. واستجازه آخر في المجموعة. وألف كتبه هذه في المذهب المسماة بالمجموعة. وهي نحو الخمسين كتاباً. وله أيضاً أربعة أجزاء في شرح مسائل من المدونة. ذكرناها. وكتاب الورع، وكتاب فضائل أصحاب مالك. وكتاب مجالس مالك، أربعة أجزاء. وقد تضاف بعض هذه الكتب الى المجموعة. ودخل يوماً محمد بن عبدوس على سحنون وعنده ابنه محمد، وأبو داود، وعبد الله بن الطبية، وعبد الله بن سهل القبرياني، وجماعة من كبار أصحابه. وقد ألقى عليهم مسألة، فبقي عليهم في الجواب. فقال إيش يتكلمون؟ فقال سحنون، فأخبِروه. فقال: قال فيها بعض أصحابنا كذا. وبعضهم كذا. وذكر الجواب والاختلاف. فقال سحنون: نعم. انظروا من يدرس وأنتم تركتم الدرس. وحكى الإيمالي أن ابن عبدوس أقام سبع سنين يدرس، لا يخرج من داره إلا الى الجمعة. ذكر زهده ذكر ابن اللباد، أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة، ثلاثين سنة. خمس عشرة من دراسة. وخمس عشرة من عبادة. وروينا عن غيره أنه رأى في منامه أنه يقال له مضضت؟ فاستوى قائماً. وسأل بعض أهل العلم بالرؤيا. فقال له مضضت على العمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 فقال: وأي عمل أفضل مما أنا فيه، من تأليف المجموعة. ثم لزم العبادة، والعمل. فمات الى سنته. قال أحمد بن نصر: كنت إذا رحلت الى محمد بن عبدوس، وجدته قد جلس محتبياً متواضعاً، زائلاً عن صدر فراشه، فلا يعرفه أنه صاحب المجلس، إلا من يدريه. قال غيره: وكان إذا رأيته يصلي، علمت أنه ممن يخشى الله تعالى. وكان يركب على الشند. قال حماس فعاتبناه على ذلك. وقلنا له: الناس ينظرون إليك ويقصدونك، فما زلنا به حتى اشترى سرجاً دَيْناً كالقتب بعض الشنود خير منه. قال محمد بن بسطام: كان مجلس ابن عبدوس في ركن المسجد، فإذا جاء السائل لم يعرفه؟ حتى يقول من هو؟ وربما كان على رأسه منديل مهلبي، فيركب السلال إذا خرج الى منزله. ولما انصرف من الحج، أعرض عن الكلام في مسائله لئلا ينفتح له باب من الرأي، يظهر له به نقص في حجه. قال محمد بن بسطام: كنت في بيتي ليلة شاتية. إذ دق عليّ الباب، فخرجت. فإذا محمد بن عبدوس، وعليه جبة صوف وقلنسوة صوف. فقال لي: يا محمد ما نمت الليلة غماً لفقر أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه مائة دينار ذهباً، غلة ضيعتي هذا العام، احذر أن يمسي الليل وعندك منها شيء، وانصرف. قال أبو الفضل السبتي: صلى رجل خلف محمد بن عبدوس، فلما سمع قراءته سقط الرجل، فلما فرغ ابن عبدوس، قام الرجل يقضي صلاته. فقال له ابن عبدوس: يا هذا لا تصلي حتى تسبغ الوضوء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فقال ما فقدت عقلي. فقال له ابن عبدوس: فما استحييت أن تقطع صلاة فريضة، غير مغلوب. وكان سحنون استكتبه في جملة من استكتب لأول ولايته. فكتب مدة. ثم أنكر في الديوان أمراً، من فعل غيره. فاعتزل عن الكتابة، وحلف لا أكتبها. فأعفاه سحنون. ويقال بل هرب الى سوسة. وكان صاحب كشف الشهود لسحنون. ذكر ما يحكى عنه في مسألة الإيمان رحمه الله ذكر المالكي، أنه لم يكن في أصحاب سحنون أفقه من ابنه، ومن ابن عبدوس. وكان الناس بينهما طائفتين: المحمدية يعني السحنونية، والعبدوسية. كل طائفة تتعصب لصاحبها. ولما وقعت مسألة الاستثناء في الإيمان، حكي عن ابن عبدوس فيها شيء. فشنع عليه. فكان أصحاب ابن سحنون يسمون العبدوسية: بالشكوكية. وحكى أبو الحسن القابسي: أن رجلاً ضرب عليه باب داره، فسأله عن المسألة. فقال ابن عبدوس: أنا مؤمن. فقال: عند الله؟ فقال: قد قلت لك. فأما عند الله فلا أدري، بن يختم لي. فبصق الرجل في وجه محمد بن عبدوس، فعمي الرجل لوقته. والذي صح عن ابن عبدوس أنه قال: أدين بأني مؤمن عند الله في وقتي هذا. ولا أدري ما يختم لي به. وقال أحمد بن أبي سليمان: قلت له: الناس يتكلمون فيك، وزعموا أنك تشك في نفسك، وتقول: لا أدري، وأرجو أن أكون مؤمناً، إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 فقال: والله ما قلته قط. فلا جزى الله من حكى هذا عني خيراً. ما شككت قط أني مؤمن عند الله. ولقد مرت علينا. وسأله محمد بن سحنون فما عدا الحق عندي منها حرفاً أكثر مما قلت: لا تتكلموا في هذا. فقلت له: إن ابن سحنون يقول: ذلك بدعة. فقال: والله إني لأخاف أن يكون كفراً. وحكى عنه حماس مثل هذا. قال الداودي: إنه ذكر ذلك لابراهيم بن عبد الله القلانسي، فقال: لم يقل ابن عبدوس كذا. إنما قال: من لم يكن مؤمناً عند الله، فهو عند الله كافر. فظن أن ابن أبي سلمة أنه قال له: نحن مؤمنون عند الله. وإنما عرض له بقوله. وفاته وتوفي ابن عبدوس سنة ستين ومائتين. فيما قاله ابن حارث، وغيره. وقال آخرون سنة إحدى وستين. وصلى عليه أخوه. مولده سنة اثنتين ومائتين مع ابن سحنون في سنة واحدة. وقيل بعده بسنة على الخلاف في مولد ابن سحنون، والله أعلم. إسحاق بن عبدوس أخوه كان أكبر من محمد بسنة. ولكن محمداً أعلى منه في الزهد والفقه. وهو كان المشهور المقصود في العلم. وقد سمع من إسحاق بشر كثير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 وكان سماعه، مع أخيه من سحنون. وكان من أهل الملبس الحسن، والمركب. يروح الى الجمعة راكباً، ويروح محمد في تقشفه راجلاً، تحت ركاب أخيه. ولما حضرت محمداً أخاه الوفاة استجازه إسحاق، محمد عنه. قال ابن اللباد: حضرت جنازة إسحاق بن عبدوس، فصلى عليه ابن طالب. فسمعته يجهر بالدعاء له. وكان من شأنه يجهر بالدعاء على الميت. فسمعته يقول، في التكبيرات الأربع: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وسلم. اللهم ارحمه. اللهم اغفر له. ثم تمادى بالدعاء، على هذا النحو. قال أبو بكر: وكذلك قال أشهب: يبدأ بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يدعو. قال بعضهم: سمعت إسحاق بن عبدوس وقد ذكرت عند التزكية، فقال: من كف لسانه وأذاه في زمننا، فهو عدل. وتوفي إسحاق في رمضان سنة ست وستين ومائتين. ومولده سنة إحدى ومائتين. سعيد بن عباد أبو عثمان. يعرف بابن غلة. أصله من سرت، وسكن القيروان، من أكابر أصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان ثقة، فقيه البدن، ذا عبادة، فقيراً متعففاً. قال ابن حارث: وكان الغالب عليه العبادة، والصلاة والتنسك. وكان من أهل النّسك والنية الصالحة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 ويقال إنه مستجاب الدعوة. وهو أقدم أصحاب سحنون خوفاً. قال عبد الجبار: كنا نختلف الى سحنون جماعة، فكان والله سعيد خيرنا. قال ابن بسطام: سعيد من المتبتلين، وذكره يحيى، وذكر أنه كانت لامرأة عنده شهادة فأتته فوجدته في خُمرة طين، قد بلغت منه الى فوق الركبتين، وهو يعجنها. فدعته لأداء الشهادة. فقال لها: أنا مستأجر كما تري. وأنت مضطرة. فقال له صاحب البناء: اذهب معها، وأنت في حل. فسلت الطين من ساقيه، وتلفّح في كساء موصول، مرقوع، وقال للمرأة: أين القاضي؟ فعرفت وكيلها، فازدراه. وكان القاضي حنفياً، أشهر من الشمس، ولكنه لم يكن كثيراً، يعرف شخصه. فقالت له المرأة: هذا خير من كل من ترى بأداء الشهادة عند القاضي، ولم يعرفه، فازدراه. وكان القاضي حنفياً. فقال له القاضي: يا شيخ صلاتك بالصيف والشتاء واحدة؟ فقال له: نعم. وذكر له حديثاً. ثم قال له: والفرق يومئذ دار يضرب فيها بالنواقيس، وأنت لعّاب والله، لا شهدت عندك بشهادة أبداً. وقام فارتج عليه، وعرف به. فقال: أنا والله سمعته، والقاضي يصيح وراءه: يا أبا عثمان، يا أبا عثمان. فلم يلتفت إليه. وذكر أبو العرب أن سحنون خلا به يوماً. فقال له: ألست بإمامك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 قال: نعم. قال: وتقبل قولي؟ فقال: نعم. لو لم أقبله لم أختلف إليك. فقال له: هذا قولي، ويميني. فحلف بالله وأراه صرة في يده. ذكر أن فيها ثلاثين ديناراً. وقال له: ما هي من سلطان، ولا من تجارة، ولا وصية. وما هي إلا من ثمرة شجرة غرستها بيدي، فخذها، تتقوى بها على أمر دينك ودنياك. فقال: أنا عنها غني. وكان مفرط الحاجة الى ما دونها. فقال سحنون: خذها سلفاً، فتتزوج منها، وتنفق. فإن رزقك الله ردها أقبلها منك. فإن تعذر ردها فأنت منها في حل. فقال: ما كنت بالذي آخذ ديناً في ذمتي من غير حاجة. فقال سحنون: فإذا أبيت فلا تذكره لأحد ما دمت حياً. قال ابن بسطام: أرسلني ابن عبدوس الى سعيد بعشرين ديناراً. وقال قل له: بلغني أنك تريد الزواج، فخذ هذه إن شئت هدية، أو سلفاً. فجزاه خيراً، وقال: قد عرضها سحنون قبله، ولم نقبل. ولا كنت بالذي يتعجل شهوة بدَين في ذمته. وتوفي سعيد سنة إحدى وخمسين ومائتين. عبد الله بن الطبنة قال أبو العرب: كان فقيهاً ثقة، من أصحاب سحنون. روى عنه حماس، وأحسب موته في نحو ستين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 معتب بن أبي الأزهر واسم أبي الأزهر، عبد الوارث بن الحسن بن الجند، ينتمي الى الأزد، قيرواني. قال ابن حارث: كنيته أبو أحمد. من أصحاب سحنون. قال أبو العرب: هو ثقة. قريب في السن من سحنون. وتردد العلم في بيته زمناً طويلاً. وسيأتي ذكر ولده في طبقتهم إن شاء الله تعالى. قال معتب: قال لي سحنون يوماً: أحب أن أُسرّ إليك سراً، فإياك أن تفشيه. قال: فقلت له: يا أبا سعيد إن كانت منزلتي عندك، منزلة من يخاف منه، فلا تفش إليّ سرك. فقال لي: ليس الأمر كما ذكرت، ولكن لكل إنسان صديق، يكون موضع ثقته، وراحته، ولذلك الصديق آخر مثله. ومثل هذا يخرج الأسرار. قال: وقال لي أبو القاسم عبد الله بن محمد البغدادي: وما حال صبيانكم؟ قلت: ولع كثير. قال: إن لم يكونوا كذلك فعلِّق عليهم التمائم. يريد أنه لا يكسرهم من اللعب إلا مرض. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين. ويقال سنة أربع وخمسين. محمد بن عامر القيسي أبو عبد الله. أصله من الأندلس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 قال أبو العرب: كان عندهم علم كثير. وكان فقيراً متعففاً. وكان صدوقاً. وكان المغامي يستضعفه في عقله. سمع من سحنون ومحمد بن عبد الحكم وغيره من محدّثي أهل المشرق. وسمع منه عبد الله بن خليل المقعد وحسن بن محمد المكي. وذكر أبو سعيد الصدفي في تاريخه، أنه سمع من ابن وهب، وأنه مات بسوسة سنة سبع وخمسين ومائتين. وقال أبو العرب: مات بالقيروان سنة خمس وخمسين ومائتين. محمد بن حضرم ويقال محمد بن نصر بن حضرم، من فقهاء القيروان وأصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان فقيهاً ثقة. كثير الذب والاجتهاد. كان محمد بن سحنون، يتعلم منه. وكان سحنون يجله ويصله، وكان له ابن يقال له: أبو الحسن، واسمه محمد، أخذ عنه سليمان بن سالم. قال ابن حارث: كان فقيهاً، نظاراً، ذا جدل وصحة. ويقال إنه كان يعلم ابن سحنون النظر. وتوفي بصقلية. فذكر أنه لما بلغت وفاته ابن سحنون قال: رحم الله أبا الحسن لقد كان معلمنا. قيل له: فلم لم تقل هذا في حياته؟ فقال فنظلمه حياً وميتاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 قال ابن حارث: ذكر أهل العلم أن ابن حضرم تذاكر مع قوم، وقال غيره: إنه تناظر مع ابن وهب العراقي فقال له: ما معنى قول مالك في الرجل يقول لامرأته قومي، أو اقعدي ونحوه. يريد بذلك الطلاق؟ فقال: إنها طالق. فأنكر بعضهم هذا من قوله. فقال ابن حضرم: إن ظاهر القول متصل بباطن النية. ألا ترى أن الله قد أمر خلقه، أن يقولوا لا إله إلا الله. فلو قالها قائل ونوى بها المسيح، كان كافراً باتفاق. أفلا ترون كيف حكمت النية الباطنة على القول الظاهر. فما أنكرتم أن يكون هذا مثله. وتوفي في حياة سحنون أو قريباً من وفاته. أحمد بن يملول قال الصدفي: هو تنوخي، وكناه بأبي بكر. وقال أحمد بن أحمد: هو من أهل توزر. من بلاد قصطلية. سمع من سحنون ورحل في طلب الحديث. وكان مطاعاً ببلده. كثير الأتباع مذكوراً بالخير، ثقة، مأموناً، قديم الموت. سمع منه بكر بن حماد، وابنه سحنون بن أحمد، وناس كثير من أهل القيروان وغيرهم. من أهل الأندلس الأعنائي قال ابن أبي دليم: كان من أهل الفقه وجيهاً في هذه الطائفة. سئل عنه ابن عبدوس، فقال فيه: ثقة. سمع منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 قال ابن حارث: كان فقيهاً عالماً، حسن المناظرة. وناظره محمد بن عبد الحكم بمصر. قال أبو العرب: ولم أعلمه يختلف في ثقته. وكان أكثر سماعه من الشاميين من أصحاب الوليد بن مسلم، وأصحاب اسماعيل بن عياش. وكان قد امتنع من قضاء طليطلة. وألف رقائق الفضل بن عياض، وكتاب زهد سفيان الثوري، وكتاب فضائل الأوزاعي، وكتاب فضائل طاووس اليماني. وتوفي بتوزر، سنة اثنين وستين ومائتين. وقد حدث الشيخ أبو محمد بن أبي زايد عن أبيه عن سحنون عنه بالإجازة. الحسن بن اسماعيل القرشاني أبو علي: من رجال قصطلية، وسكن القيروان. سمع من سحنون قديماً، ومن أصبغ بن الفرج، وسعيد بن أسد بن موسى، وغيرهم. سمع منه أحمد بن أبي سليمان، وموسى بن عبد الرحمن، وغير واحد من أصحاب سحنون. قال أبو العرب: كان ثقة، حسن التقييد، يسير الكتب، لم يختلف في ثقته. قال أحمد بن خالد في كتاب التعريف: كان ثقة، حافظاً للعلم. توفي سنة اثنتين وستين ومائتين. ويقال سنة ثلاث منصرفه من الحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 سعيد بن يحيى يعرف بابن الفرا كان بصقلية سمع من مطرف والقعنبي وابن سحنون. ومات بصقلية. عبد الحميد السندي معروف في أصحاب سحنون. وكان رجلاً صالحاً. توفي في القيروان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. إبراهيم بن المضاء بن طارق الأسدي أبو إسحاق. قيرواني، سمع من سحنون. وكان رجلاً صالحاً. وكان له مسجد يجتمع إليه فيه القراء والمعبرون. ولم يقرأ الكتاب عليه. وقال أبو سعيد بن يونس: سمع أيضاً من محمد بن علي الرعيني. وروى عنه يحيى بن محمد حشيش. ذكر بعضهم، قال: كنت في مسجد ابراهيم بن المضاء والقراء والناس مجتمعون، إذ أتى رجل، فقال: يا معشر المسلمين. أنا رجل فقير، ذو بنات، ولي دار جوار عامر بن عمرون بن زرارة، من أصحاب السلطان، وأنه بنى عليه، وفتح أبواباً مطلة على داري، وبناتي منكشفات منها. ما عليهن كبير كسوة. وهو وخدمه مطلون عليهن. فادعوا الله لي عليه أن يكفيني مؤنته. فدعا ابراهيم ودعا الناس، فما برحت حتى أتى رجل، فقال: تفرّقوا لا ينالكم من السلطان مكروه، أو نحو هذا، هدمت عليّة عامر، وضربته سارية، طيرت دماغه، فافترق الناس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 ومات ابن المضاء سنة خمسين ومائتين. ومن دعائه: اللهم اجعلنا من الذين خلفوا الدنيا مع نفوسهم وراء ظهورهم. فخففت لهم الأثقال، لما عندهم من الأعراض. أولئك الذين يحجب عنهم البلاء بصبرهم وهانت لهم المصائب بشكرهم. سعيد الطنبري أبو عثمان. سمع من سحنون. وكان من المتعبدين المتقشفين. وكان أصحاب سحنون يذكرونه بخير. ويحكون عنه. مات في نحو ستين ومائتين وقيل ثلاث وخمسين. وقيل خمسين. ابراهيم الزاهد الأندلسي من سكان القيروان. وكان خياطاً. وله سماع من سحنون. وقد حكى عنه يحيى بن عمر، مسألة لسحنون، وعند ابن عمر، كانت كتبه بعد وفاته أحسبه كان حبسها. قاله أبو العرب. منصور الصدّام من قدماء أصحاب سحنون. صحيح الكتاب، حسن التعبير. يحكي عنه أبو عياش، وأبو الحدادي. موسى السبخي التونسي قال أبو العرب: سمع أبا مصعب الزهري، وحرملة بن يحيى. قتله ميمون الأسود بتونس، حين دخلها. ذكر أنه من ربيعة. وكان فقيهاً. حدث عنه محمد بن بدر والجذامي، وأثنى عليه. وكان قتله سنة إحدى وثمانين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 من أهل الأندلس يحيى بن مزين مولى رملة ابنة عثمان بن عفان. أصله من طليطلة. وانتقل الى قرطبة عند ثورة أهل طليطلة. فأقطعه الأمير عبد الرحمن قطائع شريفة، وابتنى له داراً، ووصله صلة جزلة. وقيل: بل طالبه أهل طليطلة، وقال ما أقراك لظالم، وأطردك لمؤمن. روى عن عيسى بن دينار، ومحمد بن عيسى الأعشى، ويحيى بن يحيى، وغازي بن قيس، ونظرائهم. ورحل الى المشرق. ولقي مطرف بن عبد الله، وروى عنه الموطأ. ورواه أيضاً عن حبيب كاتب مالك. ودخل العراق وسمع من القعنبي، وأحمد بن عبد الله بن يونس. وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج، وغيره. وكان حافظاً للموطأ، فقيهاً فيه، وله حظ من علم العربية، مشاوراً مع العتبي وابن خالد، وطبقتهم. قال أحمد بن عبد البر: كان شيخنا وسماً ذا وقار، وسمت حسن. روى عنه سعيد بن حميد، وسعيد بن عثمان الأعناقي، ومحمد بن عمر بن لبابة. قال أحمد بن عبد البر: كان جميع شيوخنا يصفونه بالفضل، والنزاهة، والدين، والحفظ، ومعرفة مذهب أهل المدينة. وكان يحفظ الموطأ، وكتبه، حفظاً، ويتقن ضبطها. وقال ابن لبابة: أفقه من رأيت في علم مالك، وأصحابه، يحيى بن مزين. وأما العتبي فأحفظهم بمسألة كتاب. وأما قاسم بن محمد فأقومهم بحجة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وأثبتهم في مناظرة، وأعلمهم باختلاف الناس، وأما بقي بن مخلد، فكان بحراً يحسن تأدية ما روى، ولم يكن يتقلد مذهباً، ينتقل مع الأخيار حيث انتقلت. قال ابن حارث: ومكانه من العلم لا يجهل. كان قليل الرواية، متقن الحفظ، جيد العقل، حصينه. ولي قضاء طليطلة. قال ابن أبي دليم: وكان من عقلاء الناس، كتب ابن مزين الى ابن غانم: جاء الشتاء ووقت همّ الأفرية ... همّ لعمرك من عظيم هموميه فانظر هداك الله في إيثارنا ... للبرد فرواً من وفير الأفريه وله تواليف حسان: ككتابه في تفسير الموطأ، وكتاب تسمية رجال الموطأ، وهو كتاب المستقصية، وكتاب فضائل العلم، وكتاب فضائل القرآن. قال أبو عبد الملك: ولم يكن له على ذلك علم بالحديث. ولقاسم بن محمد عليه رد في كتاب المستقصية، ولخطبته لما كتب فيها، وذكر أن القارئ يوماً صحف عليه حرفاً، تصحيفاً منكراً. فلم يبق في المجلس إلا من ضحك إلا الشيخ، فلم يضحك وقال لمن حضر: كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم. وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين. وقال ابن أبي دليم، وابن حارث: سنة ستين. عبد الله بن محمد بن خالد بن مرتيل أبو محمد. قرطبي تقدم ذكر أبيه. كان عبد الله هذا، من أهل العلم. سمع من أبيه، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 ورحل فسمع من سحنون ابن سعيد بالقيروان الأسدية. قبل أن يدونها. وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج وعبد الملك بن هشام، وتفقه، ولم يكن له علم بالحديث. سمع منه أبو صالح، وابن حميد، وابن لبابة، وابن الخراز، ونظرائهم. قال ابن عبد البر: وكان رأس المالكية بالأندلس، والقائم بها. والذب عنها. وكان صليباً متديناً ورعاً، مهيباً، مكيناً من السلطان، معظماً للعلم، لا يرى التقية، ولا يبالي ما دار عليه، وكان العامة والحكام على تعظيمه وتحقيقه جداً. كأن الناس في مجلسه على رؤوسهم الطير، من الإجلال. قال ابن أبي دليم: كان ذا فضل وورع، وحفظ للفقه، وجلالة قدر، وصلابة في الحق، مقدماً على أصحابه، لذلك مع أسوته. قالوا: وكان أشد الناس على بقي بن مخلد، وكان له ابن من أهل العلم، اسمه أحمد، ويكنى أبا عمر وسمع أباه ونظراءه. وروى عنه ابن أيمن. وولي الصلاة بقرطبة. واستسقى بالناس، وكان فاضلاً. وبيتهم بيت جلالة وعلم. وذكر ابن حارث: أن في أخلاقه وعوره. وكانت له صلابة وجلالة. وذكر أن الأمير محمداً وجه فيه ليوجهه الى باجة بصلاح، فأقام بها بين مضر واليمن من العصبية. فحضر بيت الوزارة، وخرجت إليه الوصية. فقال: إني لست أعرف من فيهم من مضر، ولا من اليمن. وقال هاشم الوزير، وكان بينه وبين عبد الله شيء، للرسول: أدّ عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 فخرجت الوصية، يقول لك الأمير: تكتب الى القاضي رسائلي، يقوم مقامي، والقاضي أحق بالنظر مني أنا. فقال هاشم أد قوله فخرجت الوصية: إنا لم نبعث فيك نشاورك، إنما بعثنا فيك نأمرك فأتمر. فغضب عبد الله، وكان إذا غضب احمرت عيناه. واتقي غضبه، وقال: لم تبعث فيّ تشاورني، إنما بعثت فيّ لتأمرني فأئتمر. امرأته طالق البتة. إن قضيت ثم أبداً. فاغتنمها هاشم، وقال: أدّ عنه. ثم قال له: هكذا عرفتك. شرس ابن أشرس. فقال له عبد الله: هكذا، أنا وأبي. إذا كسانا الله قميصاً، أعراك الله منه أنت وأباك. ثم خرجت الوصية بسجنه، فسجن ثلاثة أشهر، وأربعة. ثم أطلق. فلم يبعث فيه لشيء بعد. وذكر أن القاضي سليمان بن أسود، أرسل في عبد الله بن خالد ليشهده في كتب الأمير محمد، فأبى عبد الله أن يقوم إليه. فكتب القاضي بذلك الى الأمير، وكثر على عبد الله، ووصف تثاقله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 فوقع الأمير للقاضي: نحن أحق مَن عظّم العلم وأهله، فإذا أردت أن تشهد في كتبنا، فاجلس الى الفقيه عبد الله بن خالد. وجرى له مرة، مسألة مع هاشم بن عبد العزيز الوزير، وابن عبد البر، وجه فيه من المقصورة ليقوم إليه. فقال للرسول: ما لي إليه حاجة. فقال له الرسول: هو إليك بحاجة. فقال له: فيعنى في حاجته. فقال له: إنها وثيقة للأمير. فقال له: فلينفذ ما أمره به. فرجع الرسول الى هاشم. فلما خرج مرّ به في موضعه. فأشهده. وتوفي عبد الله منتصف رجب سنة ست وخمسين ومائتين، من كتاب ابن الفرضي. وقال ابن حارث: توفي سنة إحدى وستين. وذكر أن الأمير محمداً قال لما مات: الحمد لله الذي كفاناه. ولم ينشبنا منه في شيء. وابناه محمد وعبد الله، من أهل العلم والخير، والفضل. رويا عن أبيهما. وكان محمد أكبر سناً، وحفظاً للفقه. روى ابن أيمن عن أحمد، وولي الصلاة. وتوفي محمد أولاً، سنة إحدى وستين. وهو ابن اثنين وأربعين. ابراهيم بن حسين بن خالد بن مرتيل ابن عمه. قرطبي. تقدك ذكر بيته في هذه الطبقة، والتي قبلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 كنيته أبو إسحاق. قال ابن عبد البر: كان خيراً فاضلاً، فقيهاً، عالماً بالتفسير. له رحلة لقي فيها علي بن معبد، وعبد الملك بن هشام، ومطرف بن عبد الله. ولقي سحنون بن سعيد. وروى عنه. قال: قال ابن أبي دليم: وذكره في المالكية. كان من أهل الفقه، بصيراً بطريق الحجة. كان يناظر يحيى بن مزين. قال غيره: ويحيى بن يحيى. ولي الشرطة بقرطبة، للأمير محمد، وكان صلباً في حكمه، عدلاً. وله كتاب مؤلف في تفسير القرآن. قال ابن لبابة: كان ابراهيم يذهب في الشاة إذا بقر بطنها ولم يطمع لها في الحياة، وأدركت ذكاتها، أنها تؤكل. حاج في ذلك سحنوناً، وأعجب ابن لبابة ذلك. وحكى أنه مذهب اسماعيل القاضي. وكان يجيز النكاح، على أن الصداق إجارة. وناظر في ذلك يحيى بن يحيى في جنازة. فقال يحيى لا يجوز. فقال ابراهيم إن الله قد حكاه في كتابه عن نبيين، موسى وشعيب. فقال يحيى: قال الله: " لكلٍ جعلْنا منكم شِرعَةً ومِنهاجاً ". فلا يلزمنا شرعهم. فقال ابراهيم: ذلك إذا أتى عن نبينا، نسخ ذلك. وإلا فعلينا الاقتداء بهم. قال الله " فبهُداهم اقتَدِه ". فسكت يحيى. وكان يذهب الى النظر، وترك التقليد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 وحكى ابراهيم عن مطرف بن عبد الله. ليس في الكرسنة زكاة. لأنها علف. قال ابن لبابة: وحضرته وقد ضرب شاهد زور، عند باب الجامع أربعين سوطاً، وحلق لحيته، وسحم وجهه. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن حسين صاحب نظر. وكان على سوق قرطبة. فحكم على بني قتيبة بحكم خالف فيه فقهاء وقته: يحيى، وعبد الملك بن حبيب، وزونان. فتظاهروا عليه، وأبانوا خطأه. فاختار الأمير قولهم. وفسخ قاضيه معاذ بن عثمان الشعباني، حكمه في ذلك. وحضر جنازة مع يحيى بن فرس، فسئل يحيى عن ذبيحة رميتْ عقدةُ حلقِها الى أسفل. فقال يحيى: حرام. لا تؤكل. فقال له ابراهيم. لا تقل حرام، إنما الحرام ما حرم الله ورسوله. وأما ما اختلف العلماء فيه، فلا. وقد سمعت مطرف بن عبد الله يقول لا بأس بأكلها. وفيه يقول موسى بن سعيد: لله درّ أبي إسحاق من حكم ... كم غاية نالها بالعدل لم تنل يطير من خوفه قلب المخيف له ... إذا بدا يسكن قلب الخائف الوجل لا يقطع الليل إلا بالقيام إذا ... ذو اللهو قصره باللهو والجزل للخالدين في الدنيا بدينهم ... فضل على غابر الأيام لم يزل وكانت وفاته سنة تسع وأربعين ومائتين في رمضان منها. عثمان بن أيوب بن أبي الصلت من أهل قطربة. كنيته أبو سعيد، وأصله من الفرس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 قال ابن الفرضي: روى عن الغازي بن قيس، ورحل فسمع من سحنون بن سعيد بالقيروان. وهو أول من أدخل المدونة بالأندلس، وسمع بمصر من أصبغ بن الفرج. وكان شيخاً ورعاً فاضلاً، أريد على القضاء فأبى. وكان ابن لبابة يثني عليه، ويصفه بالعلم والورع، وقد سمع منه. قال غيره: وكان صديقاً ليحيى بن يحيى، وأثنى عليه أحمد بن خالد وغيره، ووصفوه بالزهد والفضل. وكان دقيق الأدب، حليماً، حسن الخلق. توفي سنة ست وأربعين، وقيل سبع وستين، وقيل سنة أربعين ومائتين. أبو وهب عبد الأعلى بن وهب بن عبد الأعلى. مولى قريش. قرطبي. قال ابن الفرضي: سمع من يحيى بن يحيى ورحل الى المشرق. فسمع من مطرف بن عبد الله بالمدينة. ومن أصبغ. وعلي بن معبد بمصر. ومن سحنون بإفريقية، وانصرف فشور بقرطبة مع الشيوخ، يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل. وسمع منه ابن لبابة. وصحبه كثيراً، وسمع منه ابن وضاح. وكان رجلاً عاقلاً، حافظاً للقرآن. مشاركاً في النحو واللغة. متديناً زاهداً. ولم يكن له معرفة بالحديث، وكان يُرمى بالقدر. وكان قد طالع كتب المعتزلة، ونظر في كلام المتكلمين، وكان يحيى بن يحيى، وابن حبيب، وابراهيم بن حسين بن عاصم، يطعنون عليه بذلك، أشد الطعن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وقد ذكر أن يحيى كان يشهد عليه أشد شهادة. وكان ابن لبابة صاحبه ينكر ذلك عليه. إلا أنه كان يكتب أنه يقول، بموت الأرواح. وبذلك كان يقول ابن لبابة. قال الصدفي: كان نبيلاً عاقلاً فاضلاً، طيب الخلق عالماً ديّناً، لم يدخل في مطالبته بقي بن مخلد، واحتج عليهم فيها. وله أخبار في ورعه وتديّنه، يطول ذكرها. وكان سبب تقديم ابن وهب الى الشورى تضافره مع الشيخين، يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان على عبد الملك بن حبيب. وذلك أن ابن حبيب، كان يخالفهما كثيراً في الفتيا. فاتفق أن حضروا يوماً عند القاضي، في المجلس، مسألة، فأفتى فيها يحيى وسعيد بفتوى، وخالفهما ابن حبيب، وادعى قوله في رواية عن أصبغ. وكان عبد الأعلى قد لقي أصبغ، فاستكثر منه. فاجتمع به سعيد بن حسان، وسأله عن المسألة، وهل يذكر فيها عن أصبغ شيئاً، فأخبره عن أصبغ بما وافق فتياه وفتيا يحيى، وخالف ما ذكر ابن حبيب، واستظهر بالقرطاس الذي سمع فيه من أصبغ. فاجتمع سعيد ويحيى على أن يسألا القاضي، إعادة الشورى. وإحضار عبد الأعلى. ففعل ذلك فأفتى ابن حبيب، بمثل فتياه، أولاً، عن أصبغ. فقال له عبد الأعلى: كذبت وأخرج كتابه عن أصبغ. فأراه القاضي، فعنّف ابن حبيب، وقال له: إنما تخالف أصحابك بالهوى. فرفع ابن حبيب بالأمر، كتاباً الى الأمير عبد الرحمن، يشكو فيه تحامل يحيى وسعيد عليه، ويغري بالقاضي، وأنه شاور عبد الأعلى دون إذنك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 فأنكر الأمير ذلك، وأغلظ للقاضي، ولحقت عبد الأعلى غضاضة. فرفع الى الأمير كتاباً يذكر فيه ولاءه، ويصف رحلته، وما عنده من العلم، ويستقيله من وكسه إياه. ويستشهد بالشيخين، والقاضي. فاستعطفه بذلك، وأمر بإلحاقه مرتبة الشورى. فتقلّدها، الى أن توفي في أيام ابنه محمد. وحضر بإثر هذا في مجلسهم عند الأمير عبد الرحمن، سألهم عبد الرحمن عن مسألة، فبدر عبد الملك بن حبيب، وقال: سمعت أصبغ بن الفرج، يقول فيها: كذا. فقال عبد الأعلى: صدق. سمعت أصبغ يقول مثله. وفعل ذلك أحمد. فعاتبه يحيى وسعيد وغيرهما. وقالا له رجوناك أن تكفناه. فصرت حزباً معه. فقال لهم بالعجمية: لو أني بدأت بتكذيبه استجفاني الأمير. ورأيت ترك ذلك، حتى يظهر مني للأمير علم. ثم لن يفوت هذا، فكان بعد، يكذبه ويخالفه. وكان أحد الأربعة من الفقهاء، الذين يدخلون في الشهادات، وغيرها، على الأمير بقرطبة. هو وابن مطروح. وكان قوالاً للحق، ناصحاً للأمير. سأله الأمير محمد مرة، عن مسائل من الورع، فقال له عبد الأعلى: هو أعود عليه من هذا. قال: وما هو؟ قال يطلب أهل الربض ويرد عليهم مصرياتهم، وما أخذ لهم، أو قيمته. فظهر على الأمير إنكار ذلك، وأمره بالقيام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 قال ابن لبابة: كنت يوماً عند ابن وهب، في جنته، بقرب مقبرة قريش. وكان يعتمرها بيده، في نفر من الطلبة، يسمع عليه. إذ أُحضر غذاؤه. فقدمه إلينا فأكلنا معه. إذ استأذن عليهم هاشم بن عبد العزيز الوزير، فأذن له على تكره. ودخل، ونحن نأكل خبزاً، أدمه من بقل الجنة. فجلس، وجعل يداعب الشيخ لظرفه، والشيخ لا ينبسط. ويقول: أبا وهب أما تدعونا ليعامك؟ تخاف أن نلتهمه؟ فقال له: ليس من الأطعمة التي توافقك. قال: وإن لم تكن، فأنا أتبرّك به. ومد هاشم يده الى لقمة من الخبز، فغمسها في البقل، وجعل يلوكها ولا يسيغها. فلما فرّقنا، سأل الشيخ عن مسألة فقه، فأجابه الشيخ. وقام هاشم لينصرف. فتحركت لأقوم معه. فضرب الشيخ على يدي، وأجلسني حتى خرج. ثم قال لي: ما أردت؟ قلت إكرامه، في مجلسك. فقال بئس ما صنعت، إن كنت تطلب العلم لله. فأعزّه يعزّك الله. وإن كنت تطلبه للدنيا، فكن خادماً من خدمة هؤلاء. فتُصْرف بين أيديهم، فهو أبقى لك عندهم، وأكسد لك عند ربك. فحافظت بعد ذلك على وصيته. وتوفي سنة إحدى وستين في صفر، منها. وقيل في ربيع الأول. ُصْرف بين أيديهم، فهو أبقى لك عندهم، وأكسد لك عند ربك. فحافظت بعد ذلك على وصيته. وتوفي سنة إحدى وستين في صفر، منها. وقيل في ربيع الأول. محمد بن يوسف بن مطروح بن عبد الملك ابن أبي اليسرى عبد العزيز بن عبد الله بن مهران، بن عدي، بن بكر بن وائل، من أهل قرطبة. يكنّى أبا عبد الله، وكان أعرجاً. وبذلك يعرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 روى بالأندلس عن غازي بن قبيس، وعيسى بن دينار. ويحيى بن يحيى. وغيرهم. ورحل، فسمع من سحنون بالقيروان، وأصبغ، ومطرف بن عبد الله بالمدينة. وسمع منه الموطأ، وادعى السماع من أبي عبد الرحمن المقرئ بمكة. وكان رحل مع ابن مزين، وابن وهب، وعبد الوهاب بن ناصح الجزيري. وكانوا متوافقين، فذكر ابن مزين وابن وهب، أنهما وجدا المقرئ، قد مات قبل لقائهما بأيام. وكانت الفتيا دائرة عليه مع أصبغ بن خليل ، وعبد الأعلى بن وهب، ولاه الأمير محمد الصلاة، بجامع قرطبة. قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً حافظاً. شوّر مع الشيوخ، يحيى وابن حسان وابن حبيب. قال ابن حارث: كان فقيهاً مبرزاً. قال ابن عبد البر. كان شيخاً جليلاً، عالماً بالفقه، فيه صلابة. أخذ عنه أحمد بن خالد، ومحمد بن عمر، وابن لبابة، ومحمد بن أبي بكر، وابن الزرّاد، وأحمد بن بيطير، ونظراؤهم. قال أحمد بن حزم: كان يحلّق بالجامع، ويفتي، ويقرأ عليه العلم. وكانت في ابن مطروح دعابة معروفة. وفي خلقه زعارة. ذُكِر أن خصياً قال له: ما تقول في الكبش الأعرج، أتجوز الضحية به، قال: نعم، والخصي مثله، وشبهه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 قال القاضي رضي الله عنه: يريد والله أعلم، إن كان عرجاً خفيفاً. لا يمنعه السير. وقال له رجل: أتخرب جهنم؟ فقال ما أشقاك إن اتكلت على خرابها. وكان أحد الفقهاء الأربعة الداخلين على الأمير للشهادة في أموره. وكان الأمير محمد يكرمه، لسنه ومكانه. قال ابن عبد البرّ: وكان صاحب رئاسة الفتيا، أيام محمد مع أصبغ، وعبد الأعلى. قال غيره: وسأله خصي يوماً عن مسألة. فردد عليه فيها شيئاً. فقال لمن حوله: هذا من الذين قال الله فيهم: وتقطِّعوا أرحامكم. وكتب جامع بن وهب من كتاب محمد بن باز. ثم سار إليه، ليسمعه منه، وابن مطروح في مرتبة أشياخه. فقال له ابن باز: لو بعثت إليّ يا سيدي، مضيت إليك. فقال له: لا. في بيته يؤتى الحكم. وتوفي يوم عاشوراً سنة إحدى وسبعين ومائتين. أصبغ بن خليل قرطبي. يكنّى أبا القاسم. سمع بالأندلس من الغازي بن قيس، ويحيى بن مضر، ومحمد بن عيسى والأعشى، ويحيى بن يحيى، ورحل فسمع من أصبغ وسحنون. حدث عنه أحمد بن خالد، وابن أيمن ومحمد بن قاسم. وقاسم بن أصبغ. قال ابن أبي دليم: كان له بصرٌ بالوثائق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 قال أحمد بن سعيد: هو من أهل العلم والفقه، والورع والرياسة، فيما قال لي أحمد بن خالد، غير مرة. فطناً بالمسائل والفقه. حسن القريحة والقياس. وقال ابن لبابة: كان والله من الحفاظ، حسن القياس والتمييز. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للرأي على مذهب مالك، وأصحابه. فقيهاً منسوباً الى الصلاح، والورع. بصيراً بالشروط. دارت عليه الفتيا، خمسين عاماً. وطال عمره. قال ابن عبد البرّ: وكان لا يقبل من أحد هدية. وكان مقلاً. وكان الأعشائي يثني عليه. وكان معادياً للآثار. وليس له معرفة بالحديث. شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، ولابن القاسم من بينهم. وبلغ به التعصب فيما قاله ابن الفرضي وغيره: أن افتعل حديثاً في رفع اليدين في الصلاة بعد الإحرام. وزعم أنه راه عن غازي بن قيس. عن سلمة بن وَرْدان، عن ابن شهاب عن الربيع بن خشيم، عن ابن مسعود. قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، سنتين وخمسة أشهر. وخلف عمر عشر سنين، وخلف عثمان اثنتي عشرة سنة. وخلف علي بالكوفة خمس سنين. فما رفع واحد منهم يده إلا في تكبيرة الإحرام وحدها. فوقع في خطأ بيّن عظيم، منها: أن الإسناد غير متفق. لأن سلمة بن وردان لم يرو عن ابن شهاب ولا ابن شهاب عن الربيع، ولا رآه. وأعظم منه في المحال ذكره أن ابن مسعود، صلى خلف علي بالكوفة. وهو لم يدرك أيام علي رضي الله عنه. وحدّث أيضاً بحديث آخر، في إسناد القرآن، عن الغازي، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله. فظن أن نافعاً - شيخ الغازي بن قيس - هو مولى ابن عمر. وإنما هو نافع القارئ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 قال أحمد بن خالد: إن أصبغ لم يقصد الكذب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظهر له أنه يريد تأييد مذهبه. وهذا كلام من أحمد لا معنى له. وكل من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كذب لتأييد غرض. ولو قال: إنه إنما كذب في السند وعلى غير النبي. إذ قد روى عن النبي أنه رفع أولاً. ثم لم يرفع بعد، بما جاء في الحديث عن النبي هنا، بمعنى ما أتى به هو، كان أشبه. لكن الكذب في العلم، أي نوع كان مبطلاً لصاحبه مسقطاً له بشهادة الزور. قال قاسم بن أصبغ: سمعت أصبغ بن خليل، يقول: لأن يكون في تابوتي رأس خنزير، أحب إليّ من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة. وكان يعادي أهل الأثر. وكان قاسم يدعو عليه، ويقول: هو الذي حرمني أن أسمع من بقي بن مخلد. ونهى أبي أن يحملني إليه. وكان يصحف ويقول في أسيد بن الحضير: هو ابن الخضير. تصغير خضر بالخاء. يأبى أن يرجع عنه. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وعمره ثمان وثمانون سنة. وترك ولداً، اسمه يحيى. سمع من أبيه وطبقته، ورحل فسمع من عبد الله بن أحمد بن حنبل، ونظرائه في سنة خمسين وثلاثمائة. العتبي قال القاضي أبو الوليد: محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة: بن جميل، بن عتبة بن أبي سفيان، صخر بن حرب قرطبي، سكنّى أبا عبد الله. وقيل هو مولى لآل عتبة بن أبي سفيان، وهو أصح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وقيل هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة بن حميد، بن عتبة بن أبي عتبة بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، ابن أبي يزيد، مولى عمر بن عتبة ابن أبي سفيان. وقال ابن لبابة: العتبي ليس يتصل نسبه، بعتبة. إنما كان له جد يسمى عتبة. فينسب إليه. سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وغيرهما. ورحل فسمع من سحنون وأصبغ. وكان حافظاً للمسائل، جامعاً لها، عالماً بالنوازل، كان ابن لبابة يقول: لم يكن أحد هاهنا يتكلم مع العتبي في الفقه، ولا كان أحد بعده يفهم فهمه، إلا من تعلّم عنده. قال ابن عبد البر: كان عظيم القدر، عند العامة. معظماً في زمانه. روى عنه محمد بن لبابة، وأبو صالح، وسعيد بن معاذ، والأعناقي، وطبقتهم. قال الصدفي: كان من أهل الخير والجهاد، والمذاهب الحسنة. وكان لا يزول بعد صلاة الصبح من مصلاه، الى طلوع الشمس، ويصلي الضحى. ولا يقوم أحدٌ في الأثر على من أتى قبله. ذكر المستخرجة قال ابن لبابة: وهو الذي جمع المستخرجة. وكثر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة. وكان يأتي بالمسائل الغريبة، فإذا أعجبته، قال: ادخلوها في المستخرجة. وقال ابن وضاح: سألت ابن وهب عن مسألة، فذكر لي فيها عن أصبغ رواية. فمررت بالعتبي، فسألته عنها. فلم يحفظ فيها رواية. فأخبرته بما قال لي عبد الأعلى، عن أصبغ. فدعا بالمستخرجة، فكتبها فيها. ثم لقيت بعد عبد الأعلى، فقال لي: وهمت في المسألة عن أصبغ. ليست كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وقال ابن وضاح: وفي المستخرجة خطأ كثير. وقال أسلم بن عبد العزيز: قال لي محمد بن عبد الحكم: أتيت بكتب حسنة الخط تدعى المستخرجة، من وضع صاحبكم العتبي، فرأيت جلّها مكذوباً. ومسائل لا أصول لها. ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس، لم يوقف عليها أصحابها. فخشيت أن أموت، فتوجد في تركتي، فوهبتها لرجل يقرأ فيها. قال أحمد بن خالد: قلت لابن لبابة: أنت تقرأ هذه المستخرجة للناس، وأنت تعلم من باطنها ما تعلم فقال: إنما أقرأها لمن أعرف، أنه يعرف خطأها، من صوابها. وكان أحمد، ينكر على ابن لبابة قراءتها للناس، شديداً. وذكر أبو محمد بن حزم الظاهري، المستخرجة. فقال: لها بإفريقية القدر العالي والطيران الحثيث. وتوفي العتبي، في نصف ربيع الأول، وقيل الآخر، سنة خمس، وقيل أربع وخمسين ومائتين. ابراهيم بن حسين بن عاصم تقدم نسبه عند ذكر أبيه. ثقفي قرطبي لقي أبا إسحاق. سمع من أبيه، وغيره. ورحل فسمع بالمشرق من جماعة. قال ابن أبي دليم: وكان من أهل الفقه، وتصرف للسلطان في أحكام الشرطة والسوق، أيام الأمير محمد فغلب على أهل الشر، وقتل وصلب بلا مشاورة سلطان، ولا فقيه. قصد بذلك التشديد عام المجاعة. لما كثر من تطاول أهل الشر، وكثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 عليه - من الحكام - استطلاع رأيه في الصلب، والقطع وشبهه. فولاه السوق، وعهد إليه التحفظ، وأذن له في العقوبات بلا مؤامرة منه. فكان ابراهيم إذا جيء بالفاسد المفدح، قال له: اكتب وصيتك، ودعا بشهود فأشهدهم عليها. فإذا فعل هذا علم أن ذلك مقتول. ثم يأمر بصلبه، ونحوه. فكان بين يديه من المصلّبين عدد، وأخذ في ذلك بالشدة، حتى تجاوز الحد، وجرت له في ذلك قصة ظريفة، من قوم جاءوا بفتى من جيرانهم؟ يشكون تطاوله. ويريدون زجره. فقال لشيخ منهم: ما يستحق عندك؟ فقال على وجه التغليظ: ما يستحق هؤلاء. وأشار الى المصلّبين، فقال لهم ابراهيم: انصرفوا. وقال للفتى: اكتب وصيتك. فقال له اتق الله فيّ، فلم يبلغ ذنبي القتل. فقال له: بذلك شهد عليك. وصلبه. فلما بلغ الحي ذلك، أتوه وقالوا له: لم نشهد عندك، بما يوجب قتله. فقال ألم تقل يا هذا: كذا. قالوا إنما قاله على المثل. قال: فإثمه في رقابكم. قال أحمد بن سعيد: كان حافظاً فاضلاً ممن عني بالعلم، ورحل فيه، وفيه موسى بن سعيد. لا يعذر الناس منه لين جانبه ... فلا يبالي بحكم الله من قتلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وتوفي في رجب سنة ست وخمسين ومائتين. عيسى بن عاصم بن عاصم ابن عمه سمع من أسد بن موسى، وموسى بن معاوية، وابن أبي شيبة، وسحنون. وتوفي بالأندلس سنة ثمان وخمسين. وابن عمهما عبد الله بن محمد يأتي ذكره بعد هذا. محارب بن قطن بن عبد الرحمن بن قطن الفهري القرشي من أهل قرطبة. يكنى أبا نوفل. قال خالد: كان من أهل العناية بالعلم، والحفظ للمسائل، والرأي. ومن خيار الناس وفضلائهم. سمع من سحنون وغيره. وذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة. وتوفي سنة ست وخمسين ومائتين. والله أعلم. وترك ابنين محمد وأحمد. ابن عمه مالك بن علي بن عبد الملك بن قطن أبو خالد. ويقال أبو القاسم. يعرف بالقطني. نسب الى جده. روى بالأندلس عن حاتم بن سليمان، ويحيى بن يحيى. وزونان. ورحل فسمع من القعنبي، وأصبغ. وكان زاهداً، ورعاً محتسباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وكف بصره. فوصف له معالجة ذلك بالقدح. وقال: والله لا أفعل. ضمنت لي الجنة على لسان النبي عليه السلام. فلا أدعها وأطلب ما بعد ذلك. وروى عنه محمد بن لبابة، ومحمد بن أيمن، ومحمد بن محمد الصدفي، وغيرهم. ذكره ابن أبي دليم، في أئمة المالكية. قال هو وغيره: وله عبادة وانقباض وكثرة صلاة. واقتدى به أصحاب له في العبادة، وكثرة الصلاة. قال ابن أيمن: لم يكن جيد الضبط في الحديث، ولا الفقه. قال ابن عبد البر: كان متوسط الفقه، تفقّه بالشيوخ، وكان ابن لبابة يصفه بالفضل العظيم والزهد، ويقدمه على جميع من ورى في ذلك. وأنه كان لا يرفع بصره الى السماء حياء من الله. وكان أصحابه يلتزمون ذلك. وكان له صمت، وعقد الوثائق وكتبها. وقد تكلم فيه ابن وضاح وغيره، وأكذبه، وكذبوه فيما يرويه. قال الحميدي: وله مختصر في الفقه على مذهب مالك رحمه الله. توفي سنة ثمان وستين. عبد الرحمن بن يزيد بن عيسى ابن يحيى بن يزيد بن بُرَير. مولى معاوية ابن أبي سفيان. غلبت عليه كنيته، أبو زيد. وهو جد بني أبي زيد لقرطبة، المضاف إليه، الدرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 بمقربة جامع قرطبة. وكان يعرف بلسان أهل الأندلس القديم، بابن تارك الفرس. سمع من يحيى بن يحيى، ورحل الى المشرق قديماً، فأدرك ابن كتانة وابن الماجشون. ومطرف بن عبد الله ونظرائهم، من المدنيين. ولقي بمكة أبا عبد الرحمن المقرئ صاحب ابن عيينة، وبمصر أصبغ بن الفرج. وروى عنه محمد بن لبابة. وسعيد بن خمير، وسعيد بن عثمان الأعناقي، وأبو صالح، ومحمد بن سعيد بن الملوّن، ومحمد بن فطيس، وأبو صالح، وغيرهم. وله في سؤاله المدنيين ثمانية كتب، تعرف بالثمانية، مشهورة. وكان عنده حديث كثير. والأغلب عليه الفقه، وكان متقدماً في الشورى، وقد شوّر في حياة يحيى بن يحيى، وهو فتى. قال أحمد بن حزم: كان ابن لبابة والأعناقي يصفانه بالعلم والفقه، والثقة. وذكر الحميدي أنه قال في كنيته: أبو يزيد. وأراه مصحفاً لأن بنيه الى اليوم يعرفون ببني أبي زيد. ودربه بقرب الجامع بقرطبة. يعرف بدرب أبي زيد. وتوفي سنة ثمان وخمسين. وقيل في جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين ومائتين. ومن نسله محمد بن محمد، يكنى بأبي الوليد ولي خطة الردّ. كان قليل العلم، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وابنه عبد الله بن محمد بن محمد أبو محمد شاوره ابن أبي عيسى، تنويهاً ببيته. وكان قليل العلم أيضاً. وسمع وسمّع. وله رحلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 ومنهم: عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الحميد بن أبي زيد ذكره عبد الله بن محمد، قرطبي. متقدم في الفتيا، بها. فحلّق في جامعها. كان نظير أبي زيد في وقته في القدر والعلم، موصوفاً بالفضل. محمد بن سعيد بن حسان مولى الحكم بن هشام، من أهل قرطبة. تقدّم ذكر أبيه. سمع من أبيه، ويحيى بن يحيى، وابن حبيب ونظرائهم. ورحل فشرك أباه في بعض رجاله. سمع من أشهب وعبد الله بن نافع الزبيري، وعبد الله بن عبد الحكم. وقدم الأندلس، فكان معدوداً في هذه الطبقة. فعاجلته منيته، سنة ست وستين. وقيل سنة ستين. كذا ذكره ابن حارث، وابن عبد البر، وابن الفرضي، أنه توفي سنة ستين، وأنه عاجلته منيته. قال المؤلف رحمه الله: ولم يدرك أشهب، ولا صاحبيه. وتعلم منهم، ويكون في سن من يرحل للعلم حينئذ، لا تعاجله منيته في هذه المدة. قال بعضهم: ولعله سنة ست ومائتين، والأصح والله أعلم، أن الوهم في قوله عاجلته منيته، لا في وقت وفاته. فإن ابنه عبد الله، كان من حفاظ المذهب، وقد روى عن المشائخ. توفي سنة سبع وثلاثمائة. ولو كانت وفاته ست ومائتين، لكان ابنه معمر والله أعلم. أبان بن عيسى بن دينار تقدم نسبه. سكن قرطبة. يكنى أبا القاسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 سمع من أبيه، ورحل، فلقي سحنون بن سعيد، وعلي بن معبد، وغيرهما. ورحل فسمع بالمدينة من ابن كنانة، وابن الماجشون، ومطرف. وروى عنه محمد بن وضاح، وقاسم بن محمد، ومحمد بن لبابة. قال ابن أبي دليم: وكان فقيهاً، وغلب عليه الزهد والورع، وشوّر بقرطبة، مع ابن حبيب، وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب. قال الرازي: وولي قضاء طليطلة، وقد كان امتنع، وقال: لا أحسن القضاء. قال محمد بن حارث: ولي للأمير محمد بن عبد الرحمن أياماً قضاء جيان، فأبى واستعفى، فأمر الأمير أن يوكل به الحرس، حتى بلغ به جيان، ويكره على الحكم. ففعلوا ذلك، حتى أجلسوه، وحكم بين الناس يوماً واحداً. فلما أتى الليل هرب على سقوف البيوت، فسقط واندقت فخذه، فأصبح الناس يقولون: هرب القاضي. فانتهى الخبر الى الأمير، وقال: هذا رجل صالح. وأمر أن يبسط له الأمان، وأن يخرج. فلما خرج ولاه الصلاة بقرطبة. وقال: نحن أحق به من غيرنا. سئل أبان عمن له غرفة أراد أن يفتح لها باباً على مقبرة. فقال: لا يجوز أن يفتحه على مقبرة المسلمين. قال أبو عبد الملك: كان الغالب عليه الفقه. وكان كثير العمل، كثير الصيام. قال ابن لبابة: لم أنظر قط لوجه أبان إلا وجدت الموت. وكان يصف فضله وزهده وورعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وأثنى عليه أبو صالح، والأعناقي، وابن خمير، ومحمد بن غالب الصفار، وطبقتهم، ممن بعدهم. وقال أحمد بن حزم: قال الأعناقي: لم أرَ أحداً، ولا سمعت في الدنيا، من كانت له هيبة أبان بن عيسى. وما كان منا من ينظر الى وجه صاحبه، أو يرفع رأسه إليه، فكيف يتكلم. وتوفي نصف ربيع الأول سة اثنين وستين ومائتين. إخوته عبد الوهاب بن عيسى ذكره الرازي في الاستيعاب، وقال: كان فقيهاً زاهداً. وعبد الرحمن بن عيسى أخوهما قال ابن عبد البر: سمع بالأندلس من مشائخ أبيه وغيرهم. ورحل فسمع من سحنون، وأصبغ، ومحمد بن عبد الرحيم البرقي، ونظرائهم. وكان حافظاً للرأي، معتنياً بالمسائل، روى عنه ابن لبابة وغيره. قال ابن أبي دليم: ولقي محمد بن عبد الحكم. قال قاسم بن محمد: سئل ابن عبد الحكم عن مسألة، فسكت ساعة، فقال له عبد الرحمن بن عيسى: ابن القاسم يقول فيها: كذا، وكذا. فقال له ابن عبد الحكم: لو كان الأمر على ما تقول، كان مستهلاً. إنما يجب علينا أن نتعرف الحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 قال الرازي: وحج حجات. وشور لخالد بن سعيد، وكان من أهل العناية والحفظ والرأي. توفي سنة سبعين ومائتين. محمد بن عيسى أخوهم قال الرازي: كان زاهداً، عالماً، وحج. وحضر افتتاح اقريطش، فاستوطنها. محمد بن عبد الرحمن ابن عمهم رحل مع ولديه، عبد الواحد، وأرى الآخر عيسى. وروى عنه ابنه عبد الواحد، وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى. عبد الودود بن سليمان قرطبي. كان صالحاً. سمع من أصبغ. روى العتبي عنه، سماعه من أصبغ، وأدخله في المستخرجة. وكان من أهل الحفظ للمسائل. ذكره ابن الفرضي، وعده ابن أبي دليم في هذه الطبقة. محمد بن الحارث بن أبي سعيد قرطبي. يكنى أبا عبد الله. تقدم ذكر أبيه. روى عنه كثيراً، وعن يحيى بن يحيى، وابن حبيب. وحج فسمع بمصر وبمكة من غير واحد. ولي لعبد الرحمن بن الحكم، أحكام الشرطة الصغرى، التي كانت بيد أبيه، وأقره الأمير محمد عليها، مع حكم السوق، الى أن مات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وكان مشاوراً في أيامه بقرطبة، مع أصبغ بن خليل، وابن مزين، وعظمهم. وكان أحد الثلاثة الذين طلبوا بقي بن مخلد. إلا أنه كان أجلهم في قصته. قال ابن عبد البر: وكان قليل الفقه. توفي سنة ستين ومائتين. عبد الرحمن بن سعيد التميمي المعروف بالجزيري. من أهل قرطبة. يكنى أبا زيد. أخذ عن يحيى بن يحيى، وسمع من أصبغ بن الفرج. وزيد ابن أبي الغمر، وحرملة بن المنذر، وغيرهم. وروى التفسير المنسوب الى ابن عباس من رواية الكلبي، عن أبي صالح. وسمعه منه جماعة. قال: وكان يقوم بالرأي قياماً حسناً. قال ابن أبي دليم: عني بالرأي، وحفظ المسائل، وشور بقرطبة. وكان محمد بن فطيس يصفه بالكرم، ويثني عليه. قال أحمد بن حزم: كان ذا مال عظيم، ودنيا. يقف على رأسه الوصفاء يشبه بالملوك ملابس لهم. يأتيهم ويأتونه. وكان فقيهاً عالماً بالمسائل. قال ابن عتاب: وكان من أهل الجود واليسار. وغمِصَ بشيء، الله أعلم به. وذلك أن محمد بن محمد بن وضّاح جاء إليه، فوجد عنده أشياء منكرة. فأخذ ثيابه، وضرب به الأرض، وقام من عنده. فقال أبو زيد: إنما يريد ولد ابن وضاح، يضعفني. وقد سمع مني فلان وفلان، أراه ذكر ابن الفرا. فمضى الى بعض الحكام، وأخذ الشرط، وجعل يطلبها ابن وضاح. ففضح نفسه. توفي في شوال سنة خمس وستين ومائتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وطرح الأعناقي، وبعضهم حديثه. وترك الرواية عنه. إسحاق بن جابر قرطبي. لقيته من أصحاب يحيى، وعيسى. ومن خيار الناس وفضلائهم. توفي سنة ثلاث وستين. عبد الجبار بن فتح بن منتصر البلوي من أهل فحص البلوط. فقيه زاهد، طلب العلم ابن خمس عشرة سنة، فسمع من الأعشى، وابن حبيب، وأبي زيد، وعبد الأعلى، والعتبي، ورحل. وكان ابن لبابة قد صحبه عند بعضهم. فكان يقول: ما رأيت بقرطبة زاهداً غيره. وعاجلته المنية فتوفي ابن أربعين سنة. وذلك سنة ست وخمسين ومائتين. وقيل ثمان وخمسين. عبد المجيد بن عفان البلوي من أصحاب يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وابن حبيب، ورحل فسمع من سحنون لأن سحنون لقب وليست اسماً بن سعيد، وأبي الطاهر بن السرح في سنة ثمان وستين ومائتين. عمر بن موسى الكناني من كنانة قيس. من أهل البيرة. أبو حفص. كان فقيه البيرة، بعد خروج ابن حبيب عنها. وكن سمع منه، ومن يحيى بن يحيى، وابن حسان، وزونان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 ورحل فسمع من الحارث بمصر، وابن أبي إسحاق البرقي، ومن محمد بن عبد الرحيم البرقي. وبالقيروان: من سحنون بن سعيد، وغيرهم. وهو أحد السبعة الذين كانوا في وقت واحد بالبيرة من رواة سحنون. وهم: هؤلاء الذين يأتي ذكرهم على نسق. وكان يحيى بن عمر يثني عليه، ويصفه بالعلم والجلاة. حدث عنه حفص بن عمرو بن نجيح وغيره. توفي سنة سبع وخمسين ومائتين، فيما قاله ابن الفرضي. وقال أبو سعيد بن يونس سنة أربع وخمسين. سليمان بن نصر بن منصور بن حامل المرّي جده من غطفان من أهل البيرة. كنيته أبو أيوب. روى عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وعبد الملك بن حبيب ونظرائهم. ورحل فسمع من أبي مصعب، ومحمد بن عبد الملك، وسحنون. وحج حجات. حدّث عنه حفص بن عمرو بن نجيح، وغيره. توفي سنة ستين ومائتين. ابراهيم بن شعيب الباهلي البيري أيضاً كنيته أبو إسحاق روى عن يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب. قال ابن حارث: كان فقيهاً حافظاً وحدث توفي سنة خمس وستين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 ابراهيم بن خالد الفهري أبو إسحاق. سمع من يحيى، وسعيد، وابن حبيب. ورحل فسمع من سحنون وأبي الطاهر وأبي المصعب وزونان. توفي سنة ثمان وستين. سعيد بن النمر ويقال: نمر بن سليمان بن الحسن، الغافقي. من أهل بَيرَه. يكنى أبا عثمان. سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، وعبد الملك بن حبيب، وزونان. ورحل فسمع من سحنون، وبمصر من ابن عبد الحكم، وأبي الطاهر، والحارث بن مسكين. حدث عنه أحمد بن يحيى بن الشامة وابن مخلوف وحفص بن عمر وغيرهم. قال ابن أبي دليم: كان ذا فقه، وورع، وهو أجلّ هذه الطبقة وأشهرها. وله مسائل جمعت عنه، قد أدخل فيها شيخنا القاضي أبو الوليد، في كتاب البيان طرفاً. قال علي بن الحسن: كان ابن النمر من علية أصحاب سحنون في الفضل، والعلم، وقال غيره: هو من أجل رواة عبد الملك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 توفي سنة تسع وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين. محمد بن عبد الله بن قنون اللبدي رحل فسمع من أبي المصعب، وسحنون. توفي سنة إحدى، وقيل سنة خمس وستين. وهذا الثامن من رواة سحنون. من أهل البيرة، ممن لم يذكره من تقدم. أحمد بن سليمان بن أبي الربيع البيري، أحد السبعة، من الرواة عن سحنون، بالبيرة، في وقت واحد. روى عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، والحارث بن مسكين، وسحنون. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً. قال ابن الحارث: كان فقيهاً حافظاً. وتوفي بحاضرة البيرة سنة سبع وثمانين، وتأخرت وفاته عن أصحابه. فضل بن فضل بن عمرة بن راشد العتقي. تدميري. تقدم ذكر أبيه. وكنيته ككنية أبيه أيضاً. أبو العافية. وكان أبوه مات، وترك أمه حبلى به. فسمي باسمه. وكني بكنيته. وولي القضاء ببلده. سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان وعبد الملك بن حبيب. وتوفي سنة خمس وستين ومائتين. محمد بن زياد شذوني رحل فسمع من أصبغ وغيره. وكان عابداً، خاشعاً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وصفه عبد الله أبو الوليد بالعلم، والفضل. وقال: كان من الخاشعين. سليمان بن حجاج شذوني قال خالد: كان من أهل التقدم في العلم والورع، نظير محمد بن زياد. عبد الوهاب بن عباس بن ناصح الثقفي مولاهم. ويقال أصله بربري. من نفزه. ويقال ناصح بن تلتيت المصمودي. جزيري. من الجزيرة الخضراء. وبيته بيت ذلك البلد في العلم والرياسة. ورحل مع ابن مزين وابن مطروح. في رجالهما. وكان شاعراً. ولي القضاء ببلده، وقضاء شؤونه، وأبوه عباس بن ناصح الشاعر، المشهور، وكنيته أبو العلاء. رحل بعباس أبوه صغيراً. فنشأ بمصر. وتردد بالحجاز طالباً للسان العرب. ثم دخل العراق. فلقي الأصمعي وغيره. ورحل ثانية. فلقي الحسن بن هانئ. فاستنشده. فيقال إن الحسن قضى له على نفسه، بالفضل. حكى ذلك ابن الفرضي. ورجع الى الأندلس. ومدح ملوكها. وكان شاعراً مصقعاً. وشعره مؤلف معروف. مشهور، مشروح. قال ابن الفرضي: وكان ابن عباس من أهل العلم باللغة، والعربية. له حظ من الفقه والرواية. لم يشتهر علمه لغلبة الشعر عليه. وكان يسلك في أشعاره مسالك العرب القديمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 واستقضاه الحكم بن هشام، على شذونة، والجزيرة. وولي القضاء بعده ابنه عبد الوهاب هذا. ثم بعد محمد بن عبد الوهاب. وكان فقيهاً شاعراً، - فهم ثلاثة قضاة على نسق - أديباً وشاعراً، وعالماً. ورابعهم: عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عباس. فقيه حافظ للرأي والمسائل. متصرف في اللغة والإعراب. توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرين. والنباهة والعلم، باق في بيتهم الى وقتنا هذا، بالجزيرة. وأدركنا منهم أبا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. كان من فقهائها المشاورين بها. وتوفي بها سنة سعد بن موسى الطائي من أهل الجزيرة الخضراء. من أهل العناية بالعلم، والجمع للكتب. ورحل فلقي أصبغ بن الفرج، وحرملة بن يحيى وغيرهما. وكان فقيهاً. موضعه مقصود للسماع فيه. محبوب بن قطن بن عبد الله ابن القطني البكري. جياني. روى بالأندلس. ورحل فسمع من عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد وغيره. وكان بجيان ذا رئاسة عظيمة في الفقه. نحواً من أربعين سنة. حدث عنه سعد بن معاذ، وكان يلبس الوشي ويخضب قدميه بالحناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 عبد القادر ابن أبي شيبة واسمه: يونس الكلاعي. مولى لهم. وقال الخولاني: يكن أبا علي، من أهل إشبيلية. سمع من يحيى بن يحيى، وابن حسان وغيرهما. وكان صدراً في الفقهاء ببلده. توفي نحو السبعين. أسد بن حارث إشبيلي. مولى لخولان. ولقي أصبغ وابن بكير وكان ذا زهد وفضل. قال ابن حارث: كان له حظ في الفتيا. داود بن عبد الله القيسي إشبيلي. لقي ابن بكير. وسمع منه الموطأ، وكثيراً من علم مالك، والليث. وكان من أهل العلم، مرشحاً لقضاء الجماعة، بقرطبة. وتوفي نحو السبعين. إسحاق بن عبد ربه باجي. سمع يحيى بن يحيى. وسحنون بن سعيد، وامتحن بالبرص، فاحتجب. وكان مشهوراً بالعلم والفضل. ولي صلاة موضعه. يحيى بن حجاج من أهل طليطلة. سمع يحيى وعيسى وسعيد بن حسان ورحل فسمع من سحنون وعَون، وغيرهما من القرويين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 قال ابن أبي دليم: كان من أهل العلم. استشهد في المعترك، سنة ثلاث وستين ومائتين. وكان فاضلاً. ذكر أنه كان عنده طعام في بعض سني الشدائد. وكان ذا عيال. فلما رأى نفسه من عدم الرحمة، بخلاف غيره، تصدق بجميعه. فعوتب في ذلك. فقال: لئن حمدت نفسي، فيما ذكرتَ نظرتْ لي، ولمن معي. وآمنت أن تعم العباد رحمة ربي، ولا أن يخصنا سخطه، بما كنا فيه. وكان من المجتهدين، وكان لا يدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة. يحيى بن القصير طليطلي صاحب ابن حجاج هذا. ومشاركه في أسمعته. قال ابن حارث: وكان نظيره في فضله وعلمه، واجتهاده. وكان مواظباً على الجهاد. ولما استشهد صاحبه، وسلم هو، كان يغمص نفسه ووبخها، الى أن خرج الناس للغزاة. سنة أربع وستين. فلما اجتمع الجمعان، أحكم أمره، وسلم متاعه، الى رفقائه، وودعهم. وتقدم للحرب طالباً للشهادة. فرزقها، بعد أن أبلى في العدو بلاء ظاهراً. سعيد بن عياض أبو عثمان. طليطلي. كنيته: أبو يحيى. رحل، فسمع من سحنون، ومن يحيى بن مزين، وعليه عول. وكان من أهل المسائل والفتيا والفقه. قال ابن الفرضي: وكان من أهل الرواية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 قال ابن أبي دليم: كان من أهل الفقه والفتيا، ولي قضاء طليطلة، وصلاتها. ومات داخلها. قال ابن حارث: قتله أهل طليطلة. حزم بن غالب الرعيني طليطلي. سمع من عيسى، ويحيى. ورحل الى المشرق فلقي سحنون بن سعيد، وغيره. وكان مفتي بلده وصاحب صلاته وخطبته وأحكام قضائه. أحمد بن الوليد بن عبد الخالق ابن عبد الجبار، بن قيس، بن عبد الله، بن عبد الرحمن بن قتيبة، بن مسلم الباهلي. من أصحاب يحيى وعيسى بن دينار، ونظرائهما. طليطلي، رحل فلقي سحنوناً. وولي قضاء طليطلة، وجيان. وبيته بيت جلالة. هو قاضي ابن قاضي ابن قاضي. وولي جميعهم قضاء طليطلة. الأربعة على نسق. ذكره ابن حارث. عبد الجبار بن محمد بن عمران من أهل طليطلة سمع من سحنون ونظرائه. قال ابن حارث. وكان من أهل الرواية الكثيرة، والفتيا والعلم والورع والعبادة. محمد بن عبد الواحد من أهل طليطلة. يكنى أبا محمد. رحل فسمع من سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، وقال: كان صاحب فقه. توفي سنة أربع وستين ومائتين. سعيد بن عفان أبو محمد، طليطلي. رحل فلقي سحنون بن سعيد، وغيره. قال ابن حارث: كان من أهل العلم والمسائل والفتيا، وكان يتورك في أمره، على يحيى بن مزين. عمر بن زيد بن عبد الرحمن طليطلي. أبو حفص. سمع من أصبغ، وسحنون وغيرهما. وكان مفتياً بموضعه. قال ابن أبي دليم كان صاحب رواية وفقه. حزم بن غالب الرعيني طليطلي. سمع من عيسى بن دينار. ويحيى بن يحيى، ولقي سحنون وغيره، وكان مفتياً ببلده. وولي أحكام قضائه وصلاته. قال ابن حارث: كان صاحب رواية وفتيا. منذر بن الصباح بن عصمة من أهل قَبرة. له رحلة وعناية بالفقه، والحديث. واستقضى بموضعه. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 كرز بن يحيى بن كرز الصّدفي من أهل استجة. روى عن عبد الملك بن حبيب. وكان عبد الملك بن حبيب، يصفه بالذكاء، والفهم، ويفضله على من قدم عليه من أهل البلدان. وكان رجلاً شريفاً، خيراً، فقيه بلده في وقته. توفي، في امرة عبد الرحمن بن الحكم. كلثوم بن أبيض المرادي أبو عون من أهل سرقسطة. قال ابن أبي دليم: له رحلة قديمة. وكان فقيهاً فاضلاً. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين. يحيى بن عبد الرحمان المعروف بالأبيض سرقسطي. أبو زكريا. قال ابن الفرضي: سمي بذلك، لأنه كان أبيض الرأس واللحية والحاجبين وأشفار العينين، خلقة، وذكر أن أمه كانت أخت أبيه من الرضاعة. فظهرت فيه هذه الآية. كانت له رحلة قديمة. وكان متصرفاً في ضروب من العلم، متقدماً في النحو واللغة، وألف فيه كتاباً. ذكره ابن أبي دليم في هذه الطبقة، من فقهاء المالكية. قال: وكان حافظاً. أخذ عنه الناس. وتوفي سنة ثلاث وستين ومائتين. محمد بن عجلان الأزدي سرقسطي سمع قديماً من سحنون وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 قال ابن الفرضي: وكان عالماً فاضلاً. قال ابن حارث: هو من المشهورين بالفضل والخير. بصير بالفرض والحساب بَصَراً جيداً. ووضع فيه كتاباً، حسناً كافياً. وولي قضاء بلده. قال ابن وضاح: قلت لسحنون: ابن عجلان قال: يحلّف اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، لأني رأيتهم يرهبون ذلك. فقال لي: من أين أخذه؟ قلت: من قول مالك رحمه الله. إنهم يحلفون حيث يعظّمون. فسكت. قال ابن وضاح: كأنه أعجبه. وسيأتي ذكر ابنه بعد هذا. عبد الله بن أبي النعمان سرقسطي ولي قضاءها وذكر عنه فضل وخير وكان مشهوراً بالعلم. توفي سنة خمس وستين وقيل سنة خمس وسبعين. عجنَّس بن اسباط الزبادي بفتح الزاي، وبعد باء، بواحدة من أسفل. من أهل وشقة. راغب في العلم، فبيته بها، بيت علم. سمع من يحيى بن يحيى. وذكره الصدفي وابن الفرضي وغيرهما. سمع منه ابنه ابراهيم. وسيأتي ذكره وذكر ابنيه في طبقاتهم إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 طبقة ثانية ثم انتهى الفقه بعد هذه الطبقة الى طبقة أخرى تتلوها، فمنهم من أهل المدينة محمد بن إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن أيوب ابن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشي، المعروف بابن مغلق. وهو لقب يحيى، عده من أصحاب أبي مصعب كان بالمدينة، ثم خرج الى العراق، فولي القضاء بفارس، وهناك توفي. أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب التيمي، القرشي. من أصحاب أبي مصعب أيضاً. من أهل العراق والمشرق ثم من آل حماد بن زيد أئمة هذا المذهب وأعلامه بالعراق: إسماعيل بن إسحاق القاضي ولنبدأ قبل ذكره، بشيء من خبر آل حماد بن زيد على الجملة، وجلالة أقدارهم، وقد ذكرنا قوماً منهم، في الطبقة الأولى. كانت هذه البيت، على كثرة رجالها، وشهرة أعلامها، من أجل بيوت العلم، بالعراق، وأرفع مراتب السؤدد في الدين والدنيا. وهم نشروا هذا المذهب هناك. ومنهم اقتبس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 فمنهم من أئمة الفقه والمشيخة في الحديث والسنن عدة، كلهم أجلة، ورجال سنّة. روي عنهم في أقطار الأرض، وانتشر ذكرهم ما بين المشرق والمغرب. وتردد العلم في طبقاتهم، وبيتهم، نحو ثلاثمائة عام، من زمن جدهم الإمام حماد بن زيد، وأخيه سعيد، ومولدهما نحو المائة، الى وفاة آخر من وصف منهم بعلم، المعروف بابن أبي يعلى. ووفاته قرب عام أربعمائة. قال أبو محمد الفرغاني في التاريخ: لا نعلم أحداً من أهل الدنيا، بلغ ما بلغ آل حماد بن زيد. قال أبو محمد الفرغاني: نال بنو حماد من الدنيا، منزلة ومزية رفيعة. وأول نكبة نكبوها، أيام ابن المعتز. ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة، ما بلغوا من اتخاذ المنازل، والضياع، والكسوة، والآلة، ونفاذ الأمر، في جميع الآفاق. فكان لا يبقى أمير في أقطار الأرض، شرقاً وغرباً، إلا كاتبوهم. ونفذت أمورهم على أيديهم وكذلك كل من كان بالحضرة، من أرباب الخراج والأعمال، لا يجد بدّاً من أن يصير الى ما يأمرون به. لا يقدر أحد على أن يدفع أمرهم، أو يقصر في حوائجهم. ولما ولي عبد الله بن سليمان الوزارة للمعتضد، وكان سيئ الرأي فيهم، أراد الإيقاع بهم، وأعمل فيهم الحيلة. فلم يقدر على ذلك. الى أن مات اسماعيل بن إسحاق. ففتح لعبد الله في ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، بنو حماد مشاغيل بخدمة السلطان، وأسباب النفقات والمظالم عن الحكم. فلم يقدح ذلك فيهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 ولم يزل به بعد مدة، حتى جعل أبا حازم الحنفي على قضاء الشرقية. وابن أبي الشوارب على قضاء مدينة المنصور. واقتصر بآل حماد، على قضاء عسكر المهدي، ثم بعد ذلك رجع قاضي القضاة لهم، أيام عمر بن الخطيب، مؤدب المعتضد. يعظم أمر آل حماد. وقال: حسبك أن لهم ببادريا، ستمائة بستان. غير ما لهم بالبصرة. وسائر النواحي. وكان فيهم على اتساع الدنيا لهم، رجال صدق وخير، وأئمة ورع وعلم، وفضل. وسيأتي من فضل قصصهم في الطبقات، ما يدل على مكانهم من الدنيا والدين. ذكر اسماعيل بن اسحاق بن اسماعيل ابن حماد بن زيد بن درهم، بن بابك الجهضمي، الأزدي. مولى آل جرير بن حازم. قال أبو الفضل القشيري: وابن أبي إسحاق، أصله من البصرة. وبها نشأ، واستوطن بغداد. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، ومسلم بن ابراهيم الفراهيدي، وسليمان بن حرب الواشجي، وحجاج بن منهال الأنماطي، وعمرو بن مرزوق، ومحمد بن كثير، ومسدَّد والقعنبي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وعبد الله بن رجال العداني، وأبو الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس، وابراهيم بن الحجاج، واسماعيل بن أبي أويس، وعلي بن المديني، وإسحاق بن محمد الفروي. وسمع أيضاً من أبيه، ونصر بن علي الجهضمي، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابراهيم بن حمزة، وأبي مصعب الزهري، وأبي محمد الحكيمي، وأبي ثابت المدني، وأبي شاكر بن محمد بن مسلمة المدني، وغيرهم. وتفقه بابن المعذِّل. قال الشيرازي: إن القاضي اسماعيل يقول: أفخر على الناس برجلين، بالبصرة: بابن المعذّل يعلّمني الفقه، وابن المديني يعلمني الحديث. روى عنه موسى بن هارون الحافظ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو القاسم البغوي ويحيى بن صاعد، وابن عمه يوسف بن يعقوب، وابنه أبو عمر، القاضي. وأخوه وابراهيم بن عرفة نفطويه. وابن الأنباري، والمحاملي، ومحمد بن مخلد الدوري، ومحمد بن أحمد الحكيمي. واسماعيل الصفّار، ومحمد بن عمرو الرّزاز، وعبد الصمد الطستي، وأبو عمرو بن السماك، وأحمد بن سليمان النجاد، وأبو سهل بن زياد، وحمزة بن محمد الدهقان، ومكرم بن أحمد القاضي، وأبو بكر الشافعي، وممن تفقه عليه، وروى عنه وسمع منه: ابن أخيه، ابراهيم بن حماد، وابنا بكير، والنسائي وابن العنتاب، وأبو بشر الدولابي، وأبو الفرج القاضي، وأبو يعقوب الرازي، وأبو بكر بن الجهم، وأبو الفضل بن راهويه، وأبو إسحاق الهجيمي، ومحمد بن أحمد الدينوري، وأبو عبد الله التركاني، وبكر القشيري، وابن حسام البصري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الطيالسي، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد الزهري، وأبو العباس الجناوي، وعبد الله بن أحمد بن يوسف بن يعقوب الفريابي. وابن مجاهد المقرئ، ويحيى بن عمر الأندلسي، وقاسم بن أصبغ الأندلسي، وخلق عظيم. وبه تفقه أهل العراق من المالكية. ثناء الناس عليه ومكانه من الإمامة في العلم، وذكر فضله قال أبو بكر بن ثابت الحافظ، في تاريخ البغداديين: كان اسماعيل فاضلاً عالماً. متفنناً فقيهاً، على مذهب مالك. شرح مذهب، ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتباً عديدة من علوم القرآن، وجمع حديث مالك، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني. قال أبو إسحاق الشيرازي: كان اسماعيل جمع القرآن، وعلوم القرآن، والحديث وآثار العلماء. والفقه والكلام، والمعرفة بعلم اللسان. وكان من نظراء أبي العباس المبرد في علم كتاب سيبويه. وكان المبرد يقول: لولا شغله برئاسة العلم والقضاء، لذهب برئاسة النحو والأدب، ورد على المخالفين من أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وحُمل من البصرة الى بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك بالعراق. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: كان ثقة صدوقاً، وكتب إلينا ببعض حديثه، قال غيره: كان ثقة. هو أول من بسّط قول مالك، واحتج به، وأظهره بالعراق. وكان أبو حازم القاضي الحنفي يقول: لبث اسماعيل أربعين سنة يميت ذكر أبي حنيفة من العراق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 قال الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد: القاضي اسماعيل شيخ المالكيين في وقته. وإمام تام الإمامة، يقتدى به. قال طلحة بن محمد بن جعفر في تاريخه: اسماعيل بن إسحاق. منشأه بالبصرة. وأذن للفتيا عن أحمد بن المعذّل، وتقدم في العلم حتى صار علماً ونشر من مذهب مالك، وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات، وصنّف في الاحتجاج له، والشرح، ما صار لأهل هذا المذهب معالم يحتذونه، وطريقاً يسلكونه، ويضاف الى ذلك علمه بالقرآن. وهو كتاب لم يسبقه أحد من أصحابه الى مثله. وكتابه في القراءات، وهو كتاب جليل المقدار، عظيم الخطر، وكتابه في معاني القرآن. وهذان الكتابان شهد بتفضيله فيهما: أبو العباس المبرد. وسمعت أبا بكر بن مجاهد، يصف هذين الكتابين. وذكر أن المبرد كان يقول: القاضي أعلم مني بالتصريف. وبلغ من العمر ما صار واحد عصره، في علوم الإسناد. فحمل الناس عنه من الحديث الحسن، ما لم يحمل عن كثير. وكان كثير من الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علماً، لا يشاركه فيه الآخرون. فمن قوم يحملون الحديث. ومن قوم يحملون علم القرآن والقراءات والفقه، الى غير ذلك. قال اسماعيل: دخلت يوماً على يحيى بن أكثم، وعنده قوم يتناظرون في الفقه. وهم يقولون: قال أهل المدينة. فلما رآني مقبلاً قال: قد جاءت المدينة. قال نصر بن علي الجهضمي: ليس في آل حماد بن زيد، أفضل من اسماعيل بن إسحاق. قال المبرد: ما رأت عيني في أصحاب السلطان مثل اسماعيل بن إسحاق، وفلان. وذكره ابن كيسان يوماً، في مسألة من النحو فقال له، اسماعيل: نعم ما قلت. لو قاله غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 فقال له ابن كيسان: إن ما قاله القاضي أعزّه الله، قال به جميع الناس. وقد ذكر أبو علي الفارسي في تذكرته، وغيره، عنه أشياء من العربية. قال القاضي أبو الوليد الباجي: - وذكر من بلغ درجة الاجتهاد، وجمع إليه من العلوم - فقال: ولم تحصل هذه الدرجة بعد مالك، إلا لإسماعيل القاضي. وقال المقرئ أبو عمرو الدّاني، في طبقات القراء. وذكره فقال: أخذ القراءة عن قالون. وله فيه حرف. وعن أبي عبد الرحمن أحمد بن سهل، عن أبي عبيد. وعن نصر بن علي الجهضمي، عن أبيه، عن أبي عمرو، وعن أبيه، عن شبل، عن ابن كثير، وغير واحد. وله فيها كتاب جامع، حسن. وانفرد بالإمامة في وقته. ولم ينازعه أحد في عصره. روى القراءة عن ابن مجاهد، وابن الأنباري، وخلق لا يحصون. وقال ابن السرّاج: اجتمع المبرّد، وأبو العباس ثعلب، عند اسماعيل القاضي، فتكالما في مسألة. فطال بينهما الكلام. فقال المبرد لثعلب: قد رضينا. فسألاه الحكم بينهما، فقال لهما القاضي: لا ينبغي الحكم بينكما، لأنكما خرجتما الى ما لا أعلم. فتكالما. فقال يوسف بن يعقوب: قرأت في توقيع المعتقد الى عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير: استوصِ بالشيخين الخيّرَين القاضيين: اسماعيل بن إسحاق الأزدي. وموسى بن إسحاق الخطمي خيراً. فإنهما ممن إذا أراد الله بأهل الأرض سوءاً دفع عنهم بدعائهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 جمل من أخباره ذكر أبو عمر والمقرئ عن ابن المتناب القاضي، قال: كنت عند اسماعيل يوماً فسئل: لمَ جاز التبديل على أهل التوراة. ولم يجز على أهل القرآن. فقال: قال الله تعالى، في أهل التوراة: " بما استُحفِظوا من كتاب الله ". فوكل الحفظ إليهم. وقال في القرآن: " إنّا نحنُ نزّلْنا الذِّكر وإنّا له لحافظون ". فلم يجز التبديل عليهم. فذكر ذلك للمحاملي. فقال: ما سمعت كلاماً أحسن من هذا. قال القاضي رحمه الله: وقع لي أيضاً هذا الكلام، مروياً من طريق الأندلسيين، أن نصرانياً، سأل محمد بن وضّاح عن هذه المسألة. فأجابه، بمثل هذا الجواب، وذكر أبو محمد الفرغاني في صلته: أنه اجتمع غلام خليل القاضي، مع اسماعيل القاضي، في وليمة. أرى لبعض الرؤساء. وكان غلام خليل، يشتم القضاة، ويشهد عليهم، أنهم من أهل النار. فلما خرجا، قال له اسماعيل: أنت تعيب القضاة وتشهد عليهم، أنهم من أهل النار، وأصحاب السلطان، فما تصنع هاهنا، قد حضرتك، وحضرتك. ويشمّون يدك، ويشمون يدي، أو نحو هذا. ومن كتاب الخطيب، قال أبو العباس المبرد: توفيت والدة القاضي اسماعيل، فركبت إليه أعزّيه، وأتوجّع له. فألفيت عنده الجلّة من بني هاشم والفقهاء، والعدول، ومستوري بغداد. ورأيت من ولهه ما أبداه، ولم يقدر على ستره، وكلاً يعزيه، وقد كاد لا يسلو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فلما رأيت ذلك منه ابتدأت، بعد التسليم، فأنشدته: لعمري لئن غال ريب الزما ... ن فينا لقد غال نفساً حبيبه ولكنّ علمي بما في الثوا ... ب عن المصيبة ينسي المصيبه فتفهم كلامي، واستحسنه، ودعى بدواة وكتبه. ورأيت بعد قد انبسط وجهه، وزال عنه ما كان فيه من تلك الكآبة، وشدة الجزع. قال نفطويه: كنت عند المبرد، فمر به اسماعيل بن إسحاق، فوثب المبرد إليه وقبّل يده، وأنشد: فلما بصرنا به مقبلاً ... حللنا الحبسى وابتدرنا القياما فلا تنكرنّ قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما قال ابن الأنباري أنشدنا اسماعيل القاضي: لا تعتبن على النوائب ... فالدهر يرغب كل عاتب واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب ولكل صافية كدر ... ولكل خالصة شوائب كم فرجة مطوية ... لك بين أثناء النوائب وقال القاضي اسماعيل: ما عرض لي هم فادح فذكرت هذه الأبيات. إلا رجوت من روح الله ما يحل عقالي وينعم بالي. ثم تؤول عاقبة ما أحذره الى فاتحة ما أوثره. وأنشد بعضهم للقاضي اسماعيل: من كفاه من مساعيه ... رغيف يعتريه وله بيت يواريه ... وثوب يكتسيه فلماذا يبذل العرض ... لنذلٍ وسفيه ولماذا يتمادى ... عند ذي كبر وتيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 كل ما منعت البرّ ... أبدى خاذليه وهو الوارث والوزر ... على مكتسبيه ذكر أبو عبد الله بن عتاب أن القاضي اسماعيل سئل عن الحد، هل يدخل في المحدود أو لا؟ وذلك إذا باع منه أرضاً. وقال حدُّ هذا من جهة كذا، الشجرة. فتوقّف عن الجواب، ثم قال بعد للسائل: طالعت هذا الباب من كتاب سيبوية. فدلّني على دخولها. وذكر بعضهم قال: اجتمع أبو العباس بن شريح القاضي، وأبو بكر بن داود الأصبهاني، وأبو العباس المبرد على باب القاضي اسماعيل. فأذن لهم: فتقدم ابن شريح وقال: قدّمني العلم والسن، وتأخر المبرد، وقال: أخّرني الأدب. وقال ابن داود: إذا صحّت المودة، سقطت المعاذير. وحدث الدارقطني، أن اسماعيل القاضي، دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانياً. فقام له ورحب به. فرأى إنكار الشهود ذلك. فلما خرج، قال: قد علمت إنكاركم. وقد قال الله تعالى: " لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذين لم يُقاتِلواكُم في الدين " الآية. وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير، بيننا وبين المعتضد. وهذا من البر. فسكتت الجماعة، عند ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وذكر بعضهم، أن درة جليلة خرجت من دار السلطان ببغداد، لبعض الأمراء. فوصلت لمجلس القاضي اسماعيل، فاستحسنها كل من حضر، وجعل يقلبها، وفي المجلس رجل من المغاربة من أصحاب سحنون، فلم يمد يده إليها، وامتنع من تقليبها، فقال له القاضي اسماعيل: خبرني لمَ لم تفعل. وكأنه فم مراده. وقال له: هي لغير مالكها، وحكمها حكم اللقطة. فلزم ضمانها، ملتقطها، حتى يؤديها الى مالكها. فلو أخذتها. لضمنتها أو نحو هذا من الكلام. فاستحسنه القاضي، ودلّ على فضل قائله. قال ابراهيم بن حماد: كان عمي اسماعيل ينشد: هِمَمُ الموت عالياً فمن ث ... مّ تخطى الى لُباب اللُّباب ولهذا قيل الفراق أخو المو ... ت لإقدامه على الأحباب وذكر الدلائي في كتابه عن ابن أبي ذر، أن المعتضد كانت له حظية يحبها. ولها ابن أخت حجر عليه اسماعيل القاضي بعد موت والد. فشكت أمه ذلك الى أختها. ورغبت سؤال المعتضد، ليأمر القاضي بفكه من الحجر. فلما جاء المعتضد الى حظيته، سألته في ذلك. فكتب رقعة بخطه الى اسماعيل يأمره بفك الحجر عن الغلام، وختمها ووجهها مع وزيره إليه. فعظم ذلك على الوزير، وكتمانه عنه. فلما وصل به اسماعيل، فكه، وكتب على ظهره، وختمه ورده مع الوزير. فكان ما فعله اسماعيل أشد على الوزير. فلما وصل به الخليفة، وفتحه ونظر فيه. بكى. وكان بعيد الدمعة. ثم رمى به الي الوزير، وقال أنظر بما كتب إلينا اسماعيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 فإذا هو قد كتب إليه، بسم الله الرحمين الرحيم: " يا داوُدُ إنّا جعلْناكَ خليفةً في الأرضِ، فاحْكُم بين الناسِ بالحق " الآية. وقال: قل لإسماعيل يعمل ما يرى. فلا أعترض عليه، قال أبو بكر ابن أبي الأزهر: دعاني يوماً علي بن ابراهيم بن موسى - كاتب مسرور - فتشاغلت عنه. فلما كان الغد بكّرت إليه معتذراً. فتلقاني، وقال: انتظرني قليلاً. فإني أريد دخول الحمام. فدخلت الى موضع جلوسه، وتقدّم الى غلمانه، أن يغيّبوا سرج حماري، ولجامه. أراه قال: فلما طال انتظاري، قمت بوجدت الحمار عرياً، فسألتهم. فقالوا: ما ندري. فأقمت أعذل الغلام مرة، وأهم بضربه أخرى. فلما انتصف النهار علمت أنه في دعوة الحسن بن اسماعيل فكتبت إليه: يا بن قاضي القضاة والحكّام ... وكريم الأصول والأعمام يا بن من بُيِّنَت به سنن الدين ... وتمّت شرائع الإسلام أقضِ بيني وبين خلّك والمص ... فّي لك الود من جميع الأنام أنه كادني بأخذ حماري ... وتعدى في سرجه واللجام ومنعت الخروج ظلماً والج ... ئت الى الرفق صاغراً بالغلام مرة أنثني عليه بضرب ... غير مجد ومرة بالكلام وأشد الأمور أني قد جعت ... كأني محالف للصيام فتراه أجاز أخذ حماري ... أتراه يجيز منع الطعام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 قال: وطلبت من يحملها إليه. فرأيت امرأة من دار القاضي، اسماعيل، فدفعت الرقعة إليها، وأمرتها برفعها للحسن، فدفعتها للقاضي نفسه. فلما قرأها، وقع في ظهرها بخطه: يا بني هذا رجل متظلم منكم، فانصفوه. وبعث بها الى ابنه فلما قرأها قال: وجهه إليّ لأحضر معهم، فوافاني الرسول قد انصرفت. ولما كانت محنة غلام الخليل، ومطالبة الصوفية ببغداد. ونسبتهم الى الزندقة. وأمر الخليفة بالقبض عليهم. وكان ممن قبض عليه شيخهم إذ ذاك أبو الحسن النوري. فلما أدخلوا على الخليفة وأمر بضرب أعناقهم، فتقدم النوري مبتدراً الى السّياف، ليضرب عنقه. فقال له ما دعاك الى هذا، دون أصحابك؟ فقال آثرت حياتهم على حياتي هذه اللحظة. فرفع الأمر الى الخليفة، فردّ أمره الى قاضي القضاة اسماعيل. فقدم إليه النوري، وسأله عن مسائل من العبادات. فأجابه. ثم قال له وبعد هذا. لله عباد يسمعون بالله، وينقطعون بالله، ويصدقون بالله، ويردون بالله، ويأكلون بالله، ويلبسون بالله، فلما سمع اسماعيل مقالاته. بكى بكاءً طويلاً. ثم دخل على الخليفة: إن كان هؤلاء زناديق فليس في الأرض موحّدون. فأمر بإطلاقهم. ولايته القضاء وسيرته فيه قال أبو بكر الخطيب: قال أبو العباس الأصم: كان اسماعيل بن إسحاق، نيف وخمسين سنة قاضياً، اعُزل عنها إلا سنتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 قال أبو بكر: وهذا فيه تسامح لم تبلغ ولايته من أولها الى وفاته هذا العدد، وأول ما ولي قضاء الجانب الشرقي، عند وفاة سوار بن عبد الله، أيام المتوكل سنة ست وأربعين وجمع له قضاء الجانبين بعد ذلك، سنة اثنتين وستين، وذكر أن المهتدي بن الواثق، صرف اسماعيل عن القضاء سنة خمس وخمسين، وسخط على أخيه حماد. فاستتر اسماعيل، قال: وفي سنة ست وخمسين بعد قتل المهتدي، أعاد المعتمد، اسماعيل بن إسحاق - وغلب على الموفق - على الجانب الشرقي. فولاه الجانب الغربي. ونقل عنه القاضي البرتي، الى الجانب الشرقي، وذلك سنة ثمان وخمسين. وقال ابن أبي طاهر في تاريخه: إن ذلك كان سنة سبع وخمسين، فلم يزل اسماعيل على الجانب الغربي بأسره، الى سنة اثنين وستين. فجمعت له بغداد كلها. والقاضي بسر من رأى، علي بن محمد بن أبي الشوارب. وكان يدعى بقاضي القضاة. واسماعيل المقدم على سائر القضاة. الى أن توفي. قال ابن أبي طاهر، ولم يجمع قضاء بغداد لأحد قبله، وأضاف إليه قضاء المدائن النهروانات. وذكر ابن حارث وغيره: أنه ولي قضاء القضاة آخراً. ولم يذكره المؤرخون. وهم أقعد بهذا. وكان يكتب له في قضائه، أبو العباس أحمد بن سريج الشافعي. المعروف بالبازي الأشهب. وهو الذي ألف التوسّط بين محمد بن الحسن واسماعيل القاضي. وهو كتاب كبير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 وكان حاجبه ابن عمه أبا عمر، محمد بن يوسف بن يعقوب. قال أبو عمرو الدّاني: ولي اسماعيل القضاء اثنتين وثلاثين سنة. قال الفرغاني: ضرب أبو أحمد الموفق اسماعيل بن إسحاق لتحامله على المعتضد. فجاء اسماعيل يوماً برسالة من الموفق الى المعتضد فقال له المعتضد: يا شيخ ولاك الموفق الحكم؟ أي أنه لم يوله هو. وأن الموفق غلبه على الأمر. فسكت اسماعيل، ولم يجبه. فصار الى الموفق، وسأله إعفاءه، فأعفاه. وصيّر مكانه يوسف بن يعقوب. وذكر القاضي وكيع في كتابه في القضاة، القاضي اسماعيل، فقال: كان عفيفاً صليباً، فهماً. وذكر أن أبا حازم القاضي، كان يقول: ما خرج من البصرة قاضي أسدّ من اسماعيل بن إسحاق في القضاء وحسن مذهبه فيه، وسهولة الأمر عليه، مما كان يلتبس على غيره. ففي شهرته ما يغني عن ذكره. وكان في أكثر أوقاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلاً بالعلم. لأنه اعتمد على حاجبه أبي عمر. فكان يحمل عنه، أكثر أمره، من لقاء السلطان، وغيره. وأقبل هو على الحديث والعلم. وكان اسماعيل شديداً على أهل البدع يرى استتابتهم حتى ذكر أنهم تحاموا بغداد في أيامه. وأخرج داود بن علي من بغداد الى البصرة، لإحداثه معه القياس. كما ذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وحبس أبا سعيد العدوي، لأنه أنكر عليه بعض ما حدث به. وكان القاضي اسماعيل يقول: من لم يكن فيه فراسة، لم يكن له أن يلي القضاء. وقيل له ألا تؤلّف كتاباً في أدب القضاة؟ فقال إعذل ومدّ رجليك في مجلس القضاء. وهل للقاضي أدب غير الإسلام. فقال أبو طالب المكي: كان اسماعيل من علماء الدنيا، وسادة القضاة وعلمائهم. وكان مواخياً لأبي الحسن ابن أبي الورد. وكان هذا من علماء الباطن. فلما ولي اسماعيل القضاة هجره ابن أبي الورد. ثم أفضى أن دخل عليه في شهادة. فضرب يده على كتف اسماعيل وقال: إن علماً أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيراً منه. فوضع اسماعيل رداءه على وجهه، وبكى حتى بلّه. ذكر تواليفه ووفاته تواليف القاضي اسماعيل كثيرة مفيدة أصول في فنونها. منها موطؤه. وكتاب أحكام القرآن. وكتاب القراءات. وكتاب معاني القرآن، وإعرابه، خمسة وعشرون جزءاً. وكتاب الرد على محمد بن الحسن، مائتا جزء. ولم يتم. وكتبه في الرد على أبي حنيفة، وكتبه في الرد على الشافعي في مسألة الخمس وغيره. وكتاب المبسوط في الفقه، ومختصره. وكتاب الأموال والمغازي، وكتاب الشفاعة. وكتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والفرائض، مجلد. وزيادات الجامع من الموطأ أربعة أجزاء. وله كتاب كبير غريب عظيم، يسمى شواهد الموطأ. في عشر مجلدات. وذكر بعضهم أنه في خمسمائة جزء. وكتاب مسند يحيى بن سعيد الأنصاري. ومسند حديث ثابت البناني. ومسند حديث مالك بن أنس. ومسند حديث أيوب السختياني. ومسند حديث أبي هريرة. وجزء حديث أم زرع. وكتاب الأصول. وكتاب الاحتجاج بالقرآن، مجلّدان. وكتاب السنن. وكتاب الشفعة، وما ورد فيها من الآثار. ومسألة المني يصيب الثوب. وكتاب المعاني المذكور. كان ابتدأه أبو عبيد القاسم بن سلام. بلغ فيه الى الحج والأنبياء. ثم تركه. فلم يكمله. وذلك أن ابن حنبل كتب إليه: بلغني أنك تؤلف كتاباً في القرآن، أقمت فيه الفراء وأبا عبيد أئمة يحتج بهما في معاني القرآن؟ فلا تفعل. فأخذه اسماعيل وزاد فيه زيادات. وانتهى الى حيث انتهى أبو عبيد. حكى ابن عتاب، وعلي بن عبد العزيز، وذكر ابن كامل، وابن حارث، أنه توفي فجأة وقد صلى العشاء الآخرة ليلة الأربعاء، لثمان بقين من ذي الحجة. سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وهو قاض على جانبي بغداد. وقال ابن أزهر الكاتب، ارتفع المطر فخرج اسماعيل الى المصلى، فصلى ركعتين، بسبّح، وهل أتاك. ثم صعد المنبر، وخطب خطبتين، وحول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 رداءه. وحدّث بحديث طويل. خشع الناس له، وبكى الناس، وانصرف خاشعاً. فلما كان الى أيام صلى في مسجده، العصر، وهو صحيح. وحكم. ثم انصرف الى داره، ووجد للمغرب ضعفاً فعهد الى ابنه الحسن، والى ابن عمه يوسف بن يعقوب. وتوفي في تلك الليلة. وفي رواية أخرى: أنه توفي من ليلة يوم استسقائه وصلى عليه ابن عمه يوسف. وورث خطبته من الإمامة في الدين والدنيا، بنو عمّه. سيأتي ذكرهم. مولده سنة مائتين. توفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. وخلّف ابناً اسمه الحسن. ويكنى بأبي علي. كان يصحب السلطان معدوداً في جلساء الخليفة، وخاصته، لطيف المكان هناك. قال الخطيب: روى عن أبيه، حدّث عنه علي بن ابراهيم بن حماد الأهوازي. وكان ألفياً لأهل الأدب، معاشراً لأهل الفضل، فهماً. حسن المحاضرة. مليح النادرة. سمح النفس، جميع الأخلاق، لم يسند في الأحاديث إلا يسيراً. توفي سنة تسع وثلاثمائة. وله أربع وتسعون. ويقال سبعون سنة. وصلى عليه القاضي أبو عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 حماد بن إسحاق أخو اسماعيل القاضي، شقيقه. أمهما شاخة بنت معاذ العدوسية. وقيل هي أم ولد، اسمها شحيمه. تُكنّى بأم اسماعيل. وسمع من شيوخ أخيه: أبي مصعب الزهري. وأبي محمد الحكمي. والقعنبي. وذكر أنه سمع اسماعيل ابن أبي أويس. وأبا شاكر بن محمد بن مسلمة المخزومي. وإسحاق الفروي. وابن أبا ثابت المديني. وتفقه بابن المعذل وبرع، وتقدم في العلم. روى عنه ابنه ابراهيم، وغيره. وألّف كتباً كثيرة، فيما ذكر منها: كتاب المهادنة. وكتاب الرد على الشافعي. وكانت له مكانة جليلة عند بني العباس. صحب أبا أحمد بن المتوكل، الملقب بالموفق. وجرى مجرى صحابته. قال ابنه، قال: إني لأستعين بكلمة مالك، رحمه الله عند فتياه، وهي: ما شاء الله. لا حول ولا قوة إلا بالله. إذا صعبت عليّ المسألة. فإذا قلتها انكشفت لي. وامتحن على يد المهتدي بالله أمير المؤمنين، محمد بن الواثق في سنة خمس وخمسين. قبض على حماد هذا، وضربه بالسياط، وأطاف به على بغل بسر من رأى لشيء بلغه عنه حينئذ. وصرف اسماعيل عن القضاء، الى أن قتل المهتدي. وتوفي في جمادى سنة سبع وستين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 محمد بن حماد بن إسحاق ابنه قال القاضي وكيع: كان كتب علماً كثيراً، وفهم. وكان شاباً عفيفاً سرياً ولي قضاء البصرة. قال: وولاه الموفق، عند خروجه الى محاربة الزنج بالبصرة، قضاء ما رجع من الناس. وقضاء عسكره. وقضاء واسط. وكور دجلة. وكان يصحب الموفق حيث كان مستخلف على البصرة، محمد بن أسيد، رجلاً من أهلها. وتوفي محمد بن حماد سنة ست وسبعين ومائتين. وأما ابنه الآخر، هارون يأتي ذكره، في الطبقة الأخرى إن شاء الله تعالى. يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد ابن عمهما. ووالد القاضي أبي عمر، ويكنى أبا محمد. سمع الحديث، ودرس الفقه. وكان أكثر تفقهه مع ابن عمه اسماعيل. وسمع مسلم بن ابراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير، وعمرو بن مرزوق، ومحمد ابن أبي بكر المقدسي، وهدبة بن خالد، وأبا الربيع الزهراني، وشيبان بن فروخ. وكان الغالب عليه: الحديث. وكان مسنداً فاضلاً، سمع منه الناس ببغداد، قراءة وإملاءً. أخذ عنه ابنه القاضي، أبو عمر، وأبو عمرو بن السماك، وابن قانع، ودعلج بن أحمد، وأبو بكر الشافعي، وأبو محمد بن ماسي، وكتب عنه الناس علماً كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة، سكن بغداد، وحدث بها. قال القاضي وكيع في كتابه: كان يوسف صلباً، عفيفاً، بلغ سناً عالية، وحُمل عنه علم كثير، من المسند وغيره. وذكر ابن كامل في كتاب القاضي: أنه كان غير مطعون عليه، في الحديث. ضعيف الفقه. وأنه كان لا يغير شيبه. وألف فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومسند شعبة. وكتاب الصيام والدعاء والزكاة. ذكر ولايته القضاء وسيرته كان ذا جلالة وقدر عظيم ببغداد. وأول ما ولي بها: الحسبة، سنة إحدى وسبعين. وولي أيضاً نفقات الموفق، فكان يتولاها دون رأي وزير أو غيره. ولما استعفى اسماعيل، أيام المعتضد من القضاء، وأجيب صير مكانه يوسف هذا. فيما ذكره الفرغاني. ثم ولي البصرة بعده ابن عمه، محمد بن حماد، مع قضاء سائر عمله، الذي مات عنه، في سنة ست وسبعين من قضاء واسط، وكور دجلة. فأقام يوسف ببغداد، واستخلف على البصرة محمد بن جعفر بن أحمد بن العباس بن عبد الله بن الهيثم بن سام، وكان فقيهاً سرياً عالماً متفنناً وعف وحسن أثرُه. ثم توفي محمد بن جعفر، فاستخلف يوسف مكانه، ابراهيم بن المنذر الجارودي. ثم أتى خليفة الفاضل بن الحباب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 الجمحي، ثم أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي، والد القاضي أبي الطاهر بن علي المالكي. وولي يوسف مع ذلك، المظالم، ببغداد، سنة سبع وسبعين. فلما مات القاضي اسماعيل بن إسحاق منسلخ سنة اثنين ومائتين، قُسِّم عمله، فقلّد يوسف بن يعقوب، قضاء الجانب الشرقي. فلم يزل عليه، الى أن نُكب. وقلد ابنه أبا محمد، بعد مدة، مدينة المنصور. قال ابن عرفة: وذكر ولايته القضاء. قال: فحمدت مذاهبه، وحسُن حكمه. واستقامت طريقته. وكثر الشاكر له. وقال طلحة بن محمد في كتابه: كان يوسف بن يعقوب هذا، رجلاً صالحاً، عفيفاً، خيراً، حسن العلم بصناعة القضاء. شديداً في الحكم. لا يراقب فيه أحداً. وكانت له هيبة، ورئاسة. وكان ثقة أميناً. وذكر الخطيب أبو بكر في تاريخ علماء بغداد. أن خادماً من وجوه خدماء المعتضد، أتى الى القاضي يوسف يوماً، في حكم. فارتفع في المجلس، فأمره الحاجب بموازاة خصمه. فلم يفعل، إدلالاً له بمحلّه. فصاح القاضي عليه، وقال: قفاه، أتؤمر، بموازاة خصمك، فتمتنع؟ يا غلام عمرو النخاس الساعة، يقدَّم إليه يبيع هذا العبد. ويحمل ثمنه لأمير المؤمنين. وقال لحاجبه: خذ بيده، وسوّ بينه وبين خصمه. فأكره على ذلك. فلما انقضى الحكم حدّث الخادم المعتضد بالحديث، وبكى له. فصاح عليه. وقال: لو باعك لأجزت بيعه. وما رددتك أبداً. وليس خصومك لي يزيل مرتبة الحكم. فإنه عمود السلطان. وقوام الأديان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 قال أبو جعفر الطبري: لما ولي يوسف بن يعقوب المظالم. أمر أن ينادي: من كانت له مظلمة، قبل الأمير الناصر، وأخذ من الناس، فليحضر. وتقدم الأذن الى صاحب الشرطة، ألا يطلق أحداً من السجن إلا من رأى إطلاقه، بعد أن تُعرَض عليه قصصهم. بقية أخباره وقال ابن الخطيب مؤدب المعتضد: حضرت يوماً في مجلس يوسف بن يعقوب، مع أصحاب الحديث، فدخل عليه مؤنس صاحب شرطة بغداد. وكان جبّاراً غاشماً، من كبار خدّام المعتضد، والمكتفي، فقصد الى سرير يوسف. فلم يقم له. فسلّم عليه مؤنس، وهو قائم. فأومأ إليه يوسف، فأجلسه بين يديه. وكان مع مؤنس الى أن قضى حديثه، مع يوسف، ثم انصرف. ولما أشار المعتضد بلعن معاوية وآله، على من أمره. وكتب في ذلك، كتاباً. انتخب له من الكتاب، الذي كان أنشأه المأمون، حين عزم على ذلك. فلم يزل القاضي يوسف يتردد، ويسعى في رد ذلك، حتى ترك الأمر بذلك، وانصرف عنه. فذكر أبو جعفر الطبري: أن يوسف مضى في ذلك الى المعتضد، وقال له: إني أخاف أن تضطرب العامة عند سماعه. فقال: إن تحركت وضعت سيفي. فقال له ما تصنع بالطالبيين، وهم في كل ناحية. يخرجون ويميل إليهم الكثير من الناس. وفي هذا الكتاب إطراؤهم والتفجّع لما نيل منهم، أو كيف؟ قال: فإذا سمعه الناس زادوا فيهم تشيّعاً. وكانوا أثبت حجة. فأمسك المعتضد عما همّ به. فعد الناس هذه من مناقب ابن حماد، بخاصة ليوسف بن يعقوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 قال: فدخل على القاضي يوسف بعض أهل الحديث، يشكره ويقول: جزاك الله خيراً. فإنكم أهل بيت سنة. ولما مات المعتضد، تولى غسله القاضي أبو عمر. وصلى عليه أبوه يوسف هذا. وذكروا أن ابن أبي الدنيا، دخل عليه. وكان مولدهما واحد. فسأل القاضي عن قوته، فقال: أجدني كما قال سيبويه: لا ينفع الهليون والطريفل ... انخرق الأعلى وجار الأسفل ونحن في جد وأنت تهزل فكيف نجدك أنت يا أبا بكر؟ فأنشد: أراني في انتقاص كل يوم ... ولا يبقى مع النقصان شي طوى العصران ما نشراه مني ... فأخلق جدّتي نشر وطي نكبته ووفاته لما قام عبد الله بن المعتز، لطلب الخلافة أيام المقتدر سنة ست وتسعين، وبايع له من بايع، كان في جملتهم: القاضي أبو عمر: محمد بن يوسف بن يعقوب هذا. وهو شريك لأبيه في القضاء. فلما ظفر بابن المعتز، وانحل أمره، انتشر أبو عمر، وكان من محنته ما يأتي ذكره في خبره. فصرفه المقتدر عن القضاء، وصرف بصرفه ابنه أيضاً. واقتصر على الصرف، فلزم يوسف منذ ذلك منزله. ولم يتول للسلطان عملاً من القضاء، الى أن توفي إثر ذلك، يوم الاثنين، لتسع خلون من رمضان، سنة سبع وتسعين ومائتين، عم عمر، قال ابن كامل، والمسعودي، وهو ابن خمس وتسعين سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وقال ابن أبي طاهر: بل تسع وثمانون سنة وثمانية أشهر. قال ابن كامل: مولده سنة ثمان ومائتين. قال ابن طاهر: وصلى عليه ابنه أحمد. وقال ابن كامل: بل ابنه أبو عمر. ودفن في داره. وترك من الولد غير القاضي أبا عمر، محمداً وأبا يعلي الحسيم. وتوفي أبو يعلي سنة ست وثلاثمائة. وتوفي أحمد سنة تسع وتسعين ومائتين وسيأتي ذكرهم. جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض أبو بكر الفريابي. قاضي الدينور. وقال أبو بكر الخطيب فيه: أحد أوعية العلم. ومن أهل المعرفة والفهم. طوف شرقاً وغرباً. ولقي أعلام المحدثين، في كل بلد، وسمع بخراسان وما وراء النهر، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة. واستوطن بغداد وحدث بها عن هدبة بن خالد، ومحمد بن حساب، وعبد الأعلى بن حماد، والجحدري، وابن المديني، وابن المثنى، وعلي بن معاذ، وبندار، ومنجاب، وأبي كريب، وأبي بكر، وعثمان ابني أبي شيبة، وقتيبة، وإسحاق، والقواريري، وزنجويه، وابني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 الدورقي، وهشام بن عمار، وإسحاق بن موسى الأنصاري، وأبي مصعب الزهري، وسمى جماعة غيرهم. وروى عنه محمد بن مخلد الدوري، وابن المنادي، وأحمد بن سلمان النجاد، وأبو بكر الشافعي، وأبو علي بن الصواف، وابن مالك القطيعي، وخلق كثير. قال: وكان ثقة ثبتاً، حجة. قال القاضي: وقد مر في ذكره في المالكية، ووجدته معلقاً بخطي، ولم أدر بعد من أين، وقفت عليه. وله كتاب مناقب مالك، وكتاب السنن، كتاب كبير. وقال أبو طاهر الذهلي: سمعته يقول: كل من رويت عنه لم يسمع إلا من لفظه، إلا اثنين: أبا مصعب الزهري، فإنه كان ثقل لسانه، وآخر سماه غير الذهلي، وهو المعلى بن مهدي. قال: ولما ورد أبو بكر بغداد، استقبل بالطيارات، والدبادب، ووعد له الناس يسمعون منه. فممن حضر مجلسه للسماع، نحو ثلاثين ألفاً. وكان المستملون، ثلاثمائة وستة عشر. قال أبو الفضل الزهري: كان في مجلس الفريابي، ممن يكتب من أصحاب الحديث، نحو عشرة آلاف إنسان، سوى من لا يكتب. قال ابن كامل: كان جعفر الفريابي، مأموناً موثوقاً به، مكثراً. ومولده سنة سبع ومائتين، وتوفي في المحرم سنة إحدى وثلاثمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 من أهل مصر المقدام بن داود ابن عيسى بن تليد الرعيني، ثم القبّاني، بقاف. مولاهم. أبو عمرو. وقد تقدم ذكر نسبه، وضبطه قبل، عند ذكر عمه. هو ابن أخي سعيد بن عيسى بن تليد. أخذ عن عمه سعيد، وعبد الله بن عبد الحكم. وعبد الله بن يوسف التنيسي، وعلي بن سعيد، وأسد بن موسى، وذؤيب بن عمامه. وأبي زرعة، عبد الأحد بن الليث. روى عنه: عبد الله بن الورد، وابن مسرور الغسّال، وأبو العباس الرازي، وأحمد بن ابراهيم بن جامع، وابن أبي طبنه، وأحمد بن مسلمة الهلالي. قال المسعودي في تاريخه: كان مقدام من جلّة الفقهاء. من أصحاب مالك. قال ابن أبي دليم: وكان عالي الدرجة. كثير الرواية. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، ولم يكن بالمحمود في روايته. عن خالد بن نزار. لأنهم سألوه عن مولده، فأخبرهم. ثم مضوا الى الاسطوانة التي على رأس خالد بن نزار، فنظروا فيها تاريخ وفاته، فإذا المقدام حينئذ ابن أربعة أعوام أو خمسة. قال ابن مفرّج: وسماعه من أسد صحيح. وقد نفى هذا القول النسائي جداً؟ ونسبه الى الكذب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 قال ابن حاتم في تاريخه: وتوفي في آخر رمضان، سنة ثلاث وثمانين. محمد بن أصبغ بن الفرج كان بمصر فقيهاً مفتياً. وكان على محنة المسالمة. وهو آخر من ولي ذلك. أخذ عن أبيه، روى عنه محمد بن فطيس، وأبو بكر بن الخلال. توفي بمصر، سنة خمس وسبعين ومائتين. أبو الخير فهر بن موسى ابن أبي رباح. قاضي الاسكندرية. أخذ عن أبي بكير وغيره. ولي قضاء الاسكندرية. توفي في شعبان، سنة سبعين ومائتين. يحيى بن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو الحسن. ذكره ابن أبي دليم، وابن حارث في هذه الطبقة. توفي بمصر سنة سبع وثمانين ومائتين. أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مقلاص مولى خزاعة. تقدم ذكر أبيه. قال الكندي: كان متقشفاً جلداً. توفي سنة خمس وثمانين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 مطروح بن محمد بن شاكر مولى غافق. أبو نصر. من أصحاب أصبغ بن الفرج. يروي عن عبد الله بن هارون. روى عنه أبو القاسم العلاف. وروى عنه أحمد بن منير. توفي بالاسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائتين. قال ابن ميسر: كان ثقة. حفص بن مدرك ابن عاصم بن عمرو بن عمير بن أبي مدرك. مولى بني سعد بن خولان، أبو عمر. قال ابن أبي دليم: حلّ أخذه عن أصبغ. قال الكندي: كان شديداً. وقد روي عنه. توفي سنة ثلاث وسبعين. داود بن عمر ابن سعيد بن أسلم الصدفي، مولاهم. جل روايته عن ابن مريم. توفي سنة ثمان وستين. أبو الشريف ابراهيم بن سلمان بن عبد الله بن المهلب القضاعي الحرسي، بحاء مهملة، وراء مفتوحة، وسين مهملة. كذا ضبطه الأمير. قال عبد الغني بن سعيد: هو أبو مخلد. توفي بمصر، آخر سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وبيته بها بيت علم. سنذكر من يأتي منهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 أبو الزنباع روح بن الفرج ابن عبد الرحمن سطان. مولى الزبير بن العوام. صاحب أبي زيد بن أبي الغمر. سمع عمرو بن خالد، وسعيد بن عفير، وهارون بن موسى المدني، وعبد الغني العامل، وزيد بن بشر، وأبا مصعب. قال ابن حارث: كان عالماً فقيهاً. وعنه أخذ أبو الذكر الفقيه. قال الكندي: أوثق الناس في زمانه. قال ابن فريد: ذاك رجل، وفّقه الله بالعلم. له رواية في القراءات، عن يحيى بن سليمان الجعفي. روى عنه محمد بن أحمد بن الهيثم ومحمد بن سعد، ومحمد بن شاهين، وأبو العباس أحمد بن الحسن الرازي، وأحمد بن مسلمة الهلالي، وابراهيم بن محمد الحلواني، وقاسم بن أصبغ، وأبو بكر بن أبي الأصبغ. قال ابن يونس: مولده سنة أربع ومائتين. توفي سنة اثنين وثمانين ومائتين. أبو الطاهر خير بن عروة ابن عبد الله بن كامل الأنصاري، مولاهم. ضبط اسمه بخاء معجمة، مفتوحة، بعد ياء باثنتين من أسفل، وراء. يروي عن مروان العوفي. حدّث عنه أبو طالب الحافظ، وأبو عبد الله الإيلي، وأبو الحسن البصري. ذكره ابن أبي حاتم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 قال الكندي: وكان فاضلاً، توفي صدر سنة ثلاث وثمانين. أبو الطاهر محمد بن عبد الغني ابن عبد العزيز بن سلام، الغسال. مولى قريش. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً. قال الطحاوي: كان فقيهاً، لا يدافع. تقدم ذكر أبيه. توفي سنة ثلاث وثمانين. محمد بن يزيد بن أبي زيد بن أبي الغمر أبو بكر. مولى بني سهم. يروي عن أبيه. روى عنه محمد بن مكي الخولاني. توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. أبو مسلم خير بن موفق مولى عبد الله بن سعيد التجيبي. قال الأمير: مولى بني الأجم، من تُجَيب، ثم لعبدوس بن سعيد. يروي عن عبيد بن هشام الحلبي، وابن بكير، ومنصور بن أبي مزاحم، ومحمد بن خالد الاسكندراني، وغيرهم. توفي سنة ست وثمانين ومائتين. ابن جبر الحضرمي قاضي برقه، والاسكندرية. أبو عبد الرحمان. ويقال أبو محمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وضبط اسمه واسم جده بجيم مفتوحة، وباء بواحدة ساكنة، وراء. روى عن محمد بن خلاد بن هلال. حدّث عنه أبو طالب، وأبو عبد الله الإيلي، وأبو الحسن البصري. توفي سنة ثمان وثمانين ومائتين. أبو شير محمد بن عبد الله بن الغازي قال ابن أبي دليم: كان فقيهاً في المذهب، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين. محمد بن الأصبغ المسمى فليح، بن سلام بن يحيى، الهروي، مولاهم. قال الكندي: كان فقيهاً مفتياً، وكان أبوه فليح مقبولاً بمصر. توفي سنة أربع وتسعين ومائتين. محمد بن خلف بن عبيد أبو عبد الله. من أهل صوران. متولى حضرموت. قال الكندي: كان فقيهاً، وهو صاحب المسألة في القرآن مع أبي جريش. يروى عن الحارث بن مسكين. توفي صدر سنة تسع وتسعين، واجتمع لجنازته خلق، لم يرَ مثلهم. القاسم بن حبيش ابن سليمان بن برد بن نجيح التُجيبي، مولاهم، أبو عبد الرحمان. مضى نسبه عند ذكر أبيه وجده. يروى عن هارون بن سعيد الإيلي. روى عنه ابن يونس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 ذكر ابن أبي حاتم. وقال الكندي: كان فقيهاً، مفتياً. وسيأتي ذكر ابنه. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين. ركين بن يحيى الأسيوطي كان يتفقه على مذهب مالك. يروى عن يحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم، وغيرهما. توفي بأسيوط سنة سبعين ومائتين. أبو عبد الله عمر وابن أبي الطاهر أبو السرح. تقدم ذكر أبيه. قال الكندي: كان زاهداً فاضلاً. توفي سنة ثمان وثمانين ومائتين. ومولود سنة ثمانين ومائتين. من أهل إفريقية ابن طالب القاضي كنيته أبو العباس. واسمه عبد الله بن طالب، بن سفيان بن سالم، بن عقال بن خفاجة التميمي، من بني عم بني الأغلب، أمراء القيروان. ويقال طالب بن سعيد بن سفيان، وقد غلط بعضهم فيه. فنسبه: كنيته، فظن أن اسمه أحمد. فسماه به. تفقه بسحنون، وكان من كبار أصحابه. ولقي المصريين محمد بن عبد الحكم، ويونس بن عبد الأعلى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وحج فانصرف. وولي الصلاة، ثم قضاء القيروان مرتين. أحدهما سنة سبع وخمسين ومائتين. ثم عزل سنة تسع وخمسين، والثانية سنة سبع وستين، وعزل سنة خمس وسبعين. سمع منه أبو العرب وابن اللّباد. وكان جميل الصورة، بهي الخلق، فاخر اللباس، أحور العينين. ذكر علمه والثناء عليه قال محمد بن حارث في تاريخ الأفارقة، وغيره من كتبه. كان أبو طالب لقناً فطناً. جيّد النظر. يتكلم في الفقه، فيحسن. حريصاً على المناظرة، فيجمع في مجلسه المختلفين في الفقه. ويغري بينهم لتظهر الفائدة، ويفهم عند نفسه، وربما يأمرهم. فإذا تكلم أجاد وأبان، حتى يود السامع ألا يسكت. إلا أنه كان إذا أخذ القلم، لم يبلغ حيث يبلغ لسانه. قال غيره: لم يكن شيء أحب لابن طالب من المذاكرة في العلم. قال ابن اللباد: ما رأيت بعيني أفقه من ابن طالب. إلا يحيى بن عمر. قال أبو العرب: وكان عدلاً في قضائه. صارماً في جميع أمره. فقيهاً، ثقة، عالماً بما اختُلف فيه. وفي الذّبّ عن مذهب مالك. ورعا في حكمه. قليل الهيبة في الحق، للسلطان. وما سمعت العلم قط أطيب ولا أحلى منه، من ابن طالب. وما أخذت عليه خطأ، إلا مسألة، اختلف فيها ابن القاسم وأشهب. فأتى بقوليهما. ولكن قلب قول كل واحد الى الآخر. وكان كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. رقيق القلب، كثير الدموع. ولابن طالب من التأليف كتاب في الرد على من خالف مالكاً. وثلاثة أجزاء من أماليه. وكان ابتداء طلبه فيما ذكره ابن اللباد عنه. قال: كنت يتيماً لا أب لي. وكنت آتي مع معلمي، الخميس والجمعة، وأنا إذ ذاك صغيرٌ، ذو جُمّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 فقرئ يوماً عليه، في الموطأ اسم عمر بن حسين، في كتاب الزكاة. فقال سحنون: هذا كان يشاور في القضاء، أيام مالك. ثم قرأ القارئ، فبعد قليل، قال سحنون: كيف سحبت لكم الرجل، الذي كان يشاور في القضاء، أيام مالك. فقد نسيت اسمه. فسكت الناس. فقلت له أنا من موضع: هو عمر بن حسين أصلحك الله. فقال: بارك الله عليك. أحسنت يا غلام. من هذا الغلام؟ فعرف بي. قال: أحب أن أرى عليك زين العلم. ما ينبغي أن يمنع هذا العلم من أحد، فما أتيت الموعد الآخر، إلا وقد حلق رأسي، وكسيت ثياب العلماء. فلم أزل أتردد الى سحنون، وهو يقرئني حتى نفعني الله. وله تأليف في الردّ على المخالفين من الكوفيين، وعلى الشافعي. ذكر ولايته القضاء وشيء من سيرته ولي ابن طالب، القضاء بالقيروان، مرتين، لما عزل سليمان، أول مرة ولي هو، ولاه ابراهيم بن الأغلب. وعظم قدره. وجعل إليه النظر في تركة جدته. فطلب ابن طالب، سليمان. فاستخفى عنه. فلما رأى ابراهيم ميل نفوس الناس الى ابن طالب، ومحبتهم له، لعدله وسماحته وعقله، وحسن سيرته، وعلمه، واستبشارهم بأيامه، لرخص السعر، وارتفاع الوباء، أيامه به، غار ابراهيم به، وخشيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 على ملكه. لكونه ابن عمه. فرأى إماتة اسمه، وعزله. ورد سليمان بن عمران. فلما شاخ سليمان بن عمران، عزله، وولي مكانه ثانية. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن الأغلب، أكره الناس في ابن طالب. وكان قد أساء إليه، أيام قضائه، الأول. وإمارة أخيه ابراهيم المعروف بأبي الغرانيق. فلما ولي ابراهيم بعده، هم به. وكان الحضرمي، وبلاغ مولى ابراهيم خاصين به، ولهما بابن طالب عناية. فكانا يكفّانه عنه. فلما شاخ سليمان بن عمران، واضطر ابراهيم، الى قاضٍ غيره، جمع وجوه القيروان، وشاورهم فيمن يوليه. فطرحوا الاختيار إليه، وغلبته الشهوة في محمد بن عبدون، وأمر له بمركب فأمر بأن يخرج ابن عبدون عليه، الى أن دخل أحمد بن أبي سليمان، فسأله الأمير، فقال: أرى أن نولي العدل الرضيّ المستحق للقضاء. فقال: من هو؟ قال: ابن طالب. فاستوى جالساً، وقد كان ابن غافق أشار بمثله، قبله. وقال: ما أرى لها إلا ابن طالب. فقال له: ابن أبي سليمان: إن الصلاة عمود الدين. فلما استحق عند الأمير أن يقدم عليها، كان بما هو أقل منها أولى. فقال ابراهيم: يُرَد الفرس. وأذن لابن أبي سليمان في الانصراف، ووجه لابن طالب، فولاه القضاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 قال لي ابن طالب: كنت نائماً قائلة، حتى انتبهت من نومي، فأنكرت ذلك، وعلمت أنه لأمر حدث. فقيل لي: رسول الحاجب بالباب. فخرجت إليه في ثوب البيت. فقال لي الحاجب: الأمير يدعوك الساعة. فقلت: أدخل، وأخذ ثيابي على نفسي. فقال لا. فساءني، ودعوت بثيابي فلبستها. وسرت حتى وصلت الى ابراهيم بن أحمد الأمير. فوجدته وبين يديه السيف مسلولاً. فسلمت، فردّ علي فسكن روعي، لرده. ثم قال لي: احتجت في يومي الى ابن طاهر، ما أوفاه من أمرك شيئاً. وقد عزمت على توليتك القضاء، فأبيت. فمد يده الى السيف، وقال: إن شئت القضاء. وإن شئت هذا. فقلت تأذن لي في صلاة ركعتين أدعو وأستخير. قال: أفعل. فصليتهما، واجتهدت في الدعاء والخيرة. فلما سلمت، قال لي: ما ظهر لك. قلت أبقى الله الأمير، إن ولاني علي ما لا ينفذ عليه القضاء، ليست بولاية. فقال: عل مفرق رأسي. فقلت له: أبقى الله الأمير، تقدمت الإيمان، فآذن في الانصراف، حتى أنظر فيها، ثم أعود الساعة. قال: أفعل. وكان ابن طالب، قد حلف بجميع الإيمان قبل هذا، ألا يلي قضاء أبداً. فخرج ابن طالب، فخالع زوجته، وباع عبيده، وتصدّق بأمواله، وأخرجها من ملكه. ثم رجع فقبل. وكتب له عهده، وأمر له بكسوة، ووصله وحمله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 قال ابن طالب: وكنت لما دخلت إليه في المرتين، ما رفع إلي أحد رأساً. فلما وليت، وخرجت، فوجدت أهل الأرض وقوفاً ينتظروني على الباب. فعلمت هوى الناس للدنيا. قال ابن حارث: وكان ابن طالب، إذا وقف للحكم بين الخصمين، كتب للمطلوب القصة، التي شهد عليه بها. ثم قال له: اذهب، وطف بها على كل من عنده علم، وجئني بالأجوبة، فيها. قال ابن أبي خالد: كان ابن طالب عدلاً في قضائه، ورعاً في أحكامه، كثير المشاورة، لأهل العلم من أهل مذهبه وغيرهم. وذكر أبو عمرو الداني في كتابه: أن ابن طالب، أيام قضائه، أمر ابن برغوث المقرئ، بجامع القيروان ألا يقرأ الناس إلا بحرف نافع. وقال صاحب المغرب في أخبار المغرب: إن في أيام ابن طالب، قتل ابراهيم الفزاري، وكان ابراهيم، شاعراً. متفنناً في كثير من العلوم، مع استهزاء وطيش. وكان يحضر مجلس ابن طالب لمناظرة الفقه. فقيل إنه كان يزري به، ويتضحك بأمره، ونمت عنه أمور منكرة. فانتهى ذلك الى ابن طالب. فطلبه ابن طالب وحبسه. وشهد عليه أكثر من مائتين بالاستهزاء بالله. وبكتاب الله. وبأنبيائه. وبنبيّنا صلى الله عليه وسلم. قيل منهم ثلاثون عدلاً. فجلس له ابن طالب، وأحضر له العلماء، يحيى بن عمرو وغيره. وأمر بقتله فطعن بسكين في حنجرته. وصلب منكساً. ثم أنزل بعد ذلك، وأحرق بالنار. فحكى بعضهم: أنه لما رفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي، استدارت، وتحولت عن القبة. فكانت آية للجميع. فكبّر الناس. وجاء كلب فولغ في دمه. فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: لا يلغ الكلب في دم المسلم. قال بعضهم: سمعت ابن طالب عند محنته، وسجنه يقول، وهو مسجون، في سجوده، ومناجاته: اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، في حكم من أحكامي، ولا خفت فيك لومة لائم. فكانت آية للجميع. فكبّر الناس. وجاء كلب فولغ في دمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: لا يلغ الكلب في دم المسلم. قال بعضهم: سمعت ابن طالب عند محنته، وسجنه يقول، وهو مسجون، في سجوده، ومناجاته: اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، في حكم من أحكامي، ولا خفت فيك لومة لائم. ذكر جوده وكرم أخلاقه لم يكن في زمانه سلطان ولا غيره أسمح منه. يتداين بالمال الكثير، ويتصدق به، ويصل بالعشرات من الدنانير من يعرف ولا يعرف. وربما أعوز فيتصدق بلجام دابته، ومصحفه، ونعله، وشوار عياله. وربما تصدق بثياب ظهره. حدث بعض أصحابه، أنه ركب معه إثر سماء وهو على حمار مصري، فعرض له في طريقه ماء مستنقع، فأتى صبي يرعى غنماً، فأخذ بلجام حماره، فجوزه الماء. فقال للغلام: من مولاك؟ قال: فلان. فنزل ابن طالب في مسجد، ثم قال للغلام: اذهب فجئني بمولاك. فجاءه. فقال له: بكم اشتريت هذا الغلام؟ فقال: بعشرة دنانير. قال: فخذها واعتقه، وولاؤه لك. وعدها له، وكتب عتق الغلام، ثم قال لمولاه: قد وجب أن تجري له على رعايته لغنمك أجرة. فأجرى له دينارين في كل سنة. فقال ابن طالب: إلزم مولاك، ولا تقطعنا. فإنا نواسيك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وذكر أن غلاماً راعياً ناوله سوطه، وقد سقط، فوجه في مولاه، فاشتراه مع الغنم، وأعتقه ووهب الغنم له. وكان إذا رأى بعض الرجال في الشتاء، ليس عليه دثار، نزع فروه، وبعض كسوته عن جسده، وكساه. وشكا إليه رجل يتعذر بجهاز ابنة له، زوّجها. وكانت لابن طالب ابنة تخرج إليه، من عيد الى عيد. فقال لأمها: أحب أن تزيني ابنتي وتلبسيها ثيابها وحليها. ففعلت. وأخرجت إليه فرحب بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها: إن فلاناً شكا إلي كذا، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب، يجهز به ابنته، وعليّ أنا عوض ابنتي منه بما هو أكثر. فدفعتاه إليه. حكى المالكي عن محمد بن عمر أنه ولي القضاء ومعه ثمانون ألف دينار. فلم يقبل حتى تصدق بجميعها أيام قضائه. قال: وكان رجل من العراق ينال من ابن طالب، فتوفيت أم ولده، وكان مقلاً. فقال له بعض إخوانه لو قصدت ابن طالب أن يصلي على جنازتك، نلت منه خيراً. قال الرجل: كيف أقصد لمن سبق مني فيه غير جميل. فقيل له: الرجل كريم. وكان ذلك الوقت ابن طالب معزولاً عن القضاء، عزلته الأولى. فمضى الى ابن طالب، وعرّفه وسأله الصلاة. فوعده بالمجيء وقت الصلاة، ففعل. فلما كان اليوم الرابع، وجه ابن طالب إليه، فأتاه. فقال له: أكرمك الله. صرت لنا كالأخ، وأحببت أن أكلفك ببعض حوائجي، وذلك أن تشتري لي جارية نظيفة أديبة. على ما يحسن عندك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فمضى الرجل وأجهد نفسه، رجاء التقرب إليه، واشترى له جارية بنحو ثمانين ديناراً. وأتاه بها. فأعجبت ابن طالب فقال له: هي هبة مني إليك. فاتخذها، موضع أم ولدك، بارك الله لك، وأعطاه دينارين لكسوتها. قال: ولقي رجل ابن طالب في طريق، فشكا إليه الضعف، وأن له أربع بنات، عاريات. فكتب له رقعة الى رجل. فقرأها، وقال: اجلس. وطلب له أربعة أقمصة، وأربع غلائل، وأربع دهاقن، ومضى به الى البركة، فاشترى له خادماً، وغلاماً. فلما طال على الرجل، قال: يا هذا، أجب حاجتي. فقال له: فيها أعمل. وأتى به الى سوق النخاسين، فاشترى له زوج بقر، وقطعة غنم، وقال له: جميعه لك. ومرّ يوماً، بإزاء الجمال بحمولة قمح، وإذا رجل يسايره، فقال له: إن مَن هذا عنده في أمن فقره المجاعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 وفارقه. فسار ابن طالب الى داره، فإذا الحمولة له، وجهها له وكيله. فأمر ابن طالب بحملها الى دار الرجل، وقال قولوا له: قد أمنت مما كنت تجده. قال أبو الفضل: كان رجل من العراقيين يقع في ابن طالب، إرضاء لأصحابه، فولدت له امرأته، فقالت له: أنت ترى حالنا، فامض الى أصحابك الذين كنت ترضيهم، بسب ابن طالب، لعلهم يعينونا على ما نحن عليه. فسار إليهم. فلم يأت منهم بشيء. وخرج، بمصحف يرهنه عند زحدهم، فما قبله منه أحد منهم. فشتمته امرأته، وقالت له: اقصد إليه، يعني ابن طالب. فإني أرجو أنك لا تنصرف من عنده، خالياً. فمضى إليه واعتذر، وأعلمه بمقال زوجته. وقال: أتيتنا في وقت لا شيء فيه غير واسعة علينا، ولكن نعطيك ما حضر. فدفع إليه صرة كبيرة، وأخرى صغيرة. وقال له: انفق أنت هذه. وكان فيها أربعون ديناراً. وادفع الأخرى الى أهل البيت. وكانت فيها عشرة دنانير. قال ابن أبي عقبة: كان رجل كفيف من الفقراء، يمشي مع زوجته، فإذا بصقلبي أتى الى طباخ، فقال له: يقول لك القاضي خذ لنا خروفاً، من صفته كذا، واعمله في التنور، وخذ له من الزيتون والخبز، ونقل المائدة، ما يصلح، وهيئه الى أن يرجع من صلاة الجمعة. فانصرف الغلام. فقالت زوجة الكفيف: والله ما اشتهيت إلا الأكل منه. وكانت حاملاً. فقال الكفيف: أنت طالب إن تغدينا إلا منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 فلما فرغ الناس من الجمعة، سبقا القاضي الى باب الدار، حتى جاء ودخل بيتاً في سقيفة داره، يحكم فيه. وجلس معه إخوانه الذين كانوا يحضرون مائدته. قال الكفيف لزوجته: تسعمي الى وقت الطست. فقالت له: يا مدبر، ما الذي يصلك إليه؟ فقال لها: اسكتي. فلما سمعت الطست، أخبرته. فقال الكفيف: يا قاضي. قال الله تعالى: " ويؤثِرون على أنفُسهم " الآية. وقال: " إنما نُطعِمُكم لوجه الله " الآيات. فصاح القاضي وقال يا غلام: خذ هذا الخوان وامض معه به، حتى توصله الى در هذا المتكلم. ففعل. وحكي أن رجلاً من الرهادنة، بينما هو جالس في دكانه، طلعت إليه امرأة، فقالت له: بع هذا المتاع. وهو جبة وشي وطيلسان، ونعل طائفي، وقلنسوة. فأخذها وقال: هذا لا يصلح إلا بابن طالب. فمضى بهما إليه، وأخبره. وقال له استقص وادفع لها الثمن. وإذا بذلك كسوته للجمعة. جاءته المرأة، فلم يكن عنده ما يدفع لها غير ذلك. وكان يتصدق بحلى سرجه، وسيفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 قال ابن حارث: وأتاه رجل من أهل البادية، فشكا إليه الإقلال، فكتب له الى أبي ابراهيم في ضيعته، أن يدفع له خمسين قفيزاً من زيت. فلما وصل الى أبي ابراهيم بالكتاب، ضجر على الرجل وقال له إنا لم نعصر بعد، وهو يبدأ بتفريقه. ما عندي ما نعطيك. فرجع الرجل إليه، فأعلمه. فكتب إليه أن يدفع له مائة قفيز. فزاده ضجره. وقال له: اذهب بسلام. فرجع الرجل إليه، فأعلمه. فكتب إلى أبيه: ادفع إليه مائة قفيز. فوَالله لئن رجع إلي لأدفعنّ إليه غلة العام أجمع. وأكرمه رجل في طريقه، ولم يعرفه. فقال له: سل في القيروان عن دار ابن طالب. فلما وصل الرجل دفع إليه خمسة آلاف درهم، وعشر خلع. وأهدى إليه رجل من البادية خبز سلت، فدفع إليه خمسة مثاقيل، فقيل له: إنما تَسوى درهم. فقال: كلا. ولكن رجا هذا أفضالنا، فحققناه. قال أبو محمد بن سعيد بن الحداد، عن بعضهم: وصل إليّ من مال ابن طالب بآية من القرآن، نحو من سبعين ديناراً. كنت إذا رأيته داخلاً الى مجلس قضائه، قمت نحوه، فقرأت: " إنما نُطعمكم لوجه الله " الآية. فيدفع إلي الدينار، والدينارين، وما أمكنه. قال أبو القاسم المعروف بالمساجدي: شكوت يوماً الى ابن طالب الوحدة، وقلة الجدة، فاشترى لي جارية بأربعين ديناراً وحجرة قرب الجامع بعشرين ديناراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 فشكوت إليه أنه ليس فيها ماء. فحفر في زقاقها بئراً، للمسلمين. فكان يعطي قوتي، وقوت الجارية وكسوتها كل شهر. قال أحمد بن معتب: جئته يوماً أسأله لرجل معروفاً. قال: فناولني طرف كم قميصه، ثم أدخل يده لينتزعه. فقلت: سبحان الله، معاذ الله، أن أكلفك هذا. فقال لي: لا يسبق إليك أني فعلته عن ضجر، غير أني والله لا أملك في هذا الوقت ديناراً ولا درهماً، ولابد له من أخذها. ومدّ رليّ بثوبه. وقال بعضهم: أتيت ابن طالب فشكوت إليه الإقلال، فاعتذر اعتذار من عزم على ردّي. ثم دخل، وخرج، وجعل في يدي شيئاً لم أشك أنها دراهم، فلما خرجت إذا في يدي عشرة دنانير. وكان سليمان بن عمران، أراد غمطه بقضية، أيام قضائه، زادته رفعة. وذلك أنه دخل يوم فطر على الأمير، فذكر له من يخطب. فقال له الأمير: الى هذا الوقت؟ فمن؟ فقال له: ومن إلا ابن عمك وقاضيك ابن طالب؟ وأراد أن يأخذه الأمير على غير أهبة، فيفتضح رؤوس الناس، ويسقط. فأمر الأمير بإحضاره وأمره بالخطبة، فقام بخطبة مشهورة. وذكر أنه لم يروها. حسنة جداً. فزادته عند الناس رفعة، ومكانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وكان ابراهيم الأمير يقول: على بابي رجلان أحدهما يخاف الله، ولا يخافني. والثاني يخافني، ولا يخاف الله. فأما الذي يخاف الله ولا يخافني، فهو ابن طالب. والثاني فلان. فذلك عظيم الحرمة عندي. وهذا الذي يخافني، صغير عندي. قال بعضهم: ذكرت ذلك لابن طالب، فقال: صدق. قال القصري: كان ابن طالب، يذكر تنازع أصحابنا في المسائل، فربما ذكر في المسألة خمسة أقوال، أو ستة. ثم تسيل دموعه، ويضع خده على الأرض، ويقول: يا فتى: أردت أن يقال فقيه. فهل معك عمل صالح، تنجو به من عذاب الله، وإلا فما يغني هذا عنك. وما رأيت أكثر دموعاً عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وكان مع ذلك يقول أعجبتني نفسي، فأقول: يا ابن طالب هبك أعظم الناس قدراً، وأكثرهم علماً، أليس يشفع وراء ذلك كله الموت؟ ومن كرم أخلاقه، ما حدث به محمد بن محمبوب. قال: كنا عنده يوماً، فخاطبه بعض أهل مجلسه بخطاب خشن، لم يخاطب مثله بمثله. فنظر بعضهم الى بعض، وتمادى ابن طالب في مكالمته كأنه ما سمع مكروهاً. فلما قام الرجل، قال لنا ابن طالب: رأيت نظر بعضكم الى بعض، وقلت في نفسي: رجل قصدني، يؤدي الذي يجب من حقي، هنا عليّ، أصول عليه بسلطاني؟ هذا من اللؤم. وكانت لصاحبه عبد الرحمن بن عمران المعروف بابن الورنة، ابنة. خاصمها زوجها الى ابن طالب، في أمر يجب فيه بينهما اللعان. فماطلهما ما أمكنه. ثم ألح الزوج عليه، حتى حكم باللعان، وتلاعنا، وتفرقا. وكان عبد الرحمن كثير الزيارة له من أجل العلم، والمناظرة. فقال ابن طالب لأصحابه، المتكلمين عنده في العلم: إذا حضر عبد الرحمن فلا يذكر أحد مسألة في باب اللعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 ومات سليمان بن عمران، في أيامه، فتندم، فصلى عليه. فيقال إن ابن طالب ما زاد في صلاته عليه أن قال: " ربّنا وسِعْتَ كل شيء رحمةً وعِلماً " الآية. وقال ابن اللباد: جاء رسول الأمير ابراهيم، الى ابن اللباد، فلقيه خارجاً من المسجد. فقال له: يأمرك الأمير أن تصلي على سليمان بن عمران. فوقف متفكراً ثم قال: نفعل. قال ابن اللباد: ثم عطف ابن طالب عليّ، وقال ظلمني والله ابن عمران، وحبسني، أفترى أن صلاتي عليه، إجلالاً له؟ والله لا أفعل. ماذا أقول عليه من الدعاء. وقد ظلمني. وكان معه قرآن، وإسلام. أقول عليه: اللهم انفعه بالإسلام. أقول هذا مرة. وأقول هذا مرة. قال ابن أبي الوليد: وأتيت ابن طالب تلك العشية. فقال لي: مات ابن عمران. لقد بلغني أنه كان يقول: إني لا أحب أن أموت في عزي، ونحو هذا الكلام، على النكير منه عليه. إنما العز لمن كان معه القرآن والعلم. هذا العزيز. وأما من كان معه عز السلطان، فليس بعزيز في داره. فكان يجهر بالقراءة بترتيل. وكذلك التسبيح حتى يسمعه من يليه في الصف الآخر. وصلى على جنازة بعض أصحابه، فأطال عليهم القيام، جداً مجتهداً في الدعاء، حتى ملّ الناس من طول قيامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 فكُلِّم في ذلك. فقال: كان لي صديقاً، فأردت أن أخلص له في الدعاء، وأجتهد له. لأنه رُوي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فعل مثله فاقتديت به. وكان ابن الأغلب، قد فوض إليه النظر في الولاة والجباة، والعدل والولاية، وقطع المناكير. ومن سيرة ابن طالب فيما حكاه عنه أبو بكر المالكي: أنه جعل على أكتاف اليهود والنصارى، رقاعاً بيضاً. فيها: صور قرد وخنزير. وعلى أبواب دورهم ألواح مسمرة، فيها صورة قرد. وضيق على أهل القيروان في الملاهي. قال بعضهم: كنت أنظر الى أبي العباس بن طالب، إذا تفرغ من القضاء بين الناس، قدم فوقف وحول وجهه الى القبلة، ثم بسط كفيه، فنظرت الى دموعه وهي تجري على خديه، ولحيته، وهو يقول: اللهم إن كان مني زلة أو هفوة أو أصغيت بأذني، الى خصم دون خصم، أو مالت نفسي الى خصم دون خصم، فأسألك أن تغفر لي ذلك، ولا تؤاخذني، ولا تنتقم مني. إنك على كل شيء قدير. ثم يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، وينصرف. هكذا يعمل في كل مجلس. وكان يكتب على أحكامه: حكمت بقول ابن القاسم. حكمت بقول أشهب. ويقول: في البلد علماء وفقهاء، أذهب إليهم، فما أنكروا عليك، فارجع إلي. وكان يكتب القضية ويقول لصاحبها: أرها لكل من له علم بالقيروان. ثم ارجع إلي بما يقولون لك لأن يسألني الله عمن وقفت، أيسر علي من أن يسألني لم جسرت. قال ابن الحداد: كنت عند ابن طالب، فشهد عنده أبو العدل في شهادة، في عقد بدين، على رجل. فقال المشهود عليه: سله هل قبض منه شيئاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 فقال: نعم، قبض منه كذا. قال: فكيف شهدت علي بجميعه. فقال لي: ما تقول فيها؟ قلت لا يضره. لأنه لم يقصد الزور. فقال كأن يشهد بجميعه، ثم يقول: قبض. فقال ابن طالب لا أريد شهادة أبي العدل، وكان مبرزاً. قال يحيى بن عمر: حضرت ابن طالب وقد أمر بضرب رجل بالدرة. فقال: اضرب في الرأس، فإن أبا بكر رضي الله عنه قال: إنما يسكن إبليس في الرأس. وقد روى البرزي، عن أشهب نحوه. قال: ولا يفضح أحد في الأدب، وكتب ابن طالب الى خلف بن يزيد قاضي طرابلس وغيره، من قضاة عمله، في شأن إسقاط الشروط بين الزوجين، وإبطالها. وأن لا يزوّج المرأة إلا على دينه، وأمانته. وعلى قول الله تعالى: " فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان ". ونهى أصحاب الوثائق، والشهود، وعامة الناس، أن لا يحضروا نكاحاً، فيه شيء من الشروط. ولا يكتبوها، ولا يشهدوا فيها، وأمرهم بمعاقبة من خالف ذلك، وسجنه. وحكى ابن طالب في بعض كتبه، عن مالك رحمه الله: أنه سئل عن بعض هذه الشروط الغليظة. فقال أرى أن يفرق السلطان بينهما. فإنها شروط لا يوفق عليها. وأن سحنون كان يهتم لها. ويتلهف على العاقدين والشاهدين. ويوقع بهم العقوبة الناهكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 وذكر ذلك عن غيره. وقال من عيبها. ترك من مضى عليه السلف وتزويجهم المرء على دينه. وأن الرجل ليس يدخل مع أهله، مع غليظ هذه الشروط، إلا وقد جازها لقلة التحفظ لحقائقها. محنته ووفاته كان رحمه الله، قد امتحن عند العَزلة الأولى، في ولاية سليمان بن عمران. وكانت محنته الثانية، الكبرى: في ولايته الثانية. بعد موت سليمان في ولاية ابن عبدون. وكان السبب في ذلك، أنه نظر ما شرعه ابراهيم بن الأغلب، من الفسوق والجور، والاستطالة على المسلمين. وإباحة السودان على نساء أهل بيته، حين امتنعوا من بيعها منه. وقد أتت امرأة، بفرعة ابنتها في ثوب، فألقته بين يديه، فتوجّع وقال: ما أرى هذا يؤمن بالله. أو هذا فعل الدهرية ومن لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فبلغت الكلمة ابراهيم. فحقدها عليه. ثم عزله وحبسه. وولى محمد بن عبدون. وكان عراقياً، متعصباً على المدنيين. وأمره بإحضار العلماء، وإخراج ابن طالب إليهم، وفيهم من كان بينه وبين ابن طالب منافسة، ليشهدوا عليه. وجلس لذلك في المقصورة. وجلس ابن الأغلب يقربهم، ليسمع كلامهم. وأمر القاضي بتتبع أفعاله، ومناظرته، ليفضحه على رؤوس الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 فكان من جملة ما سألوا ابن طالب أن قالوا له: دفعت من وصية فلان الى فلان العباسي مائة دينار. ولغيره الدينار، وأقل. وهو عندك ممن لا تحل له الصدقة. فإنه من بني هاشم. فقصّر في الأجوبة. ورد الى السجن. فيحكى أن الشرط دفعوه. فكان يقول: يا فتيان، اذكروا النار. وقال ابراهيم لابن عبدون: أحضره يوماً آخر، وأحضر جماعة الفقهاء، حتى يتبين خطؤه. فأنكل فيه. وكان ابن الأغلب قد أحضر سعيد بن الحداد، قبل، ليكون منه في ابن طالب ما كان من غيره. فأعان ابن الحداد ابن طالب، ووفى له. ودعا ابن الحداد ابنه. وقال له: تذهب الى ابن طالب، فقد علمت كيف كان برّه بنا. وقد صار ما صار إليه، وذهب عقله وفهمه لعظيم محنته. وإنما يعد الأخوان لمثل هذا. فكتب جميع أجوبة المسائل، التي سألوه عنها. وأمره أن يحتج بها، إذا سألوه، وقال له في مسألة العباسي: إنما حرمت الصدقات عليهم، إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى، وأما الآن، فالصدقة عليهم حلال لحاجتهم. وقال لابنه: إحذر أن يشعر بك أحد. وقل له: يقرأها في خلوته. وجِئني بها، حتى يطمئن قلبي. فحملها إليه، وجعل ابن طالب يختلف الى المستراح، حتى وقف عليها وحفظ معانيها. وتذكّر ما أغفل عنه، لعظيم محنته، وردها. فلما كان اليوم الموعود، وأحضر، وسئل: أجاب عن كل ما عجز عنه في الجمعة الأولى. فاغتم لذلك ابراهيم، ورده الى السجون، وعوّل على قتله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 فيقال دبّر إليه من سقاه سماً. وقيل أحال عليه أسودَين ركضا بطنه، حتى مات. وقيل: إنهم لما ركضوا في بطنه، ألقى دماً عظيماً من أسفله. ثم أخرجه من السجن، ووجه إليه فرساً، ودواء. فأقامه في داره، ودموعه تسيل، ونفسه تتصاعد، حتى مات رحمه الله. حكى ابن اللباد أنه كان يقول في قضائه: اللهم لا تمتني، وأنا قاض. فمات بعد عزله، بنحو شهر. قال ابن حارث: كان لما أمر ابن الأغلب قاضيه ابن عبدون، بإحضار ابن طالب، وأن يتبع أفعاله ويناظره، حتى يفضحه بحضرة الناس. ففعل، وجلس لذلك في المقصورة. وجلس ابن الأغلب بمكان يسمع منه. وأمر بإحضار ابن طالب، فأحضر. وأشار إليه ابن عبدون وتم القضاء. فقال ابن طالب: أنا أعرف بحقه منك. فكيف لا أوقره. فقال له: فمن توقيره أن تجلس بين يديّ، متكئاً؟ فكان من قول ابن عبدون: أخبرني عن فعلك، في الأثلاث؟ من أجاز لك أن تفعل فيها ما فعلت؟ فقال ابن طالب: وما الأثلاث؟ فخجل. فقال له ابن طالب: لعلك تريد الوصايا؟ قال: نعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 قال: فإنها لا تسمى أثلاثاً، لأن الرجل يوصي بالثلث والربع ولا يذكر جزءاً فما أنكرت من فعلي فيها؟ قال: تعطي منها عطاء كصيراً، للواحد، فتعينه. فقال له ابن طالب: قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم. قال له: وفعله عمر. فقال له ابن عبدون: وإنما تشبه أفعالك بفعل عمر. فقال له ابن طالب: فإذا بالنبي لا يُهتدى وبعمر لا يُقتدى وبالأمير لا يُؤتمر فبمن إذن يا هذا؟ فقال ابراهيم: رجونا بابن عبدون أن يفضح ابن طالب. ففضحه ابن طالب. قال حمديس القطان: كان الأمير ابراهيم بن الأغلب، قد بعث إليّ والى سهل بن عبد الله القبرياني، وعبد الجبار بن خالد، وجماعة من أصحابنا، وجماعة من أهل العراق، لهذا المجلس، دخلنا المسجد، فكنت قاعداً الى حائط المقصورة فخرج إلينا، رسوله يقول: ما تقولون في ابن طالب: فتكلم فيه قوم، بينه وبينهم شيء. وأوقعوا فيه شهادات منكرة. سمعت الأمير من خلف الحائط ينكر عليهم قولهم، يقول: ولا هذا كله، ولا هذا كله. وتحزى قومٌ الكلام، مثل حمديس، ويحيى بن عمر، وأثنى عليه آخرون مثل سعيد بن الحداد، وقاسم ابن أبي المنهال. قال حمديس: ولقد أحضرني ابراهيم، عند عزل ابن طالب من قضائه الأول، وأحضر إسحاق ابن ابراهيم بن عبدوس، وأحمد بن أبي المنهال، وأحضر ابن طالب، والقاضي سليمان بن عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وقد أحضر سليمان يوماً للشهادة على ابن طالب. فمنهم ابن عبدون وغيره. فجعل ابراهيم يسأل ابن طالب، فيحتج ابن طالب. فرد الأمير حجته. ويتكلم سليمان بن عمران، بما لا تقوم به حجة، على ابن طالب. فجعلها الأمير، له حجة. فلما رأى ذلك ابن طالب، سكت. قال حمديس: فرأيت أن السكوت لا يسعني، وقلت: إنما أحضرنا للكلام، فقلت بإذن الأمير مرة، وأخرى، فلم يجبني. ثم قلت: أقول الثالثة. فإن لم يجب فهي حجة لي عند الله. فحوّل إليّ وجهه، وقال: هات كلامك. وكان الأمير يطلبه بأمر التركة، التي تولاها ابن طالب، وفرق ثلثها بتفويض الأمير، فقال له: ضمنتك جميع التركة. فقلت للأمير: خذ ما تحب. فقال لي: وما نحب. قلت: قال الله تعالى: " مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً ". فلو أوصى الميت ألا يدفع ما أوجب الى وريثه، لم يكن له ذلك في سنة المسلمين. فقال ابراهيم: أمرتُه أن لا يدفع الى الورثة شيئاً. فقلت: أمر الله فوق أمر الأمير. فقام إليّ بلاغ الخادم، مغضباً ليهم بي، فكلمه الأمير بالصقلبية فانكف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وقلت: ليس لك عليه سبيل إلا في الثلث الذي فرضت إليه. فإن كان أنفذه في وجوهه، فلا سبيل لك عليه. وطال المجلس، وأخذ الأمير ضامناً على ابن طالب، ويخلى. فخرج ابن عمران القاضي الى الوزراء، فشكاني، وقال: هذا نقض أحكامي. فرد الأمير فيه إليه. فرده الى السجن. ثم عفا عنه. وكان في سجنه في القصة الأخيرة، بلغه أن ابراهيم هم فيه بأمر. فحكى أنه فرغ الى الدعاء. فكان من دعائه ومناجاته: اللهم إن كنت علمت مني أنه إذا جلس الخصمان بين يدي، فكان في أحدهما رضاك، وفي الأخرى رضا ابراهيم، إني أؤثر رضاك. فاعصمني منه. وإن علمت أني أؤثر رضاه، على رضاك. فسلطه علي. فكفاه الله ما هم به ابراهيم من تلك القصة. وقيل إن ابراهيم تبرأ في تلك المطالبة بأمر فأوجع قلبه. فقال: اللهم إنه رماني بذنب، لم أرتكبه. اللهم لا تمته حتى تشهّر به. فأجيبت دعوته، وانكشف ابراهيم. قال المؤلف رحمه الله تعالى وقد وقت في كتاب تاريخ قضاة إفريقية، على نسخ السجل الذي عزله به، وثبت فيه مثالبه ومذاهبه، التي أجلبها عليه. وفيه رميُه بهذه الكبيرة المذكورة. أنصفه الله منه. وكانت وفاة ابن طالب بعد عزله، بنحو شهر. سنة خمس وسبعين ومائتين. وهو ابن ثمان وخمسين سنة. مولدة سنة سبع عشرة، ومائتين. ورثاه أحمد بن أبي سليمان بقصيدة طويلة أولها: تهولت الدنيا لموت ابن طالب ... وأظلمت الآفاق من كل جانب أمام هدى حلت بنا فيه نكبة ... من الدهر عظماً أصبحت بالعجائب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 لقاضي القضاة المرتضى في أموره ... غدا اليوم أهل الدين أهل المصائب فمن بعده يرعى بنا الحق رعيه ... ويظهره إظهاره بالمغارب لقد كان سيف المالكين ومن له ... يصال به ضرباً على كل جانب وقد ذهب المأمور بالدين والتقى ... ومن كان يرجى للندا والمواهب قال أحمد بن محمد القصري: رأيت ابن طالب في النوم بعد قتله. فسألته. فقال: وحق الله، لقد دخلت الجنة. قلت: كيف كانت منيتك؟ فقال: سقاني شربة. سقاه الله من صديد أهل النار. عيسى بن مسكين بن منصور ابن جريج، بن محمد الإفريقي. رحمه الله تعالى. من العجم أصله. وينسب الى قريش، من أهل الساحل. قال أبو العرب: سمع من سحنون، وابنه جميع كتبه. وسمع بالمغرب من غيره. وسمع بالشام من أبي جعفر الإيلي. وسمع بمصر من الحارث بن مسكين، وأبي الطاهر، والربيع. ومحمد بن المواز، ومحمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 بن عبد الله بن عبد الحكم، والبرقي، ومحمد بن سحنون، ويونس الصدفي. وسمع من علي بن عبد العزيز، وغيرهم. سمع منه الناس: أحمد بن محمد بن تميم. وأبو الحسن الكانشي، وأبو مروان الحجام، ومحمد بن يونس السدري، وعلي بن حماد، وليث بن محمد وغيرهم. رضي الله تعالى عنهم. ذكر فضائله رحمه الله تعالى قال أبو دحيم: كان من أهل الفقه، والورع وكان مهيباً، وقوراً. قال أبو العرب: كان ثقة مأموناً، صالحاً. ذا سمت وخشوع. كثير الكتب في الفقه، والآثار. صحيحها. وكان يشبه سحنون في هيبته. وكان مهيباً. قال غيره: كان رجلاً صالحاً. فاضلاً، طويل الصمت، دائم الحمد. رقيق القلب. غزير الدمعة. كثير الإشفاق. متفنّناً، في كل العلوم: الحديث والفقه وأسماء الرجال. وكُناهم. وقويّهم وضعيفهم. فصيحاً، يجيد الشعر، قال أبو بكر المالكي: كان اعتماد ابن مسكين على سحنون، وبه كان يقتدى في كل أموره، من شمائله وزهده، ومحاسنه، ومباينته لأهل البدع، حسن المودة بيّن المروءة. قال أبو علي البصري: لو أفردنا كتاباً، في ذكر مناقبه ومحاسنه، وزهده وورعه، وعدله، ما انتهينا الى وصفه. وكان مع ذلك عالماً باللغة. قائلاً للشعر. قال ابن حارث: كان ابن مسكين من أهل الفضل البارع، والورع الصحيح، والصمت الطويل. يقال إنه كان مستجاب الدعوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وقال ابن الجزار: كان محله من الزهد والورع والسكينة، والوقار والخوف من ربه، والعدل في حكمه، والتوبة في لفظه، ولحظه، على حالة يقصر عنها وصف البليغ. وكان مع ذلك فقيهاً عالماً، فصيحاً. قال أبو الحسن الكانشي: أدخلني عيسى بن مسكين الى بيت مملوءة بالكتب، ثم قال: كلها رواية. وما فيها كلمة غريبة إلا وأنا أحفظ لها شاهداً، من قول العرب. وقال بعضهم لقد جلست الى كثير من أهل العلم، فما رأيت أحداً مثله. وما أشبّهه إلا بمن كان قبله من التابعين. وكان إذا حضر مجلس محمد بن سحنون أمره محمد بأن يؤذن، ويقيم ويصلي. فإذا استفتي محمد. قال افته يا أبا موسى. ونظر إليه محمد بن سحنون يوماً، فقال: يا أهل الساحل. هذا أفضلكم، وخيركم، وإمامكم. وكان إذا تفاخر أهل المدينة، وأهل العراق برجالهم. فقيل لأهل العراق: وعندكم مثل عيسى بن مسكين؟ يعجمون ويقولون: ذلك أفضلكم وأفضلنا. ذكر ولايته القضاء وسيرته قال ابن مسكين: لما مات سحنون اغتممت لموته. فرأيته في نومي، كأنه خلع من عنقه شيئاً، كان متقلداً به، فقلدني إياه. فقلت: كان سحنون رجلاً صالحاً. والله لأقفون أثره. وتأولته العلم. فبعد أربعين سنة خرجت رؤياي. فابتليت بالقضاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 قال عيسى: بينما أنا في الدار يوم الجمعة برقادة - يعني وهو قاضي - إذا برجل يحرك عليّ الباب. ففتحت له، فسلم عليّ. ثم جلس. فقال لي: كيف حالك. فقلت ما سؤال على من صار حاله الى ما ترى؟ قال: إنما هي تسعة. وقلت: هذا - يعني الأمير - قال: هذا يخرج. وهذا يمر. فقلت: أين. قال يركب البحر. ثم خرج. فقلت تسعة أيام. فمضت تسعة أشهر. فأقمت تسع سنين. فقال: إنه الخضر عليه السلام. قال ابن حارث: كان ابراهيم بن أحمد بن الأغلب. قد أحضر يحيى بن عمر، الى ولاية القضاء. فقال له: إن دللتك على من هو أفضل مني، في الوجه الذي تحب. تعافيني؟ قال له: نعم. فدلّه على ابن مسكين. فأرسل فيه ابراهيم بن حماد، الى كورة الساحل. وأوصله الى نفسه. وعرض عليه القضاء فنفر منه. قال تميم بن خير إنه لما شاور العلماء ابراهيم، فيمن يلي القضاء، اختلفوا عليه. فذكر له عيسى، فقال أحمد بن ناجي: والله، أيها الأمير، صاحبنا عند سحنون. جمع الله فيه خلال الخير، بأسرها. فوجه فيه الى الساحل. فأتي به. وفي المجلس حمديس وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 فقال له ابراهيم: أدتري لمَ بعثت إليك؟ فقال: لا. قال: لأشاورك في رجل قد جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء. وألمّ به شعث هذه الأمة فأمتنع؟ قال: ألزمه أن يلبي. قال: تمنّع. قال يُجبر على ذلك. قال: أمتنع؟ قال: يُجلد. قال: قم. فأنت هو. قال: ما أنا بالذي وصفت. وتمنع. فأخذ الأمير بمجامع ثيابه، وقرب السيف من نحره. فتقدم إليه عيسى بنحره. قال حمديس: فقمت من مكاني، كيلا يصيبني من دمه. فلم يزل به، حتى ولي. قال ابن أبي سعيد: ولاه القضاء ابراهيم بن أحمد، بعد إجماع الناس عليه، على اختلاف مذاهبهم، وامتناعه. فخوّفه ابراهيم، وحلف له بغليظ الإيمان لئن لم تلِ لأقتلنّك. فولي، وأسكنه رقادة. فكان لا يتصرف، ولا يخرج الى المسجد. وقيل إن ابراهيم قال: والله لأولين عليكم من لا تختلفون في فضله وزهده، وعلمه وورعه. فوجه فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 قال غيره: وقيل: إن الأمير ابراهيم، قال له: إن لم تلِ لأولينّ ابن عبدون، يظهر البدعة، ويهين، السنة. وقيل إن ابن الأغلب لما وجه فيه، استخشن الرسول زيه. فلما أتى به ابن الأغلب، قال له: إنه لا يصلح للقضاء. لثقل روحه، وزيه. قال له: أرنيه، قبل وصوله إليّ. فأدخله من حيث يراه، وعليه جبة صوف، وعمامة صوف. فلما وصل إليه، قال له ابن الأغلب: قد اتفق الناس عليك. فقال: اتق الله ولا تول مثلي على هذا البلد. فقال اذهب ولا ترجع الى منزلك إلا بإذني، وجمع العلماء والشيوخ الذين أشاروا به. فقال لهم: أشرتم علي بشيخ في زي جَمال. فقالوا إن أردت أن تقوم لك الحجة عند الله، فوله. فلم يرَ مثله. فأحضره وخوفه وذكر نحواً مما تقدم. فلما رأى منه ما رأى، أي ما لا قدرة له عليه. أراد أن يشدد عليه في الشرط. قال اشترط ما أحببت. قال أستعفيك في كل شهر، قال نعم. قال: أكتبه. ففعل. وأحملك وبني عمك، وجندك وفقهاء المسلمين وأغنيائهم في درجة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 قال: أكتب. ففعل. قال ولا توجه ورائي، ولا أعزّي، ولا أهنّي، ولا أشيّع، ولا ألتقي. فمتى لم توفِ لي بشرط، عزلت نفسي. قال: نعم. وعرض عليه الصلة، والكسوة فامتنع. قال ابن حارث: وقال عيسى بن مسكين لابن الأغلب: أنا رجل طويل الصمت، قليل الكلام، غير نشيط في أموري، ولا أعرف أهل البلد، فقال له الأمير: عندي مولى نشيط، قد تدرب في الأحكام، أنا أضمه إليك يكون كاتباً. يصدر عنك الأمور في القول في جميع الأمور، فما رضيت من قوله، أمضيت. وما سخطت رددت، فضم إليه عبد الله بن مفرج المعروف بابن البناء. قال المخبر: فكثيراً ما كنت آتي مجلسه، وهو صامت لا ينطق، وابن البناء يقضي. قال: فلقد دخلت يوماً على الأمير، فقال لي: بلغني أنك تخاطب الخصوم، وتفصل، وعيسى ساكت. ما أرى إلا أنه لم يقبل القضاء. قلت: قد قبل. إلا أني أكفيه. قال: أمضِ، ولا تعلم أحداً بما جرى بيني وبينك. فإذا حضر الخصمان فافصل بينهما، بغير مذهبه. فقلت ما قلت لهما. فأمرني عيسى بصرفهما. فقال لي: أفصل بينهما ولا يعاد إليّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 مثل ما فعلت قبل. فأمرهما قراراً بين يديه. وفصل بينهما، بمذهبه. فأخبرت بذلك الأمير. فحمد الله تعالى. وسجد شكراً لله تعالى. قال الخراط: وكان له كاتب آخر يقال له ابن زرياب. يتولى الديوان. فغاب يوماً عن المجلس، واحتيج الى النظر في الديوان، ولم يدر ابن البناء ما يعمل فيه، الى أن ارتفع النهار. وتفرق أصحاب القضية. فجاء ابن زرياب، فنظر في الديوان، فأخرج القضية، ثم اعتذر عن تأخره، بحضوره نكاحاً، عند أبي القاسم بن محمد بن عبدوس. وذكر ما لابن عبدوس عليه من الحق. وأنه لم يمكنه إلا الحضور. فقال له عيسى: ما ظننا بك إلا عذراً من مرض، أوهم في ذلك، وإذا أنت في هذا. فأخذوا بيده الى السجن. فلما استقر في السجن وجه وراءه، وقال له: أنت في إجازة المسلمين، تعطل ما استؤجرت فيه، وتشتغل بحضور الملاكات. لا تعد وارجع الى مكانك. وذكر أنه كان يقوم في الليل، يتذكر قصص المتخاصمين عنده، واحداً واحداً، ويسأل الله تعالى أن يحمله فيها على السداد. ومرّ يوماً على السجن فأسمعه بعض من سجنه ما يكره، فكلمه في ذلك بعض من حضر، وقال من يصبر على هذا. قال عيسى: من أين كلمني؟ قال من السجن. فقال لهم فليس عليّ أكثر من هذا. أخذنا كسوته ونمنعه من البكاء. ونحو هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وخرج عنده بعض العرافين شُهد عليه أنه يشرب النبيذ. قال له عيسى: كشفت عنه فأصبته يدين بتحليله. ولا يجمع عليه الجموع. وأثبت شهادته. ودخل على عيسى بن مسكين رجل، من أشراف الناس، يتولى الأمانة للقضاة. وكان عيسى يجلّه. فأقبل عيسى يسأله عما قبله. فإذا بصائح يقول: يا قاضي. خصمي داخل عندك. وأنا خارج. ثم صاح ثانية، وثالثة. فلم يرَ عيسى غيري. فأمر بإدخاله. وسأله من خصمك؟ فقال: هذا؟ يعني الأمين. فقال: هل دارت بينك وبينه مخاصمة، قبل هذا. قال: لا. وأمر بالرجل الى الحبس، وقال: لما دخل علينا أمينُنا ومن يعيننا على الحق، أردت أن تؤذيه وتمرته. فقال عندي منافع مال من السجن تأتي بها. فلما استقر في السجن، أمر بإخراجه، وإحضار منافعه. قال: وبينما عيسى يوماً بجامع رقادة، إذ سمع صياح قوم. بالله. ثم به. فقال لمن حوله: أنظروا من هؤلاء؟ قالوا: نهب تونس، فأمر بإمساكهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 فشكاه الذي نهبهم الى الأمير، ابراهيم. فأرسل إليه في إطلاقهم. فقال لكاتبه: أكتب إليه: " ويا قومِ ما لي أدعوكُم الى النجاة وتدعونني الى النار " الى قوله: " بصيرٌ بالعباد ". فلما قرأها، قال: هذا رجل يحاربنا بالله، لا حاجة لنا بهم. أتركوهم. ووجه ابن الأغلب يوماً وراء ابن البناء. فغلط الرسول. فدعا عيسى، وذلك بعد مجيء الأمير ابراهيم، من سفرة، لم يشيعه فيها، عيسى، ولا لقيه إذ جاء. فلما أتى الرسول الى عيسى. أقبل فوجد ابراهيم في بستان. فلما رآه ابراهيم قال له ابتداءً، والله ما وجهت إليك. ولا أردت إلا ابن البناء. فانصرف عيسى من مكانه ذلك. ولم يصل الى الأمير ولا سلم عليه. فقال ابراهيم: يا قوم: أرأيتم مثل هذا القاضي. غبت فما شيع، ورجعت فما تلقى، ولا هنأ. بعثت وراء غيره. فغلط به الرسول. فاعتذرت له. فانصرف بعد أن رآني بغير تسليم، ردوه. فخرج بعد ذلك عليه ابراهيم. فقال له عيسى: الأمير أكرم من أن يعدني وعداً. ويعقد على نفسه عقداً. ثم ينقضه، فيما تقدم منه. من رفع المؤونة عني، فصارت مخالفة ما رسمه من طرح التكليف مما لا ينبغي أن أفعله ولا يجوز، وأما رجوعي بعد رؤيتي له، من غير تسليم، فرأيته جالساً في غير مجلسه للناس. فلو تركني. لسلمت. فلما بادرني بالكلام، قبل السلام. ظننت كراهيته، لدخول هذا الموضع. فانصرفت مساعدة لذلك. وكان يقول للأمير ابرهيم عندما يُطنب في الثناء عليه، ويفتخر به: إنه مطيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 فقال: إن كان ما ظهر منه يشهد لباطنه فما كان في عُبّاد بني إسرائيل مثله. وإن كان رياء أو تصنعاً، فما رأينا ولا بلغنا عن أحد ملك شهوته ونفسه منه. لاسيما مع الإمكان والرياسة. وهو في الحالتين نسيج وحده. قال: ولم يأخذ ابن مسكين في مدته على القضاء أجراً. وكان لا يستعين بأحد في شيء، من أموره. وربما استُقي له الماء، فيريقه، ويستقي لنفسه. وإنما كان بل لنفسه. ودخل عليه رجل يوماً، فوجد له عجيناً في مقلى، كاد أن يحترق، وابن مسكين في الصلاة. فقلبه له الرجل. فلما أتم الصلاة أمر بصدقته، ولم يأكله. ودخل عليه رجل يستسقي، فحلف له أن لا يستقي إلا هو. فتركه حتى استقى. ثم أخذه فأراقه في الماجل. ثم استقى هو بنفسه. وإنما كان يعيش بدقيق، كان يأتيه من منزله، يخبزه بنفسه، وبقل وشيء يأتيه من البادية. فإن لم يأته شيء، انتظره. فربما بقي اليومين والثلاثة بلا طعام. وكان شديد التقشف في قضائه. ولم يكن على هذه السبيل من الانقباض، قبل قضائه. ولما عزل، عاد الى ما كان عليه، من حسن المعاشرة. وكرم المجالسة. والمؤاخاة. وسئل عن فرط انقباضه، فقال: ابتليت بجبار عنيد. خفت أن يبعث إليّ من طعامه أو يدعوني إليه. فلا آمنه إن امتنعت. فحملت نفسي على ذلك. لينقطع طمعه فيّ. وفرغ ما عنده من القوت برقادة. فبقي ثلاثة أيام، لا يطعم شيئاً. حتى لزم الفراش ضعفاً. حتى أتاه الرسول، آخر اليوم الثالث. قال: ولقد أقام برقادة تسع سنين، ما أكل تيناً - إلا مرة - اشتري له بخروبة. ولا بطيخاً - إلا مرة واحدة - صغيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 وكان عيسى لا ينزل الى القيروان. فولى مظالمها، سليمان بن سالم، وأطل له النظر في مائة دينار. ثم عزله. وولاه قضاء صقلية. وولي مكانه ابراهيم بن الخشاب، واستكتب له أبا بكر بن اللباد. فكان يجري على رأيه، ولم يكن لابن الخشاب فقه، وولى على الحسبة، أبا القاسم الطرزي، قال أبو بكر اللباد: شاهدت ابن مسكين في جنازة بعض نساء الأمير ابراهيم، جالساً في المقبرة. إذ جاء الأمير أبو العباس، فقام إليه الناس، وسلموا عليه، وعيسى جالس. ما حل حبوته. فلما نظر إليه. قال: يا قاضي: السلام عليكم ورحمة الله. فقال له: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم سار إذ جاء أبوه ابراهيم، فوقف إليه الناس، وعيسى على حاله، ما حل حبوته. فلما رآه الأمير مال إليه، فلما حاذاه، قال السلام عليك يا قاضي. فردّ عليه. ثم نزل فقدّم عيسى للصلاة عليها، وبعث الأمير به الى تونس، فرغب بعض أهلها في نزوله عنده. فأنزله في دار حسنة، فقصد الى بيت مُسوّدٍ من الدخان، بابه تحت درج، فنزل فيه فسئل عن ذلك. فقال: يأتيني رجال السلطان فيطيلون الجلوس، إذا أصابوا مكاناً حسناً. وهاهنا من أتى منهم، سلّم وانصرف. وعوفيت منهم. قال القاضي رحمه الله تعالى: ونقلته من خط ابن الحارث: سمعت بعض الشيوخ يحكي، أن رجلاً كان واقفاً على جزار فرماه رجل بشيء، فحاد عن الرمية، فسقط، فاعتل، فمات، وخاصم ورثته، الرامي الى عيسى بن مسكين. فأثبتوا عليه الرمية. فقضى لهم عيسى بالقتل، بعد القسامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 فلما ذهبوا ليحلفوا. قال لهم ابن مسكين: يحلفون بالله خمسين يميناً، لمن رميته حاد ومن حبوته سقط ومن سقطته مات. وكان ابراهيم يبتهج بكونه قاضياً له. قال له يوماً بعض خدمته لقد نصحتك نصحاً ما نصحك القضاة بمثله. فقال له ابراهيم: ولا عيسى بن مسكين. ذكر استجابته وبراهينه ذكر أنه دعا على ابن عبدوس القاضي، لما أشرف. فقال: اللهم ابله بداء القرحة. وهي قرحة تخرج في الوجه، فابتلي بها. ومات منها. وأن نصرانياً لقيه، فسلّم عليه، فصافحه، وعيسى لا يعلم. فعرف بعد ذلك. فقال اللهم إقطع يمينه، وانتقم منه. فلما كان من الليل، نزل عليه لصوص، فقاتلهم. فقطعوا يده. وحكى الكانشي عن بعض من رافق عيسى، في طريق الحج، فقال: خرجت ليلة من الرفقة، لقضاء حاجة الإنسان، ثم عدت الى الرفقة. فإذا عليها سور منعني من الوصول إليها. حتى أصبح الصباح. وضرب الطبل، فذكرت ذلك لعيسى. فقال ما أبيت ليلة حتى أدور على الرفقة، وأقول اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام. واكنفنا بكنفك الذي لا يرام. اللهم إني أستودعك ديني، ونفسي، وأهلي، وولدي، ومالي، إنك لا تخيب داعيك، يا أرحم الراحمين. قال: وبينما عيسى يقرأ عليه أصحابه، إذ أخبرهم أن أبا العباس بن الأغلب، كتب السجلات بخلق القرآن. وأمر بتفريقها على الناس وأن يحمل الناس عليها بعد ذلك، وأصحابه باتوا من أجله في غمّ. فلما أصبح، قال لهم عيسى: إن مدة هذا الرجل قد انقطعت. فأتى الخبر أنه مات في تلك الليلة. وكان عيسى بن مسكين، ربما نطق بشيء من الإنذارات، قبل وفاته. فيقال: إنه صحب أبا خارجة، صاحب مالك بن أنس رحمهما الله تعالى. فتعلّم ذلك منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 ويقال بل كان يكاتبه بذلك رجل من أهل المشرق. ويقال بل كان يجري الله تعالى ذلك على لسانه. قال بعض أصحابنا: بينما نحن نسمع عليه، إذ أتته بنته، وضمها الى صدره، وبكى. وقال: كأني بالجلاوزة يمرونها في طلب التقسيط. وفي المجلس يومئذ سهلوف؟ ومحمد بن عباس الكاتب. قال بعضهم، ممن حضر: فأتى يوماً صارخ بعد هذا، من ديوان سهلوف، وعنده ابن عباس، وهما يخدمان عبيد الله، لعنه الله تعالى. إذا بامرأة طويلة على بابه، تعرى من كسائها، وإذا هي تلك. فرجعت الى سهلوف، وابن عباس. فأخبرتهما الخبر. فذكراه. فقلت لهما: ها هي ببابك تعرى. فخرج سهلوف حافياً، وتبعها فدخل على عبيد الله. فكتب لها سجلاً، وأن تصرف الى موضعها. قال بعض أصحابه: خرج عيسى يوماً الى المنستير، فمر بجهة المهدية اليوم. فبكى. وقال: تُبنى هاهنا مدينة يكون على بانيها إثم الإنس والجن، ثم سل سيفه، ولوّح به. وقال: اللهم أشهد أني إن أدركته أجاهده. ويحكي عنه، أنه كان يجتمع مع الخضر عليه السلام. وحكى عنه عبد الله العارف: أنه كان، بل قال: اجتمعت مع الخضر عليه السلام مرتين. ودخل عليّ في بيتي. فقال لي أبشر بفرجك مما أنت فيه. ذكر رحلته وابتداء طلبه رحمه الله قال عيسى: كان أبي يختلف الى كل من قدر عليه، ممن يعرف بصلاح، يستجلب لي دعاءهم. وكان ابتداء طلبي سنة أربع وعشرين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وسمع من شيوخ إفريقية، سحنون فمن بعده. رحل الى المشرق، رحلتين لقي فيهما من ذكرناه. وكان في رحلته الأولى، لم يسمع من ابن سنجر، فرجع في الثانية بسببه. قال فلما دخلت مصر سمعت منادياً ينادي: من يحسن القراءة فليأت دار أبي عبد الله بن سنجر. يقرأ لابن الأمير مسنداً. فأعلمت المنادي بمكاني من القراءة. ورأيت ذلك فرصة. وكنت أكتب الليل كله. وأقرأ بالنهار، حتى كمل نسخه، وسماعه. فما مرّت تلك الأيام، حتى مات ابن سنجر. رحمه الله تعالى. ذكر ورعه وعبادته وزهده وتواضعه رحمه الله تعالى قال الشيرازي رحمه الله تعالى: رأيت على عيسى جبة صوف قديمة، مرقعة بخرقة، من كتابن. وهو قاضي يركب الحمار بالشند. ويعلّق الكوز من الشند، ومرض كاتبه أبو علي بن البناء الفقيه، وكان يسكن معه في دار واحدة. فطال مرضه أربعة أشهر. فلم يزره عيسى، ولا وقف على بابه، ولا سأله عن حاله، فبلغ ذلك من ابن البناء. فعتب عليه فيه، وفوض عيسى بن مسكين في ذلك، وتوجه إليه فيه، أبو سعيد بن محمد بن سحنون وغيره، وقالوا له: ابن البناء قد لحق بالمشائخ، وجعل فقهه لك لساناً، وكاتباً. وهو معك في دار واحدة، ومرض أربعة أشهر، فما وقفت عليه يوماً واحداً، ولا سألته عن حاله. فقال: اللهم المستعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 فلما ألحوا عليه، قال: إني في بلد غصب. فما كان الله ليراني أمشي فيه، واحداً في موضع لم أجبر عليه. فما رئي قط يمشي في غير طريق داره. ولا أتى المسجد إلا يوم موت أم الأمير ابراهيم، وأرسل إليه، أن يصلي عليها. فلم يجد بداً من ذلك. قال أبو العرب: حضرت بالساحل، وقد كلّف إنساناً شراء زيت، فاشترى له من نصراني زيتاً طيب الأصل، وأخبره أنه زاده فيما اشتراه عشرة أقفزة. حين علم أنه له. وذلك بعد صرفه عن القضاء. فأطرق ملياً ثم رفع رأسه إليه، فقال: شكر الله سعيه. لعلك تتم أجمالك بصرف زيته إليه، وتأتيني بديناري بعينه. وإلا فأترك الزيت له. وخذ منه ديناراً. وتصدق به. ففعل ذلك. ثم اعتذر له عيسى. لئلا يقع في نفسه شيء. وقال خفت حكم الآية قوله تعالى: " لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر " الآية. واشتهى يوماً لحماً فاشتُري له، فأعجبه. فقيل له: إنه معلوف. فأبى أن يطعمه فسئل عن ذلك. فقال: المعلوف عندنا يعيش على زيتون الناس، وزرعهم. قال السدى: أتى عيسى عشية، الى المسجد، فقمت وأخذت الحصير، لأفرشه إليه. فلم يجلس عليه، وجلس على الأرض. وكان إذا أصابه مفروشاً جلس عليه. قال بعض أصحابه: أراد عيسى أن يخرج الى بعض المواضع. فدخلت أخرج متاعه، فلم أجد غير آنيتين. أحدهما، بخلّ. والأخرى بزيت. فقال أصبب الخلّ على الزيت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 فقال: هذا أخف. حمل آنية واحدة، من حمل اثنتين. ثم نظرت الى كوة في بيته، وفيها آنية صغيرة على فمها جلد مطبوع عليه. فقال: دعها حيث وجدتها. فسألته عنها، فحاد عن الجواب، وألححت عليه. فقال: كنت عند هذا. يعني: ابراهيم الأمير. فرآني أتوجع فسألني فأخبرته أني أجد رواحاً باطنة. فقال: أعطيك دواء يقطعها. فأمرني بهذا. فاستعفيت. فقال: أعرف مذهبك. خذها وأتني بدرهم ثمنها. فانصرفت. وبعثت إليه بالدرهم، وأغناني الله سبحانه عنها. وحكى ابن دبوس حاجبه، قال: جئته يوم خميس أو جمعة. وقلت: اليوم يتفرغ فأؤنسه. فقرعت عليه الباب، ففتح منه فرداً، ووقفت. فإذا هو مؤتزر بكسائه، يغسل جبته. فقال لي: يا أخي، ما جاء بك. قلت: أردت أن أؤنسك، وأراك مشغولاً. فاتركني أستقي لك الماء، وتغسل أنت. أو تستقي وأغسل أنا. فقال: يا أخي، قعدت بلا شغل. ورد الباب. وكان ذلك كله في قضائه رحمه الله تعالى. باب في حكم من نظمه ونثره كان يقول: أشرف الغنى ترك المنى. من قاسى الأمور علم المستور. من حصّن شهوته صان قدره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 من أطلق طرفه كثر أسفه. في تقلّب الأحوال، علم جواهر الرجال. بحسن التأني تسهل المطالب. الحسن النية يصحبه التوفيق. المعاش مذلّ لأهل العلم. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك. قارب الناس في عقولهم تسلم من غوائلهم. خلّوا لهم دنياهم، يخلّون بينكم دينكم وبين آخرتكم. ومن شعره قوله: لما كبرت أتتني كل داهية ... وكل ما كان مني زايداً نقصا أصافحُ الأرض إن رُمتُ القيام وإن ... مشيت تصحبني ذات اليمين عصا ومن الشعر قوله، يرثي شبابه: أصاب الدهر مني عظم ساق ... به قد كنت مشاءً جليدا الى الفقهاء أنقلُها، وأطوي ... بها للحاجة، البلد البعيدا إذا رِجلُ الفتى يوماً أصيبت ... وطال سقامه ألف القعودا وصار لبيته حلساً وأمسى ... من الإخوان منفرداً وحيدا وأنشد له ابن أبي سعيد أيضاً: لعمري يا شبابي لو وجدتك ... بما ملكت يميني لارتجعتك ولو جعلت لي الدنيا ثوابا ... وما فيها عليك لما وهبتك فقدتُك فافتقدت لذيذ نومي ... وطيب معيشتي لما فقدتك ونحتك وانتحبت عليك دهراً ... فلم تغن النياحة حين نحتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 بقية أخباره واستعفائه من القضاء وحالته قال: ولما قدم الى القيروان، أتى على حمار عليه أكاف. فقام الناس إليه على أقدامهم. فقال: مكانكم رحمكم الله. إنما يقوم الناس لرب العالمين. ولما رأته امرأة على حمار وبردعة وستر، وحوله مشائخ القيروان، قالت: أنظروا أي قاض، وأي شكل. فسمعها. فقال لهم: والله لقد قلت لهم هذا. ومن الكتاب المعروف. ونقله أيضاً من خط القاضي أبي الوليد الباجي، قال سهل بن ابراهيم: كنا عند عيسى بن مسكين، نسمع منه. وكان يأتي في كل يوم شيخ نحوي، كان صاحباً له من عهد الصّبا، وكان عيسى لا يخرج، حتى يأكل. فجاء يوماً الى عيسى قبل خروجه. فعلم به، فدعاه. فقال الشيخ للرسول: قل له إني صائم. فقال: يقول لك تطوع أو واجب؟ فقال: بل تطوع. قال: فانهض معي. فلما رجع الشيخ، سألناه. فقال لي إن ثوابك في إدخال المسرة على أخيك المسلم بإفطارك عنده، أفضل من صيام يومك. فأفطرت معه. قلنا. فذكر لك قضاء هذا اليوم؟ قال: لا، ما ذكر لي. قال المؤلف رضي الله تعالى عنه. أما القضاء، فواجب. لابد منه. وإنما لم يذكره - والله تعالى أعلم - لعلمه أن ذلك ليس من خفي العلم الذي لا يظهر إلا ببيانه. وكان من سيرته في غير مدة قضائه: إنه كان إذا أصبح قرأ حزبه من القرآن، ثم جلس للطلبة، الى العصر. فإذا كان العصر، دعا بنته وبنات أخيه، يعلمهن القرآن والعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 قال بعضهم: جئت الى عيسى بن مسكين فوجدته جالساً، على دكان في المعصرة. وخادم له يرد الزيتون، والدابة تطحن، وهو يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدره. فقيل له في ذلك. فقال: أعرض حديثي لئلا أنساه. قال ابن حماد السوسي: كلفني ابن مسكين، يوماً في خصومة شيئاً. فقلت: الله بيني وبينه. فأتاني في منامي، آت، فقال لي: لا تدعو على الرجل الصالح. فاستعفى من القضاء، فعوفي. فرجع الى منزله بالساحل. الى أن مات. فأصابه داء في ساقه. فلم يزل ملازماً به. ومات رحمه الله سنة خمس وسبعين ومائتين مولده سنة أربع عشرة ومائة. وكان إذا تحدث عن أيام قضائه يقول: كنت في بليتي. وكنت أيام تلك المحنة. ولما تاب الأمير ابراهيم، وتخلى عن الملك، وتوجه الى الجهاد، قصده عيسى بن مسكين، فقال له: إن الله عافاك مما ابتلاك به. فاعفني، مما أدخلتني فيه. فقد كبر سني، وضعف بدني، فعافاه. فخرج الى ضيعته. فقال ابراهيم: ما أعجب حاله؟ هو في آخر أمره، مثله في أوله. فكانت ولايته ثمان سنين وأحد عشر شهراً. ولما بلغت وفاته القيروان قال رجل منهم: سودوا وجوهكم. توفي. ووجدوا عليه. وقال آخر وا على إفريقية. تجدون العلم بعد عيسى. ولا تجدون مثل ورعه، وزهده، وأدبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 قال آخر: ذلك رجل حزنت لموته إفريقية. رحمه الله تعالى. محمد بن مسكين أخوه أبو عبد الله رحمه الله تعالى سمع من محمد بن سنجر. والحارث بن مسكين. ومحمد بن عبد الحكم. والربيع الجزري. وسحنون، وابنه، وغيرهم. وشارك أخاه في أكثر رجاله. وهو أصغر من أخيه بثلاث سنين. قال ابن حارث: كان صالحاً، ثقة. عاقلاً. من أهل العلم. بل مثله مثل ابن أبي دليم. قال أبو علي البصري: كان هو أيضاً فقيهاً يصنع الشعر، ويجيده. وقال لقمان بن يوسف: لما رحلت الى عيسى بن مسكين الى الساحل وأقمت كنت أستفتي، فلا أفتى. ولم أكن أمتنع من ذلك، من أجل عيسى، وإنما كنت أمتنع من أجل محمد أخيه. يعني: أن عيسى لا يتغاير على هذا. سمع منه أبو العرب، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائتين بمنزلهم بالساحل. وولد سنة سبع عشرة. ويقال سنة عشرة. ومن ذكره أحمد بن محمد بن المثني من تلامذته. وتلامذة أخيه، عيسى، في مرثيته لأخيه. وأولها: والآن مات بأرض المغرب الأدبُ ... وأصبح العلم مقروناً به العطب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وانهدّ للدين ركن من دعائمه ... وقام ناعي الهدى يبكي وينتحب واسودّ ما ابيضّ من وجه الزمان على ... فقد الإمام فدمع العين ينسكب وفي أخيه محبّ المصطفى خلف ... فذاك جوهره أودى وذا ذهب فجران للعلم مطبوعان من كرم ... من نبعة ما لها وصف ولا أرب عبد الرحمن بن محمد بن عمر، الملقب بالورقه أبو محمد. من أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. مولى سلمي. وأصله من العجم. قال ابن أبي دليم: كان حسن الحفظ، جيد القريحة، يتكلم على الأصول، ولم يكن صاحب دواوين، ولا إكثار. قال ابن حارث: وإنما كان مقتصراً على أمهات ابن القاسم، لا غير. قال أبو العرب: كان فقيهاً، ثقة، صالح الكتاب، حسن الحفظ، جيد القريحة، سمع سحنوناً وغيره. وعلى سحنون تفقه. وعليه اعتمد. وكان من الورعين المخبتين الخاشعين. وقال سحنون: عبد الرحمن رجل من أهل الآخرة. وكان حمديس يذكره بالفضل والورع والعلم، ويقول: رحمة الله عليه. كان والله ورعاً في فتياه، عالماً عاقلاً، ومن أعظم نعمة الله عليه، أن أخرجه الله من الدنيا، ولم يدخل على سلطان قط. وعظمه تعظيماً كثيراً. وخرج إليه حمديس من عند سحنون منكشفاً. فلما رآه أحرم بالصلاة. قال سحنون لحمديس: إنما كان يمضي به لأهل الدنيا، وإنما ذلك من الآخرة. ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين. وتوفي أول شوال سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. أحمد بن المعتب ابن أبي الأزهر. أبو جعفر. تقدم ذكر أبيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 سمع من سحنون. وهو من فقهاء أصحابه. وسمع من أبي الحسن الكوفي، في جميع ما عنده. وسمع بالمشرق من العثماني، بالمدينة. وحسين بن حسن المروزي، صاحب ابن المبارك. ولقي اسماعيل القاضي. ذكر علمه وفضله والثناء عليه قال أبو العرب: كان ثقة ثبتاً، نبيلاً، عالماً بالحديث والرجال، حسن التقييد. سمع منه الناس. قال ابن حارث: كان نبيلاً فصيحاً، صحيح اليقين بالله. قال القاضي يونس عن أبي العرب: إن أحمد بن معتب، كان له صلاة طويلة بالليل، وبكاء. حتى كان يسمع جيرانه بكاءه، وصراخه. وكان له نسكٌ وخشوعٌ وحسن خلق. وكان فيه زهد. وكان سبب وفاته أنه حضر يوماً مسجد السبت بالقيروان، فقرأ القارئ: " ألْهاكُم التّكاثُر حتى زُرتُم " ويقال: بل قرأ: " ويُطاف عليهم بصحافٍ من ذهبٍ " الآية. وقيل: بل سمع بيت شعر، فيه ذكر النار، فخر صعقاً وحمل الى داره بشارع ابن المعتب، لا ينطق بكلمة. وتوفي. وذلك لسبع خلت من ذي القعدة سنة سبع وسبعين ويقال ست وسبعين ومائتين. قال ابن اللباد: حضرت مشهد الذكر يوم السبت، لسبع خلون من ذي القعدة، سنة سبع وسبعين ومائتين. وأحمد بن المعتب رحمه الله تعالى حاضر، وكان له بكاء ونوح. وكان القراء إذا علموا به، تحركوا، وعبّروا، وأخذوا في التعبير: دع الدنيا لمن جهل الصوابا ... فقد حضر المحب لها وخابا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 يصلي فتارة يبكي يبيت ... ويطوي الليل بالأحزان دأبا فلما وصلوا، تحرك وبكى. ثم قرأ قارئ: " يا عبادي لا خوفٌ عليكمُ اليومَ " الآية. بل الآيات الثلاث. فصاح صيحة شديدة. ثم سقط على وجهه. فأقام ساعة، وأسنده إنسان بصدره، وكُلم فلم يتكلم. ثم أغلق عينيه، ثم قاء شيئاً أخضر. فلما انقضى المجلس بالدعاء، أردنا أن نحمله على دابة. فلم يستطع، إذ كان لا يثبت، فجئنا بمحمل على جمل، فحمل، وأخرج من المسجد يبكي، كأنه نائم. وحمل في شق الجمل. وزامله ابن عم له. ثم أتي به داره. فقاء شيئاً أخضر، ولم يتكلم. وتركناه لنسائه. فلما كان بعد العشاء الأخير، توفي. رحم الله تعالى. ولم يتكلم. ولم يفتح عينيه. وأغلقت الحوانيت كأنه يوم عيد. وحضرت غسله، وقد كسي نوراً وبياضه لبدنه. وصلي عليه العصر. صلى عليه حمديس القطان. وفات كثيراً من الناس الصلاة عليه، لكثرتهم. ونودي على جنازته: أيها الناس لا تفوتكم جنازة أحمد بن معتب شهيد القرآن. قال بعضهم: إن ابن معتب، مر ذلك اليوم، في طريقه الى مسجد السبت، بدار. فسمع فيها غناء. فقرع الباب فخرج إليه صاحب الدار، فاستأذنه في الدخول، فاستحيا صاحب الدار، واعتذر. فقال لابد فدخل صاحب الدار قبله. وغيّب ما كان بين أيديهم من شراب. ثم أذن له، فدخل وسلم. فقال: من المتكلم؟ فقالوا هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 فقال سألتك بالله، ألا أعدت ما سمعت منك. فقال مغنيهم: العفو أولى لمن كانت له القدر ... لاسيما عن مصرٍّ ليس ينتصر أقرّ بالذنب إجلالاً لسيده ... وقام بين يديه وهو مقتدر فبكى وخرّ وأنّ. فردده مراراً. فانتحب وقام. وقال: تاب الله عليكم. وخرج. فتاب صاحب الدار. وسار أحمد الى مسجد السبت. فكان منه ما ذكرنا. قال ابن اللباد: شهد ابن معتب، شهادة عند ابن طالب. وشهد سهل القبرياني بضدها. قال ابن اللباد: فوقف في أمرها. ثم قال: إذا ذكر المتعبدون والبكاؤون، ذكر ابن معتب. وإذا ذكر أهل الأموال والتجارات، ذكر سهل معهم. فأرى أن آخذ بشهادة ابن معتب. قال أبو علي البصري: لم يكن ابن معتب من النقاد في الفقه، وغمص الناس عليه. إن القاضي ابن طالب كان له مكرّماً. وكان حاضر الكلمة، التي قالها ابن طالب في شأن الأمير ابن الأغلب، التي قتل ابن طالب من أجلها. ومن ذكرناها. ودعا الأمير ابن معتب للشهادة عليه، وشهد بها. وعذر ابن معتب في هذا، في كتم شهادة، قد سمع ذلك الجائر، أنه حضرها. وقد قيل إنه ما صرح بالشهادة بها. بل أداره عليها، ليلة كاملة، يسامره ويسائله، وابن الأغلب ينفث غيظاً. وهو يقول له: ما علمت لك، ولأهل بيتك إلا على الإخلاص والاعتقاد المشكور. وإنه لما حقق عليه. قال له: احفظ عليه شيئاً قاله، وكذب الناس كثير. وقيل بل قال له: كان ما بلغك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 محنته رحمه الله تعالى امتحن ابن معتب بعد هذا، على يد القاضي ابن عبدون، عدوه. وذلك أن ابن معتب كان لطيف المنزلة، سامي المكانة، يكتب إليه ابراهيم الى أخي في الإسلام، وشقيقي في المحبة. فتلاحى مع ابن عبدون، ووثق بمكانته من الأمير. فخذله ومكر به ابن عبدون. فأدخل رجليه في فلقه وضربهما حتى أدماهما. فكان أحمد بعد ذلك يقول: أرجو أن تكون هذه النازلة خيراً لي، إذ سلبت محبة ابراهيم بن الأغلب من قلبي. وكان ابن عبدون هذا، من كبار الكوفيين المتعصبين على المؤمنين. فامتحن على يديه جماعة من فقهاء المالكية، وأهل السنة. ضربهم ونكل ببعضهم، وأطلقهم، وأغرى الأمير ببعضهم. فقتل منهم: ابراهيم بن الدمني، وأبو القاسم مولى مهرية، وأحمد بن عبدو العطار، وغيرهم. ولما مات ابن معتب وشهد الناس جنازته، وباتوا على قبره، نظر ابن الأغلب ليلة الى من على قبره من الناس، وكثرة الشيوخ، وقال لابن عبدون: هذا الذي كنت تهون أمره عندي. أنظر ما عاقبه أمره. محمد بن سليمان بن سالم بن القطان أبو الربيع القاضي. يعرف بابن الكحالة. مولى لغسان. من أصحاب سحنون. سمع من سحنون، وابنه، وعون، والجفري، وابن رزين، وداود بن يحيى، وزيد بن بشر. ودخل المدينة، فحدث عن محمد بن مالك بن أنس، بحكايته عن أبيه. وأدرك موسى بن معاوية، ولم يسمع منه. سمع منه أبو العرب، وغير واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 قال أبو العرب: كان ثقة، كثير الكتب والشيوخ. وكان حسن الأخلاق، باراً بطلبة العلم، أديباً كريماً. سمع منه في حياة ابن سحنون. ثم كان يقوم مع أصحابه، إذا جلس ابن سحنون، يسمع منه. قال ابن الحارث: لم أسمع منه، بمكروه. قال ابن أبي دليم: وكان الأغلب عليه الرواية والتفسير. وله تأليف في الفقه، تعرف كتبه بالكتب السليمانية. مضافة إليه. ولاه ابن طالب قضاء باجة. وولاه ابن سليمان مصالح القيروان. وأذن له في مائة دينار، ثم ولاه قضاء صقلية، فخرج إليها، ونشر بها علماً كثيراً. وكان خروجه إليها: سنة إحدى وثمانين. قال الشيرازي: وعنه انتشر مذهب مالك بها. فلم يزل عليها، قاضياً، الى أن مات سنة تسع وثمانين ومائتين. ولم يوجد له مال بعد موته. يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني رحمه الله تعالى قال القاضي ابن الفرضي: قال ابن عابد البلوي، قيل هو مولى بني أمية أندلسي، من أهل جيان. وعداده في الإفريقيين. سكن القيروان، واستوطن سوسة آخراً. وبها قبره. كنيته أبو زكريا. نشأ بقرطبة وبها مولده. ينسب بابن عامر. فطلب العلم عند ابن حبيب وغيره. ورحل، فسمع بإفريقية من سحنون، وعون، وأبي زكريا الجفري. وسمع بمصر من ابن بُكير، وابن رمح، وحرملة، وأبي الطاهر، وهارون بن سعيد الإيلي والحارث بن مسكين، وعبيد بن معاوية، وأبي زيد بن أبي الغمر، وأبي إسحاق البرقي، والدمياطي، وغيرهم من أصحاب ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وسمع أيضاً بالحجاز وغيرها من أبي مصعب الزهري، ونصر بن مرزوق، وابن كاسب، وأحمد بن عمران الأخفش، وابراهيم بن مرزوق ومحمد بن عبيد، وسليمان بن داود، ويحيى بن سليمان، وزهير بن عبّاد وغيرهم. سمع منه الناس، وتفقه عنه خلق كثير. منهم: أخوه محمد، وأبو بكر بن اللباد، وأبو العرب، وعمر بن يوسف، وأبو العباس الأبياني، وأحمد بن خالد الأندلسي، وغيرهم. وإليه كانت الرحلة في وقته. ذكر فضله وعلمه والثناء عليه رحمه الله تعالى قال القاضي أبو الوليد: كان فقيهاً حافظاً الرأي. ثقة ضابطاً لكتبه. قال ابن حارث: كان يحيى متقدماً في الحفظ. وسكن القيروان. فشرفت بها منزلته، عند العامة والخاصة. ورحل الناس إليه. لا يروون المدونة والموطأ إلا عنه. وكان يجلس في جامع القيروان. ويجلس القارئ على كرسي، يسمع من بعد من الناس، لكثرة من يحضره. وكان من أهل الوقار والسكينة على ما يجب لمثله، تأدب في ذلك بأدب مالك. وكان لا يفتح على نفسه باب المناظرة. وإذا ألحّ عليه سائل، أو أتاه بالمسائل، العويصة، طرده. قال أبو العرب: كان إماماً في الفقه. ثبتاً ثقة. فقيه البدن كثير الكتب في الفقه، والآثار، ضابطاً لما روى، عالماً بكتبه، متقناً شديد التصحيح لها. من أئمة أهل العلم، وعداده في كبراء أصحاب سحنون. وبه تفقه. قال ابن أبي دليم: كانت له منزلة شريفة عند الخاصة والعامة. والسلطان. وكان حافظاً، وله أوضاع كثيرة، منها: كتاب الرد على الشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وكتاب اختصار المستخرجة. المسمى بالمنتخبة. وكتبه في أصول السنن. ككتاب الميزان. وكتاب الرؤية. وكتاب الوسوسة. وكتاب أحمية الحصون. وكتاب فضل الوضوء والصلاة. وكتاب النساء. وكتاب الرد على الشكوكية. وكتاب الرد على المرجئة. وكتاب فضل المنستير، والرباط. وكتاب اختلاف ابن القاسم، وأشهب. قال ابن أبي خالد في تعريفه: له، من المصنّفات نحو أربعين جزءاً. وكان فقيهاً. قال لي غير واحد، وكان لا يتصرف تصرف غيره من الحذّاق، والنظّار، في معرفة المعاني، والإعراب كان البصري يقول: كنت أسأله عن الشيء، من المسائل، فيجيبني. ثم أسأله بعد ذلك بزمان عنها. فلا يختلف قوله، عليّ. وكان غيره يختلف عليّ قوله. ذكر فضله وأخباره قال يحيى: رأيت في منامي، كأن سحنون معلّم صبيان، بيده درة. فأعطانيها وقال لي: قم على الصبيان. فأولتها خلافته في تعليم الناس. ودعاه ابن الأغلب الى قضاء إفريقية، واضطره الى ذلك، فدلّه على عيسى بن مسكين، فولاه. وسلم هو. قال حمديس: حضرت الأمير ابراهيم عرض القضاء على يحيى، فقال له: أنا غريب. فقال له: غريب، غريب. ثم عرضها على الفريابي أبي جعفر، فذم نفسه. وجعل يقول مزرياً على نفسه: أعيذك بالله أيها الأمير. مثلي يولى القضاء. فأعجبني ذلك منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 فعرضت على حمديس، فاعتذر. فعرضت على ابن مسكين، فقال: ليس عندي كتب القضاء. فقال الأمير: من يسمع الناس العلم، يسمعهم القضاء. ثم عرضت عليهم ثانية. فلما انتهت الى عيسى بن مسكين قال: قوموا. فحبسه، وولاه القضاء. قال يحيى بن عمر: كان ابن رزين، يخرج في حضرتي، من تحت حصير جلوسه دراهم، لنفقته. بعد أن فتشته قبل أن يقعد عليه. ولم أرَ تحته شيئاً. وكان يحيى جليلاً في قلوب الناس، عظيماً في أعينهم. قال ابن اللباد: كان يحيى بن عمر، من أهل الصيام، والقيام. مجاب الدعوة. له براهين. قال الحسن بن نصر: ما رأيت أهيب منه، قيل له فابن طالب؟ قال: كانت له هيبة القضاء. وكان الكانشي يقول: ما رأيت مثل يحيى بن عمر. وما رأيت أحفظ منه. كأنما كانت الدواوين في صدره. قال: واجتمعت بأربعين عالماً. فما رأيت أهيب لله من يحيى بن عمر. قال: وأنفق يحيى في طلب العلم. ستة آلاف دينار. قال الأبياني: ما رأيت مثل يحيى في علمه وورعه، وكثرة دعائه، وبكائه، وكان حريصاً على أهل العلم، يحرض طالبه، ويشرف الوصف أن يقصر، والله عن يحيى وفضله. وما يجهل أمره إلا جاهل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وكان يحيى، ألّف كتاباً في النهي عن حضور مسجد يوم السبت. وكان مسجد ربض المتبتّلين بالقيروان. وأن يجمع إليه جماعة من أهل الصلاح والفقه والرقة. ويقرأ فيه القرآن. وتنشد فيه أشعار الزهد. فصلى المغرب، رجل مع يحيى، فلما أكمل الصلاة قرأ: " ومَن أظلَمَ ممّن منع مساجدَ الله أن يُذكَر فيها اسمه " الآية. فبكى يحيى بن عمر ثم قال: اللهم إنه لم يقرأها لوجهك. وإنما أراد بذلك نقضي. فلا تُقِل له عثرة. فوالله ما حمل الرجل من مكانه إلا ميتاً. ويقال: إنه مات من ليلته. قال السّدي: سمع عليه خلق عظيم، من أهل القيروان في الجامع بالقيروان. وكان إذا انصرف من الجامع تبعه الناس، وبينما هو يوم يُسمِع الناس في خلق عظيم، جاءه كتاب من أبي زكريا يحيى بن زكريا الأموي. فلما فكه سكت القارئ، وقال لمن حضر: صاحب هذا الكتاب مَن جدّه على جدّي بالعتق. ذكر ذلك تواضعاً منه لله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وحكي أنه مرّ على محلة قوم، يكبرون أيام العشر، فنهاهم، وقال: هي بدعة. فلم ينتهوا. فيقال إنه دعا عليهم، فصار موضعهم بعد خراباً. قال الزويلي: كان يحيى بن عمر ينصب له كرسي في الجامع، للسماع. فيجلس عليه، ليسمع الناس. وما علمت أنه عمل ذلك غيره. قال أبو الحسن اللواتي: كان عندنا يحيى بن عمر بسوسة، يسمع الناس في المسجد، ويمتلئ المسجد، وما حوله. فسأله من بعُدَ عن إسماعهم فقال: يجزئهم. وقد ذكر سليمان بن سالم أن بعض أصحاب سحنون، نام حتى قرأ القارئ ما شاء الله. ثم انتبه. قال: فاختلفنا في سماعه. فسألنا سحنون فقال: إذا جاء للسماع وله قصد، فهو يجزئه. وقال يحيى بن عمر لبعضهم. لا ترغب في مصاحبة الإخوان، وكفاك من ابليت بمعرفته، أن تحترس منه. انفردوا بأهل العلم. وكان فرات، يطعن في سماع يحيى، الموطأ من ابن بكير، ويحلف على ذلك، ويقول: إنه كان ملازماً لابن بكير، حتى مات. وإني لأنصرف من جنازته، إذ نزل يحيى بن عمر، في موكب فسلّم علي، وسألني عن ابن بكير. فقلت هذا منصرفي من جنازته. فاسترجع، وقال: فاتني الشيخ. قال الإبياني: فذكرت قول فرات للقمان بن يوسف، فقال: كذب فرات. لقيت بمصر أبا الزنباع، روح بن فرج، فسألني عن يحيى بن عمر، قال: كيف حاله عندكم؟ قلت في الهواء، وما نصل إليه. قال: يستحق يحيى، وما خرج من عندنا حتى احتاج أهل بلدنا إليه. ولو كان عندنا، لكان أكثر مما هو عندكم، وأرفع. فقلت: سمع من ابن بكير. قال: نعم. صاحبي عند يحيى. سمعنا منه الموطأ. قال أبو بكر المالكي: وكان شيوخنا يقولون: إنما جرى هذا ليحيى مع فرات في سفرته الثانية. وكان في الأولى لقي ابن بكير، وسمع منه. ولقد جرى له أيضاً، مثل هذا، في الرواية عن سحنون. فإن أكابر أصحاب سحنون قالوا: ما رأيناه عند سحنون قط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 قال حمديس القطان: نعم سمع من سحنون في منزله بالساحل. وكذلك قال يحيى: لم أسمع من سحنون بالقيروان. إنما سمعت بالبادية. قال الحسن بن نصر: كان يحيى بن عمر إذا صلى الصبح وسلم، من صلاته، بقي كذلك على هيئته كجلوسه في صلاته مشتغلاً بذكر الله عز وجل، حتى تطلع الشمس. وذكر أنه رجع من القيروان الى قرطبة، بسبب دانق كان عليه، لبقال فخوطب في ذلك، فقال: ردُّ دانق على أهله أفضل من عبادة سبعين سنة. فمضينا الى قرطبة، ورجعنا في سنة. وبقيت معنا تسعة وستون. ولما هدمت القبور لإنشاء السلطان، المراكب الى صقلية. لم يهدم قبر يحيى. فكلم في ذلك بعض السودان، فقال: رأيت على قبره نوراً عظيماً. وحضر يوماً مجلسه، رجل من أهل العراق، فقال يحيى: من كان هاهنا من العراق فليقم عنا. وكان يحيى رحمه الله ينشد: هممت ولم أفعل ولو كنت صادقاً ... عزمت ولكن الفطام شديد ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... إليك انقطاعي أنني لسعيد محنته ووفاته رحمه الله تعالى قال ابن حارث: كان يحيى بن عمر شجىً على العراقيين. أخبرني من كان جالساً مع ابن عبدون، وكان رأساً فيهم. حتى خطر ابن عمر، راكباً، على رأسه قلنسوة. فجعل وجه ابن عبدون يتلوّن شرقاً له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 فلما ولي ابن عبدون القضاء طلب يحيى، وأخافه حتى توارى عنه، وخرج الى سوسة، فاختفى بها. ويقال إنه خرج ليلاً متنكراً فمرّ على دور بعض أهل العراق، وبها مشتعل، فخاف أن يروه. فوقف. فإذا بريح قد أطفأته. فجاز. فبعث ابن عبدون كتاباً الى عبد الله بن هارون الكوفي، يقول فيه صح عندي، أن ابن عمر، متوارٍ بتونس، فاطلبه وأوثقه، وابعث به إليّ. قال محمد بن عمر أخوه. فوجّه الكوفي إليّ وعرض عليّ الكتاب، فقرأته واربدّ وجهي، فقال: لا يسوء ظنك. فلم أبعث فيك لمكروه. ولكن لأعجبك من ابن عبدون، أن يريد مني أني آتي الى إمام من أئمة المسلمين، فأرسله إليه ليمتهنه. إن كان أخوك بهذا البلد، فهو من أهل هؤلاء العزّل. قال أبو العرب: وذهل آخر عمره. وتوفي رحمه الله تعالى بسوسة في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين وسنّه سبعون سنة. مولده بالأندلس. سنة ثلاث عشرة ومائتين ورثاه سعدون الروحي بقصيدة أولها: عين ألمّ بها وجدٌ ولم تنم ... تبكي بدمع كنظم الدر منسجم يا موت أثكلتنا يحيى وكان لنا ... في بلدة الغرب مثل البدر في الظلم ما كان إلا سراجاً يستضاء به ... في العلم يسمع منه العلم في الحكم وكان يحيى إذ أخفنا لنا حرماً ... يلجى إليه فقد صرنا بلا حرم وكان يحيى لنا سيفاً نعزّ به ... الدين الحنيف ويحمي كل مهتضم وكان يحيى لنا في الزائغين إذا ... ضلّوا لساناً يبين الحق عن أمم لتبك يحيى عيون بالدموع فإن ... غاضت مدامعها فلتبكه بدم ما كان أشجعه ما كان أورعه ... ما كان أفصحه في محفل الكلم ما كان أفقهه ما كان أعلمه ... ما كان أحماه عند الخوف للحرم ما كان أرغبه في سنة درست ... يشيد بها بناء الحاذق الفهم ما كان أطهر تلك النفس من ريب ... ما كان أكتب تلك الكف بالقلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 محمد بن عمر أخوه كنيته أبو عبد الله، رحمه الله تعالى. سمع الحارث بن مسكين. ومحمد بن عبد الحكم وحسن بن أصرم، وابراهيم بن مرزوق، وأبا الطاهر بن السّرح، وأبا إسحاق البرقي محمد بن عبد الله البرقي وشرك أخاه يحيى، في أكثر رجاله، إلا في سحنون، وأبي زيد وابن بكير. فلم يسمع منهم. وسمع من أخيه يحيى، وابن عبد الحكم. وسمع بالقيروان، من ابن عبدوس وغيره من أصحاب سحنون. سمع منه المصريون، وغيرهم. مؤمّل بن يحيى، ومسيرة بن مسلم وأبو سعيد بن يونس. وحمزة الحافظ رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ومن الأندلس خالد بن سعد رحمه الله تعالى. قال أبو العرب: كان ثقة كثير الكتب في الفقه. قال غيره: كان من أهل العقل والعلم، والدين والثقة. قال ابن حارث وابن الفرضي: كان كثير الكتب في الفقه، والآثار. ضابطاً. ثقة. كثير التجول في البلاد. وخرج من القيروان الى مصر عام تسعة وثمانين. وقال ابن الفرضي: عام سبعة وتسعين. وتوفي بمصر سنة تسع وتسعين ومائتين بعد أن كفّ بصره. وسمع منه بها الناس. قال غيره: بل توفي بأقريطش وبها ولد. كان أبوه لزمها للجهاد، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين ومائتين. وقال الجنيدي: توفي بمصر، سنة عشرة وثلاثمائة. وله كتاب في أكرية السفن رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 أحمد بن أبي سليمان واسم أبيه داود. ويعرف بالصواف مولى ربيعة. روى أبوه عن عبد الله بن نافع. روى عنه ابنه. قال أبو العرب: كان أبوه من أهل العلم، وما علمت عليه إلا خيراً. ويكنى أحمد بأبي جعفر. من مقدمي رجال سحنون. وسمع من أبيه أبي سليمان. وسمع منه أبو العرب، والناس. قال ابن أبي سعيد: كان حافظاً للفقه، مقدماً فيه، مع ورع وصيانة لعلمه، أديباً راوية للشعر، كثير القول له، وأحد كبار المالكية، ووجوههم. قال أبو العرب: كان شيخاً صالحاً ثقة فقيهاً، كريم الأخلاق، باراً بمن قصده، مسارعاً في حوائجه. وكان يلبس القلنسوة الطويلة. قال عيسى بن مسكين: أحمد بن أبي سليمان، حكيم. قال غيره: كان أكثر كلامه حكمة. قال الباجي: هو فقيه. قال ابن حارث: كان له بالشعر عناية في أول أمره. فلما صار الى درجة العلم، وصحبة العلماء، ترك قوله. قال ولم يكن معدوداً في أهل الحفظ، ولا في أهل المعرفة، بما دق من العلم. قال ابن أبي سليمان: أتى بي أبي الى سحنون، سنة سبع عشرة ومائتين لأسمع منه. فاستصغرني، وأجاز لي جميع كتبه. ثم صحبت سحنوناً، بعد ذلك، عشرين سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وعمِيَ. وكان سبب طلبه العلم، فيما حكاه، أنه قال: كنت أولاً أطلب الشعر، فرأيت في المنام، كأني على حائط يرجف ونار عظيمة، وأنا أخاف أن أقع فيها. وإذا حلقة رجال، فيهم أبي. فكنت آنس إليه. فيقول لي: لا تخف. ارمِ بنفسك في حلقة سحنون، تنج. وكان أحمد يفتي في الذي يفتح حوانيت، في الشارع، قبالة دار رجل، أنه يمنع. وكذلك كان يقول في المرأة، تودع وديعة، فتدفعها الى زوجها، فتضيع الوديعة، أنها غير ضامنة، كالرجل، يستودع الوديعة امرأته. وقال غيره: المرأة ضامنة، بخلاف الزوج. وقال في رجل لاعن زوجتَيْه، أن يلاعنهما في واحد، على كل منهما، لعان. وقال أيضاً: يجزيه لعانه، لواحدة عن الأخرى، وإن قامت بعد. قال حبيب بن ربيع: وهذا إذا كانت غايته، بما فيه كلفة. فيلاعن مخافة لحوق الولد. وكان أحمد يصبر على السماع. قال الدباغ: اسمع الناس عشرين سنة. وكان يقول أنا حبس. وكتبي حبس وحضر قوم يوم السفر، فرغبوا له بالصبر عليهم. فجلس لهم أياماً، وقال: سألبس للصبر ثوباً جميلا ... وأفتل للصبر حبلاً طويلا وأصبر بالرغم لا بالرضى ... أخلّص نفسي قليلاً قليلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وفي كبر سنّه يقول، من قصيدة طويلة: دُعيت معلماً إذ صرت شيخاً ... وأيام الشبيبة كنت بورا لئن كان المشيب أتى نذيراً ... فإني سوف أدعوه بشيرا فأهلاً بالمشيب لنا لباساً ... وقاراً نستزيد به وقورا وجزت بتسعة سبعين عاماً ... وقد ضمنت أصحابي القبورا وصرت كراكع يمشي دبيباً ... وأصبح خاسياً بصري حسيرا وألقى الدهر وقراً فوق أذني ... وفي بدني وفي نطقي فتورا وفي فقه الفقيه أبي سعيد ... رأيت الحق متضحاً منيرا لزمت بناءه عشرين عاماً ... أعاديه وأغشاه هجيرا ومن شعره في هذا المعنى: أرى البرق من نحو القريب توقدا ... تغيب طوراً لمعه وترددا أفق أيها الباكي المسائل منزلاً ... تشتت منه أهله متبردا كفى عجباً أنا جهلنا ما خلا ... ملاعب ولدان ونوماً ومرقدا ألفت به غيرا إذا هي ناهد ... وإذ كنت مرموق الزيارة أمردا وكنت قريباً إذا دعتني ابن عمها ... فلما دعتني عمها كنت مبعدا وكان نساء الحي يهوين طلعتي ... ليالي كان الشّعر أرجل أسودا فلما اكتسيت الشيب صرت الى الضنى ... وأصلحت من شأني الذي كان مفسدا لبست به ثوب الوقار وكلما ... بليت وأبليت الشباب تجددا جزى الله طول العمر خيراً فإنه ... هداني الى التقوى ودل وأرشدا ولما نحا عمري ثمانين حجة ... وأيقنت أني قد قربت من المدى تركت تكاليف الحياة لأهلها ... وجانبتها طوعاً فجانبني الردى رأيت حليم القوم فيهم مقدّماً ... ومن نال علماً نال جاهاً وسؤددا ويحيا من الزلفى غداً في معاده ... بأضعاف ما يحيا الذي قد تعبدا أراني بحمد الله في المال زاهداً ... وفي شرف الدنيا وفي العز أزهدا فخليت من دنياي إلا ثلاثة ... دفاتر من علم وبيتاً ومسجدا غنيت بها عن كل شيء حويته ... وصرت به أغنى وأفتى وأسعدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وقد ذم قوم ما فعلت جهالةً ... فعدّوا من الجهّال والجهل أحمدا ولو فهموا أمري ورأيي لأبصروا ... وقالوا رأي رأياً رشيداً مسددا وهي أطول من هذا وهو القائل: يا لذة قصرت وطال بلاءها ... عند التذكّر في الزمان الأول ولما تذكرها فقال ندامة ... من بعدها يا ليتني لم أفعل ومن مأثور كلامه الحسن، قوله: يا طالب العلم، إذا طلبت العلم، فاتخذ له قبل طلبه أدباً، تستعين به على حمله. ومن أدب العلم والحلم، كظم الغيظ. وأن يغلب علمك وحلمك، هواك إذا دعاك الى ما يشينك. وعليك بالوقار، والتعفّف، والدراية والصيانة، والصمت، والسمت الحسن، والتودد الى الناس، ومجانبة من لا خير فيه. والقول الحسن في أحوالك، والكف عمن ظلمك، ولا تهمز أحداً، ولا تلمزه، ولا تقبل فيه، ولو كان عدوك. وقال ليس شيء أروح على الإنسان من الزهد في الدنيا. ولا للقلوب، أروح من القناعة. وقال: أنا أحمد الله على ما تقادم من أجلي. ما أهتم بشيء. وتوفي ابن أبي سليمان رحمه الله تعالى، في آخر رمضان. سنة إحدى وتسعين ومائتين. مولده سنة ست ومائتين. كذا وجدته بخط ابن الحارث وفي كتاب ابن الجزّار، ومولده سنة ثمان. حبيب بن نصر بن سهل التميمي صاحب مظالم سحنون. ومعدود في أصحابه، وعنه عامة روايته. كنيته: أبو نصر. كان من أبناء الجند القادمين إفريقية. قال أبو العرب: وكان فقيهاً ثقة. حسن الكتاب، والتقييد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وروى أيضاً عن عبد الله بن علي. قال ابن الحارث: كان نبيلاً في نفسه، وقد أدخل ابن سحنون سؤالاته لسحنون، في كتابه. ولاه سحنون المظالم. سنة ست وثلاثين. وقال غيره: سنة سبع وثلاثين. فوليها مدة ست سنين. بقية حياة سحنون. ثم بعد موته بسنتين. وكان سحنون أذن له في أن يحكم في عشرين ديناراً فأقل. قال بعضهم سألت حبيباً كيف ولاك سحنون المظالم؟ فقال: والله ما كنت أهل ذلك، قط، مع غيره. فكيف معه؟ وذلك أني تأخرت يوماً، فسأل عني، فأخبره أصحابي. أني غسلت ثوبي، فلما أتيته من غد، وجلست إليه، قال: قم يا حبيب، فقد وليتك مظالم القيروان. ثم قال لي: اتق الله يا حبيب. الذي إليه معادك، ولا تؤثر على الحق أحد. وقال لإثنين من أصحابه: امضيا معه، حتى يجلس في مسجد البركة. وينظر بين الناس. فما كنت أحكم في شيء فيه، سهُل حتى أشاوره. وكان حبيب، جيد النظر. وامتحن بعد هذا على يد سليمان بن عمران القاضي. فسجنه وضربه. ويقال: بل لما ولاه سحنون أرسل معه نحو عشرة من أصحابه. ثم قال اكفوه المؤونة اليوم حتى يأنس وتركوه. توفي سنة سبع وثمانين ومائتين. في رمضان وسنّه ست وثمانون. ولد سنة إحدى ومائتين. صلى عليه حمديس القطان. وله كتب معروفة في مسائل سحنون سماه بالأقضية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 جبلة بن حمود بن عبد الرحمن بن جبلة الصدفي أبو يوسف. من أبناء القادمين مع حسان بن النعمان. أسلم جدّه على يد عثمان بن عفان رضي الله عنه تعالى. سمع من سحنون، وعون، وأبي إسحاق البرقي، وداود بن يحيى، وغيرهم من المصريين والإفريقيين. وله ثلاثة أجزاء مجالس عن سحنون رويت عنه. وقد روى عن سحنون المدونة. وروايته فيها معلومة باسم. لا يسمع كلام العراقيين. ويجلس الى محمد بن البساط، ثم ترك ذلك. وصحب سحنوناً روى عنه أبو العرب، وعبيد الله بن أبي عقبة، وعبد الله بن سعيد. قال الحارث: كان من أهل الخير، البيّن، والعبادة الظاهرة، والورع والزهد. وكان الغالب عليه الزهد. ذكر زهده وعبادته وفضله رحمه الله تعالى قال أبو العرب: كان صالحاً ثقة، زاهداً. كان بقصر الطوب. ثم لزم القيروان. فسمع منه الناس، وكان صحيح السماع من سحنون. قال أبو النصر: رحم الله أبا يوسف. فلقد كان سيد أهل زمانه. وقال سحنون وقد رآه مقبلاً: إن عاش هذا الشاب، فسيكون له نبأ وهو أزهد أهل زمانه. قال بعضهم: ما سمعته قط يذكر الدنيا بمدح ولا ذمّ. وقال أبو موسى: ما رأيت أزهد من جبلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 من أفضل رجال سحنون. وقد علاهم في الزهد. وكان أول شأنه لما نشأ وتعلّم، كتاب الله وحضر جنازة مع حمديس، وسعيد ابن الحداد. فقال له سعيد: تقدم يا أبا يوسف. فأنت أهد منا وأعلم وأسن منا. قال ابن سعد: كان جبلة من أفضل رجال سحنون. وقد علاهم في الزهد. وكان أول شأنه لما نشأ وتعلّم كتاب الله، حبب إليه دار سحنون. فكان يختلف إليه. وكان أبوه يصحب السلطان. ويرى رأي أهل العراق. فأراد جبلة يوماً، الرواح الى سحنون. فأخذ أبوه طائره، ورفعه، لئلا يجد ما يمضي به الى سحنون؟ فأخذ جبلة مقنعة أمه، وتردى بها، ومضى الى سحنون، فسأله. فأخبره، جبلة. فأعطاه سحنون مدرجاً. فلما خرج لحقه رجل، فعوّضه عنه ثوباً، وطائراً. فمضى بهما الى سحنون. فسأله عن المدرج. فأخبره. فقال غبنك. قال ابن حارث: كان أبوه من أهل الأموال، وصحبة السلطان، فنابذه في حياته، وتبرأ من تركته، بعد موته. وكانت تركته نحو ثمانمائة مثقال. قال: فما علمت منه إلا خيراً. إلا أنه كان يقضي من ثمن الطعام، أطعاماً. وهذا عنده جائز. على مذهبه. وعندنا غير جائز. وشهد على أبيه في حياته، أنه قتل رجلاً عمداً، عند بعض القضاة. فعرض له أبوه. فجاء يطعن عليه. فقال له القاضي: والله لئن شهد عليك معه ثانٍ لأسفكن دمك. قال أبو العرب: خرج علينا يوماً، فقوّم بعض أصحابنا لباسه. وذلك قميص في غلالة، وسراويل، ومنديل، كل ذلك خلق، بدرهم. قال أبو سعيد محمد بن سحنون: كانت مع جبلة همة يتيه بها على الخلفاء. قال موسى القطان: من أراد أن يدخل دار عمر بن الخطاب، فليدخل دار جبلة. ولو أن جبلة في زمان بني إسرائيل. أتت إلينا أخباره في الكتب. ولو فاخرنا بنو إسرائيل بعبّادهم وزهّادهم، لفاخرناهم به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 ووقف موسى القطان على قبره، صبيحة موته، فقال له رجل: لقد وفق الله جوار هذا الرجل الصالح. يعني البهلول بن راشد. نفعنا الله به. فقال القطان: لعل البهلول ينتفع بأبي يوسف. قال بعضهم: قلت لسعيد بن الحدّاد: ذكر لي أن جبلة كان ينام على زنبيل. قطع له قطعاً، وطوبة عند رأسه، فوقها وسادة. فقال سعيد: هو فوق ما تصف. قال عبد الله بن سعيد: وكان جبلة لا يحب ما ظهر من الأعمال بل كانت أعماله كلها خفية. حتى الزهد. فإنه كان لا يظهر عليه. قال أبو بكر الزويلي: كان قوت جبلة في الشهر، ثمنين شعيراً. يطحنهما ويجعلهما في قلة. فإذا رأى الشمس غربت، خرج الى الفحص فأخذ ما وقع على يديه، من بقل البرية. فجعله في قديرة على النار، ويجعل عليه قبيضة من الدقيق ويفطر على ذلك. هكذا كانت عيشته. قال ابن سعدون: رأيته حين صلى المغرب، أخذ عجينة وذهب بها الى المستوقد. وقد طبخ فيه الناس، وبقي الرماد، فحفر فيه بعود، وجعل القرصة فيه، وغطاها بالرماد، وجلس في ذكر ودعاء، الى أن أخذت قشيرة، فأخرجها ونفضها، فقلت لأهل القصر: شيخ مثل هذا الساكن بين أظهركم، يخدم نفسه. فقالوا لي يا أبا بكر، له معنا أربعون سنة. ما طبخ فيها قدراً. ولا أوقد سراجاً. وراح يوماً في قميص زوجته، وصلى الجمعة. وكان غسل قميصه ولم يجد سواه. فقيل له في ذلك. فقال: ما علمت منها إلا خيراً. لطاهرة عفيفة. وكان كثير الصدقة والمعروف، مع قلة ذات يده. رضي الله عنه تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 ذكر ما كان من كرامته ودعواته رضي الله عنه قال محمد بن بشر المؤدب: مضى بي أبي وأنا صغير الى المرابط بقصر الطوب، فدخلنا على جبلة. فقال لقد أضمرت اليوم أن أفطر. وسألت الله أن يأتيني بمن أفطر معه. فأخذ شقفة وجعلها على النار، وطبخ فيها عصيداً. فأكلنا فيه. فكانت قدرنا وصحفتنا. ثم قال: يا بني اشتهِ ما شئت. فخطر ببالي تين أخضر، وليس بزمانه. فذكرت ذلك. فمد يده جبلة في قلة فأخرج لي خمس تينات خضر. قال أبو ميسرة: كنت آتي الى جبلة. فأستأذن عليه، فأسمع معه كلاماً غير كلامه. فأدخل، فلا أرى معه أحداً، فأسأله عن كتاب لأختبر من في البيت. فيقول لي: خذه من البيت. فلا أجد في البيت أحداً فكان يذكر أنه يجتمع بالخضر. وأمر يوماً فتى بشيء، فلم يفعل. فقال له: سمّاك أبوك حرباً ويلقى الناس منك شراً. أو نحو هذا. فبعد قريب، تولى الحرس بالقيروان. وقال لآخر من أصحابه: ليس تكون إلا أشرّ من أبيك. وكان أبوه على الحرس. فبعد ذلك شرُف الفتى. ودخل على جماعة من أصحابه، وهم يضحكون، وقد رفعوا أصواتهم، فقال لهم: لا نفعكم الله بالعلم. قال ابن أبي عقبة. فما علمت أحداً منهم ذُكر. ولما خرج أهل القيروان للقاء الشيعي، مداراة له. غمّه ذلك. وقال اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليهم فجردوا في الطريق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 فقيل له إنهم خرجوا مداراة. فقال: اسكت. أرأيت لو نزل الروم بنا فقالوا إنما تنزلون على حكمنا أو نجاهدكم. هل كان يجوز أن ننزل على حكمهم. وإن عشت سترى من أحكام هؤلاء، ما هو شرّ من أحكام الشرك. وكان رجل من المتصوفة، يحضر مجلسه، فإذا سمع شيئاً من الدقائق، عصر عينيه، فيقول له: لست من أهل هذا. فلما دخل الشيعي، صار يخدم كتابه. وكان جبلة إذا رأى ابن غازي، في أول أمره. وعبادته، وتصوفه، وطلبه للعلم، يقول: ليس يموت على الإسلام. فلما دخل عبيد الله تشرف ابن غازي، بعد الاجتهاد في العبادة. وسكن الثغور، وطلب العلم، ودخل دعوتهم. وقال بالإباحة. وكان ممن قال لعبيد الله: أنت. أنت. ذكر شدته على أهل البدع ومجانبته إياهم وقوته في ذات الله تعالى كان رحمه الله تعالى، شديداً في ذلك. لا يداري فيه أحداً. ولم يكن أحد أكثر مجاهدة منه للروافض، وشيعهم. فنجّاه الله تعالى منهم. ولما دخل عبيد الله إفريقية، ونزل رقادة. ترك جبلة سكنى الرباط. ونزل القيروان. فكلم في ذلك. فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر. والآن حلّ هذا العدو بساحتنا. وهو أشد علينا من ذلك. فكان إذا أصبح، وصلى الصبح، خرج الى طرف القيروان من ناحية رقادة، ومعه سيفه، وترسه، وقوسه، وسهامه، وجلس محاذياً لرقادة، نهاره. الى غروب الشمس. ثم يرجع الى داره. ويقول احرس عورات المسلمين منهم. فإذا رأيت منهم شيئاً، حركت المسلمين عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 وكان ينكر على من خرج من القيروان الى سوسة، أو نحوها من الثغور. ويقول جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك. قال الفقيه ابن سعدون القروي: لما دخل عبيد الله الشيعي، القيروان، وخطب أول جمعة، وجبلة حاضر، فلما سمع كفرهم. قام قائماً. وكشف على رأسه، حتى رآه الناس، وخرج يمشي الى آخر الجامع، ويقول: قطعوها قطعهم الله. فما حضرها أحد من أهل العلم بعد هذا. ولما ولي الصديني القضاء، أيام أحمد بن الأغلب، كان جبلة يصلي الظهر أربعاً، بأذان وإقامة. فقال له المؤذن: ترى أن نؤذن ونقيم داخل المسجد؟ فلما آن الوقت، حاد من الصلاة. فقال له جبلة: قد قال مالك في المسجونين، يجمعون في السجن، لأنهم منعوا من الجمعة. فنحن أقمنا أنفسنا مقامهم. وكتب الصّديني الى ابن الأغلب يخبره بما فعل، جبلة. فأرسل إليه: مدّ يدك الى من شئت، واترك جبلة. وجاء صاحب الحرس، فقال له: يقول لك الأمير، كرر الإقامة. وسلم من اثنتين، ولا تقنت. فقال له جبلة: الأمير لا يعلّمنا أمر ديننا. وجاءه آخر من قبل القاضي بمثل ذلك. وبقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. وبزيادة حيّ على خير العمل. في الأذان. فقال له جبلة: قم قبّحك الله، وقبّح من أرسلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 فرجع الرسول الى المروردي، فأخبره، فسبّه المروردي، وقال له: أنا أرسلتك الى جبلة، تأتي الى أولياء الله تعالى. تتعرض في دعائهم. وتجسس عليه يوماً صاحب الحرس، فأخذه جبلة وأدخله المسجد، وضربه بالجريد، حتى تاب ألا يعود إليه. فقال القابسي: إنما سلك السبأي في هذا الباب، مع بني عبيد، طريق جبلة. ولما ولي ابن عبدون، وكان عراقي المذهب في القضاء. جاء الى القصر الذي فيه جبلة. فخرج إليه، أهله. فتلقوه. ولم يخرج جبلة. فقيل له: ابن عبدون يأتيك ليسلم عليك. فأتى ابن عبدون على بابه. فسلم عليه. فلم يرد عليه. وقال له وهو جالس: ما اسمك. قال: محمد. قال له يا محمد: إياك إياك أن تقول: القرآن مخلوق. وحضر جنازة مع ابن عبدون، فقدم جبلة، وصلى ابن عبدون وراءه. ثم حضرت أخرى، فقدم عليها ابن عبدون، فلم يصلّ جبلة، وانصرف من جهة القبلة، فشقّ ذلك على ابن عبدون وأرسل إليه في ذلك. وقال له: أتظن أني أقول بخلق القرآن؟ ما أقول فيه. فقال له جبلة: أمرك عندي، أشرّ: ألست الذي ضربت: ابن معتب والربيع، وفلاناً وفلاناً. وأطفتهم وتنادي عليهم: حزب الشيطان. وهم رجال سحنون. وأخذوا عن رجال مالك عن التابعين عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أخباره في دنياه وزهده فيها، رحمه الله تعالى ما حكاه المالكي: أن كانونه انكسر، كان يصطلي به، فألصقه بالزيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وأنه رئي يروح على ماء، في إناء، فسئل. فقال: اشتهيت الماء البارد. ووجد بعض أصحابه من صنع بيسارا. وجعله في صحفة فوق السطح، ليجمده. فقال جبلة: مساكين غفلوا عن بيسارهم، حتى جمد. فصب لهم فيه الماء. فجاءه القوم، فصاحوا: من أفسد علينا بيسارنا. فقال لهم جبلة: أنا. لا تظنوا إلا خيراً. ظننت أنه فسد. ولم يكن جبلة بخبير في شيء من دنياه، ولا مشتغلاً بشيء من أخباره، لا من البله عن ذلك. إنما أشغلته العبادة والخير. وكان له قِبَل إنسان، أربعة دنانير. فتعذّر عليه إعطاؤها. فصالحه خادم جبلة، على أن يدفعها نجوماً. ربع دينار في كل شهر. وأخبره بذلك. فقال له جبلة: ربع مثقال، كثير. ولا أراه يقدر عليه. ولكن خذ منه أربعة دراهم، في كل شهر. وصرف المثقال اثني عشر درهماً. فقلت: ربع المثقال، أقل، من أربعة دراهم. فقال لي: حسن إذاً. قال القابسي: دخل جبلة يوماً على سحنون، وعليه ثوب خلق. فلما فرغ السماع وخرج الناس، دفع سحنون إليه شقة. ورداء. وقال له: اقطع من هذه الشقة، محفصين. وألبس الرداء. فلما خرج، ساومه فيها قوم من أصحابه. فلم يزالوا به، حتى اشتروا ذلك منه بألفي دينار فبلغ ذلك سحنون. فقال: اشتروا منك ما عرفوا. وبعت ما لم تعرف. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون. في مصلى العيد، لكثرة من اجتمع من الناس، رحمه الله تعالى. ومولده رحمه الله تعالى سنة عشر ومائتين. حمديس القطّان واسمه أحمد بن محمد الأشعري. رحمه الله تعالى. يقال إنه من ولد أبي موسى الأشعري. من أصحاب سحنون. رحل فلقي بالمدينة أبا مصعب، وغيره. وبمصر أصحاب ابن القاسم، وابن وهب وأشهب. قال ابن حارث: كان علماً في الفضل، ومثلاً في الخير، مع شدته في مذاهب أهل السنة. وغلوّ عظيم، في النهي على من ينحرف عن طريقة أهلها. لا يسلم على أحد منهم. وكان قد لهج الناس بتفضيله، وأقروا بخيره. وبه، وبعبد الجبار يضرب المثل، في العبادة والدين. وكان صاحباً له. قال ابن عياش: كان ورعاً، كاملاً ثقة، مأموناً. قال أبو العرب: كان كثير الكتب. شأنه في العبادة. مجانباً لأهل الأهواء، والسلطان. هجر عبد الجبار بسبب قراءته كتب ابن مهدي البكري. وكان لا يسلم عليه، ولا يرد عليه إذا سلّم. وهجر حمّاساً بسبب مخالفته في الاستثناء في الإيمان. ولم يصلّ خلفه، وسئل في القعود للناس، فامتنع. ورأى أن في عصره من يقوم مقامه، ويقال إنه قال: ثم من يقوم بهذا؟ ويلزمني. قال أبو سعيد بن محمد بن سحنون: لما اعتلّ حمديس، أحضرنا له طبيباً. فتبسّم، وقال: ما أقبح المخالفة بعد الموافقة. من أراد الله به حالاً، وأراد هو غيره، فقد خالف. ثم قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 بيد الله دوائي ... الذي يعلم دائي إنما أظلم نفسي ... باتباعي لهوائي بك قد داويت دائي ... غلب الداء دوائي وكان لا يسلك على القناطر التي بناها أصحاب السلطان. وحضر مرة مع ابن عبدون القاضي، فأوتي بجنازة، فصلى وراءه القاضي ابن عبدون. ثم أوتي بأخرى، فصلى عليها القاضي، فلم يصلّ وراءه حمديس. فمضى القاضي ابن عبدون الى ابن الأغلب. فأنفذه. فشاور في ذلك بطانته. فقالوا: ليس لك شيء تصل به إليه، إلا أن تنهاه بأن لا يجتمع إليه أحد. فأوصى بذلك إليه. فقال حمديس: لا أمنعهم. المساجد لله. ولما أمنع أحداً من دخولها. وأنت أقدر. فاجعل على باب المسجد من يمنع من أراد منعه. قيل لابن عبدون: ولا يمكنكم هذا. فوجه إليه: يدخل إليك من تشاء. فقال حمديس: لا أمنعهم، ولا أتركهم. ثم عزل ابن عبدون. فاجتمع الناس إليه، لطلبه الشهادة عليه. عند الأمير، ما خلا حمديساً. فإنه لما سأله الأمير، قال له: بلغني ما بلغ الأمير. ثم تنحّى عنهم الأمير بمكان، يسمع كلامهم. فقالوا لحمديس: ما منعك من الشهادة. فقال إنما كنتم تطلبون عزله، وقد عزل. ثم عاد الأمير، فسأله، وقد ظن أن أصحابه يردونه. فقال أكذب نفسي على لساني. وقد كان لا يرى الصلاة مع ابن عبدون. ولا أداء الشهادة عنده. ونهى الناس عن ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وحضر مع أحمد الصواف، جنازة الصوّاف. فقدم لها حمديس. فقال: لا أفعل. فقال أحمد: ذلك لي جائز، إذ قدّموني، أن أقدّمك. فإني لأستحي من الله أن أقدَّم بين يديك. وكان ينكر فعل هؤلاء الذين يجتمعون ويضربون صدورهم، ويقول: لو كان لي من الأمر شيء، لنفيتهم من المنستير. وكان لا يصلي خلف أهل البدع، ومن يخالفه. وفعل ذلك هو وابن سحنون، ويحيى بن عمر، حين ولي الصلاة. ابن أبي الحواجب. وكان يتهم بالرفض. وفعل ذلك سحنون بغيره، وترك الصلاة خلف القاضي، سليمان بن عمران، في جنازة. فجاء إنسان فأخبر بذلك، سليمان. فقال سليمان: خلّ الناس على ما هم عليه، واستحضره ابراهيم، فسأله عن مسألة. فلم يجبه. فقال ما لي أسألك، فلا تجيبني؟ والله لئن ضربت مخالبي فيك لأفعلن كذا، وكذا. فقال حمديس: والله لهو أهون عليّ من أن يمسح على ديني. إنما سؤالك تنكيت. ليس ليعمل به، وكان كثير التواضع والإشفاق، لا يرى لنفسه ذكر ابن خير: أن رجلاً ذكر له أنه رأى في المنام امرأة كانت مسرفة على نفسها، في منظر حسن. وحال حسن. فسألها عن سبب ذلك، لما يعرف من كثرة إسرافها. فقالت: إن حمديساً سئل أن يصلي عليّ فصلى علي فشفع بي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 فنظره حمديس نظرة منكرة. وقال: ما يحسن أن تقول مثل هذا، إلا كما قال محمد بن كعب القرظي، لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. لا يغرّنك حسن ثناء المادحين، ولن ينفعك ما قالوا فيك. إذا لم يكن ذلك فيك. وأنت أعلم بنفسك من مقال القائلين. فإن يكن فيك ما قالوا، فلا يضرّك لو سكتوا، وإن لم يكن فيك لم ينفعك ما قالوا. ثم قال للرائي: نامت عينك انصرف إذا شئت. قال حمديس: أحضرني الأمير ابراهيم بن أحمد، مع يحيى بن عمر، فأقمنا عنده الى الليل، وأصابنا مطر، ثم أمرنا بالإنصراف. فخرجنا في ظلمة، ومطر، ما نهتدي أين نمضي. إذ سمعت صوتاً ينادي حمديس، ويحيى بن عمر، فعدل بنا الى دار، فدق دقاً عنيفاً. ففتح. فإذا هي دار ولد أبي العباس الأمير. فقال له: يأمرك الأمير أن يبيت عندك الشيخان الليلة. فدخل بنا الى بيت من الدار، وأتي لنا بشمعة. فقلت للخادم إن رأيت أن تنحي عنا هذه الشمعة، فافعل. فقال: إنما فعلته إكراماً لكما. فنحاها. فلما - فراغ - يحيى بن عمر. فنام على فراش البيت. فلما كان بالغداة أرسل إلينا أبو العباس، لا تصلوا حتى أصلي معكما. فخرجت الى الطريق، فتوضأت من الماء المستنقع فيه. ثم خرج، وجعل يسألني عن أشياء. فقلت: ما شئت أن تسأل عنه من شيء. فعليك بالشيخ يعني ابن عمر. فإنك تجد عنده ما تريد. فسأل عن أشياء. ثم صلى بنا، يحيى بن عمر. وجاء رسول الأمير ابراهيم، يستدعينا، فدخلنا عليه، وطال المجلس في المذاكرة. فقال لي: من أين عيشك؟ وفي كم أنت من العيال؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 فقلت: في ستة. ثم قلت له: لي الى الأمير حاجة. فنشط لها. وقال أذكر: فقلت تعافيني من المجيء إليك في هذا المجلس. فإنك لا تجد عندي ما تريد، مما يكون عوناً لك. فسكت ساعة، ثم قال: قد فعلت. فقال يحيى بن عمر، وأنا أيها الأمير. فقال: لا. لست أفعل. ثم وجه إليّ حين ولي عيسى بن مسكين القضاء. فقلت للرسول: قد سألته معافاتي. فقال لي: لا تفعل. يأتيك صاحب المدينة ويمضي بك. فقلت مشافهة. ليَكبر ما أرسله. فانصرف الرسول، وجاءني أحمد الصواف، وقد بلغه الأمر. وكان لي أخ صدق. وقال لي: لا تفعل: أخشى أن يكون هذا منه مكراً بك. فيجد إليك السبيل. فتوجهت. فلما دخلت عطف على ابنه، وقال: والله ما وجهت إليك - كالمعتذر - فقلت: والله ما أتيتك إلا تِقاءَ؟ فقال لي: اجلس. فلعل الله يجعل في مجيئك بركة. وذكر قصة ولاية ابن مسكين. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون. مولده في رجب سنة ثلاثين ومائتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 حمديس بن ابراهيم بن صخر اللخمي من أهل قفصة. ونزل مصر وبها توفي. رحمه الله تعالى. قال أبو العرب: هو فقيه ثقة. سمع بالقيروان ومصر من ابن عون، ومحمد بن عبد الحكم، ويونس الصوفي. وكان لقمان الفقيه، يتكلم فيه. وله في الفقه كتاب مشهور، في اختصار مسائل المدونة. رواه عنه مؤمّل بن يحيى، والناس. وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين. ثابت بن سليمان قال اللبدي رحمه الله تعالى: كان رجلاً جليلاً، في أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. قال يحيى بن عمر: إذا رأيت محمد بن سحنون يقول: حدثني الثقة عن سحنون. فهو ثابت بن سليمان. وكان ثابت بقصر زياد، وكان حمى قصور زياد، المرابطة بساحل إفريقية، دار ملك، بكثرة من فيه من العلماء، والعباد، والصالحين من أصحاب مالك. قال اللبدي: كان به من أصحاب سحنون أربعة عشر رجلاً. عبد الجبار بن خالد بن عمران السرتي أبو حفص رحمه الله تعالى من أكابر أصحاب سحنون. وسمع منه أبو العرب. وابن اللباد وغيرهما وعالم كثير. قال أبو العرب: كان شيخاً صالحاً. ثقة متعبداً. طويل الصلاة. كثير الذكر. كان يختم القرآن في كل ليلتين من رمضان، من عقلاء شيوخ إفريقية. من أصحاب سحنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 قال ابن حارث: كان صاحباً لحمديس بن القطّان. وبهما يضرب المثل في الفضل، والدين. إلا أن عبد الجبار، كان أنبَه وأفهم، لمعاني العلم والفقه من حمديس. قال: وكان ذا رئاسة في العلم، ونظر تام. قال أبو عياش: عبد الجبار عالم واسع العلم، فهم نطّاق بالحكمة. قال: ودرّس عبد الجبار العلم حتى بلغ، أو كاد مبلغ سحنون. ثم لما حجّ الحجة الثانية. قال: قد نلنا من هذا العلم، ما علمت. وقد ماحت نفسي الى هذه الناحية من العبادة. فبلغ فيها مبلغ البهلول، أو رباح. وقال سحنون: عبد الجبار، تقي في بطن أمه. وقال حمديس القطّان: ما رأيت أورع من عبد الجبار رضي الله تعالى عنه. ذكر أخباره وفضائله وذكر القابسي: أن عبد الجبار راح إلي الجمعة، على بغل الراوية، يوم طين. فلما صلى. لم يجد ما يرجع عليه. وكان بعيد الدار من الجامع. فرفع إليه رجل جندي، فرسه. فركبه. فنظر إليه أصحابه. فقال: ما بالكم. أما ورَعٌ نقَص، أو علم زاد. قال بعضهم: إنما فعل لضرورة. إذ لم يقدر، على المشي. ولعله تصدق بقدر انتفاعه. وخرج من عند الأمير ابراهيم، وكان يكبره، ويجلّه. فشيّعه الى أن ركب وأصلحت عليه ثيابه. وكان بينه وبين حمديس القطان، صحبة عظيمة. وشركة في القطن، يعملان في سوق الأحد، الى أن تهاجرا، بسبب كتب محمد بن مهدي البكري. كان عبد الجبار يقرأها، فنهاه عنها حمديس. وقال له: سمعت سحنون يقول: ابن مهدي هذا. ضال، مضلّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 فلم ينته عنها، عبد الجبار، فهجره حمديس. ولم يزالا متهاجرين أربعاً وعشرين سنة. وكان حمديس لا ينهى الناس عن السماع منه. وكان عبد الجبار إذا مرّ بمسجد حمديس، سلم عليه، فلا يرد عليه السلام، يعني حمديس. فيقول عبد الجبار: ما هجرني إلا لله. ويقول: حمديس، رجل صالح. وكان ابن طالب صديقاً لعبد الجبار، فهم بتأديب حمديس بسببه، الى أن فسد أيضاً ما بينه وبين عبد الجبار. وكان سببه أن عبد الجبار كتب إليه في بعض أسبابه. فلم يلتفت الى كتابه. فكتب بذلك للأمير، وكان ابن طالب يسمي ذكره. وطلبه ابن طالب عند الأمير، وأوقع فيه الشهادة بمخالفة مذهبه. وشهد عليه ابن الحداد وابن أبي سليمان وجماعة من أصحاب سحنون. واستدعى الشهادة عليه، حمديس. فأبى. وقال: هجرته ديانة. رأى شيئاً، ورأيت أنا خلافه. لم أهجره على مال أكله. أو عرض. فمضى القوم. قال ابن أبي سليمان: فما قام منا أحد حتى نفر عبد الجبار، وكان سحنون ينتظره حتى يحضر. فإذا حضر أمر القارئ، فقرأ. قال عبد الجبار: ما قرأ سحنون كتاباً قط، في باذية ولا حاضرة، إلا وأنا حاضر. وكان ما بينه وبين أبي طالب القاضي، بيناً جداً بعد صداقة، كانت بينهما. وعبد الجبار، أول من شهد عليه عند ابن الأغلب. قال ابن اللباد: وكنا نسمع على عبد الجبار في جامع ابن وهب، ألا يمشي الرجل أمام والده. فقال من برّه به، أن يمشي أمامه في الظلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 قال ابن اللباد: واجتمع عبد الجبار مع سليمان بن عمران، يتذاكران السنّ. فقال له سليمان: نفعك الله بعمرك. فقال له عبد الجبار: وكان سيئ الرأي فيه. وأنت نفعك الله ومتعك بباقي عمرك. وحكى المالكي عن عبد الجبار، أنه ختم في مسجد، ثلاثين ختمة. وكان يختم في مسجده، كل ليلة ختمة. وكان إذا تعايا في الكلمة أو اشتبه عليه، الحرف. تركه. وقرأ، ما يليه. ثم قد يذكره بعد العشرين آية أو الثلاثين فيرجع إليه ويقرأه، مفرداً. ويعود من حيث رجع. وذكر أنه كان غادياً الى الجمعة، فإذا بشاب جميل حسن البشرة، يمشي في أثر صبية. فاتكأ عبد الجبار، فقطع شسعه، وناداه: يا شاب. فوقف، ومشى إليه عبد الجبار، وقال له: أنا شيخ ضعف بصري، وانقطع شسعي، فأصلحه. وأخذ منه النعل فأصلحه. ومشى في أثر الصبية فقطعه ثانية. وناداه ليصلحه فعطف. وقال له: أنا قطعته يا شاب. إشفاقاً على هذا الشباب من لفح النار، وبكى. فبكى الفتى. وجزاه خيراً. وصحبه الى الجامع وحسنت توبته. ذكر شيء من حكمته رحمه الله تعالى قال أبو العرب: كان عبد الجبار من عقلاء الشيوخ، ثقة. وكان كثيراً ما ينطق بلفظ قليل. يدل على معنى كثير، كقوله، من قلّ كلامه قلّت آثامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 ومن كانت له وليّة، لم يعدم بليّة. الصوم عن الكلام، أثقل من الصوم عن الطعام. من خزن لسانه، كثر في الدنيا والآخرة أمانه. ومن خلا بربه، لم يعدم النور من قلبه. ومن خلا بغيره، لم يعدم الزيادة في ذنبه. ومن كلامه: من كان في الله همه، قلّ في الدنيا والآخرة غمّه. ومن كلام عبد الجبار، رحمه الله تعالى: من أصبح وأمسى، وهمه بغير الله مجتمع، لم يسأل الله تعالى عنه في أي واد من أودية الدنيا، وقع. وقال: لو همّك شأنك، لكل لسانك، وهيجتك أحزانك. ولولا الفضول لصفَتِ العقول، ولكان المجهول عندك معقول. ومن كان بالليل نائماً، وبالنهار هائماً، متى ينال الغنائم؟ ومن سكت سلم. ومن تكلم بذكر الله غنم. ومن خاض أثم. ومن وبخك فقد نفعك. ومن نفعك فقد رفعك. وقال: ما أبعدنا منه على قربه منا. إذا لم يرنا. وقال كنت أخلو لأهتم. ثم صرت أخلو لأغتمّ. وفي رواية: كنت أخلو لأعلم، ثم صرت أخلو لأغنم. وقال: كل كلمة لم يتقدمها نظر. فالكلام فيها خطر. وإن كانت من أسباب النظر. وتوفي رحمه الله تعالى في غرة رجب سنة إحدى وثمانين ومائتين. وصلى عليه حمديس، صاحبه، فيما قال ابن أبي خالد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 وقال أبو العرب: بل في جمادى الأخيرة من السنة. مولده سنة أربع وسبعين ومائة. عمر بن يوسف بن عمر بن عيسى أبو حفص رحمه الله تعالى. عداده في أهل إفريقية. وأصله من إشبيلية. سمع يحيى بن عمر، ومحمد بن وضاح. ذكره الشيرازي في عداد فقهاء المالكية. وزعم أنه سمع من سحنون، ولم يذكر أبو العرب عنه سماعه. قال أبو العرب: كان صالحاً ثقة، ثبتاً ضابطاً سمع من سحنون ولم يذكر يحيى بن عمر ولا غيره. وسمعت منه. وكان سمع بمصر، من محمد بن عبد الحكم، وأخيه سعد، وابراهيم بن مرزوق، وابن عزيز الإيلي. وسكن سوسة. وتوفي بها، رحمه الله تعالى. سنة ست وثمانين ومائتين. والأول أصح؟ وذكر ابن حارث، فيمن ولي قضاء طليطلة: عمر بن يوسف بن عمر بن يوسف بن عمر في رأس ثلاثمائة سنة. وأراه آخر، وافق اسمه. والله سبحانه أعلم. وكان قليل ذات اليد، لا يتعرض لشيء مما في أيدي الناس. وكان كثيراً ما يقول: أيا نفس قد أثقلتني بذنوبِ ... أيا نفس كفي عن هواك وتوبي كيف التصابي بعدما ذهب الصبا ... وما حل بعارضتي عتاب مشيبي سمع منه أبو العرب، وعبد الله بن الباجي رحمهم الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 أبو الأحوص أحمد بن عبد الله كان رجلاً من أهل الفضل، مكفوف البصر، بعد صحة. وهو من المغرب. وسكناه بسوسة. له صحبة مع سحنون. وسمع كثيراً منه، ومن ابن زُغبة بمصر، قال أبو العرب: وكان يصلي من الضحى الى صلاة العصر، ثم يجلس، يسمع منه. سمع منه أحمد القصري. قال ابن حارث: وكان الخير والعبادة أغلب عليه من الفقه. وبلغني أنه كتب كتاباً، الى ابراهيم بن أحمد بن الأغلب يعظه فيه، بلفظ غليظ. فأرسل إليهم ابراهيم. وقيل: بل أتاه ابراهيم بباليل، فقال له: أنت وجهت إليّ هذا. قال: نعم. قال فمن كتبه لك. فأبى أن يخبره. فوقاه الله شرّه. وذكر ابن اللباد: أن رجلاً رآه كأنه واقف على باب الجنة. وأبو الأحوص يريد أن يدخل الجنة، ورجل زيات من أهل سوسة، يمنعه الدخول، ويقول: لا أدعك تدخل، حتى تدفع إليّ حقي. قال: هذا قصر أعطيكه. قال: لا. قال: فقصرين. قال: لا. قلت أيا هذا، أيعطيك قصرين في الجنة وتأبى. وإنما لك عليه درهمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 فنفضني نفضة، وقال: إن الله تعالى ما كذب ولا يكذب، بل لابد من القصاص يوم القيامة. فانتبهت لنفضته، وأنا أعرف الزيات. فغدوت الى المسجد الجامع، وجلست بين الأبواب حتى دخل الرجل، فأشرت إليه، فأتى. فلما انقضت الصلاة قلت له: يا فلان ما لك على أبي الأحوص؟ فقد أوصاني إليك بشيء نسيته. فقال: درهمان. فدفعتهما إليه. وأخبرته بالرؤيا. وكان أبو الأحوص، متقللاً من الدنيا، زاهداً فيها. وكان سبب سكناه بسوسة، أنه أقام بها مرابطاً، مدة. حتى فرغت نفقته. فأراد الرجوع الى بلده. فبينما هو يركع بجامعها، إذا بعصفور جاء بشيء الى فراخه، فسقط من فيه ما جاء به، فخرج فأر من خلف الحصير، فأكل ما أسقط. فقال في نفسه: فأر خلف الحصير، قيّض الله له خلف رزقه، فلم يضيعه. فكيف أضيع أنا. لله عليّ ألا أضيّع مدينة الرباط. وكان ابن الأغلب يزوره. فإن وجده يطحن جلس على التراب. وإن وجده يأكل جلس على جلد المطحنة. لأنه لم يكن عنده حصير في البيت، ولا غيرها. وكان إذا عرضت للمسلمين حاجة. كتب إليه بالفحمة على شقفة. وسأله الأمير مرة: هل لك حاجة؟ فامتنع. فعزم عليه. فقال ثلاث حوائج. قال: هي مقضية. قال فما هي: فطلب منه الزيادة في الجامع لضيقه عن الناس، وإجراء سقاية من خارج المدينة الى مواجلها. وإخراج من سجن. فأجابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 قال أبو الأحوص: غاب إما الجامع يوماً عن صلاة العصر، فعزم علي، فتقدمت. فلقد صحّ عندي أني ما سلمت من الصلاة حتى بدأ قوم يفتشون عن عيوبي. وما سمعت من يذكر ذلك قبل، كأنه يقول: إن الخمول من أسباب الستر. قال ابن اللباد: ذكر أبو العدل، قال: كنت بمدينة سوسة مرابطاً. فبلغني أن سعيداً الضرير قدم، فتوجهت إليه مع أبي الأحوص، أسلّم عليه. فوجدناه عنده ناساً. وذلك بعد العصر. فدعا وقرأ. ثم افترقنا بعد المغرب. وكان وقت قحط ومصيف، وحاجة الناس الى الماء. وقد فرغت مواجلهم. فوقف أبو الأحوص في بعض الطريق، فوقفنا لوقوفه. فقال: اللهم إن كنت استجبت لنا في مجلسنا هذا، فعرفنا بركة ذلك، بأن تسقينا الغيث. فما دخلنا المسجد إلا ونحن نخوض الماء من المطر. قال أبو الأحوص: أتيت للسماع من سحنون، فبقيت عنده مدة، لا يسأل عني، فلما أردت الرجوع الى بلدي، أتيته لأسلم عليه. وذكرت له أني أريد الرجوع. فسلّم عليّ وقال: يا بني لا تنسنا من دعائك. فقلت في نفسي: يسألني الدعاء - أزري على نفسي - وكنت أظنه لا يعرفني. وقال عبد الوهاب الزاهد: قمت على برج، على شاطئ البحر، فإذا أبو الأحوص رحمه الله تعالى، بين شرافتين في سواد الليل يقول: أبوا أن يرقدوا ليلاً ... فهم لله قُوّامُ أبوا أن يفطروا دهراً ... فهم لله صُوّام أبوا أن يخدموا الدنيا ... فهم لله خدّام لا إله إلا الله والله أكبر. ولله الحمد. ثم اندفع في السباحة حتى سمع حسي. فقال لي: من أنت؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 فقلت: عبد الوهاب. فقال يا بني: يا أبا القاسم. إنما نقطع الدنيا بالهموم والعلل، والأحزان والأمراض، والأعمال. وإنما نفرح غداً بالنظر الى الله تعالى. إذا صرنا الى دار السلام. فقال أبو الأحوص: سئل سحنون عما يأتيه به أهل الشام، من الرخص في الفتيا. قال سحنون: يؤخذ هذا العلم من الموثوق بهم في دينهم المحسوس بخيرهم فإن أخذوا بالتشديد، فعن علم، وإن أخذوا بالرّخص فعن علم. وتوفي بسوسة يوم الأحد سنة أربع وثمانين ومائتين. رضي الله تعالى عنه ورحمه. أبو عياش أحمد بن موسى بن مخلد من العجم. رحمه الله تعالى وينتمي الى غافق. ويقال له: عيشون. وقال ابن أبي دليم في كنيته: أبو العباس بباء واحدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى. وهو وهم لا شك فيه منه، أو من النقلة. وصوابه أبو العياش. بياء باثنين من أسفل. وقال أبو العرب التميمي: كان شيخاً صالحاً، ثقة فقيهاً، عالماً ثبتاً زاهداً، متعبداً ورعاً. صحيح الكتاب، حسن التقييد، معدوداً في كبار أصحاب سحنون، وعليه اعتمد. سمع منه ومن عبد العزيز بن يحيى المدني. وابن رمح. وأبي إسحاق البرقي. وهارون بن سعيد الإيلي، ومن غيرهم. وسمع أيضاً من الوقّار. سمع منه أبو العرب وأبو القاسم بن تمام، وعبد الله بن مسرور، ومحمد بن يونس السدري، ولقمان بن يوسف وغير واحد من الأجلّة. وعالم كثير. وكان لا يذكر أحد بحضرته لغيبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وبلغ من تقشفه، وزهده، أنه كان يركب ثوراً من باب أبي الربيع، بالقيروان، حتى ينتهي الى منزله بالرّوحا فإذا كلم في ذلك، قال: حسبك من الدواب ما يبلغك المنهل. وولاه ابن طالب قضاء قسطلية. ويقال، سحنون. وامتنع. حتى تخلّص، وكان عالماً بأخبار علماء إفريقية. وطال عمره. قال ابن أبي خالد: كان زاهداً ورعاً، متعبداً، فاضلاً عالماً بكتبه. قال أبو القاسم ابن تمام: رأينا منه من الإجابات والفراسات أمراً عظيماً. مرض ابني أحمد، قلت له أريد السفر، فإن حدث بأحمد الموت توليته، وصليت عليه. فقال اذهب الى سفرك. فما هو بميت من هذه العلة. وأراه يقوم فلم يمت منها. قال محمد بن يونس القروي: سألت أبا عياش عن التجارة بالقمح، وحكرته. فأباح لي ذلك في وقت كثرته ورُخصه. ومنعه في وقت غلائه. إلا ما لابد منه. وقال: هذا بخلاف الزيت. يريد إباحته في كل وقت. واحتجّ بأن ابن المسيب، كان يحتكر الزيت. وكان يميل الى الرقائق، والمواعظ. ويختم بذلك مجلسه. ويقطع له ولغيره، بأنه مؤمن عند الله، على رأي محمد بن سحنون، ومن قاله قبله. توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة خمس وسبعين ومائتين ومولده سنة سبع وثمانين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 أحمد بن مروان الصوّاف أبو جعفر. رحمه الله تعالى. سمع من سحنون. ومن مروان بن أبي شحمة. قال ابن حارث: كان من الفضلاء المتقدمين والعباد المجتهدين. كان من أصحاب سحنون. وغلبت عليه العبادة والخير. ويقال إنه كان مستجاب الدعوة. قال أبو العرب: كان فقيهاً عالماً بالفقه، والمناظرة عليه. ثقة، حسن العقل. ذا اجتهاد في العبادة. وكان يسمى جوهرة أصحاب سحنون. قل من أخذ عنه، إذ لم ينصب نفسه لذلك. وكان إذا قام للصلاة، لم يشغل نفسه بسواها. فلو جرى ما شاء الله تعالى، لم يعلم بشيء منه. ذكر ذلك ابن أبي زيد، الفقيه رحمه الله تعالى. قال: كان له ابن، له أصحاب يجتمعون على اللهو، والغناء، وكانت والدته تقول له: لا تتحركوا حتى يأخذ والدك في الصلاة. فإذا أخذ في الصلاة، أخذوا في شأنهم. فلا يشعر بهم. فإذا أحست الوالدة بانصرافه منها. ضربت الحائط فكفوا. أبو داود العطّار واسمه حمد بن موسى بن جرير الأزدي. أصله من الجند الداخلين ويقال أسلم جده على يدي يزيد بن حاتم. وأبوه موسى من شيوخ إفريقية. سمع ابن سلام وغيره. وكان أبو داود، رحمه الله تعالى عطاراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 قال أبو العرب: كان صالحاً، ثقة في نفسه. سمع سحنوناً، وهو من كبار أصحابه. ومن يحيى بن سلام وابن أبي خارجة. ومعاوية الصمادحي. وأسد بن الفرات. وابن غانم، مسألة واحدة، يأخذ عنه الناس، وفي كتبه خطأ وتصحيف. قال محمد بن حارث: كان ظاهر الوجدانية والتقدم. معدوداً في أصحاب سحنون. قال أبو العباس الإبياني: كان أبو داود العطار، قرب سحنوناً إليه. وكان يرضاه جداً. وكان مختلطاً بأهل دار سحنون، لمكانه عنده. يشهد عنه بشهادة قضائه. فكتب سحنون إلى ابن عبدوس فيه، فلم يمض شهادته. وكان ابن عبدوس يكتب إليه وسأله عن سبب رده له. وقال له: هل لأحد في أبي داود، توقف؟ فقال له ابن عبدوس: حضرت يوماً بحانوته، فرأيت بعض أهل التعريف يشتري من غلامه، فبلغ ذلك أبا داود، فأتى ابن عبدوس وقال له: أخبرنا ما أنكرت علينا، لعلنا نصلحه. فذكر له القصة. فقال له أبو داود: الغلام صرّف ماله. فأخبر ابن عبدوس سحنون بذلك. فسرّ به. وقال: قد علمت أنه يبعد عن الريبة. توفي رحمه الله تعالى. في ذي الحجة سنة أربع وسبعين ومائتين. وهو ابن إحدى وتسعين سنة. مولده سنة ثلاث. وقيل اثنين وثمانين، ومائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وله ابن اسمه محمد. ويكنّى: أبا عبد الله، سمع أيضاً من سحنون. وتوفي سنة ثلاثمائة. ابراهيم بن عتّاب الخولاني أبو إسحاق. رحمه الله تعالى. من أصحاب سحنون رحمه الله تعالى. وكتب له أيام قضائه، وسمع أيضاً من عبد العزيز المدني. قال أبو العرب رحمه الله تعالى: وهو ثقة مأمون. قال ابن حارث: رحمه الله تعالى، كان قليل الفهم، غالياً في مذهب ابن سحنون في مسألة الإيمان، شديد الحمل على محمد بن عبدوس، عصبيةً لابن سحنون. حتى أنه لم يصلّ على ابن عبدوس. وقد تقدم على جنازته، فوجه فيه ابن طالب رحمه الله تعالى. وأراه كان إذ ذاك على مظالم القيروان. فسأله: لمَ فعل ذلك؟ قال: لأنه شكوكي، يقول إنه ليس بمؤمن، عند الله تعالى. فقال ابن حمدوس: أشهد أن ابن عبدوس، قال: من قال إنه ليس بمؤمن عند الله تعالى، فهو كافر عند الله تعالى. فأمر ابن طالب بسجن ابن عتاب، وكان ابن عتاب هذا إمام مسجد سحنون رضي الله تعالى عنهما. وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين رحمه الله تعالى. عبد الله بن غافق التونسي أبو عبد الرحمن رحمه الله تعالى. سمع من سحنون وزيد بن بشير. ولقي ابن عبد الحكم. وكان موصوفاً بالورع والعلم والكرم. قال أبو العرب: كان فقيهاً، ذا هيبة ونسك، معدوداً في أصحاب سحنون، ثقة مأموناً. وكانت له طاعة بتونس، لا يتقدمه أحد منهم في وقته، ولا يخالف أمره. وعرض عليه ابراهيم بن أحمد قضاء القيروان. فامتنع. وكان قبل قد استشار ابن طالب، فقال: رجل صالح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وأشار هو بابن طالب، وكان ابن عمران القاضي يقول: ما يحل لي أن أولى القضاء بتونس، حتى أعرض ذلك على ابن غافق. فحينئذ أولّى. وكان من كان وليها عن رأيه يصدر، وبقوله يأخذ الشيرازي. وعليه كان اعتماد أهل بلده، في الفتوى. وزعم أنه تفقه بعلي بن زياد. وهذا وهم كبير. لأن ابن غافق، ولد بعد موت علي بأزيد من عشرين سنة. توفي علي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وولد ابن غافق سنة أربع ومائتين. سمع محمد بن عمر، وقال ابن حارث: كان من الحفاظ المعدودين من وجوه هذه الطبقة. فقيهاً نبيلاً عاقلاً. من أهل المروءة. وكان سحنون إذا أراد أن يحرض ابنه، يقول له: ادرس، لا يجيئك كبير الرأس، يعنيه. وكان رأسه كبيراً. وسمعت بعض الشيوخ يحكي، أن ابن غافق كان حليماً، كريماً. كثير الأخذ والفضل. وكان له عدوّ من أهل بلده. فقدم عدوّه الى القيروان يبدأ بثلبه. ونقضه لا يقعده في مجالس أهل العلم. فبلغ ذلك ابن غافق، فبدأ بإرسال التحف والهدايا، الى من خلف ذلك الرجل، في داره بتونس، من أهله وولده. فأغرقهم بها. وكتبوا إليه الى القيروان يعلمونه أن ابن غافق، أغرقنا بالنعم. فاستحيا ذلك الرجل، الذي يثلبه، وقلب لسانه بحمده وشكره. وجعل يعتذر الى كل من حفظ عنه فيه مقالاً سيئاً. ولما حجّ ابن غافق، أهدى إليه رجل هدية في سفره. فكافأه عليها في حينه. ثم أهدى إليه ثانية، فكافأه. فجعل الآخر يكثر في تهاديه، وابن غافق من مكافأته، فلما أكثر عليه، لقيه، فقال له: ابن غافق: إن كان يسرّك أن أرجع الى بلدي، وعليّ دين فتمادَ في فعلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 فكف الرجل عنه. ويقال: ثلاثة رجال من أهل العلم، لم يكن أحد في الناس أطوع منهم. محمد بن سحنون بالقيروان، وأحمد بن مخلد بقسطلية، وابن غافق بتونس. وكان ينزل في القيروان، على أحمد بن أبي زاهر. ورحل ابن غافق الى رجل بالجزيرة. يتعلم منه الأدب. فبقي عنده عشر سنين. وبعد هذا وصل الى سحنون. ولما وصل الى مصر، لقي محمد بن عبد الحكم، وكان أتى مجلسه، وهو لا يعرفه، فسأل محمد أصحابه عن مسألة. فأجابه عنها بعضهم. فقال ابن عبد الحكم وكان أتى مجلسه وهو لا يعرفه. بل فقال ابن عبد الحكم: من أين لك هذا الجواب؟ فقال من هذا؟ يعني ابن غافق. وكان جلس الى جانبه. فسأله محمد من أين الرجل؟ فقال: من تونس. فقال أنت ابن غافق؟ قال: نعم. فسلم عليه. وسأله عن مسألة الإيمان، وما وقع فيها من الاختلافات بالقيروان. فقال له: قال قوم، نحن مؤمنون عند الله، مذنبون. وقال قوم نحن مؤمنون، ولا ندري، ما نحن عند الله. فقال: ما قال بها محمد بن سحنون؟ فقال له: مؤمنون عند الله. فقال دعني بهذين فبعث إليه. فقال الصواب ما قاله محمد بن سحنون. فلما قدم ابن غافق، وضع رسالته في الإيمان ولم ينسبها الى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 نفسه. فكتبها الناس واستحسنوها، فأذاعها رجل نحوي. فبلغ الخبر ابن غافق. فقال: إنما ظننت أنكم تعملون بما فيها. فلما نسبت لغير أهل العلم، والله لم يسعنِ السكوت. أنا وضعتها. وقرأتها على يحيى بن عمر، فاستحسنها. وقال: أنا أرويها عنك. وكان حمديس، وموسى القطان، يعجبان بها، وذكر أنه ناظر ابن الكوفي يوماً فلما ضيّق ابن غافق عليه بالحجة، قال له ابن الكوفي: إن مشورتك كبيرة - يعني رأسك - وكان طويل الرأس. فقال ابن غافق: ذلك أكثر لحشوها. وتوفي بتونس، رحمه الله تعالى سنة خمس. ويقال سبع وسبعين ومائتين. وسنه ثلاث وسبعين سنة. مولده سنة أربع وثمانين. محمد بن بشار الرويني فقيه، ثقة. أخذ عن سحنون. قال بعضهم: مررت به مرة، فرأيت فيه إنكاراً، فسألته. فقال: ما لي لا أغتمّ، وكانت لي خادم تمنعني من الفِرن، وإنما أصبت بها، فأعلمت بذلك، سحنوناً. فبعث الى خمسة رجال من أهل الساحل. وبعث الى جامع العطار، فأخذ منه خمسين ديناراً وقال: ادفعها عشرة، عشرة، للخمسة الرجال. وقال لهم: فرقوها على ثقات في الزيت ففعلوا وكان ذلك قريباً من جمع الزيتون. فلما أتم، كتبوا إليه باجتماع الزيت، فأمرهم ببيعه، فباعوه بمائة دينار. فردّ منها الى العطار خمسين ديناراً وبعث بالخمسين الى الزويلي فأخذها، ودعا له. وقال له يفتقدنا في دنيانا وآخرتنا. رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 سهل بن عبد الله بن سهل الفبرياني رحمه الله تعالى. تقدم ذكر أبيه. يكنى بأبي يزيد وكان معدوداً في أصحاب سحنون. وسمع منه، ومن عبد العزيز بن يحيى المدني، ومن أبيه. وكان فقيهاً ثقة. وكان كثير المال، فعالاً للخير، بنى قصر الرباط على البحر بسوسة. فأنفق فيه مالاً عظيماً. وكان قوم أرادوا بناءه، فأتوه يستعينونه في ذلك. فتولى جميعه. وقيل بل كان موضعه ربوة رمل كبيرة. كان محمد بن سحنون يجلس عليه، بعد العصر مع أصحابه. إذ كان بقصر الطوب، مع أصحابه، ينظر في البحر، والتفرّج به. فقال يوماً وددت لو بُني هاهنا قصر. فقال له سهل: أنا أبنيه. فبناه. وأنفق فيه نحو ألف مثقال. توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. مولده سنة تسع ومائتين سمع منه عالم كثير، منهم أبو العرب، وأحمد بن محمد القصري، وغيرهم. يحيى بن عون بن يوسف أبو زكريا. رحمه الله تعالى. تقدم ذكر أبيه. له سماع من أبيه. وسحنون وأبي زكريا الجعفري، وجماعة. وسمع منه الناس، وكان مصاباً بإحدى عينيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وذكره في كتاب المالكي، فقال: كان رجلاً صالحاً، من أهل العلم والفقه، وكان إذا كان يوم الشك جعل آنية الماء في المسجد الى جانبه. فإذا سأله أحد عن الصوم شرب الماء. وذكر ابن حارث أنه كان يتهم ويطعن عليه. وضربه سحنون لما صلى على ولده بغير أمره. وقد كان جالساً عند داره، ينتظرالصلاة عليه. حتى مرّ عليه الى قبره. فأخبر أن والده صلى عليه. فمنعه بالسوط بيده. ثم أمربإنزاله واعاد الصلاة عليه. وله كتاب في الردّ على أهل البدع. توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين. محمد بن زرقون ابن أبي مريم. المعروف بابن الطيارة. من العجم رحمه الله تعالى. كان كاتباً لابن طالب، أول قضائه. وكان إماماً خطيباً بجامع القيروان. وكان صالحاً، ثقة كثير الكتب. سمع من سحنون وابنه، وعلي بن معبد وعبد الله بن عبد الله، وغيرهم، من أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 يونس ومحمد ابنا يوسف بن مؤذن من أهل وشقة. سمع بالأندلس والمشرق كثيراً، وشُهِر بالعلم والفضل والزهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 ويكنى محمد: أبو عبد الله. توفي يونس سنة ست وتسعين. وتوفي محمد سنة سبع عشرة وثلاثمائة. قال ابن الفرضي، في باب أحمد بن مؤذن ولقي أحد العبّاد، ورحل. فسمع يحيى بن عمر، وكان ذا قدر جليل، يقال إنه فك من أسرى المسلمين مائة وخمسين. توفي سنة سبع وثلاثمائة. عمر بن يوسف ابن فِهر، بن خصيب الأموي، مولاهم. يكنى أبا حفص. يعرف بابن الإمام. وبيتهم بالثغر معروف بالعلم، والجلاة. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للمسائل، وامتحن بالأسر هو وابنه وأخوه. فافتدوا بخمسة عشر ألف دينار وعمّر. ولّي قضاء بلده، سنة خمس وعشرين، الى أن توفي، سنة سبع وثلاثين. وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. مولده سنة أربع وأربعين ومائتين. أبو عبد الله الفهري. فقيه تطيلة وكبيرها. ذكره ابن حارث، وقال: لقيته بتطيلة، سنة خمس وعشرين. فرأيت عليه جلالة السنّ، وسمت العلم وهديه. وتكلمت معه فأفضيت منه الى كل علم، وفقه ومذاهب مستحسنة. ولعله والد المذكور أولاً. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 طبقة أخرى بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. قال الفقيه الإمام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، رضي الله عنه، وغفر له آمين. ثم صار المذهب بعد هذه الطبقة، في طبقة أخرى، فمنهم من أهل المدينة: أبو مروان قاضيها، واسمه عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحمن. قال ابن حارث: كذا كتبت نسبه من خط المديني، ويعرف بالمرواني، ويعرف أيضاً بالمالكي. وكان يزعم أن جده كان منقطعاً لمروان. يعرف وأهل بيته بذلك. وليس بقرشي. قال أبو الحسن بن معاوية، ابن مصلح، وذكره في شيوخه: كان ثقة مأموناً. روينا عنه كتاب المشكل من تآليفه. وغير ذلك. كذا قال: المشكل. وأظنه المسكر. ألف كتاب الأشربة، وتحريم المسكر، وهو كتاب الرد على أبي جعفر الإسكافي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 وسمع منه الناس كثيراً. فمن سمع منه من أهل الأندلس: أبو محمد الأصيلي. والقاضي ابن السليم، وأبو عبد الله بن مفرج. وابن عون، وخطاب بن زيد، وأبو الحسن بن وضيء الحجازي، وغيرهم. ومن أهل المشرق أحمد بن ابراهيم الوندقاني. رحمهم الله ورضي عن جميعهم. من هذه الطبقة من أهل مكة عبد الله بن سعيد ابن نافع. كان بمكة من فقهاء المالكية. قال الفرغاني: وكان من أهل السيرة والعلم. أخذ عنه فيما أرى، عبد الوهاب بن نصر. فقد رأيته والله أعلم في مشيخته. ثم من آل حماد بن زيد قاضي القضاة أبو الحسين: عمر بن قاضي القضاة، أبي عمر، محمد بن القاضي يوسف بن القاضي يعقوب بن اسماعيل، بن حماد بن زيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 كذا اسمه وقد وهم في اسمه أبو القاسم عبد الله بن محمد البغدادي الشافعي. فسماه أحمد. وقال: كان من أحذق من رأيناه من أحداث المالكيين. وقال ابن حارث وغيره: وكان ذكياً فطناً، حاذقاً بالمذهب. أخذ من كل علم بنصيب. قال الشيرازي: وناظر أبا بكر الصيرفي، فقيه الشافعية. وقال الصولي، وذكر القاضي أبا عمر، ووفاته، فقال: وولي بعده ابنه أبو الحسين نظيره، في الفضل وتاليه في العقل، السالك مسلك سلفه، والجاري على مذاهب أوله. الحامل لعلوم قلما اجتمعت في مثله، من أهل زمانه. ولا يعرف قاضٍ في سنه، ولا أعلى منه، يشتغل بالعلوم التي يشتغل بها، من حفظ الحديث، وعلم به. واستبحار في الفقه، واحتجاج له. وتقدم في النحو، واللغة. وحظ جزيل من البلاغة، نظماً ونثراً، وقرأ عليّ من كتب اللغة والأخبار، ما يقارب عشرة آلاف ورقة. قال: وكان بلغ في العلوم مبلغاً عظيماً. وله إليّ أشعار ملاح، لها مني جوابات. فقد أفردت لها كتاباً عملتها في وصفه، ووصف أبيه أبي عمر القاضي. وللقاضي أبي الحسين كتاب في الرد على من أنكر إجماع أهل المدينة. وهو نقض كتاب الصيرفي. وله كتاب سمّاه الفرج بعد الشدة. ولم يدرك عمه اسماعيل بن إسحاق. وإنما تفقّه عند أبيه، وكبار أصحاب اسماعيل. وعن القاضي أبي الحسين، وأبيه أبي عمر أخذ الشيخ أبو بكر الأبهري وغيره. وعندهما تفقّه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 ولايته القضاء وبقية أخباره كان أبو الحسين، يخلف أباه في قضائه. وهو صغير السن. ثم ولي قضاء مدينة المنصور. سنة عشرين وثلاثمائة. فلما توفي أبوه في رمضان، من هذه السنة. قلّد أبو الحسين جميع ما كان يتقلّده أبوه، من أعمال القضاء. إلا قضاء القضاة. وخلع عليه. فلما كان في صفر، سنة خمس وعشرين، وليَ قضاء القضاة. ثم قلّد في سنة ست وعشرين الخطبة، في مجلس الخلفاء. وذلك أنهم حضروا بين يدي الخليفة الراضي، عقد مصاهرة، بين بعض كبار أصحابه. فقام بعض الحاضرين، يخطب، فمنعه أبو الحسين. قيل إنه ابن أبي العزافير وكان يذهب الى مذهب الحلاج رضي الله تعالى عنه ويقول بالحلول، والتأله. فشهد على قوله. وأفتى أبو الحسين بقتله. وفي أيام أبيه أبي عمر قتل أبو منصور الحلاج، بفتواه. وعدم قبول توبته، على مذهبه. فأخذ بفتوى من قال بقتله، بعد أن ضرب ألفي صوت. وقطعت أطرافه، وضرب بها وجهه، ثم طرح من أعلى الركنة، الى الأرض وأُحرق ابنه أبا الحسين، فلما عاد، قصده الناس، إلا هما؟ فكتبت إليه أستجفي أبا عمر: أأستجفي أبا عمر وأشكو ... أمَ استجفي فتاهُ أبا الحسين فما زارا ولا بعثا رسولا ... ولا كانا لحقي قاضيين بأي قضية وبأي حكم ... ألحّا في قطيعة واصلين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 فقال أبو عمر، لابنه: أجبه. فكتب إليه: تجنَ واظلم فلست تقلى ... عن سالم العهد أيها الظالم حكمت ظناً فما هديت ولن ... يحكم بالظن والهوى حاكم أمران لن يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم تركت حقّ الوداع منصرفاً ... وجئت تبغي زيارة القادم كل حقي عليك مطرح ... وحق ما تدعيه فيّ لازم وكل هذا عتاب ذي مقة ... وصدره من حفظه سالم وذكر القاضي أبو علي الحسين بن علي التنوخي، في كتابه عن أبي الربيع ابن داود، خادم أبي عمر القاضي، قال: حججت مع القاضي أبي الحسين ابن أبي عمر، فذكر حكاية معناها أنه دخل مكة في حر شديد، فلما طاف وسعى، أدركه قلق وشدة من الحر، فقال: أشتهي على الله شربة ماء مثلوج. فقيل له إن هذا ما لا يوجد في هذا المكان. فقال: هو ما قلت، أو نحو هذا. فلم يكن إلا أن نشأت سحابة، وأبرقت وأرعدت شديداً، ثم أمطرت ببرد كثير، فجمعنا منه شيئاً عظيماً، وكان صائماً. فلما كان وقت المغرب، جئته منه بما أراد، ونحو هذا من الخبر، وقد عزيت هذه القصة الى غيره، وقال الصولي، في القاضي أبي الحسين، يخاطب أباه أبا عمر: وما يُخالج القاضي ارتياب ... بأنك طرف حليته الحداد أعرب خلاله فينا ولولا ... كمالك لم يكن مما يعاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 فأنت خليفة منهم تسود ال ... بنين الأشرفين يخلفها الرماد وبعضهم تكون بنوه منه ... مكان النار يخلفها الرماد قدرت على المكارم لانتقاص ... بعينك قدرهن ولا ازدياد قال الصولي. وكتب إليّ القاضي أبو الحسين: أيها الصديق كل الصديق ... في مكاني التحصيل والتحقيق والذي لم أخنه عهداً وثيقاً ... لا ولا خانني بعهد وثيق لمَ أخلفت يا خليلي وعداً ... حاصلاً في زيارتي وطريقي إن من ساءه جفاؤك إياه ... بطول الجفاء غير حقيق وهي طويلة فأجابه الصولي بقصيدة طويلة أولها: يا مقراً بالوعد عين الصديق ... وأجل الورى على التحقيق وتوفي، أبو الحسين ببغداد. وهو يتولى قضاء القضاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان، سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. واخترمته المنية قبل استيفاء أقرانه، وطبقته. وسنّه يوم مات تسع وثلاثون سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 وأمه أم ولد: اسمها لُبنى. ولم يتخلّف عن جنازته جليل، وصلى عليه ابنه أبو نصر. قال الصولي: ووجد عليه الراضي أمير المؤمنين، وجداً شديداً، حتى كان يبكي بحضرتنا، ويقول: كنت أضيق بالشيء ذرعاً حتى أراه فيوسعه عليّ برأيه. قال: وكنا عند الراضي ليلة، فأمر جواريه أن يضربن العود وينُحْن عليه، حتى خفنا عليه. وجعلنا نعزيه. قال: والله لا بقيت بعده. ابناه أبو نصر يوسف، وأبو محمد الحسين، رحمهما الله تعالى ذكر الإمام أبو إسحاق الشيرازي، أبا نصر في طبقة أبيه أبي الحسين. ولم يذكر أبا محمد. قال أبو إسحاق: وكان أبو نصر فقيهاً فاضلاً. وهو آخر من ولي القضاء، ببغداد، من ولد حماد بن زيد. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: ما زال أبو نصر، قد نشأ نبيلاً، نظيفاً جميلاً، عفيفاً متوسطاً، في علمه بالفقه، حاذقاً بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب والكتابة. حسن الفصاحة، واسع العلم باللغة، والشعر. تام الهيئة. اقتدر على أمره بالنزاهة والتصاون، والعفة. حتى وصفه الناس من ذلك بما لم يصفوا به أباه، وجده، مع حداثة سنه. وقرب ميلاده من رئاسته. قال: ولم نعلم قاضياً تقلده - يعني بغداد - أعرق في القضاء منه ومن أخيه الحسين. لأن أباه أبا الحسين: وجده أبا عمر، وولد أبي عمر يوسف بن يعقوب، وأباه يعقوب، كلهم ولوا القضاء ببغداد. ما خلا يعقوب، فإنه ولي قضاء المدينة. ثم قضاء فارس. قال الخطيب: وليَ أبو نصر القضاء في حياة أبيه، وبعد وفاته. قال طلحة: لما خرج الراضي، الى الموصل، سنة سبع وعشرين. ومعه قاضي القضاة أبو الحسين، أمره أن يستخلف ابنه أبا نصر على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 مدينة السلام بأسرها. إذ علم أنه لا أحد بعد أبيه يجاريه، ولا إنسان يساويه، فتبيّن الناس من أمره، ما بهر عقولهم، ومضى في الحكم على سبيل معروفة له، ولسلفه. فلم يزل يخلف أباه في القضاء، الى أن توفي أبوه. قال الصولي: لما جلس القاضي أبو نصر، خلفاً لأبيه عند خروجه الى الموصل، لحرب ابن حمدان، حضر محمد بن بدر الشزابي، صاحب الشرطة، ونثر عليه دراهم ودنانير. وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة. قال ابن سنان، والصولي قلّد الراضي أبا نصر، يوسف. وأبا محمد الحسين. فكان إليهما لسبع من وفاته. فجعل لأبي نصر، قضاء القضاة ببغداد، الى المدائن. ولأبي محمد ما بين المدائن، الى البصرة. وخلع عليهما. فمرّ في الشارع الأعظم، فكان مما كلم به أبو نصر أمير المؤمنين الراضي، حين ولاه: قد استوفى سيدنا الأنعام وكمّله وشدّ بآخره أوله. فثبت الله وطأته. وأدام دولته. وقيل إن السلطان صادرهما بعد موت أبيهما، على عشرين ألف دينار، باعا فيها فيما حكاه ابن كامل من كسوة أبيهما خاصة، بأربعة آلاف دينار، وخمسمائة دينار. ثم قلد أبو محمد مدينة المنصور، مما كان بيد أخيه أبي نصر، سنة تسع وعشرين. وفي هذه السنة عزلا جميعاً عن القضاء ببغداد. وكان السبب فيه ما جرى بين أبي نصر، وبين أبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي. وكان أبو موسى هذا أولاً ممن سعى للقاضي أبي نصر، في الولاية. ثم اتهمه أبو نصر بالسعي عليه، لأخيه. فوقعت بينهما وحشة. فأخذ أبو نصر شهادة العدول، بأن ابن أبي موسى ليس أهلاً للشهادة، فأسقطه. وأشهد ابن أبي موسى ثلاثين عدلاً، أنه لا يشهد عند أبي نصر أبداً. وتجرّد في السعي عليه. وأنفق من ماله ألوفاً كثيرة، حتى صرفه. وولي أبو محمد مكانه. فخلع عليه لعشر خلون من محرم، سنة تسع وعشرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 وقال ابن سنان: صرف أبو نصر عن القضاء في جمادى الأولى، من هذه السنة. ثم رد الى الجانب الشرقي في شعبان منها. ثم عزلا جميعاً، في هذه السنة. وزعم القاضي أبو بكر بن الأخضر الداودي، في كتابه في أخبار أهل الظاهر: أن أبا نصر هذا انتقل آخراً عن مذهب مالك، الى مذهب داود. وتقدم فيه. وتمم كتاب الإيجاز لمحمد بن داود. رحمه الله تعالى. وأنشد الخطيب أبو بكر، لأبي نصر القاضي: يا محنة الله كفي ... إن لم تكفي فخفّي ما آنَ أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي ذهبت أطلب بختي ... وجدته قد توفي ثورٌ ينالُ الثريا ... وعالم مستخفِ الحمد لله شكراً ... على بقائه خفي وتوفي يوم الأربعاء، لثمان خلون من ذي القعدة، سنة ست وخمسين وثلاثمائة. ومولده سنة خمس وثلاثين. رحمه الله تعالى. هارون بن ابراهيم بن حماد بن إسحاق بن اسماعيل بن حماد كنيته أبو بكر ولي قضاء مصر، سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة. وهو ببغداد. فكتب الى عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن معمر الجوهري، والى محمد بن علي بن الحسن بن شعيب، المدايني. فتسلما ديوان القضاء وقرأ الجوهري كتاب عهده، بجامع مصر. وقد تضمن ولاية الصدقات، فسلماه الديوان. ثم أفرد الجوهري منهما، بالنظر، والحكم. وكان الجوهري عفيفاً عن أموال الناس، يذهب مذهب أبي حنيفة. فتولى ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 الى أن قدم أحمد بن ابراهيم، خليفة لأخيه هارون. فعزل سنة ست عشرة وثلاثمائة. ثم وليها خليفة لأخيه هارون، ثانية، سنة سبع عشرة الى أن صرف بصرف أخيه، في سنة عشرين. ثم وليها من قبل القاهر أمير المؤمنين، سنة إحدى وعشرين. ثم صرف صدر سنة اثنتين وعشرين، بعد عزل ابن قتيبة. ثم صرف سنة اثنتين وعشرين. وتوفي فجأة في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ولد ببغداد، وكان يخضب بالسواد، وسنّه يوم مات ثمان وخمسون سنة. رحمه الله تعالى. أحمد بن ابراهيم أخوه، رحمه الله تعالى كنيته أبو عثمان. يروى عن أبيه. وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن عبد العزيز العمري. حدث عنه أبو محمد بن أبي زيد. رحمه الله تعالى. وخلف أخاه، على قضاء مصر، مورده لها سنة أربع عشرة وثلاثمائة. فحكم قضاءها الى آخر سنة ست عشرة، فعزل. وولي قضاءها بعد ذلك، بين خلافة وقضاء، ست مرات. سيرته رحمه الله تعالى قال القاضي أبو طاهر الذهلي: كان أبو عثمان مشهوراً بالحياء، وخفض الصوت. أخبرني من حجّ معه: أنه كان إذا لبّى، أتى بأخفض صوت ما يكون. حتى كان النساء أرفع منه صوتاً. قال غيره: كان لا يكاد يفهم كلامه، من الحياء واسكتب أبا حفص، عمر بن أحمد بن شجاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وفرض للمرابطين والأعراض، لأول ولايته. ففرض لألف رجل ونيف. وأصلح ثمانين علماً. وفي ولايته الأولى، حكم بتوريث ذوي الأرحام، وورد الكتاب بالأمر بذلك، من بغداد. وهذا أول من خرج من القضاة يمضي الى مسجد، مجبور لرؤية هلال رجب. احتياطاً لرمضان. وكان في مدة قضائه بمصر يسمع من أبي جعفر الطحاوي، ويتردد عليه. الى أن مات أبو جعفر. قال بعضهم: حضرت مجلس أبي جعفر الطحاوي، وعنده أبو عثمان بن حماد، وهو يومئذ قاضي مصر، فدخل إليه رجل، فسأل أبا جعفر عن مسألة. فقال له أبو جعفر: مذهب القاضي أيده الله، كذا وكذا. فقال له السائل: ما جئت الى القاضي، إنما جئت إليك. فقال: يا هذا، مذهب القاضي، ما قلت لك. فقال له السائل: مثل ما قال له أولاً. فقال: أبو عثمان تفتيه أيدك الله. فقال أبو جعفر إذا أذن القاضي أيده الله أفتيه. ثم أفتاه بعد ذلك. هذا من فضلهما وأدبهما. مولد أبي عثمان سنة خمس وسبعين ومائتين وتوفي بمصر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وقد لحقته حاجة وفقر. كفنه حين مات أبو بكر المدراني صاحب خراجها. علي بن ابراهيم أخوهما كنيته أبو الحسين. يروى عن أبيه، والحارث ابن أبي أسامة. ومحمد بن خلف. ووكيع. والبهلول بن إسحاق، ابن البهلول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 روى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الوهاب، و أبو عبد الله التستري ، وأبو الحسن الدارقطني. عبد الصمد بن الحسين بن يوسف بن يعقوب أبو الحسن ويعرف بابن أبي يعلى. كنيته أبو الحسين. يسمع من عمه القاضي أبي عمر. ذكر أنه سمع من اسماعيل. روى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى. أبو الطاهر الذهلي رحمه الله تعالى. قال الدارقطني: هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، ابني يحيى بن عبد الله بن صالح بن أسامة الذهلي. من بيوتات العلم ببغداد. وذوي الأقدار بها. سمع بشر بن موسى، وأبا أحمد بن عبدوس، وموسى بن هارون، وأبا بكر الفريابي، وجعفر بن يحيى القطان، وأبا إسحاق الزجاج. ومن شيوخه أيضاً أبو بكر محمد بن سليمان الشروري، والقاضي أبو عمر الحمادي. سمع منه أبو الحسن الدارقطني، وعبد الغني بن سعيد، وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن بن علي، وأبو القاسم بن أبي زيد. وانتخب له أبو الحسن الدارقطني، وعبد الغني بن سعيد أجزاءً من حديثه. قال الدارقطني: كتبت عنه بمصر وأبو القاضي أبو العباس، أحمد، قاضي واسط. ويروي عن الدورقي، ومحمد بن خراش، ومحمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 بن عبد الله المخزومي، وعمران بن بكّار، وابن النّطاح، ومحمد بن خالد. كتبنا عنه أمالينا. قال الفرغاني: كان أبوه من شيوخ القضاة بالعراق. وولي بها جليل الأعمال، كالبصرة وواسط. وحدث عنهم، وهم من أهل البيوتات ببغداد. قال الدارقطني، وأخوه نصر بن عبد الله بن نصر بن يحيى، يروى عن علي بن الجعد، وعاصم بن علي، وأبي بلال، قال الأمير فيه: كان ثقة ثبتاً. كان كثير السماع فاضلاً. بيته بيت جليل، في الحديث والقضاء. قال الفرغاني: كان أبو الطاهر مسنداً في الحديث، فقيهاً بمذهب مالك، ثبتاً أديباً، كاملاً، ذا قدر وجلالة وقدم في دولة بني العباس. وكان من شهود القاضي أبي الحسين بن حماد. وله به خاصة. ولاه القضاء بواسط فنكبه بها بحكم التركي. فتخلص بعد أن أشقى على الهلكة. ولي قضاء لمدينة وعملها أيام المتقي، سنة تسع وعشرين. وقال الصولي: إنه لما ولي في هذه السنة قضاء مدينة المنصور، ببغداد، عند آل حماد، ثم لفظته العراق بأسباب الفتنة، بعد أن ولي جانبي بغداد، فخرج الى مصر، وولي قضاء دمشق، فاختلف عليه أهلها، فصرف. ثم ولي قضاء مصر سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، بعد الحصبي وابنه. ودخل جوهر غلام بني عبيد مصر، وهو قاضيها. فبقي على قضائها. قال الفرغاني: وكان حسن السيرة والعلم بالعربية، والآداب. قال القاضي أبو عبد الله بن الحداد: وكان محدث زمانه، وطال عمره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 قال غيره: روى كتب الأدب عن ثعلب، وأبي الفرج الأصبهاني. قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: كان فقيهاً بمذهب مالك، وأديباً كاملاً. وكانت له جلالة وقدر. مسنداً في الحديث. قال القاضي أبو عبد الله: وتوفي أبو الطاهر سنة تسع وستين وثلاثمائة ومولده سنة سبع وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى. أبو عبد الله التستري هو محمد بن أحمد القاضي. من أهل البصرة. ويعرف بالتُّستري. وهو قريب لسهل بن عبد التستري العابد، ذي الأقاصيص العجيبة. أخذ عن ابراهيم بن حماد، ومحمد بن خشنان والبرنكاني، وغيرهم من أئمة المالكيين، وسمع من أبيه، وأحمد بن علي بن الحسن، وابراهيم بن محمد الحلواني، وجرير بن محمد الغطفاني، وأبي عبد الله الزبيري، وأبي بكر بن أبي داود، وموسى بن سهل بن عبد الحميد، والحسن بن المثنى، والحسين بن إسحاق، والدميني، ومحمد بن سليمان الباغندي، وعبد الله بن جامع الحلواني، واللؤلؤي وغير واحد. وكان له اتساع في الرواية والحديث، وحظ من العربية. وكان ملازماً للسنّة، نافراً من البدعة. حدث عنه ابنه، وجعفر بن نصر الخلدي. قال الفرغاني: وأدرك سهلاً. وسمع منه حكايتين. قال: سمعته وهو يقول: من أصبح ولم يعتقد أنه يمسي في القبر، لعبت به الشياطين طول يومه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 قال: وسمعته يقول: الأكل على ثلاثة أصناف فآكل يأكل نوراً، وإيماناً، من أول طعامه الى آخره. وآخر: يأكل طعاماً. وآخر يأكل سرجيناً. فأما الذي يأكل نوراً وإيماناً من أول طعامه الى آخره: فالذي يمسي الله عز وجل عند كل لقمة، ويحمده عند إساغتها. وأما الذي يأكل طعاماً فالذي يسمي الله أول طعامه، ويحمده في آخر. وأما الذي يأكل سرجيناً: فالذي لا يذكر الله في أول طعامه، ولا في آخره. أو كما قال. فإني كتبته من حفظي. قال الفرغاني: وتوفي سهل وهو صغير ابن عشر سنين. مولده سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ووفاة سهل رضي الله تعالى عنه: سنة ثلاث وثمانين ومائتين. قال: وكان أبو عبد الله هذا، عالماً بمذهب مالك. شديد التعصب له. ووضع في مناقبه نحو عشرين جزءاً. وقد طالعتها وانتقيت في هذا الكتاب في أخبار مالك عيونها. وقد أدخل جميع ما له فيها من كلام صاحب الاستيعاب، في جامعه. وله كتاب في فضائل أهل المدينة، والحجة. وكان ندب في أيام علي بن الجراح لتعقبه أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأقام بها زماناً طويلاً. ثم عاد الى العراق. وتقلد قضاء البصرة بلده، سنين. ثم قصده أحد رؤسائها بمكروه كثير، لوحشة جرت بينهما. فصرف عن القضاء. وقصد الوزير المهلبي الى الأهواز، فشكا إليه أمره. فوعده بكل جميل، ونوى صرفه الى القضاء، فغير عليه. فعاد الى البصرة. فجرت له بها أقاصيص مع المعتزلة. فنبت به الدار، وقصد بغداد سنة خمس وأربعين. فلقيه بها الشريف أبو عبد الله بن المراغي، الصغير العلوي، في بعض الطرق. فقال له: أنت تقول إن الله يُرى يوم القيامة. وإن القرآن غير مخلوق. فقال: نعم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 فبصق في وجهه. وقيل إنه لعنه وسبه، أقبح سب. ففت ذلك في عضده، وأعلّه وأحدث به ورماً. وقيل إنه قال لولده: هذه علة لم أعتلّ بمثلها قط، وأحسبها علة الموت. فإذا مت، فلا تزدني على ثوبين تدرجني فيهما، إدراجاً بثمن أربعين درهماً، وتبخرهما بنصف أوقية عود، وادفنّي عند قبر معروف، فإنها بُقعة مباركة. فمات رحمه الله تعالى، في شهر ربيع الأول من السنة التي قدم فيها بغداد. وهي سنة خمس وأربعين المذكورة. وسنّه اثنان وسبعون سنة. وقد تقدم مولده رحمه الله تعالى. بكر بن العلاء القشيري. وهو بكر بن محمد بن العلاء بن محمد بن زياد بن الوليد بن الحميم بن ملك بن ضمرة بن عروة بن شنوءة بن سلمة الخير بن بشير بن كعب القشيري. كذا نسبه غير واحد. كنيته أبو الفضل. وأمه من ولد عمران بن حُصَين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا حكى عنه محمد بن عمر بن عيشون الطيطلي. وهو من أهل البصرة، وانتقل الى مصر، وهو من كبار فقهاء المالكيين، رواية للحديث. وذكره أبو إسحاق الشيرازي في أصحاب إسماعيل. وقال الفرغاني وغيره: إنه لم يدرك اسماعيل، ولا سمع منه. وقد ذكر بكر، اسماعيل في كتبه بالإجازة. ولا يبعد سماعه من اسماعيل. إذ قد أدركه بالسن، كما تراه في وفاته، وسنّه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 سمع من كبار أصحاب اسماعيل وغيرهم، كابن حسام، والبرنكاني، والقاضي أبي عمر وابراهيم بن حماد، وجعفر بن محمد الفريابي، وروى عن أحمد بن ابراهيم بن عبد، وسعيد بن عبد الرحمان الكرابيسي، ومحمد بن صالح الطبري، وأبي خليفة الجمحي، وغيرهم، من أئمة الفقه والحديث. حدث عنه من لا يعد، من المصريين والأندلسيين والقرويين، وغيرهم. بل ممن حدث عنه أبو عراك، والنعال، وأبو محمد النحاس، وابن مفرج وابن عيشون، وأحمد بن ثابت، وابن عون الله، وأبو زيد بن أبي عامر البستي. قال الفرغاني: كان بكر من كبار الفقهاء المالكيين بمصر. وتقلّد أعمالاً للقضاء. وكان راوية للحديث. وأوله من البصرة. ثم خرج من العراق لأمر اضطره. فنزل مصر، قبل الثلاثين والثلاثمائة. وأدرك فيها رياسة عظيمة. وكان قد ولي القضاء ببعض نواحي العراق، وعده أبو القاسم الشافعي في شيوخ المالكية الذين لقيهم، وأثنى عليه. وألف بكر كتباً جليلة، منها: كتاب الأحكام، المختصر من كتاب اسماعيل بن إسحاق. الزيادة عليه. وكتاب الرد على المزني. وكتاب الأشربة، وهو نقيض كتاب الطحاوي. وكتاب أصول الفقه. وكتاب القياس. وكتاب في مسائل الخلاف. وكتاب الرد على الشافعي، في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وكتاب الرد على القدرية. وكتاب الرد على من غلط في التفسير، والحد، ومسألة الرضاع، ومسألة بسم الله الرحمن الرحيم. ورسالة الى من جهل محل مابك بن أنس، من العلم. ورأيت له كتاب أحد الأصول، وكتاب تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكتاب ما في القرآن من دلائل النبوة، وغير ذلك. وذكر أبو مروان بن مالك الفقيه، القرطبي: أن بكر قال: احتبس بولي، وأنا صبي نحو سبعة أيام، فأتى بي والدي، الى سهل. يعني: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 التستري، ليدعو لي، فمسح يده على بطني. فما هو إلا أن خرجنا بلت على عنق الغلام. توفي بمصر، ليلة السبت لسبع بقين من ربيع الأولى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. وقد جاوز الثمانين سنة بأشهر، وشهدت جنازته، ودفن بالمقطم. قال أبو عبد الله بن عيشون: وأنشدنا بك ب العلء: ومن شيمتي أن لا أفارق صاحباً ... على حاله إلا سألت له رشدا فإن عادني ودي رجعت ولم أكن ... كآخر لا يرعى ذماماً ولا عهدا أبو علي محمد بن سليمان بن علي المالكي البصري. القاضي بها. يروي عن زيد بن أخزم. وأبي حفص القلاس. والنضر بن طاهر، وبندار، ومحمد بن عبد الملك، حدّث عنه الدارقطني. وسمع منه بالبصرة، أبو محمد بن اسماعيل. أبو جعفر بن قتيبة رحمه الله تعالى. هو أحمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري، البغدادي النسّابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 كان مالكي المذهب، من أهل العلم، والحفظ لكتب أبيه من حفظه. وكان يحفظها كما يحفظ القرآن. ويرد فيها من حفظه، النقطة والشكلة. وما معه نسخة. كان أبوه: أبو محمد حفّظه إياها في اللوح. وعدتها إحدى وعشرون مصنفاً. كتاب المشكل. وكتاب معاني القرآن. وكتاب غريب القرآن. وكتاب عيون الأخبار. وكتاب مختلف الحديث. وكتاب غريب الحديث. وكتاب التفسير. وكتاب الفقه. وكتاب المعارف. وكتاب أعلام النبوة. وكتاب العرب والعجم. وكتاب الأنواء. وكتاب الميسر. وكتاب طبقات الشعراء. وكتاب الشعر. وكتاب إصلاح الغلط. وكتاب أدب الكاتب. وكتاب الأبنية. وكتاب النحو. وكتاب المسائل. وكتاب القرآن. سمع منه خلق عظيم، من الجلة. بالعراق ومصر. كأحمد بن ولاء، وأبي جعفر النحاس، وأبي عاصم المظفّر بن أحمد، وأبي علي القالي، وغيرهم من جلّة أهل الأدب والرواية. وكان مجلسه، لعيون الناس، وأعيان الفقهاء. ولم يكن عنده حديث، إلا ما في كتب أبيه. وولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وردها ولبس السواد وحكم في جامعها، واستخلف الفقيه أبا الذكر المالكي على فرض النساء. وكانت في خلقه حدة. وتوفي في ربيع الأول سنة اثنين وعشرين، بعد صرفه. وكانت ولايته القضاء بمصر ثلاثة أشهر. وله ابن اسمه عبد الواحد، روى عن أبيه. سمع منه أبو عبد الله الوشاء المصري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 من أهل مصر ابن القرطي هو أبو إسحاق: محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة بن داود بن سليمان بن أيوب الصيقل بن عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر. كذا حكى أبو القاسم بن سهل الحافظ. وذكر أنه نسب له نفسه كذا. يقال ابن عمار بن عبس، وعبس بن مذحج ويعرف بابن القرطي. بقاف مضمومة وراء ساكنة وبعدها طاء مكسورة وياء النسب. قال الفرغاني: كان رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنن في سائر العلوم، من الخبر والتاريخ والأدب، الى التديّن والورع. وذكر أنه كان يلحن. ولم يكن له بصر بالعربية، مع غزارة علمه، وكان واسع الرواية كثير الحديث، مليح التأليف. قال ابن مفرّج العنسي: هو شيخ الفتوى وحافظ البلد. وكذلك قال أيضاً ابن أبي زيد فيه. وقال الشيرازي: وإليه انتهت رئاسة المالكيين بمصر، ووافق موته دخول بني عبيد الروافض، وكان شديد الذمّ لهم. ويقال إنه كان يدعو على نفسه بالموت قبل دولتهم. ويقول: اللهم أمتني قبل دخولهم مصر، فكان كذلك. قال القابسي: أرسل معزّ بني عبيد، قبل دخوله مصر، الى أبي إسحاق بن شعبان، صلة من مائة مثقال، وكتاباً مع رسوله ابن الديلمي. فقرض ابن شعبان من الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم وأحرق باقيه، في الشمعة أمام الرسول، ورد المائة عليه، وقال للرسول: لولا أنه ثبت عندي أنك سنّي، ما خرجتَ من هذه الدار، ولجعلتُ من يقتلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 وذكر لي أن أبا الحسن القابسي وأبا محمد بن أبي زيد رحمهما الله تعالى، وغالب ظني أنه أبو الحسن، كان يقول في ابن شعبان: إنه ليّن الفقه، وأما كتبه ففيها غرائب من قول مالك، وأقوال شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته، ليست مما رواه ثقات أصحابه، واستقر من مذهبه. قال ابن حيان: كان الحكم المستنصر، أمير المؤمنين بالأندلس، فوجه كل عام الى كل واحد منهم مائة مثقال، وبضعفها لأبي إسحاق. وفعل ذلك بعده، صاحب القيروان. فردها ابن شعبان. فاعتذر له. فأعرض عنه ابن شعبان. ولم يوافقه على قبوله إياها. وألف كتابه الزاهي الشعباني، المشهور في الفقه. وكتاب في أحكام القرآن. وكتاب مختصر ما ليس في المختصر. وكتاب مناقب مالك. وكتاب شيوخ مالك. وكتاب الرواة عن مالك. وكتاب جماع النسوان. وكتاب مواعظ ذي النون الأخميمي. وكتاب النوادر. وكتاب الاشراط. وكتاب المناسك. وكتاب السنن من الوضوء. قال الفرغاني: وتوفي ابن شعبان يوم السبت، لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. ودفن يوم الأحد، وقد جاوز سنه ثمانين سنة. وصلى عليه أبو علي الصيرفي رضي الله تعالى عنه، وخلق عظيم. أبو علي الحسين ابن أيوب بن سليمان المعروف بالصيرفي. قال الفرغاني: كان من وجوه المالكيين بمصر. مقدّماً فيهم مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 عفة وسعة جاه. وكان إليه أمر الوقت بمصر، وأعمالها. وتوفي في ذي الحجة، بعد ابن شعبان، بنحو سبعة أشهر، في السنة التي مات فيها. وحضر جنازته كافور، أمير مصر، وقلّ من تخلّف عنها. ودفن بالمقطّم، وهو ابن أربع وتسعين سنة. أبو الحسن السلفاني رحمه الله تعالى. اسمه علي بن جعفر بن أحمد القاضي. روى عن ابن أبي مطر. يروى عنه أبو الحسن القابسي. وأبو زيد بن أبي عامر الكتامي، من أهل سبتة. وكان أخذ مشيخة المالكيين بمصر. ثم نزل جزيرة اقريطش. قال أبو الوليد الباجي: هو فقيه معروف. قال الفرغاني: وكان أهل اقريطش كتبوا الى مصر، يسألون أن يوجه إليهم من يفقههم. ويتقلد حكمهم. فوقع الاتفاق عليه. فخرج إليها وأقام بها، الى أن دخلها الروم، واستحوذوا عليها. من سنة خمسين وثلاثمائة وملكوها الى وقتنا هذا. ردها الله تعالى لدار الإسلام، بمنه. محنته وأخباره في أسره وكان أبو الحسن فيمن أُسر باقريطش. وحمل الى القسطنطينية، دمرها الله تعالى. وجرت بينه وبين نقفور الطاغية ملكها مناظرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 قال السلفاني أحضرني نقفور ليلاً، بالقسطنطينية. فكان أول ما خاطبني به أن قال لي: ما علمت أنك هاهنا، حتى عرفت أنه مات ابنك اليوم. فذكر لي أمرك. فتذكرت أمرك. فدعوت له. ثم قال لي: أنت تقول الخير من الله والشر من الله. قلت: نعم. وذلك أن النصارى كلهم على مذهب القدرية في الاستطاعة. فقال لي: نقفور. فكيف يقدر عليه. إذ هذا ظلم، لا يشبهه. فقلت له: لم يظهره الى ما خلق، مسيطر. قلت له: هل كان حقاً عليه أن يخلق أم لا؟ فلم يجد جواباً. ثم قال لي: عيسى بشّر به جميع الأنبياء. ونبيّكم لم يبشّر به أحد من الأنبياء. فقلت له: نبيّنا قد بشر به، جميع الأنبياء أيضاً. قال ما وجد منه في كتابكم، فهو عندنا. فقلت له: أنا أوجده في كتابكم، وكتابنا. قال: لئن لم تفعل تموت. قلت: مَن يحكم بيننا إذا اختلفنا؟ قال: اليهود. قلت أعداؤنا، وأعداؤكم، كيف تحكم علينا؟ فسكت. فقال لي أيضاً: وأنتم لم تجمعوا على نبيّكم. فإن منكم من يقول: إن النبي عليّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 فقلت: ليس من يقول هذا عندنا مسلماً. فجسرت فقلت: وأنتم أيضاً مختلفون في الباري تعالى. وذكرت له مقالاتهم. فقال لي في بعض كلامه خرج رجل فأظلته سحابة. فنظر فيها، فعمي. وكان فيها عيسى. فقلت: وهذا أيضاً من أعجب العجب. أن أقام عيسى بين الناس مدة، ينظرون إليه، وينظر إليهم، ويكلمهم، فلم يعمَ من ينظر إليه، ويكلمونه فلما تباعد، عمي من نظر إليه. فسكت. وتكلم معي في غير هذا أيضاً. فرأيت أنه نظر في شيء من الكلام لم يحسنه، وذهب به العجب مذهبه. وكان صاحبه رجل من معتزلة البصرة، طرق له شيء من الكلام هوسه. أبو بكر محمد بن سليمان ابن أبي شريف. واسمه ابراهيم بن عبد الله المهلب. القضاعي الحويكي الحويسي. وقد ذكرناه. وأبو بكر هذا، من فقهاء المالكية بالفسطاط، والمدرسين في جامعه. يروى عن محمد بن مكي الخولاني، وعن أبي الحسن بن تدمير، روى عنه أبو القاسم الجوهري، ويحيى بن عابد، وأبو الحسن القابسي. وذكر أبو القاسم بن أبي يزيد في تاريخه: أن أبا بكر هذا، هو الذي حجّ بالناس سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، باجتماع من حضر الموسم، لفتنة كانت بالموسم. فصلى بالناس في مسجد ابراهيم عليه السلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 أبو القاسم بن النحاس رحمه الله تعالى من كبار فقهاء المالكية بمصر. وكانت له حلقة تلي حلقة ابن شعبان بجامع الفسطاط. ذكر ذلك الفرغاني، رحمه الله تعالى. أبو بكر بن مهبي رحمه الله تعالى من فقهاء هذه الطبقة. ودرس بجامع الفسطاط. مكان أبي بكر بن أبي الأصبغ بعد وفاته. ذكره الفرغاني. أبو الذكر محمد ابن يحيى بن مهدي التّمّار. من أهل أسوان. قاضي مصر. قال الشيرازي: تفقه بالمغامي، سمع منه أبو الطاهر محمد بن عبد الغني. ولي قضاء مصر، سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. خليفة لأبي يحيى عبد الله بن مكرم، لما ولي قضاءها، وهو ببغداد. كتب الى الطحاوي، وعلي بن أحمد بن سليمان، وموسى بن عبد الله، وعبد الله بن محمد السجستاني، في اختيار رجل يرضونه. ينظر بين الناس. فوقع اختيارهم عليه. ثم ولاه ابن طفح، بعد سنة ثلاثين وثلاثمائة أيضاً. النظر بين أهل مصر، عند موت القاضي أبي بدر الصيرفي. قال ابن حارث: كان فقيه مصر في وقته. وكانت له حلقة في جامعها. وبه كان يلوذ كل مالكي، إلا قليلاً. وتناظر عنده فقهاء من القرويين، أبو محمد العتمي وأبو الفضل المهلبي. وكان يجلس للتفقه بجامع الفسطاط، من صلاة الصبح الى الزوال، ومن الظهر الى العصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وذكر بعضهم أن أبا بكر بن الحداد، الشافعي، أيام نظره في قضاء مصر. تقدم إليه رجل جحد ابنة له من زوجته. فنظر في لعانها. وأعدّ رجلاً يضرب على فم الزوج عند فراغه. وأمره أن يضرب على فم المرأة عند فراغها. ويقولا إنها موجبة على مذهبه. مذهب الشافعي. وتبادر الناس للاجتماع لذلك. فتلطف أبو الذكر، بالرجل، حتى اعترف بالبنت، وبالمرأة حتى أعفته من الحدّ، ورفع الأمر الى أبي بكر بن الحداد. فعلم أنه قطع به عن مراده بأمر: - بحمل البنت على أبيها، والنداء عليهما بمصر - هذا الذي جحد ابنته فاعرفوه. وأمر بإيقافها بمجلس أبي الذكر. قال ابن حارث رحمه الله تعالى: وتوفي قريباً من سنة عشرين وثلاثمائة. وذكر الشيرازي غير هذا. والذي يأتي على ما تقدم، من ولايته، أن وفاته بعد هذا كله، والصحيح أن وفاته سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. هكذا قيدها ابن أبي يزيد في تاريخه، في المصريين، سنة وفاة أبي بكر الصموت، بها. مؤمّل بن يحيى أخوه. رحمه الله تعالى. أكثر الناس يقوله بفتح الميم الثانية. ووجدته بخط بعضهم: مكسورة مع التشديد في الوجهين. جلس مجلس أخيه بعد موته. وكانا معاً ممن يدرّس في جامع الفسطاط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 سمع مؤمّل من حمديس ومحمد بن عمر، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز، وأبي الطاهر محمد بن جعفر البرسيمي. سمع منه حمزة الحافظ، وسلمة بن سعيد الاسبحي، وأبو القاسم الجوهري، رحمهم الله تعالى. أبو جعفر أحمد بن محمد بن هارون بن موسى، المعروف بابن الأسواني. من مشاهير فقهاء المالكية بالفسطاط، والمدرسين بجامعه، من هذه الطبقة. يروي عن أبي القاسم بن مدى، ومحمد بن عمر بن النفاح الباهلي، وموسى بن عبد الله بن أبي مروان، وغيلان البداري، وأبي طالب الخشاب. روى عنه أبو القاسم بن يحيى الحضرمي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وأبو الحسن بن الطفال، وأبو الحسن بن فهر، وأبو هارون الصديني الفارسي، رضي الله تعالى عنهم. أبو مطر حسن بن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مطر العامري. تقدم ذكر أبيه. فقال ابن أبي يزيد المصري: ولي قضاء مصر، عند وفاة أبيه، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. قال الفرغاني: وهو شيخ صالح، يروي عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن خزيمة. روى عنه أبو القاسم المكتب خلف بن محمد. قال الفرغاني: ولما توفي، ولي ابنه بعده، ولم يسمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 قال القاضي: ولده اسمه عبد الله. وقد ولي بعده ابنه، علي بن عبد الله. قال أبو ذرّ: وسنذكره بعد إن شاء الله تعالى. وذكر الفرغاني أن وفاة أبي مطر سنة سبع وثلاثين أيضاً. رحمه الله تعالى. أبو الحسن أحمد ابن عبد الرحمن بن حُبَيش بن سليمان بن برد. مولى حبيب. تقدم ذكر سلفه. وهو بيت جلالة في العلم بمصر. تكرر فيهم العلم والحديث والفق، من سليمان جدهم، صاحب مالك رضي الله تعالى عنه الى هذا الوقت. عمر بن محمد ابن أبي حجر، أبو حفص. قرطبي. ولزم فسطاط مصر. وحدّث بها عن ابن النفاح وغيره. ورأس بها في الفتيا، على مذهب مالك. حدّث عنه من الأندلسيين العايدي، ومحمد بن أحمد بن يحيى. قاله القرطبي رحمة الله تعالى. ولد أبي بكر محمد بن رمضان بن شاكر، الحميري. وكذا قرأت نسبه بخط الحكم، أمير المؤمنين. وأبوه أحد مشاهير فقهاء المالكية بمصر. وكانت له حلقة بجامعها، مع أبي بكر الحداد، وأبي جعفر الطحاوي، وطبقته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 وقد ذكر ابن أبي دليم ولده هذا. وقال: كان صاحب حجة المالكية في وقته، والمناظر دونهم، ولم يذكر باسمه. وكذلك في كتاب ابن حارث، إلا أني وجدت أبا مروان الضبي، ذكر أبا الحسن علي بن يعقوب الزيات، المعروف برمضان. وذكر له زيادة أقوال بعض الفقهاء، في مختصر ابن عبد الحكم. على ما زاده البرقي. فلا أدري أهو ذاك غلط في اسم أبيه، أو هو أحد آل رمضان. والله أعلم. والتأويل الأول أشبه. أبو محمد عبد الله بن أحمد بن القاسم بن يوسف بن موسى الأنصاري، المعروف بابن بهلول. أندلسي الأصل، من وشقة. وسكن مصر. وسمع الصموت والفرغاني، وأبا بكر بن داود البغدادي. واعتنى بالاريخ الخبر، وهو كان الغالب عليه مع الأدب. وصنّف. قال أبو محمد الفرغاني: كان عالماً متفنناً، حافظاً، متقدماً في فنون العلم، له نظر ثاقب، وشعر حسن. قال ابن الفرضي: دخلت عليه بمصر، وهو عليل، فقال: ناولني تلك المحبرة فأنشد: يا خدّ إنك إن توسّد ليّناً ... وسّدتَ بعد الموت صمّ جبال فافعل لنفسك صالحاً تنجُ به ... فلتندمنّ غداً إذا لم تفعل وتوفي بمصر في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 من الشاميين أبو بكر محمد بن علي النابلسي. كبير أهل مدينة الرملة. وفقيه مطع في بلده. مسموعاً فيه. يتبع الرأي. وكان فقيهاً زاهداً. مالكي المذهب ذا رئاسة وظهور. وكان شديداً على بني عبيد، حين ملكوا مصر والشام، ذامّاً لهم، منفراً للعامة عنهم. قائلاً لهم. قال ابن سعدون: وكان شيخاً صالحاً. قال أبو إسحاق الرقيق في تاريخه: هو رجل معروف بالعلم، وكان يفتي في المحافل، باستحلال دم من أتى من المغرب. ويستفز الناس لقتالهم. يريد بني عبيد. قال: وكان أغلظ عليهم من القرامطة. قال القاضي رضي الله تعالى عنه: وإنما سلك في هذا، مسلك شيوخ القيروان في خروجهم عليهم، مع أبي يزيد، لاعتقادهم كفر بني عبيد قطعاً. وقالوا لأبي يزيد: أنت رجل من أهل القبلة، نقاتل بك، من كفر بالله ورسوله. ذكر محنته رحمه الله تعالى ومما ذكره الرقيق، وابن أبي يزيد، وابن سعدون، وكان رحمه الله تعالى، لما قام الأعصم القرمطي الجنّابي، ونهض الى الشام، واسمه الحسن. فرأى المنصور. وأتى من موضعه بالإحساء، فحل بالرّملة بجيوشه. سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وأمامه أميرها، لا يسع أبي بكر إلا مداراته على بلده، لئلا يستبيحه. فأدخله الرملة. ولم يخالفه أهل البلد. ووقَوا كثيراً من شره، ثم زحف الأعصم، الى مصر، وحصر القاهرة. وبها العبيدي، صاحب القيروان الملقب بالمعز إثر وصوله إليها. وغلامه جوهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 الصقلبي، الى أن هزموا الأعصم، وفر أمامهم الى بلده، الإحساء. وذلك في سنة أربع وستين. وانبعث عساكرهم. فخرج أبو بكر النابلسي من الرملة خائفاً منهم الى دمشق. فلما حصل بها، قبض عليه بعض عظمائها، وحمل الى مصر مع ابنه، في جملة الأسرى الذين قبض عليهم في الهزيمة. وكانوا نحو ثلاثمائة فشهروا على الجمال، وأمر بضرب أعناقهم على النيل، ورمي جثثهم به، إلا النابلسي، فإنه أمر أن يسلخ من جلده. وقال لجوهر: عرّف السلطان، أني أفدي نفسي بخمسمائة ألف. فدخل جوهر ثم خرج. فقال: اذهبوا به واسلخوه. فرمى بنفسه ثانية. فلطم شديداً، وحمل بهذا المنظر، فطرح على وجهه بالأرض، وجلس على صدره ووركيه، ومسك جداً. وشق السلاخون عرقوبيه، ونفخ كما تنفخ الشاة. ثم سلخ، وهو في كل هذا يقرأ القرآن بصوت قوي، وترتيل. الى أن انتهى السلخ الى كتفيه. فتغاشى. ثم مات. فصلب جسده، ناحية. ثم جلده، بعد أن حُشي ناحية. رحمة الله تعالى عليه. وذكر أبو الحسن بن جهضم في كتابه، في صدق فراسة المؤمن. قال: لما قدم أبو الحسن علي بن محمد بن سهل، الرملة. خرج إليه جماعة يتلقونه، ومنهم والد أبي بكر النابلسي، وابنه أبو بكر معه. فلما نظر الشيخ إليه، قال: مرحباً بشهيد مصر. وكان هذا في سنة عشرين، واستشهد في التاريخ المتقدم بعد هذا، بنيف وأربعين سنة. وذكر ابن جهضم: أن قتله كان سنة ثلاث وستين. والأول أصح. قال ابن سعدون: لما أُتي بأبي بكر، وبابنه أسيرين، اختار الشيخ أن يقتل ابنه قبله، حتى يحتسبه، ويكون في ميزانه. فكان ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 فدعا الله على فاعله أن يفجعه الله بابنه. وكان لمعد ابن، اسمه: عبد الله، لقبه المهدي. ودعى له، وفيه دعاوي. فقبل الله دعاء الشيخ، وأماته في حياة أبيه، وأفجعه به. قال القاضي عياض: رأيت مثل هذه الحكاية لغيره وحكيت لنا من طرق، عن عبد الله بن يربوع من أهل بلدنا، وكبيره، وفقيهه، حين قتله بسوق أحد أمراء سبتة، هو وابنه أحمد، أنه اختار تقديم ابنه. فإن كان هذا باللفظ والرغبة، فهو خطأ في الفقه. وغفلة عظيمة في العلم. لأنه معين على تقديم من قدمه، معجلاً له قبل نفسه، ولعل القدر لو قدّر، فحال بينه وبين ولده، ونجاه من القتل، بلطف من ألطاف الله. غير واحد، عن قتل أصحابه. ولعلها أيضاً كحكاية أبي الحسن النوري، حين قدم الصوفية ببغداد، للقتل. فمرّ الى السياف متقدماً، سابقاً لهم. قال: أتصدّق بهذه الساعة التي أقتل فيها عن أصحابي، وهذا لا شك، معين على نفسه، وتقديمها لما لعل الله يلطف به في الساعة، لو تأخر، وينجّيه. من أهل إفريقية أبو بكر بن اللباد واسمه محمد بن محمد بن وشاح. مولى الأقرع. مولى موسى بن نصير اللخمي. وكان وشاح حائكاً، من أصحاب يحيى بن عمر، وبه تفقه. وأخذ عن أخيه محمد بن عمر، وابن طالب رحمه الله تعالى. وحمديس القطان. وأحمد بن يزيد، وعبد الجبار بن خالد، والمغامي، وأحمد بن أبي سليمان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وسمع من الشيوخ الذين كانوا في وقته: كأبي بكر بن عبد العزيز الأندلسي، المعروف بابن الجزار. وحبيب بن نصر، وأبي عمران البغدادي، وأحمد بن يزيد، وأبي الطاهر، ومحمد بن المنذر، والزبيري، وأبي محمد عبد الله بن محمد بن معمر، وزيدان، وغيرهم. سمع منه حماد بن إلياس، وتفقه به أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، وابن حارث، وغيرهم. وممن روى عنه زياد بن عبد الرحمن القروي، ومحمد بن الناظور، ودراس بن اسماعيل. ولم يذكر له رحلة ولا حجّ. ذكر الثناء عليه وفضله ودينه قال ابن حارث: وكان عنده حفظ كثير، وجمع للكتب. وله حظ وافر م نالفقه، والحفظ. شغله: إسماع الكتب عن التكلم في الفقه. وكانت مذاكرته تعسر، لم يشفع به لضيق في خلقه. وكان خلقه سيئاً. قال أبو العرب: وكان فقيهاً جليل القدر، عالماً باختلاف أهل المدينة، واجتماعهم، مهيباً مطاعاً. قال ابن حارث: وكان أولاً يكتب لابن الخشاب، إذ كان على مظالم القيروان. وكان الغالب على خلقه الحرج. وفي تعليق أبي عمر: أنه كان من أهل الحفظ، والضبط لكتبه، حافظاً. وذكره أبو بكر بن عبد الرحمن فأثنى عليه بالدين والورع والزهد. قال: وكان من الحفاظ المعدودين والفقهاء المبرزين. وذكر عن الابياني أنه قال: إنما انتفعت بصحبة ابن اللباد. ودرست معه عشرين سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وقال محمد بن ادريس: صحبت العلماء بالمشرق والمغرب، ما رأيت مثل ثلاثة: أبي بكر بن اللباد، وأبي الفضل المَمْسي، وأبي إسحاق بن شعبان. وذكر بعض ثقات أصحابه: أنه نظر الى رجليه بعد أن فلج، وقد تغيرتا، وانتفختا، فبكى ثم قال: اللهم ثبتهما على الصراط يوم تزول الأقدام. وأنت العالم بهما، والشاهد عليهما، أنهما ما مشتا لك في معصية. وألّف أبو بكر كتاب الطهارة، وكتاب عصمة النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وهو كتاب إثبات الحجة في بيان العصمة، وكتاب فضائل مالك، وكتاب الآثار والفرائد عشرة أجزاء. ذكر أخباره وإجابة دعوته وبراهينه وجمل من فضائله قال محمد بن إدريس: كنا يوماً عند ابن اللباد نقرأ عليه، حتى سمعنا فوق البيت حركة. فسأل الشيخ خادمه عنها. فقالت: جعفر بن النوام يطارد الحمام. فقال: اللهم أصلحه. فما كان إلا بعد يوم أو يومين، حتى قرع علينا الباب، فأذن له. وجلس في الحلقة. فقال له الشيخ: اجلس يا مؤمن الى أن نفرغ. وكان أجداده كلهم عراقيون. فواظب على السماع، وانتفع بدعائه، ولزم السبائي وبلغ من العبادة مبلغاً عظيماً. وحكى المالكي أنه دعا على ثلاثة، فأجيبت فيهم دعوته. أما أحدهم، فدعا عليه بالجنون، وعلى الآخر بالعمى، فرأيتهما كذلك، وآخر بالجلاء، فمات في بلد السودان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 قال محمد بن ادريس لأبي بكر ابن اللباد: استخلصت لك دَيناً بثلاثين ديناراً، ففرح بها، وأقبل يصبها من يد الى يد، ويقول: زكّها. فوالله ما زكيت قبلها قط. قال: وأدخل على عبيد الله صاحب إفريقية، فأقبل عليه، وقال: يا محمد أنت منا، وبلدك. في كم من العيال أنت؟ فأخبره. فقال نفرض لك في بيت المال ما يكفيك، من النفقة، والكسوة وغيرها. فقال: قبلت، ولكن يترك ذلك في بيت المال، حتى أحتاج إليه. قال: وكانت له امرأة سليطة، تؤذيه بلسانها. فحكى أنها قالت له يوماً: يا زاني. فقال: سلوها، فبمن زنيت؟ قالت: بالخادم. قال: سلوها لمن الخادم. قالت: له. فقال له أصحابه: طلقها، ونحن نؤدي حقها. فقال: أخشى إن طلقتها، أن يبتلي بها مسلم. ولعل الله دفع عني بمقاساتها بلاءً عظيماً. فقال: بل حفظتها في والدها، فإني خطبت الى جماعة فردّوني، وزوجني هو لله تعالى. وكان يفعل معي جميلاً. أفتكون مكافأته طلاقها؟ وكان يقول: لكل مؤمن محنة. وهي محنتي. قال ابن ادريس: شوّر رجل ابنته بشوار حسن، كثير. فعجب الناس منه، وحضر أبو بكر بن اللباد، فانصرف الناس يهنئون صاحب الشوار. فقال أبو بكر: لا أخلف الله عليك بخير، فقد كمدت جارك، وعضلت ابنته، وخالفت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 فجعلت أنظر إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله، إن أزهد الناس في العالِم، قرابته وجيرانه. وقال مرة أخرى في مثلها: ما قرب الخير من قوم قط، إلا زهدوا فيه. وذكر الأجدابي: أن أبا بكر، جلس يوماً عند اسماعيل المؤدب جاره، ليتفرج ويرى الناس. فكان الناس إذا جازوا من ذلك الموضع رجعوا من طريق آخر هيبة له. فقال: ما بالهم؟ فقالوا: من أجلك وهيبتك. فقال: إنما جلسنا في هذا الموضع لنتفرج. لا لأن نضرّ بالناس في طريقهم. ثم قام. وكان يحضر مجلس السبت بالقيروان، ويقول لمن أنكر عليه ذلك. قال: ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفّار. قال: وحضور السبت مما يغيظ بني عبيد. ورفع الى المهدية لعبد الله ليتولى قضاء صقلية، فاعتذر، وقال: صرت في حد، لو كنت على القضاء لوجب أن لا أولّى. فكيف أبتدئ وقد كبرت سني، ودخلتني زمانة. ثم عرض لهم قضاً من كفه اليمنى، قد سمُح. وكان أبو بكر يقول: أكبر شيء من محقه، وكلام لين. ومن أخباره رحمه الله تعالى. قال أبو بكر: أدركت بالقيروان أقواماً، كانوا أغنياء فافتقروا. وما ذاك إلا أنهم اتجروا في الحنطة في إبان الشدائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 قال: وحدثتني امرأة سماها، توفي ابن لها بالفسطاط، فقدمت القيروان. قالت: وكنت أخرج الى باب سلم، كل وقت، فأبكي الى جانب قبر. فرأيت في المنام: كأني هناك. فإذا أهل القبور قعود، على قبورهم. الرجال والنساء. فسمعتهم يقولون: قد جاءت هذه المرأة تبكي. ألها عندنا قبر تبكي عليه؟ فقالوا: لا. فقالوا: لم تؤذينا ببكائها؟ فلطمني ميت، لطمة بيده الشمال، في خدي اليمنى. فقلت: لم تلطم وجهي؟ وقد مسست به الركن والحجر. فقالوا لي: حزنك بمصر، وتؤذينا ها هنا. فانتبهت، وأثر اللطمة في خدها. فكشفت لي وجهها، وفيه أثر السواد. فأقام نحو أربعين يوماً، ثم ذهب. قال أبو بك: خرجت امرأتي في فرح، فبت وحدي. فكلمني جني من ناحية الدار. فقال لي: امرأتك تلبس المعصفرات وتحبسها في مسكننا. فقلت له: ومن أين لك عندنا مسكن يا شيطان؟ فقال لي: ولا تدري ما قلت لك، من ديك أفرق. فلما قال هذا، أدركني منه شيء. قلت: هذا حرز في دجانة. وكان أبو بكر يتخذ ديوكاً. فيجد فيهم أمواتاً. كان ذلك الجني يخنقهم. لأن الدين الأفرق يطرد الشياطين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 محنته وأخباره فيها كان أصل محنته، أنه صلى على جنازة استؤذن لها. وقد حضر ابن أبي المنهال القاضي، حينئذ، بجنازة أخرى. كلم عليها. فصلى أبو بكر ابن اللباد. ومد رجليه. واستدبر القبلة. ولم يصلّ وراءه في جماعة منهم. فشق ذلك على ابن أبي المنهال، وأغرته به المشارقة فوجه وراءه جماعة منهم فلما دخل، قال له: اجلس. ثم عقد عليه محضراً بشهادة القوم، بفتحه بابه، وانتصابه للفتوى، والسماع، بخلاف مذهب أمير المؤمنين. وأنه يلبس السواد، ويخضب في الأعياد. فقال له أبو بكر: لمن أدعو؟ قال: لبني أمية. يلبسون السواد. وأراد فضيحته عند من حضر. ثم قال له أيضاً: بأن الخطبة لا تكون بأقل من خمسين رجلاً. وداري لا تحمل ذلك. ثم قال له: ومتى كان هذا: بعد صلاة الجنازة أو قبلها؟ فقال له ابن أبي المنهال: وأي حجة لك في ذلك؟ فقال: إن كان قبل الصلاة عليها، فقد غششت أمير المؤمنين، إذ كتمت عنه هذا. وإن كان بعدها، فأنت خصمي، ولا يقبل قولك. فأمر ابن أبي المنهال بسجنه. فجاء الغلام ليأخذ بيده، فانتهره، وقال: دع. أشهدكم أني محبوس. ومضى الى السجن. فوجد فيه المراودي. وكان سجن على سب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما دخل الشيخ تلقاه. فأعرض عنه. فقال المراودي: والله إني لأبغضك قديماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 فقال أبو بكر: الحمد لله يا فاسق، الذي لم يجعل قلبك بغض النبي صلى الله عليه وسلم وحبي. فأقام مسجوناً حتى ذهب محمد ابن أخيه الى المهدية. فأخبر بذلك البغدادي. وكان يحبه. فسعى له عند عبيد الله، حتى أمره أن يكتب الى ابن أبي المنهال بإخراجه من السجن، على أن لا يفتي ولا يجتمع إليه أحد. ولا يفتي إلا بمذهب السلطان. وكتب في رقعة داخل الكتاب، وقال: ما هذا الذي فعلت؟ عمدت الى عمدة بلده، فأحدثت فيه هذه الأحدوثة، وأثرت البلدة. وهذا مما كرهه أمير المؤمنين. فلا تعد الى مثل هذا. فلما وصل الكتاب أخرجه، وشرط عليه أن لا يخشن عليه الجواب. فلما رفع مجلسه، وقال هذا كتاب أمير المؤمنين، عهد فيه أن لا تفتي، ولا يجتمع إليك أحد، وإن مرضت فلا تعاد. فقال أبو بكر: هذه مسألة لم تنزل بعد. ثم خرج الى المهدية، فقصد البغدادي، فذكر وصوله لعبيد الله. فقال له: اكتب له كل ما يحب ولا تدخله عليّ. فكتب سجلاً أن لا ينظر في أمره ابن أبي المنهال. فأراد أن يأخذه. فقال له البغدادي: ليس مثلك، يحمل عناية أمره؟ تصل الى بلدك، ويصل مع البريد إليك ذلك. وبقي أبو بكر، لا يسمع إلا في خفية. فلزم داره، وأغلق بابه. وكان ربما خرج الى المسجد، فيأتي الطلبة الى بابه، فتفتح لهم خادمه، فإذا اجتمعوا أتته. فيدخل، وتغلق عليهم، فيقرأون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وكان منهم أبو محمد التبان، وابن أبي زيد رحمهما الله تعالى. وغيرهم. وكانوا ربما جعلوا الكتب في أوساطهم، حتى تبتل بأعراقهم. فأقاموا على ذلك الى أن توفي رحمه الله تعالى. وكان قد امتحن أيضاً، على يد التاهرتي، طلبه بوديعة. قال له: لا أعرف ما تقول. ولا أودعني هذا الرجل شيئاً. ولا أعرف من هو. ولا رأيت هذا العدد قط، إلا على مائدة صيرفي. فدعا أعوانه، فأخذوه وبطحوه على وجهه. وجلس أحدهم على أكتافه، والآخر على رجليه. وضربوه ثلاثة عصي. فقال: اصبر أكلمك. فقال: دعوه. فما رق قلبي لأحد رقته عليه. قال ابن ادريس: لما امتحن أبو بكر على يد التاهرتي، وضرب إليتيه، قال: تضرب إليتين والله ما عصتا الله قط. وتوفي في منتصف صفر يوم السبت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، قبل دخول أبي يزيد القيروان بخمسة أيام. وأظهر أهل القيروان بسبب ظهور أبي يزيد بينهم الترحم على أبي بكر، وعمر. ولعنوا من لا يترحم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهدموا بيوت المتقلبين. وكان فلج آخر عمره. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة طويلة أولها: يا من لمستقرب في ليلة حزناً ... مستوطن من بقايا آية وطنا يا عين فابكِ لمن بفقده فقدت ... جوامع العلم والخيرات إذ دفنا لهفي على ميّت ماتت به الخيرا ... ت قد كان أحيا الدين والسننا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 نفسي تقيك أبا بكر ولو قبلت ... فدتك من كل مكروه إليك دنا إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... فنحن بعدك نلقى الضيم والفتنا ونحن بعدك أيتام بغير أب ... إذ غيب الترب عنا وجهك الحسنا ومنها ذكر محنته وذكره: قد كان يعتز بالرحمان إذ قصدوا ... لذلّه بهوان السجن إذ سجنا كم محنة طرقته في الآله فلم ... يجِد لذلك إذ في ربه امتحنا بل كان حصناً لدين الله ينصره ... ويحتمي مغضباً لله إن فتنا إن صال في الحق لم يرهب عواذله ... ولا ملامة من في قوله طعنا حتى استنار به الإسلام في بلد ... لولاه مات به الإيمان واندفنا الفقه خلّته، والعلم حلته ... والدين زينته والله شاهدنا أب لأصغرنا كفل لأكبرنا ... وفي النوازل ملجانا ومفزعنا يا من هو العلَمُ المشهود منظره ... ومن تأدب بالتقوى وأدّبنا ومن به تكشف الظلمات إذ نزلت ... ومن بدعوته الرحمان ينفعنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 لقمان بن يوسف الغساني كان بالقيروان. وسكن صقلية مدة. ثم استوطن تونس. فسمع من يحيى بن عمر، وعليه اعتمد. وعيسى بن مسكين، وحماس، وعبد الجبار، وابن بسطام، وغيرهم من أصحاب سحنون. وحجّ، فسمع بمصر كثيراً. وأخذ عن علي بن عبد العزيز، ويحيى بن أيوب الغالب، وقرأ على الأنماطي، والوداني. وكان محسناً للقراءة. يقرأ بقراءة نافع. قال ابن حارث: كان من أهل العبادة والصيام، والقيام، والتقشّف، والتواضع، حافظاً لمذهب مالك، حسن القريحة فيه. متفنناً، فقيهاً مبرزاً في ذلك. عالماً باللغة، والحديث، والرجال، والقرآن. يميل الى طريقة ابن عبدوس في فقهه وفي مسألة الإيمان، والاستثناء فيه. وفي جميع معانيه. من أحسن الناس مجلساً، وأغزرهم خبراً، وأعرفهم بأخبار القيروان وشيوخها. لا يكاد يفرغ من حديث، حتى يصله بغيره. قال ابن حارث: وكان إذا مضت مسألة - يعني في وقت القراءة - يحتاج إليّ. كلمني فيها. وإذا مر اسم رجل، كلم فيه محمد بن صامت. وإذا مر بشيء من اللغة، كلم فيه سعد بن ميمون. قال أبو العرب: كان فقيهاً يسمع معنا من مشائخنا. قال أبو عبد الله الخراط: كان فقيه البدن، ثقة صالحاً متقشفاً. يحسن اللغة والنحو، فكان الأبياني يثني عليه، ثناء حسناً. ويقال إنه كان عالماً باثني عشر صنفاً من العلوم. سمع منه الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 قال الأبياني: غسل لقمان رجليه في يوم مطر، في جامع تونس، فأنكر ذلك عليه إنسان. فقال لقمان: عطاء بن أبي رباح يتوضأ في المسجد الحرام، وهذا يمنعني أن أغسل رجلي في جامع تونس. قال الأبياني: كنت أسمع من يحيى بن عمر، ثم آتي لقمان، فأفسر ما أشكل فيها، فسألني عن ذلك يحيى، فأخبرته. فقال لي: بل حدثني يحيى بن عمر، ونبأني بمعناها لقمان بن يوسف. قال الأبياني: ومكث لقمان أربعة عشر سنة، يدرس المدونة ويكتبها في اللوح. حتى خرج له في جسمه خراج من دسّ اللوح. كان سبب موته، وأصل علته. قال الأبياني: قال لي لقمان بن يوسف: ركعتا تحية المسجد أوجب من ركعتي الفجر. وعرض له عارض في بصره فعمي، وبقي مدة أعمى ثم رد الله إليه بصره، فصحبته أياماً، وهو صحيح البصر يقرأ الخط الرقيق، بلا معالجة. ولا اكتحال. وسألته عن الخمير تجعل على الدمل، فقال لا بأس به. ومات بتونس سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وقيل ثمان عشرة. قال أبو العرب: في نيف وعشرين. أبو الفضل الممسي رحمه الله تعالى واسمه العباس بن عيسى. وممسى قرية هناك. كان فقيهاً فاضلاً، ديناً عابداً. أثنى عليه أهل بمصر. سمع من موسى القطان، والبجائي وجبلة بن حمود. وأحمد بن أبي سليمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 قال ابن حارث: كان يتكلم في علم مالك كلاماً عالياً. ويفهم علم الوثائق فهماً جيداً. ويناظر في الجدل، وفي مذاهل أهل النظر، على رسم المتكلمين والفقهاء، مناظرة حسنة. وكان لسانه مبيناً وقلمه بليغاً مع حصافة العقل وذكاء الفهم وكان في المناظرة والفقه أجزل منه في الكلام. وقال في كتاب آخر: كان من أهل المروءة والانقباض والصيانة. لم يكن في طبقته أفقه منه، ولا أصون. وعني بالنظر والخلاف، ولكنه كان مالكياً، محضاً. وقد ألف الأجزاء في فضائله. وقال ابن أبي دليم: كان من أهل الحفظ والذكاء، والعلم بالوثائق. قال أبو عبد الله الأجزالي كان أبو الفضل صالحاً، قواماً صواماً، ورعاً حافظاً للفقه، والحجة لمذهب مالك. درس كلام القاضي اسماعيل. قال: وذكره أبو الحسن القابسي، وفضله وقال: ما بين محمد بن سحنون وأبي الفضل، أشبه بمحمد منه. لعلمه وورعه، وزهده، واجتهاده. وكان من العاملين. ويقال إن أهل مصر لم يعجبوا ممن ورد إليهم من المغرب إلا من ثلاثة: من ابن طالب. أعجب به أولئك الجلة. وموسى القطان. فإنه كان من أجل أصحاب محمد بن سحنون. وأبي الفضل الممسي. وكان يقال ما كان ببلدنا على معنى اسماعيل بن إسحاق، في الكلام على العلم ومعانيه، إلا موسى القطان، وبعده أبو الفضل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وجاء أبو بكر بن سعدون مرة الى البجائي الشافعي ليسلّم عليه؟ وإذا أبو الفضل خارج من عنده. فقال البجائي: أي شاب نشأ للمؤمنين. فكررها. ما بيدي من هو، فسألناه. فقال هذا الشاب الخارج أبو الفضل العباس. ليسودنّ أو نحو هذا. وكان السبائي يحبه جداً. ويقدمه في هديه وعلمه، وورعه. ولقد قال أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى عند قتله، وددت أن القيروان سبيت، ولم يقتل أبو الفضل. وكان أبو محمد يثني عليه خيراً. قال ابن حارث، وخرج الى الحج، سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فأقام عامه ذلك بمصر. ولزم في السنّة الفقيه، أبا الذكر. وكان له قدر فيهم، وجاه عندهم. وألّف كتاباً في تحريم المسكر، ناقض به كتاب الطحاوي. وله أيضاً كتاب في قبول الأعمال. وكتاب اختصار كتاب محمد بن المواز. وسمع في حجته تلك حديثاً كثيراً. قال غيره سمع بمصر من أحمد بن جعفر بن أحمد بن عبد السلام، الحضرمي وأبي عبد الله الجيزي، وأبي بكر بن مروان المالكي. روى عن الذهلي وابن عبد الوارث، وأبي الحسن بن سوادة وأبي الحسين بن المنتاب بمكة، وغيرهم. أخذ عنه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، ومحمد بن حارث، وأبو بكر الزويلي، وأبو الحسن بن الخلاف، وأبو الأزهر بن معتّب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 ذكر عبادته وزهده وبعض أخياره وشمائله قال ابن حارث: ولما انصرف من رحلته، لزم الانقباض والنسك. فكانت تلك حاله الى سنة قيام مخلد بن كيداد، أبي يزيد، علي بني عبيد، فخرج معه علماء القيروان. فكان ممن خرج. فمات رحمه الله تعالى بباب المردية. قال القاضي: يريد ابن حارث بالمردية: المهدية. مناقضة لاسمها. الذي سماها به بنو عبيد. إذ كانت عش كفرهم. ودار ضلالهم. ووجدت أبا عمران الفقيه يكني عنها بالمهدومة: نظيراً لها. قال أبو الأزهر بن معتب: صحبته من سنة عشر الى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين. وهو على حالته من الاجتهاد. قال أبو بكر بن سعدون: صام أبو الفضل عندنا رمضان. فكان لا يتعشى، حتى يصلي العشاء الأخيرة. يتنفل بين العشاءين. وكنت أتعاهده بالليل، فأجده قائماً يصلي. وكان لا يتوضأ إلا في البحر، ويبعد وذلك أنه كان شديداً في وضوئه، وطهارته. ورأى بعضهم السبائي يتوضأ، فتعجب من وضوئه، فقال: لا تعجب. لو رأيت وضوء أبي الفضل الممسي، ما عجبت من وضوئي. وأهدى له أبو الأزهر بن معتب بسوسة، كعكاً. عمل بسكر. فرده. وقال أنا لا آكل سكر صقلية. لأنه من ضياع السلطان. قال أبو الحسن بن الخلاف: لما جعل على الملح القبالة بالقيروان. أرسلني أبو الفضل لأشتري له ملحاً من بعض القرى. ووجه مرة ليشرى له سلعة من السوق، فقال: لا تشترها من صاحب دكان. فيلزمنا الكراء بمقدار مقامها عنده. ولكن اشترها من المناداة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وكان يلبس ثياباً جليلة، وخفاً أسود. وإذا أتى موضعاً، جلس في أشرفه. وكان يحضر الاملاكات عند ولي الزوجة. ولا يحضرها عند الزوج، لسلوكه معه في خلط من يحضر الأزفة على رسمهم. صيانة للعلم. وكان من النظافة وعلاء الهمة، والنزاهة على غاية. وكان له نعل لبيت مائه. وأخرى لمشيه في داره، وأخرى يمشي بها الى مصلاه. قال الإجدابي: وإنما سلك أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى في هديه، وهمته، وسمته طريقته. وحكى أبو محمد بن أبي زيد وغيره عنه: أنه كان يذهب الى أن ينوي الإنسان في كل تطوع، ووصية يوصي بها، وصدقة. رداً لتبعات المجهولة. لأن ردها أوجب من التطوع. قال ابن الخلاف: وكذلك في الصلوات. ينبغي إذا أحب أن يتنفّل، أن يصلي صلاة يوم، ينوي بها الخمس. تكون قضاءً عما لا يدري، أنه فرط فيه، أو فسد عليه. قال أبو الحسين بن الخلاف: كانت عندنا بضيعة الوادي، دولاب مغصوبة. يباع فيها البقل، فربما احتجت الى شراء البقل منها، وتحرجت من ذلك، وسألت أبا الفضل الممسي، وأبا حفص بن العسال، رحمهما الله تعالى، فقالا - كان أحدهما يسمع صاحبه - تصدق بقدر مال البقل فيها، من بعد شرائك، الى أن قبضت. فقلت إنما كراؤها في الشهر ربع درهم. ويشترى فيها في اليوم بقل باثني عشر درهماً. وإنما اشتريت بحبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 فقالا لي: إنها مثاقيل الزراء. فلا تجتمع في السنة حبتان. قال: وسألت أبا الفضل عن رجل من جيراني، أصحاب السلطان، أراد أن يودع عندي مائة دينار؟ فقال لي: إذا أتاك فطلبها تردها عليه. قلت: نعم. فقال لي: إن كانت عندك مائة أخرى، تتصدق بها، فافعل. لأنه غاصب. حقه أن يرد ما غصبه على أربابه. فإن لم يعرفهم تصدّق بها، عنهم. وذكر أن رجلاً عند نهب تونس، جاء يشتري ثوباً لامرأته. فوجد جندياً يبيع ثوباً، فظنه ثوب امرأته، فاشتراه بستة دنانير. ودفعها الى الجندي. فجعلها في منطقته مع غيرها. وإذا الثوب ليس بثوب امرأة الرجل. فسأل الجندي أن يقبله، ففعل. فأخذه منه، ودفع إليه دنانيره من منطقته. فسأل عنها جماعة من أصحاب سحنون؟ فما اختلف عليه منهم أحد، بأنه يتصدق بهذه الدنانير، لاختلاطها بدراهم الجندي. وأنها لا تتميز. ويتصدق بقيمة الثوب، لأن كونه في يده من قبل الجندي الغاصب، صار هو كالغاصب له. فوجب عليه رده الى ربه، أو الصدقة به إن جهلهم. فإذا ردّه الى الجندي، لزمته قيمته، يتصدق بها على المساكين. إذ أربابه مجهولون. وكان بينه وبين أبي ميسرة بن نزار الفقيه بعد. وكذلك مع غيره من علماء القيروان، بسبب مسألة الإيمان، واختلافهم فيها. وكان أبو ميسرة يقول له: تب، وأنا أخدمك. فكان أبو الفضل يقول: مماذا أتوب؟ بل أبو الفضل يقول: لماذا أتوب؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 وكان أبو ميسرة، قد أخذ محضراً عليه. فاجتمع بالجبنياني: أبي إسحاق. فعرفه وغضب واسترجع وقال: هكذا يوقع الشيطان بين المؤمنين العداوة والبغضاء. والله لا رضيت بسماع هذا في أبي الفضل. رجل نشأ على الطهارة وحفظ القرآن، من ثمان سنين، وحفظ الموطأ ابن خمس عشرة سنة. يقال هذا فيه. وخرج. فبهت أبو ميسرة. ولامه من حضره ومن كان يغري بينهما. وقال: إن ذكره أحد منكم بلفظة، إن دخل عليّ. وقطع المحضر، وقام الى دار أبي الفضل، فدخل عليه، وخاله وأصلح بينهما. شرح مقتل الممسي وأصحابه كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد، في حالة شديدة من الاهتضام والتستر. كأنهم ذمة. تجري عليهم في كثرة الأيام محن شديدة. ولما أظهر بنو عبيد أمرهم، ونصبوا حسيناً الأعمى السبّاب لعنه الله تعالى، في الأسواق، للسب بأسجاعٍ لُقِّنها. يوصل منها الى سب النبي صلى الله عليه وسلم، في ألفاظ حفظها. كقوله لعنه الله: العنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوى. وغير ذلك. وعلقت رؤوس الأكباش والحمر، على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة، مكتوب فيها أسماء الصحابة. اشتد الأمر على أهل السنة. فمن تكلم أو تحرك قتل، ومثّل به. وذلك في أيام الثالث من بني عبيد، وهو اسماعيل الملقب بالمنصور، لعنه الله تعالى، سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. وكان في قبائل زناتة، رجل منهم، يكنى بأبي يزيد، ويعرف بالأعرج صاحب الحمار، واسمه مخلد بن كيداد، من بني يفرن، وكان يتحلى بنسك عظيم، ويلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وقومه له على طاعة عظيمة. وكان يبطن رأي الصفرية. ويتمذهب بمذهب الخوارج. فقام على بني عبيد، والناس يتمنون قائماً عليهم. فتحرك الناس لقيامه، واستجابوا له. وفتح البلاد، ودخل القيروان، وفرّ اسماعيل الى مدينة المهدية، فنفر الناس مع أبي يزيد، الى حربه. وخرج بهم فقهاء القيروان، وصلحاؤهم، ورأوا أن الخروج معه متعين، لكفرهم. إذ هو من أهل القبلة. وقد وجدوه يقاتلوهم معهم. وكذلك كان أبو إسحاق السبائي، يقول. ويشير بيده الى أصحاب أبي يزيد. هؤلاء من أهل القبلة لقتالهم. فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، والله يسلط عليه إماماً عادلاً، يخرجه عنا. وحكى أبو عبد الله بن محمد المالكي، فيمن خرج معه أبو الفضل الممسي، وربيع بن سليمان القطان، وأبو العرب بن تميم، وأبو إسحاق السبائي، وأبو عبد الملك بن مروان بن منصور الزاهد، وأبو حفص عمر بن محمد الغسال، وعبد الله بن محمد الشقيقي، في جماعة المدنيين، وابراهيم بن محمد المعروف بالعشّاء الحنفي، وغيرهم. ولم يخلف من فقهاء المدنيين المشهورين، إلا أبو ميسرة لعماه، ولكنه مشى شاهراً للسلاح في القيروان مع الناس، باجتماع المشيخة على الخروج. ووجهوا الى الممسي ليروا رأيه في ذلك. وكان عباس الممسي في ذلك الحين مريضاً، بمنزله. وأنذر الناس الى الجامع فحضروا، وتكلموا في الأمر. فذكر ربيع جبر والديه، وذكر العشّاء ثقل وضوئه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 فقال العباس الممسي: قد تعلمون أنه يشق عليّ من الوضوء والوالدة، أكثر مما ذكرتم. وغير ذلك من علتي هذه الظاهرة. ولكن لما بلغني من رد الناس الأمر إلي زالت العذُر، وإن عزمتم عزيمة رجل واحد، فلا أضن عليكم، لما وجب علي من جهادكم. فقال أبو إسحاق السبائي: جزاك الله، يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً. إنا والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين. فلعل الله أن يكفر عنا بجهادنا، تفريطنا وتقصيرنا عن واجب جهادهم. فكلمهم أبو الفضل واحداً واحداً. فقال ربيع القطان: أنا أول من يسارع ويندب الناس. وتسارع جميع الناس الى ذلك. وذلك يوم الإثنين لثلاث عشرة بقيت بجمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وعقدوا أمرهم على الخروج الى المصلى بالسلاح الشاك. فلما كان الغد، خرجوا واجتمعوا بالمصلى بالعدة الظاهرة، فضاق بهم الفضاء من كثرتهم. وتواعدوا للخروج والنظر في الازواء. ثم اجتمعوا يوم الأربعاء في السلاح. فركب ربيع فرساً، عليه درع مصبوغ. وتقلد سيفاً، وحبس رمحاً، وقد تعمم بعمامة حمراء، وأبو سعيد ابن أخي هشام يمشي معه على عنقه السيف مصلتاً. وركب أبو العرب، وتقلد مصحفاً. وركب غيرهما في السلاح الشاك. وشقوا القيروان، ينادون بالجهاد، وقد شهروا السلاح، وأعلنوا بالتهليل والتكبير، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، والترحم على أصحابه، وأزواجه رضي الله تعالى عنهم. فاستنهضوا الناس للجهاد، ورغبوهم فيه. فلما كان يوم الجمعة، ركبوا بالسلاح التام، والبنود والطبول، وأتوا حتى ركزوا بنودهم قبالة الجامع. وكانت سبعة بنود. بند أحمر للممسي فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لا حكم إلا لله، وهو خير الحاكمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 وبندان أحمران لربيع، في أحدهما: بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي أحدهما: نصر من الله وفتح قريب، على يد الشيخ أبي يزيد. اللهم انصر وليك على من سب نبيّك، وأصحاب نبيّك. وبند أصفر لأبي العرب متكوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. " قاتلوا أئمّة الكُفر " الآية. وبند أخضر لأبي نصر الزاهد، فيه: لا إله إلا الله. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وبند أبيض للسبائي، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق، وعمر الفاروق. وبند أبيض للعشّاء، وهو أكبرهم، فيه مكتوب: لا إله إلا الله. " ألا تنصروه فقد نصره الله " الآية. وحضرت صلاة الجمعة، فخطب خطيبهم، أحمد بن أبي الوليد، خطبة بليغة. وحرّض الناس على الجهاد. وسب بني عبيد، ولعنهم وأغرى بهم. وتلا: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " الآية. وأعلم الناس بالخروج من غدهم، يوم السبت. فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم. فرزقوا الظفر بهم، وحصروهم في مدينة المهدية. فلما رأى أبو يزيد ذلك، ولم يشك في غلبته، أظهر ما أكنّه من الخارجية. فقال لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان، حتى يتمكن أعداؤهم منهم. فقتلوا منهم، من أراد الله سعادته، ورزقه الشهادة. فمنهم الممسي، وربيع، ومحمد بن علي البقال. وكان نبيلاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 من أهل العلم، في خمسة وثلاثين رجلاً، من الفقهاء والصالحين. وذلك في رجب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ففارق الناس أبا يزيد بالقيروان. وأظهروا السنّة وحلّقوا بالجامع. فكان لربيع حلقة يجتمع إليه فيها، للفقه من علماء المالكية: أبو الأزهر بن معتب، ومحمد بن أحمد السيوري، وابن أخي هشام، وعمر بن محمد الغسال، وعبد الله بن عامر بن عبد الله بن الحداد، وأبو الليث مولى ابن اللباد، وأبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، وعبد الله بن الأجدابي. فلما ظفر اسماعيل بأبي يزيد ودخل القيروان، سلط الله به على جماعة منهم، سوط عذاب. واختلف في قتل الممسي، كيف كان. فقيل سقط من دابته، وقت الهزيمة، فانكسر وركه، فداسته الدواب. وقيل وقعت به جراح، فأثخنته، فسقط الى الأرض. فقيل إنه لما سقط، وقع ظهره الى ناحية المهدية. فمر به رجل، فقال له: بفضلك رد وجهي الى ناحيتها لئلا نلقى الله مولياً ظهري عنهم. قال محمد ابنه: كان أبي لا يدخل مرحاضه أحد سواه. وفيه جميع ما يحتاج. ومفتاحه معه. فيوم قُتل، سمعنا آنيته قد انكسرت فيه، ولها وجبة. فقالت الوالدة: أعطانا الله خيرها. فإذا بها الساعة التي استشهد فيها. قال مروان العابد: رأيته بعد موته، وقال لي: قد جمعنا الله وأصحابنا من أهل العلم. فنحن نتناظر في العلوم، كما ترى، عند مالك بن أنس، رضي الله تعالى عنه. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة أولها:، وعبد الله بن الأجدابي. فلما ظفر اسماعيل بأبي يزيد ودخل القيروان، سلط الله به على جماعة منهم، سوط عذاب. واختلف في قتل الممسي، كيف كان. فقيل سقط من دابته، وقت الهزيمة، فانكسر وركه، فداسته الدواب. وقيل وقعت به جراح، فأثخنته، فسقط الى الأرض. فقيل إنه لما سقط، وقع ظهره الى ناحية المهدية. فمر به رجل، فقال له: بفضلك رد وجهي الى ناحيتها لئلا نلقى الله مولياً ظهري عنهم. قال محمد ابنه: كان أبي لا يدخل مرحاضه أحد سواه. وفيه جميع ما يحتاج. ومفتاحه معه. فيوم قُتل، سمعنا آنيته قد انكسرت فيه، ولها وجبة. فقالت الوالدة: أعطانا الله خيرها. فإذا بها الساعة التي استشهد فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 قال مروان العابد: رأيته بعد موته، وقال لي: قد جمعنا الله وأصحابنا من أهل العلم. فنحن نتناظر في العلوم، كما ترى، عند مالك بن أنس، رضي الله تعالى عنه. ورثاه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، بقصيدة أولها: يا ناصر الدين قمت مسارعاً ... وبذلت نفسك مخلصاً ومؤيدا وذببت عن دين الإله مجاهداً ... وابتعت بيعاً رابحاً محمودا عهدي به بين الأسنة لم يكن ... لله عند لقاء العدو كمودا كانت حياتك طاعة وعبادة ... فسعدت في المحيا ومت شهيدا يا قرة للناظرين وعصمة ... للمسلمين وعدة وعديدا يا فاتق الرتق الخفي بعلمه ... وميناً للمشكلات مفيد جمعت كل فضيلة ونقيبة ... وحويت علماً طارفاً وتليدا وبرعت بين أصوله وفروعه ... فقهرت ما قد كان منه عتيدا يا أيها المحسود في أخلاقه ... وفعاله لا لمت فيك حسودا أفديك من ورع عليم فاضل ... لك في الورى ما إن رأيت عنيدا يبكي إذا غسقَ الدجى بمدامع ... قد خدّدتْ في خده أخدودا إن فاتني نظري إليك فلم يفت ... ذكر عليك من السلو عمودا ومدامع تشفي وتطفي بالحشا ... ناراً إذا طفيت تزيد وقودا ورثاه أيضاً أبو القاسم الفزاري بقصيدة أولها: عليك أبا الفضل استباق دموعي ... وشغلي بأنواع الأسى وولوعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 ومنها: منوع من الفحشاء والإثم نفسه ... وليس لباغي فضله بمنوع بنفسي صريع جالت الخيل حوله ... بمعترك الأبطال أي صريع ولست له أبكي ولكن لمعشر ... أصيب بن من مُفرَد وجميع وللفقه والإسلام والدين والتقى ... وطول اجتماع واصطناع منيع مضى علم العلم الرفيع وطالما ... أصابت مناه الموت كل رفيع ولأبي عبد الله الدارمي فيه وفي مجلسه: ما أشرف العلم ويا حبذا ... مجلسنا عند أبي الفضل يفيض في علم وفي حكمة ... يصدر منها القول عن فضل وفي لغات العرب قد زانها ... شواهد تعرب عن أصل وصاحب المجلس بادي الحجا ... قد خصّ بالعلم وبالعقل والدين والفضل معاً والتقى ... والخلق الواسع والبذل وقال أبو عبد الله بن سعيد المؤدب: أبو الفضل كهف للعلومبأسرها ... ومعدنها عند احتكاك المحافل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 فأجابه الدارمي: وقرة عين الطالبين إذا غدوا ... إليه ليَعروا من ثياب المجاهل فقال المؤدب: على وجهه نور يكاد ضياؤه ... يجلّي الدجى والليل ملقي الكلاكل فقال الدارمي: لقد نال في الدنيا ثواب إمامة ... مواهب عام جاوزت كل قائل وإن وإن أطنبت فيك مقصر ... وما أنا وحدي بل كذا كل قائل ربيع القطان رحمه الله تعالى هو أبو سليمان ربيع بن عطاء الله، ينتسبون الى قريش صليبه، ابن نوفل. قال المالكي: وكان ربيع من الفقهاء المعدودين والعبّاد المجتهدين، والنساك أهل الورع والدين. كان عالماً بالقرآن وقراءته، وتفسير معانيه. حافظاً للحديث. عالماً بمعانيه، وعلله ورجاله. وغريبه. معتنياً بالمسائل والفقه. كانت له بجامع القيروان، حلقة. يحضرها أبو القاسم ابن شبلون وغيره، أيام أبي يزيد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 ووصفه ابن شبلون بالتقى والتفقه، وجودة الذهن والفقه الجيد، والضبط. وكان يتفقه عند أحمد بن نصر، ولازمه. وكان من كبار أصحابه، وكان عالماً بالوثائق، حسن الخط، أخذها عن أبي زياد. وكان عالماً باللغة والنحو. أخذ ذلك عن أبي علي المكفوف، والدارمي وغيرهما. وكان يؤلف الخطب والرسائل، ويقول الشعر. وكان لسان إفريقية في زمانه في الزهد، والرقائق. سمع القطان ابن نصر. وابن أبي زاهر. ومحمد سليمان بن نسل. وأحمد بن زياد وابن اللباد، وأبا العرب، وأبا جعفر القصري، والتمار وغيرهم. وبمصر من أبي عبد الله الحمري، ومأمون، وأبي محمد بن رشيد. وبمكة من ابن شاذان الجلاب، وأبي محمد بن يزيد المقرئ وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان من أهل الدراسة والاعتناء بالعلم، والمسائل وحفظ الوثائق. ثم لزم الانقباض، والاشغال بنفسه. قال المالكي: وكان أبو محمد ابن التبان يحبه كثيراً. ويثني عليه، ويكرمه. قال أبو عبد الله الأجدابي: كان ربيع من حفاظ كتاب الله، القوامين به. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: كان من الفقهاء والعلماء المجتهدين في العبادة. قال ابن حارث: كان من أهل الحفظ والفهم، فقيهاً مفتياً، حسن التصرف. نظر في مذهب الناس، وأهل النظر، مع الالتزام لمذهب مالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وكان صاحبي في كل مجلس علم، وسماع، ومناظرة. ثم حجّ سنة أربع وعشرين. وانحرف عن كل ما كان عليه من التكلم في الرأي، وذهب الى العلم الباطن، والنسك والعبادة، وتلاوة القرآن، وتفهمه على طريق أهل الإرادة. وصار داعية إليه. فنفع الله به خلقاً كثيراً. وكانت له حلقة بجامع القيروان، أيام أبي يزيد، يجتمع إليه الأهل هذه الطبقة. ذكر أخباره وفضائله وزهده وتعظيم الكبار له رحمه الله تعالى قال عبد بن محمد القروي: كان ربيع لسان أهل إفريقية في الزهد، والرقة، والكلام على الأحوال والمقامات. لا يفوقه في ذلك أحد في وقته، انتفع في ذلك بصحبة أبي الحسن علي بن سهيل الدينوري. وأبي علي بن الكاتب، وأبي علي الروذباري وغيرهم. وحكى الأجدابي، أنه خرج الى الحج مرتين: الأولى سمع فيها الحديث. والثانية خرج متنكراً في زي طنجي، حتى لا يؤبه به. ويخلص له عمله. فاجتمع في تلك السفر بجماعة من المتعبدين. وكان أبو علي بن الكاتب يقول: ما رأيت رجلاً جعل رحلته الأولى في أول درجة من هذا العلم. وجعل رحلته الثانية في أعلى درجة إلا ربيعاً القطان. كأنما جاءه الأمر دفعة واحدة، صلة من الله تعالى. وفي كتاب زهرون الطرابلسي إليه: أنتم العلماء بأمر، والطرق إليه والإدلاء عليه. أسأل الله أن يجعلني حسنة من بعض حسناته. وكان أبو مالك الدبّاغ، له حلقة، يجتمع إليه أيضاً فيها أصحابه، في علم الباطن. فكان إذا اختلفوا قام أبو مالك الى حلقة ربيع. فيبحثوا بين يديه، فيسأله عما يريد. وكان قد نحل جسمه، ورق عظمه، من صيام النهار، وقيام الليل. قال بعضهم: كان بعض أهل العلم ينال من ربيع، ويأخذ عليه في مجلس وعظه. وكان لا ينقد عليه. فرأيت رجلاً ليس للدنيا عنده ذكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 وعظم حاله وحال مجلسه، وكان جعل على نفسه، أن لا يشبع من طعام، ولا نوم، حتى يقطع الله دولة بني عبيد. وكان مع ذلك ملتزماً في حانوته، يبيع القطن. وفيه يأتيه من يطلب منه، ويسأله. قال أخوه أحمد: جاء قوم فسألوا ربيعاً عن مسائل. فرأيت أخانا سعيداً قد اغتم. فسألته عن غمه. فقال من أجل هذا، يأتي إليه قوم يقعدون عنده، فيسألونه عن علم رفيع. فيجيبهم بكلام عال. فإذا قاموا عنه، رجع الى حلقة القطن يبيض فيها، ويطلب الحبة، والخروبة. فذكرت ذلك لربيع فقال عادكم برُّ أريحُ لم تصرخوا؟ وقال بعضهم: كنت يوماً في مجلس، وهو محتفل. فوقع بقلبي شيء فأقلقني ولم أقدر على الصبر، الى خفة الناس. فقمت، فأعدت الكلام فنهرني وقال: اجلس. فغضبت. فقلت له: لا يحل لك كتم العلم. فلم آته أياماً. ثم قلت لنفسي: إنما وقع الضرر بك حيث قطعت حظك منه، مما يفوتك من الخير. فسرت إليه فوجدت بابه مردوداً بلا حديدة. وكانت علامة جلوسه. فدخلت دون إذن، فوجدته جالساً على رجليه. فأخذَتْه حالٌ وهو يبكي ويقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 أنت دائي ودوائي. أنت عيدي ومناي. أنت كنزي وعتادي. فبقيت أنظر إليه، وقد هاج. فسلمت عليه فانتبه وقال: مرحباً بك. وقام وأخذ بأطواقي، وجمعها علي. ثم جلس. وقال: صارت لك نفس تغضب وتندم. فقلت أي شيء أعمل. وقع بقلبي شيء فاحترقت، فقمت إليك أرجو الفرج، وأنت تجلسني. فقال: قد رأيتك، وأحسست الذي بك. فما مسألتك؟ فأخبرته. فقال: تلومني على هذا، وهذه مسألة ينبغي أن لا تذكر قدّام الناس. الجواب فيهما، كذا وكذا. قال أبو محمد يحيى: قلت لربيع: إذا أتى العدو، فقال: العدو إنما هو السارق. والسارق لا يدخل بيتاً خالياً. إنما يدخل بيتاً عامراً. ولكن إذا قال لك: هكذا. ومد يديه، يشير الى الدعاء والتضرّع واللجوء الى الله، عز وجل في كشف ما طرأ عليك، منه. فإنه يذهب. قال: وسألنا ربيعاً عن حضور مجلس السبت، فامتنع. فألححنا عليه، فوعد ومضى معنا إليه. وجلس ورأسه بين ركبتيه. ونحن نسمع تنهيده، حتى انصرف. فلما وصل منزله عصر القميص الذي كان عليه عصراً، من الدموع، وبيّته على الحبل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 فصول من كلامه رحمه الله تعالى من كلامه: الدنيا أمل ووجل، والآخرة جزاء وعمل، ومتوسط بينهما أجل. ومن كلامه: لا ترضَ على نفسك في أمسك. وعظة لك، في سرور غيرك بالتغيير. وفي صفاته بالتكدير. وفي عزّه بالذل. وفي عقده بالحل. وكان يقول: أخبركم بالحازم العازم، الذي قال: هاؤم اقرأوا كتابيه. إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه. ومن نظمه قوله رحمه الله تعالى: لا تطمئنوا فإن الناس قد حالوا ... واقبض لسانك عما قلت أو قالوا واحذر زماناً إذا حدثت عن زمن ... نادى النصيحة أما ملت أو مالوا وابك الدماء على ما فات من زمن ... فيه الوفاء وفيه الدين والمال لله أنت وقد غدوت في زمن ... أعلى الفضائح آداب وأعمال واقنع بحلسك أن تقبل نصيحتها ... أو أن تحيز فما يغنيك تسآل وشعره كثير وخطبه ورسائله كثيرة متعددة مسطّرة على طريق كلام الصوفية ورموزهم رضي الله تعالى عنهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 ذكر جمل براهينه وكراماته قيل لأبي الحسن القابسي: هل بلغك أن أحداً اجتمع مع الخضر عليه السلام، قال: نعم. فذكر أنه كان يجتمع مع ربيع في غرفته. قال أحمد أخو ربيع: خرج للحج معتقداً أن لا يظهر بمصر. فكان يأتي الى حلقة الدينوري متحصناً. فإذا دخل، رفع أبو الحسن الدينوري رأسه الى نحو سقف الجامع، ينظر ملياً، ثم يومئ بطرفه الى الجهة التي فيها ربيع، فيكشف له الناس، حتى يقع بصره عليه، ثم يقول: نعم، وربيع متستر بالناس. فصار ربيع بعد ذلك يقعد في غير ذلك المكان. فيفعل الدينوري مثل فعله، فينكشف له الناس عنه. كأن مخبراً يخبره به. ففعل يوماً مثل فعله، ثم صرف بصره عن الجهة التي كان فيها، وقال: إنه ليكاد يغشي بصري نوراً، فما أرى القوم. ولم يلتق ربيع معه في تلك السفرة. قال بعضهم: وأعدت أبا سليمان يوماً، على كتاب يقابله معي. فقال آتيك الليلة أقابله معك. فانتظرته بعد العشاء، وقد غلقت الأبواب، إذ سمعت حسه، وهو يتحدث مع إنسان. ثم ضرب، ففتحت له، وخرجت أنظر، فلم أر أحداً. فأقسمت عليه من الذي كان يحدثك. فقال: لا تفعل. فكررت عليه. فقال: ومن وقع بقلبك؟ فقلت: الخضر. فقال: هو والله. وكان السلطان قد رمى على القطّانين قطناً، وكان عنده بثمن سماه. فرمى على أخيه أحمد منه ثلاثة قناطير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 قال: فعزمت على عمله وبيعه، وزيادة ما أعجز عن ثمنه من عندي. فنهاني عن ذلك أخي ربيع. وهزني الأعوان في الثمن. وهو ينهاني حتى ضجرت وكابرته. فقال لي: يا بغيض إنه يزول عنك، ويرجع الى صاحبه، فإني جالس إذا رسولٌ من الوالي، فقال لي: اصرف القطن الذي طرحته عليك. فطرحته. ومحا اسمي. وكان أخوه سعيد قد ركب في مركب الى مصر. فانفتح، وفرغ بعض شحنه، وضعفت قلوب من فيه، وأرادوا ترك الكراء لصاحبه، والخروج منه، إذ ورد عليهم كتاب ربيع الى أخيه: فبلغني ضعف قلوبكم، وإرادة بعضكم الخروج، فلا تخرجوا. فإن المركب يصل سالماً بكل ما فيه. فقويت قلوبهم وقال صاحب المركب: سلم والله مركبي. فإن ربيعاً لم يتكلم بهذا الأمر إلا عن صحة. فوصل المركب سالماً. وكان يتكلم على الأحوال. قال بعضهم: كثيراً ما كنت أغشى مجلس ربيع، أريد سؤاله عن أشياء تختلج في صدري، فأنصرف. فعلم ما أردت منه دون مسألة. وهذا خطر ببالي يوماً من بعض كرامات الصالحين، ما هالني واستعظمته. فنظر إلي وقال: قالوا أتعجبن من أمر الله. وقال: حكى ابن يوسف - وكان مختصاً به - عنه، قال: كنت أمشي وحدي في خلاء من الأرض، وبين يدي جبل، فوقع في قلبي شيء من القرب الى الله تعالى. فخشيت أن تكون نفسي سخرت. وأنه ليس من قبل الحق. فقلت: اللهم إن كان هذا شيئاً من قبلك، فأرني برهانه، لئلا أشك فيه لتطمئن إليه نفسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 فنظرت إليه، فإذا الجبل كله ذهب، يلوح. فنظرت إليه، ثم أعرضت عنه. وقال ابراهيم بن مسرور: وفي سري الحاجة ضقت بها. فبينما أنا نائم أقبل إلي شخص عليه بردة، ورائحة طيبة. فقال: ما لك ضقت لحاجتك. اذهب الى الوالي، فإنه يجريها الله على يديه. قلت: ومن الوالي؟ قال: الوالي كما ذكرت لك. فكررت عليه. فقال: هو ربيع القطان، فاذهب إليه، وبشره بالولاية. فأتاه فبشره. فقال له ربيع: أما علمت يا أخي أن المؤمنين كلهم أولياء الله. قال أخوه أحمد: دخلت عليه يوماً، وهو متفكر. فسألته عن فكرته، فقال: تفكرت في أمر. قلت: فيم؟ قال يراد بي وبرأسي أمر عظيم. فسألته. قال: رأيت في رؤياي الحق جل ذكره. فأمرني. فدنوت منه. فشرّف موضعاً مني، وعظّمه، ما بين صدغي، وأذني من الجانب الأيسر. فكانت والدته تأمره إذا حلق أن يأخذ شعر ذلك الموضع. فجمعت منه كثيراً. وأوصت حين موتها أن يدفن معها. فضرب حين قتل في ذلك الموضع رحمه الله تعالى. قال لي ربيع رحمه الله تعالى: ليُرادنّ بهذا الرأس. يعني رأسه. وكان ذلك لما مثلوه، أخذوا رأسه، فداروا به في البلاد، رضي الله تعالى عنه ورحمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 بقية أخباره ووفاته وكان ربيع رحمه الله تعالى، ممن عقد الخروج لغزو الروافض. وجد في ذلك، كما قدمناه، في أخبار الممسي، فقتل شهيداً، رحمه الله تعالى، في وادي المالح، في حصار المهدية، لسنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وكان أبو علي بن الكاتب العابد، يقول: ما رأيت ربيعاً قط إلا ورأيت دم الشهادة يلوح على وجهه، قال القابسي: وكانت رغبة بني عبيد ورجالهم، أخذ ربيع حياً، ليشفوا منه نفوسهم. فلما لقوه في القتال، أقبل وهو يطعن فيهم، ويضرب وهم يتوقفون عنه، رجاء أخذه. فلما أثخنهم بالضرب حملوا عليه، فقتلوه. وأخذوا رأسه، ومضوا به الى إمامهم، فطيف برأسه. قال بعضهم: رأيت السيف يثخن فيه، وهو يقول: قد وهن المشركون يقتلون المؤمنين. وما ولى دابراً حتى قتل. قال أبو محمد بن تبّان: رأيت ربيعاً القطان بعد أن قتل. فسألته عن حاله. فقال لي: تارة يزخرف لنا الجنان. وتارة يشرف علينا الحور. وتارة تصطك لنا الحجب. فقلت له: من أعلى درجة، أنت أو الممسي؟ قال: جُمعنا في حديق واحد. ورثاه أحمد أخوه. بمراث كثيرة، منها: من قصيدة طويلة أولها: خليليّ عوجا بمهجتي عزّيانيا ... وإن كنت حياً لم أمت وابكيانيا ومنها: رزيت ربيعاً كان للناس كلهم ... ربيعاً ترى فيه القلوب رواعيا رزيت أبي فيه وأمي وعترتي ... وأهلي وإخواني فلم يبق باقيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 رثيتك مقروحاً وأي مصيبة ... بأعظم لي من أن أرى لك راثيا ومن ذلك قوله: جعلت أخي ذكراك فرضاً من الفرض ... وطول عزائي فيك من دينك المحض إذا جن الظلام أراني ممثلاً ... دجى الليل ما بين المدامع والعضّ تخيل لي في كل نفر وبلدة ... كأنك لا تخلي مكاناً من الأرض ومولد ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين. وكان بينه وبين المحيسي ستة أشهر. ذكر إخوته رحمهم الله تعالى كان أبوه رحمه الله تعالى، من أهل العبادة. وكان رأى رؤيا فقصها على عابر، فقال له: تتزوج امرأة تطابق حالك، ويخرج من بينكما أولاد علماء. قال أحمد أخو ربيع: كنا إذا جلسنا مع والدي، وخطر في باله شيء من العلم، قام من مكانه يبحث بين يدي ربيع ابنه. فيقوم ربيع إليه ويقول: لم فعلت هذا؟ فيقول أردت أن أسألك عن شيء من العلم. فيقول: وهلا وأنت في مكانك؟ فيقول: أردت أن أعطي العلم حقه. كان إخوة ربيع هذا: أحمد، وربيع، وسعيد، وعطا الله. كلهم عباد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 قال الأجدابي: فأما ربيع، فهو الذي أوتي علماً عظيماً. وأما سعيد، فسمع بالقيروان، وطلب الفقه، وسمع بمصر كثيراً، ومات بها. وأما أبو جعفر أحمد، فكان من أهل العلم والقرآن. قرأ على أبي بكر الهواري بإفريقية، وبمصر على الأنماطي وأحمد بن يوسف وغيرهم، وبالأندلس، على غيرهم. وصحب بمصر أبا إسحاق بن شعبان، وأبا علي بن الكاتب. وكان مرسلاً شاعراً، وموثقاً حسن الخط، عالماً بالعروض. وكان أعبدَ حلقة أخيه ربيع. وكان رئيسها، ويتولى الإلقاء بها. وكان ابن التبان ممن يغشاها. ولما انقضت أيام أبي يزيد، سافر أحمد الى الأندلس، وأقام بها عشر سنين، وخالط بها القاضي منذر بن سعيد. ثم أخذ له سجلاً من معدّ. فرجع الى القيروان، ومات سنة إحدى أو اثنين وتسعين وثلاثمائة. وكان كثير الحديث والشواهد والملح. محمد بن ابراهيم أبو بكر المعروف بالكتّاني. بتاء مشددة باثنين من فوق. صحب موسى القطان، وأحمد بن نصر، وسمع من غيرهما. قال ابن حارث: وكان يتكلم في المسائل كلاماً صالحاً. ذا دين، وطهارة، وحفظ، ودرس، ومناظرة، وصيانة، وحسن انقباض، وخير، وفضل. وكان يختم القرآن في كل ليلة. وحج سنة سبع وعشرين. ومات في رجوعه بالحوراء في هذه السنة. محمد بن عباس النحاس رحمه الله تعالى بحاء مهملة. قال ابن حارث: كان مذهبه المسائل، والفقه خاصة. جالسَنا عند جميع الشيوخ. وتوفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 أبو عبد الله محمد بن مسرور النجار يعرف بابن الأصلع. ويقال: الأقرع. كان مذهبه الدرس والحفظ والمناظرة. وسمع يحيى بن عمر وسعيد بن الحداد وغيرهما. قال ابن حارث: وكان حسن القريحة، فقيه البدن، وشيخاً مسناً. وكان جليسنا في كل مجتمع. وكان شأنه الفقه البارع والمناظرة فيه. حسن المناظرة متواضعاً. قال المالكي: كان شيخاً فقيهاً عالماً بالحجة والنظر. ولم يكن صاحب كتب ورواية. وإليه أسندت الحلقة بعد أحمد بن نصر. فرفعا أبي الفضل الممسي وقال: داري ضيقة وأنا حديث عهد بعرس، وهو رابع أربعة كانوا بالقيروان في وقتهم، على طريقة واحدة، في الفقه والنظر للمسائل، وتعليلها. هو، وربيع القطان، وابن حارث، والممسي. ولأحمد بن النظر كتاب في الرد عليهم. سماهم فيه: العملية. وساعده عليهم أحمد بن نصر. وكتب خطه فيه. وأبو ميسرة. قال صاحب الكتاب المعروف: كان فقيهاً بمذهب مالك، عالماً بالحجة والنظر. توفي فيما ذكره ابن حارث والمالكي: سنة ثمان وعشرين. وفي خط ابن عمران سنة سبع. وذلك بتونس. ووجدته أيضاً بخط ابن حارث رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 أبو الحسن عبد الله بن محمد بن زرقون الغسال بن أبي مريم يعرف بابن الطيارة، في التعليق. كان من أهل المذهب، والفقه، على مذهب المدنيين بالقيروان. وكان أبوه صاحب صلاتهم. وقد ذكرته في أصحاب سحنون. وكان أبو الحسن ثالث ثلاثة إذا حضروا في مجلس، لم يتكلم أحد غيرهم. هو وأبو محمد عبد الله بن أبي عثمان بن الحداد، وأبو ابراهيم القرشي، المعلم، كثير حكاية، وحسن إيراد. قال الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة مأموناً، فقيهاً خيّراً. سمع من سهل القبرياني، وأبي داود العطار. وسمع منه أبو الحسن بن زياد، وأبو الأزهر بن ناقد. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. مولده سنة أربع وأربعين ومائتين. أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي. كان جده تمام بن تميم، من أمراء إفريقية. وكان أبوه أحمد ممن سمع من شجرة بن عيسى، وسليمان بن عمران، وبكر بن حماد. وسمع أبو العرب من جماعة أصحاب سحنون، وأكثر رجال إفريقية. كأحمد بن عمر، وأبي داود العطار، وعيسى، ومحمد بن مسكين، وابن طالب، وعبد الجبار، وأبي العباس، وسهل القبرياني، وحماس، وحبيب بن نصر، وجبلة، وابن أبي سليمان، وسعيد بن إسحاق، وجماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة عالماً بالسّنن، والرجال، من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب، حسن التقييد، كريم النفس والخُلق. كتب بخطه كثيراً في الحديث والفق. يقال إنه كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة. وشيوخه تنيف على عشرين ومائة شيخ. سمع منه أبو محمد بن أبي زيد، والحسين بن سعيد، وابناه، والشذوذي، والناس. قال ابن أبي دليم: وكان حافظاً للمذهب، معتنياً به. وغلب عليه الحديث والرجال، وتصنيف الكتب والرواية، والاسماع. وألّف طبقات علماء إفريقية، وكتاب عباد إفريقية، ومسند حديث مالك، وكتاب التاريخ، سبعة عشر جزءاً، وكتاب مناقب بني تميم، وجزأين في موت العلماء، وكتاب المحن، وكتاب فضائل مالك، وكتاب فضائل سحنون، وكتاب الوضوء والطهارة، وكتاب الجنائز، وذكر الموت، وعذاب القبر، وكتاب عوالي حديثه، وكتاب في الصلة، وغير ذلك. ودارت عليه محنة من الشيعي. حبسه وقيّده مع ابنه، مرة بسبب بني الأغلب، والتهمة في السلطان. وهو أحد من خرج لحرب بني عبيد، وحاصر المهدية. وسمع عليه هناك كتاب الإمامة، محمد بن سحنون. وكان يقول: سماع هذين الكتابين هنا، علي أفضل من كل ما كتبت. وكان سبب طلبه للعلم، أنه أتى يوماً الى دار محمد بن يحيى بن سلام، فأعجبه من الطلبة. فاختلف إليه أياماً، وهو من أبناء السلاطين. قال: فقال رجل: لا تتزيا بهذا الزيّ، فليس بزي طلبة العلم. فرجعت فذكرت ذلك لأمي، فأبت علي وقالت إنما تكون مثل آبائك السلاطين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 فاشتريت ثياباً ورداء، وجعلتهم عند صباغ. فإذا أتيت لبست تلك الثياب علي، في حانوته. ومضيت الى ابن سلام. فإذا انصرفت من عنده، رجعت الى حانوت الصباغ، وكشفت ما علي، ولبست ثيابي التي جئت بها، ورجعت الى دري. فقال لي رجل: أراك تلازم وتسمع، ولا تكتب. فقلت له: والديّ رغباني في هذا الأمر، والمعونة عليه، ولم يمكّناني من شيء. فقال: أعطيك جلداً تكتبه لنفسك. وتكتب لي آخر. فرضيت بذلك، وفعلته معه مدة. الى أن يسر الله لي فيما اشتريت به الرق. وقويت به على طلب العلم. وكان أبو العرب شاعراً. أنشد له ابنه تميم: إذا ولى الصديق لغير عذر ... فزاد الله خلته انقطاع الى يوم التناد بلا رجوع ... فإن رام الرجوع فلا استطاعا إذا ولى أخوك قفاه عنك ... فولّ قفاك عنه وزده باعا وناد وراءه يا ربّ تمّم ... ولا تجعل لفرقته اجتماعا وله: ضعفت حيلتي وقلّ اصطباري ... والى الله التشكي كل ما بي وهن العظم بعد أن كان صلباً ... وفقدت الشباب أي شباب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وتوفي فيما قال ابن حارث: يوم الأحد لثمان بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وقرأ السبع أفراده سنة نيف وخمسين ومائتين. وكان له ابنان: أبو العباس تمام، سكن إفريقية. وأبو جعفر تميم، سكن الأندلس، وروى بها كتب أبيه وغيرها. وكان يضعّف. تكلم فيه أخوه. أبو جعفر أحمد ويقال حمود، بن ابراهيم. ويقال ابن سعدون المتعبد. سكن سوسة. ويعرف بالاريسي. ويقال أيضاً ابن السرداني. لأنه غزى السردانية. قال أبو بكر المالكي: وكان رجلاً صالحاً فاضلاً. فقيهاً ثقة. ذا سمت حسن ووقار، وورع. سمع منه الناس، وكتب جميع كتب يحيى ابن أبي الأزهر. ما رأيت في المتعبدين مثله. وكان قد اعتلّ، فلم يبق في بدنه عضو، إلا معتلاً، سوى لسانه وعقله وبصره. فكان إخوانه يزورونه وهو ملقى على ظهره، ما يستطيع الجلوس. ولقد كان يأتيه جماعة من إخوانه بينهم اختلاف، رجاء أن يصلح بينهم. فيذكر كل واحد منهم لأقف على صحة جوابه، وفهمه. فربما جازت عليّ أشياء من أقاويلهم، لا أذكرها إلا بجوابهم. وكان مع ذلك قد أدرك الثمانين. وكان من الزّهاد المتعبدين المستجابين. دخل سوسة بألف مثقال، فأنفقها. وكانت له مروءة، وهو كان القائم بأمر أبي جعفر العمودي، العابد، صاحبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وذكر عنه أنه لقيه رجل يوماً، طالع الى السجن، وهو على عنقه كساء، وبيده طعام. فسأله فقال: حبس لي صديق اليوم، فأردت تأنيسه بالمبيت عنده. ولما اشتد مرضه، كان أبو جعفر العمودي، إذا سلّم من صلاته، يمضي وينظر إليه من الباب، ثم يرجع الى صلاته. فإذا سلّم عاد فنظر إليه. فوجده مرة في حالة النزع، وقد انقطع كلامه. فقال العمودي: الحمد لله رب العالمين. الآن قد طابت نفسي عليك. خلصت وبقيت أنا موحولاً. فلما سمعه الاريسي وهو لا يتكلم، أشار بيده الى حلقه، يريد أن نفسه لم تخرج بعد. ولما مات، وقف عليه فقال: خلصت ورويت عليك. لا يصل إليك سلطان ولا شيطان. وتركتنا بعدك موحولين، في بحر نسبح فيه لا ندري، نغرق أم ننجو. قال الخراط: رأى ثقة في منامه، كأن قائلاً يقول: إذا أردت أن تنظر الى أبي بكر الصديق، فانظر الى أبي جعفر السرداني. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين. وقيل أربع وعشرين وثلاثمائة. أخوه أبو عطاء يزيد بن سعدون الاريسي قال المالكي عنه: كان رجلاً فاضلاً من أهل العلم، والفضل، والورع، والعناية، والكتب وضبطها. وسمع أكثر كتب يحيى بن عمر، وكتبها وحبسها بعد موته، رحمه الله، بسوسة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 أبو جعفر أحمد بن موسى التمار من نبط تونس. سمع من فرات ويحيى بن عمر، وغيرهما. وسمع منه عالم كثير. قال ابن حارث: وكان من أهل العلم بالجدل، على معاني المتكلمين في النظر على مذاهب الفقهاء. ويتكلم في ذلك كلاماً جيداً. وكان لطيف الفهم، دقيق الاستخراج، قد صحب أبا عثمان بن الحداد، واحتوى على معانيه. وكان حسن التصرف، جميل الأدب، كريم المروءة، محمود الأخلاق، كثير الحكاية. قال الخراط: كان صالحاً ثقة فقيهاً عالماً، يحسن النحو والعربية. سأله يوماً بعضهم على الفرق بين المفلس الحي، والمفلس الميت، إذا وجد البائع عين متاعه. فقال: لأن الميت انتقل ملك ماله الى غيره، والحي ملكه باق على ماله. وامتحن هو وأخوه محمد، أيام الشيعي. فأمر عبيد الله بضرب أخيه مائتي سوط، فمات. ودارت على أناس كثير من المدنيين وغيرهم، محن كثيرة، كمحنة عمروس في خلع لسانه، وابن معتب في ضرب ظهره، وابن المدني في ضرب ظهره، وصفعه. وابن اللباد بسجنه. وابن البرذون وابن هذيل بقتلهما، وصلبهما. وأشياء كثيرة من جهة ترك: حيّ على خير العمل في الأذان. وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة. والفتيا بمذهب مالك رضي الله تعالى عنه. وله في عبيد الله وآله: أنا أقول بأنني ممن برأ فيه - يرى أنه كان منهم علي أو كان فيهم علي - وتوفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 ابراهيم بن أبي حفص أبو إسحاق المعروف بابن فتت سمع من يحيى بن عمر وغيره وكان جيد العقل يميل الى النظر، حسن الحكاية. قتله اللصوص في داره لأجل ماله وكان كثيراً وكان وحيداً فذبح بالليل هو وجاريته وحمل ماله رحمه الله تعالي. أبو عبيد الله محمد بن أبي المنظور عبد الله بن حسان ويقال أبو محمد الأنصاري من أنفسهم ويقال مولاهم وأصله من الأندلس وبها ولد من جزيرة طريق ورحل فسمع النفري واسماعيل القاضي وابن قتيبة وابنه والحارث بن أبي السامة والكسوري وعلي بن عبد العزيز وغيرهم. وكتب في رحلته علماً كثيراً وأوطن القيروان وأغلق على نفسه باب السماع والعلم واشتغل بالتّجر. وكانت له في البلد جلالة السن، والعلم والصيانة. ولاه أبو القاسم بن عبيد الله، قضاء القيروان. على ملأ من الناس. أرادت الشيعة بتوليته: تسكين نفوس أهل السنة والناس. وما كان منهم بعد فتنة أبي يزيد. وكان شرط على اسماعيل حين ولاهم أن لا يأخذ لهم صلة. ولا يركب لهم دابة، ولا يقبل شهادة من قاربهم. ولا يركن إليهم. فأجابوه الى ذلك. وكان صليباً في قضائه. سالكاً طريق العدل في أمره. ورفع إليه أن يهودياً، سبّ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لم أُعطَ السيف فأحضر وعرض عليه الإسلام، فأبى. فأجلسه وأمر بضربه وقال للضارب اقصِد حذاء قلبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 فضربه حتى مات. وعليَت عليه الرواية. سمع منه أبو جعفر النصري، وابن التِبان، وابن نظيف، وعبد الله بن أبي هاشم، وولي القضاء وهو ابن تسعين سنة. لم يستنب. ولا أخذ على قضائه أجراً. ولا ركب في قضائه. وتوفي وهو كبير السن. سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. في الثانية من قضائه. وهو قاض. قال بعضهم: كان له إدراك وسماع كثير. وعلم مشهود. وكان مالكياً عالماً. عاملاً بأصول الفقه. وليس ينسب الى الحفظ كثيراً. ذا سمت وخشوع وثناء. أبو محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن الحداد. شيخ عاقل، حصيف. عالي الهمة. سمع من أبيه وأحمد بن يزيد، وغيرهما من شيوخ القيروان. حدّث عنه، أبو محمد بن أبي يزيد رحمه الله تعالى، وغيره. وكان مليح المجلس. كثير الحكاية. توفي بعد العشرين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى. عبد الله بن أبي القاسم بن مسرور التجيبي مولاهم. المعروف بابن الحجّاج. مولى بني عبيد التجيبي، أبو محمد. سمع من عيسى، ومحمد بن ابني مسكين، وسعد بن إسحاق، وعبد الله بن سهل الأندلسي، وأبي عيّاش، وفرات، وحمديس القطان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وعمر بن يوسف، وابن أبي سليمان، ويحيى بن زكريا الأموي، والمغامي، وغيرهم من شيوخ إفريقية. ورحل فسمع في رحلته بمصر، وجدة وغيرهما. من جماعة منهم: ابراهيم بن حميد، ومحمد بن ابراهيم الويلي، وابن الإعرابي، وابن أبي مطر، وعبد الله بن حمويه، ومحمد بن الحسين الطويبي، والحضرمي. وغلب عليه الجمع والرواية. يقال أكثر سماعه من ابن مسكين، إجازةً. قال أبو عبد الله الخراط: كان أبو محمد ورعاً مسمّتاً خاشعاً، رقيق القلب، غزير الدمعة، مهيباً في نفسه. لا يكاد أحدٌ ينطق في مجلسه، بغير الصواب. يشبه في أموره كلها ابن عمر، وحمديساً القطان. حسن التقييد صحيح الكتاب. وكانت كتبه كلها بخطه. وكان كثير التصنيف في أنواع العلوم. كثير الكتب. فقال القابسي: ترك أبو محمد هذا سبع قناطير كتب، بخطه. فلما توفي رفع جميعها الى سلطان الوقت. فأخذها ومنع الناس منها. وذكر بعض أصحابه أنه لما اشتد به المرض قال له أصحابه: نخشى أن يأخذ السلطان كتبك، ويمنعها الناس، الانتفاع بحبسها، على المسلمين، ووجّهها أثلاثاً في ثلاثة مواضع. ففعل ذلك. فلما كان من الغد، قال: لم أنم البارحة. لما فقدت كتبي، فردوها عليّ، فردوا الثلثين، وتركوا الثلث الذي كان في دار أبي محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى. فلما وصل إليه الثلثان مات. فقبض السلطان على ذلك، وسلم الثلث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 قال أبو بكر بن عبد الرحمن: بلغني أن أهله، اشتروا له جارية، فزينوها وأدخلوها عليه. فلما كان الليل أخذ الكتاب، وكتب الليل كله، ولم يلتفت إليها. وأقام على ذلك نحواً من شهر. فلما طال على الجارية ذلك، قالت له: إن كان ليس لك غرض فيّ، فبعني. فقال لها: من أنت؟ قالت: جاريتك. قال: أنا ما اشتريت جارية. امض الى من اشتراك، يبعك. ففعلت. فأقام على حاله، الى أن مات. وكان القابسي يقول لمن قال لم يدرك، يحيى بن عمر الاسباطي: بل أدركه، صحيحاً. ولكن كان أبو محمد أولاً منقطعاً، فلهذا لم يسمع من يحيى. وحكى أن النعمان قاضي الشيعة، مرّ به، بباب داره. فقال: السلام عليك يا أبا محمد. فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكرر عليه. فرد مثله. فلما انصرف النعما، قال له من حوله: تكون قاضي قضاة السلطان وداعيته، تسلم على صبي فما رد عليك. أذللت نفسك وأذللتنا. فرجع إليه يتوقد غضباً. فلما رآه أبو محمد، قام، وجعل يده على أذنه، وقال: جعلت أذنك قمعاً لمن يقرب الى النار، لحمك ودمَك. قال: صدقت يا أبا محمد. فانصرف قائلاً لأصحابه: هذا بشر من أهل الدنيا. فيتم فيه ما نريد. ولقيه ابن هاشم قاضي القيروان في حفدته، فترجّل له وسلّم عليه. فاتب ابن مسرر في حق له، في قضاء القوم. فاعتذر له، وقال: هل لك من حاجة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 فقال له: لا حاجة لي عندك. فسلم عليه. فقال للقاضي بعض من معه: إن أردت قضاء حاجته فكلم السلطان في الدار التي غصبها له. فقال: معن. وسأل السلطان فيها، فأجابه. فأخبر بذلك ابن مسرور. فقال والله لا فعلت شيئاً، تركته لله. ارجع فيه. لا حاجة لي فيه. وألّف كتباً كثيرة في أنواع من العلوم، منها: كتاب المواقيت، ومعرفة النجوم، والأزمان. سمع منه أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، والقابسي، ومحمد بن ادريس، وأبو عبد الله الصدفي، وغيرهم من أهل إفريقية، ومصر، والأندلس. وكان رحمه الله تعالى قد نبذ جماعة من أصحابه، لأشياء اطلع عليهم فيها. فكتب عليهم محضراً يقول فيه: يشهد من تسمى في هذا الكتاب، أن عبد الله بن مسرور أشهدهم: أن فلاناً، وفلاناً، كانوا يأخذون عنه من العلم. فسألوا أن أجيزهم كتبي، ففعلت. فأشهدوا عليّ أني رجعت فيما رووا عني، وعن إجازتي لهم كتبي، لما ظهر فيهم من سوء حالهم. وكذا، وكذا. قال القاضي: مثل هذا لا يضر الرواية. وقد فعله بعض من لقيناه ببعض من سخطه من أصحابه. ولعله لم يخف عليهم أن الرجوع فيها لا يصح. لكنه كالردع والتجريح لهم، بمثل هذا. وقد بينا هذا الفشل بياناً شافياً، في كتاب الإلماع. وتوفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة. وسنّه سبع وثمانون سنة. مولده سنة ثلاث وستين ومائتين. وكان سبب موته، أنه اصطلى ونعس، فالتهبت النار بثيابه، واحترق إلا موضع سجوده. رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 حبيب بن الربيع مولى أحمد بن أبي سليمان الفقيه. كان فقيهاً عابداً. كناه أبو الوليد الباجي: بأبي القاسم. وغيره: بأبي نصر. يروي عن مولاه أحمد، ويحيى بن عمر، ومحمد أخيه، والمغامي، وحماس، وابن أبي داود العطار، وعبد الجبار وأبي عياش، ويحيى بن عبد العزيز، وعمر بن يوسف، وابن بسطام، وابن الحداد، وعبد الرحمن الورقة، وغيرهم. وروى عنه: أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وابن ادريس، وعلي بن إسحاق، وجماعة. قال القاضي أبو الوليد الباجي: هو فقيه. قال الخراط: كان فقيه البدن، يميل الى الحجة، عالماً بكتبه، حسن الأخلاق، باراً سمحاً. وكان مولاه أحمد يقول: الذي خسرته في ابني، ربحته في حبيب. وكان يقول: قال لي مولاي أحمد: تخلّقْ بخُلقي في كل شيء، إلا في الدينار والدرهم - لسعة يده - قال حبيب: فتخلقت بخلقه في كل شيء إلا في الدينار والدرهم. وكان حبيب هذا شاعراً. وهو القائل: إن الزمان وإن أتى بصروفه ... فأنا له من أعظمي رجاله ما إن تغير حاله من حاله ... إلا سمَت هممي على أحواله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ولقد أتيت وما لصاحب نعمة ... من ماله قبلي ولا أفضاله واصدق ما بذل امرؤ من وجهه ... لصديقه أو غيره لسؤاله إن الصديق وإن تغير حاله ... لم يجز ذاك الفعل من أفعاله وصفحت عنه حافظاً لمحبتي ... ووصلت حبلي إن نأى بحباله ووقفت على جزء من مسائله، مما سأله عنه مولاه، وابن الحداد، وعبد الرحمن الورقة، وابن بطريقة. وأفتى حبيب فيمن دفن وأكله السبع، أن كفنه لورثته. وقال غيره: لا يورث. كمن لا وارث له. قال أبو علي البصري في كتاب المعرب من أخبار المغرب: كان حبيب هذا فقيهاً، وهو الذي عناه مولاه أحمد رحمه الله في شعره: تسمع يا حبيبي هديت قولي ... تنل بسماعه خيراً كثيرا سمعتك تذكر الشعراء طرّاً ... وتنشد شعرهم جمعاً كثيرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 وليس مؤلفٌ قولاً حليماً ... كآخر قائلاً إفكاً وزورا وتوفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وهو ابن نيف وثلاثين سنة، رحمه الله تعالى. حبيب بن نصر مولى أحمد بن سليمان أيضاً. سمع من مولاه، ويحيى وغيرهما. وعنى بالمسائل والمناظرة فيها. وكان منقبضاً. إسحاق بن مسلم أبو ابراهيم. مولى أحمد أيضاً. كان يتكلم في الفقه على مذاهب النظر. وفي الأسماء والصفات على طريق المتكلمين وأهل السنّة. وكان نبيلاً متصرفاً، إلا أن ابن حارث، حكى عنه أنه يقول، بالجسم ولا كالأجسام. وهذا إن صحّ عنه ينفي كل ما وصفت به من فهم، ونبل. ويدل على إغراق في الجهل وغباوة تامة وقلة علم. أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد الذهلي المعروف بدُعدُع. بدالين، مهملتين، مضمومتين، كان عالماً فقيهاً بمذهب مالك. ذا حفظ. سمع محمد بن سحنون. ومحمد بن يحيى بن سالم. ومحمد بن تميم العنبري. وكان شديد البغض لبني عبيد، كثير السبّ لهم. لا يخاف في الله لومة لائم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وحكم عليه ابن طالب، وعلى أخيه الملقب بشريشر: أنهما موالي، لامرأة من العجم، وبالكذب. أرى ذلك لانتمائهما الى هذيل. وضرب النفطي قاضي الشيعة، محمداً هذا. في جميع القيروان عرياناً. وصفع قفاه. حتى سال الدم من رأسه. وبُرّح عليه في الأسواق، وأطافه عرياناً على حمار إذا رُفع عنه أنه كان يفتي بمذهب مالك، ويطعن على السلطان. ثم حبس. ووجدت في التعليق لأبي عمران، أنه سقط آخر عمره. وتوفي سنة تسع وعشرين، وثلاثمائة. من خط أبي عمران. محمد، المعروف بالبرقشاني سمع من يحيى بن عمر. وموسى القطان. وقرأ عليه. وكان يختم القرآن في كل ليلة. توفي سنة ثلاث وثلاثين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 أبو عبد الله محمد بن غليون الصنهاجي من أهل باجة إفريقية. المعروف بالوقّاد. مشدد القاف. وآخره دال. قال: كان من أصحاب حمديس. روى عنه السّدري. وفي التعليق، أنه كان فقيهاً بمذهب مالك. قال المالكي: كان من أهل الفقه، ذا فهم جيد. وكان يجري بينه وبين ربيع القطان مناظرات في الفقه. قال ابن حارث: كان فقيهاً حافظاً. وكان الفقه والمناظرة وجودة القريحة، أغلب عليه، من الحفظ. وكان إذا ألقيت عليه مسألة، ينظر فيها. وقيل له: اسمع جوابها. قال: لا. حتى أعرف ما يظهر لي. إنما أريد أن أنتفع فيها. وقيل له: بل انتفع بعلم نفسي. وكان يتكلم في معاني الأحاديث، كلاماً حسناً. وكان من ذوي المروءة والهيئة الحسنة. وحكى عنه الفارسي: مسألة القملة، تسقط في قفيز قمح، لا يؤكل. مات بباجه. سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 أبو العباس عبد الله بن أحمد بن ابراهيم بن إسحاق، المعروف بالإبياني. كذا يقال. بكسر الهمزة وتشديد الباء. ويقال: صوابه تخفيفها. التميمي. تفقه بيحيى بن عمر، وأحمد بن أبي سليمان، وحمديس، ويحيى بن عبد العزيز، وحماس بن مروان وغيرهم. وصحبه لقمان بن يوسف، وعبد الله بن عامر، وذك أبا بكر بن اللباد، يروى عنه الأصيلي، وأبو الحسن اللواتي، وعمرون بن محمد، وعبد الله بن أبي زريق، وعيسى بن سعادة، وابن أبي زيد، رحمهم الله تعالى، وغيرهم. قال بعضهم، كان أبو العباس عالم إفريقية، غير مدافع. وقال بعضهم: كان من شيوخ أهل العلم، وحافظ مذهب مالك. قال ابن أبي دليم: كان من أهل الخير، والوجاهة، وله ميل الى مذهب الشافعي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 قال ابن حارث: هو شيخ من أهل الصيانة والانقباض، والحفظ والكلام في الفقه. قال المالكي: كان شيخاً ثقة، مأموناً، إماماً، فقيهاً عاقلاً، حليماً نبيلاً، فصيحاً عالماً بما في كتبه، حسن الضبط، جيد الاستنباط. كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، رضي الله تعالى عنه، إذا نزلت به نازلة، مشكلة، كتب إليه، يبينها له. ولما وصل الى مصر، تلقاه نحو أربعين فقيهاً، لم يكن فيهم أفقه منه. وقال أبو اسحاق بن شعبان: ما يزال بالمغرب عالم ما دام بين أظهرهم، وما عدي النّيل منذ خمسين سنة، أعلم منه. وقال أبو حفص بن عمرون: صحبت الحسن بن نصر، وغيره. وذكر من أحوالهم وفضائلهم، ما رأيت مثل أبي العباس في الفقه. وكان أبو الحسن القابسي يقول: ما رأيت بالمشرق ولا بالمغرب مثل أبي العباس. وكان يفصل المسائل، كتفصيل الجزار الحاذق اللحم. وكان يحب المذاكرة في العلم، ويقول: دعونا من السماع، ألقوا علينا المسائل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وربما دخل عليه أصحابه وهو ملتاث. فإذا أخذوا في المذاكرة زال التياثه، وظهر نشاطه. وكان يدرس كتاب ابن حبيب، وكان ابن اللباد إذا ذاكره، يضجر لكثرة معارضته، ودقة فهمه. فيُسرّ به أبو العباس. وذكر اللواتي: أنه قرأ على أبي العباس في الواضحة، صدراً من كتاب البيوع. فقال له: بقي من الكتاب حديث كذا، ومسألة كذا. وذكر أحاديث ومسائل. فنظرنا فلم نرَ شيئاً. فتأملنا، فإذا ورقتان منه التصقتا، وتجاوزناهما. فإذا في الصفحتين كل ما ذكره. فعجبنا من حفظه. وكان قليل الفتوى. ذكر فضائله وأخباره رحمه الله تعالى لما حج في زمن كافور، دخل الجامع بمصر، فوقعت عليه عين ابن القرطي فقال: هذه مشية فقيه. وكان قد فاتته صلاة العصر، فأحرم، وابن القرطي ينظر إليه، فقال: احرام فقيه. فلما صلى كان بجواره، رجل من أهل العلم، فتحدث معه، ثم قال: كيف رأيت مصر؟ فقال: رأيت ظلماً ظاهراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 وكان قد حُبس. فقال الناس فرفعت رقعة بمقاله، الى كافور. وكان يجلس يوم السبت للمظالم، ويجلس معه الفقهاء، وفيهم ابن شعبان. فلما جلسوا أُتي بالرقة. فقال كافور من المتكلم بهذا؟ وكان الخبر وصل الى ابن شعبان، وحرض على رؤيته. فقال ابن شعبان: هو أبو العباس الإبياني، ما عدى النيل منذ خمسين سنة أعلم منه. فقال كافور: يطلق. فقال الناس، يبيعون في السوق إن شاءوا ومما أردنا اشترينا. فكثر دعاء المغاربة لأبي العباس. وعرف أبو العباس بمقال أبي إسحاق. فركب إليه. فلما رآه أبو إسحاق، وثب من مجلسه، فأجلسه فيه. ثم ذاكره في أشياء. ثم قال له: أنت اليوم ضيف. فقال له أبو العباس: تعلم أنه لا ضيافة على أهل الحضر. فقال أبو إسحاق: قال ابن عبد الحكم: عليهم الضيافة. ثم قال أبو إسحاق: وهل لك في لمذاكرة. فقال له: ذلك إليك. فقال له: أو ندع للصلح موضعاً. فقال له ذلك إليك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 وقيل إن أبا إسحاق ألقى عليه، لما أكمل الصلاة في الجامع، عشر مسائل. فأجابه في تسع، وأخطأ في العاشرة. وقال بعضهم: بل ما أجاب به، كان الصواب. والمسألة: المدبّر يقرّ بالجناية في حياة سيده، ثم يموت سيده. والجواب فيه: أنه ينظر، فإن كان قد اختدمه سيده، بمثل ما يختدمه المجني عليه، في حياته، فلا شيء على المدبر، وإن كان اختدمه السيد بمثل نصفها، بقي عليه نصف الجناية. وعلى هذا الحساب قال عبد الله بن أبي رزيق. قال أبو العباس: تحبّ إن نفاه قلت: نعم. قال: فلتكن نفسك عندك أهون من الزبل، الذي على المزبلة. وكان اسماعيل أشخص فيه ليوليه القضاء. فعرضه عليه، فامتنع. فأوقفه اسماعيل أياماً، يقتفي أمره، ويدسّ عليه من يسمع كلامه، وأدخله على نفسه. فدخل عليه في زي بدوي، حافياً، ونعلاه في يده. وكان قد سبق الى السلطان، من قدم من أحواله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 فلما رآه السلطان بتلك الهيئة، صدّق ما قاله القائل. فعرض عليه، فامتنع، فعافاه. وخرج من عنده عشاء متوجهاً الى تونس، لحينه. مخافة أن يبدو في أمره. فعافاه الله. وقيل إن الذي أراد أن يوليه القضاء معدّ، وكان غداء أبي العباس نصف حجلة تثرد له في نصف خبزة. وكان متحفظاً في طعامه. كثير الحِمية. ورأى رؤيا تدل، أن في طعامه شيئاً. فسأل عن الخبر، فلم يجد شيئاً. فإذا بالأندُر الذي ذري فيه قمحه، غير حسن الأصل، فتحفظ بعد ذلك. وكان متواضعاً، كثير التواضع. وكان إذا قيل له الفقيه. يقول: لقب لقبنا به. وحكى أنه يعقد السّفافل في وجهه، ازراء بنفسه، وتحقيراً لها. وقد سئل يوماً عن فقيهين من أصحابه، وتلاميذه، وهما أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون. فقيل له: أيهما أفقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 فقال: إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما. وكان رحمه الله تعالى: يقرأ السبع، كل يوم. وما استكمل حفظ القرآن، إلا وهو ابن سبعين سنة. قال بعضهم: كنا عند أبي العباس، حتى أتى عطية الجزري العابد. فنظر يميناً وشمالاً، ثم انصرف وهو يقول: ما هنا من أصحابنا أحد. فصاح أبو العباس عليه. فرجع. ثم قال له: وما نحن من أصحابك، واندفع في البكاء. ويكرر قول عطية. ويقول من أين أكون من أصحابك؟ وأنت تأتي القيروان، وعليك تليس، وطرابلس وعليك تليس، ومصر وعليك تليس، ونحن نتخذ للحاضرة ثياباً، لا نلبسها للبادية. وقياباً للبادية، لا نلبسها للحاضرة. ونتزين ونتطيّب. ويبكي وعطية يقول: يا شيخ: لا تفعل. فأنت إمامنا في ديننا، بك نقتدي، في أمورنا. وكانت له فراسة. لا يكاد أن يخطئ. يذكر أنه قال لأبي الحسن القابسي، وهو يطلب عليه: والله لتضربن إليك آباط الإبل، من أقصى المغرب. فكان كما قال: ودخل عليه عطية الجزري، فرحب به أبو العباس، فقال: أتيتك زائراً، ومودعاً الى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك. وبكى. وكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 مع عطية ركوة ولاقى وداً. فخرج مع أصحابه، ثم أتاه بأثر ذلك رجل، فقال له: أصلحك الله، عندي خمسون مثقالاً، ولي بغل، فهل ترى في الخروج الى مكة؟ فقال: لا تعجل، حتى توفر هذه الدنانير، فعجبنا من ذلك. واختلاف جوابه للرجلين، مع اختلاف أحدهما. فقال، عطية جاءني مودعاً غير مستشير، قد وثق بالله. وجاءني هذا يستشير، ويذكر ما عنده. فعلمت ضعف نيته. فأمرته بما رأيته. قال بعضهم: مر عطية المتعبد يوماً برجل يزمر. فمزّق زقه. فأقبل الزامر يرميه بطوب الحزق. وعطية يقول: اللهم تب عليه. فعرف ذلك الإبياني، فقال: ضرب عطية؟ اللهم اقطع يمينه. قال الحاكي: فرأيت الزامر بعد ذلك في الطواف، فقلت له: أنت صاحب عطية؟ قال بدعوته انتفعت. فذكرت له دعوة أبي العباس فقال: ما له ولي. هلا دعا لي كما دعا عطية. وأخرج يده مقطوعة. وكتب أبو الفضل بن نصر التابرتي الى أبي العباس الإبياني شعراً أوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 ماذا تريك حوادث الأزمان ... وصروفها وطوارق الحدثان ومنها: وأشد ما ألقى وأفضح للحشا ... عدم الوفاة وجفوة الإخوان هذا أبو العباس واحد عصره ... وفقيهه والفائت الأقران أنِفَت به أخلاقه عن وصلنا ... وسلامنا في السرّ والإعلان إني أتيتك شاكراً ومخبراً ... أشكو إليك حوادث الأزمان فكتب إليه أبو العباس الإبياني، رحمه الله تعالى: دهرك يا أبا الفضل ذو تغلاب ... يريد العجائب بعد العجاب فكن جليس بيتك مستوحشاً ... من الناس والأهل حتى الإياب وتوفي سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة. وقال المالكي: سنة إحدى وستين. وهو ابن مائة سنة، غير أربعة أشهر. تميم بن حمدان بن تميم السرتي أبو محمد. سمع من ابن عياش، وجبلة، وحماس، وموسى القطان، وابن بسطام وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان يتكلم في العلم كلاماً صالحاً. وعني بالوثائق، والمناظرة عليها، وعليه كان يعتمد أهل القيروان في وقته. قال أبو بكر المالكي: كان فقيهاً له علم بأخبار إفريقية، عالم بالوثائق. ويقال إنه كتب لرجل وثيقة، فقال: لا يا هذا. احتفظ بها. فإني ما أبقيت لك فيها وجهاً إلا تكلمت لك عليه. وإني أضمن لك جميع دركها إلا شيئين: شاهد زور، وقاضياً مرتشياً. وكان عالماً بأخبار إفريقية، وأنساب أهلها. أنيس المجلس. ويقال إنه صام ثلاثين سنة. وعليه كان يعتمد أهل القيروان في وقته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 توفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ويقال اثنتين. رحمه الله تعالى. أبو يوسف بن مسلم بن يزيد بن ربيعة الحضرمي قال أبو القاسم اللبيدي: كان من أهل العلم، والفهم، والعبادة، والورع. قد لقي جماعة من أصحاب سحنون، ولقي بمصر أصحاب الحارث بن مسكين، ولقي بمكة ابن الجارود، وابن المنذر، والبغوي، وغيرهم. أخذ عن الجبنياني، وهو أخو ميسرة بن مسلم، وأكبر منه، ويعرف بسكردون، وهم أهل بيت قرآن وعلم وعبادة. وأبو يوسف، ويزيد، وميسرة، وأحمد كلهم ممن سمع العلم، وتعبدوا. وكان أكثر منفعتهم بأبي عاصم المتعبد، الذي انتفع به الجبنياني. وكان كل واحد منهم يقوم بربع القرآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 ليث بن محمد بن صفوان بن الحارث قال اللبيدي: كان من الفقهاء. وكان من المنقطعين في العبادة. وكان من أصحاب عيسى بن مسكين. وكان منزوياً عن الناس، متبتلاً. يسكن قصر زياد. فإذا أكثر عليه الناس هرب. وعنه أخذ عمر بن مثنى رحمه الله تعالى. أبو اليسر مطر بن بشار. مولى بني كيسان. قال أبو العرب: سكن تونس. وكان فقيهاً. سمع معنا من أصحاب سحنون، وغيرهم. وتوفي سنة نيف وعشرين وثلاثمائة. محمد بن أحمد بن يونس أبو البشر السوسي نزيلها قال أبو الرب: سمع معنا من أحمد بن يزيد. ويحيى بن عمر، وأحمد بن معتب، وجماعة من شيوخنا. وكان حسن الطبع. روى عنه أبو بكر الزويلي. قال أبو جعفر القصري، قبل الإلقاء على يحيى بن عمر. وقال غيره: كان أبو البشر من الخاشعين العاملين المجتهدين. طويل السجود بين عينيه كوكبة تُلقي بنور ساطع في وجهه. سكن سوسة، تونس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 توفي في سوسة. وكان خروجه من القيروان ونزوله في تونس - كما حُكي عنه - هرباً من الرئاسة ورغبة في الخمول. قال: وذلك أن أهل القيروان لما اشتهر فيهم، رفعوا قدره وأكبروه، وأهل تونس بخلاف ذلك. قال أبو عثمان بن جرير: كلمته يوماً في أن يقرأ لي. فقال: ويحك. أدلك على أحمد بن عبد الرحمن فهو أكثر كتباً مني. وكان ربما سمع عامل سوسة، يضرب أحداً فيخرج رأسه من طاقة، وينتهره، حتى يتركه. وكان مجاوراً له. وكان كثيراً ما يخرج الى السوق، وقت عمارته. فيذكر الله في مواضع منه. ويخرج الى أهل الضرّ والبلاء، فيسألهم ويهوّن عليهم، ويرغّبهم فيما ما لهم عند الله. ولا ينصرف عنهم، إلا وقد هان عليهم، ما يقاسونه. لما يرجون من ثواب الله تعالى. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد ربه أبو عبد الله، ابن أخي عبد الرحيم بن عبد ربه الزاهد. صاحب سحنون. كان من الصالحين العلماء. الثقات الحفاظ. سكن ساحل إفريقية. وخلف عمه بتلك الجهة. ولازم الرباط. سمع من أبيه. وعيسى بن مسكين. وأبي زكريا الأموي. وأخذ عنه أبو إسحاق الجبنياني، الزاهد. وعمر بن مثنى، صاحبه، وغيرهما. وتوفي بقصر زياد، سنة ست وأربعين. رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 علي بن محمد تدميري الأصل. أبو سهيل وينبؤ بالقصد له سكن مدينة بونه سمع بإفريقية من لقمان بن يوسف وأبي البشر بن مساور. وابن اللباد، وبمصر من جعفر بن عبد السلام البزرا، وغيرهم. وكان رجلاً صالحاً فاضلاً. فقيه البدن كثير الكتب. حسن التقييد. توفي ببونه آخر سنة سبع وأربعين. أبو عبد الله بن صامت تونسي أبو العباس. قال ابن حارث: كانت له عناية محمودة بالحديث، والفقه والرجال. أخذ عن أبي جعفر بن نصر، ولقمان بن يوسف. قال غيره: ولي حكم تونس. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 أبو حبيب نصر الرومي، التونسي. قال ابن حارث: كان يتكلم في الفقه، كلاماً صالحاً. ودرس ببلده تونس. وأخذ عنه الناس، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وكان أصله مملوكاً فأتى الى مصر، وجلس في حلق العلماء، ولازم حلقة بن عبد الحكم، حتى انتفع بها. وكان يستعير الكتب، ويجعل لمن يقرأها عليه أجراً. فحفظ علماً كثيراً، وتفقه ورجع الى مولاه. فأعلمه خبره، فأعتقه، فانصرف الى مصر، وتمادى الى العلم، الى أن صار من أهله. ثم انصرف الى القيروان، وجالس الفقهاء بها. حتى صار كواحد منهم. وجالس كثيراً، حماساً بن مروان. وسكن تونس. وكان معظماً بها. وحدث بغريب أبي عبيد بن علي بن عبد العزيز. وبقي كذلك. أثنى عليه ابن حارث، وغيره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 عبد الله بن سعيد اللحّام. أبو محمد. حكى المالكي عن أبي عبد الله الخراط: أنه كان رجلاً صالحاً من طلبة العلم، والعناية بالتقييد. سمع من محمد بن أبي زاهد، وأبي جعفر القصري، وعبد الله بن محمد بن زرقون وغيرهم. قال أبو بكر المالكي: وكان يحسن الفقه والحديث، وسمع على الأئمة. وكتب بخطه كتبها. وسلك مسلك ربيع القطان. عن بعضهم أنه كان ينتقده، فدخل عليه ليلة، فوجد مصباحه قد انطفأ، فقال: وأخذت الفتيلة لأوقدها. فجئت فوجدت سراجه يزهر، فقلت: ما هذا؟ فتبسم، وقال: غيظك يا من لا يقول بالكرامات. فقلت: دخل عليك أحد. قال: لا والله، ما أوقده إلا مولاي. وكان يقول الشعر في معاني الزهد. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. مولده رحمه الله تعالى سنة سبعين ومائتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 يوسف بن عبد الله القفصي التميمي قال بعض المؤرخين، كان من أجلّ أهل زمانه. وأفقههم مع أدب بارع، وعقل رصين وصبر، وزهد في كل ما يتنافس فيه من الدنيا، نظّاراً في الفقه، عالماً بأخلاق العلماء، والحديث واللغة. يقول جيد الشعر. روى عن مالك القفصي وغيره. وكان أهل بلده مجمعين على فضله وعلمه. وله كتاب نص فيه أبو عبيد بن سلام على ابن قتيبة. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. أبو القاسم عبد الرحمن بن تمام القطان قال أبو بكر المالكي: كان من أهل الفضل والدين والورع والعبادة والنسك والعلم والعناية والسماع والضبط. سمع من جماعة من أصحاب سحنون. وكان من أقران أبي العرب، وأبي بكر بن اللباد. وسمع منه ربيع القطان وغيره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة رحمه الله. محمد بن عمر الحلاج أبو عبد الله. قال الخراط: كان رجلاً صالحاً، ثقة حسناً، فقيهاً، حسن الاتباع لأهل المدينة ولإمامهم مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 سمع ابن سبيل، وموسى القطان، وسعيداً بن حكمون، وأبا الغصن، وابن بسطام، وغيرهم. وكان لا يحدث إلا بما سمع. وعين الإجازة من سماعه، ولم يكن يحسن تقييد الكتب. توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى. محمد بن ابراهيم بن أبي صبيح قال أبو عبد الله الخراط: كان من أهل الجزيرة، رجلاً فاضلاً، فقيه البدن، له رحلة قديمة. سمع فيها من يونس الصدفي، ومحمد بن عبد الحكم. وسمع من أصحاب سحنون. حدث عنه حبيب الجزري. ولاه حماس قضاء صقلية. فقيل إنه حمل إليها من إفريقية، حتى الملح، تورعاً. وترك النظر بينهم، حتى رفعه زيادة الله، فسجنه. وسجن أيضاً في أيام المشارقة. توفي بسوسة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة رحمه الله تعالى. موسى بن أحمد الغرابلي السوسي قال أبو عبيد الله: كان رجلاً صالحاً، فقيهاً، ثقة، ذا ورع وسكينة، مصفرّ اللون، طويل اللحية. سمع من أبي الغصن، ومحمد بن بسطام، ويحيى بن عمر، وعيسى. توفي بسوسة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 أبو ميسرة أحمد بن نزار. يكنى أبا جعفر. من الفقهاء العباد، المتبتلين الخائفين الورعين. روى عن حمديس القطان، وأحمد بن أبي سليمان، وفرات بن محمد، وسعيد بن أبي إسحاق، وموسى القطان، وابن حكمون، ومحمد بن عبادة، وأبي الغصن. حدث عنه الليث، والحسن بن سعيد الخراط، وأحمد بن سفيان الدراوردي. قال أبو محمد بن هبة الله: كان أبو ميسرة، من متعبدي شيوخ القيروان، المشهورين بالعبادة منهم. قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً مأموناً ثقة، خيراً فقيهاً حسن الاتباع، لا يخالف في فتواه ابن القاسم، مجانباً لأهل الأهواء، كثير الصلاة والذكر. عرض عليه قضاء إفريقية فامتنع. وكانت كتبه بغير خطه. قليل الضبط، لضعف بصره. وكان علماء وقته: أبو بكر اللباد، وغيره، يعظمونه. وذكر أنه كانت له ختمة كل ليلة في محرابه. وكان قد عمي آخر عمره. فلم يعرف بذلك أحد، حتى اجتمع شيوخ القيروان للخروج مع أبي يزيد، على بني عبيد. فأعلم بعذره. فحينئذ علم عماه وأخرج ابنه معهم، وسُمع، وهو يقول: اللم أدخلني في شفاعة السود. رمي فيهم بحجر. وقيل إنه لم يعرف أنه عمي، حتى اعتذر بذلك إذ طلب للقضاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 جمل من كراماته وبراهينه وإجابته وحكم من كلامه رحمه الله تعالى ذكر ابن اسماعيل العبيدي وجه في أبي ميسرة، ليوليه قضاء إفريقية بعد فتنة أبي يزيد، فأناه الرسول فقال له: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: لابد أن تلي القضاء رجل أعمى، يبول تحته. ولم يعلم أحد أنه أعمى، إلا ذلك اليوم. فقال: منذ كم عميت؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة. ثم قال: اللهم أنك تعلم أني انقطعت إليك، وأنا ابن ثمان عشرة. فلا تمكنهم مني. فما جاء العصر إلا وقد توفي. فغسل، وكفن، وخرج به. فوجه إليه اسماعيل كفناً وطيباً في الأطباق. فرافقه الرسول على النعش. فجعل إليه الكفن من فوقه. وذكر عنه أنه بينما هو يتهجد ليلة من الليالي، ويبكي، ويدعو، إذ بنور عظيم خرج له من حائط المحراب، ووجه كالبدر. فقال له: تأمل من وجهي، يا أبا ميسرة، بأني ربك الأعلى. فبصق في وجهه، وقال له: اذهب يا ملعون. فعليك لعنة الله. قال الإجدابي: اشتهى أبو ميسرة مدة طويلة، فقوصاً. فلما غلبته شهوته، أمر رجلاً فاشتراه له. فأكل منه عند إفطاره، وجلس ساعة. ثم بصق. فوق بصاقه بلحيته. فقال: ما هذا إلا لذنب فعلته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 ثم بحث عن الفقوص، فإذا هو من أرض السلطان، فتقيأه، وحلف أن لا يأكل فقوصاً أبداً. قال غيره: وكان بجوار أبي ميسرة أسود ينهب ويسرق، ولا يبالي ما يصنع. فقال له الجيران: ارحل عنا. فشتمهم. فأتوا أبا ميسرة، وسألوه الدعاء عليه. فقال: اللهم إنه عبدك ونحن نخافه، لأنه لا يخافك. فصلّحه. وإن لم يسبق في علمك إصلاحه، فخذه، وأزل عنه حلمك، وفاجئه بسوطك، ونقمتك. فلما أصبح أخرجه الشرطة، وضربوا عنقه. وحمل مرة خبزته الى الفرن، فخرج من الفرن خبز للبيع، فإذا بسائل يسأل، فلم يطعمه أصحاب الخبز شيئاً. فاشترى منها خبزة. ودفعها أبو ميسرة الى السائل. فلما انصرف الى المسجد وقت الصلاة، وجد الخبزة فيه. وقال رجل لأبي ميسرة: ادع الله أن يغنيني عن الهم كله. قال: ما دمت في الدنيا فلابد لك من الهم. وشكا إليه بعض إخوانه، بعد عهده به، فقال: إنما فائدة الاجتماع الدعاء. فإذا ذكرتني، دعوت لي، وإذا ذكرتك دعوت لك. فكأنّا التقينا، ولم نلتق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 وقال له رجل: فلانة تقرئك السلام. فقال: لا يبلّغ الرجال عن النساء السلام. بقية أخباره ووفاته قال أبو بكر بن سفيان: دخلت إليه، فسألته عن حاله. وكنت لم ألتح. وكان ضعيف البصر فقال: معك أحد. فقلت: لا. فقال: اخرج، فإذا جاء أصحابك، دخلت معهم. قالوا: وأتت إليه امرأة تسأله عن شيء. فقال: ارفعي صوتك. قال: خفت أن تمرض كلامها. وجاز في بعض طريقه الى جبانة. فرأى رجلاً قد مكنته امرأة من نفسها، فقال: لا حول، ولا قوة، إلا بالله. وقصد إليهما. ففرّ الرجل، وقصدت المرأة أبي ميسرة، وتعلقت به، وقالت: يا معاشر المسلمين، هذا راودني عن نفسي. وأبو ميسرة ساكت. فلما رأت حاله، تركته وقالت: لا تغير المنكر إلا ومعك غيرك. فانصرف وهو يقول: لا تكثروا الروايات، فيدخل في فتياكم الذمامات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 قال أبو الحسن بن خلاف: كان سبب التزام أبي ميسرة الدار، وشغله بالعلم، والعبادة، أنه قال: رمتني والدتي عند رجل من الرهادنة، ومعه صبيان. فكان يدفع إليهم سلع الناس، يبيعونها، ولا يعطيه هو شيئاً. فسأل بعض جيرانه عن سبب ذلك. فقال: لأنك تستقصي، وهؤلاء يبيعون ذلك منه من تحت يده. فيبيعونه. فتركته، وجلست في البركة. فباعوا رأساً، فشرطوا به عيوبً. فلم يقبله المشتري. فلما كان ذلك آخر النهار، باعوا ذلك من آخر. ولم يبينوا. فقلت لهم، غدوة ذكرتم به عيوباً؟ فقال بعضهم لبعض: من أين جئتم لنا بهذا؟ وتركت البركة. وكنت في باب الغنم، فجاءني يوماً صاحب الموضع، فقال لي: اقرأ ما على فلان. فقلت: كذا. فقال لي: إن قال لك إنما هو كذا. فقلت: بل أقول عليك كذا. فقال: فإن قال لك كذا، بل امرأته طالق، ما عندي إلا كذا. ما تقول له؟ قلت: أقول له ما عندك إلا كذا. وأراد أن أحلف له بمثل ما حلف. فقال: دع الدفتر من يدك. فلزمت الدار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 فبلغ أبو ميسرة من العبادة مبلغاً عظيماً. وكان كثير التهجّد، والتلاوة، وقيام الليل، وصيام النهار، متواضعاً. تأكل خادمه معه، على مائدته. وكان إذا أكل، جعل مائدته في السقيف، حذاء الباب. فإذا أتى سائل، فتح الباب وأعطاه، لئلا يقيم الخادم، وهم يأكلون دونها. ولما ولي حماس، منع الناس من النداء في الأسواق، إلا من ثبتت عدالته، إلا أبا ميسرة، لثقته. وكان أبو ميسرة، مهاجراً لحماس، بسبب مسألة الإيمان، لا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام. وكان يقول: تركت السلام عليك لمن هو خير مني. حمديس: أمرني بذلك. وإلا، فرِجل حماس، في الأرض، خير من كذا وكذا من أبي ميسرة. وجرى بينه بسببها وبين أبي الفضل الممسي، مهاجرة عظيمة، ذكرناها في خبره. وكان أبو محمد يتعصب للممسي، ويثني عليه، ويقول: ما كان أبو ميسرة، ممن يتخذ إماماً، في دين الله. واحتج القابسي بمسألة من هذا الباب. فقال له أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى: لو سمعك أبو ميسرة؟ فقال أبو الحسن: إنما حكيت قول غيري. وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 عبد الله بن إسحاق البرقي أبو محمد. قال ابن حارث: كان من أهل الفقه والأدب. له مناظرة حسنة، وحفظ جيد. من أصحاب أحمد بن محمد بن نصر. غلب عليه آخراً، الورع والزهد. ومات مرابطاً بسوسة من رعدة قاصفة سمعها. وقد أغفى فزهقت لها نفسه. وكان اشرب قلبه الخوف، للبكاء. ولسانه لتعظيم الله وتحميده، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم. وبدني للتراب والبلاء، وقلبي للخوف والرجاء. ولم أخلق للّعب والهوى. وإنما خلقت للعمل الصالح. وكان يختم القرآن في كل يوم ختمة. وينظر، ويعتبر بالجنة في منامه. وتوفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فيما حكاه المالكي. سنة عشر ولم يدرك أعمار طبقته. رحمه الله تعالى. أبو علي، تميم بن أحمد رحمه الله تعالى كان يعرف بابن السّامة. كان حامل علم كثير، مائلاً الى الحجة والانتصار لمذهب مالك، رضي الله تعالى عنه. توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 أبو بكر عتيق ابن أبي صبيح الجزري وكان فقيهاً، مفتي أهل الجزيرة بإفريقية. كان صاحباً لأبي العباس الإبياني، في قراءة له ممن طلب معه. فبلغ أمره بني عبيد، فرفعه مع أبيه محمد، وطلبهما بالدخول في دعوتهم. ويليا قضاء صقلية. فأبيا فعذبوهما عذاباً شديداً. وفرقوا بينهما. ويقولون لكل واحد عن الآخر، إنه دخل في دعوتهم، فيقول كل واحد عن الآخر: دعه يفعل ما أحب. لن يغني عني من الله شيئاً. أبو علي الحسن بن نصر السّوسي مولى امرأة من أهل قسطلية. ومنها أصله. ثم انتقل الى سوسة. سمع بإفريقية من المغامي. ويحيى بن عمر، وخالد بن نصر، وأحمد بن يزيد، وزيد بن خالد، وأحمد بن ملوك، وعبد الرحمن الورقة. وزيدان بن اسماعيل. وأحمد بن أبي سليمان، وأبي الغصن وغيرهم. وعزم على الرحلة الى محمد بن عبد الحكم. بلغه وفاته. فقال: ما اغتممت لشيء مثل غمي لذلك. وسمع من علي بن عبد العزيز، وهشام بن عمر، وأبي بكر بن المنذر، والوليد بن عمر وابن بشير، وابن جناح. أخذ عنه عمر بن محمد، وأحمد بن سلمون وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 ذكر محنته وثناء أهل الجلة عليه، وشمائله قال الخراط: كان شيخاً صالحاً، فاضلاً، ثقة ورعاً، زاهداً فقيهاً، عدلاً في أحكامه، صادقاً في الحق، لا يهاب سلطاناً، مشهوراً بالعلم، صحيح الكتب. قال أبو عبد الله الخراط: وكان مع ذلك كثير الاجتهاد في العبادة، على قيام الليل، وصيام النهار، وتلاوة كتاب الله تعالى. كثير الخشوع، والتواضع. وكان أبو الفضل الممسي، يشرّف قدر الحسن بن نصر بسوسة، وحمود بن سهلون بالساحل، وحمود بقابس: قال الزويلي: كان طويل الصلاة. لا تذكر الدنيا في مجلسه. أقام فوق أربعين سنة، إذا دخل شهر رمضان، لم يكلم أحداً من الناس، ولا أهلاً ولا ولداً. فإذا أراد حاجة، كتب بها. وكان زاهداً في الدنيا. راغباً في الآخرة. حكت عنه زوجته، وكانت امرأة صالحة: أنه كان يختم في رمضان كل ليلة ختمة. حتى كانت رجلاه تتورم من القيام، وتتفطر بالماء الأصفر، وكان إذا جاء الليل، وحضر وقت القيام، أقام جميع من عنده الى بيوتهم، وأخرج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 عنه السراج، فإذا هدأ أهل الدار، سمعت قراءته الى الصبح، فيصليه بوضوء قيامه في مسجده. ثم يدخل داره، فلا يزال في تسبيح، وذكر الى طلوع الشمس، فيدخل إليه الناس يأخذون عليه، الى ارتفاع النهار. فيركع الضحى، ويضطجع الى الهاجرة. هذا دأبه. وكان يتورع أن يقبل من أحد شيئاً. وحكى أن ابنه محمد، قال في سنة غلا فيها السعر بسوسة: اشترِ يا أبتِ طعاماً. فإني أرى السعر قد غلا. فقال له: ادع بحِسانَ خادمه. فقال لها: إكتالي ما عندنا من القمح. فقالت له: ثمانون. فقال لها: امضي بها الى السوق، لفلان يبيعه. ثم قال لابنه: يا محمد لست من المتوكلين على الله. وأنت قليل اليقين. كان القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله تعالى عليك. من توكل على الله كفاه. وكان يلبس جبة صوف. فإذا اتّسخ صدرها رده الى ظهره. وأخذ ظهره الى صدره. ويجعل على صدره مرقعة، أهله، وهي خرقة لطيفة. وكان يلبس فرواً، وقلنسوة، منه. ولما وصل اسماعيل الى سوسة، وجه جوهراً فتاه إليه، بالليل، ليأتيه به. فجاءه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 وهو في ورده فخرج ابنه إليه، ورجع الى الشيخ وأعلمه بمكان جوهر، فلم يلتفت إليه، حتى قضى ورده. وقد اعتذر ابنه إليه. فقال لا أبرح حتى أراه. وجوهر في هذا كله واقف على الباب. وقد فرق من ذلك، كل من بالجهة. فلما أحلّ انتهر ابنه. وقال له: أكون بين يدي الله، وتقول جوهر بالباب. وقام يخرج إليه. فجاءه ابنه بقميصه، ومنديله. وكان عليه فرو مغلوف. وقال له: إلبس هذا، يرهم عليك. فقال له: ما أقل حياءك، أكون بين يدي الله في هذه الحال، وأتهيب لجوهر. فخرج الى جوهر، واعتذر له باعتذار، حتى قال له جوهر: أنا أجتمع بمولاي، وأعتذر له عنك. فمضى. فرجع إليه في الحين، وأخبره بقبوله عذره، ومشقة عدم اجتماعه به عليه، وأنه يقرؤه السلام ويسأله الدعاء. فقال له: قل له: أحياك الله للمسائل، وأصلح جميع صفاتك. قال: وجاء جوهر بمال كثير من عند اسماعيل، ليفرقه على الفقراء، فلم يقبله، ورجع به جوهر. ذكر سيرته في أحكامه رحمه الله تعالى كان قد ولي أحكام سوسة، لحماس بن مروان، أيام زيادة الله. وعرض عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 بنو عبيد قضاءها. ورجع الى القيروان، فامتنع. ولم يلبث إلا يسيراً، حتى مات. فذكر أنه دعا على نفسه، ولم يأخذ إذ كان حاكماً لحماس أجراً، ولا صلة. وسار في ولايته بالعدل. وكان فقيهاً صليباً، مغيراً للمناكير، لا يهاب في إقامة الحق سلطاناً، ولا غيره. وكان يتسمى بالحكم. وكان إذا وردت عليه الكتب من السلطان، في أمر يخوف أصحابه، الى نفسه، وقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم. فإن اتفقوا على شيء خاطب به السلطان، وإن اختلفوا، قال لكل واحد: اكتب ما رأيت، بخطك. ثم ينظر ما كتبوه. فيكتب ما يختار منه. وأسقط شهادة رجل كان ينزل من حانوته، فينصرف متزراً بميزر، عاري البدن. وقال له: أسقطت مروءتك، وهمتك. وكان يأمر من يمشي على شاطئ البحر، والمواضع الخالية، فإن وجدوا رجلاً مع غلام حدث، أتوا بهما إليه. فإن لم تقم بينة، أنه ابنه أو أخوه، عاقبه. وكان يجلس أيام مراسم الرباط، من حيث يتشرف لاطلاع مثل هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 وبلغه أن رجلاً جاء ابنته بمزهر لطيف، تلعب به. فمزقه، وزجره. وكان لا يضمن صاحب الحمام بسوسة، ما تلف عنده، وإلزامه الثمن، على مشهور النص. فكثر مشتكوه. فحكم عليه بالضمان. لما حدث به يحيى بن عمر، عن الحارث، عن ابن وهب، عن مالك في تضمين صاحب الحمام. قال: فما اشتكى رليه أحد بعد. وكتب إليه حماس، في أمر نظر فيه الحسن بن نصر، أن يلتزم فيه الرفق والتؤدة والمداراة. فكتب إليه الحسن: بالتشديد في إقامته. وكان عنوان الكتاب: من الحاكم ابن نصر. فلما رأى حماس الكتاب، رمى به، وقال: من الحاكم؟ وكأنه عزّ عليه ذلك. وكان حماس لا يكتب، من القاضي، إلا في الأحكام. ثم نظر في الكتاب، ورأى فيه من صرامته في الحق، ما أعجبه. وكان فيه: قد أنفذت الحق كما يجب، وما كان لله، فلا مراء فيه. فسكن عنه ما كان به، ثم قال: نعم، يا أبا علي، من الحاكم. وإن شئت أكتب: من القاضي. فإنك أهل لذلك. والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 ذكر وفاته توفي رحمه الله تعالى، فيما حكاه أبو بكر المالكي: في صفر سنة إحدى وأربعين، وقد جاوز السبعين. وخرج الناس من القيروان وغيرها، الى جنازته بسوسة. قال ابنه: قال لي أبي ليلة من الليالي، في مرضه الذي توفي فيه: وا بني، اربط لي حبلاً في السقف، لعلي أقدر أصلي قائماً. ففعلت. وحملناه حتى وقف. وغلب، ولم يستطع القيام. فبكى، وقال: وا حزناه. حيل بيني وبين طاعة ربي. فذكرت له الصلاة جالساً. فقال: يا بني، العمر قصير، والعمل قليل. وإنما أردت أن أعمل أكثر مما عملت. ولما أطال به المرض قال لزوجته: قد توليت مني خيراً. فاصبري. فما أشك أن أجلي قد اقترب. فإني سمعت هاتفاً من هذا الطاق يقول: أحسن غداً صلاة الظهر، يفرج عنك. فمات ذلك الوقت. الشيخ أبو الحسن الكانشي رحمه الله تعالى هو حسن بن محمد بن حسن الخولاني. قال أبو عبد الله الخراط، وأبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 بكر المالكي، وبعضهم يزيد على بعض: كان رجلاً صالحاً فاضلاً فقيهاً مشهوراً بالعلم متعبداً مجتهداً ورعاً خائفاً رقيق القلب كثير النياحة والبكاء، سمعاً كثير المعروف، باع ضياعه كلها وتصدق بها، وكان صارماً في مذهبه مجانباً لأهل الأهواء. ومن يخالف مذهب أهل المدينة. وكان أبو العباس الإبياني، إذا ذكره يقول: ذلك العالم حقاً. قال أبو بكر بن خلف: كان من العالمين بالله، وبأمره. سكن المنستير، سمع من عيسى بن مسكين، ويحيى بن عمر، وأحمد بن يزيد، وأبي إسحاق بن شعبان، وكان يحسن العربية والنحو واللغة، وشعر العرب، واعتماده في روايته على عيسى بن مسكين. وكان أجمع على فضله المؤلف والمخالف. سمع منه أبو الحسن القابسي. وأبو القاسم بن شبْلون، وأبو الحسن اللواتي. وأبو الحسن القمودي علي القمودي. وأبو عبد الله بن نصيب، وجماعة الناس. ورحل إليه من الآفاق والله أعلم. ذكر فضائل رحمه الله تعالى وزهده والثناء عليه قال أبو عبد الله الخراط: قد تورع عن الحرث في أرض الغير بكفايته من غيرها. قال أبو بكر بن خلف: أُخبرت أنه كان لا يهدأ ولا ينام الليل أجمع، يقرأ القرآن ويبكي. ذا خوف وإشفاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 حكى الشيخ أبو الحسن القابسي: إن بعض سكان القصر، الذي كان يسكن فيه الكانشي قام فسمعه يقرأ في سبحان. فلما كان آخر الليل وجده قد ختم، ثم أخذ في النّياحة والبكاء. ثم قال: أتراك بعد الدرس للقرآن تحرقني ... يا ليتني أدرجت قبل الذنب في الكفن ثم عاد الى النياحة، والبكاء حتى طلع الفجر. ثم أقبل يقول وعزّتك وجلالك، ما عصيتك استخفافاً بحقك، ولا جحوداً لربوبيتك. لكني حضرني جهلي، وغاب عني علمي، واستفزّني عدوي، وإني عليها يا إلهي لنادم. قال القابسي: ما رأيت أخير من أبي الحسن. وكان أكثر ما يقطع ليلته بتلاوة القرآن والنياحة والبكاء. ولقد غلب عليه الحزن حتى صار ضحكه كالبكاء. وكان قد ورث من أبيه مالاً وضيعة، وتبرأ من جميع ذلك، وتصدّق به. فقيل له في ذلك. فقال: حضرت معه وأنا صبي، ومعه شيوخ المنزل، فكتبوا أسماءهم في شقافٍ لضيافة الأعوان. وأخذ أبي شقفة. وقال للأعوان: هذا اسم فلان وضيافتكم اليوم عليه. فلم تطب نفسي، أن آكل من ميراثه حبة. وكان يقول إذا تكلم على مسألة من العلم: لو أدركني عيسى بن مسكين ما رضي مني بالسجن، حتى يقيّدني. وسأله رجل عن مسألة من الفقه، فقال: امضِ بها الى الفقهاء. فاسألهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 فلما خرج الرجل قال: ردوه. والله الذي لا إله إلا هو، لولا آية من كتاب الله تعالى، ما أجبتك، ثم أجابه. وكان إذا أعجبه شيء من أحوال بعض من يصحبه، قال له: والله لأسُرّنك في نفسك، فيقال له بماذا؟ فيقول: بحسن الثناء عليه، فقيل له: فأين الحديث، احثوا التراب في وجوه المدّاحين. فقال: قد قال ابن عباس: إنما ذلك، إذا مدح الرجل في وجهه، بما ليس فيه، وإلا فواجب مدح الرجل في وجهه، بما يجري من حسن أفعاله. وأتاه رجل ممن يلوذ بالسلطان، فلما رآه لفّ رأسه في تأزيره، واضطجع الى الأرض، فوقف عند رأسه، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام. فقال أيها الشيخ: والله الذي لا إله إلا هو ما أعتقد إلا ما تعتقد. وما دخلت في هذه الدعوة. فأزال عن بعض وجهه، وقال: الآن رق لك قلبي. ويذكر أنه كان يضرب الطوب بيده، ويعده لغيره. فكان يسأل فيه، ويعطيه. فكثر عليه هذا، فبنى طوباً وبنى منه في بيته، كالحدود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 وكان يقيم بيته بالتبن، وينام فيه. فأتاه بنو أبي الحسن، فلما أخبر بهم، دخل الحدود وتغطى بعباءته. فدخل القوم فسلموا عليه، وسألوا عنه، فأشار خدامه، الى أنه راقد. فقال: سبحان الله، تكذب منظر القوم - لكراهته لقاءهم - فتقدموا إليه، وقالوا: والله ما نحن إلا على الإسلام والسنة. وما تقربنا من السلطان، إلا لنرفع عن أنفسنا الظلم. فكشف عن وجهه وقال: الآن، لان لكم قلبي. ودعا لهم. وذكر أنه أخرج كتبه يوماً بحضرة الناس، وجلس في وسطها، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني جمعتها ليؤتى الى هذا الوجه القبيح في مسألة فأحرقني بالنار. ولما مات لم يوجد له إلا دينار ونصف، كفّن به. ولم يكن في بيته حصير. قيل له في ذلك. قال: أنا اليوم في البيت وغداً في القبر. وجردته العرب في طريق الحج، فأعروه. فدفع إليه جمّال، معلف جمل فاستتر به. فلما اشتد عليه الحر، رفع رأسه، ونادى بصوت، وقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 أحببت نجواهم ثم بلوتهم ... فأكثرتَ بلواهم كي يتضرعوا وإذا دعوك رفعت نحو دعائهم ... حجباً لعزّك دائماً لا تدفع براهينه وفراسته رحمه الله تعالى قال أبو محمد الصدفي: صلينا يوماً بقصر داود، صلاة العصر، مع أبي الحسن. فلما سلم الإمام من الصلاة، قال الشيخ: وحق هذه القبلة، ما طابت نفسي على هذه الصلاة. وأنا أعيدها. فأعادها. وكان الإمام يومئذ رجلاً صالحاً. فلما خرج الناس، سألنا، فإذا الإمام قد تخلف، وقدموا غيره، وإذا المتقدم من أصحاب الشيعي. وكان لبعض أصحابه، ولد يقرأ عليه، ثم انقبض عنه الشيخ وقطعه، فقيل له في ذلك فقال: رأيت عليه خشوع النفاق، فلما رجع الشيخ الى القيروان، ندب الى حكومة بلده، فلم يولّه النعمان، حتى أدخله الدعوة. وكان يقول للشاب يختلف إليه: كم تلح، والله لا أفلحت أبداً، ولا أفتيت بمسألة أبداً. فكان كما قال. وأتى إليه رجل من طلبة العلم بالقيروان - وكان وعدهم السماع - من أهل القيروان، فاختفى الشيخ منهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 قال الحاكمي: فعجبت من خلفه لهم. وكان قد سألني أن لا أدلهم عليه. فما سارت أيام حتى سرق أحدهم، واعتزل الآخر. قال: ألا اجتمعت عندي، دراهم. فقلت: ارمها. فأنا نائم، رأيت أبا الحسن فقال لي: يا خلف أبت الحكمة أن تنطق على لسان من يأكل، حتى يشبع. ومن يحب الدراهم. فزرته، فجاءتني. ثم قال لي: يا خلف أبت الحكمة - نص ما قاله في النوم - فعجبت من ذلك. وسأله رجل عن كرامة الأولياء، فقال: صحاح. فكرر عليه، فقال: صحاح. حتى أن الرجل يدخل يده في القلة. فيخرج منها حوتاً. وقال آخر: كانت لي امرأة فأقعِدَت. فسألتني أن أسأل لها الكانشي في الدعاء. فطلبته فلم أجده. فطلبت أبا أحمد الطرابلسي المتعبّد. فسألته عنه. فأشار لي: أي أنه تحت جُرف يصلي، على البحر. ثم سألني. فأخبرته بخبر المرأة، فقال لي: فرج الله عنها، وأتاها بالفرج من حيث لا تدري ولا تظن. فصرت الى الكانشي. فوجدته يصلي. وذلك ضحوة فطول الصلاة الى الظهر، فجاذبته، وقلت حانت صلاة الظهر، فأوجز. فلما سلم قال لي: الأمر الذي جئت به قضي، في ذمام الطرابلسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 فقلت: وما هو. قال: خبر المرأة، ولقيتَ الطرابلسي، فدعا لها. قلت: نعم. قال قد عوفيت في ذمام الطرابلسي. فجئت زوجتي، فوجدتها قائمة تصلي، فعجبت من الأمر. فلقيته فسألته عن الأمر. فقال: نور يجعله الله في القلوب، فينطق من يشاء، بما يشاء. ذكر كرمه وجوده قال أبو بكر: كان لأبي الحسن رباع نفيسة، بكانش. وغيرها. باعها كلها وتصدّق بثمنها على الفقراء. قال القابسي: كان له خمس سوان، باعها. واحدة واحدة. وما باع منها واحدة، بأقل من خمسين ديناراً أو ماية، وأنفقها على المساكين. وكان يعطي منها الخمسة والعشرة والخمسة عشر، وأقل ما كان يعطي، ديناراً، ويقول: يا أخي يجيء رجل الى آخر يسأله ما يسد به حاله، فيعطيه قيراطاً. أعوذ بالله من دناءة الأمور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 قال: وكانت بقيت له سانية. فمنعه من ذلك ابن أخيه. فأمر بعض أصحابه، فكتب الى النعمان: يا نعمان أنا حسن بن محمد الخولاني. لي سانية. وقد منعني ابن أخي من بيعها. ومنع المشترين من تقليبها. وحجته في ذلك، أني إذا متّ لم يجد ما يرث. وهذا ليس هو له. وإني أولى بمتاعي، من ولدي وغيره، لو كانوا، فأدفعه عني، أو نحو هذا. ووجه به إليه. فأخذ أصحابه الكتاب، وزادوا في أوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وأسقطوا: يا نعمان. فلما وصلوا إليه، نظر في الأمر، فباعها أبو الحسن، وتصدّق بثمنها. وذكر بعضهم، قال: كنا نسمع عليه. ومعنا أبو القاسم بن شبلون، فأتاه رجل، فسأله عن حاله، وعن دابته. فأخبره بموت دابته. فتوجع وقال: من حضرته منكم نية، فليعطه، فهو أهل لذلك، فدفع إليه ابن شبلون قطاعاً، فلما نهض الرجل، للقيام. قال له أبو الحسن: أرني ما أعطاك؟ فإذا دراهم يسيرة. فقال: ردها عليه. وقام فأتى بخمسة دنانير. ودفعها إليه. وقال: اشترِ بها دابة. تعول بها على بناتك. وأتاه بعض أصحابه، يودعه. وهو يريد الحج، وهو جالس بين الناس. فأعطاه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 أبو الحسن مفتاح بيته. وقال له أدخل البيت. فخذ الروحلة المعلقة. ففيها خبز وتين يابس. قال: ففعل. وأصحاب فيها مع ذلك صرة، من تسعة دنانير، فأتى بها إليه، فأخبره. فقال: أسكت لئلا تُسمع. ثم قال له: سرْ أتراني إني لا أعلم ما فيها. استعن بها في سفرك. وأخبار أبي الحسن في هذا كثيرة. ومن حكم كلامه ومناجاته، قوله: أرني من قصده فخيّبه، أرني من توكل عليه فأضاعه، أرني من أطاعه فأضاعه. إذاً لا تراه أبداً، وكان يقول: هانوا عليك فعصوك، ولو أحببتَهم لحميتهم. وكان ينشد: يا رب كن لي ولياً ... بالصّنع حتى أطيعك لئن ذممت صنيعي ... لقد حمدت صنيعك إن كنت أعصيك إني ... أحب فيك مُطيعك ذكر وفاته رحمه الله تعالى توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. وهو ابن تسع وتسعين سنة. وقيل ابن ثمان وثمانين سنة. ودفن بالمنستير. وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب. يدرج فيها، إدراجاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وسمع وهو يقرأ عند خروج نفسه: إن المتقين في جناتٍ ونهر. وسمع في نزعه، يقول: لا. يا عدوّ الله، حتى يردوا الرداء. فقيل له: ما هذا؟ قال: إبليس عند رأسي، يقول نجوت مني. عمر بن عبد الله بن يزيد، المعروف بابن الإمام الصوفي أبو حفص. قال المالكي: كان ممن طلب العلم، وتفقه، وسمع من أحمد بن أبي سليمان وغيره. ثم اعتزل الناس. ولزم العبادة والتبتل. وقيام الليل. وكانت له في كل ليلة ختمة. ثم زاد فهمه. فكان لا يكاد يبلغ النصف حتى يصبح. قال أبو الحسن الزعفراني: كنت إذا رأيت أبا حفص علمت أنه من أهل الليل. قال أبو علي الورّاق: وكان أبو حفص من أهل العلم والورع، لا ينام إلا مغلوباً. لم يكن في وقته مثله. فلما دخل بنو عبيد فرّ. فسكن المنستير. ولم يتخذ فيها بيتاً، مدة، وإنما كان يدفع كساه. عند رجل من سكان القصر. ولما اشتهر أمره، كان إذا تكاثر الناس بالقصر في الموسم، خرج الى سوسة. وكانت له بها زوجة. فيقيم بها. ويلبس ثياباً حساناً. ويتزيّا بزي التجار، ويتعمم، ويمشي بين الناس، ويخفي بذلك نفسه. فلا يعرفه أحد بذلك الزي. فيطلبه الناس تبرّكاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 بدعائه، فلا يجدونه، وهو بينهم بسوسة، ولا يعرفون أنه ذلك. فإذا انقضت أيام الموسم، رجع الى زيّه ومكانه. وكان مجاب الدعوة، ورأى ليلة القدر. قال بعضهم، قال وظهر لي إبليس. كم بالله، بالله. وكم بهذا الجد، والاجتهاد. فقلت له: أتراك يا عدو الله، ناجياً من عذاب الله. إذا عذبت أنا، فانخسى مني. قال المالكي: كان ممن حفظ العلم وعني به، ثم تركه. وقال: إنما تركته لله. لأن أهله أدخلوا فيه ما ليس فيه. توفي رحمه الله تعالى، سنة خمسين وثلاثمائة. ويقال اثنتين وخمسين. وقيل سنة سبع وأربعين. وذكر أنه لما احتضر دعا بشرابه فأتي به. فقال: قد سقيت، وسقيت. وأرويت. ثم أومأ بيده، الى السلام. فقلنا: رأيت الملائكة؟ قال: رأيت. وجعل يومئ بيده، حتى قبضت نفسه. قال بعضهم: لما حضرته الوفاة، قال: قد بُشِّرت. قلت: بماذا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 قال: أما تقرأ: " يبشّرُهم ربُّهم برحمةٍ منه " الآية. سحنون بن أحمد التنوخي. تقدم ذكر أبيه. من أهل قسطلية، وعلمائها. سمع من أبيه، وحدث عنه أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وأبو محمد بن هاشم وجماعة. وكان أبو الفضل الممسي يقول: إنما في نواحي إفريقية، أربعة رجال، أحدهم سحنون هذا، بقسطلية. وذكر من فضله وورعه. قال أبو بكر المالكي: كان شيخاً صالحاً، فاضلاً، فقيهاً، ورعاً، مشهوراً. وكان صعباً في الإجازة. توفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. عبد الله بن حمود السلمي. المعروف بابن الحفنة السوسي. قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً صالحاً فقيهاً، واسع الرواية. سمع من جماعة من الفقهاء والمحدثين. عالماً بالوثائق، والفقه. سمع من عيسى بن مسكين كثيراً - وهو آخر من سمع منه موتاً من الفقهاء - وسمع من أخيه محمد، وسعيد بن إسحاق، وفرات بن محمد العنبري، وحماس بن مروان. وكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 فقيه البلد، حافظاً للمسائل، مشهوراً بذلك. وكان فقهاء سوسة، إذا ورد عليهم أحد من حفاظ القيروان قدموه لمذاكرته. لكنه قليل الضبط لكتبه، يؤثر عنه تصحيف قبيح. حدث عنه عمرون بن محمد، وأبو الحسن اللواتي، وابراهيم بن أحمد الساقي. قال أبو القاسم بن محمد الفقيه: كان عبد الله بن حمود فقيهاً حافظاً، وكان يفتي في كفارة اليمين، بمدّ ونصف قمحاً وثلاثة أمداد شعير، لكل مسكين، على رواية ابن وهب. فذكر ذلك لأبي محمد بن أبي زيد، رحمه الله تعالى، فاستنكره. قال عبد الله: وسألت عيسى بن مسكين، سماع كتب ابن الماجشون، فحلف أن لا يسمعنيها. فقلت: وأنا لا أزال من همي حتى أسمعها. فلما رأى عزمي، أخرج طعاماً، فكفّر عن يمينه، وأسمعنيها. وكان عيسى يرويها عن ابن الموّاز عن عبد الملك. وتولى أحباس سوسة، فصرفها في مواضعها، ولم يتلبس منها بشيء. وانكسر عليه من جملة الكراء، مالٌ، فأدى ذلك من ماله، ولم يضطرّ المساكين الى الغرم، رأفة منه بهم. وكان صاحب تاريخ، وعلم بالخبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن تسعين سنة. وهو حادّ الذهن. ورثاه بعضهم برثاء منه: وكان يؤرخ علم القرون ... فها هو اليوم قد أُرّخا أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد السبائي قال أبو عبد الله الخراط: كان من أولياء الله المعدودين، الذين ينزل بدعائهم القطر، وتظهر بهم البراهين. قال أبو عبد الله الإجدابي: كان أبو إسحاق من العلم بالله وأمره في خطة، ما انتهى إليها أحد من أهل وقته، حتى لقد كان من بالقيروان من أهل العلم والدين، إنما ينظرون إليه، إذا نزلت الحوادث والمعضلات. فإن أغلق بابه، فعلوا مثله. وإن فتح، فعلوا مثله. وإن تكلم، تكلموا بمثله. لتقدمه عندهم، ومكانه من العقل والعلم، والمعرفة بصحة الوقت، وكيف تلقى الحوادث. صحب أبا جعفر أحمد بن نصر، وأبا البشر مطر بن يسار، وأبا جعفر القصري، وغيرهم من أهل العلم. وأخذ عنهم علماً كثيراً. وصحب جماعة من المتعبدين. وكان شديد الأخذ على نفسه. شديد الورع. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 قال: وبلغني عن بعض العلماء، أنه كان يقول: بالقيروان رجلان، يدعى كل واحد منهما باسم صاحبه، وهما: أبو الحسن الدباغ، وأبو إسحاق السبائي. يقال للدباغ عالم وأولى أن يسمى عابداً. والسبائي يسمى عابداً، وأولى أن يسمى عالماً، لأنه كان يروي العلم ويعرفه ويتذاكر العلماء بحضرته وفي مجلسه، وهم: أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى وهو الملقي عليهم، وأبو القاسم بن شبلون، والقابسي، وسعيد بن ابراهيم، وغيرهم. وكل من يعرف مسألة كان يحضر مجلسه. فإذا تنازعوا فصل بينهم، بأمر يرجعون إليه كلهم فيه. ويستشيرونه في جميع أمورهم. فكان موفقاً في كل ما يشير عليهم. فيه أبو محمد بن أبي يزيد، رحمه الله تعالى، يقول: ما هذا الذي نحن فيه، إلا من بركته ودعائه. قال أبو الحسن: ما انتفعت إلا بدعائه. فإنه قال لي أعلى الله قدرك في الدنيا والآخرة. وكان أبو جعفر أحمد بن نصر الفقيه يقول: لا تعارضوا أبا إسحاق، فإنه لو وزن إيمانه بإيمان أهل الغرب، لرجحه. وسأل رجل أبا محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، فقال: هل تعلم أحداً في أقطار الأرض يشبه أبا إسحاق؟ قال: أما في إيمانه فما علمت - يعني في وقته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 قال القابسي: وصلت وفاة السبائي الى مصر، في تسعة عشر يوماً، لجلاته في قلوب الناس. وكان لموته بمصر وصية في قلوب الناس من أهل العلم. وكان الثعالبي بمصر يقول: إذا أكربني أمر فذكرت أن السبائي يدعو لي، يفرَّج عني. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالعبادة والاجتهاد، كثير الورع وقافاً عن الشبهات، رقيق القلب، غزير الدمعة، متواضعاً، مجاب الدعوة، حسن الأخلاق، حميد الأدب، طلق الوجه، مجافياً لأهل البدع، شديد الغلظة عليهم، قليل المداراة لهم. قال ابن سعدون: كان من المتعبدين المتقدمين في العبادة، موصوفاً بالعقل والعلم. وكان مما شغل به نفسه، ذكر فضل الصحابة والثناء عليهم، لانتشار أمر المشارقة، فما كان أحد يذكر الصحابة إلا في داره. وكان يقول: رأيت عمر بن الخطاب في المنام فأمّنني. ذكر بدايته وعبادته وشمائله قال: وكان أبو إسحاق في ابتداء أمره، ولزومه العبادة، كثير الانزواء عن الناس. وكان مروان بن منصور الزاهد، مشهوراً. فكان الاختلاف إليه، الى أن مات. فانكشف أبو إسحاق. قال بعضهم: كان يخلو في مسجد أبي الحكم عشرين سنة، يخلو فيه بالعبادة، قبل أن يعرف. ولزم من سنة وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 قال الخراط: ما علمت أنه خرج من باب داره، منصرفاً من أيام أبي يزيد، حتى توفي. ولما أخبر بموت مروان، استرجع، وقال: كشفني. وكان يقول: لو علمت أن الأمر ينتهي الى هذا - يعني لما انخرق عليه من أمر الناس - ما كان إلا الأمر الأول. - يعني البعد منهم - وكان يقول: إذا كان هكذا، فمتى يعمل الإنسان؟ ويقول: هذا أمر قد نزل - يعني اختلاف الناس إليه - لا يزيله إلا الموت. قال: فلما اشتد أمر بني عبيد، وفتح دعاتهم أبوابهم، ودعوا الى كفرهم، قال أبو إسحاق لأصحابه: افتحوا باب داري، نأخذ في ذمهم، والتحذير منهم. وكان في ابتداء أمره، وانفراده، يقتات بعمل القصارة. يقصرها على بئر في داره. قال: وكان الرزق أبطأ علي مرة. فقالت لي نفسي: تعرّض للرزق. فخرجت، فسمعت معلماً يقرئ صبياناً هذه الآية: " ولقد خلقنا فوقَكم سبعَ طرائِقَ وما كنّا عنِ الخلقِ غافلين ". فانتبهت من ذلك ورجعت الى بيتي، فجلست. فدخل علي في ذلك رجل من إخواني. فدفع إلي ديناراً سلفاً. فأخذته، واشتريت أبداناً. وكنت أقصّرها في داري، فأربح في البدن قيراطاً، ونحوه، يقام لي من ذلك معاش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وكان إذا دخل في الصلاة، لم يكن قلبه إلا فيها. فربما يدخل من يدخل من أصحابه، فلا يعلم بدخولهم، لشغله بالصلاة. وكان إذا أراد أن يتوضأ، يتلو قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قُمتُم الى الصلاة " الآية. ثم يقول: نعم يا رب، ويكررها، ذلك. ثم يغسل أعضاءه تحت خوف عظيم، ووله، حتى يفرغ من وضوئه. قال خديمه أبو سعيد القلال: قال لي الشيخ: افْلِ كسائي. فلم أجد فيه غير برغوث واحد ميت. فذكرت ذلك له. فقال: ما مكنّاهم، قال ابن سعدون: وكان خبز السبائي السميد. فقيل له في ذلك. فقال: والله لو قدرت على الجوهر، وعلمت أنه يزيدني في عقلي، لسحقته وأكلته. فإني لا أجد نفسي تصلح إلا إذا أكلت طيباً. ذكر ورعه وحمايته من الشبهات، وبراهينه في ذلك كان أبو إسحاق لا يأكل إلا ما علم طيبه. وطيب أصله. وتصرف المواريث فيه، وانتقال أملاكه على ما يجب. وأن أهله كانوا يزكونه. وذكر الأجدابي، أنه كلف شيخاً معروفاً بالثقة، أن يشتري له قميصاً، بسبعة دراهم. وأتاه به. فلما لبسه أبو إسحاق، وجده على جسده كالشرك. فنزعه الى أن جاء الشيخ، فقال: يا أخي من أين هذا القميص؟ وأخبره بشأنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 فقال له: يبدل إن شاء الله. فتحدث من بائعه منه. وكان ثقة. فقال: باعته منه امرأة. فجعلوا عليها العيون، فسألوها فقالت أخذته من دار أبي العباس الصيف. فانكشف الأمر، وحمى الله أبا إسحاق. قال أبو عبد الله بن هبة الله: ذبح لأبي إسحاق كبش في عيد الأضحى. فشوي له من زيادة كبده. فدخل البيت ليأكل. فخرج وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال له خادمه: ما لك؟ قال: لما مضغت لقمة، أحسست كأن الشوك في حلقي. فما قصة هذه الشاة؟ فقال له خادمه: والله ما جئت بها إلا ممن أرسلتني إليه. فقال له: فهل جرى عليك في الطريق شيء. قال: لا. إلا ذود غنم. فرّت الشاة مني، ودخلت في الغنم. فأخرج الراعي منها شاة. فقال لي هذه شاتك. فاستقصى عن ذلك، فإذا هي، قد أبدلت بغيرها. قال أبو سعيد القلال: كان عندي زوج حمام، فأخرجوا فراخاً، فسمن منها زوج. حتى كان كالزبدة. ومضيت بها الى أبي إسحاق، فقبلهما. ثم قال: خذهما يا أبا سعيد. ما طابت نفسي عليهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 قال: فجئت بهما الدار. فسألت زوجتي. ما كانت تطعمهما. فقالت حبّ الزبيب، الذي يرميه النبّاذون. قال: وكلف بعض أصحابه، شراء زيت. فالتمسه أياماً، ثم جاءه برجل معه راوية زيت. فسأله أبو إسحاق عن أصله. قال: ميراث من أبي. قال ومن أين صارت لأبيك؟ قال ورثه عن أبيه. فقال فمن أين صارت لأبيه؟ فلم يجبه. ثم قال لصاحب الزيت: المعصرة التي عصرت فيها أيعصر فيها أهل القرية؟ قال: نعم. قال: وبها الطيب، وغير الطيب؟ قال: نعم. قال: يا أخي، لا سبيل الى أخذه. فانصرف الرجل. قال: ودفع الى رجل دينارين يشتري له بهما قمحاً طيباً، من أصل طيب، فبحث واشترى له، فجاءه به، فأمر زوجته بخبز خبزة منه. ففعلت وجاءت بها إليه. فلما رآها، قال لها: أزيليها عني، وادعي لي بفلان، يخرج هذا القمح عني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 فجاء فأخذ القمح والخبزة. وسأل أهل الموضع عن القمح، فلم يجد إلا خيراً. فقال له شيخ: إن أردت أن تعرف أصول بني فلام فامضِ الى منزل كذا. فاسأل فلاناً - وكان معمّراً من أهل العلم - يخبرك بذلك. فمضى إليه فسأله، فأخبره أن أحدهم ورّث ماله كله ابنته، على مذهب الشيعة. قال أبو سعيد خادمه: وجهني أبو إسحاق أشتري له فقوساً. فاشتريته ممن أثق به، وأوصلته إليه. ثم قلت في نفسي قلدني. ولم أسأل بائعه من أين هو، فجئت له من الغد، وصرحت له عن ذلك. فتبسم. وقال لو كان فيه شيء ما جاز. قال القابسي: لما وقعت الهزيمة في عسكر أبي يزيد، وهرب الناس، جاء رجل بحمار الى أبي إسحاق. فقال اركب أصلحك الله. فسأله عنه. فقال له: هذا وقتك؟ أنت ترى السيف في أثرك اركب أصلحك الله. فقال له: لا سبيل الى الركوب عليه حتى تخبرني بأصله. فمضى وتركه، وسلم الله أبا إسحاق. قال بعضهم: دخلت عليه يوماً فرأيت في بيته حصيراً، مع الحائط، ليس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 عليه غير مسمارين. في الطرفين، فأخذت مسامير وأتيت لأسمّر وسطها. فقال: لا تفعل فليس الحائط لنا. قال القابسي: أتاه رجل ببطيخ، وكان يحبه. فقال له: هذا جئت به إليك من البحيرة، التي كان أبي يهدي إليك منها. فقال له: وكم ثمنه؟ فقال وكم عسى ثمنه. فقال إن كنت تأخذ ثمنه، وإلا فامضِ به. فأخذ ثمنه، فقال: خذ بطيخك. وإياك أن تعود. فدهش الرجل، فأخذ البطيخ والثمن. فكشف عنه، فإذا به قد اشتراه من السوق. وكان لا يقبل من أحد شيئاً إلا بثمن. ويكافئ بضعف ثمنه. وكان يشتهي الماء البارد، فسأل عما يبرده، فقالوا له الرقاق والشركية. فقال له ابن أبي زيد، رحمه الله تعالى، عندي منها واحد. فأتاه به. فقال: كم ثمنه. فغضب أبو محمد، فردها عليه الشيخ. فقال أبو محمد: شيخ مبارك كلما قلنا قربنا منه، ولم نزدد إلا بعداً. وكان يقول: ثلاثة أعتذر منهن: غسلي الدم في مجلس أحمد بن نصر. إذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 كتب المحضر على أبي الفضل الممسي، وانفجرت منخراي دماً. فقمت لغسلهما. ولم أشاور أحمد بن نصر في ذلك الماء. ودخولي حمام الجزارين، ولم أعلم أن ريعه محبس على قصر الحديد فوجهت بعد ذلك قيراطاً، يشترى به زيت يوقد به القصر. وشربي من القسطاس. وقدمنا وادي، فأقمت ثلاثاً أشرب منه. ما بي غذاء سواه. فأنكرت نفسي. فقال أبو عبد الله الخراط: وحسبك من افتقد من نفسه في عمره، مثل هذه الثلاثة. وكان يقول: اتجر بالعلم، وكل والبس بالورع. وجهت بعد ذلك قيراطاً، يشترى به زيت يوقد به القصر. وشربي من القسطاس. وقدمنا وادي، فأقمت ثلاثاً أشرب منه. ما بي غذاء سواه. فأنكرت نفسي. فقال أبو عبد الله الخراط: وحسبك من افتقد من نفسه في عمره، مثل هذه الثلاثة. وكان يقول: اتجر بالعلم، وكل والبس بالورع. ذكر كراماته وإجابة دعوته وفراسته ذكر أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى: إن أبا أسحاق كان مستجاباً. رأينا استجابته في كل شيء. من ذلك أنه كانت لي ابنة أصابها في عينها شيء، انتهى بها الى أمر عظيم. فعالجتها بكل علاج، فلم ينجح. فذكرت لأبي إسحاق أن يدعو لها، وقلت له: إني كرهت عرضها على الطبيب وكشفها عليه. فقال لي: ابعث بها إلي ارقِها، ثم رجع فقال: من ها هنا أرقيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 حتى أفاقت لثلاث، فكأنه ما كان بها شيء. وكانت عندي طفلة استرخى وركها. فمضت بها امرأة إليه، فرقاها فأتت صحيحة. وذكر أنه كان يرقي الناس الذين يأتون إليه جملة، ويجد كل إنسان منهم برء نفسه، على وجهه. فدخل فيهم رجل مشرقي، غطى وجهه. فلما رقاهم وخرجوا، أُعلم بذلك أبو إسحاق، فقال: الليلة يعمى. فسئل عنه، فقيل ما مرت عليه ليلة أشد من تلك الليلة. قال ابن شبلون: وكانت رقيته بالحمد لله، وقل هو أحد، والمعوذتين. كل ذلك سبعاً، ثم يقول في آخر دعوته: ببغضي عبيد، وذويه، وجاء نبيك وأصحابه، وأهل بيته، اشف كل من رقيته، فيشفى. وذكر أن اسماعيل المشرقي، صاحب القيروان، اشتكت عليه ابنة عينها، وأعيى الأطباء أمرها فقيل له: لو رقاها السبائي. فأرسلها مع عجوز متنكرة لئلا تعرف. فرقاها أياماً فبرئت. فسألها اسماعيل بما رقاها. فأخبرته بما تقدم. فقال القابسي: كنت عنده، فكثر دخول الناس عليه. فقلت كيف يجد الشيخ قلبه، عن كثرة دخولهم. قال: فحوّل وجهه إلي، وقال: يا أبا الحسن، ما أدري دخول من يدخل إلا كدخولهم المسجد، يصلون ويخرجون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ثم عاودتني نفسي، فقلت: هل يجد في نفسه لكثرة إقبالهم عليه شيئاً؟ فحوّل وجهه إلي، وقال لي: يا أبا الحسن، كان ذلك مرة، فما عاد. قال بعضهم: عند دخولنا إليه اعتقدنا التوبة، مخافة أن ينطقه الله فينا بشيء. وقال أبو إسحاق: مشيت الى ابن أبي المهزول، فعلمني اسم الله الأعظم. ثم أنسيته. ولعل ذلك خير لي. قال: ودخلت علقة في فم صبي بدوي، فدُلّ أبوه على الطبيب ابن البراء في إخراجها، فعاناها بما قدر، فلما أعياه، قال له: هذه استطاعتي. فامض بابنك الى السبائي، لعله يدعو لك فيفرج عنك. فسار إليه وأخبره بقصته، والناس وراءه. ثم حرك شفتيه، وقال للفتى: تقدم. وقرأ على فمه وأومأ بيده الى العلقة فسقطت من فيه. قال القابسي: قال لي البقالي بمصر هذا: يطرقني ما يمنعني النوم. إما لهمّ أو وجع فأسهر حتى إذا كان آخر الليل، ألقيت علي الراحة، ونمت، وذهب عني ما أجد، وهو الوقت الذي كان يقوم فيه أبو إسحاق. وذكر أنه كان أرسل الى حال الراحة. وذكر له بعض أصحابه: أنه مرّ بموضع كذا. فإذا بشيخ لم ير أجمل منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 فقال له أبو إسحاق: لعلك قالت لك نفسك، إنك خير منه. والله ما أرى بي فضلاً، على أهل الكبائر من المسلمين. فإذا رأيتم أهل البلاء، فاحمدوا الله على العافية. وذكر أن الرجل رؤي بعد ذلك قد تاب وحسن حاله. قال محمد بن أدريس: خرجت أريد الحانوت، فلقيت أبا العباس بن علي بن غانم، فقال لي: وأنتم هنا. والله لا سكنتم هذا الدرب الوادي معي، فاعملوا على الانتقال، لأنكم من حزب السبائي، وهو دنيء. فخوفني، فجئت الى السبائي، فأخبرته. فقال لي: ليس عليك منه شيء. إنما هو كلب ينبح. اللهم عاجله ولا تمهله. فلما خرجت من عنده، وقربت من داري، إذا به قد أُتي به ميتاً من الحمام. قال: وكان رجل من الجند يؤذيه، قال بعضهم: فسمعت منه وقد رآني خارجاً من عنده، سبّاً. فوصلت الى الدار فتوضأت فسمعت بكاءً فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: مات ذلك الرجل الآن. ودخل إليه رجل من حاشية السلطان، ففحمه الشيخ فخرج من عنده، فلقي بعض أصحابه، فقال له قصته معه. ثم قال: سوف ترى أنت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 قال الحاكي: فخرجت من عنده الى داري، فبعد ساعة خرجت. فإذا الناس يقولون: مات فلان. فجئت الى الشيخ، فأخبرته. فقال: قد كفينا ما نحذر، والحمد لله. ونقل إليه، مقال اسماعيل في خطبته: أن حسيناً، يعني الأعمى الشاب الشيعي، جاء بنقطة من قلّة وهذه القلّة بين أظهركم - يعني نفسه - فقال أبو إسحاق: عجب من نقطة من قلة خرقت المشرق والمغرب، اللهم اكسر القلة. فمات اسماعيل بعد ذلك بأيام. قال خادمه أبو سعيد: كنت ليلة عنده، فحبسني بحديثه، الى أن ضرب البوق. وكانت علامة أن لا يمشي أحد إلا من خرج لفساد. فمن وُجد بعد ذلك ضربت عنقه. فلما فرغ من حديثه، سلمت لأخرج. فقالت لي زوجته: قد ضرب البوق. فقال لي الشيخ: اجلس. فقلت: الوالدة تظن أني أصبت. فقال لي: اصبر يا أخي. فوقفني بين يديه، وقرأ علي، وأقبل يشير عن جهاتي، وسمعته آخراً يقرأ بيَس. ثم دعا، وقال لي: حفظك الله بين يديك، وخلفك، ويمينك، وشمالك، وفوقك، وتحتك. فخرجت فمررت بساع وكلاب وعساسة في غير موضع. فما نبح علي كلب، ولا كلمني أحد، حتى وصلت داري. قال: وكان لبعضهم غلام أصيب ببصره، فسئل الشيخ له في الدعاء، فقال: امضوا يكن خيراً إن شاء الله. فلما أكمل تلك الليلة، أبصر الغلام. قال أبو محمد: وقعت له هرة في البئر. فدخلنا عليه فوجدناه واقفاً وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألناه فما أخبرنا حتى ضرب الباب، فدخل إنسان، فجرد ثيابه، وائتزر بمئزر، وسلم. فقال له: لك حاجة، فأخبره، فنزل في البئر، فأخرجها. وذهب. فقلت له من هذا؟ قال: لا أدري. قلت: أرسلت فيه؟ قال: لا. قالوا: وأخذ الحاشد رجلاً فقيراً، فحبسه وقيده، فمضى ابنه الى أبي إسحاق، فأخبره، فقال له: غداً يخرج أبوك إن شاء الله تعالى. قال: فأنا في الليل، إذ أسمع صائحاً يقول: يخرج فلان، وتحل قيوده. ومضى بي الى الحاشد، فقال: امض لا سبيل عليك. فقلت: سألتك بالله ما السبب؟ قال: جاءني الليلة فارس بيده حربة. وقال لي: قم أخرج فلاناً، وإلا نحرتك بها. قال القابسي: كنت عند أبي إسحاق السبائي، إذ أتاه رجل مذعور، فقال له: إن السلطان أمر بنهب طعامي، وعبيدي وماشيتي، وقد خرج رسوله لذلك. فقال له الشيخ: كفاكه الله. فخرج من عنده، فإذا بقوم من أهل المنزل، فسألهم. فقالوا: لما وصل رسول السلطان لمنزلك وفتح المطمر، أتاه آت فنهاه أن يتعرض لشيء، قال: واختلف رجلان أيهما أفضل: مروان الزاهد أو السبائي. فدخلا عليه. فوجداه في الصلاة. فلما أكملها، حوّل وجهه، وقال: ما بال قوم قعدوا بلا شغل، فلان أفضل من فلان، أما لهم في أنفسهم شغل؟ قال أبو سعيد خادمه: اشتريت سلعة، وأشركت فيها الشيخ، فربحت فيها ربحاً. فجالت نفسي وأدركتني رغبة. فقلت: قد كان الشيخ مستغنياً عنها، وأنا ذو عيال، ثم حملت الى الشيخ حصته. فلما رآني تبسم، وقال: الناس يجولون على إخوانهم، ويتّجرون فيما ابتدأوه من الجهل. امض بها. فأخذني أمر، وقلت: لا أفعل. ثم قلت له: هذا أمر ما علمه إلا الله عز وجل. فقال لي: للناس رؤى ومنامات. ودخل عليه في جملة الناس رجل لا يعرفه، من المشارقة. فلما سلم ودخل، رفع الشيخ رأسه، وقد احمر وجهه، وقام شعره. وقال: الشيطان في داري، ثلاث مرات، ففر المشرقي. وقال السبائي رضي الله تعالى عنه: قمت بين أبواب بيتي، فسمعت حساً دخل من الباب فضربت الأرض بكفي، وعيني مغلقة. وأنا يقظان. فذهب ناحية الجبانة. وأنا أسمعه يقول: ما ندعُ أحداً يقربك، لا نائماً ولا يقظاناً. رحمه الله تعالى. البوق. فقال لي الشيخ: اجلس. فقلت: الوالدة تظن أني أصبت. فقال لي: اصبر يا أخي. فوقفني بين يديه، وقرأ علي، وأقبل يشير عن جهاتي، وسمعته آخراً يقرأ بيَس. ثم دعا، وقال لي: حفظك الله بين يديك، وخلفك، ويمينك، وشمالك، وفوقك، وتحتك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 فخرجت فمررت بساع وكلاب وعساسة في غير موضع. فما نبح علي كلب، ولا كلمني أحد، حتى وصلت داري. قال: وكان لبعضهم غلام أصيب ببصره، فسئل الشيخ له في الدعاء، فقال: امضوا يكن خيراً إن شاء الله. فلما أكمل تلك الليلة، أبصر الغلام. قال أبو محمد: وقعت له هرة في البئر. فدخلنا عليه فوجدناه واقفاً وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألناه فما أخبرنا حتى ضرب الباب، فدخل إنسان، فجرد ثيابه، وائتزر بمئزر، وسلم. فقال له: لك حاجة، فأخبره، فنزل في البئر، فأخرجها. وذهب. فقلت له من هذا؟ قال: لا أدري. قلت: أرسلت فيه؟ قال: لا. قالوا: وأخذ الحاشد رجلاً فقيراً، فحبسه وقيده، فمضى ابنه الى أبي إسحاق، فأخبره، فقال له: غداً يخرج أبوك إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 قال: فأنا في الليل، إذ أسمع صائحاً يقول: يخرج فلان، وتحل قيوده. ومضى بي الى الحاشد، فقال: امض لا سبيل عليك. فقلت: سألتك بالله ما السبب؟ قال: جاءني الليلة فارس بيده حربة. وقال لي: قم أخرج فلاناً، وإلا نحرتك بها. قال القابسي: كنت عند أبي إسحاق السبائي، إذ أتاه رجل مذعور، فقال له: إن السلطان أمر بنهب طعامي، وعبيدي وماشيتي، وقد خرج رسوله لذلك. فقال له الشيخ: كفاكه الله. فخرج من عنده، فإذا بقوم من أهل المنزل، فسألهم. فقالوا: لما وصل رسول السلطان لمنزلك وفتح المطمر، أتاه آت فنهاه أن يتعرض لشيء، قال: واختلف رجلان أيهما أفضل: مروان الزاهد أو السبائي. فدخلا عليه. فوجداه في الصلاة. فلما أكملها، حوّل وجهه، وقال: ما بال قوم قعدوا بلا شغل، فلان أفضل من فلان، أما لهم في أنفسهم شغل؟ قال أبو سعيد خادمه: اشتريت سلعة، وأشركت فيها الشيخ، فربحت فيها ربحاً. فجالت نفسي وأدركتني رغبة. فقلت: قد كان الشيخ مستغنياً عنها، وأنا ذو عيال، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 ثم حملت الى الشيخ حصته. فلما رآني تبسم، وقال: الناس يجولون على إخوانهم، ويتّجرون فيما ابتدأوه من الجهل. امض بها. فأخذني أمر، وقلت: لا أفعل. ثم قلت له: هذا أمر ما علمه إلا الله عز وجل. فقال لي: للناس رؤى ومنامات. ودخل عليه في جملة الناس رجل لا يعرفه، من المشارقة. فلما سلم ودخل، رفع الشيخ رأسه، وقد احمر وجهه، وقام شعره. وقال: الشيطان في داري، ثلاث مرات، ففر المشرقي. وقال السبائي رضي الله تعالى عنه: قمت بين أبواب بيتي، فسمعت حساً دخل من الباب فضربت الأرض بكفي، وعيني مغلقة. وأنا يقظان. فذهب ناحية الجبانة. وأنا أسمعه يقول: ما ندعُ أحداً يقربك، لا نائماً ولا يقظاناً. رحمه الله تعالى. ذكر شمائله مع الناس وتجمّله معهم، وتواضعه، رضي الله تعالى عنه، وغلظته على أئمة الجور وأهل البدع وبني عبيد حكى الأجدابي قال: كان الشيخ أبو إسحاق، متجملاً مع من يدخل عليه. قال أبو علي حسان: لجأت إليه مرة، فلم أزل عنده، من غدوة الى الظهر. ما قال لي شيئاً. ولا قام ولا ركع. ولا بال. وكذلك كانت عادته، فيمن يدخل عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 قال أبو سعيد القلال، خادمه، قال لي: لا تقض لي حاجة إلا بنيّة. قال حسان: وكان لا يتمالك، عهدي به ضحك مرة ضحكاً عظيماً، وما استحى أن يتجمل، وبحضرته قوم غرباء. فرأيت بعض من حضر استحى، فما اعتذر هو من ذلك، وقصده رجل من سجلماسة. فلما عرف الشيخ بذلك قال: أنا أقوم إليه، فتلقاه وسلم عليه، ووقف عليه، ووقف معه ساعة، ثم دخل كئيباً. فجثا على ركبتيه، وجعل يضرب بيديه إحداهما على الأخرى. ويسترجع. فسئل، فقال: رجل من سجلماسة. جاء الى زيارتي وما قدري أن أُزار من سجلماسة، والله الذي لا إله إلا هو، ما أستحق إلا من يجلسني في الزقاق ويقول: - لكل واحد ممن جاز - ألطم. وقد سأل الله، أن يُنسي الشيعيّ اسمه. وكان عبد الله بن هاشم يقول: كنت إذا اجتمعت معه يقول لي: ذلك الذي يسكن عند الربع فأقول له: السبائي. فيقول: نعم. وقال معدّ يوماً: رجل في بيت من قصب، بقرب الفحص يشتمنا، ما قدرنا عليه بشيء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 قال بعض عبيده: من هو نقطع رأسه؟ فقال معدّ أسكت يا عبد السوء. فقال له: موسى اليهودي، إنك لن تقدر عليه. ولما هزم اسماعيل أبا يزيد، ووصل الى القيروان وجه في شيوخها، فوجه في مروان بن سعدون الخطيب. وكان يشتمهم، على المنبر. ودخل عليه فلم يسلم عليه، لا وقت دخوله، ولا وقت خروجه، وجعل كلما كلمه، لا يزيد على: ما شاء الله، حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم وجه الى أبي إسحاق السبائي، فامتنع من المجيء إليه، فخرج اسماعيل الى جهة الساحل، فوقف عنده، ووجه رجلاً فيه. فقال له: لابد من خروجه إليّ فوصل إلي الرجل وأعلمه وشدد عليه، فقال: لا سبيل الى ذلك، فقال: ولابد قال: نعم، فاصبر حتى أتوضأ وأصلي ركعتين. قال له: يطول عليه الأمر، وأنت بطيء الوضوء. قال: لابد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 فخرج الرجل ووقف على الباب وتوضأ أبو إسحاق. وركع ثم قام وتقلد سيفه، وأخذ رمحه، ولبس لامته، وخرج. فلما حصل على باب الدار ثار ثورة شديدة، فقال له الرجل: ما هذا. قال: عاهدت الله أن لا ألقاه إلا على هذا الحال. ولا سبيل الى نكث ذلك، فبكى الرجل، ومن حضر، وقال له: لا سبيل الى مسيرك بهذه الحالة فارجع. ومضى الرجل فوجد اسماعيل ينتظره. فقال: وجهتني الى رجل مصاب في عقله. فمضى اسماعيل وكفي شره. قال أبو إسحاق: كنا بمناخ أنا والممسي، وربيع ومروان، وأبو العرب، وجماعة. إذ خرج علينا أبو يزيد، فقال: بايعوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج الى غزاة، ولا بعث حتى جدّد البيعة في أعناق الصحابة. فسكتوا بأسرهم. فقال أبو إسحاق: نعم، نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومذهب مالك. قال: فقلت. فأنت رجل من أهل القبلة، توحد الله، خرجت لجهاد أعداء الله تعالى. فخرجنا ننصرك عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 فوثب أبو يزيد، وقال: لا بأس إذا قالوا. وذكره معد يوماً فقال: أعد لنا السلاح، وتربص بنا الدوائر، وكفّرنا وشتمنا. وعلّم الناس الجرأة علينا، حتى يتأكد عند الكبير والصغير. وأعان قوم عليه، في المجلس، وتكلم قوم له، فأعلم بذلك، فزاد أبو إسحاق حينئذ في السلاح، وأصلح ما كان عنده منه. قال: واستأذن عليه يوماً صاحب الحرس، فهرب كل من كان معه، ومنهم ابن أبي زيد، ولم يبق معه إلا القابسي. فقال الشيخ: من هذا؟ فقال: أنا فلان فقال: أدخل الشيطان، ما يريد الشيطان، أخرج الشيطان، ما كلمه يومئذ إلا بشيطان. فلما خرج، رجع مَن هرب فقال لهم: ما هذا حق الصحبة تهربون وتتركوني. ولامهم على فعلهم، وكان لا يدخل على أبي إسحاق أحد من حاشية القوم، ولا قضاتهم، إلا ابن هاشم. لا غيره، لأنه كان يشتم بني عبيد عنده. قال بعضهم: كنا يوماً عندهم، إذ دخل صقلي، عليه كسوة ورائحة. فسأل عن الشيخ، فلم يجبه أحد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 فقال الشيخ: تكفرون ثم ترسلون إلينا ندعو لكم. فانصرف الصقلي. ذكر وفاته رحمه الله تعالى توفي الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى ورضي عنه، لثمان بقين من رجب سنة ست وخمسين وثلاثماية. مولده سنة سبعين ومايتين. قال القابسي: لما احتضر أبو إسحاق رأى من حضر نوراً عند وجهه. ومرّ على صدره. ثم الى رجليه. ثم خرج من البيت، فقبض الشيخ. ولما قبض بادر الشيوخ الذين حضروه: ابن أبي زيد، رحمه الله تعالى، وابن شبلون، وغيرهم، الى غسله، وكفنه، مخافة أن يوجه لهم معدّ كفناً - على عادتهم - فجاء ابن أبي هاشم بالكفن، وهم قد فرغوا منه، فجعل من فوق. فلما خرج به الى الجبانة. قطّعوه قطعة قطعة. ولما رأى معد، اجتماع الناس لجنازته أرسل عسلوج الولهاجي، يبدّد الناس، - وكان والي القيروان - فكان الناس يلقونه، ويقولون له: النبي وصاحبيه. فيقول لهم: نعم، خوفاً منهم، ومعد تحت قلق الى أن دفن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 قال ابن التبّان: لما توفي رجعت الى الدار، فلما تحينت وقت غسله، خرجت لحضوره، فإذا شيخ لقيني، فسألني عن مسيري فأخبرته، فقال لي: قد صُلّي عليه؟ وكما جئت. فغمني ذلك. فقلت: أمضي لأكمل أجري. فوصلت الى داره. فإذا به لم يغسل. فعلمت أنه إبليس، أراد أن يفوّتني ذلك. رحمة الله ورضوانه على سيدنا أبي إسحاق السبائي. محمد بن مسرور العسّال رحمه الله تعالى أبو عبد الله. كان شيخاً فاضلاً، من أهل العلم سمع بإفريقية، من عبد الله بن الخبّاز. وسهل القبرياني، وعبد الرحمن الورقة، ويحيى بن عمر، وابن معتب، والمغامي، وغير واحد. ورحل فسمع بمصر مقدام بن داود، وعلي بن عبد العزيز، وأجازه يونس الصدفي. وكان يقوم الليل كله، هو وكل من في داره. ولقد ذُكر أنهم باعوا خادماً، سوداء، فرجعت إليهم، وقالت بعتموني من اليهود. فقالوا لها: إنهم مسلمون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 قالت إنهم لا يقومون الليل، وهو والد الفقيه، أبي حفص ابن العسّال. وكانوا ثلاثة إخوة: أبو عبد الله، هذا. وأبو حفص عمر، سمع محمد بن عبد الحكم، يونس بن عبد الأعلى، ومات قديماً. وأبو سليمان، كان نبيلاً ثقة، يسمى حمامة المسجد، لملازمته. وكان يميل الى الحديث. وكان أبو عبد الله، هذا، كثير الصلاة والتلاوة، يختم كل ليلة ختمة. وكان بينه وبين عبد الله بن مسرور بن الحجام المتقدم ذكره قبل هذا، مباعدة بسبب العلم. وكانت وفاتهما في يوم واحد، سنة ست وأربعين وثلاثماية، وابنه أبو حفص، عمر بن محمد، رحمه الله تعالى. عمر بن محمد بن مسرور العسّال قال أبو بكر المالكي: كان رجلاً صالحاً، خيراً فاضلاً، فقيه البلد، ثقة جيد الحفظ، مفتي أهل زمانه، ذا سمت وصيانة، وورع، وديانة، لم يغمص عليه في حداثته، ولا كبره شيء. سمع من أبيه وأبي بكر بن اللباد، وبمصر من بكر بن العلاء، وكان أبو إسحاق السبائي، يقول: ما تطيب على قلبي فتيا، غير فتيا أبي حفص، لأنه يشيب بورع، وخوف وشدة مراقبة، وإشفاق وحذر. وكان لا يقوم لأحد، إذا دخل عليه، إلا له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 وكان أبو القاسم عبد الحق بن شبلون يقول: أبو حفص أفقه من أبي سعيد ابن أخي هشام. وكان أبو جعفر الأجدابي يقول: أبو سعيد أحفظ، وأفقه. قال بعضهم: قلت لأبي إسحاق السبائي، يدخل عليك العلماء، فلا تقوم لأحدهم إلا لأبي حفص. فقال لي: أبو حفص عالم عامل. وكان يقول: إذا أردت أن ترى العالم العامل، فعليك بأبي حفص. قال أبو بكر: وكان قد جمع الله فيه خصال الخير كلها. وكان المتعبدون يعظّمونه ويفضلّلونه. وكانت له همة عالية، ومحضر عظيم، ولكنه لم يطل عمره. وتوفي في حياة أبيه. قال: ودخل يوماً على أبي إسحاق، فقام إليه، وتلقاه وصافحه، وقال له: ما الذي أتى بك؟ فقال له أبو إسحاق: جمع الله شمل المسلمين بك، وأبقاك لهم. وتوفي شاباً، وأبوه حي. ذكر القابسي، أنه دخل على أبي عبد الله، وابنه أبو حفص في النزع، وهو جالس وفي يده جزء من القرآن، وفي المجلس أبو سعيد ابن أخي هشام، وابن التبان، وابن أبي زيد رحمه الله تعالى، والشيخ على حاله يقرأ جزأه، ثم يحوّل وجهه إليهم ويقول: كيف رأيتم أبا حفص؟ فتقول الجماعة: بخير إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 الى أن مات. فوجموا وسكتوا. فحوّل الشيخ وجهه إليهم، وقال: مات أبو حفص. فقلنا: نعم. أصلحك الله وجبر مصابك. فثنى الجزء على إبهامه، ثم حوّل وجهه، وهو في مكانه، وقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت صوّاماً قوّاماً، حافظاً لكتاب الله، عز وجل، عالماً بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد طمعت أن أكون في صحيفتك، فالحمد لله الذي جعلك في صحيفتي. ثم قال: خذوا في شأنه. وأقبل على مصحفه. قال ابن شبلون: لما مات وغسل، وكفن وأبو عبد الله أبوه حاضر، وأبو سعيد ابن أخي هشام وأبو الأزهر بن معتب وأبو محمد بن أبي زيد، رحمهم الله تعالى، وأبو محمد بن التبان، وغيرهم من أهل العلم. قال الغاسل لأبيه: ما أعظمها من مصيبة. فقال له: لا تقل. ثواب الله تعالى خير منه. ثم قال أبوه: رحمك الله يا أبا حفص، لقد كنت مباركاً علينا في دنيانا وأخرانا، أما دنيانا فكان يجري على يديك قوتنا، وأما أخرانا، فكنت أقول: لعلي أكون في صحيفتك، فقد صرت في صحيفتي. وعزه فيه السبائي، فقال له: يا أبا عبد الله، إنك كنت تريد أبا حفص، للدنيا. وأنا كنت أريده للآخرة، فأنا أحق بالتعزية منك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين وثلاثماية. وهو ابن نحو أربعين سنة وأبوه حي. وصلى عليه أبوه رحمه الله تعالى. أحمد بن أبي رزين الخياط سمع من يحيى بن عمر، وأحمد بن أبي سليمان، وأبي عمران الحداد، وأبي زيد التوزري، ومالك القفصي. وسمع منه أبو محمد بن هاشم بن الحجة. قال المالكي: له فقه وعلم بالحديث وصلاح. توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. حمود بن مسلم القابسي. ذكره المالكي. قال: وكان الممسي يفضّله ويذكر من فضله وأن السلطان أراد أن يوليه شيئاً له من نعمته، وقبضت منه، ولم يل شيئاً. يروي عن يحيى بن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 الجزء الرابع بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم من أقصى المغرب درّاس بن اسماعيل كنيته أبو ميمونة. من أهل مدينة فاس. سمع من شيوخ بلده. وبإفريقية من أبي بكر ابن اللباد وغيره. وبالأندلس، من شيوخها. وله رحلة، حجّ فيها. وسمع من علي بن أبي مطر. وبالاسكندرية كتاب ابن المواز، وحدث به بالقيروان. سمعه منه أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي، وغيرهما. ودخل أيضاً الأندلس مجاهداً، وطالباً. فتردد بها في الثغر، فسمع منه أبو الفرج بن عبدوس، وخلف بن أبي جعفر، وغير واحد. وأراه رحل لبلدنا. فقد حدث عنه أقوام، من كبارهم، كأبي عبد الله محمد بن علي بن الشيخ، وأخيه حسن بن علي، وعمر بن ميمون بن بكر القيسي، وحمود بن غالب الهمداني وغيره. قال المالكي: كان أبو ميمونة من الحفّاظ المعدودين، والأئمة المبرّزين من أهل الفضل والدين، ولما طرأ الى القيروان، اطلع الناس من حفظه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 على أمر عظيم. حتى كان يقال: ليس في وقته، أحفظ منه. وكان نزوله عند ابن أبي زيد، وظهر تقصيره بأهل القيروان، وشفوفه على كثير منهم. قال القاضي أبو الوليد ابن الفرضي: كان أبو ميمونة فقيهاً حافظاً للرأي على مذهب مالك. قال أبو عبد الله بن عتاب: كان يعرف بأبي ميمونة المحدّث. قال أبو الوليد الباجي: كان شيخاً صالحاً. وذكر أنه دفع ديناراً لمن يشتري له طعاماً، فأتاه. فقال له: اشتريت واجتهدت. فوصف له كيف كان الطعام، والزرع. فقال ردّ علي، ولا حاجة لي به. وذكر المالكي أنه كان أحفظ أهل زمانه بمذهب مالك، وأصحابه. وذكر عن بعض أصحاب أبي بكر ابن اللباد، قال: كنت يوماً جالساً في مجلس أبي بكر ابن اللباد، وأبو ميمونة يقرأ عليه الموطأ فتواقعا في حديث، فخالفه فيه شيخنا. وقال أبو ميمونة: كتابي هذا قرأته بالأندلس، وبفاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 فأمر أبو بكر بإخراج موطأ ابن وهب، وكتب كثيرة، حتى تقرر عندهم حقيقة الحرف الذي اختلفوا فيه. فلما نظر أبو بكر الى الكتب والرزم، قد حلت ضاق، وقال لأبي ميمونة: يا هذا فيك استقصاء. وما أظنك تريد إلا أن تكون ديكاً. فقال أبو ميمونة: أكرمك الله. لو شئت أن أكون ديكاً في غير بلدي، كنت. فقال له أبو بكر: قم عنا ولا تغشَ لي مجلساً. قم يا هذا. واستحثه. فأخذ أبو ميمونة كتابه، ومجرته، ووقف وقال: اللهم إنك تشهد. قال المالكي: فخرجت في أثره، ومشيت معه، حتى أبعدنا وهو يسترجع. فقلت له: اجلس على هذا الدكان، حتى أرجع الى الشيخ، وأعود إليك. فرجعت وجلست بين يدي الشيخ، وقلت: أصلحك الله أنت شيخنا وإمامنا، وهذا رجل له قصد إليك، فترى إذا سألك الله لم طردته، أتقول له، لأنه قال لو شئت أن أكون ديكاً في غير بلدي. ما فعلتَ. أصلحك الله. وقلت مقبول عنك، ومسموع. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكررها. ثم قال: يا أخي، ردّ الرجل، ويدع المعاتبة. فسرت إليه فرجع معي. فسلّم على الشيخ، وجعل بعد ذلك يختلف ويحضر السماع، والشيخ غير منبسط له. فشكا ذلك الى بعض أصحابه. فقالوا له: زوجته شابة. فلو أهديت إليها عطّفته عليك، وأصلحتْ لك جانبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 فقال: والله لا أخذت العلم من طريق الرشوة أبداً، والشيخ قد انتشرت إمامته، وحلّ في قلوب الناس بالمحل الذي علمتم. وما قسّى قلبه عليّ، إلا لأمر تقدم لي، عوقبت عليه. ولكن، والله ما أصلحت إلا ما بيني وبين الله، وينتهي الأمر الى ما شاء. قال: فما طالت المدة، حتى كان إذا دخل أبو ميمونة قال أبو بكر له: يا أبا ميمونة، أشركنا في صالح دعائك. وذكر ابن التبّان، أن رجلاً، رأى سنة ثمان وخمسين في المنام، بالزيارة، وكان منصرفاً من الحج: السماءَ والأرضَ يبكيان. فسأل عن ذلك. فقيل له: على أبي ميمونة، درّاس بن اسماعيل، ولم يكونوا عرفوا موته. فإذا به قد مات رحمه الله تعالى. وتوفي بفاس بلده. سنة سبع وخمسين وثلاثماية. فيما قاله ابن الفرضي. وفي تاريخ الأفارقة. في سنة ثمان وخمسين. وقبره بباب الفتوح الى جانب السور من خارج البلد. وله بفاس مسجد يعرف به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 خير الله ابن القاسم الفارسي. من مشاهير فقهائها ومتقدميهم. سمع منه عيسى ابن سعادة الفارسي. رحمه الله تعالى. من أهل الأندلس محمد بن خالد ابن وهب بن خالد بن داود بن جعفر. المعروف بابن الصُغَيّر. التميمي. مولاهم. أبو بكر من طيء من بيت علم وجلالة. سمع من أبيه وابن وضاح وأبي صالح، وسعيد بن خمير، وابراهيم بن قاسم بن هلال، ومطرف بن قيس وغيرهم. قال ابن أبي دليم: وكان ذا بصر بالفقه، وحفظ له. واعتماده على ترجيح قول ابن الماجشون. وشوّر. وسمع منه. وولي قضء أشبونة. قال ابن حارث: كانت له عناية بالرأي والفتيا، والوثائق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وكان يشاور في الأحكام. وسمع منه الناس. توفي بعد ثلاثين وثلاثماية. وقيل تسع وعشرين. وقيل سبع وعشرين في صفر. محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة أبو عبد الله. يلقب بالبربري ابن أبي الشيخ ابن لبابة. جلّ سماعه من عمه محمد بن عمر بن لبابة. وسمع من غيره. رحل فسمع بالقيروان، من حماس بن مروان. وكان من أحفظ أهل زمانه للمذهب. عالماً بعقد الشروط. بصيراً بعللها. وله اختيارات في الفتوى والفقه، خارجة عن المذهب. وله في الفقه كتب مؤلفة. منها: المنتخبة. وكتاب في الوثائق. وأثنى ابن حزم الفارسي على كتابه المنتخبة. وأنه ليس لأصحابه مثلها. وهي على مقاصد الشرح لمسائل المدونة. قال بعضهم: ولم يكن له علم بالحديث. وكان ينحرف عنه. قال القاضي: أما قلة علمه بالحديث، فظاهر، وأما انحرافه عنه، فلا، بل يميل إليه، في تواليفه، وإن اعتمد على نظره في مسألة، أو ضعّف فيها، قول المدنيين. كثيراً ما يقول: إلا أن يأتي بذلك أثر صحيح. ولي قضاء البيرة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 والشورى بقرطبة. ثم رفع عليه أهل البيرة، فعزل عنها، وعزل بعد ذلك عن الشورى، لأشياء، نُقمَت عليه. وكان القاضي الحبيب بن زياد، قد سجل بسخطته. قال ابن عفيف: رفع الى الناصر لدين الله، عن ابن لبابة أشياء قبيحة. فأمر بإسقاط منزلته من الشورى، والعدالة، وإلزامه بيته. ومنعه أن يفتي أحداً. فأقام على ذلك وقتاً. ثم إن الناصر، احتاج الى شراء المحشر، من أحباس المرضى بقرطبة، عدوة النهر، فتشكّى - الى القاضي ابن بقي - أمرَه وضرورته إليه، لمقابلته منتزهه وباديته فيهم. وأن مطله من علاليه. فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي، وهو أولى بحفظ حرمة الحُبُس. فقال له: تكلم مع الفقهاء فيه، وعرّفهم رغبتي. وما أبذله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم يجدوا في ذلك رخصة. فتكلم ابن بقي معهم. فلم يجعلوا إليه سبيلاً. وغضب الناصر عليهم. وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم، الى القصر، وتوبيخهم. ففعلوا. فلما وصلوا الى بيت الوزارة بالقصر، انبرى لهم رجل جديد من الوزارة. فأفحش في خطابهم. وقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبّسي الأمور، وملتمسي الروايات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 لاتباع الشهوات، تبّاً لكم، ولرأيكم، فهو أعزه الله، واقف على فسوقكم قديماً، وخدعكم حديثاً، مغضٍ عنه، صابر عليه. ثم احتاج الى دقة نظركم، في حاجة، مرة في عمره، فلم يسع نظركم للتحمّل له، ما كان هذا ظنه بكم. والله ليعارضنّكم من يومه. وليكشفن ستوركم وليناصحنّ الإسلام فيكم. وكلاماً في مثل هذا. فبدأ شيخ منهم ضعيف الى الاعتذار، واللياذ بالعفو. وقال: نتوب الى الله مما قاله أمير المؤمنين، ونسأله الإقالة. فرد عليه كبيرهم، محمد بن ابراهيم بن حيون. وكان ذا منة. فقال: لم نتوب يا شيخ السوء، نحن براء الى الله من متابتك. ثم أقبل على الوزير المخاطب لهم فقال: يا وزير، ليس المبلغ أنت، وكل ما ذكرته عن أمير المؤمنين، مما نسبته إلينا، فهي صفتكم معاشر خدمه، أنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلون ظلمهم، وتتحفون مماستهم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق. وأما نحن فليس هذه صفاتنا، ولا كرامة، ولا يقوله لنا إلا متهم في دينه، فنحن أعلام الهدى، وسروج الظلمة، بنا يتحسن الإسلام، ويفرَّق بين الحلال والحرام، وتنفّذ الأحكام، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق، وتُحقن الدماء، وتستحل الفروج. فهلا إذا أعتب علينا أمير المؤمنين بشيء، لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ بعض ما قاله، تأنيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحامك وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا منك وأجبنا عنه، بما يجب. فكنت تزيّن على السلطان ولا تفشي سره. وتستحيينا قليلاً فلا تستقبلنا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله، لا يتمادى على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيرنا. فلو كنا عنده على الحالة التي وصفتها عنه، - ونعوذ بالله من ذلك - لبطل عليه كل ما صنعه، وعقده وحله، من أول خلافته الى هذا الوقت. فما بت له كتاب حرب، ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك، إلا بشهادتنا. هذا ما عندنا والسلام. ثم قام هو وأصحابه منصرفين، فلم يبعدوا الى باب القصر الأول، إلا والرسول خلفهم بصرفهم الى مواضعهم من بيت الوزراء. فلقوهم بالأعظام والاعتذار، مما كان من صاحبهم المخاطب لهم. وقال لهم: أمير المؤمنين يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف لأفتاه بجواز المعارضة، وتقلدها، وناظر عليها أصحابه. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة هذا الى عادته من الشورى. ثم أمر القاضي بإعادة الشورى في هذه المسألة فاجتمع القاضي للنظر في الجامع. وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لها، وغبطة المعاوضة فيها. فقال جميعهم بقولهم الأول، من منع إحالة الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت. فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس، فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق، فإنهم لا يجيزون الحُبُسَ أصلاً. وهم علماء أعلام، يهتدي بهم أكثر الأمة. وإذا بأمير المؤمنين من حاجة الى هذا المحشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنّة فسحة. وأنا أقول فيها بقول العراقيين، وإنفاذ ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه؟ وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم؟ وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء. فكلهم قدوة، فسكتوا. فقال للقاضي: إنْهِ الى أمير المؤمنين بفتياي. وكتب القاضي الى أمير المؤمنين بصورة المجلس. وبقي مع أصحابه بمكانهم، الى أن أتى الجواب أن يؤخذ له بفتوى محمد بن يحيى بن لبابة. وينفذ ذلك. ويعوضوا المرضى من هذا المحشر بأملاكه بمنية عجبٍ. وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المحشر. ثم جاء صاحب رسائل من عند أمير المؤمنين، وكتاب منه لمحمد بن يحيى بن لبابة، بولاية خطة الوثائق، لكي يكون هو المتولي عند هذه المعارضة. فهنّي بذلك. وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه، وانصرفوا. فلم يزل محمد يتقلد خطة الوثائق، والشورى من هذا الوقت، الى أن مات. ومنزلته من السلطان لطيفة. قال القاضي: ذاكرت بعض مشائخنا بهذا الخبر، إذ أفضت مذاكرتي له، الى تسجيل الحبيب عملية سخطته. فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر، الى سجل السخطة فهو أولى بما تضمنه، أو كما قال. إلا أن ابن عفيف، ذكر أنه مات رحمه الله تعالى، عن حال معتدلة. غفر الله لنا وله. قال ابن مفرج: كان هذا التسجيل سبباً لإقلاعه عما نسب إليه، الى توبة نصوح، رجع بها الى أحسن أحوال العلم. فلزم بيته مدة، دائماً على دراسة العلم، ومطالعته، حتى برع، وكمل. ثم حجّ ولقي جماعة من أهل العلم، وانصرف. وقد أعدلت حاله. فأقيلت عثرته. وكان سبب موته، أنه تخاصم عند القاضي ابن أبي عيسى، مع صاحب الشرطة ابن عاصم، في حمام. وتنازعا الخصومة يوماً والمجادلة، حتى اضطرب جسم محمد، وضربه فالجٌ صرعه، فحمل الى داره، في نعش. وكان سبب ميتته عاجلاً. فتوفي في ليلة الاثنين، لست خلون من ذي الحجة، سنة ثلاثين وثلاثماية. وقيل توفي في ذي القعدة، من السنة. فسمع خصمه، وهو خارج من المسجد، الذي فلج فيه، وهو متهلل شامل يقول: الحمد لله رب العالمين. اسبق عدوك ولو بيوم. يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 لأفتاه بجواز المعارضة، وتقلدها، وناظر عليها أصحابه. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة هذا الى عادته من الشورى. ثم أمر القاضي بإعادة الشورى في هذه المسألة فاجتمع القاضي للنظر في الجامع. وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لها، وغبطة المعاوضة فيها. فقال جميعهم بقولهم الأول، من منع إحالة الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت. فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس، فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق، فإنهم لا يجيزون الحُبُسَ أصلاً. وهم علماء أعلام، يهتدي بهم أكثر الأمة. وإذا بأمير المؤمنين من حاجة الى هذا المحشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنّة فسحة. وأنا أقول فيها بقول العراقيين، وإنفاذ ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه؟ وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم؟ وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 قالوا بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء. فكلهم قدوة، فسكتوا. فقال للقاضي: إنْهِ الى أمير المؤمنين بفتياي. وكتب القاضي الى أمير المؤمنين بصورة المجلس. وبقي مع أصحابه بمكانهم، الى أن أتى الجواب أن يؤخذ له بفتوى محمد بن يحيى بن لبابة. وينفذ ذلك. ويعوضوا المرضى من هذا المحشر بأملاكه بمنية عجبٍ. وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المحشر. ثم جاء صاحب رسائل من عند أمير المؤمنين، وكتاب منه لمحمد بن يحيى بن لبابة، بولاية خطة الوثائق، لكي يكون هو المتولي عند هذه المعارضة. فهنّي بذلك. وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه، وانصرفوا. فلم يزل محمد يتقلد خطة الوثائق، والشورى من هذا الوقت، الى أن مات. ومنزلته من السلطان لطيفة. قال القاضي: ذاكرت بعض مشائخنا بهذا الخبر، إذ أفضت مذاكرتي له، الى تسجيل الحبيب عملية سخطته. فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر، الى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 سجل السخطة فهو أولى بما تضمنه، أو كما قال. إلا أن ابن عفيف، ذكر أنه مات رحمه الله تعالى، عن حال معتدلة. غفر الله لنا وله. قال ابن مفرج: كان هذا التسجيل سبباً لإقلاعه عما نسب إليه، الى توبة نصوح، رجع بها الى أحسن أحوال العلم. فلزم بيته مدة، دائماً على دراسة العلم، ومطالعته، حتى برع، وكمل. ثم حجّ ولقي جماعة من أهل العلم، وانصرف. وقد أعدلت حاله. فأقيلت عثرته. وكان سبب موته، أنه تخاصم عند القاضي ابن أبي عيسى، مع صاحب الشرطة ابن عاصم، في حمام. وتنازعا الخصومة يوماً والمجادلة، حتى اضطرب جسم محمد، وضربه فالجٌ صرعه، فحمل الى داره، في نعش. وكان سبب ميتته عاجلاً. فتوفي في ليلة الاثنين، لست خلون من ذي الحجة، سنة ثلاثين وثلاثماية. وقيل توفي في ذي القعدة، من السنة. فسمع خصمه، وهو خارج من المسجد، الذي فلج فيه، وهو متهلل شامل يقول: الحمد لله رب العالمين. اسبق عدوك ولو بيوم. أحمد بن عمر بن لبابة رحمه الله تعالى. أبو عمران: شيخ الفقهاء. وابن عم هذا المقدم ذكره. قرطبي. سمع من أبيه وأحد بن خالد وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 وكان حافظاً للرأي، مقدماً فيه، جيد القريحة، وشاوره أحمد بن بقي القاضي. قال ابن حارث: لم يكن بقرطبة في وقته أكمل منه علماً، ولا أظهر فقهاً، وكان محبّباً في الناس، تحمد خصاله. عاقلاً حصيفاً فقيهاً. عاملاً حسن المعاشرة، أديباً. وأراد قاضي قرطبة تقديمه للشورى، فاعترضه ابن أيمن. وقال له: إن أردت ذلك فقدم أولادنا لذلك. فكف القاضي عنه، وتوفي حدثاً. منصرفه من الغزو. ودفن بقلعة رباح، منتصف صفر سنة خمس وعشرين بعد وفاة أبيه، بنحو عشرين سنة. أحمد بن عبادة بن نوح بن اليسع ابن شعيب، بن الجهم، بن عبادة، بن علكرة الرعيني أبو عمر. قرطبي. سمع الخشني، وابن وضاح، وأبا صالح، وبه تفقه. ورحل فسمع ابن المنذر. والعقيلي، وابن الأعرابي وغيرهم بالقيروان، والشام، والحجاز. وكان منقبضاً. سمع أحمد بن عون الله. ولي الصلاة وقلد الشورى. فلم يتقلدها فيما قاله ابن أبي دليم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 قال أحمد بن عبادة: كنت يوماً ماشياً مع محمد بن سلمة القاضي، فلقينا إنساناً في رأسه غرارة، فيها شيء مستور، وبيده كبر، فأمر القاضي بكسر الكبر، وعلم ولم يشك أن الغرارة مملوءة أكباراً. فقال: انزلوا الغرارة، وانظروا ما فيها. قال أحمد: فقلت له: ما عليك أن تفتش أمتعة الناس وخباياهم. وإنما عليك أن تغير ما ظهر من المنكر. فأمسك عما أمر به من تفتيش الغرارة. قال: ثم لقينا محمد بن عمر بن لبابة. فسأله عن ذلك. فقال مثل ما قلت له. فعطف عليّ، فقال: لقد انتفعنا بصحبتك اليوم، يا رعيني. وتوفي في رجب، سنة اثنتين وثلاثماية. أحمد بن عبد الله بن فطيس أبو القاسم. قرطبي. سمع من ابن وضاح، وأيوب بن سليمان، وطاهر بن عبد العزيز، واعتنى بالمسائل والمذهب. وشوّر في الأحكام. وكان ذا تصرف في الفقه والشروط، وذا سمت وهدي، وسجل عليه القاضي أحمد بن زياد، بسقوط نسبه من بني فطيس. توفي بعد ابن عبادة بيسير. رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 عبد الله بن ادريس بن عبد الله بن يحيى ابن عبيد الله، بن حسين بن جعفر بن أسلم مولى أبان بن عمر. مولى عثمان. قرطبي. كنيته أبو عثمان. وبيته كنانية بيت، نبيه. وبقرطبة أدرك ابن وضاح، ولم يسمع منه، وسمع من عبيد الله بن يحيى. ويحيى بن عبد العزيز، ومحمد بن عمر بن لبابة، وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل والحديث. كثير الدراسة لكتب الفقه، ومعتنياً بالآثار والسنن، عالماً بها، بصيراً بالأقضية، مقدّماً في الشورى. وحدث وسمع. وكان متواضعاً، سمتاً ذا معرفة بالخبر والنادر. وروى عنه ابن عبادة وغيره. ولم يزل على طريقة مستقيمة الى أن مات: سنة أربع وأربعين، وسنّه ست وسبعون. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 محمد بن عبد الله ابن يحيى بن يحيى بن يحيى. المعروف بابن أبي عيسى، القاضي أبو عبد الله. قرطبي من بيت بني يحيى بن يحيى بن يحيى بن أبي عيسى، منتهى النباهة والرئاسة في العلم. بها سمع من عم أبيه، عبيد الله. ومحمد بن لبابة، وأحمد بن خالد، وغيرهم. ورحل سة اثنتي عشرة وثلاثماية. فحجّ وسمع من ابن المنذر، والعقيلي، وابن الأعرابي، وأبي جعفر الدبيلي، وغيرهم. وبمصر من ابن زيان ومحمد بن النفاخ الباهلي. وبإفريقية من محمد بن اللباد، وأحمد بن زياد، والبجلي، وإسحاق بن نعمان، وجماعة كثيرة. وكانت رحلته هو ومحمد بن مسور الجبلي، وأحمد بن حزم الصدفي، وأحمد بن عبادة الرعيني، في وقت واحد. ويقال إنه اجتمع هو وأحمد بن حزم، وابن مسورة في قفولهم. قال بعضهم لبعض: ترى ما نكون في بلدنا إذا رجعنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 فقال ابن أبي عيسى لفرط ركنه: أنا أقول لكم: أما أنا، فقاض. أو كاتب قاض. وأما أنت يا أبا عمر، فلا تنفعك منافية عمرك. وأما أنت يا أبا عبد الله: فأراك تثير بالأندلس فتنة، تبقى آخر الدهر. أو كما قال. فصدقت فراسته، في ثلاثتهم كما ذكر. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للرأي، معتنياً بالآثار، جامعاً للسنن، متصرفاً في علم الإعراب، ومعاني الشعر: شاعراً مطبوعاً. وشاور أحمد بن بقي، ثم استقضاه الناصر، ببجاية وطليطلة وجيان، وصرفه في غير أمانة، فاصطدم بما استكفى. وكان آخر ما ولاه: قضاء البيرة. وقلده مع القضاء، أمانة الكور والنظر على عمالها. فكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا عن أمره. ولا يظلم أحد في جانب الكور، إلا نصره، وقام معه. ثم نقله منها فولاه قضاء الجماعة بقرطبة، في ذي الحجة. سن ست وعشرين وثلاثماية. وأقر محمد بن أيمن على الصلاة، الى أن ضعف ابن أيمن. فاستعفاه، فأعفاه. وجمعهما لابن أبي عيسى، فتولاهما الى أن مات. قال ابن الحارث في كتاب القضاة: ولم يزل محمد بن عيسى في حداثة سنه، مشهوراً بفضل. ظاهر السؤدد. طالباً للعلم. مجمعاً على تفضيله. ولقد جالسته غير ما مرة. فرأيته محمود التصرف، جميل المذهب، كريم الأخلاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 ثم ولي القضاء، فما رأينا ولا سمعنا أحداً من عقلاء إخوانه، ومنصفي معارفه، يذمّ حاله ولا يشكو تغييره، ولا نبذه. بل يصفونه بغير ذلك بما هو أشبه بأهل الكمال والمروءة. وذكر أبو عبد الرؤوف في طبقاته، فقال: كان فقيهاً عالماً نسيباً من بيت فقه وعلم، وسنة ورواية. وكان يتصرف في علم الأدب، تصرف اتفاق. وله رسوخ في أفانينه، من عربية ولغة وخبر، ومثل. وله لسان ذرب، وبيان. وكان محبباً في العامة، مقرّباً لدى الخاصة ومن الخليفة، مؤتمناً على أسراره، حتى لقد بوّأه، فراش كرامة، مع وزرائه مدنياً لمكانه، من غير أن يوقع عليه اسم الوزارة. فكان يحضرهم ويمدهم برأيه، عند استدعائه، وكان ممن قال الشعر بطبع حسن، وتصرف في ضروبه. وله في ذلك الشأو البعيد في الخطابة، لم يكن عليه في الكلام مؤونة. قال الحسن بن محمد بن فرج في كتاب الانتخاب: لم يكن في قضاة الأندلس، أكثر شعراً منه. لقد ذكره ابن عبد الرؤوف في كتاب الشعراء بالأندلس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 قال ابن حارث: وكان الناصر لدين الله، لا يخليه من تصريفه في مهماته، وإخراجه في السفرات، الى كبار الأمراء، والأمانات الى الثغور والأطراف، للإشراف عليها، والإعلام بمصالحها، والبنيان لحصونها، وترتيب مغازيها وإدخال جيوشها الى بلد الحرب. وربما أقامه في ذلك مقام أصحاب السيوف من قواد جيوشه، فيغني غناهم، بحسن تدبيره. وكان راضه على ركوب الخيل، وملابسة الحرب. وهو الذي تولى له بنيان مدينة سالم، بالثغر الأوسط، مع غالب غلامه. وخرج في أول سرية خرجت منها الى بلاد الحرب، ومنحت الظفر. فاستعد لذلك. وكان يستخلف على قضائه في غيبته قاسم بن محمد، صاحب الوثائق. وربما استخلف عبد الرحمن بن علي. رحمه الله تعالى. ذكر سيرته في قضائه، رحمه الله تعالى قال ابن حارث: فالتزم ابن أبي عيسى في قضائه الصرامة، في تنفيذ الحقوق، وإقامة الحدود. والكشف عن أحوال الشهود، والصدع بالحق، في السر والجهر. ولم يداهن ذا قدر، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان، عن هنة. حتى تحاموا جانبه. فلم يكونوا يطمعون فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وله في التقصي عن إخراج الحقوق، من أكابر الناس، أخبار كثيرة. ولقد أتى مرة وصيف معه آلة لهو، فأمر بكسرها. فقيل له: إنه لفلان - وسُمّي له رجل عظيم - فلم يثنه ذلك عن كسره. قال: وكان يذهب أحسن المذاهب. بسط الحق، وأحيى العدل، ونصر المظلوم، وقمع المظالم. ولم يطمع شريف في حيفه. ولا يئس وضيع من عدله. ولم يكن الضعفاء قط أقوى قلوباً، ولا السنة، منهم في أيامه. مع لطافة بره، وكثرة بشره، ولم تغيره خطته عن حاله، حتى لقد أعرق في ابغاء الأجر بجانبه الكبير، بأن كان يحضر مسجد الجامع، عقب شعبان من كل عام، مع السدنة والقوام لخدمته، من كنسه، وصقل مصالحه. تنويهاً لمدخل الشهر. فيشاركهم في ذلك مشمّراً عن ساعديه. وذكر الحسن بن مفرج: أن رجلاً من أصحاب ابن أبي عيسى أتاه في الليل، فذكر له أن فقيهين مشهورين يصحبانه - في قصة سمّاها - بشهادة مدخولة. نصح له فيها وحذّره من قبولها. فلما جلس من الغد، أتاه أحدهما، فأعرض القاضي، وتبسّم في وجهه، لعله يقوم فيكفى شأنه، فتمادى، فلما رأى عزمه على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 التصميم في الشهادة، تناول القاضي سحاءةً بين يديه. فكتب فيها من حيث لم يره الآخر، ثم طواها وألقاها في حجره. فلما تصفحها الآخر إذا فيها مكتوب: أتتني عنك أخبار ... لها في القلب آثار فدع ما قد أتيت له ... ففيه العار والنار فلم يكد يقرأها حتى قام منطلقاً. ولقي صاحبه، فقال له: النجاة. فقد شعر بنا. وقال القاسم بن محمد، كاتبه أيام قضائه بالبيرة: ركبنا مع القاضي، في موكب حافل، من وجوه البلد، إذ عرض لنا فتى، يتمايل سكراً. فلما رأى القاضي، أراد الفرار، فخانته رجلاه. فاستند الى الحائط، وأطرق. فلما قرب منه القاضي، رفع رأسه وأنشأ يقول: ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به في العالمين فريدا قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا فإن شئت أن تجلد فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الزمان جليدا وإن شئت أن تعفو تكن لك منّة ... تروح بها في العالمين حميدا وإن أنت تختار الحدود فإن لي ... لساناً على هجو الرجال حديدا فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه ولم يأمر، ومضى لشأنه كأن لم يره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 ذكر نبذ من أخباره وطرف من أشعاره مما أمر أن يكتب على سريره: لا يغرنّك يا محمد ليل ... بت فيه على فراش وثير منعم البال مطمئناً فلا بُ ... دّ من النعش بعد هذا السرير كم فتى منهم وكهلاً وشيخاً ... ألحدَتْه كفاك وسط الحفير وتذكّر بني أبيك أبي عيسى ... ذوي الجاه والعدد الكثير وتفكّر في تعب موت أبي بكر ... ففي ذلك أعظم التفكير قدم الزاد للمعاد ولا تن ... س إذا ما بطشت بطش القدير واتق الله واعلم هذه الأيا ... م واعمل ليوم النشور قرّب الموتَ منك مرُّ الليالي ... وأرى النقص منك واضح التعبير ومن شعره في تقلقله في تلك السفرات: ألفتني الهموم مذ كنت طفلاً ... لم ترُعني وقد علاني القتير كلما قلت سالمتني الليالي ... وصفا العيش شابه التكدير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 فبدى يستحل في كل يوم ... وهموم تطرا ودهر يجور وفلاة تختارني عن فلاة ... وصبا تستحثني ودبور فوق حرف حامل لم يكن في ... بطن أنثى ولا علتها الذكور زوجتي أيّم وابني يتيم ... في حياتي ومنزلي مهجور خلّط الدهر لي سروراً بهمٍ ... فهو يوماً ويوماً نشور كل ذا نعم من الله عندي ... فأنا حامد عليها شكور حسبي الله خالق الخلق ... فالله على كشف ما عراني قدير وله الحمد كم بفضل من ... هـ ينعمني ولكني عنود كفور وله في رفيقين له من البرابرة يسميان عجنوساً ويعقوب. أرسلهما معه بعض أمراء العلويين بالعدوة: تضمن عسكرنا أبرة ... نقيضين في قبة واحدة فقد بر يعقوب به بحرة ... إذا شط قسورة لابدة فهذا له صفو ما في المراد ... وذاك له ألف المائدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وعنجوس مستوطن لا يريم ... كما أرست الجعصة الخالدة يحن الى طيبات الطعام ... حنين الرضيع الى الوالدة ويأكل في سبعة من ومن ... لا يشتكي وحدة فاسدة وأركان لقمته ستة ... كأن له إصبعاً زائدة وله رحمة الله تعالى: لا تلمني على البكا والعويل ... ذكرتني نخيل فاس نخيلي وانسكاب الأمواه من حلل الضح ... ى دموعَ الأحباب يوم الرحيل فعلت زفرتي وطال انتحابي ... وبدت لوعتي وهاج عليلي ومنها: وبنفسي نائي المحل، قريب ... من فؤادي وجسمي، نحيل حال بيني وبينها البحر والفق ... ر وجد السرى ونفر الرحيل يا قليل الإنصاف في الحب فعلا ... ان وجدي عليك غير قليل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 ومن نوادر أخباره ما ذكره ابن عفيف في كتاب الاحتفال، قال: جاءت الى القاضي ابن أبي عيسى من باديته دجاج، وعلى بابه السفيه، المعتوه، المعروف بابن شمس الضحى - وكان في ولاية القضاة من صغره الى أن مات - وكان مملولاً، وكان من شأنه مواظبة القضاة شاكياً أوصابه. فلما رأى الدجاج قال: يا قاضي أعطني دجاجة منهن، لابد والله أن تعطيني. وكان لا يقدر على رده أحد، وإلا جاء من حمقه بالعجب العجاب. فأمر، فأعطي دجاجة منها. فمضى بها يفخر بعطية القاضي، الى أن اجتاز بدرب أبي زيد قرب الجامع. فإذا رجل من بني أبي زيد فقيه هناك، جالس بباب داره. فقال للمعتوه: من أين لك هذه؟ قال: أعطانيها الساعة القاضي. فأمكث الزيدي البادرة وأخذها من يده، وحبسها، وقال هل: خدعك القاضي. أعطاكها مغربلة، أي مهزولة - بلغة عجم الأندلس - فانصرف عجِلاً، وقُل له إنها مغربلة. وكان القاضي يلقب مغربلة. فأبدلها لي سمينة. فهاج حمق المعتوه، ومضى على أدراجه الى القاضي وهو في جماعة. فقال: هذه الدجاجة التي أعطيتني مغربلة. فأبدلها لي سمينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 فعرف أنه دهيس للتعريض به. فقال له: هاتها حتى أراها. فجسّها. فقال: صدقت، من أين علمت ذلك؟ قال: قاله الفقيه الذي بموضع كذا. فسأله عن صفته، فوصفه. فاستدل على الرجل فعرفه، وإذا به يلقب بديك البادية، فوتأت له المعارضة، فبدّل له الدجاجة وقال له: اذهب الى ذلك الرجل، واسأله أن يعطيك الديك الذي سيق له أمس من البادية، يأتيك منه نسل جيد، فانطلق المعتوه الى ذلك الرجل الزيدي، فأصابه في جماعة، فأراه الدجاجة، وقال: أعطني أنت ديك البادية الذي أتاك، يكون زوجاً لها. فعلم ما أراد، فتغير، وانتهر المعتوه، فازداد تعلقاً به، وجعل يبكي ويلطم وجهه، ويحلف أن لا يزول إلا بالديك، فاضطر الى أن أخرج له ديك داره، الذي يوقظه للصلاة فداء من حمقه، فأخذه وانطلق، وجعل الزيدي يقول: لعمري لقد انتصف مني ابن أبي عيسى، ثم سار إليه، واعتذر له، فقال القاضي: واحدة بواحدة والبادئ أظلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وذكر القاضي يوسف بن مغيث عن أبيه، أنه شاهر القاضي ابن أبي عيسى في بعض بل في دار بعض بني حدير، وقد خرجوا لحضور جنازة على فرش هناك، وجارية للحديري تغنيهم: طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة خدك التفاح وإذا الربيع تنسّمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى، مصباح قال: فكتبها القاضي ببطن كفه. ولقد رأيته كبّر للصلاة، وهي ببطن كفه مكتوبة. وأخبار ابن أبي عيسى وأشعاره كثيرة. وتوفي ابن أبي عيسى رحمه الله في آخر خرجة. أخرجه الناصر الى الثغر سنة تسع وثلاثين وثلاثماية بمغيره من طليطلة. وبها دفن منسلخ صفر، وسنّه أربع وخمسون سنة. مولده نصف ذي الحجة: سنة أربع وثمانين ومايتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 أبو عيسى يحيى بن عبد الله، أخوه غلبت عليه الرواية. سمع من عم أبيه، عبيد الله بن يحيى، ومحمد بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، وسمع ببجانة من علي بن الحسن المرّي وسعيد بن فحلون. وسمع من محمد بن عيسى القابسي. وعمّر الى أن كان آخر من حدّث عن عبيد الله. ورحل إليه الناس من جميع الأندلس، لرواية الموطأ، وحديث الليث، وسماع ابن القاسم رحمه الله تعالى. وعشرة يحيى بن يحيى، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومشاهد بن هشام، ونيف من حديث الشيوخ. قال ابن عفيف: سمعنا منه الموطأ في أزيد من خمسماية تلميذ. وقد حكى الطبري أن أبا الحسن الدارقطني، همّ بالرحلة الى الأندلس، للسماع منه. وسمع منه هشام المؤيد في حياة أبيه الحكم. وسمع منه عالم عظيم، وآخر من حدث عنه بالأندلس: القاضي يونس بقرطبة. كان أخوه قاضي الجماعة. وكان سماع أبي عيسى من عمه عبيد الله، وهو صغير. وكان بعض الناس يغمص روايته عنه لذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 قال ابن عتّاب، قال محمد بن حارث، وذكره في كتاب القضاة فقال: فحاز من تقدمه عفة وحياء وفضلاً، وانقباضاً. ورامه الناصر، عندما ولاه قضاء البيرة، أن يصرف إليه أمانة كورها، حسبما كانت بيد أخيه قبله، فأبى، وألحّ عليه الناصر، فاستعفى من ذلك فأعفاه من الأمانة. وتفرّد بالقضاء والنظر في الأحباس، فأدنى الضعيف وثبت في الحكم، وتحفظ من شهود زمانه، وتواضع في أمره، وتعفف. فلم يقبل لأحد تحفة، ولا هدية. قال محمد بن يحيى: كان أبو عيسى جليل القدر، عالي الدرجة في الحديث، حمد الناس أحكامه، وجميع أحواله. وكان من سراة الناس، حسن المركب والملبس والهيئة والصورة، كريماً، يطعم الطلبة إذا أتم مجلس مناظرته من ثمار بستانه، وينتظم للأكل، فإن فضل شيء دفعه الى الغرباء، يحملونه الى منازلهم. وقال لهم: تستعينون به في أدامكم. وكان أبو عيسى لا يرى القنوت في الصلاة. ولا يقنت في مسجده البتة. ويحتج بالحديث الذي رواه عن عبيد بن يحيى عمّ أبيه، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لقوم ويدعو على آخرين، ثم أتاه جبريل عليه السلام، فقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 يا محمد إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، إنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذاباً، " ليس لك من الأمر شيء " الآية. قال يحيى بن سعيد: فمنذ سمعت هذا الحديث من محمد بن شهاب، لم أقنت. وقال الليث: ومنذ سمعت هذا الحديث من يحيى بن سعيد، لم أقنت. وقال يحيى بن يحيى: ومنذ سمعت هذا الحديث من الليث، لم أقنت. وقال عبيد الله بن يحيى: ومنذ سمعت هذا الحديث من أبي يحيى، لم أقنت. قال أبو عيسى: ومنذ سمعت هذا الحديث من عم أبي، لم أقنت، ولا قنت في مسجدنا. وعمّر، توفي أبو عيسى صدر رجب سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وسنّه خمس وثمانون سنة، رحمه الله تعالى. محمد بن أحمد ويقال أحمد بن عبد الله بن أحمد الأموي، هذا قول ابن الفرضي وغيره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 والأول قول ابن عفيف، المعروف باللؤلؤي - صناعة أبيه - قرطبي، كنيته أبو بكر. سمع من أبي صالح، وطاهر بن عبد العزيز. قال ابن أبي دليم: كان أفقه أهل زمانه بعد موت ابن أيمن. وله بصر باللغة والشعر والوثائق. قال الرازي: كان قد برع في علم السنن، وتقدم في الفتيا، وأخذ من جميع العلوم بنصيب وافر. وكان من أهل الحدس الصادق والرأي المصيب. قال ابن الفرضي: كان إماماً في الفقه على مذهب مالك، مقدماً في الفتيا، لم يزل مشاوراً من أيام أحمد بن بقي الى أن توفي. وقد حدّث. قال اسماعيل بن إسحاق: وكان اللؤلؤي من أحفظ أهل زمانه لمذهب مالك. لم تذكر له رحلة. حدثنا أبو حارث: كان صدر المفتين وأرواهم وأفقههم في تلك المعاني. قال ابن عفيف: كان مقدّماً في الشورى، أفقه أهل عصره، وأبصرهم بالفتيا، وعليه مدار طلاب العلم، وعليه تفقه محمد بن زرب القاضي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وكان أخفش العينين ضعيف البصر، وأفرط عليه آخر عمره، حتى كان لا يستبين الكتاب في أيام المناظرة. فكان ابن زرب يلقي عنه، ويمسك الكتاب. وذكره محمد بن عبد الرؤوف الكاتب في كتابه، فقال: كان فقيهاً حافظاً متفنناً في العلوم، غزير العلم، كثير الرواية، جيد القياس، صحيح الفطنة، عالماً بالاختلاف، حافظاً للغة، بصيراً بالغريب والعربية، شاعراً حسن القريض، متصرفاً في أساليبه، راوية له، مميزاً به. رغب عن الشعر ونكب عنه، الى التبحر في علم الفقه، وعلم السنّة. فأكثر شعره في الزهد والوعظ والمكاتبات. وذكره في طبقات شعراء الأندلس. وسئل خالد بن سعيد يوماً عن مسألة عويصة، فقال للسائل: عليك بأبي بكر اللؤلؤي، فإليه تأتي هذه الأحمال الكبار، وإما تأتينا المحتملات، ونسمع. وكانت فيه دعابة، يستعملها حتى أن شواطر النساء كن يكتبن إليه بالمسائل من المجون، يتعرضن بها إليه، فيجيبهن ويتخلص، ويندر فيهن. أتته امرأة بسؤال فيه: ما تقول يرحمك الله في امرأة وعدت ثم أخلفت، ما يجب عليها؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 فكتب بأسفل كتابها: أساءت حين وعدت، وأحسنت حين أخلفت. وكتب في بعض أيام الشتاء، الى محمد بن مسرة، وكان من وجوه تلامذته، يستدعيه للمذاكرة: هلم إن اليوم يوم دجن ... الى محل مثل الضمير المكن ساكنه كطائر في وكن ... لعلنا نحكم أدنى فن في مجلس مرفرف ذي كن ... فأنت عند الظن أمشى مني وأنت في سنك دون سني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 وكتب الى تلميذه أبي بكر بن زرب شعراً: كتمت تباريحي فصرح عن سري ... سوانح تمت عن غرامي وما تدري ومنها: أتتني بصفو الود منك صحيفة ... تخبر عن ود وتنظر عن بر كأن نثير اللفظ في جنباتها ... لقائط در أو جمان من النّثر تضمنها من جوهر الشعر حكمة ... بها سحرت من كان يُنعت بالسحر إذا نشرت يزهى بها كل سامع ... ومنشدها يبدي صدوداً من الكبر يطول بها لفظ البليّ بلاغة ... ونبصر بالراوي بها طائل العمر ألا حبذا أرض يكون محمد ... بها وبنفسي حيث كان أبو بكر فوالله لو أستطيع محض مودة ... لا حللته قلبي وأسكنته صدري وللؤلؤي رحمه الله تعالى: إن وإن كنت القريض أقوله ... يوماً فليس على القريض معولي علمي الكتاب وسنة مأثورة ... وتفنّني في أضرُبٍ وتحوّلي فإذا ذكرت ذوي العلوم وجدتني ... في السبق قدام الرعيل الأول أشفي العَمى ببيان قول فاصل ... يجلو ويكشف كل أمر مشكل والجمع يعلم أنني إمّا أقُلْ ... إن أنصفوا في ذاك أن لا أفعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 واللؤلؤي كان المقرب بابن زرب أولاً. والمنتسب المال في حكاية طويلة، في كتب تواريخ الأندلسيين، يعد فيها الفقهاء. وكان اللؤلؤي في آخر عمره لا يفتي بالتدمية، ولا يقول به، لقصة غريبة جرت له مع بعض جيرانه بالبادية. وذلك أن جاراً له كان له حقل، مُداخِلٌ لحقل اللؤلؤي، يكرم عليه، ويود لو جمعه لحقله. فلا يزال اللؤلؤي يسأل صاحبه أن يبيعه منه. أو يعاوضه منه بكل حيلة، فلا يجيبه، الى أن اعتلّ صاحب الحقل، فعاده اللؤلؤي. فأظهر الرجل من السرور بعيادته والشكر له ما أطمعه في قضاء حاجته. فكلمه في ذلك ورغب إليه في تصييره له، فأظهر له الإسعاف بذلك وقال له: أحضر من شئت من الفقهاء أشهدهم على بيعي منك إياه، الى أن أستقل، فتبلغ ما تحبه، فسرّ بذلك. فقال له: فأجئ بالثمن، فقال الرجل سبحان الله يا فقيه، على مثلها من الحال، أقبض مالاً؟ لو كان عندي مال لأودعتكه، وكنت أحرز له من ذريتي. فسرّ بقوله وطمع فيه. وانطلق فجاء بعدة من الفقهاء أصحابه، فأدخلهم عليه. فإذا به قد أظهر انهداد قوته، وضعف منطقه. فدنا الفقيه منه، فقال: يا فلان أشهد الفقهاء - حفظهم الله - ببيعك مني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 قال: أشهدكم أن الفقيه اللؤلؤي قاتلي، قاصداً متعمداً لقتلي. وأنه المأخوذ بدمي. فإن حدث بي حدث الموت استقيدوا لي منه. فإن دمي في عنقه، وأنتم رهناء بالصدق عني، فدهش اللؤلؤي، وقام على الرجل يستثبته، ويذكره بما جرى بينهما. ويخوّفه الله. وسلك أصحابه الفقهاء في ذلك سبيله. فلا يرجع عن ذلك، ويقول: ما أشهدكم إلا على ما كان. ولقد تناولني بيده بعد لسانه، والله سائلكم إن تكتموها. فلما لم يجدوا فيه حيلة، خرجوا عنه. فسألهم اللؤلؤي أن يتفرقوا قليلاً، حتى يخلو به، ففعلوا، فانفرد به. فطفق يعذله ويقول له: الى هنا انتهت بك الحال، حتى تعصى الله فيّ، وتدعي عليّ بغير الحق. فقال له: وهل قلتُ إلا ما فعلت؟ دخلتَ عليّ، وأنا أحسبك عابداً مشفقاً. فسررت بذلك، فإذا بك باغي فرصة، فلما مسستني في سويداء قلبي، وأعدت عليّ من حديث هذا الحقل، ما تعلم كرهي له، لكونه قرة عيني، وأتيت عليّ، فخرجت الى ما تراه. فهل أردت إلا قتلي؟ فاعتذر إليه اللؤلؤي وقال: أنا تائب لله تعالى من ذلك، فاتق الله فيّ، وراجع عقلك بما تدري ما يؤول إليه حالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 وجدّ في الرغبة إليه، في حلّ ما عقده من التدمية عليه. فبعدما أجابه الى ذلك وقال: أما وقد مضت الى هذا فاحلف بالأيمان اللازمة أنك لا تلتمس هذا الحقل في حياتي، ولا بعد مماتي، ولا تسعى لملكه بوجه، وتحرّمه على نفسك وتدفعه عنك، ولو صال إليك بميراث، ولا تهمّ لي مع ذلك بمساءة، ولا معارضة على فعلي. ولا تحقد على ذريتي بعدي. فحلف له على ذلك. وتوثق منه. وأذن للفقهاء عند ذلك للدخول. فلما دخلوا أشهدهم أنه قد عفا عن الفقيه لله تعالى، وأسقط عنه تبعة دمه. فقال له اللؤلؤي: إنم أريد أن تكذب نفسك، وتعود الى الحق. فقال له: هذا هو الحق، فإن أقنعك عفوي عنك، وإلا فأنا على ما عقدته عليك. وأما تكذيبي، فلا أقول به، إذ أنت قاتلي. فرضي منه بذلك، وتوثق من الإشهاد عليه، وصار حديثهما عجباً، واعتقد بعد، أن لا يفتي بإمضاء تدمية بعدها. وتوفي اللؤلؤي في سنة خمسين وثلاثمائة، وقيل سنة إحدى وخمسين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 محمد بن فضيل بن هذيل الحداد أبو عبد الله. سمع من محمد بن عمر بن لبابة، وصحبه. وكان حافظاً للمسائل والمذهب ومتكلماً فيه، عالماً بالرأي والشروط، كثير الرواية والمناظرة. وكان يتجر في سوق الحديد، ويفتي أهل السوق بقرطبة. واستشهد قديماً في غزوة الخندق، سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وقال ابن أبي دليم رحمه الله تعالى: فُقِد. محمد بن عبد الله بن عبد البر ابن عبد الأعلى بن سالم بن غيلان بن أبي مروان، التجيبي، المعروف بالكشتاني، أبو عبد الله، قرطبي. سمع من محمد بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد. وكتب لأسلم أيام قضائه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 وله رحلة لقي فيها محمد بن النفاح، وأبا مسلم بن محمد بن صالح، ومحمد بن زيان، وجماعة. وكانت له بالأندلس وجاهة عند الخاصة والعامة في العلم والزهد. وسمع منه الناس كثيراً، وشوّر في الأحكام. وكانت له منزلة من الحكم المستنصر، ومحل لطيف. ولقد عتب الحكم عليه في شيء، فأقسم أن لا يطأ عتبة منزله سنة. ثم لم يمض عنه، فنصب له كرسياً خارج المجلس، فجلس عليه، الى أن كملت سنة، وعاد لعادته. ويقال إنه لم حج، دعا في محراب زكريا في البيت المقدس، لله تعالى أن يهب له حظوة من سلطانه، وظهرت استجابته. حدث عنه أحمد بن يحيى وغيره. ورحل ثانية لآخر عمره، وسمع ابن الأعرابي، وحج. ومات بطرابلس، إحدى وأربعين وثلاثمائة، فيما ظنه ابن الفرضي. وكان له ابن اسمه أحمد، يكنى بأبي عثمان. وسمع بقرطبة، ورحل، فلقي ابن الأعرابي، وسمع منه ومن سواه، وكتب عنه رحمه الله تعالى. توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 أحمد بن دحيم ابن خليل بن عبد الجبار بن حرب بن أبي حرب، قرطبي، أبو عمر. سمع من عبيد الله، والأعناقي، وسعيد بن خمير، وطاهر بن عبد العزيز، وأبي صالح، وأحمد بن خالد، وابن لبابة، وغيرهم. ورحل سنة خمس عشرة، فسمع بمكة من الديلمي، والعقيلي، وابن الأعرابي. وببغداد من ابراهيم بن حماد، والبغوي، وابن مخلد العطار، وابن صاعد، وبحران بن أبي عروبة، وعن جماعة في الآفاق. وسمع من عبيد الله بن الولي المعيطي، ومن أسلم القاضي، وغيرهما. قال ابن الفرضي: وكان معنياً بالآثار، حافظاً للسنن، ثقة. قال ابن الحارث: كان من أهل الحفظ والرواية والخير والصلاح والورع، مشهوراً بالعلم، تقياً. قال في موضع آخر: كان من أهل العلم والفقه، حافظاً لمذهب مالك. وسمع منه الحكم المستنصر جلّ ما عنده. قال ابن أبي دليم: وحمل بالعراق كتب القاضي اسماعيل، فزاد فهمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 وولي الشورى، ثم قضاء طليطلة، ثم قضاء البيرة وبجاية. فلم يزل قاضياً الى أن توفي في طاعون سنة ثمان وثلاثين. ومولده سنة ثمان وسبعين. أحمد بن عبد البر بن يحيى أبو عبد الملك، قرطبي، من موالي بني أمية، صاحب تاريخ الفقهاء والقضاة. قال ابن عفيف: كان ممن طلب العلم كثيراً، وبحث عنه، وقيد آثار العلم له، ولا أعلم له رحلة. أخذ عن شيوخ الأندلس، بقرطبة وغيرها. وعوّل على محمد بن لبابة، ومحمد بن قاسم وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وابن الزرّاد، وابن زياد، وأحمد بن خالد، وصحبه. وروى عن غيرهم، فانتفع في الرواية والدراية. وكان بصيراً بالحديث حافظاً للرأي، عالي الرواية. سمع أبو عبد الملك أيضاً من أسلم القاضي، وابن أبي تمام، وألف في فقهاء قرطبة تاريخاً مشهوراً. قال ابن الفرضي: كان بصيراً بالحديث، فقيهاً نبيلاً، متصرفاً في فنون العلم، وغلب عليه الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 قال ابن عفيف: وكانت له إشارة وسمت نبيل. وتكلم فيه الحسن بن مفرج، فاستولى على ما ذكره، بكثرة تتبعه، مثالب الأئمة في كتابه. ذكر محنته رحمه الله تعالى كان أبو عبد الملك هذا منقطعاً الى المؤيد، عبد الله بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، لا يكاد يفارقه. وله ألف تاريخ الفقهاء والقضاة. فلما سُعي الى الناصر بابنه عبد الله، وأنه يريد القيام عليه في وقت قد اقترب، وحقق ذلك عنده، أرسل في الليل من قبض على ولده فألفيَ عنده تلك الليلة فشملته المحنة. وقال الناصر: أنا أعلم أنه الذي زين لهذا العاق ذلك، ليكون قاضي الجماعة، ويأبى الله ذلك. فسجنه وعزم على أن يعاقبه، يوم عيد الأضحى الذي قرر عنده أن التدبير كان فيه عليه. فأصبح ابن عبد البر ذلك اليوم ميتاً في السجن. فأسلم الى أهله. وذلك سنة ثمان وثلاثين وثلاثماية. ومات في ذلك اليوم محمد بن عبد الله بن أبي دليم. فقدّما جميعاً فصلى عليهما ابن أبي عيسى. وعاتبه الناصر لصلاته عليه. فاعتذر له أنه لم يعرف من كان. وإنما صلى على ابن أبي دليم. وضمت إليه جنازة أخرى لا أدريها. رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 اسماعيل بن عمر بن ناصح المخزومي مولاهم، قرطبي أبو القاسم. قال ابن الفرضي وغيره: كان فقيهاً في المسائل على مذهب مالك رحمه الله تعالى، وأصحابه. حافظاً للشروط، بتصاون، صحب محمد بن عمر بن لبابة، وابن صالح، والقاضي أسلم، ونظرائهم من أهل العلم. ورحل حاجّاً وشوّر في الأحكام. وكان مشاركاً في علم الإعراب، ورواية الشعر، وقرضه. توفي سنة ثمان وثلاثين. عبد الله بن محمد بن يوسف المعروف بالمري، الأزدي أبو عبد الله، قرطبي. سمع الأعناقي، وابن خمير، وسعد بن معاذ بن عبيد الله، وأحمد بن خالد، وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم. وكان رجلاً فاضلاً، عابداً زاهداً منقبضاً، معتنياً بالحديث مع تفقهه، ودراسته. غلب عليه الزهد والانقطاع. سمع منه خالد بن سعد، وأبو محمد الباجي، وابن عبد البر. وثّقه الباجي رحمه الله تعالى. قال ابن الفرضي: توفي بعد غزاة وخشمة. قال ابن أبي دليم: توفي سنة سبع وعشرين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 أحمد بن يحيى بن زكريا رحمه الله تعالى يعرف بابن الشامة. أبو عمر. من بيت نبيه بقرطبة. سمع ابن وضاح، صغيراً، ولم يحدّث عنه. وسمع من عبيد الله، وأبي صالح، وابن لبابة، والأعناقي، وأحمد بن خالد، وأبيه، وغيرهم. وكان حافظاً زاهداً منقطعاً ناسكاً، متتبلاً. وحدّث. وله حظ من الفقه. توفي رحمه الله تعالى، نصف شعبان، سنة ثلاث وأربعين، وابنه، عبد الله، حدث. ولم يكن عنده علم. أحمد بن محمد بن مسور رحمه الله تعالى. أبو القاسم. تقدم نسبه، عند ذكر أبيه، قرطبي. سمع صغيراً من أبيه ومن ابن وضاح. وسمع من أبي صالح، ومحمد بن عمر بن لبابة. وعني بالرأي، وشوّور. وكان ذا سمت وهدى، ونالته زمانة، وانقبض. وكان أحمد بن مطرف، وخالد بن سعد يثنيان عليه. قال ابن مصلح: كان شيخاً صالحاً. وسمع من ابن وضّاح صغيراً. وحدّث، وسمع منه أبو عثمان سعيد بن أحمد، وقال: حضني على السماع منه أحمد بن مطرف. وتوفي سنة خمس وأربعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 وكان له ابنان: محمد. قال في كتاب ابن مفرج القيسي. وكان ذا علم ورواية. روى عن أبيه وأخيه. ورحل. وتوفي سنة سبعين وثلاثمائة. وآخر: مسور بن أحمد، أبو تمام. سمع من جده وابن خالد وغيرهما. ورحل فسمع من ابن الأعرابي وغيره. وحدث عنه أخوه محمد وتقدمت وفاته. أحمد بن يوسف الطبلاطي، قرطبي. أبو القاسم. سمع من عبيد الله، وابن لبابة، وأبي صالح. وكان حافظاً للمذهب. وابن أبي تمام، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. وكان فقيهاً حافظاً للرأي، بصيراً بالأحكام مشاوراً فيها، مع بصر بالإعراب، وحفظ للغة وذكاء. وكان شاعراً متقدماً، أديباً ظريفاً. توفي آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 فرج بن سلمة بن زهير بن مالك بن سرحان بن زهير ابن مالك بن أبي الأصلح البلوي قرطبي المولد، وأصله من باجه. وانتقل الى فحص البلوط. وكنيته: أبو سعيد. سمع من ابن لبابة، وجالسه وتفقه معه، وسمع من القاضي أسلم وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن، وأبان بن محمد، وأحمد بن بقي، وابن أبي تمام، وابن وليد، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. ورحل فسمع بالقيروان من ابن اللباد وغيره. وكان حافظاً للرأي على مذهب مالك. غلب عليه التفقه والمناظرة. وكان عاقداً للشروط مشاوراً في الأحكام، واستقضي بوادي الحجارة، وولي صلاتها، ثم قضاء ريّة. وله في الوثائق تأليف حسن. توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ومولده سنة ثمان وثمانين. إسحاق بن ابراهيم بن مرسة أبو ابراهيم التجيبي. مولاهم. قال الرازي في كتابه، في أعيان الموالي بالأندلس: إنه مولى بني هلال التجيبي من أهل طليطلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 كان طليطلي الأصل، وسكن قرطبة لطلب العلم، ثم استوطنها. وكان أولاً يتّجر في سوق الكتان، في دكان له. سمع ببلده من وسيم، وعثمان بن يونس، ووهب بن عيسى، وابن أبي تمام. وبقرطبة من أبي الوليد، وابن لبابة، وأسلم، وابن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ وغيرهم. وكان أكثر أخذه عن ابن لبابة، وابن خالد، وبهما تفقه. ذكر فضائله وعلمه رحمه الله قال الرازي وغيره: وكان خيراً فاضلاً ديناً ورعاً مجتهداً عاقداً. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والفهم والعقل والدين المتين، والزهد والتقشف، والبعد عن السلطان، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقدّم للشورى على يد القاضي ابن أبي عيسى، دل عليه وليّ العهد الحكم، في عدة أُريدوا لها، فكملت عدتهم إذ ذاك ستة عشر مشاوراً. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: كان حافظاً للفقه على مذهب مالك وأصحابه، متقدماً فيه، صدراً في الفتوى. وكان يناظر عليه في الفقه. وقد حدث وسمع منه جماعة. وكان وقوراً مهيباً. ولم يكن له بالحديث كبير علم. قال مؤرج الطليطلي، وذكره: كان أبو ابراهيم زاهداً عابداً، عالماً، لم يكن في عصره أبرّ منه خيراً، ولا أكمل ورعاً. من المشاهير في الجمع والعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 والحفظ. مهيباً مطاعاً، صليباً في الحق. لم يكن يتكلم مع أصحابه بالتسهيل. كان من الراسخين في العلم. ومن تأليف أبي ابراهيم: كتاب النصائح المشهور، وكتاب معالم الطهارة والصلاة. وكان الحكم أمير المؤمنين معظماً له. وكان إذا دخل عليه يمد رجليه أمامه، ويعتذر لشيخته، فيقول له الحكم: لا مؤونة عليك منا، اقعد كيف شئت. وكان صليباً، قليل الهيبة للملوك، متصرفاً مع الحق حيث ما تصرف. جالس يوماً الحكم، فذاكره أبواباً من العلم وأخبار السلف، الى أن وقع الحكم، فذكر رجلاً من القرطبيين، وثلبه، فسكت عنه أبو ابراهيم، ونكس برأسه، ولم يأخذ معه في شيء من ذكره. فوجد الحكم من ذلك. ثم رجع الى ما كانوا فيه من ذكر الصالحين. فانبعث معه أبو ابراهيم، ثم عاد الى ذكر الرجل، فأقصر أبو ابراهيم وعاد الى حاله الأول من الإطراق والوجوم. فأقصر الحكم عن ذكره. ورابَه أمر أبي ابراهيم، فأنشد متمثلاً بالبيتين المشهورين في مدح مالك بن أنس، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان هدي العلوم وعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان ولما أخذت الشهادات على أبي الخير المسمى بأبي الشر، الزنديق، أفتى أبو بكر بن السليم، والحجازي في جماعة، بالاعذار له فيمن شهد عليه. وأفتى أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 ابراهيم وابن المشاط والقاضي منذر بطرح الاعذار، في جماعة. وكان أشدهم في ذلك إسحاق بن السليم، والد أبي بكر. وخالف ابنه في ذلك، فأمر الحكم بالأخذ برأي أبي ابراهيم وأصحابه. ومر بقتله دون أعذار. فكتب إليه أبو ابراهيم كتاباً يشكره فيه على حياطة الدين، ويعتذر عن تخلفه عنه لبرد اليوم، وتوالي مطره. فأجابه الحكم بجواب منه: وجزاك الله عن الدين والحياطة للإسلام خيراً. فلقد وقع رأيك مني أفضل موقع. وقد أحسنت في توقفك والأخذ بالقدر، الذي عاقك بما أحب، الى ما أحاطك الله به، وأصلح من حالك، ولقد قلت لمن حضر في يوم السبت إثر خروجك: لن يزال هذا البلد بخير ما كان فيه مثل هذا الشيخ، أكثر الله فيه مثله، اعترافاً لله بالنعمة فيك. وهذه بصيرتي فيك، فأعلمه. وكان أبو ابراهيم لا يمسح على الخفين في حضر ولا سفر. يأخذ بذلك في نفسه، ويفتي بجواز ذلك لمن استفتاه. وكان إذا كلِّم في ذلك يقول: شيء ألفته. لا أستطيع تركه. وكلمه في ذلك تلميذه: قاسم بن أرفع رأسه، في بعض المغاربة في ليلة شديدة الريح، وقد ضجر من فعله. فتبسم الشيخ وقال: يا قاسم لا أدفع ما تقول بحجة. ولكنه شيء لم أفعله دهري كله، أفأفعله الليلة؟ ولعلي أموت فيها، فأتناقض في مذهبي. ولا احتطت فيه لنفسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 وكان شديد البرّ بوالدته. ذُكر أنه كان له أخ، قد اشتدت به الحال في بعض السنين الشديدة. فشكا إليه ضعفه. فتوجع له ودعا وانصرف الى أمه. وذكر لها ما به. وقال لها: أتيت الفقيه أخي، فما زاد على الدعاء. وانصرف أبو ابراهيم آخر النهار وقد اتّجر في سوقه، وباع كتّاناً ربح فيها ما اشترى به قوته: ربع دقيق، وثُمن زيت. فجاء بذلك الى داره، فاستقبلته أمه وعاتبته على منع أخيه من مؤاساته. فاعتذر لها بقلة ذات يده، وأنه ما كان يملك إذ جاءه، قطعة يواسيه بها. وما اشترى ما اشترى إلا من كتان باعه. فقالت له: سخطي عليك، لتحملن ما جئت به على رأسك، الى دار أخيك. تكفّر ردك له، ففعل. وراوده الحكم على أن يأتيه بابنه أحمد، وهو يومئذ صغير، وأظهر له حب ذلك. وعزم عليه فيه. فقال: يا أمير المؤمنين أما الآن فلا يصلح لذلك. والآن: أراه ميتاً - وهو واحِدي - أحبّ إلي من أن يقول الناس هذا الشيخ المرائي، استجلب بولده دراهم السلطان. فأعفاه الحكم من ذلك. قال تلميذه، وقريبه قاسم بن أرفع رأسه: تركني أبي، وإخوتي في حجر أبي ابراهيم. فكفلنا وربّانا وعلّمنا. ففتح الله عليّ ببركته. فلم يكن في قلي أحد أعظم منه لي. كنت يوماً خارجاً الى صلاة العصر، إذ فتح بابه، فإذا به ورائي، يريد مثل ما أريده. فتوقفت حتى لحقني. فسلمت عليه. فردّ عليّ مغضباً، وقال لي: يا قاسم، قط ما كان هذا تقديري فيك. فيا ليتني ثكلتك، ولم أرك صنعت ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 صنعت. فقلت: وما هو يا سيدي؟ قال: خرجت من بيتك الى الله لتأدية فريضة. فبينا أنت في ذلك، وقعت عينك على مخلوق مثلك، يريد ما أردته، فحولت وجهك إليه، عن قبلتك، ووقفت حتى لحقك؟ فقلت: يا سيدي، أنا معذور في الهوى إليك، إذ حقك عليّ كوالدي. فقال: ما أريد أن تفعله به، ولا بي، فحق الله أحق من كل حق، لا تعد لمثله. وشاوره صاحب الرد في أصحاب السوق، يلتزمون الصلاة في دكاكينهم بإمام، ويتشاغلون عن حضور المساجد، وأن أكثر ذبّاحي المجازر اليهود. فأفتى بالمنع من جميع ذلك، وبإخراج اليهود من مجازر المسلمين. وكان يوماً في مجلسه يُقرأ عليه، وقد جعل بالطلبة، إذ جاءه خصي من قبل الحكم. فقال أجب أمير المؤمنين فهو ينتظرك، وقد أُمرت بإعجالك، فالله، الله. فقال: سمعاً وطاعة، ولا عجلة. فارجع إليه وعرّفه عني، إنك وجدتني في بيت من بيوت الله، مع طلاب العلم يسمعون عليّ حديث ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس يمكنني ترك ما أنا فيه، حتى يتم المجلس المعهود، فذلك أكرم، ثم أقبل على شأنه، ومضى الخصي ثم انصرف فقال له: عرَّفته قولك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 فهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين، وعن أمير المؤمنين، عن جماعة المسلمين. فإذا أتممت فامضِ إليه راشداً. فقد أُمرتُ أن أبقى معك مذكراً. فقال له: أنا أضعف عن المشي الى باب الشدة، والركوب لشيختي صعب عليّ. وباب الصناعة يقرب إليّ. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه، لأدخل منه، هوّن على المشي، فإن ذلك إليه. وتعود. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين، فقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين الى ما سألت، ومن الباب خرجت. وجلس الخصي جانباً، حتى أكمل أبو ابراهيم مجلسه. أفسح ما كان غير منزعج، وقام الى داره، فأصلح من شأنه، ومشى إليه، وقضى حاجته من لقائه. فلما انصرف، أعيد إغلاق الباب، كما كان. وذكر ابن مظاهر، أن الخليفة الحكم، استفتاه في غلبة نفسه، على وطء بعض جواريه في رمضان. فأفتاه بعض أصحابه بالإطعام، على اختيار مالك. فقال هو: لا أدري إلا الصيام. فإنما أمر مالك بالإطعام، لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال المسلمين، فأخذ بقوله. وهذه الحكاية لا تصح جملة. لأن أمير المؤمنين في وقته ممن كان لا يغلب على هذا. وممن كان يدّعي لنفسه من الأموال المتملكة كثيراً. وممن كان لا يحبس عليه أبو ابراهيم وطاء غيره. والحكاية معروفة ليحيى بن يحيى، وذُكرت عن غيره. وذكرناها. وكان عند الناصر إعذار لبعض ولد بنيه، احتفل في استدعاء وجوه الناس له. فلم يتخلف عنه أحد إلا أبا ابراهيم، فافتقد مكانه، وساءه ذلك. فكتب إليه الحكم، يعتبه ويطلب منه وجه عذره. فأجابه أبو ابراهيم بما هذا نصه: سلام على الأمير، سيدي، ورحمة الله. قرأت - أبقى الله الأمير سيدي - كتابك، وفهمته. ولم يكن توقيفي لنفسي، إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله، ولسلطانه. لعلمي بمذهبه، وسكوني الى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب، رضي الله عنهم. فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة، بقية. لا يمتهنوها بما يشينها، ويغض منها، ويتطرق الى تنقصها. يستعدّون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم، ومن يعدو عليهم من قضاتهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله. فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره، وزال ما في نفسه، ووفى الشيخ بينته. وتوفي إسحاق بطليطلة وكان خرج مع الحكم، غازياً ليلة الجمعة في رجب، لعشر بقين منه سنة اثنتين. وقيل أربع وخمسين وثلاثماية. وسنّه خمس وسبعون. وذكر أن الخليفة الحكم، لما علم بموته قال: الحمد لله الذي كفانا شره، وخلصنا منه. وحكي أن خبر موته، ورد الى الحكم، وقد فتح عليه، فقال لا أدري بأي الفرحتين أسر، بأخذ الحصن أو بموت إسحاق، لخوفه منه، وطوع العامة له، وقيل: إنه كان حجبه عن نفسه، فاعتل. وذكر القاضي محمد بن يحيى بن أحمد في كتابه المعروف بكتاب البشرى، أنه رأى قبل موته سنة إحدى وخمسين، أنه مات - رحمه الله - وأن الملائكة تتوفاه. فخرجت رؤياه على وجهها. رحمه الله وغفر له ولجميعهم بمنّه. أى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه، لأدخل منه، هوّن على المشي، فإن ذلك إليه. وتعود. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين، فقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين الى ما سألت، ومن الباب خرجت. وجلس الخصي جانباً، حتى أكمل أبو ابراهيم مجلسه. أفسح ما كان غير منزعج، وقام الى داره، فأصلح من شأنه، ومشى إليه، وقضى حاجته من لقائه. فلما انصرف، أعيد إغلاق الباب، كما كان. وذكر ابن مظاهر، أن الخليفة الحكم، استفتاه في غلبة نفسه، على وطء بعض جواريه في رمضان. فأفتاه بعض أصحابه بالإطعام، على اختيار مالك. فقال هو: لا أدري إلا الصيام. فإنما أمر مالك بالإطعام، لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال المسلمين، فأخذ بقوله. وهذه الحكاية لا تصح جملة. لأن أمير المؤمنين في وقته ممن كان لا يغلب على هذا. وممن كان يدّعي لنفسه من الأموال المتملكة كثيراً. وممن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 لا يحبس عليه أبو ابراهيم وطاء غيره. والحكاية معروفة ليحيى بن يحيى، وذُكرت عن غيره. وذكرناها. وكان عند الناصر إعذار لبعض ولد بنيه، احتفل في استدعاء وجوه الناس له. فلم يتخلف عنه أحد إلا أبا ابراهيم، فافتقد مكانه، وساءه ذلك. فكتب إليه الحكم، يعتبه ويطلب منه وجه عذره. فأجابه أبو ابراهيم بما هذا نصه: سلام على الأمير، سيدي، ورحمة الله. قرأت - أبقى الله الأمير سيدي - كتابك، وفهمته. ولم يكن توقيفي لنفسي، إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله، ولسلطانه. لعلمي بمذهبه، وسكوني الى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب، رضي الله عنهم. فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة، بقية. لا يمتهنوها بما يشينها، ويغض منها، ويتطرق الى تنقصها. يستعدّون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم، ومن يعدو عليهم من قضاتهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله. فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره، وزال ما في نفسه، ووفى الشيخ بينته. وتوفي إسحاق بطليطلة وكان خرج مع الحكم، غازياً ليلة الجمعة في رجب، لعشر بقين منه سنة اثنتين. وقيل أربع وخمسين وثلاثماية. وسنّه خمس وسبعون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 وذكر أن الخليفة الحكم، لما علم بموته قال: الحمد لله الذي كفانا شره، وخلصنا منه. وحكي أن خبر موته، ورد الى الحكم، وقد فتح عليه، فقال لا أدري بأي الفرحتين أسر، بأخذ الحصن أو بموت إسحاق، لخوفه منه، وطوع العامة له، وقيل: إنه كان حجبه عن نفسه، فاعتل. وذكر القاضي محمد بن يحيى بن أحمد في كتابه المعروف بكتاب البشرى، أنه رأى قبل موته سنة إحدى وخمسين، أنه مات - رحمه الله - وأن الملائكة تتوفاه. فخرجت رؤياه على وجهها. رحمه الله وغفر له ولجميعهم بمنّه. أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن بن قاسم بن علقمة بن بدر أبو عمر بن المشاط الأزدي من أنفسهم. ويتولى بني أمية. وجده بدر. هو الداخل مع عبد الرحمن الداخل. وكان عربياً من الأزد. فكان ينتمي الى عبد الرحمن لدخوله معه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 وكذا قال ابن الفرضي، وأنه أزدي. وقال خالد بن سعد، إنه تجيبي. قال ابن حارث: وكان أبو مطرف المشاط، قد عني بالعلم، وروى عن ابن مطروح، وابن وضاح، وابن باز، وابن وهب، وابن نافع، ومطرف بن قيس، وقاسم بن هلال. وكان مولده سنة خمس وأربعين آخر شوال. وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وكان أحمد ابنه، من أهل العلم والتقييد. روى عن سعيد بن خمير، ومحمد بن لبابة، وأحمد بن خالد، وأبي صالح، وعبيد الله بن يحيى، والأعناقي، وطاهر بن عبد العزيز. وسمع منه ابن هذيل. وكان معتنياً بالآثار زاهداً، ورعاً متقشفاً، الغالب عليه الرواية والحديث. وولي الصلاة بقرطبة، بعد القاضي ابن أبي عيسى الى أن توفي، وسمع منه كثيراً. قال اسماعيل بن إسحاق: وكان أحمد بن مطرف فاضلاً خيراً ورعاً عفيفاً منقبضاً صدوقاً سالم الصدر، فيه غفلة الصالحين، وصحة مذهبهم. وكانت صدقات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 الحكَم تجري على يديه. فكان لا يعطي منها الدهاقين الذين أعدوها مكسبة، ويؤثر بها أهل الفقه والسنن. قال أبو الحسن الحجازي: كان ثقة حافظاً للمسائل والرأي، ركناً من أركان الدين. وكان كثير التغرر في طهارته، والأسباغ في وضوئه وغسله، يكرر ذلك ويعيد، حتى يخرج الى الإفراط. وكان لا يكاد يمس بثيابه ثياب غيره. وإذا قام عن موضع جلس فيه من لا يعلم نظافته، لم يمسه، ويقول: أحد يزكيه. ونضح ثيابه. وكان لا يقعد في موضع، ولا يستند الى شيء، حتى يستبرئ نظافته بالمسح والنفض والكنس. فيقال له في ذلك، فيقول: أستحي التوهم في هذا. وكان قد أعد لصلاته كسوة غير كسوته لمهنته، لا يلبسها لغير الصلاة. وكذلك آنيته التي يشرب منها، ويتوضأ، مجنبة عن غيرها، لا يشارك فيها، في أغشية يخبؤها. وكان قد هيأ لكل شيء من الآلة غطاء، ولا يركب دابة إلا معقودة الذيل، حذراً من شيء يعلق به، مسرفاً في التحفظ من ذلك. وابتلي مرة بامرأة غسلت نجاسة من فوق غرفة وهو مجتاز، فأصابته ولوثت ثيابه، فرجع الى منزله مقذوعاً قفاه كثيراً. وخلع الثياب واغتسل، وبدل كسوته، وأمر بغسل كسوته تلك وبيعها والبراءة مما أصابها، وتصدّق بثمنها شكراً لله، إذ وقى جسمه مباشرة تلك النجاسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 وعاده مرة من مرض اعتراه حسرامي الكاتب اليهودي. فلما استأذن عليه، انزعج الشيخ لذلك. وتقدم في قلب فرش بيته، وكشف الطريق إليه، ودعا بدفة باب الكنيف، ووضعت بين يديه، ليجلس عليها، وأبطأ عن اليهودي الإذن، الى أن هيئ ذلك كله. فلما رأى الهيئة حدس بفطنته، على ما أراده، فتوقف عن دخول البيت، واكتفى بالسؤال والدعاء إظهاراً لإعظام الشيخ، ثم انصرف، ولم يستجلسه. ومن فضائله المشهورة أن الناصر أخذته الجمعة يوماً بقرطبة، أيام تولي ابن المشاط الخطبة - وكان مطيلاً لها - فلما خرج الناصر للصلاة دعا وزيره أبا عثمان بن ادريس، وأوصى إليه أن يذكّر ابن المشاط في تخفيف الخطبة، ففعل، وألطف له القول، وقال له: إن الناصر يجد صداعاً في رأسه، هو الذي أمسكه عن الحركة الى الزهراء، ورأى أنه في حرج عن التخلف عن الجمعة. فهو يريد عونه عليها بالتخفيف عنه، والرفق به. فقال له: سمعت قولك، والله الموفق لما يُزلف منه. فلما انقضى الأذن، وخرج الناصر الى مصلاه جانب المنبر، قام ابن المشاط للخطبة، فترسّل في منطقه، واحتفل في افتتاحه وتحميده، والصلاة والسلام على رسوله، ثم أخذ في الوعظ على عباد الله، وروى في الحديث أنه يختبر يوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 القيامة، أنعم الناس في الدنيا، وأشدهم بلاءً. فيغمس المتنعم في نهر من أنهار جهنم، ثم يخرج منه، فيقال: هل رأيت خيراً قط. ويؤتى بالمبتلى، فيغمس في نهر من أنهار الجنة، ثم يخرج، فيقال: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا ما رأيت بؤساً قط. وحشد أمثال هذا وأطال، وزاد، فبكى وأبكى الناس، حتى قام في الجامع شبه المأتم من البكاء والشهيق. قال ابن ادريس: وأبلست وامتلأت غيظاً. فلا أدري أكثر ما قال. وخفت أن يظن الناصر أني لم أؤدّ الرسالة. فلما تمت الصلاة، ودخل الناصر الى مكانه بالساباط، وأذن للوزراء، فدخلوا وأنا معهم، فدعا بصاحب الصلاة، استربت. فلما وقعت عينه عليه، بشّ له. ورفع منزلته. فسري عني، فأقعده الناصر، وأقبل يثني عليه، ويكبر مشهده، وأنه ما شهد قط مثله، وأنه يرجو بركته، لما أدركه من الخشوع والبكاء والندم، وأنه متقرب الى الله تعالى بألف دينار من طيب ماله، شكراً لحضور هذا المشهد، وأنه يرسل بها الى ابن المشاط، يجعلها حيث رأى من سبل الخير، وانصرف عنه، فوصل إليه الوزير ابن ادريس آخر النهار بها، وقال له: كنت أحوطَ لدينك، فكرم الله مقامك. فقال له ابن المشاط: يا وزير، اعمل ما شئت، ويكون عملك لله، فلن ترى إلا خيراً ضماناً عليه. وكانت فيه غفلة الصالحين. فكان إذا سمع الباعة يصيحون على سلعهم، ويصفونها بغاية الجودة، يقول لمن معه: لا تقبلوا منهم. فإن أكثر ما يقولون كذب. قد خدعوني بمثله. وكان يقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحراسة سعد له، إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يخاف شيئاً. ولكن أراد أن يكون سنة لأمته. ينام أحد في المخاوف. وتوفي ليلة الأحد لثمان بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وقيل أربع وقيل ست وخمسين وثلاثمائة. اشهد قط مثله، وأنه يرجو بركته، لما أدركه من الخشوع والبكاء والندم، وأنه متقرب الى الله تعالى بألف دينار من طيب ماله، شكراً لحضور هذا المشهد، وأنه يرسل بها الى ابن المشاط، يجعلها حيث رأى من سبل الخير، وانصرف عنه، فوصل إليه الوزير ابن ادريس آخر النهار بها، وقال له: كنت أحوطَ لدينك، فكرم الله مقامك. فقال له ابن المشاط: يا وزير، اعمل ما شئت، ويكون عملك لله، فلن ترى إلا خيراً ضماناً عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 وكانت فيه غفلة الصالحين. فكان إذا سمع الباعة يصيحون على سلعهم، ويصفونها بغاية الجودة، يقول لمن معه: لا تقبلوا منهم. فإن أكثر ما يقولون كذب. قد خدعوني بمثله. وكان يقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحراسة سعد له، إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يخاف شيئاً. ولكن أراد أن يكون سنة لأمته. ينام أحد في المخاوف. وتوفي ليلة الأحد لثمان بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وقيل أربع وقيل ست وخمسين وثلاثمائة. محمد بن عبدون بن محمد بن فهد تقدم ذكر أبيه. قال ابن عفيف: كان محمد من أهل العلم والرواية، حافظاً للفقه بصيراً بالوثائق. متقدماً في ذلك. جلّ روايته عن والد. وروى عن ابن وضّاح، كتاباً واحداً من حديثه، سمعه منه. وهو يومئذ غلام ابن إحدى عشرة سنة، أو نحوها. أرى في السنة التي توفي فيها ابن وضّاح. إذ توفي ابن وضاح سنة سبع وثمانين، كما قدّمنا. وكان بين موته وموت ابن عبدون، إحدى وثمانون سنة. وحدث بالمدونة عن ابن وضاح، وأجازه. وهو آخر من حدث عن ابن وضاح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 سمع منه ابن عفيف، وأبو علي الحداد الفقيه، ومحمد بن يحيى بن مفرج، وغيرهم. قال محمد بن يحيى: كان من أهل الفقه والحذق بالوثائق، من جلة الرجال. وكان عرض له صممٌ شديد. فكان لا يكاد يسمع ما قرئ عليه، إلا ما قرأ هو. ولم ألقَ من أصحاب ابن وضاح غيره. وعرضت على اللؤلؤي وثيقة فأعجبته. فقالوا له: ما تقول فيها؟ فقال: وثيقة جيدة. قال ابن عفيف: وقد طعن أيضاً في عدالته. وعمّر. فتوفي سنة ثمان وستين وثلاثماية، وهو ابن اثنتين وتسعين. قال ابن الفرضي: مولده فيما بلغني: سنة اثنتين وسبعين. رحمه الله. عبد الله بن محمد بن يوسف بن أبي العطاف الأحدب أبو محمد، قرطبي. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والرواية العالية، عن ابن وضّاح وغيره. حافظاً للفقه. عالماً بالوثائق وعللها. متقدّماً في هذا الفن. قال: وكان يطعن في عدالته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 قال ابن الفرضي: كان من أبصر أهل زمانه بعقد الشروط. حدّثني عنه عبد الرحمن بن محمد الإمام، وأثنى عليه. وممن روى عنه القاضي ابن عمرون، رحمه الله. أبو عثمان ابن عبد ربه رحمه الله. وقال ابن الفرضي: هو سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد ربه، ابن حبيب بن سالم. قال غيره: هو ابن أخي أبي عمر، أحمد بن عبد ربه الشاعر. وجده سالم، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. سمع من ابن لبابة، والقاضي، وابن خالد، وابن أيمن، وابن قاسم. قال ابن عفيف: من أهل العلم والأدب، والحفظ للفقه، والنظر في الأدب، والحذق بالطب. وكان مشاوراً في الأحكام أيام منذر بن سعيد، وعمه أبو عمر، أجلّ شعراء الأندلس، وأمتنهم قولاً. لأبي عثمان هذا، أرجوزة في الطب، حسنة. وكان مذهبه في مداواة الحميّات بالبوارد، يخلط شيئاً من الحوار فيها، لتغوّصها في الأعضاء الباطنة، فتبعه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 على ذلك حذاق الأطباء. وظهرت له في تدبير جماعة من إخوانه منافع مذكورة. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً مشاوراً، مقدّماً في الفتيا، ثقة. سمع منه الناس كثيراً. وقد حدّث عنه أبو حرملة الفقيه. قال ابن عفيف: كان حسن الخلق، فكِهاً. وعمي آخر عمره، وأشير عليه بالقدح فأبى ادخاراً للآخرة. وما روى في ذلك من الثواب في الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، أنه قال: من نزعت كريمته، جعلت ثوابه الجنة. وأنشد له عمه أبو عمر رحمه الله: أمن بعد غوصي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي ومن بعد إشرافي على ملكوته ... أُرى طالباً شيئاً الى غير رازقي وقد أذنت نفسي بتقويض رحلها ... وأعنف في سوْقي الى الموت سائقي وإني قد أيقنت إن رغت هارباً ... عن الموت في الآفاق فالموت لاحقي وتوفي سعيد هذا سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية. فيما قاله ابن عفيف. وقال ابن الفرضي رحمه الله: سنة ست وخمسين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج قرطبي. يكنى بأبي القاسم. ومفرج هذا، مولى الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فيما قاله ابنه محمد لابن الفرضي. وقال القيسي: إنه مولى عبد الرحمن بن معاوية. قال: وكان معدوداً في فقهاء قرطبة ورواتها. صالحاً نبيهاً مسمتاً. روى عن محمد بن وضاح، وعبيد الله، وطاهر، وأبي صالح، والأعناقي، ونظرائهم. قال ابن الفرضي: لا أعلم حدّث عنه إلا ابنه، أبو عبد الله رحمه الله. وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثماية، وأما لقبه، أبو عبد الله بن مفرج القاضي، فتفرّد بعلم الحديث. وكان من أعلم أهل الأندلس به، وأقواهم عليه، وأوثقهم فيه. ورحل ولقي الناس، وسمع منه، وصنّف تصانيف جليلة. وولي قضاء ريّة. وعدة شيوخه ماية شيخ. توفي سنة ثمانين وثلاثماية رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 محمد بن محمد الصدفي أبو عبد الله. قرطبي. كان ذا سمت وهدى وعدالة. سمع مالك بن علي القطني، وابن لبابة، وعثمان بن أيوب، وكان بصيراً بالوثائق. قال ذلك ابن أبي دليم، رحمه الله. وكان ابن لبابة، يثني عليه. وذكر ابن الفرضي عن سليمان بن أيوب أنه كذبه. وكان ابن أيمن يسيء القول فيه. توفي آخر سنة ثمان عشرة وثلاثماية، قبل لحوق طبقته. عبد الملك بن العاصي بن محمد بن بكر السعدي أبو مروان قرطبي. أصله من طليطلة. وقيل من قلعة رباح. ونشأ بقرطبة. سمع بها من ابن لبابة. وأسلم: القاضي ابن سعد. وأحمد بن خالد وسعد بن رمضان. ورحل سنة ثلاث عشرة. فسمع بالقيروان، من البجلي، وأحمد بن زياد، وسمع بمصر من عبد الرحمن بن محمد اللوان، ومحمد بن زياد ومحمد بن الجبري، ولقي جماعة غير هؤلاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 ودخل الشام، فاستخلفه القاضي ابن المنتاب، على القضاء هناك. وسمع بمكة من ابن المنذر كثيراً. وببغداد من ابن صاعد، وابراهيم بن حماد، ومحمد بن الجهم، وابن مسلف، وأبي الفرج القاضي، وأبي يعقوب الرازي، وعمر بن محمد بن شريح، وغيرهم. وشهد بها مجلس المناظرة. وأقام ببغداد ثلاثة أعوام. وكانت إقامته في رحلته بضعة عشر عاماً. وأدخل الأندلس علماً كثيراً. وكان حافظاً متفنناً نظاراً متصرفاً في علم الرأي، حسن النظر فيه، مشاوراً في الأحكام، قال ابن حارث: كان قد ظهر فقهه في حداثة سنه، قبل رحلته. وشاوره إذ ذاك القاضي أسلم، ولما انصرف من المشرق، وقد مال هناك الى النظر، والحجة، رفعه الحكم، وهو ولي عهد الشورى. وألف في نصرة مذهب مالك تواليف كثيرة. منها كتاب الذريعة الى علم الشريعة. وكتاب الدلائل والبراهين على مذهب المدنيين. وكتاب الدلائل والأعلام، على أصول الأحكام. وكتاب الاعتماد، وكتاب الإبانة عن أصول الديانة، وكتاب الردّ على من أنكر على مالك العمل بما رواه. وتفسير رسالة عمر بن عبد العزيز في الزكاة، وكتاب اختصار الأقوال، لأبي عبيد. ومرض بالفالج، وتوفي يوم السبت، لثمان بقين من المحرم، سنة ثلاثين وثلاثماية. وهو ابن أربع وأربعين سنة ونصف. وفيها مات ابن أيمن، وابن لبابة، الأصغر. رحمهما الله تعالى، ورضي عن جميعهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 الحسن بن عبيد الله بن محمد بن عبد الملك بن الحسن الملقب بزونان، ابن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقدم في ذكر جده زونان. نسبه، وبيته. يكنى أبا عبد الملك، ويعرف بابن زونان، قرطبي. سمع من ابن وضاح، وعبيد الله، وغيرهما وشوّور في الأحكام مدة طويلة، الى أن توفي واستخلفه القاضي ابن بقي، على الصلاة. وكانت وفاته، سنة ست وثلاثين وثلاثماية أول رجب منها. رحمه الله. سليمان بن عبد الملك بن المبارك أبو أيوب، المعروف بأبي المشترَى بفتح الراء. وجدّه المبارك مولى محمد بن الأمير. قرطبي بيته. سمع من ابن وضاح كثيراً ومن أبي صالح، وعبيد الله. وهو الذي بوّب الكتب المختلطة الباقية على سحنون من المدونة. وكان عالماً عابداً مجتهداً فقيهاً حافظاً مشاوراً في الأحكام. سمع منه الناس كثيراً. روى عنه ابن مفرّج وابن برطال، وغيرهما. واختلف في وفاته ما بين خمس وثلاثين وسبع وثلاثين وثلاثمائة. والله سبحانه أعلم وأحكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 أحمد بن عبد الله بن سعيد رحمه الله يعرف بابن العطار. ويقال له صاحب الوردة. يكنى أبا عم، حدّث عن ابن وضّاح، واختص به. وحدّث عن غيره. قال ابن مصلح: كان من الفصحاء البلغاء. وهو كان القارئ على ابن وضاح، والخشني. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم والعناية، والتقييد، فقيهاً حافظاً للمسائل، بصيراً بالوثائق، ذكياً حافظاً، حسن الأخلاق. وكان موصوفاً بكثرة الأكل، والتهمم به. له في ذلك نوادر مغربة. منها: أنه أتى يوماً ضيعة له، فوجد وكيله بها في حصاده، وزوجه في الدار قد أعدّت لغذاء الخدمة ما يقوم بهم من خبز فطير، وجفنة بشرار اللبن. وبصل كثير. فتركت الفقيه، وسارت بقلّة تستقي فيها ماءً. فشره الفقيه لأكل ما حضره وانبسط إليه، حتى استوفاه عن آخره. وخجل من رجوعها ومشاهدتها إقفار بيتها. فركب لحينه، فلقيها بقلّتها فاستقاها، وشرب القلة عن آخرها. ثم تجشأ في وجهها جشوة منكرة. فبهتت المرأة، وقالت له بكلامها الفحمي: سواد بيت تمضي إليه. فقال لها بمثل كلامها: بل سواد بيت خرجت منه، ولا تدري المرأة ما مراده. حتى أتت بيتها فرأت ما حطمه لها. واستأنفت للقوم غداءً آخر. ومنها: أنه أكل يوماً في وليمتين، وأوفى كل واحدة قسطها. وأتى دارهم، فوجدهم يأكلون كافحاً، فاستزاد منه. ثم أتاه مناصفة من قرية وسط نهاره، بعقيل خبز طري، وفول أخضر، وخرشف. فأمعن في ذلك وأفرط عليه الشبع. وربيَ في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 بطنه الطعام، وغشي عليه. فدعي له الطبيب، فعالجه بالقيء، حتى خفّ ما به، واستراح، وانصرف عنه الطبيب. فجعل يناديه: ما ترى يكون الغدي؟ فغضب الطبيب وقال له: حجارة الواد، فإن الطوب لا يقوم بك. وتوفي سنة خمس وأربعين وثلاثماية. أبان بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار ابن واقد بن رجاء بن عامر بن مالك الغافقي، قرطبي. كنيته أبو محمد. وقيل أبو القاسم. وأصلهم من طليطلة. وقد تقدم في الطبقة الأولى من الاتباع، وبعدها ذكر نسبهم. ونباهة بيتهم، ورجالهم في العلم والجلالة بقرطبة وطليطلة. وذكرنا منهم عدة أئمة. وجماعة قضاة جلة. سمع أبان هذا من أبيه، وعبيد الله بن يحيى، وروى عنه ابناه، ومحمد بن عبد الله، وخالد بن سعد، ومحمد بن خليل، وابن أبي زمنين، وجماعة. توفي في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وثلاثماية. مولده سنة إحدى وثمانين ومايتين. يوسف بن سموال الزيات رحمه الله، قرطبي. أبو عمر. كان رجلاً ورعاً حافظاً للمذهب. وكان يفتي بالسّوق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 أحمد بن محمد بن زياد رحمه الله، قرطبي، من بيت علم وجلالة، أبو القاسم. سمع عمه أحمد. وشوّور. قال ابن الفرضي: وكان متأخراً في حفظه مطعوناً. أحمد بن محمد بن خلف بن أبي حجيرة قرطبي، يروي عن ابن خالد، ومحمد بن أيمن، وقاسم، وغيرهم. ورحل فسمع بمصر محمد بن جعفر بن أعيد وغيره. وكان زاهداً متبتلاً، منقبضاً عالماً. وتوفي رحمه الله يوم السبت، لتسع بقين من جمادى الأولى، سنة ست وخمسين وثلاثماية. وحسد صديقه أحمد بن عون الله في جنازته، فعاب الناس عليه ذلك. اليسع بن سعيد بن أصبغ الصدفي يعرف بالحجازي. قرطبي. أبو القاسم. أخذ عن أسلم القاضي. وابن أبي تمام، وابن فطيس الأبهر، وغيرهم. وكان يشاور في الأحكام. ذكره ابن الفرضي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم قرطبي. أبو محمد. ذكرنا أباه ونسبه، فيما تقدم. ويروي عن أسلم، وابن أبي تمام، وابن خالد، وابن أيمن، وعثمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن قاسم، وعبد الله بن يونس، وقاسم بن أصبغ، والخشني. وكان نبيلاً بالحديث ضابطاً لما رواه. بصيراً بالإعراب جيّدَ الكتاب. ولي قضاء بجاية والبيرة، وأحكام الشرطة بقرطبة، الى أن مات. وكانت له من الحكم أمير المؤمنين مكانة. وكان الحكم يعظّمه، وألّف كتاب الطبقات فيمن روى عن مالك، واتباعهم من أهل الأمصار. وقد نقلنا منه الكثير في كتابنا هذا. توفي فجأة بقصر الزهراء، سنة إحدى وخمسين وثلاثماية. وكان قد أفلج قبل ذلك بعام. ثم استقل شيئاً. أخوه محمد أبو عبد الله، رحمه الله سمع من رجال أخيه كلهم. وكان عالماً فقيهاً زاهداً، ورعاً عفيفاً جلداً. قال ابن الفرضي: وكان ضابطاً متقناً ثقة مأموناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 قال محمد بن يحيى الجزار: كل أصحابنا كان له صبوة ما خلاه، فإني عرفته صغيراً زاهداً. وقال أبو محمد الباجي: من أراد أن ينظر الى رجل من أهل الجنة - إن شاء الله - فلينظر الى محمد بن أبي دليم. وكان يأبى من الاسماع. الى أن توفي أصحابه. فجلس قبل موته بثلاثة أعوام، فسمع منه عالم كثير، وكان صرورة لا يطأ النساء. ولم يتداو قط ولا احتجم. قال محمد بن يحيى: كان من خيار الناس، وعلمائهم. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم الواسع، والفضل البارع، معدوداً في النسّاك الصالحين. وكان هو وعبد الله بن المعيطي، أشهر الناس عدالة بقرطبة. وكان لا يرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل، ويكمل سنه، ويقوى نظره، ويبرع في حفظ الرأي، ورواية الحديث وتبصره، ويميز طبقات رجاله، ويحكم عقد الوثائق، ويعرف عللها، ويطالع الاختلاف، ويعرف مذاهب العلماء، والتفسير، ومعاني القرآن. فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، وإلا فاسم الطلب أليق به. وكان نحيل الجسم ناسح الجلد، لا يتألم من عض البراغيث. ويعجب ممن يقلق منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 وكان كثير الصلاة والصيام، عابداً مجتهداً، وعمّر. مولده سنة ثمان وثمانين ومايتين. وتوفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن يسار مولى الوليد بن عبد الملك. تقدم ذكر أبيه وجلالة بيته في العلم بقرطبة. كنيته أبو محمد. وهو خاتمة بيته في العلم. سمع من أبيه ومن عبيد الله، والأعناقي، وطاهر، وابن لبابة، وابن خالد. وكان معتنياً بحفظ رأي مالك وأصحابه. بصيراً بالشروط، نافذاً فيها. ولي خطة الوثائق، وتصرف في قضاء استجه، وقُبْرة، وإشبيلية، وأحكام الشرطة بقرطبة. فلم يزل متقلداً لقضاء هذه البلاد، مجموعة له، الى أن توفي. وكان محموداً فيما تولاه. قال ابن عفيف: كان من أهل الفقه والشورى. وهذا الذي تولى الحكومة في أمر أبي البشر الزنديق. وتوفي فجأة، سنة ثلاث وخمسين وثلاثماية. أصابته سكتة فمات. معاوية بن سعد قرطبي. رحمه الله. أبو سفيان. سمع من ابن وضاح، وعبد الله، وابن الصفار، وصحبه. وكان فقيهاً في المسائل، حافظاً لها. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 هشام بن أحمد بن غانم بن خزيمة الغافقي قرطبي، أبو خالد. كان ولي الأحباس. أيام منذر القاضي. وكان فقيهاً مشاوراً متصرفاً في علم النحو والشعر، شاعراً. توفي سنة تسع وخمسين وسنّه ثلاث وستون سنة. وقد كفّ بصره، قبل موته، بخمسة أعوام. يوسف بن عمروس المنيي قرطبي. نسب الى منْيَة عجب، جهة منها، سمع من ابن باز، وابن وضاح، وغيرهما. وكان رجلاً عابداً، حافظاً للمذهب، مذهب مالك، وانقبض قبل موته، بسنتين. وكان يختَلف إليه، للسماع منه، في داره، رحمه الله تعالى. محمد بن يزيد بن رفاعة رحمه الله أبو عبد الله من أهل البيرة. سمع بها من ابن فطيس، وأحمد بن عمرو، وابن منصور وهشام بن خالد، وبقرطبة من عبيد الله، وطاهر وغيرهما. وبالقيروان من محمد بن بسيل، وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 وكان حافظاً للغة بصيراً بالعربية، متقدماً فيها، وكان فيما قيل يصوم الدهر. كان مفتياً ببلده. توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعين وثلاثماية. رحمه الله. محمد بن أحمد بن لبيب البيري. سمع من عبد الله وابن خمير وطاهر، وشوّور ببلده. رحمه الله. أحمد بن علاء بن عمر بن نجيح، الخولاني البيري. سمع ببلده من حفص بن عمر، وابن منصور، وابن فطيس، وبقرطبة من طاهر، وابن خالد. أفتى ببلده، رحمه الله. محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن خير، الفزاري من أهل البيرة، سمع ببجاية، من فضل، وغيره. وكان معتنياً بالمسائل، حسن الكلام فيها رحمه الله. حريش بن ابراهيم رحمه الله وادياشي. أبو اليسع، سمع من فضل بن سلمة، وبقرطبة من رجالها. وكان مفتياً بموضعه. ذكره ابن حارث رحمه الله. عبد الله بن أحمد رحمه الله من كورة البيرة، من آل سعد بن معاذ. سمع ابن أيمن، وأحمد بن زياد، وعليه كان معوّل أهل الموضع في الفتيا، والعقود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 عثمان بن سعيد بن كليب البيري. أبو سعيد. سمع ابن فطيس وغيره. وكان حافظاً للرأي، موصوفاً بالزهد. وليَ صلاة بلده. حدّث عنه أبو مفرج. وتوفي سنة أربعين أو إحدى وأربعين. سعيد بن عثمان بن منازل البيري، يعرف بابن الشقاق. ويكنى أبا عثمان. قاله ابن الفرضي. وذكره ابن أبي دليم وابن حارث، في أهل بجاية. سمع من فضل بن سلمة. وابن أبي خالد. ووهب وابن عمر، وابن فحلون. وبالبيرة من ابن منصور، وابن فطيس، وابن عمر، بل وبقرطبة من عبيد الله، وسعيد بن خمير، وطاهر وابن لبابة. وحدّث وكان فقيهاً مبرزاً، حافظاً عالماً حسن السمت والهدى. قال ابن حارث: كان فقيهاً متقدماً لا شغل له، إلا الدرس والمناظرة. كان هو وأحمد بن مناصح فقيهي بجاية. وكان وقوراً حسن الهدى، مجيباً للناس. ولي قضاء بجاية في المحرم، سنة خمس وأربعين، وسنة سبع وسبعين. مولده سنة ثمان وستين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وابنه عثمان أبو سعيد سمع من فضل، وابن فطيس، وعثمان بن جرير، وابن أبي خالد. وتوفي بعد هذا سنة أربع وستين. أحمد بن واضح من أهل بجاية. أبو القاسم. يروي عن عبيد الله. وأخذ عن فضل بن سلمة. وكان حافظاً للفقه، بصيراً بالمناظرة فيه، حسن الكلام في المذهب، أديباً. ورحل مرات حاجّاً وتاجراً. وتفقه على شيوخ القيروان. وشوّور ببلده، الى أن توفي. قال ابن حارث: كان جليساً في المجالس بالقيروان، ونفسه ببجاية. ولم يكن له شغل إلا الدرس والمناظرة في بلده، مع ابن الشقاق. إلا أن ابن واضح أدرك من ابن الشقاق، في الفقه ظاهراً وباطناً. رحمه الله. أحمد بن جابر بن عبيدة بجاني، أبو القاسم. يروي عن عبيد الله بن يحيى، وفضل بن سلمة، وغيرهما. وكان مشاوراً في الأحكام. وولي الصلاة بموضعه. رحمه الله. عبد الملك بن سياخنح بجاني أبو مروان. صحب فضلاً، وتفقه عنده. وكان حافظاً للفقه، متصرفاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 فيه، وفي العربية والعبادة. ورحل الى المشرق، فسمع فيها وناظر ذلك ابن حارث. رحمه الله. أحمد بن حفص بجاني، من أصحاب فضل، ومحمد بن يزيد بن أبي خالد، وأبي جعفر العربي. كان بصيراً بالفتيا، ولم يكن بالضابط. محمد بن زيدان بجاني. قال ابن أبي دليم، رحمه الله: كان له حفظ وكلام حسن في المذهب، مع مروءة ومذهب جميل. رحمه الله. يوسف بن سليمان بن عبد الله بن وهب بن حبيب بن مطر المري يعرف بابن البسطي. أبو عمران. كان رجلاً صالحاً. صحب محمد بن أبي خالد وروى عنه، وشوّور. توفي قبل الثلاثين. أحمد بن عبد الله العبسي من أهل ريّة، كان فقيهاً عالماً زاهداً منقبضاً. كثير التلاوة والذكر والحفظ للمسائل، والنظر بالفرائض. وليَ الصلاة بموضعه. رحمه الله. أحمد بن عبد الله رحمه الله المعروف بابن عمامة - وهي أمه - وكان فقيهاً حافظاً، ذكياً. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 محمد بن تمام رحمه الله سمع من عبيد الله، وأبي صالح، وغيرهما. وكان فقيهاً فاضلاً ديّناً رحمه الله. عزيز بن محمد بن عبد الرحمن بن عيسى، ابن عبد الواحد بن صبيح اللخمي مالقي، يكنى أبا هريرة. وصبيح: هو الداخل للأندلس مع موسى بن نصير. كان فقيهاً عالماً، متفنناً بصيراً بالمسائل، موثقاً. سمع من ابن رفده، وعلاء بن عيسى، وابن بدرون. ولقي بكر بن حمّاد. توفي سنة خمس وخمسين وثلاثماية. رحمه الله. محمد بن عبد الله بن طوف جياني، سمع ابن أيمن، وابن زياد، وغيرهما. وكان معتنياً بالمسائل، وحفظها. مفتياً بموضعه. وجمع كثيراً من الحديث. رحمه الله تعالى. محمد بن موسى المعروف بابن أبي عمران. من أهل جيّان. سمع من معاذ، وابن أيمن، وكان مفتياً بموضعه، رحمه الله. محمد بن نمير بن هارون، رحمه الله المعروف بابن أبي خيثمة. جياني. سمع أحمد بن خالد، وأحمد بن بقي، وابن أيمن. وكان مفتي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 بلده، مع محمد بن يحيى بن أيوب. وكان الأغلب عليه الحديث. تقدم ذكر أبيه، رحمه الله. ابراهيم بن عبد الله بن صالح جياني، من أصحاب محمد بن أيمن، وأحمد بن زياد، وغيرهما. وكان مقدماً بموضعه، معتنياً بالفتيا. عبد الله بن ابراهيم بن خالد أرجوني، من عمل جيان، أبو محمد. كان فقيه موضعه. من أصحاب شعيب بن سهل. عبد الله بن حمدين جياني، من أصحاب ابن أيمن، وابن باز. كان مفتياً بموضعه. رحمه الله. محمد بن حارث بن أبي سفيان جياني. قال خالد بن سعد. كان فقيهاً في الرأي، حافظاً للمسائل، على مذهب مالك وأصحابه، رضي الله عنهم. حسان بن عبد الله بن حسان من أهل استجة. يكنى أبا علي. كان نبيلاً في الفقه، حافظاً للرأي. معتنياً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 بالحديث والأثر. متفنناً في علم اللغة والإعراب، والفرض والحساب والعروض ومعاني الشعر، وقرضه. كان اسماعيل يثني عليه ويقول: لم يكن باستجة مثله قبله، ولا بعده. وكان يفتي بموضعه. فسمع من الأعناقي، وعبيد الله، وسعيد بن خمير، وسعد بن معاذ، وأبي عبيدة، صاحب القبلة، وأبي صالح وابن أبي تمام، وأسلم القاضي، وأحمد بن خالد، وموسى بن أزهر، ومحمد بن قاسم، وغيرهم. وحدّث. وسمع من اسماعيل بن إسحاق، وغيره. وتوفي في عشرة ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وهو ابن ست وخمسين سنة. رحمه الله. محمد بن عمر بن يوسف بن عمروس استجي. أبو عبد الله. سمع من أبيه وغيره. وكان معتنياً بالفتيا، حافظاً للمسائل، حسن العقل. توفي رحمه الله، سنة ثمان وخمسين. محمد بن يعقوب بن عيسى المرادي استجي. أبو عبد الله. سمع من أبي صالح، وابن لبابة، وغيرهما. وكان ابن لبابة رضي الله عنه، يصفه بالفقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 عيسى بن خلف ابن أخت أبي أبينة أبو القاسم. إشبيلي. سمع بقرطبة من ابن لبابة، وبإشبيلية من خالد، وابن القون، وكان حسن المناظرة، فقيهاً حافظاً للمسائل، عالماً بها. متقدماً في الفتيا بموضعه. أثنى عليه أبو محمد الباجي، وكان جميل المذهب. توفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية، أو نحوها. محمد بن سعيد بن جنادة الألهاني إشبيلي. له عناية وسماع من ابن لبابة، وغيره. وأفتى بموضعه. توفي سنة تسع وأربعين وثلاثماية. في شعبان منها. رحمه الله. خباب بن زكريا رحمه الله من أهل بطليوس. وأصله من إشبيلية. يكنى بأبي القاسم. ورحل الى قرطبة زمن العطيبة، فسمع من شيوخها. وكان من أهل الفتيا والذكاء، فكِهاً مداعباً. توفي ببلده، سنة إحدى وثلاثين وثلاثماية. رحمه الله. محمد بن ابراهيم بن إسحق بن عيسى بن أصبغ بن خالد بن يزيد باجي. روى عن ابن جنادة وابن القون وغيرهما. وكان فقيه حاضرته ومفتيهم، وخطيبهم نحو ثلاثين سنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 وتوفي سنة ثمان وعشرين، وهو ابن ست وستين. رحمه الله تعالى. ابنه ابراهيم بن محمد رحمه الله أبو إسحاق. من أصحاب ابن لبابة، وأبي صالح، وابن خالد، وابن القون، وسمع غيرهم. وكان فقيهاً فصيحاً بليغاً شاعراً، لغوياً نحوياً. وليَ صلاة بلده. وكان مفتيها. وتوفي صدر سنة خمسين وثلاثماية. وهو ابن ثلاث وستين سنة. وأخوه عبد الله بن محمد، رحمه الله أبو محمد. روى بقرطبة عن ابن أيمن، وابن زياد، وقاسم. وكان مغتي بلده، وصاحب صلاته، بعد أخيه. موصوفاً بالورع والخير. توفي سنة تسع وستين، وهو ابن أربع وستين. وحقه أن يؤخر في الطبقة الأخرى. منذر بن الحسن بن عبيد الله بن عثمان بن أبي روح الكلاعي جزيري - من الجزيرة الخضراء - سمع بقرطبة من ابن لبابة، وابن خالد، ونظرائهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 ورحل فسمع من العقيلي، وابن الأعرابي، والكاروي، وابن رمضان، وابن الأنباري، وابن مجاهد وغيرهم بمصر والحجاز وبغداد، والشام والقيروان. وكانت رحلته نحو ثماني سنين. وانصرف فشووِّر ببلده. وتولى صلاته، وسمع منه يسير، إذ لم ينصب نفسه لذلك. وكان من أهل الفهم والورع والثقة. لم تحفظ عنه زلة. توفي ببلده، سنة خمس وثلاثين وثلاثماية. خلف بن عبد الله بن مخارق الخولاني من أهل الجزيرة الخضراء. سمع بها وببجاية، محمد بن بدرون. ورحل فسمع ابن المنذر وغيره. وكان مفتياً ببلده، مشاوراً. صاحب صلاتهم. ثم لزم سكنى قرطبة. يوسف بن حطان بن سليمان بن خالد جزيري. سمع ببلده، من ابن بدرون، وابن حكم، ومحمد بن عبد الوهاب بن ناصح، وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 وكان فقيهاً فاضلاً. وليَ صلاة بلده، أربعين سنة. وتوفي رحمه الله، سنة اثنيتن وعشرين وثلاثماية. أحمد بن عيسى المعافري من أهل الجزيرة الخضراء. كان فقيهاً متفنناً، ذكره ابن حارث. رحمهما الله. وهب بن مسرة بن مفرج بن حكم التميمي الحجازي أبو الحزم. سمع بقرطبة من ابن وضاح، وعبد الله بن أحمد بن ابراهيم الفرضي، والأعناقي، وابن معاذ، وأبي صالح، وأسلم، وابن الوليد، وابن أبي تمام، ومحمد بن عمر بن لبابة، وطاهر بن عبد العزيز، وأحمد بن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وابن الخشني. وببلده من أبي وهب بن أبي نخيلة، ومحمد بن عذرة، وعلي بن الحسن، وابن حيون. وكان حافظاً للفقه بصيراً به، وبالحديث واللغة، بصيراً حسناً ضابطاً لكتبه، مع ورع وفضل، ودارت عليه الفتيا بموضعه، وله أوضاع حسنة. واستُقدم بكتبه الى قرطبة، وأُخرجت إليه أصول ابن وضاح، التي سمع فيها، فسمعت عليه، وسمع عليه عالم عظيم. قال الحجازي: كان إماماً حافظاً للفقه، ثقة مأموناً. وإليه كانت الرحلة في حياته. ثم انصرف الى بلده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 حدث عنه أبو محمد القلعي، وأثنى عليه. وحدث عنه غير واحد، وممن حدث عنه من أهل بلدنا وأكثر عنه: أبو عبد الله محمد بن علي، المعروف بابن الشيخ، راوية بلدنا وفاضله، وبلغني أن عبد الرحيم بن العجوز وأباه أحمد، حدثا عنه، وذكره ابن حارث فقال: كان يتكلم في الحديث وعلله، وكان خيّراً فاضلاً، وله كتاب في السنة، وإثبات القدر والرواية والقرآن. وتوفي ببلده، منتصف شعبان سنة ست وأربعين. وقال ابن أبي دليم: سنة أربع وأربعين. وقد قارب الثمانين. وقال غيره: ست وثمانين وستة أشهر. مولده سنة ست وسبعين ومايتين. رحمه الله. أبو عبد الله الفهري، رحمه الله فقيه طليطلة. ذكره ابن حارث وقال: لقيته، وكان شيخاً عليه جلالة السنّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وسمت العلم، ووقاره وهديه. وفاوضته، فأفضيت منه الى علم كامل، وثقة ظاهرة، ومذاهب مستحسنة. عبد الله بن حسين رحمه الله المعروف بابن السندي. أبو محمد. مولى عبد الله بن المفلس، مولى بني فهر. ولزم هذا اللقب جده، لشبه رأسه بالبطيخة السندية. قاله ابن حارث، هو من أهل وشقة. سمع بقرطبة كثيراً، ورحل فسمع من يحيى بن عمر بالقيروان. حدث عنه يحيى بن عائذ، وأبو عبد الله بن الأبار، وكان عظيم الوجاهة في بلده. ولي قضاءه. قال ابن أبي دليم: وكان حافظاً للمذهب بصيراً بالشروط، حدّث وسُمع منه، وقرئ عليه. قال أبو الوليد الباجي فيه: فقيه مشهور. قال ابن حارث: كان معدوداً في وجوه أهل العلم. غلب عليه الكبر والزهو وشدة العصبية بالمولّدين، والتنقص بالعرب، والحفظ لمثالبها، ومناقب الموالي. قال: وكان لا يرد سلاماً على أحد، ولا يبتدئه به. وأتاه يوماً رجل - سمّاه - فقال له: إن لي أعداء أكره أن أسلم عليهم أو أرد سلامهم، فهل تعرف لي رخصة لترك ذلك؟ قال: لا. قال: فما بالك تجوز بين فلا تسلم علي، وأسلم عليك فما ترد علي؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 قال: طبع فُطِرت عليه. قال: هذا والله طبع سوء، وإني لمحتاج الى تركه. وكانت له حُظوة عظيمة من أمراء الثغر، وكان الناصر يشاوره في أمور الثغر، وولاه قضاء وشقة وبوسر ولاردة. واكتسب أموالاً عظيمة. قال: وكان خارجاً في جميع مذاهبه، من طبقة أهل العلم. وكان كثير الصدقات، ولم يزل قاضياً الى أن توفي، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثمانين سنة، رحمه الله. محمد بن دلف أبو عبد الله. رحمه الله. مولى ابن عمروس، صاحب وشقة. كان أبو عبد الله من أهل العلم والفصاحة والحفظ لمعاني القرآن وتفاسيره. وكان من العباد والمجتهدين، حج وانصرف، فلزم السياحة والتبتل نحو عشرين عاماً ثم أخذ يجلس للناس يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم. توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 طيب بن محمد بن هارون بن عبد الرحمن بن الفضل بن عبيدة الكناني العتقي تدميري. من أهل بيت علم وشرف شهير، يعرفون ببني عميرة بمرسية. ذكرنا منهم في الطبقات المتقدمة علماء عدة، من سلفه. يكنى بأبي القاسم. أخذ عن الصباح بن عبد الرحمن، وعن أبيه، وعن فضل بن سلمة، ويحيى بن عون، وحماس بن مروان، قاضي القيروان. توفي بالأندلس، سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله. عبد الله بن مسعود رحمه الله. من أهل مرسية. فقيه، مستفتى ببلده، مع أبي حفص بن عمر، وأبي الأسود، إلا أنه كان دونهما في السنّ. سمع من عمر ووهب بن مسرة. قاله ابن الفرضي، رحمه الله. عريف مولى ليث بن فضل لورفي. أبو المطرف. سمع من فضل، وتفقه عنده. وفي البيرة من ابن فطيس كثيراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وكان حافظاً للفقه، بصيراً في الفتيا، جامعاً للعلم، بلغ مبلغ الشورى في موضعه، وعليه كان معولهم في وقته. وعاجلته منيته قبل اكتهاله، بصاعقة قتلته، سنة ثمان وعشرين. وكان طويل اللحية. محمد بن عبد السلام قرشي. رحمه الله. سمع من الأعناقي وابن لبابة. وكان حافظاً للفقه، والوثائق، مفتياً في موضعه، رحمه الله. وهب بن محمد بن محمود بن اسماعيل أبو الخرشدوني. قال أبو عبد الله الحميدي: هو فقيه محدث. روى عن قاسم بن أصبغ. روى عنه ابن عبد البر، وكان متصدراً يفتي الناس بجامع قرطبة. ويقال له: المفتي. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 عبد الله بن يوسف البلّوطي شذوني. أبو محمد. أخذ المدوّنة عن ابن رزين. وسمع من قاسم بن أصبغ. وكان مشاوراً بقَلسانة. رحمه الله. هارون بن عتّاب بن بشير بن عبد الرحمن بن الحارث بن سهل، الوقاعي الغافقي. شذوني. يكنى أبا موسى. وجده الحارث بن سهل. هو الداخل الى الأندلس، وأبوه أبو ثابت عتاب من أهل العلم. سمع بقرطبة من ابن وضاح، وابن مطروح، ومالك القطني. وعمّر الى أن أتت عليه ست وتسعون سنة. وكانت وفاته سبع أو ثمان وتسعين ومائتين. روى هارون عن أبيه، وابن وضاح، وكان ختنه، وعني بمذهب مالك، وحفظ كتاب المدونة حفظاً بارعاً. وكان فقيه قلسانه، في وقته. وتوفي بها سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وسيأتي ذكر ابنه، إن شاء الله تعالى. هشام بن محمد بن أبي رزين شذوني. ويكنى بأبي رزين، بربري. كان مفتي بلده. وما والاه. بعيد الصوت معظماً فيه. روى عن محمد بن جنادة. سمع منه يوسف بن سليمان، وجماعة. وكان يرحل إليه للسماع منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وكان حافظاً للمسائل، من أهل الحديث، وعمّر حتى أسنّ، وتوفي، رحمه الله، سنة ثلاث وثلاثين. علي بن عيسى بن عبيد التجيبي طليطلي. أبو الحسن. أخذ بقرطبة عن عبيد الله بن يحيى، وسعيد بن عثمان، وأحمد بن خالد ونظرائهم. وبطليطلة عن وسيم بن سعدون وغيره. وكان فقيهاً عالماً، وله مختصر مشهور ينتفع به، روى عنه ابن مدراج وشكور بن حبيب. وانتقدت عليه فيه مسائل، وهي صحيحة جيدة، جارية في الأصول، وإن خالفه فيها غيره، ونال بعض الفقهاء من حفظه، فهو فقيه قرية. فقال ابن مغيث: لو كانت مصر لمن أتقن حفظه، يريد التفقه في أصوله. قال أبو الأصبغ بن سهل: سألت ابن عتاب عنه، فقال: كان من أهل العلم، ثم احتججت بعد ذلك عليه، في مسألة جرت بيني وبينه، بما في مختصر ابن عبيد، فقال غير الكلام الأول. قال ابن طاهر: كان عبيد فقيهاً عالماً ثقة زاهداً ورعاً مجاب الدعوة محسناً في تعليمه قانعاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. حتى استثقله أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 طليطلة. فانحاز عنهم، الى قرية كان له بها جنة، يحفرها ويعتملها بيده. ويقوم منها حاله. وكان الطلبة ينهضون إليه، بها. فيأخذون عنه، وبلغه رغبة الحكم المستنصر في استجلابه، ففر عن موضعه. وكان ابن النجاء يقول: يا أهل طليطلة، كتابان جازا قنطرتكم، وتلقاهما الناس: تفسير يحيى بن مزين، ومختصر ابن عبيد. وسأله رجل أن يكتب له الى قائد طليرة في رد مال غصبه له. فكتب إليه: من علي بن عيسى، الى الظالم يحيى، رد على الرجل ماله، واتق الله، وإياك ودعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب. فقال الرجل: لست أحمل هذا الكتاب أبداً. فبلغ ذلك العامل، فردّ مظلمته. محمد بن عبد الله بن عيشون طليطلي، أبو عبد الله. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً للمسائل. سمع بطليطلة من وسيم بن سعدون، ووهب بن عيسى، وبقرطبة، من ابن خالد وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وغيرهم. ورحل الى المشرق، فلقي جماعة من المحدّثين، منهم أبو يزيد معمر الوداني، وروى عنه عن أبي المصعب، موطأه، ورأس بالعلم وشهر به. وحُمل عنه. روى عنه أبو محمد بن ديمن الطليطلي. ومحمد بن ابراهيم، وعبدوس الطليطلي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 وتكلم فيه أبو عمران الفاسي، ومسلمة بن قاسم. قال أبو عمران، وقال مسلمة: أخذ كتب ابن قادم القروي الحنفي، ونسبها الى نفسه، وحملت عنه. وحدث بطرابلس عن ابن الأعرابي، بتاريخ ابن معين ولم يسمعه. وقال أبو محمد بن قون: كان ابن عيشون، فقيه عصره، من الحفاظ. كذلك قال لي وهب بن مسرة. وهو مشهور. وألف حديث مالك. قال ابن طاهر: كان محمد بن عيشون، عالماً متقدماً فقيهاً حافظاً لمذهب مالك، عالماً بالفتيا من أهل الصلاح والخير. متقللاً من الدنيا، ثقة. ألف مسنداً في الحديث، وكتاب الإملاق، واختصر المدونة. إلا الكتب المختلطة منها. وكان يقول الشعر. وكان أُسر وافتدى، وأطلقه النصراني، الذي كان عنده، ليجمع فداه مع موكل به. فعرض أمره على أهل طليطلة، فلم يجتمع له فداه. وعزم على الرجوع الى مولاه النصراني، إذ كان عاهده على ذلك. وقيل له اقصد رجلاً كان بينه وبينه شيء، فامتنع. ثم أدته الحال الى ذلك. فدفع إليه فديته، وقبضها الموكل. وأنشد من شعره: حلفت على أن لا أردّ هدية ... ولا أنفع المهدى بشيء مدى الدهر إذا ما صديق جاءني بهدية ... قبلت وعجّلت المثوبة بالشّكر وإن جاء يوماً آخرٌ بهدية ... لحاجته كانت أضرّ من الكفر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 هدية من يهدي إليك لحاجة ... حرام وسحْتٌ والهدية كالسحر وإيّاكَها واقبل نصيحة ناصح ... فما لك من بعد النصيحة من عذر وهو القائل رحمه الله: إذا أتت الهدية دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها وقال أيضاً رحمه الله: إن خانني أملي ما خانني أجلي ... كذا يقطّع آمالَ الغنى الأجلُ يا من يؤمل آمالاً ليبلغها ... هيهات موتُك يأتي قبلُ يا رجل إن كنتَ في غفلة عما يراد بنا ... فسَلْ هُديت عن الإباء ما فعلوا وتوفي رحمه الله بحاضرة طليطلة، صدر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. ومن أهل طليطلة أيضاً رجل آخر من أهل العلم والرواية والفقه هو: أبو عبد الله محمد بن عمر بن سعد بن عيشون يروي عن أبيه، وقاسم بن أصبغ، وغيره من القرطبيين. وسمع من شيوخ بلده، وسمع بمكة ومصر والشام والقيروان من الأعرابي، وأبي الحسن الجلاّ، والخزاعي، والقشيري، وأبي مروان المالكي، وغيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وحدث بكثير. وذكر بمصر رواية العتبي، عن ابن القاسم، فيمن أحدث أثر صلاته، بعد التشهد. فتمادى من رواه، أن صلاتهم مجزية. فأنكرت عليه وضرب. روى عنه أبو الأصبغ الحوصي. وابن أبي دُليم، وابن الفرضي، وغيرهما. قال فيه ابن طاهر: إنه كان فقيهاً حافظاً للمذهب ممّن استُقضي ببلده. وذكر أنه كانت فيه خفة. وقال أبو الوليد القاضي الباجي، وذكره: الفقيه أبو عبد الله، هذا الشيخ. وذكره ابن الفرضي، في كتابه. وتوفي بعد هذا في رجب سنة سبعين وثلاثماية. مولده، رحمه الله، سنة عشر وثلاثماية. فربما اشتبها على من لم يحققهما. محمد بن وسيم بن سعدون طليطلي. أبو بكر. سمع من أبيه، وغيره من شيوخ بلده. وبقرطبة من ابن خالد، وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ. وكان أعمى. بصيراً بالحديث، حافظاً للفقه، له حظ من العلم باللغة، والنحو والشعر، والتفسير، والفرائض والحساب، والعبارة. شاعراً ذكياً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 وكانوا يرون ما فيه من الذكاء ببركة دعاء أبيه. وكان صالحاً. وقد تقدم ذكره. وقيل لما عمي بعد مولده، بيسير، جمع أبوه أهل الصلاح والزهد وصلوا الليل كله. فلما أصبح أحضر هذا المولود فدعوا له أن يجعل الله نور بصره في قلبه. فأجيبت دعوتهم. وكان رأساً في كل فن متقدماً فيه، من أهل الظرف والأدب، وعلا ذكره، وتقدم في الفتيا. وكان رأساً فيها. وله كتاب في الناسخ والمنسوخ. ودخل عليه وهو في النزع بعض أصحابه، فناداه فلم يجبه. فقال الآخر: " وحِيل بينهُم وبينَ ما يشتهون ". فقال له أبو بكر حين ذلك: نزلت في الكفار وقتها. " إنهم كانوا في شكٍ مريب ". توفي في ذي الحجة، سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية. ومن شعره: خذ من شبابك قبل الموت والهرم ... وبادر التوب قبل الفَوت والندم واعلم بأنك مجزي ومرتهن ... وراقب الله واحذر زلة القدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 فليس بعد حلول الموت معتبة ... إلا الرجاء وعفو الله ذي الكرم فإن ربك ذو عفو ومغفرة ... وذو عقاب شديد مؤلم الألم فاضرع الى الله وارغب في تجاوزه ... عم ارتكبت من الآثام والحرم فإن عفا فبأفضال ومرحمة ... وإن يعاقب فمن عدل ومن نقم فاغفر إلهي زلاتي وما اجترحتْ ... كفّاي يا منتهى الإفضال والكرم محمد بن سحنون الأنصاري. طليطلي. أبو عبد الله. كان فقيهاً زاهداً ورعاً عاقلاً حافظاً للمسائل. سمع من عمه ابن أرفع رأسه، وهبة الله بن يحيى، ومن وسيم ونظرائهم. وسمع منه وروى عنه عبدوس، وعبد الرحمن بن عبيد الله، وغيرهما. ذكر أنه مستظهر المدوّنة، وكتبها في اللوح، وحفظها كما يحفظ القرآن، ولم يكن يخلط بها غيرها. وقصده الحكم أمير المؤمنين متبركاً بدعائه. رحمه الله. محمد بن رباح بن صاعد الأموي طليطلي. أبو عبد الله. سمع وهب بن عيسى وغيره. وكان موصوفاً بصلاح وفضل، وعناية بالعلم والرواية له، والحفظ لمذهب مالك. واستفتي ببلده، وله في المدونة اختصار - وكان مشهوراً بطليطلة - يدرّسه بها. وكان حماس بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 محمد يثني عليه ويفضله. وتوفي لخمس خلون لجمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. معطي بن أحمد من كورة بلنسية. أبو الفتح. سمع بقرطبة، من ابن أيمن، وابن خالد، وعبد الله بن يوسف، وقاسم بن أصبغ. وكان حافظاً للمسائل. قرئ عليه، وحمل عنه. توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. محمد بن حضر من أهل بلنسية. أخذ عن أهل بلده، ورحل الى القيروان، فسمع من مشائخها، وتفقه عندهم، وصحب ابن حارث هناك، وانصرف الى بلده. قال ابن حارث: وكان عالماً فقيهاً نبيهاً نبيلاً، أجاد الفهم، ذكي الإدراك، وعليه وعلى جحاف كان مدار الفتيا في بلده، في وقتهما. توفي أول سنة إحدى وخمسين وثلاثماية، آخر السنة قبلها. جحّاف بن يمن كبير بلنسية. وذو البيت النبيه فيها في العلم والجلالة الى وقتنا هذا. يكنى بأبي جعفر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 كان مذكوراً بالفقه، موصوفاً بالعلم، وليَ قضاء بلده، وعليه كان مدار فتواه. أثنى عليه ابن حارث. واستشهد رحمه الله في غزاة الخندق. سنة سبع وعشرين وثلاثماية وهو على قضائه، وابنه عبد الرحمن. ذكر ابن حارث: أنه ولي قضاء بلنسية صدر أيام المستنصر وابنه، أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن جحاف، وليَ قضاء بلده بعد العامرية، ومن بعدهم. وسنذكره إن شاء الله تعالى في طبقته، بعد هذا. وبالله سبحانه التوفيق. بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الفقيه القاضي، الإمام أبو الفضل عياض، رضي الله عنه، ثم انتهى المذهب الى طائفة أخرى، بعد هذه. رحمهم الله. فمنهم من أهل الحجاز: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 أبو إسحاق بن ابراهيم بن محمد الدينوري نزل مكة، ولزمها. حدث عن أبي بكر بن الجهم، وابراهيم بن حماد، وأبي بكر بن داود، وعبد الله بن وهب الدينوري، وابن صاعد، وأبي الحسن النهاوندي، واليعقوبي. وكان فقيهاً مالكياً. حدث عنه أبو ذر الهروي، وأبو عبد الله بن الحداد، وعبدوس بن محمد، وأبو بكر الصقلي، وأبو عمر بن سعدي، ومحرز العابد، وأبو بكر الخولاني، وغيرهم. وكان عنده حديث. قال أبو عبد الله بن الحداد لقيته بمكة، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية، وتركته حياً. قد نيّف على الثمانين سنة. وكان فقيهاً ورعاً منقبضاً، خيراً من جلة العلماء. وذكره أبو ذر في معجمه، وقال: ثقة. رحمه الله. أبو القاسم محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن سكن مكة. روى عنه جملة من الناس، من الراحلين، وغيرهم. قال أبو الحسين بن مصلح الحجازي: كان رجلاً صالحاً، من سكان مكة، يذهب مذهب مالك. سألت عنه شيوخ مكة فأثنوا عليه خيراً. يروي عن الفضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 بن محمد الجندي، ومحمد بن صالح بن موسى الآجري، رحمه الله. حدّث عنه أبو الحسن بن جهضم الهمداني، وأبو الحسن القابسي، وابن مصلح الأندلسي. رضي الله عنهم أجمعين. أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المؤمن مكي، من المتكلمين على مذهب أهل السنة. ودخل العراق، فأخذ بها عن أبي عبد الله بن مجاهد البصري، وغيره. وسكن آخراً بالقيروان. وصحب أبا محمد بن أبي زيد، وغيره من أئمتها، وناظرهم، وذاكروه، وأثنوا عليه وأخذوا عنه. وله بها أخبار معروفة. ومن أهل القيروان. ثم من آل حماد بن زيد. وهو آخر من روي عنه العلم منهم، فيما علمت وانتهى إليّ. أحمد بن أبي يعلى ويكنى بأبي علي. وهو أحمد بن عبد الوهاب بن الحسين بن يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد بن زيد البصري. ونزل مصر وسمع من عمه القاضي أبي الحسن، عبد الصمد بن الحسين، ومن شيوخ آله، وعن أبي الحسن علي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 بن ابراهيم بن حماد، وأبي الطيب أحمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن البغدادي، وأبي إسحاق بن عبد الصمد الهاشمي، وأبي الحسن علي بن أحمد البغدادي، وابن داسة. وروى عنه أبو عمران بن سعد، وأبو عمر الطلمنكي وأبو عمر بن عبد الله الباجي، وابنه أبو عبد الله. وألف كتاب اللقطة، وكتاب الحجة في القبلة، وكتاباً في الرد على الشافعي. وحدث بتصانيف القاضي اسماعيل. أبو جميل البصري رحمه الله. ذكره القاضي أبو بكر بن الطيب. قال: كان بالبصرة رجل من الفقهاء على مذهب مالك بن أنس، من آل حماد بن زيد، يعرف بابن جميل. قال القاضي أبو بكر: وكان يحب كلام الحارث بن أسد المحاسبي. فذكر عنه أنه اجتمع عنده للحارث نحو أربعمائة مصنف بين صغير وكبير. قال القاضي رحمه الله: لا حقيقة عندي، من ضبط اسم هذا الرجل. إذ لم أروِه، ولا وجدته بخط من أعول عليه. ولا حقيقة عندي من تصحيح طبقته. أهو من هذه أو من التي قبلها أو من غيرهم؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 أبو بكر الأبهري رحمه الله. هو محمد بن عبد الله بن صالح بن عمر بن حفص بن عمر بن مصعب بن الزبير بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم. قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: أبو بكر الفقيه الأبهري سكن بغداد، وحدث بها عن أبي عروبة الحراني، ومحمد بن الباغندي، ومحمد بن الحسين الأشناني، وعبد الله بن زيدان الكوفي، وابن أبي داود، وخلق سواهم من البغداديين والغرباء. قال القاضي رضي الله عنه: وقد سمع أيضاً من عبيد الله بن الحسن الأنطاكي الصابوني، وأبي بكر بن الجهم الوراق، وأحمد بن مروان الخيّاش، وابن داسة، واللغوي، وابن زيد المروزي. ورأيت سماعه بخط الأصيلي في كتابه، من صحيح البخاري، ومن مجلد ابن سفهود، وغيرهم من العراقيين والشاميي. قال الأصيلي: وله التصانيف في شرح مذهب مالك، رضي الله عنه، والاحتجاج له، والرد على من خالفه. وكان إمام أصحابه في وقته. حدث عنه ابراهيم بن مخلد، وابنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 إسحاق بن ابراهيم، والبرقاني، وأحمد بن علي، ومحمد بن المؤمل الأنباري، وعلي بن محمد بن الحسن الحربي المالكي، والقاضي أبو القاسم التنوخي، والحسن بن علي الجوهري، وغيرهم. وحدث عنه أيضاً: أبو بكر الحسن الدارقطني، والقاضي الباقلاني، وابن فارس المقري، وأبو محمد بن نصر القاضي. ومن أهل الأندلس: أبو عبيد الحيوني، والأصيلي، وأبو محمد القلعي، وأبو القاسم الزهري، واستجازه أبو محمد بن أبي زيد، رضي الله عنه. وذكره ابن أبي الفوارس فقال: كان ثقة أميناً مشهوراً. وانتهت إليه الرئاسة في مذهب مالك. قال الشيرازي: تفقه ببغداد على القاضي أبي عمر، وابنه أبي الحسين. وقد أخذ أيضاً، عن القاضي أبي الفرج، وأبي بكر بن الجهم، والطيالسي، وابن المنتاب، وابن بكير. قال الشيرازي: وجمع بين القرآن وعلو الإسناد والفقه الجيد، وشرح المختصر الصغير، والكبير لابن عبد الحكم. وانتشر عنه مذهب مالك في البلاد. قال ابن مفرج القيسي: كان القيم برأي مالك بالعراق، في وقته. قال أبو بكر الخطيب: قال القاضي أبو العلاء الواسطي: كان أبو بكر الأبهري، معظماً عند علماء سائر وقته، لا يشهد محضراً إلا كان هو المقدم فيه، وإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 جلس قاضي القضاة المعروف بابن أم شيبان، الهاشمي، أقعده عن يمينه، والخلق كلهم، من القضاة والشهود، والفقهاء وغيرهم، دونه. وذكر أبو القاسم الوهراني أبا بكر الأبهري، في جزء أملاه من أخباره. قال: كان رجلاً صالحاً خيراً، ورعاً، عاقلاً، نبيهاً فقيهاً عالماً. ما كان ببغداد أجلّ منه. لقد كنا نخرج معه من الجامع فيتلقانا محمد القاضي: ابن معروف الحنفي، وهو راكب مع الشهود، وكان ربما حكم في جامع المنصور. فإذا رأى الشيخ الأبهري، ترجل له وسلم عليه. فإن تمكن من يده قبّلها، وإلا قبّل منكبه ورأسه، ويفعل الشهود أجمع، ذلك. ويمشي القاضي راجلاً، وهم معه رجالاً. حتى يصلوا الى باب السكة التي كان يسكنها. فيقسم عليه الشيخ فينصرف القاضي والشهود من هنالك. قال: ولم يعطَ أحد من العلم والرئاسة فيه، ما أعطي الأبهري في عصره، من الموافقين والمخالفين. لقد رأيت أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم، يسألونه، فيرجعون الى قوله. وكان يحفظ أقوال الفقهاء حفظاً مشبعاً. وكان أبو إسحاق الطبري - من أصحابنا وحفاظ الحديث - يجالسه، ويسأله عن أحاديث كثيرة. فيقول له من قطع حديث كذا؟ ومن وقف حديث كذا؟ ومن وصله؟ فيجيبه. وكان الموافقون والمخالفون يقولون بفضله. قال: وسمعته يقول: كتبت بخطي المبسوط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 والأحكام لاسماعيل. وأسمعت ابن القاسم وأشهب، وابن وهب وموطأ مالك، وموطأ ابن وهب. ومن كتب الفقه والحديث نحو ثلاثة آلاف جزء بخطي. ولم يكن قط لي شغل إلا العلم. ولي في هذا الجامع - يعني جامع المنصور ببغداد - ستون سنة أدرّس الناس وأفتيهم، وأعلمهم سنن نبيّهم صلى الله عليه وسلم. قال غيره عنه: قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة. والأسدية خمساً وسبعين مرة. والموطأ خمساً وأربعين مرة. ومختصر البرني سبعين مرة. قال الوهراني: وما رأيت من الشيوخ أسخى منه. ولا أشد مؤاساة لطلبة العلم. ومن يرد عليه من الغرباء يعطيهم الدراهم، ويكسوهم. وكان لا يخلي جيبه من كيس، فيه مال. فكل من يرد عليه من الفقراء يغرف له غرفة بلا وزن. ولقد سألته عن سبب عيشه، أولاً. فقال: كان رؤساء بغداد، لا يموت أحد منهم إلا وصّى لي من ماله. ولو كنت ممن يريد الجمع، لكان معي فوق الثلاثين ألف مثقال. وكان يوماً جالساً إذ جاء القاضي أبو إسحاق المروزي. فلما دخل عليه تبسّم في وجهه. ثم قال: يا بغيض، ما أكثر انقباضك عن أصدقائك وإخوانك، ما تزور أحداً منهم، ولا تعرف خبرهم. قد مات صديقك فلان المالكي، وأوصى لك بثلاثماية دينار، وأسند النظر في وصيته إليّ، وهذه قد حضرت. وأتيتك فأقبلها وأصرفها في مصالحك، فجزاه الأبهري خيراً. وقال له: أنا في غنى عنها الآن، ورغب إليه في تصريفها ممن يستحفظها ليقع أجر موصيها على الله. فقال له القاضي: ما أكثرك محلل، وإني بك عن هذا. فقال له: إخواني كثيراً ما يعتقدوني، وعرض عليه ثلاثة أكياس في أحدهما قطع، وفي الآخر دراهم صحاح، وفي الثالث رباعيات، ومثاقل ذهب، وأراه ما فيها، وقال: أنا أبيّن لك أني لم أقل هذا مجملاً. وإذا أنا مت ووجد هذا عندي، فأي منزلة تكون لي؟ ورغب الى القاضي في تفريقها على أهل الحاجة. فبكى القاضي، وقال: جزاك الله عن نفسك خيراً. وكان الأبهري أحد أئمة أهل القرآن، والمتصدرين لذلك، العارفين بوجوه القرآن، وتحرير التلاوة. وقد ذكره أبو عمر الداني في طبقات المقرئين، وتفقه على أبي بكر الأبهري عدد كثير، وخرج له جملة الأئمة بأقطار الأرض من العراق وخراسان، والحجاز ومصر، وإفريقية. كأبي جعفر الأبهري، وأبي سعيد القزويني، وأبي القاسم الجلاب، وأبي الحسن بن القصار، وأبي عمر بن سعد الأندلسي، نزيل المهدية. وابن عباس البغدادي. وأبي تمام، وابن خويرمنداد البصري، وأبي محمد الأصيلي، وأبي عبيد الحيوني، وأبي محمد القلعي، وغير واحد. ولم ينجب أحد من الأصحاب بعد اسماعيل القاضي، ما أنجب أبو بكر الأبهري، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار، إلا سحنون بن سعيد في طبقته. بل هو أكثر الجمع أصحاباً، وأفضلهم أتباعاً. وأنجحهم طلاباً. ثم أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه في هذه الطبقة أيضاً. غفر الله لجميعهم. ونفعهم بعلمهم. لكن أصحاب أبي بكر، العراقيين، تتابعوا بعد موته، فلم تطل أعمارهم بعد، ولأبي بكر من التواليف، سوى شرحي المختصرين. كتاب الرد على المزني. وكتاب الأصول. وكتاب إجماع أهل المدينة. ومسألة إثبات حكم الغابة. وكتاب فضل المدينة على مكة. ومسأل الجواد والدلائل، والملل. ومن حديثه كتاب العوالي، وكتاب الأمالي. وكان شرح المختصر الصغير، سنة تسع وعشرين وثلاثماية. وشرح الكبير، سنة أربعين. وفيهما نحو عشرين ألف مسألة. ت ممن يريد الجمع، لكان معي فوق الثلاثين ألف مثقال. وكان يوماً جالساً إذ جاء القاضي أبو إسحاق المروزي. فلما دخل عليه تبسّم في وجهه. ثم قال: يا بغيض، ما أكثر انقباضك عن أصدقائك وإخوانك، ما تزور أحداً منهم، ولا تعرف خبرهم. قد مات صديقك فلان المالكي، وأوصى لك بثلاثماية دينار، وأسند النظر في وصيته إليّ، وهذه قد حضرت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 وأتيتك فأقبلها وأصرفها في مصالحك، فجزاه الأبهري خيراً. وقال له: أنا في غنى عنها الآن، ورغب إليه في تصريفها ممن يستحفظها ليقع أجر موصيها على الله. فقال له القاضي: ما أكثرك محلل، وإني بك عن هذا. فقال له: إخواني كثيراً ما يعتقدوني، وعرض عليه ثلاثة أكياس في أحدهما قطع، وفي الآخر دراهم صحاح، وفي الثالث رباعيات، ومثاقل ذهب، وأراه ما فيها، وقال: أنا أبيّن لك أني لم أقل هذا مجملاً. وإذا أنا مت ووجد هذا عندي، فأي منزلة تكون لي؟ ورغب الى القاضي في تفريقها على أهل الحاجة. فبكى القاضي، وقال: جزاك الله عن نفسك خيراً. وكان الأبهري أحد أئمة أهل القرآن، والمتصدرين لذلك، العارفين بوجوه القرآن، وتحرير التلاوة. وقد ذكره أبو عمر الداني في طبقات المقرئين، وتفقه على أبي بكر الأبهري عدد كثير، وخرج له جملة الأئمة بأقطار الأرض من العراق وخراسان، والحجاز ومصر، وإفريقية. كأبي جعفر الأبهري، وأبي سعيد القزويني، وأبي القاسم الجلاب، وأبي الحسن بن القصار، وأبي عمر بن سعد الأندلسي، نزيل المهدية. وابن عباس البغدادي. وأبي تمام، وابن خويرمنداد البصري، وأبي محمد الأصيلي، وأبي عبيد الحيوني، وأبي محمد القلعي، وغير واحد. ولم ينجب أحد من الأصحاب بعد اسماعيل القاضي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 ما أنجب أبو بكر الأبهري، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار، إلا سحنون بن سعيد في طبقته. بل هو أكثر الجمع أصحاباً، وأفضلهم أتباعاً. وأنجحهم طلاباً. ثم أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه في هذه الطبقة أيضاً. غفر الله لجميعهم. ونفعهم بعلمهم. لكن أصحاب أبي بكر، العراقيين، تتابعوا بعد موته، فلم تطل أعمارهم بعد، ولأبي بكر من التواليف، سوى شرحي المختصرين. كتاب الرد على المزني. وكتاب الأصول. وكتاب إجماع أهل المدينة. ومسألة إثبات حكم الغابة. وكتاب فضل المدينة على مكة. ومسأل الجواد والدلائل، والملل. ومن حديثه كتاب العوالي، وكتاب الأمالي. وكان شرح المختصر الصغير، سنة تسع وعشرين وثلاثماية. وشرح الكبير، سنة أربعين. وفيهما نحو عشرين ألف مسألة. بقية أخباره رضي الله عنه قال أبو بكر الخطيب: سئل الأبهري، أن يلي القضاء ببغداد، فامتنع. فاستشير فيمن يصلح لذلك، فأشار بأبي بكر الرازي. وكان حال الرازي يزيد على حال الرهبان، في العبادة. وكان حنفي المذهب. فامتنع وأشار بالأبهري. فلما لم يجب واحد منهما الى القضاء، وليَ غيرهما. وبعد موت الأبهري، وكبار أصحابه لتلاحقهم. وخروج القضاء عنهم الى غيرهم من مذهب الشافعي، وأبي حنيفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 ضعف مذهب مالك بالعراق. وقل طلبه لاتباع الناس أهل الرائاسة، والظهور. وقال الهمداني: لما دخل عضد الدولة بغداد وأتابها، استقبله جميع أهلها، وجميع أهل الرئاسة والعلم إلا الأبهري. فسأل عنه، وأرسل إليه رسوله بألفي درهم، وقال له: يقول لك الملك تفرق هذه الدراهم في أصحابك، ويقول لك: إنه لم يبق من أهل العلم ببغداد، من لم يأته سواك. فقال له الأبهري: أصلح الله الملك، أنا شيخ كبير السن، ضعيف البصر. وزوّج عضد الدولة ابنه، من بنت بعض ملوك الديلم، وأحضر جميع أهل بغداد وقضاتها، فلم يرَ الأبهري فيهم. فوجه إليه بعض وزرائه، يعزم عليه في حضور مجلسه، وإن احتاج الى محفة حمل فيها. فوصل إليه، فأخبره بعزيمة الملك، وأحضر له بغلة ومحفة يجلس فيها، ويحمل فيها إن لم يقدر يركب. فلما رأى العزيمة خرج متوكئاً على علي بن عمر بن القصار، وعبيد الله بن الحسن بن الجلاب، كبيري أصحابه، حتى أتى الدجلة والوزير يمشي بين يديه، يقرب إليه مركب، فعدل عنه الأبهري الى سمارية ركبها مع صاحبيه، ووصل القصر، فوجده محتفلاً، فجلس حيث انتهى به المجلس. فلما رأى الملك وزيره الموجه فيه، سأله، فأعلمه بوصوله، فقال له: قرّبه. فقرّبه، والملك وجميع الناس قيام إلا شيخاً من ملوك الديلم جالساً بين يدي الملك. فأمر الملك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 الأبهري بالجلوس مع الشيخ. وقرئ كتاب الصداق، وأمر الملك بوضعه في كتاب الأبهري والشهادة فيه، ثم كتب الناس بعده. فلما تمت الشهادات أدخل الناس الى مجالس الطعام. قال الأبهري: فوجدت فرصة الى النهوض، فسلمت على الملك وانصرفت، ولم آكل لهم طعاماً. قال ابن فطيس: وجدت بخط الأبهري: الدين عز، والعلم كنز، والحلم حرز، والتوكل قوة. ومن أخباره، قال: دخلت جامع طرسوس وجلست لسارية من سواريه، فجاءني رجل، فقال لي: إن كنت تقرأ فهذه حلقة القرآن، وإن كنت مقرئاً فاجلس يقرأ عليك، وإن كنت فقيهاً، فاجلس يحلق إليك، وإن كنت متفقهاً فهذه مجالس الفقه، قم إليها. فإن أحداً لا يجلس في جامعنا دون شغل. ذكر الفقيه أبو مالك بن مروان بن مالك القرطبي، في كتابه عنه، أنه قال: اجتمعنا في جماعة من أهل العلم والصلاح، وقد تناظر رجل من أهل السنة مع رجل معتزلي، فطال بينهما الكلام، فجاء المساء، فلم يظهر أحدهما على صاحبه. فقال السنّي: هذا مجلس انقضى على غير فلح. وقد حضرنا قوم صالحون فلنخلص الدعاء للمحق منا، بأن يثبت الله تعالى القرآن في صدره، وينسيه المبطل. فدعونا. قال الأبهري: فأقرّ لي المعتزلي بعد ذلك أنه نسي القرآن، حتى كأنه ما رآه قط. وحكى البرقاني عنه: كنت جالساً عند يحيى بن صاعد المحدّث، فجاءته امرأة، فقالت له: أيها الشيخ، ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة، فماتت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 هل الماء طاهر أو نجس؟ فقال لها يحيى: ويحك كيف سقطت فيه؟ قالت: لم يكن عليه غطاء. فقال: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء. قال الأبهري: فقلت لها: يا هذه إن لم يكن الماء تغير فهو طاهر. فهِم من الشيخ الحيرة في الجواب، لأنه كان صاحب حديث، ولم يكن فقيهاً. قال الوهراني: سألت الأبهري عن سنه، فقال لي: قال مالك رضي الله عنه: سؤال الشيوخ عن أسنانهم من السفه. قال الحربي: جاء رجل الى أبي بكر الأبهري، يشاوره في السفر، فأنشد رحمه الله: متى تحسب صديقك لا يقلّوا ... وإن تَخبُر يقلّوا في الحساب وتركك مطلب الحاجات عزّ ... ومطلبها يذل عتا الرقاب وقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب قال المؤلف القاضي الإمام رضي الله عنه: عتا الرقاب أنا أصلحتها وكان فيه اختلال. وذكر أن الأبهري قال يوماً لأصحابه: إن الله رضيكم لولاية فجمع لكم بها شرف الدنيا والآخرة، لا يعزلكم عنها أمرٌ ما طلبتم هذا العلم، ونفرتم به عن السلطان. فإذا كنتم كذلك، تمت لكم الولاية في الدنيا والآخرة، ونلتم بها سُرورَهما، وإن لزقتم بالسلطان، وأصبتم به الدنيا، عزلكم عن ولايته، وصغركم في الدنيا والآخرة. وحكى أبو القاسم: إن الأبهري، لما قارب الوفاة وتيقن حاله، أخرج لأصحابه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 برنية فيها ثلاثة آلاف مثقال، وأمرهم بكتب أهل البر والحاجة من جيرانه، يفرق المال عليهم. وأعطى منه أصحابه، على مراتبهم، وأعطى الأكابر منهم ماية مثقال. قال: وبلغني أنه أعطى الباقلاني ماية وخمسين، وحبس كتبه عليهم. وسئل حينئذ: لما ادخرت هذا المال؟ فقال: كان أبو بكر الرازي من أجل أصحاب مالك، ولم يتعرض الى شيء من القضاء، حتى كثر بناته واحتاج فولي القضاء، فقتله ديلمي في أمر معروف. وكان أبو بكر الصيرفي، من أصحاب الشافعي، من جلة أهل العلم، فكبر سنه وعمّر، فرأيته يكتب الرقاع لأصحابه، يتعطفهم في الرفق به، وكان إخوانه قد انقرضوا وماتوا. فخشيت أن يطول عمري أو يفحشني زمانه وأحتاج، فادخرتها عدة لهذا. وتوفي ببغداد يوم الست، لسبع خلون من شوال، سنة خمس وسبعين وثلاثماية. وصلي عليه بجامع المنصور. مولده قبل التسعين ومايتين. وسنّه نيف وثمانون سنة. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 أبو بكر ابن علويه الأبهري، رحمه الله أخذ عنه، أبو سعيد القزويني. وتفقه به مع الصفايحي، ونقل من كلامه كثيراً في كتبه. وله كتاب مسائل الخلاف. وكان من الفقهاء النظار، المحققين، وجلة أئمة المالكيين. قال أبو سعيد القزويني: ذكر شيخنا أبو بكر ابن علويه، مسألة النكاح، بلفظ الهبة، فقال: لم ينص على هذه المسألة مالك. قال: وذكر ابن المواز، عن ابن القاسم، أنه سئل عنها فقال: قال مالك في البيع: إذا قال وهبت منك بثمن كذا، أنه بمنزلة بعتك فكذلك النكاح، مع ذكر الصداق. قال القزويني فقلت له: فلو قال بعتكها، أو أجرتكها، أو ملكتها، أو أبحتكها، أو أحللتها، أو خذها إليك، وما أشبه هذا. قال: ليس فيه نص. والذي قال به لصاحبنا، يوجب أن يكون الباب واحداً. ويجوز ويفسخ به العقد متى لم يذكر الصداق. ولا يحتاج في زوجْتُك أو أنكحتك، الى ذكر الصداق. ولأنهما مختصان بهذا العقد، وغيرهما موضوع لغيره، فلا يفهم منه العقد، إلا بذكر الصداق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 أبو الحسن بن أم شيبان، رحمه الله قاضي القضاة. هو محمد بن صالح بن محمد بن صالح، بن علي بن يحيى، بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، بن عبد الله بن عباس، بن عبد المطلب. وجده يحيى، هو المعروف بابن أم شيبان. يروي عن السعدي، وابراهيم بن حماد. حدّث عنه أبو عبد الله، وأبو العباس أحمد بن مالك الكرخي، ومحمد بن حميد الخزان، وأبو القاسم الوهراني، وليَ قضاء الكوفة، سبع سنين. ومنها أصله. سنة أربع وثلاثين وثلاثماية. وولي قضاء القضاة ببغداد. وذكره صاحب الكتاب في هذه الطبقة، قال: وعنده كان يجتمع المالكية، أصحاب أبي بكر الأبهري، ببغداد، للنظر. قال الفرغاني: وكان دعي لقضاء بغداد، بعد ابن أبي الشوارب، أيام معز الدولة. فاستعفى وامتنع. وقال لا حاجة لي بقضاء بغداد. إذ صار بالقبالات؟ وأبوه صالح، يكنى بأبي عيسى. حدّث عن عبد الله بن الخراساني. حدّث عنه القاضي الصيمري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن أحمد بن سليمان بن سعيد البصري من المالكية بها. وكان حاكمها. يروي عن ابن البكر، وعن أبيه. سمع منه عبد الله بن محمد بن ربيع الأندلسي. وأبو القاسم الحبلي. وأبو محمد القلعي. هو غير الأول. ومتقدم على طبقته شيئاً. والله أعلم. أبو الحسن علي بن ميسرة القاضي ذكره صاحب الكتاب الحكمي، وابن حارث في طبقة الأبهري من العراقيين، وممن لم يسمع من اسماعيل. وذكر أنه ولي قضاء أنطاكية. وله كتاب في إجمال أهل المدينة. قال القاضي الإمام المؤلف، رضي الله عنه: وأرى أن أبا عبيد الجبري، لقبه. وذكر ابن بطال في شرحه، عن أبي عبيد هذا، قال: سئل أبو الحسن بن ميسرة القاضي، البغدادي، عن رجل كان له على نصراني دين، فأفلس. ولا مال له، سوى وقف أوقفه على مساكين أهل ملته، قبل استحداثه للدين. هل ينقض وقفه، ويقتص منه المسلمين الدين؟ فأجابه بقوله: أهل الكتاب أملاكهم غير مستقرة. وإنما لهم شبهة ملك، على ما في أيديهم. فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة، ارتفعت. ولم يعترض عليهم في عقد ما عقدوه، مما لو كان في شرعنا، لم ينقض، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 لأنهم على ذلك صالحوا. ولما جاز إقرارهم على غير دين الحق، إذا أعطوا الجزية، وجب أن لا يتعرض عليهم في نقض وقف، ولا غيره، مما يتعلق بحق الله، عزّ وجلّ. أبو الحسن عمر بن محمد بن أحمد المالكي أراه ولي القضاء. أبي عبد الله التُستري، حدث عنه الدارقطني، يروي عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل الدولابي، والحسن بن المبارك الطوسي، وخلف بن محمد، ومحمد بن عبد الله العمري، وهشام بن علي السرابي واللؤلؤي، واللخمي. أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، المتكلم، أبو عبد الله، صاحب أبو الحسن الأشعري. وهو من أهل البصرة، وسكن بغداد. وعليه درس القاضي أبو بكر الباقلاني، الكلام. وله كتب حسان في الأصول. ذكر لنا غير واحد من شيوخنا: أنه كان يحسن الستر، يحسن الزي، جميل الطريقة. وكان البرقاني، يثني عليه، ثناء حسناً. وأدركه ببغداد فيما أحسب. وكان ابن مجاهد هذا، مالكي المذهب، إماماً فيه، مقدماً. غلب عليه علم الكلام والأصول. أخذ عن القاضي التستري، وله كتاب في أصول الفقه، على مذهب مالك، ورسالته المشهورة في الاعتمادات، على مذهب أهل السنة التي كتب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 بها الى أهل باب الأبواب. وكتاب تهدية المتبصر ومعونة المستنصر. وتواليف أخرى وغيرهما. وسمع الصحيح للبخاري، من أبي زيد المروزي، ورأيت سماعه في كتاب الأصيلي بخطه، واستجاز الشيخ أبا محمد بن أبي زيد رحمه الله، في كتاب المختصر والنوادر. قال القاضي الإمام المؤلف رضي الله عنه: ورأيت له في ذلك رسالة يقول فيها: وقد وقع إلينا من تصنيفه - أيده الله - قطع من المختصر، وجدناه قد أحسن في نظمه، وألطف في جمع معانيه، وكشف ما كانت النفوس تتوق إليه، وكفى مؤونة الرحلة، وطلب المصنفات، بالكلام السهل، والمعاني البينة، التي تدل على حسن العناية، وكثرة المعرفة، والحرص على منافع الراغبين في العلم، والمتعلقين به. فأحسن الله أيها الشيخ جزاءك. وأجزل ثوابك. ثم ذكر له بعد أن بلغه، تصنيف النوادر. ثم قال: وما يتصل بنا من فضل الشيخ، أيده الله. قد نشطني الى تعريف ما بنا من الحاجة الى هذين الكتابين. وتطلعي وتطلع من قبلي من الطالبين لها. والشيخ، أيده الله، يتفضل في ذلك بما هو أهله، ويمنّ عليّ بذلك، فإني إليه، وجماعة من قبلي من إخوانه، والراغبين في مذهب الإمام رضوان الله عليه، يتطلعون إليه. فإن رأى الشيخ أيده الله، أن يتفضل بإنفاذها، بعد عرضها بحضرته، وإجازتها لي، ولغيري من أصحابنا، ممن آثر ذلك وأحبه. ثم سأله الدعاء له، وأرخ كتابه بسنة ثمان وستين. فجاوبه أبو محمد بجواب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 أحسن منه: وعندنا من أخبار الشيخ الطيبة، ما تعم مسرته، من نصرته في هذا المذهب. وذبه عنه، ومحاماته عليه، حماه الله عزّ وجلّ مكروهه، من صحته. وشكر فيه ابتداء مخاطبته، وسروره بذلك، ومودته له. وأجازه كتبه له، ولمن رغب ذلك، وأنه وجه إليه بعض النوادر، إذ لم يبيضها. وأن الوقت لم يتسع لكتب نسخة من المختصر، ولا من النوادر، وأن شابّين ممن عني بهم توجها، من مكة للقاء الشيخ - يعني ابن مجاهد - ولقاء الأبهري. وهما محمد بن خلدون. واسماعيل بن عذرة. وبعث معهما المختصر صحيحاً، مقابلاً. ووعده أن يوجه إليه ما رغبه من الكتابين، وسأله الدعاء له، كما سأله. رحمهم الله. وحكى ابن مجاهد، أن رجلاً جاء الى سهل التستري، فقال له: بلغني أنك تمشي على الماء، فادعو الله لي. قال لا أدعو لك، حتى تذهب الى فلان الملاح، فتسأله عن خبر في يوم كذا. فمضى وسأله، قال: إنه صعد هنالك، فتوضأ للصلاة، على الحجر فزهق فغرق، واضطرب بثيابه. فتراميت عليه، فأخرجته. وقد كاد يهلك، وعلقناه لسق؟ فرجع الرجل الى سهل، فأخبره. فقال له سهل: أما بعد هذا فأدعو لك. فدعا له. وهذا من سهل فضل كثير، وتواضع، واعتراف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وذكر الخطيب، أن ابن مجاهد كان ينشد لبعضهم: أيها المغتدي ليطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ... ثم أغفلت منزل الأحكام وحدّث عنه القاضي، أبو بكر بن الخطيب. وأبو بكر بن عذرة. وأبو القاسم عبد المؤمن المكي، المتكلم. رضي الله عنهم أجميعن. أبو العلاء عبد العزيز بن محمد البصري أحد فقهاء المالكية. كان بالبصرة. ذكره أبو حمد الوليد. وله كتاب في إثبات القياس. وكتاب في مسائل الخلاف. روى عنه أبو عمر بن سعدي. وقال أبو القاسم الهمداني: جالست بالبصرة أبا العلاء المالكي، وذاكرته، وعليه، مع ابن عطية، كانت تدور الفتوى على مذهب مالك، بالبصرة. القاضي أبو العلاء الحسن بن محمد بن العباس، البغدادي ذكره ابن حارث في علماء المالكية. قال: ورأيت له اختصار الكتاب المبسوط، سماه المقتضب من المبسوط. ورأيت أن له كتاباً في الفروق، ويعرف بابن البصري، ويحتمل أنه الذي لقي الهمداني، لا الأول. والله عز وجلّ أعلم. لا ربّ سواه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 علي بن محمد بن ابراهيم بن هشام بصري تقدم ذكر أبيه في أئمة المالكية وكبار أصحاب اسماعيل. وذكر هذا أبو عمر المغربي في كتابه. وذكر أنه مالكي، ويكنى بأبي الحسن. قال: وكان خيراً فاضلاً، من مياسير البصرة. وتصدق بماله، وغلب عليه الزهد، وروى القراءة على أبي العباس المعدل. وروى عنه ابن غليون. قال: توفي بالبصرة سنة سبع وسبعين وثلاثماية. وخرج بجنازته بعد الزوال، فلم يصل الى موقفه، إلا بعد المغرب، من كثرة ما شاهده، حتى ضجّ الناس بذلك. أبو عبد الله محمد بن عطية البصري أحد فقهائها. قال الهمداني: جالسته، وذاكرته بها. وعليه، وعلى أبي العلاء كانت تدور الفتوى، على مذهب مالك رحمه الله، بالبصرة، في وقتهما. أبو إسحاق الطبري ذكره أيضاً الوهراني، في جلساء الأبهري. قال: وكان من أصحابنا ومن أهل العلم والحديث، وحفاظه، وكان الأبهري يتذاكر معه فيه. أحمد بن محمد بن عمر الدهّان البصري من أئمة المالكية بالمشرق. وله كتاب في نقض كتاب الشافعي، في رده على مالك، ستة أجزاء. وقفت عليه. قال ابن حارث: وله غير ذلك من التأليف، روى عن ابن شاهين عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 مصعب الزبيري، وممن ذكر من أئمة مالكية أهل المشرق، والمتأخرين، رضي الله عنهم. ولا أتحقق طبقته. أبو عبد الله الواسطي، رحمه الله وقد ألف مسائل الخلاف. وشرح مختصر أبي المصعب الزهري، رحمه الله. أبو علي الدهان رحمه الله مذكور في مالكية أهل المشرق. وله أيضاً مسائل الخلاف. ولا أعرف هذا الأول أو غيره. محمد بن جعفر البصري المعروف بالخفّاف. له مسائل الخلاف. وشرح مختصر ابن عبد الحكم الكبير. قال ابن حارث: وهو ديوان كبير، أبان فيه. وقال أبو بكر الأبهري: ولم يشرح المختصر الكبير أحد، إلا الخفّاف. وضعف فقهه الأبهري، رحمه الله. وقال: لم يكن يعرف. أبو حاتم الرازي، رحمه الله تعالى ذكره في أئمة المالكية، القاضي أبو الوليد الباجي في فرقه. ولم يذكر طبقته، ولا اسمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن رجاء البصري، المالكي فقيه نظار محقق. وله كتاب في أصول الربا. وتعليله على مذهب مالك، أجاد فيه. ولا أتحقق طبقته. رحمه الله. أحمد بن محمد بن جامع البصري قال ابن حارث: رأيت له كتاباً في الوصايا، ذكر أنه اقتنصه من المبسوط، وسماه بذلك. وعدده في فقهاء العراقيين المتأخرين. روى عنه عبد الوهاب عن الحسن. وذكره ابن حارث، رحمه الله، في هذه الطبقة. أبو عبد الله المالكي، البصري الملقب بفلفل. حكى عنه أبو جعفر الأبهري. والقاضي أبو محمد بن نصر، في تصانيفهما. من أهل مصر أبو بكر النعالي وهو محمد بن سليمان. كذا سماه القاضي أبو عبد الله ابن الحذّاء. وقال أبو إسحاق الشيرازي: محمد بن اسماعيل. وسماه ابو محمد بن الوليد: محمد بن بكر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 بن المفضل. وكذا قال عبد الغني. نسب الى النّعال الصواري. أخذ عن أبي اسحاق ابن شعبان. وبكر بن العلاء القشيري. ومحمد بن زيان. وسعيد بن هاشم، وابن يزيد، ومأمون، وغيرهم. روى عنه ابو بكر بن عبد الرحمن القروي. وعبد الغني بن سعيد الحافظ المصري. وابو بكر بن عقال الصقلي. وأبو عبد الله بن الحذّاء الأندلسي. وإليه كانت الرحلة والإمامة بمصر. وجالسه القابسي، وعظّم شأنه، وأثنى عليه. وحكى عنه. قال ابن الحذّاء: كان فقيه عصره، وكان المتكلم عنده بمصر في العلم والمسائل. وما رأيت رجلاً أتم مروءة منه، ولا أعف ولا أكمل، ولا أقنع. وكان أسخى الناس. ذكر لي أنه لم يجتمع له ما يزكّى عليه. قال غيره: وكان مبايناً لبني عبيد الله. قال القابسي: كانت حلقته في الجامع، تدور على سبعة عشر عموداً، لكثرة من يحضرها. وكان أبو القاسم، ممن حدث بمصر أيضاً عن المقداد بن داود. حدث عنه عبد الغني وغيره. وقال ابن الحذاء: وتوفي رحمه الله، في الثمانين والثلاثماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 أبو القاسم الجوهري رحمه الله هو عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي. الجوهري. فقيه، كثير الحديث، من شيوخ الفسطاط، وكبار فقهاء المالكية. وشيوخ السنّة. سمع من ابن شعبان، ومؤمل بن يحيى، وأبي القاسم العثماني، والحسين بن رشيق، وأحمد بن محمد الإمام، وأبي الطاهر القاضي، وأبي علي المطرّز، وعبد الصمد بن محمد النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وغيرهم. روى عنه أبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو محمد الأجدابي، من القرويين. ومن المصريين ابنه، وأبو الحسن بن فهد، وأبو العباس بن نفيس المقري، وأبو علي الحراني، وأبو بكر بن عقال الصقلي، رحمه الله. ومن الأندلس: خلف الجعفري، وابنه محمد بن الوليد، وابن الحداد وأبو عمر الطلمنكي. قال أبو عبد الله محمد بن الحذاء القاضي: كان فقيهاً ورعاً منقبضاً، خيراً من أجلّة الفقهاء. قال أبو عمر الطلمنكي: وكان قد لزم بيته، لا يخرج منه. قال الباجي: لا بأس به. وألف كتاب مسند الموطأ. وكتاب مسند ما ليس في الموطأ، قال ابن الحذاء رحمه الله: وتوفي فيما أحسب سنة خمس وثلاثين وثلاثماية. علي بن محمد بن ابراهيم بن هارون الحضرمي من أصحاب القشيري. يروي عنه، وعن أبي عمر الكندي. وأبي بكر بن الأصبغ. روى عنه ابنه، أبو القاسم. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 الحسين بن عبد الله بن حسين الفطسي معدود في المالكية، في مصر، في هذه الطبقة. يروي عن أبي الحسن العراقي الصولي. حسين بن وليد بن نصر رحمه الله يعرف بابن العريف. ويكنى أبو بكر. أصله من قرطبة. وخرج الى المشرق. وسكن مصر، ورأس بها، وحلق بجامعها. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً بالمسائل، حافظاً للرأي، نحوياً متقدماً. توفي بمصر، سنة سبع وستين وثلاثماية. وهو أخو أبي القاسم بن عريف النحوي، القرطبي. عبد الوهاب بن الحسين بن علي بن داود بن سليمان بن خلف مصري، مالكي. أخذ عن أبي الحسن بن أبي مطر، والذهلي، والجوّاب، وأبي محمد الزهري، وأحمد بن جامع، وأبي منصور البارودي، وابن هداد، وحمزة الكناني، والصموت، وأبي الورد، وابن أبي الأصبغ وغيرهم. سمع منه أبو الحسن الحوفي، وعبد الله بن إسحاق بن مريم، رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 أبو بكر ابن أبي محمد بن يزيد، رحمه الله واسمه خالد بن خالد بن يزيد المصري، من فقهاء مصر، وجلتها، والتحليق بجامعها. وهو الذي خلف أبي إسحاق بن شعبان في حلقته، بعد وفاته. وهو والد أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الفقيه الداخل، الأندلسي. وسنذكره بعد. محمد بن نظيف رحمه الله تعالى كنيته أبو عبد الله، المالكي، البزار. قال أبو بكر: كان من العلماء الراسخين البارعين، والأئمة المعدودين، والعلماء المجتهدين. تخلى عن الدنيا، وانقطع الى الله عز وجلّ، وخرج - يعني من القيروان الى مصر، - عند ظهور سبّ السلف رحمهم الله تعالي. وعندما اشتهرت إمامته، هروباً من الرئاسة والفتنة، وكان من أصحاب أبي بكر ابن اللباد، ونظراء أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله. وسمع بمصر من محمد بن أحمد بن خروف. وكان أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه، يقول: لو كان أبو عبد الله مقيماً بالقيروان، لم يسعني أن أجلس هذا المجلس، لأنه أولى به مني، في حفظه وفهمه وفقهه ودينه وورعه. وكان يعد في أعلى طبقة أصحاب أبي بكر، رحمه الله. وكانوا جعلوا لأصحاب أبي بكر أشباهاً من أصحاب مالك. فشبهوا محمداً هذا بابن القاسم. وأبا محمد بن أبي زيد رحمه الله، بأشهب، وابن أبي هشام بابن نافع، وابن التبان بابن بكير. وذكره أبو الطيب ابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 خلدون في بعض كتبه، فقال: كان إماماً فاضلاً، ولما نزل مصر لازم بها أبا إسحاق بن شعبان، وأبا الذكر، وبعدهما النعالي وغيرهم. وداوم على مجلس السبائي بالقيروان. فغاب عنه مرة، فسأله أبو إسحاق عن ذلك. فقال: أغتيب بمجلسك رجل مسلم. فقال له أبو إسحاق: أنا تائب من ذلك. وذكر أنه جاء يوماً لحضور بيع كتب، وفي المجلس جماعة من العلماء والصالحين رضي الله عنهم. فلما رأوه قاموا كلهم على أرجلهم، تعظيماً له. وكانت له هيبة، لم تكن لأحد في وقته، فأعظم فعلهم في نفسه. وعزم على اختبره، فألقى عليه مسألة من معاني القرآن، ففجر عنه فجراً. فقال في نفسه لو قام هؤلاء له على رؤوسهم لكان قليلاً. وتوفي رحمه الله، سنة خمس وخمسين وثلاثماية بمصر. وكان له إخوة صالحون، أبو علي حسن رحمه الله، من أهل العلم والرواية والفضل. وعبيد الله، رحمه الله من أهل العبادة والاجتهاد والتلاوة. رافق أبا الحسن القابسي في طريق الحج من القلزم، فكانت له كل يوم ختمة، وربع. رحمه الله. علي بن أحمد بن اسماعيل البغدادي سكن مصر، وكان ينتحل مذهب مالك بن أنس، ويقول بالاعتزال. وكان داعية في ذلك. وكتب الى فقهاء القيروان رسالة معروفة، يدعوهم فيها الى الاعتزال، والقول بالقدر، والمخلوق، وغير ذلك من مذاهبهم. ويقول لهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 طريقة متكلمي أهل السنّة، ومذهب الأشعري، ويبدّعه، فجاوبوه - فقهاء القيروان - وردوا عليه، وجاوبه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله، عن كتابه برسالة معروفة. ظهر فيها علمه وقوته في الكلام بالرد على أهل الأهواء. ونفى عن مالك وأصحابه جميع ما نسب إليه. وجعل يحتج على نقض قوله في القدر من كلام مالك البديع، في رسالته في القدر، الى ابن وهب رحمه الله تعالى. قال القاضي المؤلف أبو الفضل رضي الله عنه: وهذا الرجل غير معروف في المالكية، ولا معدود فيهم، وإنما تسمى بمذهب مالك لينفق بدعته عند العامة. فذكرناه تنبيهاً عليه، لا لنستكثر بمثله. أبعد الله مثله. عبد العزيز بن علي المقري المالكي، المصري من أصحاب أبي الذكر الفقيه بها. وممن عني بالفقه وعلم القرآن، وغلب عليه. وكان من المتصدرين لإقراء القرآن. وكان يقرئ في جامع عمرو. وقال: كنا نختلف الى أبي الذكر المالكي، عنده. ويجالسنا في ذلك كل يوم بعد صلاة الصبح الى الزوال. ومن الظهر الى العصر. فجلس إلينا مرة شاب. فكان يجيب في المسائل أحسن جواب. وجعل يختلف الى الحلقة زماناً، وعلى وجهه أثر صفرة. وكان من أحسن الناس وجهاً. وعليه ديبقتان، وطيلسان ونعل شراكه أسود. وكان لا يلبسها بشراك أسود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 إلا الشطّار. وكنا نعجب من ذلك. فلما دخل الشتاء وغيّر الناس زيهم، لم يغيّر الشاب زيّه. فقال لنا الشيخ: أظنه مقلاً. ويجب تفقّد حاله، فبادر الناس، فجمعوا له ماية مثقال، وعقدها الشيخ في خرقة حمراء. وقال لأحد أصحابه: أرصد الشاب. فإذا قام من الحلقة، تدفعها إليه وتقول: جمعها لك الشيخ من وجه طيب. فلما خرج الشاب من الجامع تبعه رسول الشيخ، حتى أتى القرافة، فدعي لصلاة على جنازة. فتقدم. فلما سلّم أخذ الرسول بطرل ردائه، فانفتل إليه، فأدى إليه رسالة الشيخ وسلامه، ودفع إليه الصرة. فقال له: وما هي؟ قال دنانير. فقال الشاب: ما لي أهل يحتاجون إليها ولا صديق. فألحّ عليه الرسول، وهو يمشي معه. حتى قربا من المقطم، فلما خشي فواته، قبض عليه. فقال الشاب: يا هذا أما علمت أن لله تعالى عباداً، لو شاءوا أن يجعل لهم الحصى دنانير لفعل؟ وحرّك شفتيه، قال الرسول: فنظرت الى الصحراء دنانير، فتركت يدي منه، وحثوت بيديّ جميعاً في الأرض حرصاً على الدنيا، فوقع في يدي دينار أطلس بلا كتابة. وتعلق الفتى بالجبل، وفاتني. وانصرف حيران، فلما بصرني الشيخ، قال لأصحابه: أرى الصرة سقطت منه. فحكيت له الحكاية وأريته الدينار، فقبّله ووضعه على عينيه، وفعل الناس كفعله. ثم كان عند الشيخ حتى مات، وأدرج في أكفانه. رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 أبو العباس أحمد بن سهل بن المبارك المعروف بالعطار. بصري الأصل. سكن الاسكندرية. قال فيه عبدوس بن محمد: فقيه. وقال ابن معاوية: كان فقيهاً حازماً يذهب مذهب مالك. وكان ابنه أبو عبد الله محمد، حافظاً للحديث والفقه. عجباً من الصالحين. سمع من أبي العباس، الناس الكثير. وسمع هو من أحمد بن مراد الجهني. وعلي بن يزيد، ومحمد بن زيان، وأبي القاسم البغوي، وأبي الطاهر بن مهدي، قاضي أخميم، وغيرهم. حدّث عنه من أهل الأندلس: عبدوس بن محمد، وأبو الحسن الحجاري. من أهل إفريقية أبو سعيد خلف بن عمر كذا قال الرقيق. وقال المالكي: عثمان بن عمر. قال أبو عبد الله الخواص: عثمان بن خلف، المعروف بابن أخي هشام الربعي الخياط. من أهل القيروان، تفقه بابن نصر، وسمع منه، ومن أبي القاسم الصدري، وأحمد بن عبد الرحمن القصري، وأبي بكر ابن اللباد، وغيرهم. وبه تفقه أكثر القرويين. ذكر مكانه من العلم والثناء عليه قرأت في التعليق المنسوب الى خط أبي عمران الفقيه، ذكره، فقال: كان شيخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 الفقهاء وإمام أهل زمانه في الفقه. قال الرفيق في تاريخه، نحوه. وقال: كان إمام أهل زمانه في الفقه، ولم يكن عنده رياء ولا تصنع. وكان يجتمع هو وأبو الأزهر ابن معتب، وأبو محمد ابن أبي زيد، وابن شبلون، وابن التبان، والقابسي، وجماعة ذكرناهم، ونذكرهم، للتفقه في جامع القيروان، عندما ظهر أمر أبي يزيد، على بني عبيد. أخذ عنه جماعة ممن ذكرناه وخلف بن تميم الهواري. قال المالكي: كان يعرف معلم الفقهاء. لم يكن في وقته أحفظ منه، اختلط علم الحلال والحرام بلحمه ودمه، وما اختلف الناس فيه واتفقوا عليه. عالماً بنوازل الأحكام، حافظاً بارعاً فرّاجاً للكرب، مع تواضع ورقة قلب، وسرعة دمعة وخالص نية. سأل عبد الله صاحب القيروان أبا محمد بن أبي زيد، رحمه الله، من أحفظ أصحابكم؟ فقال له: أبو سعيد. قال: فمن أحفظهم بخلاف الناس؟ قال: أبو سعيد. وذكر مرة حفظه وقوة نفسه فقال: لو شاء أن يخطي دحمان بن معافى، فعل. وقال أبو القاسم بن شبلون: ما أخذ على أبي سعيد مسألة خطأ قط. قال أبو محمد الأجدابي: كان أبو سعيد من أجلّ أهل زمانه، يعرف طريق الصوفية. قالوا وكان أبو سعيد إذا قال: أجمعت الأمة. لم يوجد خلاف لقوله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 ولما لفّ في أكفانه، قال أبو محمد بن أبي زيد: رحمه الله، إن أبا سعيد ليس يلقى الله بمثل ذرة من رياء. ولما ورد درّاس بن اسماعيل، أبو ميمونة، القيروان، وعجب الناس من حفظه، بلغ أبا سعيد تقصيره بعلماء القيروان، وأضافته قلة الحفظ إليهم. فقال لأصحابه: اعملوا على أن تجمعوا بيني وبينه لئلا يقول دخلت القيروان ولم أرَ بها عالماً. فما زالوا به، حتى أتوا به الى أبي سعيد في مسجده. فسلم عليه. فألقى أبو ميمونة عليه نحواً من أربعين مسألة، من المستخرجة، والواضحة. فأجابه عنها أبو سعيد. ثم ألقى عليه أبو سعيد عشر مسائل من ديوان محمد بن سحنون، فأخطأ فيها، أبو ميمونة كلها، فعطف عليه أبو سعيد وقال له: لا تغفل عن الدراسة، فإني أرى لك فَهماً. فإن واظبت، كنت شيئاً. فلما قام أبو ميمونة يخرج، لم يعرف الباب من الحيرة. وناظره بعض العراقيين، فقال لهم: أنتم تقولون من سبّ عائشة قتل. والله يقول: " والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شُهداء " الآية. والرسول إنما جلد أصحاب عائشة. فلم تأخذوا بالقرآن ولا بالسنّة. فقال له أبو سعيد: قال الله تعالى: " أولئك مُبرأون مما يقولون ". ليضرب مثل البراءة بما في القرآن. وبعد القرآن، من سبّها فقد رد القرآن، ومن رد حرفاً منه، فقد كفر بإجماع. وذكر أنه كان يمشي مع أحد طلبته في فحوص صبرة، فحضرتهم الصلاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 فأراد الشيخ الصلاة، فقال الطالب: اصبر حتى نخرج من أراضي هذه المدينة السوء. فقال له أبو سعيد: هذا جهل منك، أي ضرر على الأرض من صلاتنا. ولو لزم ترك الصلاة في الفحوص المغصوبة، وجب للمصلي أن يستأذن من أربابها إذا كانت غير مغصوبة. قال أبو عبد الرحمن: وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. وإن الصلاة في أرض المسلمين، بغير إذنهم، جائزة بلا خلاف. وإنما هذا فيما لم يجزه الغاصب ببناء. وتجوز على حاله بعد الغاصب، كما كانت قبل. بقية أخباره ونوادره وكان أولاً، يبيع الحنطة. ثم رجع يكتب الوثائق، ويأخذ عليها الأجر، لقلة ذات يده. وكان يقول: من دارى الناس مات شهيداً. وسئل عن الكرامات؟ فقال: ما ينكرها إلا صاحب بدعة. وصحح انقلاب الأعيان فيها. قال أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله: وكان بين أبي سعيد، وأخيه مشاجرة، في ربع، فرفعه الى النعمان قاضي القيروان، للشيعة. فأخبر القاضي بمكانه، فأمر بإدخاله، ومن معه. وقال له: هاهنا، جِواري. قال: جئت مخاصماً. قال: بجواري. ولو خاصمك أهل القيروان. فذكر له خبر أخيه، فهمّ السلطان بضربه وسجنه. فقال له: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 لم أرد هذا. أريد أن تأخذ على يده وتزجره، ففعل. قال بعض أصحابه: قام عنا أبو سعيد مرة، ثم أتانا يضحك، فسألناه فقال: صيح بي لامرأة من القرابة، صرعت. فلما دخلت قال لي الجان: لمَ لم تسلّم؟ والله - أصلحك الله - إنا نفتقدك كل ليلة، ونزور العلماء. ولقد كنت عندك البارحة، جالساً تحت الميزاب، وأنت تأكل التمر، ولقد رميتني بنواة. آتيك الليلة؟ فقلت: لا يا مشؤوم. وكان أبو سعيد قبل، ينكر مثل هذا. الى أن صرع إنسان بجانبه. فقال له الجان: على لسان المصروع أنت تنكر هذا يا أبا سعيد؟ فإني أخبرك - إن أردت - ما في بيتك، وما جرى لك مع خادمك البارحة؟ فقال له أبو سعيد: أسكت يا مشؤوم. فصار يصدّق بالأمر حينئذ. قال بعضهم: لقيت أبا سعيد يوماً. فسلمت عليه. وقلت له: أصلحك الله، كثيراً ما أذكرك. فقال لي وأنا ما أذكرك. لأني لا أنساك. وفاته رحمه الله قال: وتوفي ليلة الجمعة، لسبع خلون من صفر، سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. وقال الرقيق، والمالكي: سنة ثلاث وسبعين وصلى عليه ابن الكوفي، القاضي، وحضر الصلاة عبد الله بن زيري الصنهاجي، أمير إفريقية المعروف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 ببلقين. وجميع عسكره، وأهل القيروان كافة، وجميع أهل المذهبين، من الموافق والمخالف. مولده: سنة سبع وتسعين ومايتين، ورثي بمرات كثيرة منها، قول ابن خاقان النحوي، من قصيدة: فقل للواله الحرّ أذيلي ... بصوتك أنه حسن قبيح وقل للمسعدين، أبو سعيد ... ليَبكوا رزْءَ مصرعه ونوح فقد هلكت بمهلكه علوم ... وفضل ليس يبلغه المديح وقال ابن مازن أيضاً يرثيه من قصيدة: لقد فجع الورى شرقاً وغرباً ... ببحر من بحور العلم طامي بمن قد كان من علم ودين ... عن الإسلام والدنيا يحامي رأى الدنيا بعين النقص لما ... رأى ما دام ليس بذي دوام وأبْصر كلَّ ما فيها حطاماً ... فصان النفس عن جمع الحطام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد، رضي الله عنه وغفر الله له واسم أبي زيد عبد الرحمن. كذا قال الأمير ابن ماكولا. والقاضي ابن الحذاء. وهو نفزي النسب، قاله الأمير. سكن القيروان. ذكر مكانه من العلم وثناء الجلّة عليه وكان أبو محمد رحمه الله، إمام المالكية في وقته، وقدوتهم. وجامع مذهب مالك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 وشارح أقواله. وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية. وكتبه تشهد له بذلك. فصيح القلم ذا بيان ومعرفة بما يقوله. ذابّاً عن مذهب مالك، قائماً بالحجة عليه، بصيراً بالرد على أهل الأهواء. يقول الشعر، ويجيده، ويجمع الى ذلك صلاحاً تاماً، وورعاً وعفة. وحاز رئاسة الدين والدنيا. وإليه كانت الرحلة من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه. وهو الذي لخص المذهب، وضم كسره، وذبّ عنه. وملأت البلاد تواليفه. عارض كثير من الناس أكثرها. فلم يبلغوا مداه، مع فضل السبق، وصعوبة المبتدأ، وعرف قدره الأكابر. قال الشيرازي: وكان يعرف بمالك الصغير. وذكره أبو الحسن القابسي، فقال: إمام موثوق به، في درايته، وروايته. وقال أبو الحسن علي بن عبد الله القطان: ما قلدت أبا محمد بن أبي زيد، حتى رأيت السبائي يقلده. وذكره أبو بكر بن الطيب في كتابه، فعظم قدره. وشيّخه. وكذلك هو وغيره من أهل المشرق، واستجازه ابن مجاهد البغدادي، وغيره من أصحابه البغداديين. قال أبو عبد الله الميورقي: اجتمع فيه العلم، والورع، والفضل، والعقل. شهرته تغني عن ذكره. قال الداودي: وكان سريع الانقياد الى الحق. تفقه بفقهاء بلده. وسمع من شيوخه. وعوّل على أبي بكر ابن اللباد، وأبي الفضل الممسي، وأخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 أيضاً عن محمد بن مسرور العسّال، والحجام. وعبيد الله بن مسرور بن الحجام، والقطان والإبياني، وزياد بن موسى، وسعدون الخولاني، وأبي العرب، وأحمد ابن أبي سعيد، وحبيب مولى ابن أبي سليمان في آخرين. ورحل فحجّ، وسمع من ابن الأعرابي، وابراهيم بن محمد بن المنذر، وأبي علي بن أبي هلال، وأحمد بن ابراهيم بن حماد القاضي. وسمع أيضاً من الحسن بن بدر، ومحمد بن الفتح، والحسن بن نصر السوسي، ودرّاس بن اسماعيل، وعثمان بن سعيد الغرابلي، وحبيب بن أبي حبيب الجزولي، وغيرهم. واستجاز ابن شعبان، والأبهري، والمروزي. وسمع منه خلق كثير. وتفقه عنده جلة. فمن أصحابه القرويين: أبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو القاسم البرادعي، واللبيدي، وابنا الأجدابي. وأبو عبد الله الخواص، وأبو محمد مكي المقري. ومن أهل الأندلس: أبو بكر بن موهب المقبري، وابن عابد، وأبو عبد الله ابن الحذاء، وأبو مروان القنازعي. ومن أهل سبته: أبو عبد الله ابن العجوز، وأبو محمد بن غالب، وخلف بن ناصر، ومن أهل المغرب: ابن أمدكنو السجلماسي. ذكر تواليفه رضي الله عنه له كتاب النوادر والزيادات على المدونة، مشهور. أزيد من مائة جزء. وكتاب مختصر المدونة، مشهور، على كتابيه هذين المعوَّل بالمغرب في التفقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 وكتاب الاقتداء بأهل السنّة، وكتاب الذبّ عن مذهب مالك، وكتاب الرسالة، مشهور، وكتاب التنبيه على القول في أولاد المرتدين ومسألة الحبس على ولد الأعيان، وكتاب تفسير أوقات الصلوات، وكتاب الثقة بالله، والتوكل على الله سبحانه. وكتاب المعرفة واليقين. وكتاب المضمون من الرزق، وكتاب المناسك، ورسالة فيمن تأخذه عند قراءة القرآن والذكر حركة، وكتاب رد المسائل، وكتاب حماية عرض المؤمن، وكتاب البيان عن إعجاز القرآن، وكتاب الوساوس، ورسالة إعطاء القرابة من الزكاة، ورسالة النهي عن الجدال، ورسالة في الرد على القدرية، ومناقضة رسالة البغدادي المعتزلي، وكتاب الاستظهار في الردّ على الفكرية، وكتاب كشف التلبيس في مثله، ورسالة الموعظة والنصيحة، ورسالة طلب العلم، وكتاب فضل قيام رمضان، ورسالة الموعظة الحسنة لأهل الصدق، ورسالة الى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن، ورسالة في أصول التوحيد، وجملة تواليفه كلها مفيدة بديعة، غزيرة العلم. وذكر أنه دخل يوماً على أبي سعيد بن أخي هشام يزوره، فوجد مجلسه محتفلاً. فقال له: بلغني عنك أنك ألفت كتباً. فقال له: نعم أصلحك الله. فقال له: اسمع مسألة؟ قال له أبو محمد: أذكر أصلحك الله، فإن أصبتْ أخبرتنا، وإن أخطأتُ علمتَنا. فسكت أبو سعيد. ولم يعاوده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 بقية أخباره رضي الله عنه كان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله من أهل الصلاح والورع والفضل. ذكر أنه رحمه الله، قام ذات ليلة للوضوء فصبّ الماء من القلة في الإناء فانهرق، ثم صبّه ثانية فانهرق، ثم جرى له ذلك ثلاثاً، فاستراب. وقال: تتمردون علينا؟ فسمع من يقول له، ولا يراه: إن الصبيّ بال، فرشّ على القلة، فكرهنا وضوءك منها. ولما ألّف كتبه، على الفكرية، ونقض كتاب عبد الرحيم الصقلي، بتأليفه الكشف وكتاب الاستظهار، ورد كثيراً مما تقلده من خارق العادات، على ما قدره في كتابه. شنّع المتصوفة، وكثير من أصحاب الحديث عليه ذلك. وأشاعوا أنه نفى الكرامات. وهو رضي الله عنه، لم يفعل، بل مَن طالع كتابه، عرف مقصده. فردّ عليه جماعة من أهل الأندلس، ومن أهل المشرق، وألفوا عليه تواليف معروفة، ككتاب أبي الحسن بن جهضم الهمداني. وكتاب أبي بكر الباقلاني. وأبي عبد الله ابن شق الليل. وأبو عمر الطلمنكي في آخرين. وكان أرشدهم في ذلك وأعرفهم بغرضه ومقداره، إمام وقته القاضي أبو بكر بن الخطيب الباقلاني. فإنه بيّن مقصوده. قال الطلمنكي: كانت تلك من أبي محمد نادرة لها أسباب، أوجبها التناظر الذي يقع بين العلماء، صحّ عندنا رجوعه عنها. ولم يزل في ظاهر أمره، إلا محض السوء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 في ابن الأمير، إلا أن حمل الكرامات، فيما بلغنا عن طبقات عندهم، على مجالس، لأكل أموال الناس، ودرسوها بالموافقة. وقد روى منها وأملى كثيراً. قال الأجدابي: كنت جالساً عند أبي محمد، وعنده أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المؤمن المتكلم. فسألهما إنسان عن الخضر عليه السلام، هل يقال إنه باق في الدنيا، مع هذه القرون؟ ثم يموت لقيام الساعة؟ أو هل يرد هذا لقوله تعالى: " وما جعلْنا لبشرٍ منْ قبلِك الخُلد " فأجابا معاً: إن ذلك ممكن جائز، وأن يبقى الخضر عليه السلام، الى النفخ في الصور، وأن الخلود إنما هو اتصال بقائه ببقاء الآخرة. وإن البقاء الى النفخ، ليس بخلود. ألا ترى أن إبليس، لعنه الله، لا يسمى خالداً. وإن كان من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم، ويذكر أن أبا محمد رحمه الله تعالى كتب الى أبي بكر الأبهري رضي الله عنه: تأبى قلوبٌ قلوبَ قوم ... وما لها عندها ذنوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وتصطفي أنفس نفوساً ... وما لها عندها نصيب ما ذاك إلا لمضمرات ... أضمرها الشاهد الرّقيب قال أبو القاسم اللبيدي: اجتمع عيسى بن ثابت العابد، بالشيخ أبي محمد، فجرى بينهما بكاء عظيم وذكر، فلما أراد فراقه، قال له عيسى: أريد أن تكتب اسمي في البساط الذي تحتك، فإذا رأيته دعوت لي. فبكى أبو محمد، وقال: قال الله تعالى: " إليه يصعدُ الكلِمُ الطيّبُ والعملُ الصالح يرفعه ". فهَبْني دعوت لك. فأين عمل صالح يرفعه؟ وفاته رضي الله عنه وتوفي أبو محمد رحمه الله، وغفر له، سنة ست وثمانين وثلاثماية. ورثاه كثير من أدباء القيروان، بمراث مشجية. فمن قول أبي الخواص الكفيف: هذا لعبد الله أول مصرع ... تُرزا به الدنيا وآخر مصرع كادت تميد الأرض خاشعة الرُبى ... وتمور أفلاك النجوم الطُلّع عجباً أيدري الحاملون لنعشه ... كيف استطاعت حمل بحر مترع علماً وحكماً كاملاً وبراعة ... وتُقى وحسن سكينة وتورع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 وسعَتْ فجاج الأرض سعياً حوله ... من راغب في سعيه متبرع يبكونه ولكل باك منهم ... ذلّ الأسير وحرقة المتوجع وقال أبو علي ابن سفيان في قصيدة: غصت فجاج الأرض حتى ما تُرى ... أرض ولا علم ولا بطحاء ما زلت تقدم جمعهم هرباً لهم ... في مركب حفت به النجباء وذكر أن أبا محمد بن أبي زيد، رحمه الله. رؤي في مجلسه تحت فكرة وكآبة. فسئل عن سبب ذلك؟ قال: رأيت باب داري سقط، وقد قال فيه الكرماني، إنه يدل على موت صاحب الدار. فقيل له: الكرماني مالك في علمه؟ قال: نعم. هو مالك في علمه، أو كأنه مالك في علمه. فلم يقم إلا يسيراً. ثم مات رحمه الله. أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله أحد أئمة المسلمين، وأبدال أولياء الله الصالحين، وقد جمع الفقيه أبو القاسم اللبيدي، وأبو بكر المالكي، من أخباره وسيره، ما ذكرنا هاهنا عيوناً منه. هو ابراهيم بن أحمد بن علي بن مسلم البكري، من بكر بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 وائل، كان سلفه من أهل الخطط بالقيروان. ولهم مسجد يعرف بمسجد أبي مسلم بها. وجدّه علي من أصحاب سحنون. تقدّم ذكره في طبقته. وولى بنو الأغلب أبا بكر أحمد بن علي، والد الشيخ أبي إسحاق، خراج إفريقية. فتورط معهم. وكان من أهل الأدب والفهم. ثم ارتفع الى حدّ الوزارة، الى أن زالت دولة بني الأغلب. فنكب فيمن نكب. ولم يبق له إلا بقية ربع بسوسة. فلزم الخير والحجج، الى أن مات. ذكر بداية أبي إسحاق رحمه الله كان أبوه - وهو في حاله - قد أخذ له معلمين، أحدهما للقرآن، والآخر للعربية والشعر، وهو في رفاهة من العيش. قال أبو القاسم: فلقد حدثني من رأى أبا إسحاق في تلك الأيام، وحوله خمسة عشر صقلبياً موكلين بحفظه. وكان والده ينزل بقرية جبنيانة. وكانت من جملة أملاكهم. فيقيم بها الشهور، أكثر أيام النزهة، ومعه ابنه أبو إسحاق، يوجهه الى شيخ معلم بجبنيانة، يقال له ابن عاصم، يقيم عنده، ويتبرّك به، ويتعلم منه، ويختلف إليه بكرة وعشياً. وكان ابن عاصم، قد شهر بالعبادة، وإجابة الدعاء. وكانوا يتبرّكون بدعائه، قد نفع الله به خلقاً كثيراً، فكان يفعل هذا في كل سنة، الى أن بلغ أبو إسحاق الحلم، فدخل قلبه من الخير، ومما يسمع من ابن عاصم، ويرى من فضله، ما أزعجه عما كان فيه، فانخلع من الدنيا ولبس عباءة وهرب. فطلب فلم يوجد. وكان يستأجر نفسه، بما يرد عليها، يقيم به رمقه. قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 ولقد بقي في تلك الحال يومين. يطعم ولم يجد من يستأجره. فإذا برجل يقول: من يحمل هذا المجذوم الى موضع كذا، بثمن درهم. فحمله وأخذ الثمن فاقتات به. ووفق مع زهده الى طلب العلم. فكان لا يسمع في تصرفاته وسياحته، بعالم، إلا أتاه وسمع منه وكتب عنه. ولا برجل صالح، إلا قصده وانتفع به. وأبوه في هذا كله، بعد مع بني الأغلب في حاله. فلقد ذكر أن أبا إسحاق رحمه الله، وجد يعجن طيناً بمدينة سوسة، بأجرة. فقيل له: إن أباك كثير الاجتهاد في طلبك. فقال: قولوا له. أكنت تظن أنه يخرج من ظهرك، من يطلب الحلال؟ وحجّ سنة أربع عشرة وثلاثماية. ذكر محله من العلم وكان أبو إسحاق قد سمع من العلماء. وله من عيسى بن مسكين إجازة. وكتب عن أبي بكر ابن اللباد. قال اللبيدي: وكان ابن اللباد به متعجباً. وكان أكثر دراسته بالساحل، على أبي علي حمود بن سهلون. صاحب ابن عبدوس، وأخذ أيضاً عن محمد بن علي، بن عبد الرحيم بن علي ابن عبد ربه. وأبي يوسف ابن مسلم، وجماعة سواهم. وكان يقول: لقد رأيت هذا الساحل، وما منه قرية إلا بها رجل من أهل العلم والقرآن. أو رجل صالح يزار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق، حسن الضبط في نقله، وتصحيحه الكتب. إذا سمع من عالم لم يكتب اسمه في كتابه. وكان ممن سمع، وسكت. وكان حافظاً إذا حفظ شيئاً، قلّ ما ينساه. وكان درس من الفقه دواوين، وكتب بيده كتباً كثيرة. وكان من أعلم الناس باختلاف العلماء، عالماً بعبارة الرؤيا، ولا يفتي فيها. ويعرف حظاً من اللغة العربية، حسن القراءة للقرآن، يحسن تفسيره، وإعرابه وناسخه ومنسوخه. لم يدرك حظه من دراسة العلم بالليل، إلا عند ضعفه قبل موته بقليل. وكان لما ضعف بصره، عن قراءة الليل، فجعل ابنه أبا الطاهر، يقرأ عليه. قال أبو القاسم: وكان لا يفتي، إلا أن يسمع من يتكلم بما لا يجوز، فيرد علي. أو يرى فتى يخطئ في صلاته، فيرد عليه. ولقد وقف على مسائل، أفتى فيها جلّة العلماء. فقال لهم: عاودوا الفتيا. فما أراه أجاب إلا عن شغل، فعادوا، فأجابوا بخلاف الجواب الأول. وكان يقرأ، فلما ضعف جعل ابنه يقرأ عليه. فإذا حضر أحد من العامة، قطع القراءة، حذراً عليهم أن يسمعوا ما لا يفهمون، إلا أن يكون كتاب فقه. وكان أبو الحسن القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به. وكان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله، يعظّم من شأنه. ويقول: طريق أبي إسحاق، خالية لا يسلكها أحد في الوقت. ويقول: لئن لم يكن أمر أَوَيْس القرني صحيحاً، فالجبنياني أويس هذه الأمة. ويقول: لو فاخرنا بنو إسرائيل بعبادها، لفاخرناهم بالجبنياني. ويقول: من محبتي فيه، وكثرة ذكري له، إني أراه في المنام. ولقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 قوّى قلبي أنه يدعو لي. وأنه رأى جامع مختصر المدونة، الذي ألفته، فأعجبه. وكان أبو محمد التبّان يثني عليه، وكان مسرة بن سالم إذا ذكره، يبكي بكاء عظيماً، ويقول: كان والله مقدّماً علينا في صغره، وفي كبره. قال أحمد بن حبيب: قال أبو القاسم اللبيدي: وكان من أهل العلم، قال لي أبو إسحاق: أتدرسون في هذا الوقت العلم؟ قلت: نعم. قال فتجتمعون للمذاكرة؟ قلت: نعم. قال: لقد كنا نجتمع، ولقد لقينا المدونة في شهر، ونلقي الليل، فما علمت أننا نمنا ذلك الشهر، ثم قال وإنما نقوى على السهر بأكل اللحم. ثم قال لي: أي كتاب في أيديكم، تدرسونه؟ فقلت: العتق الأول. فألقي عليه من أوله، وسوّر المسائل، حتى كأن الكتاب في يده. قال: وكان ينزع بالقرآن والسنّة. وكان العلماء والفصحاء بين يديه، كالغلمان، بين يدي المعلم، من هيبته. ذكر زهده في الدنيا وسيرته في نفسه وولده وأهله قال أبو الحسن القابسي: لما رأيت هديه، وسمته في نفسه، وصلاته وحاله، رأيت شبيه السلف الصالح. وكان يقول: وقف أبو إسحاق على أقل عيش في الدنيا، فقال أروني منزلة دونها أنزل إليها. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق، من أشد الناس تضييقاً على نفسه ثم على أهله، كان يأكل البقل البري والجراد إذا وجده، ويطحن قوته بيده، شعيراً. ثم يجعله بنخالته، دقيقاً في قدر ماء، مع ما وجده من بقل بري أو غيره، حتى أنه ربما رمى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 منه بشيء الى الكلب، فلا يأكله. وربما عوتب في ذلك، فيقول: الرقاد ما الكلب على المزابل وأكل خبز الشعير، بنخالته، كثير لمن كان يرجو في الآخرة شيئاً. وكان قوته، الذي يأكله من الشعير بنخالته، يتولاه له رجل من إخوانه، يحرثه في أرض حلال، وزريعته حلال، وبقله حلال. فإذا أصاب زرعاً أكثر من القوت تصدّق به. وقوته من الزيت، من عند رجال صالحين. وكان لباسه أولاً: صوفاً من موضع يعرف أصله، فلما تغيرت الأمور - يعني بالفتن - كان يلبس خرق المزابل، يجمعها ويغسلها. ويبطن بعضها على بعض، فيجعل منها شيئاً وسطه، وشيئاً على ظهره، ويخيطها بمسلة من عظم غزال. وكان يتوطأ الرمل. وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر، الملقاة على المزابل، يجعلها تحته. ويكسر بيته كل واحد جبة صوف، ولفافة على رأسه، فإذا بلغ أحدهم أسقط النفقة عنه والكسوة. وقال له: لا نتقلدك، وكان وطاؤهم حصيراً خلقاً قديماً. وعند رؤوسهم الطوب. ومائدتهم جلدٌ - جلد ضحيته - ولقد مكث قبل موته، نحواً من سبع سنين لم يأكل خبزاً. إنما يلقي الدقيق في القدر، مع ما فيها. وكان إذا مشى، أسرع، حتى لا يكاد يدركه إلا من يجري. قال بعضهم: لقيته يوماً مهموماً. فسألته، ما بالك؟ فقال: ولما لا أكون مهموماً، والمنكر في داري؟ والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قلت: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 المنكر؟ قال: أي والله المنكر. قلت: ما هو رحمك الله؟ قال: قشور قرع ملقاة على بابي، رماها أهلي، يمشون عليها، وفيها قوت، أيموت أحد جوعاً وهو يجد قشور قرع؟ ثم جمعها، فطبخها لقوته. قال: وكان عند أبي إسحاق، في سنة، زيت حصل له من التعليم. فمرت على الناس شدة، فقيل له: تبيع هذا الزيت بالدين؟ قال: نعم، لكنني لا أعامل من له ذمة، إنما أعامل الفقراء، ومن لا ذمة له، فباعه منهم. فلما وجب البيع، قال: لي عليكم ألا يأتيني أحد منكم، بشيء مما عليه، حتى أقتضيه منه. فلما زالت الشدة وأيسر بعضهم، أتاه بالثمن. فقال لهم: ما هكذا بيني وبينكم، ثم ترك جميع ذلك لهم. وختم عليه صبي، فأتاه بدينار. فقال له شيخ من أصحابه: أعطني هذا الدينار أعمل لك فيه، ففعل. قال: فلم أزل أتجر له سنين كثيرة حتى حصل به من الزيت ما يساوي مائة دينار، وغلا الزيت. فأخبرته بذلك فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال له: إذا أتتك رقعتي بخطي، فأعمل على ما فيها. فكانت رقعته تأتي بيد فقير، فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. جبر الله يا أخي قلبك، وغفر ذنبك. تدفع الى موصل رقعتي كذا وكذا والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. وهكذا كانت كتبه. ثم صلى على جنازة. فقال لي: بقي من ذلك الزيت شيء؟ فقلت: لا إلا شيء، من عكر. ففرّقه، وانصرف منه، بنصف قفيز. لا غير ذلك. ورغب إليه رجل من الصالحين في حصار أبي يزيد واشتداد الحال، في دينار، يقبله منه، قرضاً - إذ أعلم أنه لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 يقبله على غير ذلك - فأبى. وقال: أنا في غنى عنه. عندي قفيز زيت، وخمسة أثمان شعيراً. فقيل له: وما يغني عنك هذا القدر، وأنت في خمسة من العيال، وفتنة وغلاء؟ فقال: الاشتغال بهذا من الفضول. قال ابنه أبو الطاهر: وكنا إذا بقينا بلا شيء نقتاته، كنت أسمعه في الليل يقول: ما لي تلاد ولا استطرقت من نسب ... وما أؤمّل غير الله من أحد إن القنوع بحمد الله يمنعني ... من التعرض للمنانة النكد إني لأكرم وجهي أن أعرضه ... عند السؤال لغير الواحد الصمد فذكر ذلك لأبي الحسن القابسي، فقال: مثل الجبنياني يقول هذا، ويصدق فيه. ذكر ورعه وخوفه وعبادته واستقصاره بنفسه ذكر أنه أول أمره استأجر نفسه عنده رجل، بجهة سوسة، يرعى له بقرة. فأتاه يوماً بفأس فقال: اقطع خشبة من هذه الشجرة. فقال له أبو إسحاق: ليست لك، إنما هي لأخيك. فقال له: صرت لي ضداً؟ إنما عليك أن تسمع ما آمرك به، فتعمله. فقال له: بلى، على أن أتقي الله. فانصرف عنه، فلحقه بأجرته. فقال له: من أين تدفعها لي أنت؟ لم تزع عن قطع شجرة أخيك في غيبته، فمن أين تدفع لي؟ فذهب ولم يأخذ منه شيئاً. وقال أبو بكر السيوطي: صحبته قديماً فكنا ربما استأجرنا أنفسنا في جمع الزيتون، فإذا دفعت إلينا أجرتنا يحط منها، ويقول: نخشى أنا لم نوفِ، فكيف نستوفي؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 وحضر طعام رجل من أصحابه، فلم يأكل منه، فعتب فيه. فقال: رأيته ترك حلاله، وأكل ذلك أوجب عندي التنزه عن طعامه. ولما رحل الى القيروان، ليسمع من أبي بكر ابن اللباد، جاء بجراديق من شعير، فكان يفطر كل ليلة على واحدة. ويشرب من بئر بروطة. فلما فرغ جرادقه، انصرف، ولم يشتر بها شيئاً يأكل، ولما جاءت فتنة أبي يزيد، واختلطت أملاك الناس في الغنم، ترك شراءَ الرّق، فلم يكتب فيه. قال بعض أصحابه: سرت معه يوماً، وأنا أسوق دابة. فأخذت عوداً من الطريق أضربها به. فقال لي، أهو لك؟ قلت: لا. قال: القه. قلت: إنه عود ملقى. فقال: كان أصحابنا يزعون عن أخذ الحجر من أرضهم، قلت له: إن مالكاً سئل عن الحبل والعصا؟ وما لا بال له؟ فقال: صدقت ولم يقل مالك: أخذه خير من تركه. وأقل ما يُتّقى من ذلك، أنها تصير عادة، هو أكثر من ذلك. وقال بعض أصحابه: رأيت في المنام رجلاً مشهوراً بالفسوق، يرجم بحجارة من السماء. فذكرت ذلك لأبي إسحاق. فأقبل عليّ، وهو مذعور. فقال: سألتك بالله أنا هو؟ يكررها عليّ، حتى حلفت له بالله، أنه إنما هو إلا فلان. فقال: والله ما أعلم أحداً أحقّ بذلك مني. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق ظاهر الحزن، كثير الدمعة، يسرد الصيام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 قال ابنه أبو الطاهر: إنه ما رآه مفطراً قطّ. قال، وقال لي أبي: إن إنساناً أقام في آية سنة، لم يتجاوزها، وهي قوله تعالى: " وقفوهُم إنهم مسؤولون ". فقلت له: أنت هو؟ فسكت. فعلمت أنه هو. وكان إذا دخل في الصلاة، لو سقط البيت الذي هو فيه، ما التفت. إقبالاً على صلاته. واشتغالاً بمناجاة ربه. ولقد جمع أولاده يوماً، لزيارة أمهم، وجاءوا بلحم، فطبخته لهم في ركن البيت، وتعشّوا، والشيخ في الركن الآخر يصلي، فبعد مدة قال لأمهم: ما لكم لم تعملوا عشاءً - لشدة إقباله على صلاته. وحكى بعضهم: إنه جاء يوماً فسلم عليه، وقبّل في عنقه. قال: فردّ يده، وصفع نفسه. فبكيت بكاء عظيماً. فقال لي: ما يبكيك؟ قلت لأن هذا كان بسببي. فقال: عنقي بالصفع أولى منه بالقبلة. وقيل له: لمَ اخترت جبنيانة على غيرها؟ قال: أردت أن يجعل الله ذكري فيها. لأني رأيتها من أقل القرى ذكراً. قال أبو القاسم: ولقد رأيته يوماً وعظ، فبكى وأبكى، حتى اتصل البكاء بخارج الدار. فصارت كأنها مناحة. فلما رأى ذلك، خاف الفتنة على نفسه، فنظر الى نعمل ملقاة، بحذائه، فقال لمن حوله: سألتك بالله خذوا هذا النعل، واصفعوا بها هذا الشيخ السوء، الذي يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ولا ينتهي عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 ونبت في ساقه نبت. فقيل له: دواؤه فخذ البقر، سخناً مع الزيت، حتى يطيب. فسأل عن بقرة أصيلة. فقيل له عند علي بن عيشون، فقال: إنه قد مات، وترك ورثة فيهم أطفال. وسمع رحمة الله عليه كلباً ينبح، فقال لأصحابه: هذا الكلب والله أنصح لأهله مني. لأنه يحرس لأهله ويمنع عنهم، وهم يجيعونه ويضربونه. فأنا قد منّ الله علي بالإسلام، وحضني على ما فيه نجاتي، فققصرت ولم أنصح نفسي. قال أبو عبد الله محمد بن مالك الطوسي: انتسخت من أبي إسحاق كتاباً فيه رقائق، وحكايات، فقلت لولده عبد الرحمن: عسى تلطف به حتى نسمعه منه، فجئناه فقلنا: أصلحك الله نحب أن تقابل هذا الكتاب بين يديك. فقال: افعلا. فلما أخذنا لنقابل، قلنا أصلحك الله تعالى، على من قرأته، أو عن من رويته؟ فأخذ الكتاب من يدي، وقال: انصرف. فقلت له: لو ترك العلماء الرواية لذهب العلم وانقطع الأثر، وأنت تعلم ما جاء فيمن كتم علماً. فقال لي وهو يبكي: أليس في الحديث يجهل هذا العلم من كل خلق عدوله، ينفون عنه تحريف القائلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؟ فقلت: نعم. فقال: شيخ جبنيانة ليس بعدل، حتى تقبل شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم. فانصرفت عنه. ولما ورد أبو حامد الخراساني إفريقية. وصل الى الجبنيانة، فسلّم عليه. وقال له: جئتك من خراسان زائراً. فقال له الشيخ: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا هذا منك، فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن بها من العلماء. ثم حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم والشام، ومصر، وتأتي الى المغرب، الى شيخ بجبنيانة تقول هذا؟ فبكى أبو حامد، وقال له: لو تكن هكذا لم آتك. وكان أبو حامد هذا يقول: رأيت بالمغرب أربعة ما رأيت مثلهم، علي بن محمد بن مسرور الدبّاغ. فلم أرَ أكثر حياء منه. وأبا إسحاق السبائي، فلم أرَ أعقل منه، وأبا الحسن الكانشي، فلم أرَ أظهر حزناً منه. وأبا إسحاق الجبنياني، فلم أرَ أزهد منه. وكان إذا رأى اجتماع الناس يقول: كانت أمي رحمها الله، خادماً وثمنها كذا وكذا، ويذكر ثمنها نزراً. وكانت صلاته - رحمه الله - صلاة العلماء، تامة موجزة. وكان مع سعة علمه، يأخذ بالجد والاجتهاد، وما يخرجه من الخلاف، ونسي يوماً الإقامة من بعض الصلوات. فلما سلم، قال لمن خلفه: إني نسيت الإقامة، ولا يلزمكم عندي إعادة. وأنا أعيد صلاتي. لأخرج من اختلاف العلماء. فاحتاط لنفسه رضي الله عنه. لأن عطاء ابن أبي رباح، والأوزاعي وغيرهما، يريان الإعادة، على من نسيها. رضي الله عنهم أجمعين، وغفر لهم وبالله التوفيق.، حتى تقبل شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم. فانصرفت عنه. ولما ورد أبو حامد الخراساني إفريقية. وصل الى الجبنيانة، فسلّم عليه. وقال له: جئتك من خراسان زائراً. فقال له الشيخ: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 هذا منك، فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن بها من العلماء. ثم حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم والشام، ومصر، وتأتي الى المغرب، الى شيخ بجبنيانة تقول هذا؟ فبكى أبو حامد، وقال له: لو تكن هكذا لم آتك. وكان أبو حامد هذا يقول: رأيت بالمغرب أربعة ما رأيت مثلهم، علي بن محمد بن مسرور الدبّاغ. فلم أرَ أكثر حياء منه. وأبا إسحاق السبائي، فلم أرَ أعقل منه، وأبا الحسن الكانشي، فلم أرَ أظهر حزناً منه. وأبا إسحاق الجبنياني، فلم أرَ أزهد منه. وكان إذا رأى اجتماع الناس يقول: كانت أمي رحمها الله، خادماً وثمنها كذا وكذا، ويذكر ثمنها نزراً. وكانت صلاته - رحمه الله - صلاة العلماء، تامة موجزة. وكان مع سعة علمه، يأخذ بالجد والاجتهاد، وما يخرجه من الخلاف، ونسي يوماً الإقامة من بعض الصلوات. فلما سلم، قال لمن خلفه: إني نسيت الإقامة، ولا يلزمكم عندي إعادة. وأنا أعيد صلاتي. لأخرج من اختلاف العلماء. فاحتاط لنفسه رضي الله عنه. لأن عطاء ابن أبي رباح، والأوزاعي وغيرهما، يريان الإعادة، على من نسيها. رضي الله عنهم أجمعين، وغفر لهم وبالله التوفيق. ذكر آياته وإجابته وفضائله، وهيبته، وتوكله قال: وكان العلماء، رضي الله عنهم، بالقيروان وغيرها، والفضلاء يقصدونه ويزورونه ويتبركون برؤيته، ويسألونه الدعاء لهم. وكان أبو محمد بن أبي زيد، رحمه الله يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 قوي قلبي إذ بلغني أنه يدعو لي. وكان أبو الحسن القابسي وغيره بقصده. قال أبو الحسن: لما سافرت إليه، أول سفرة، وقربنا من جبنيانة. دخل في قلبي منه رعب وهيبة عظيمة، وقلت لأصحابي: أخشى أن يجري على لسان هذا الشيخ، من أحوالنا شيء يظهره الله للناس، أو كلاماً هذا معناه. فوجدناه غائباً ليصلي على جنازة. فلما جاء وقت الصلاة وأذّن، ما ملكت نفسي عند سماع أذانه، حتى جلست الى الأرض، وسمعت أذاناً ما سمعت مثله، ثم دخنا المسجد، فلا أحد يتكلم إلا أن يسلّم سلاماً خفياً. فلما صلى انصرف. فسلمنا عليه، فكان منه إقبال عظيم. وكان قبل دخولنا جبنيانة، تكلم معنا بعض أصحابنا، فقال لنا رجل من العرب: وخطب إلي ابنتي رجلان صالحان من الموالي، فإن زوجتها لم تطب نفسي، وإن رددتهما خشيت أن لا تأخذ مثلهما. فكان أول شيء سمعنا من الشيخ قال: كان لسحنون بن سعيد صاحب من المغرب، خطب ابنته رجل من الموالي. فشاور سحنوناً، فقال له: زوّج من له دين ومروءة، ولو انفلقت عنه بعرة. ثم حوّل الجبنياني رأسه قِبَل صاحبنا فقال: هكذا قال سحنون. فقلت له قد أفتيت في مسألتك على لسان الجبنياني. وكان أبو إسحاق رحمه الله، قد سأل الله أن يبيّن له أهل البدع والمحدثين في الدين. فكان ربما لقيه قوم فيسلم على بعضهم، ويتفرس في آخرين فراسة سوء، فيقف عن السلام عليهم، فيكشف عنهم، فيوجدون على ضلالة، وله في هذا الباب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 أخبار مأثورات كثيرة. ولقد أتاه حسن بن رشيق، وزير السلطان، وابن النديم، فلما قربا من مسكنه قال أحدهما للآخر: أصابك مثل ما أصابني؟ قال له: وما هو؟ قال: إن عنان فرسي يسقط من يدي من الرعب. فقال له الآخر أصابني أشد من ذلك. فانصرفا ولم يجسرا على لقائه. وكان رجل من أهل السنّة، بقرية مشارقة ومعتزلة، ليس فيهم سني غيره، وعلى قريتهم كتامي. يقال له أبو دكرك. من الفراعنة. فقال جيرانه، لأبي دكرك: تكتب عليه محضراً أنه سبّ السلطان، وتأخذ أنت ماله، وتقتله. فإذا سألك السلطان عن قتله، أخرجت المحضر، فأمر باعتقال دار الرجل، لينزل عليها بالليل، فتحيل حتى خرج من الدار، ووصل الى أبي إسحاق، وقد ذهل عقله، فسلم سلاماً محتفلاً فقال له: ما بالك؟ قال: أبو دكرك جرى عليّ منه ما جرى، كذا وكذا. فقال أبو إسحاق: من أبو دكرك؟ دكرك الله به الأرض. ثم قال لمن حوله: إن صاحبكم مضطرب فاقصدوا به باب الملك الجبار. وأقبل على الدعاء، ومن حضر يؤمّن. ثم قال: تُكفى مؤنته، إن شاء الله تعالى. فكان من دعائه: اللهم دكرك الأرض بأبي دكرك. فلما كان الغد، أتانا السنّي يعرفنا أن أبا دكرك، قتله عبيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 والي البلد، وأخفوه. فاجتهدوا في طلب جسده وبذل السلطان عليه مالاً، فما وُجد له أثر. دكرك الله به الأرض. وسلم السني. قال اللبيدي: ووصل إلينا محمد الترجمان، وطلب من أهل موضعنا خمراً. فقالوا له: ما بهذا البلد أحد يشربها لانا بجوار هذا العابد - يعنون أبا إسحاق - فقال: مَن العابد؟ أنا أخرج قلبه على رمحي، ما يعرف هو غير مولاه - يعني السلطان - فمضى أهل القرية يشكون الى أبي إسحاق، ويعرّفوه. فقالوا: إنا خائفون على أنفسنا، وحريمنا. وقد تركوا معه أحدهم يلاطفه. فوجدوا أبا إسحاق مستقبلاً، فدعا بدعاء عظيم. ثم قال: تكفون مؤنته إن شاء الله. لا يدخل إليكم أبداً. قال أبو القاسم: فرجعوا ورجعت معهم، فوجدناه قد شدّ على خيله متوجهاً الى الجبل. فسقط في جرف، وسقط عليه فرسه، فمات. قال أبو إسحاق: رأينا منه ما يضيق بوسعه الكتاب. ومرّ به صاحب خير السلطان، وهو يؤذن، فقال له: يا منافق. لم تصدّ عن دعوة مولانا؟ فلما قضى الشيخ أذانه، قال: أذلك الله يا فاسق على يد من اعتززت به. فنقم عليه السلطان شيئاً فضربه خمسماية سوط. وصُلب حيّاً. فكان يقول: دواء مجرب، من أحب أن يضرب خمسماية سوط ويصلب حياً فليسبّ الجبنياني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 قال أحد أولاده: خرجنا عند الغروب من صفاقس، مع الشيخ، فأظلم علينا الليل، فلقينا السلاّبة. وقد شهروا حديدهم. فلما قربوا من الشيخ، قال: لا إله إلا الله، ينبغي للخلق أن يستحيوا من الله. ففرّت السلابة. ثم تمادينا نمشي في الظلمة. فإذا مشعلة نار مرة عن يميننا، ومرة عن يسارنا. حتى حاذينا منزل مروان العابد. فقال الشيخ: أنا أرجع الى عند مروان. وتمادوا أنتم. ثم حوّل وجهه الى الشعلة. فقال: يا فاسق، يا لعين، قد عرفناك، واتقيناك، إخساً فعليك لعنة الله. وطفيت الشعلة. قال بعض أصحابه العباد: نبتني نبت في أصل العجز وأقعدني، ولم أقدر أن أصلي معه، لا قائماً ولا جالساً، إلا مضطجعاً. فحملت حتى وصلت إليه، فأخبرته وقلت: قيل لي تكتوي بالنار. فخفت من النار. فبكى وقال: أي والله ينبغي لك أن تخاف من النار. ثم قال لي: اجعل يدك على المكان، ففعلت وجعل يدعو، ثم قال لي: قم فقد شفاك الله. فوالله لقد ركبت الدابة، فما مسكها أحد كأني ما مسني شيء قط. قال عمر بن مثنى: كل من أدركت بهذا الساحل من عالم أو عابد، يستتر ويتروى بدينه، خوفاً من بني عبيد، إلا أبا إسحاق، فإنه واثق بالله، فلم يسلمه، ومسك الله به قلوب المؤمنين، وأعزّ به الدين، وهيّبه في أعين المارقين. وحضر أبو إسحاق جنازة بنت بعض أصحابه، فصلى عليها وانصرف كل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 في السوق للصلاة عليها، خلفه. فرفع الأمر الى سلطان الشيعة: معد. وقيل له: إنه مطاع. فأمر بالبرد فخرجوا فيه. فسمع وزراؤه بذلك فأتوه، حفاة مشاة يقولون: إنا نخشى الهلاك. ما ظنّك برجل مجاب الدعوة، منقطع عن الدنيا. فرد البرد، وأرسل شيخاً من كتامة، في زي ناسك، ليختبر له أحواله، واختفى الشيخ الكتامي خلف حصير في المسجد، حتى جاء أبو إسحاق فأذّن للمغرب، وأقا، وصلى. فخرج الكتامي، من وراء الحصير، فقال له: يا منافق على مولانا، لا تؤذن حي على خير العمل؟ ولا تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تسلم على ناحيتين. ما لمولانا عدو مثلك؟ فدعا عليه. ثم قال: اللهم اجعله آية للعالمين. فطارت عيناه، جميعاً. فأخرج من المسجد يقاد وهو يقول: الموت، الموت مع هذا الشيخ لا تقربوه. وانصرف الى معد. فارتاع وقال لوزرائه: كيف ترون لو بدر منا فيه بادر. وكان - لما صلى على هذه الجنازة - بقربه رجل، فقال: يا أبا إسحاق، الوقت لا يحتمل. فقال له إنّا لم نبلغ درجة الصديقين، حتى نقتل على الحق. فقال له: يا أبا إسحاق، عندي دعاء الخليل، حين ألقي في النار، ودعاء يونس حين التقمه الحوت. فقال له الشيخ: يا مسكين، إن كنت تدعو دعاء الأنبياء، وتفعل فعل الفراعنة، فمن تخادع؟ وصلى مرة على جنازة امرأة، فجيء بجنازة كتامي، كبير. ومعه خلق منهم. فقالوا: الصلاة على هذا الشهيد. فلم يرد عليهم. فلما فرغ من دفن المرأة، انصرف وتركهم وقوفاً بتابوتهم. فافترق أصحابه، ومن معه من حوله. خوفاً أن يضعوا فيهم أيديهم. فلما ذهبوا بجنازتهم، أدركنا الشيخ، وقلنا له: الوقت، كما علمت، وهؤلاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 أصحاب السلطان، فأولى بك ألا تخرج للصلاة على الجنائز، فلما أكثرنا عليه، قال: كأنكم خفتم عليّ منهم. قلنا: نعم. قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخافهم دونك، فسلطهم عليّ. فأمنّا حينئذ ومشينا معه. وجاء إليه مرة، صاحب الأسطول في عسكر عظيم وصقالبة. فلما سلم الشيخ من الصلاة مضى إليه، حسون ومن معه، ليسلموا عليه. فحوّل إليهم وجهه، وهو مغضب، وقال لهم: خير ما لكم عندي. فما أعرف فلاناً، ولا فلاناً في الدارين، غير الله، هو الضار النافع. وأتاه يوماً حاكم سفاقص، وكانت تشرّف، وابن حجاج من أصحاب السلطان، فجلسا بين يديه، الى جانب مزبلة، وجلس بينهما شيخ ضعيف العقل. فأقبل يثني عليهما. فقال أبو إسحاق: جاء في الحديث: احثوا التراب في وجوه المدّاحين، وجاء في الحديث: إذا مدح الفاسق غضب الله عزّ وجلّ. ولا سبيل الى التخلف عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. فحثا بيده في وجه الشيخ الضعيف العقل، ثلاث حثيات، فامتلأت لحية الحاكم وصاحبه. وانصرفا. وكان في أصحاب أبي إسحاق، رجل مؤدب يزوره كل جمعة. فسرقت دابته، فطلبها فلم يجدها. قال: فأتيت أبا إسحاق وأنا أبكي، فعرّفته. فقال: يا ضعيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 العقل، على دابة تبكي. فقلت: والله ما بكيت إلا لوجهين، أحدهما انقطاعي عن زيارتك، والآخر جهادي بها عن بنيات لي. فدعا لي دعاء كثيراً، ونحن نؤمّن على دعائه، ونبكي. وذلك نصف النهار، فانصرفت. فلما كان بعد ذلك بليلتين أو ثلاث، قرع على الباب. وقيل لي: أخرج خذ دابتك، فخرجت، فإذا بدابتي مع ثلاثة رجال. فسألوني أن أجعلهم في حلّ، وقالوا: ما قصدنا دارك ولكن غلطنا. فقلت لهم: لابد لكم أن تخبروني بقصّتكم، فقالوا: ذهبنا بدابتك فنحن في الضحى، نصف النهار، إذ بصوت يقول: الى أين تذهبون، يا فسقة بداية الجبنياني؟ فنظرنا فلم نرَ شيئاً. ثم مشينا، فسمعنا بالصوت ثانية، فألقي في قلوبنا الرعب. فرجعنا حتى أتينا الليلة دار الجبنياني، فقرعنا عليه الباب، فقلنا له: خذ حمارتك واستغفر لنا، فقد فعلنا فيك ما لا يحل. فقال: أنتم يا مساكين، ابتليتم بهذه الدابة؟ قلنا: نعم، وأخبرناه. فقال: أنتم على طهارة؟ قلنا: لا. فأخرج لنا قلة وقدحاً وحبلاً. فاستقينا من بئر، واغتسلنا، ثم أتيناه فصلّينا وراءه ركعتين. وسأل الله لنا في التوبة. ثم قال: وصّلوا الدابة الى صاحبها. فجئناك بها. وكان أبو إسحاق، قلما يتغير على أحد فيفلح. قال لإنسان لاحه في شيء أنكره على آخر، لجهره في صلاة نافلة النهار. وقال له: يا هذا إن مالكاً، استحب فيها الإسرار. سيما في المسجد، لما يخلط على الناس. فقال الرجل: قد جهر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر بن عبد العزيز. فقال له أبو إسحاق: كان ذلك بالليل، وقد عاب عليه ذلك سعيد بن المسيّب. فقال له الرجل: تقول، سعيد حجة؟ فقال الشيخ: يا متعوس. أمام دار الهجرة، وشيخ التابعين، تقول هذا فيه؟ ما أراك تفلح والله، ما أراك تموت على الإسلام. ومات معتزلياً بعد ذلك. وقال له أبو سعيد ابن أبي عباس: سألتك بالله، يا أبا إسحاق أجبني عما أسألك عنه، فقال له: ما هذا يا أبا سعيد؟ إن سألتني عما أعلم أجبتك. فقال له: هل اجتمعت بالخضر عليه السلام، أم لا؟ فسكت منكراً. ثم رفع رأسه فقال: أعوذ بالله أن أدعي ما ليس ي بحق، يمرّ بي هاهنا أقوام يسلّمون عليّ بالليل، لا أدري أجنّ هم أم أنس. قال اللبيدي: أخبرت الشيخ أبا الحسن بهذه الحكاية. فقال هذا جواب عالم. لم ينكر ولا أقر. هي جيّدة. وقيل لزوجته، هل رأيت من أمره شيئاً تخبرين به؟ فسكتت وأبت من القول. فلما مات، سئلت، فقالت: إني في ليلة ظلماء حتى رأيت نوراً أغشى الحجرة، وموضع الشيخ. واسمع الحديث، فرعبت. وأقام ذلك مدة. فأحس بي أني يقظانة. فقال لي: احذري أن تذكري ما رأيت، ما دمت حياً. لكم أن تخبروني بقصّتكم، فقالوا: ذهبنا بدابتك فنحن في الضحى، نصف النهار، إذ بصوت يقول: الى أين تذهبون، يا فسقة بداية الجبنياني؟ فنظرنا فلم نرَ شيئاً. ثم مشينا، فسمعنا بالصوت ثانية، فألقي في قلوبنا الرعب. فرجعنا حتى أتينا الليلة دار الجبنياني، فقرعنا عليه الباب، فقلنا له: خذ حمارتك واستغفر لنا، فقد فعلنا فيك ما لا يحل. فقال: أنتم يا مساكين، ابتليتم بهذه الدابة؟ قلنا: نعم، وأخبرناه. فقال: أنتم على طهارة؟ قلنا: لا. فأخرج لنا قلة وقدحاً وحبلاً. فاستقينا من بئر، واغتسلنا، ثم أتيناه فصلّينا وراءه ركعتين. وسأل الله لنا في التوبة. ثم قال: وصّلوا الدابة الى صاحبها. فجئناك بها. وكان أبو إسحاق، قلما يتغير على أحد فيفلح. قال لإنسان لاحه في شيء أنكره على آخر، لجهره في صلاة نافلة النهار. وقال له: يا هذا إن مالكاً، استحب فيها الإسرار. سيما في المسجد، لما يخلط على الناس. فقال الرجل: قد جهر في مسجد رسول الله صلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 الله عليه وسلم، عمر بن عبد العزيز. فقال له أبو إسحاق: كان ذلك بالليل، وقد عاب عليه ذلك سعيد بن المسيّب. فقال له الرجل: تقول، سعيد حجة؟ فقال الشيخ: يا متعوس. أمام دار الهجرة، وشيخ التابعين، تقول هذا فيه؟ ما أراك تفلح والله، ما أراك تموت على الإسلام. ومات معتزلياً بعد ذلك. وقال له أبو سعيد ابن أبي عباس: سألتك بالله، يا أبا إسحاق أجبني عما أسألك عنه، فقال له: ما هذا يا أبا سعيد؟ إن سألتني عما أعلم أجبتك. فقال له: هل اجتمعت بالخضر عليه السلام، أم لا؟ فسكت منكراً. ثم رفع رأسه فقال: أعوذ بالله أن أدعي ما ليس ي بحق، يمرّ بي هاهنا أقوام يسلّمون عليّ بالليل، لا أدري أجنّ هم أم أنس. قال اللبيدي: أخبرت الشيخ أبا الحسن بهذه الحكاية. فقال هذا جواب عالم. لم ينكر ولا أقر. هي جيّدة. وقيل لزوجته، هل رأيت من أمره شيئاً تخبرين به؟ فسكتت وأبت من القول. فلما مات، سئلت، فقالت: إني في ليلة ظلماء حتى رأيت نوراً أغشى الحجرة، وموضع الشيخ. واسمع الحديث، فرعبت. وأقام ذلك مدة. فأحس بي أني يقظانة. فقال لي: احذري أن تذكري ما رأيت، ما دمت حياً. ذكر جمل من حكمه وفصول من كلامه في العلم، حسان قال أبو القاسم: كان الجبنياني، حكيم القول، وكان إذا رئي ذكر الله تعالى من هيبته. قد جفّ جلده على عظمه. واسودّ لونه، كثير الصمت قليل الكلام. فإذا نطق، نطق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 بالحكمة. قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق قلما يترك ثلاث كلمات، كن الخير كله: اتّبع لا تبتدع. اتضع لا ترتفع، من ورع لم يتسع. وكثيراً ما يقول: خمسة تعاونوا على هلاك ابن آدم المسكين: مؤمن يحسده، وكافر يرصده، وشيطان مارد، ودنيا حاضرة، ونفس أمارة بالسوء، وكان يقول: إذا رأيت الشاب قذراً، في شبيبته، فإذا كبر يكون شيخ سوء. ويقول: إذا رأتك زوجتك وولدك وخادمك تعصي الله، كان أول من يذلك: هم. وقيل له يوماً: ما أقل من يأكل الحلال. فقال: ما أقل من يكسب حلالاً. والدار يكون فيها من الأهلين العشرة وأكثر، ينقلب لهم المسكين الساعي عليهم، فيأكلونها وهم لا يعلمون من أين هي، حلالاً. ويكسبها المسكين حراماً وحلالاً. قال أبو الحسن القابسي: لما خرجنا عنه هربت من يد صبي دابة، كان يمسكها لنا. فقلت: أعطوها لصبي لا يقوم بها فضاعت فقال لي أبو إسحاق: قد اغتبته. فقلت له: وصفته بحاله وقلة مقدرته. وفي السنّة ما يبيح ذلك. فقال: وأين هو؟ قلت قوله عليه السلام التي شاورته في النكاح: أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له. قال، فقال لي: ليس في هذا حجة. لأن المستشار مؤتمن. وأيضاً، فإنما مشاورته لتنكح برأيه، يدخلها في النكاح، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 يصرفها عنه. وليست مسألتنا كذلك. بل في السنّة ما يمنعك من ذلك. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه طبيبان، وكانا نصرانيين، فلما خرجا، قال: لولا أن تكون غيبة لأخبرتك أيهما أطبّ. قال أبو الحسن: ولم أكن أعرف أنهما نصرانيان قبل ذلك، قال: فهذا رسول الله كره في نصرانيين أن يخبر أيهما أطبّ، فكيف بمسلم؟ ثم قال لي: أرأيت هذا الصبي، لو سمعك أليس كانت توجعه نفسه، وأيهما كان أحب إليك، تجد ذلك في صحيفتك، أو لا تجده. فقلت له: صدقت. وسئل يوماً عن الزراعة التي في الطرقات، تمر عليها الدواب. فتغلب على أكل ما دنا منها. فقال: أرأيتم لو قيل لكم، إنها إن أكلته هلكت، ما كنتم تصنعون؟ قلنا نحتفظ منها، ولو لم نجد إلا أرديتنا، ربطناها على أفواهها. قال: فكذلك فاصنعوا بها إذا مررتم. قال بعض أصحابه: لما حججت أتيت معي بحصيات من حصباء المسجد الحرام. فقلت لأبي إسحاق: إني أتيت معي بحصيات من حصباء المسجد الحرام، أتحب أن أعطيك منهن شيئاً تسبح بها؟ فقال لي: يا أحمق، ارم بهن، فعلى أقل من هذا، عبدت الحجارة. فعرّفت القابسي بهذا، فأعجبه فقه أبي إسحاق. وقال أبو الحسن: قال مالك فيمن يخرج بشيء من حصباء المسجد في نعليه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 إن كان قريباً من المسجد، ردها وإن بعد رمى بها. قال محمد بن سهلون: قلت لأبي إسحاق، ما تقول في يزيد بن معاوية؟ فسكت عني. ثم قال لي: إن أهل السنّة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب دون الشرك. ولكن ليس على المرء أن يحب ما يكره، كما يحب من يحبه. فذكر قوله القابسي، فأعجب به. وقال: لو سألت عن هذه المسألة أبا الحسن الأشعري، فيما أراه، ما كان يجيب فيها بأكثر من هذا. والله ما على الإنسان ذلك. وكان رحمه الله، يمكن أوقات الصلوات. فكلّم في ذلك. وقيل له: لعله يجتمع إليك أهل القرى، التي حولك، ليدركوا صلاة الجمعة. فقال: ليس كذلك. لكن هؤلاء القوم، يعني بني عبيد، كادوا الدين، وتسللوا الى هدمه. لأنهم لو قالوا للناس: لا تعبدوا الله، لم يقبلوا منهم، ولو قالوا لهم: اتركوا الصلاة، لم يقبلوا منهم. فتحيلوا كيف يبطلون صلاة العباد، فجعلوا يُذنون قبل الوقت، وجعلوا صلاة الظهر، تقارن الزوال. وربما وقعت قبله. وجعلوا صلاة العصر وقت صلاة الظهر، تقارن الزوال. وطبعاً إذا ما انقطع الناس إليهم في وضع الصلاة في غير وقتها، ولو بساعة، أن ينطاعوا لهم في الترك، وكانت فتنتهم بذلك لا تخفى، على عوام الناس. فأردت أن أمكن الظهر والعصر، من غير أن أخرج عن الوقت المحمود، الى الوقت المذموم. حتى تكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 صلاتي للظهر، وقت صلاتهم العصر. فيعلم العامة أن فعلهم ضلال. وكان أبو الحسن، يمكن الأوقات. قال اللبيدي: فكلمته في ذلك. فقال لي: كيف الجبنياني يصنع. قلت: كفعلك. وحكيت له الحكاية. فقال لي: حسبك بهذا الجبنياني إمام يقتدى. وما يروى من كلام أبي إسحاق مقاماته أكثر مما ذكرناه، وأوسع مما أردناه. وفي هذا كفاية، لمن نوّر الله قلبه، وهُدىً لمن أراد رشده. ر مما ذكرناه، وأوسع مما أردناه. وفي هذا كفاية، لمن نوّر الله قلبه، وهُدىً لمن أراد رشده. ذكر سيرته في التعليم وكان رحمه الله يعلّم القرآن ويشترط، إذا كان أولاده صغاراً، ثم علّم ولم يشترط، ثم ترك. وكان في تعليمه يتحفظ كثيراً. ويقول رضي الله عنه، رحم الله محمد بن سحنون، لو علّم لرفق بالمتعلمين - يريد لأنه شدد عليهم في كتابه - وكل من تعلّم على يد أبي إسحاق، انتفع به، إلا قليل. وكان يقول: لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين. فدين الصبي على دين معلمه، فلقد عرفت معلماً كان يخفي القول بخلق القرآن، ففطن له، فلما علم أنه يطرد، وقف بين يدي مكتبه وقال لصبيانه: ما تقولون في القرآن؟ قالوا لا علم لنا. فقال: هو مخلوق، ولا تُزالون عن هذا القول لو قُتلتم. فماتوا كلهم على هذا الاعتقاد. قال: وبلغنا عن معلم عفيف، رئي وهو يدعو حول الكعبة ويقول: اللهم أيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 غلام علمته، فاجعله في عبادك الصالحين، فبلغني أنه خرج على يديه نحواً من تسعين عالم وصالح. وكان يتعلم عنده جماعة من أولاد الكتاميين، ولا يأخذ منهم شيئاً، ولا يعلمهم يكتبون، يقول: لم يصلحوا بعد لذلك، حتى يصلح. فخرج كل كتامي علمه على الكتاب والسنّة. وكان يعلّم اليتامى والفقراء لله عزّ وجلّ. وكان صبيان الكتاب يأتونه، بدجاج وفراخ وطير بلغ، يعطونه إياه، ويقولون صدناه، لم يقبله منهم. فإذا قالوا له وجهه إليك آباؤنا قبله. لأن عطيّتهم لا تجوز. وفاته وذكر تركته قال اللبيدي: توفي أبو إسحاق رحمه الله، يوم الأحد السابع من محرم. سنة تسع وتسعين وثلاثماية. ودفن يوم الإثنين بعده بشرق جبنيانة. وسنّه تسعون سنة. ووجدت بعد موته رقعة تحت حصيره، مكتوبة بخطه: رجل وقف له هاتف فقال له: أحسن، أحسن عملك. فقد دنا أجلك. فقال لي ولده عبد الرحمن: إنه كان إذا قصّر في العمل، أخرج الرقعة، فنظر فيها، ورجع الى جدّه. وصلى عليه ابنه أبو الطاهر، واجتمع إليه خلق كثير، خرجوا به غدوة الاثنين. فما وصلوا الى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 الصلاة عليه إلا بعد الزوال، وما وجدوا له في الدنيا قليلاً ولا كثيراً، إلا أمداد شعير في قلة مكسورة. والحجرة التي كان يسكنها إنما كانت لابنه رحمه الله ورضي عنه. ذكر بنيه رضي الله عنه كان عنده من الأولاد سبعة. أبو بكر، وأبو الطاهر أحمد، وأبو عبيد الله محمد، وأبو علي، وأبو زيد عبد الرحمن، وأبو محمد عبد الله، وأبو الحسن علي. فأما أبو علي، فمات قبل أن يحتلم. ثم مات عبد الله، وهو دون الثلاثين. وكان أشد من الشيخ اجتهاداً في العبادة، قتله القرآن، كلما مرّ بوعد أو وعيد بكى، حتى أذاب الحزن فؤاده. فمات. قال أبو القاسم اللبيدي: فحضرت موته والشيخ يلقنه، حتى مات. فأغمضه. ثم استرجع على المصيبة، ودعا له. ثم قال لوالدة عبد الله - وهي زوجة الشيخ وكانت قريباً منه في الفضل والعبادة: احمدي الله، فقد مات على الإسلام، وجعل في صحيفتك. فإن كان عندك طيب فتطيبي، وتجملي لنعم الله عز وجلّ. وأخرج ميزراً عنده، تجمّل به، وركع. ثم جلس للناس، والبشر ظاهر عليه. وتوفي أبو الحسن أيضاً في حياة أبيه. وتوفي عبد الرحمن بعد أبيه، بثلاث سنين، وكان من الفقهاء العباد، يختم في كل ليلة ختمة. وأما أبو الطاهر فكان من أهل القرآن. وكتب الحديث، ولقي أبا الورد وغيره، وكان أبو بكر وأبو عبد الله من أهل القرآن، ويعلّمانه رحمهم الله، ورضي عنهم أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 أبو محمد عبد الله بن إسحاق، رحمه الله المعروف بابن التبّان، الفقيه، الإمام. كان من العلماء الراسخين، والفقهاء المبرزين. ضربت له أكباد الإبل من الأمصار، لعلمه بالذب عن مذهب أهل الحجاز ومصر، ومذهب مالك. وكان من أحفظ الناس بالقرآن والتفنن في علومه، والكلام على أصول التوحيد، مع فصاحة اللسان. وكان مستجاب الدعاء، رقيق القلب غزير الدمعة. وكان من الحفاظ. وكان يميل الى الرقة، وحكايات الصالحين، عالماً بالفقه والنحو والحساب والنجوم. وذكره أبو الحسن القابسي بعد موته، فقال: رحمك الله يا أبا محمد، فلقد كنت تغار على المذهب، وتذب على الشريعة. وكان رحمه الله من أشد الناس عداوة لبني عبيد. كريم الأخلاق، حلو المنظر، وقرأت في تعليق أبي عمران الفقيه، فذكره فقال: كان فصيح اللسان حافظاً للقرآن، بعيداً من الرياء والتصنع. وقال أبو إسحاق الكاتب مثله. قال: وكان عالماً بالاحتجاج لمذهبه. فقال بعضهم: كان أبو محمد من أرق أهل زمانه طبعاً، وأحلاهم إشارة، وألطفهم عبارة. سمع منه أبو القاسم التستري. ومحمد بن ادريس بن الناظور، وأبو محمد بن يوسف الحجي. وأبو عبد الله الخرّاط وابن اللبيدي. رحمهم الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 ذكر ابتداء طلبه للعلم ذكر أنه قال: كنت أول ابتدائي أدرس الليل كله، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل. فكنت آخذ المصباح فأجعله تحت الجفنة، وأتعمد النوم، فإذا رقدت أخرجت المصباح وأقبلت على الدرس. وكان كثير الدرس. ذكر أنه درس كتاباً ألف مرة. الى أن قال لي أبي ذات يوم: يا بني ما يكون منك؟ لا تعرف صنعة، واشتغلت بالعلم ولا شيء عندك. فلما كان ذات ليلة سمعته يقول لوالدتي: عرفت أني عُرّفت اليوم بابني؟ وذلك أني حضرت أملاكاً في مسجد - سماه - فوجدته ممتلئاً بالناس، ولم أجد مجلساً، فقام لي رجل من موضعه وأجلسني فيه، فسأله إنسان عني، فقال له أسكت هذا والد الشيخ أبي محمد. وقال آخر: خرج والدي محمد بن التبان يوماً من مسجد المسند، فزلق في طين، فبادر رجل وأخذ بيده، وقال لصاحبه: هذا والد الشيخ أبي محمد الفقيه. قال: فرجع وحرّض ابنه على طلب العلم، والتزم القيام بشأنه من يومئذ. ذكر إجابته وفضائله رحمه الله ذكر أن أبا محمد التبّان كان يقرئ لإخوانه ميعاداً من الرقائق. فقطعه أياماً، فعاتبوه عليه فاعتذر، فضيقوا عليه فقال: إذا كان غداً تأتوني إن شاء الله. فأتوه من الغد، وبين يديه شيء مغطى، فقال لهم: أكشفوه. فوجدوه طبقين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 صغيرين، أحدهما مملوء دنانير، والآخر دراهم. فقال لهم: هذا منعني. لأن من ملك من الدنيا هذا يقبح عليه أن يزهد الناس فيها. فيدخل فيمن ذمه الله تعالى بقوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبرّ " الآية. ولما جرت له المسألة التي تكلم فيها في الإيمان، وخالفه أبو محمد ابن أبي زيد رحمه الله، والقابسي، والسبائي، والجماعة رضي الله عنهم. وحدث بينهم وبين بعضهم وحشة بسببها، جعل موعداً للإلقاء. وألقى عليهم كتاب الوضوء. فخالفوه في مسألة. فقال لهم: اسمعوا ما أقول: درست هذا الكتاب ألف مرة. فأبوا إلا مخالفته. فقام بهم الى داره، وأخرج الكتاب وأراهم المسألة، كما قال. ثم دعا على نفسه. وقال: اللهم لا تقض عليّ أن ألقي عليهم بعد هذا شيئاً. اللهم أقبضني إليك، وأرحني منهم. فما قام إلا يسيراً حتى مات رحمه الله. وقال أبو عبد الله محمد بن التمار: خرجت مع أبي عبد الله الى سوسة، ومعه جارية له راكبة على زاملة. وهو على سرج. فإذا مشى قليلاً، مضى إليها. وقال: تحبين أن تركبي السرج؟ فتقول نعم: فينزل لها ويرجع على الزاملة. ثم يمشي قليلاً فيقول لها: ترجعي الى الزاملة؟ فتقول نعم. فيردها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 عليها. فعل ذلك نحو أربع مرات. فلما وصلنا سوسة، دخلت عليه وقلت له: غلبت على عقلك مساعدتها؟ تنزل من دابة الى دابة، والناس يرونك. فغضب ورفع بصره الى السماء، وقال اللهم بحق الحافّين بعرشك، وبحق الذين إذا نظرت إليهم سكن غضبك، ألا ابتليته بما ابتليتني به. قال فابتلي أبو عبد الله في جارية باعها فتبعتها نفسه، وبلغ من ذلك أمراً عظيماً. وكان يقول: دعوة الشيخ. قال الأجدابي: رأى أبو محمد التبان ربّ العزة في المنام، فقال له: يا عبدي، تكون بالمغرب فتن، كقطع الليل المظلم، لا ينجو منها إلا سوسة، والمنستير، وما والاها، وكان إذا حدث بالقيروان أمر فرّ ابنُ التبّان الى سوسة، والمنستير، حتى ينفض الأمر. وحكى اللبيدي، أن أبا محمد حدث يوماً في المنستير بكراهة مالك بن أنس رضي الله عنه الاجتماع على قراءة القرآن، وأن ذلك بدعة. فقال له رجل: كيف تقول إن قراءة القرآن بدعة؟ فقال: لم أقل هذا، فخرج الرجل فصاح: إن ابن التبّان قال قراءة القرآن بدعة. فرجف الناس من كل جهة، منكرين هذا وأتوا حجرته. فجعل يرفق بهم ويبيّن لهم. قال: فمنهم من يتفهم، ومنهم من لا يتفهم. ثم حول أبو محمد وجهه للذي شنّع عليه، وقال له: أفجعت قلبي، أفجع الله قلبك. أفجعك الله بنفسك، وولدك، ومالك. قال اللبيدي: فأجيبت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 دعوة الشيخ، فهوس ولده، فكان من جملة المجانين. وذهب ماله، وابتلي بداء البطن فكان منه موته. وذكر أنه سار مرة لزيارة أبي إسحاق الجبنياني، فلما قرب منه، هابه. وقال: أخشى أن يجري الله على لسانه، في أمري شيئاً، يعزّ عليه فأكون ممّن عادى وليّاً من أولياء الله تعالى. فوجه إليه بالسلام وانصرف. وبالله التوفيق. ذكر أخباره مع بني عبيد وحسن مقامه في الدين كان أبو محمد شديد التنقيض لهم والتنير عنهم. قال بعض أصحابه: كنت معه يوماً بالمنستير، وكان يوم عاشوراً. فلما رأى بكى. فقيل له ما يبكيك؟ فقال والله ما أخشى عليهم من الذنوب، لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى أن يشكّوا في كفر بني عبيد، فيدخلوا النار. قال ابن ادريس: كنت معه، فجرى ذكر صلاة الجمعة مع خطباء بني عبيد، فقال خلف. قال: لا. قيل له بنو عبيد أشرّ من هؤلاء. وكان الخطباء يدعون لهم، وكان كثيراً ما يقول: اللهم العنهم، ما أقام أمرهم، وما صرفه، وعلّق اللعنة عليهم، كتعليق القلائد في أعناق الولائد. وكان عبد الله المعروف بالمحتال، صاحب القيروان، شدّ في طلب أهل العم، ليشرّقهم، فطلب الشيخ أبا سعيد ابن أخي هشام. وأبا محمد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 التبّان وأبا القاسم بن شبلون، وأبا محمد ابن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي، رضي الله عنهم. فاجتمعوا في مسجد ابن اللجام واتفقوا على الفرار. فقال لهم ابن التبان: أنا أمضي إليه، وأكفيكم مؤونة الاجتماع، ويكون كل واحد منكم في داره. ويقال إنهم أرادوا السير الى عبد الله. فقال لهم: أنا أمضي إليه، أبيع روحي من الله دونكم، لأنكم إن أتي عليكم، وقع على الإسلام وهن. ويقال إنه قال لعبد الله: لما دخل عليه جئتك عن قوم إيمانهم مثل الجبال، أقلّهم يقيناً أنا. فحدث بعض من حضر، قال: كنت مع عبد الله، وقد احتفل مجلسه بأصحابه، وفيهم الداعيان: أبو طالب، وأبو عبد الله. لعنهم الله. وقد وجه الى ابن التبان، فإذا به داخل، وعيناه توقدان، كأنهما عينا شجاع. فدخل وسلم. فقال: أبطأت عنا يا أبا محمد. فقال: في شغلك، كتاب ألفته في فضائل أهل البيت الساعة. أتاني به المجلد، ودفعه إليّ. فقال: يا أبا محمد ناظر هؤلاء الدعاة. قال: في ماذا؟ قال في فضائل أهل البيت. فقال لهما: ما تحفظان في ذلك. فقال له أبو طالب: أنا أحفظ حديثان - ولحن - ثم سأل الآخر، فقال له: وأنا أحفظ حديثان. فقال فيما ذان الحديثان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 اللذان تحفظ أنت؟ فقال له: هما يحفظان حديثان - ونطق بلحنهما - وأنا أحفظ في ذلك تسعين حديثاً، فأولى بهما الرجوع إلي. ثم قال عبد الله: يا أبا محمد، من أفضل أبو بكر أو عليّ؟ قال: ليس هذا موضعه. فقال: لابد، فقال: أبو بكر أفضل من علي. فقال عبد الله: أيكون أبو بكر أفضل من خمسة، جبريل عليه السلام سادسهم؟ فقال أبو محمد: أيكون عليّ أفضل من اثنين، الله ثالثهما؟ إني أقول لك ما بين الوجهين، وأنت تأتيني بأخبار الآحاد. فضاق عبد الله، وقال: فمن أفضل عائشة أو فاطمة. فقال له: هذا آخر، سؤالك الأول؟ قال: لابد. قال: عائشة رضي الله عنها، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة. قال: من أين؟ فقال له قال الله تعالى: " يا نساءَ النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء، إن اتقيتُنّ. فيقال، إن بعض الدعاة قال له في هذه المسألة. أيما أفضل، امرأة أبوها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة الكبرى، وزوجها علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولداها الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة. أو امأة، أمها أم رومان وأبوها عبد الله ابن أبي قحافة؟ فقال له أبو محمد: أيهما أفضل عندك، امرأة إذا طلقها زوجها، أو مات عنها تزوجها عشرون زوجاً؟ أو امرأة إذا مات عنها زوجها أو طلقها لم تحل لأحد؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 فيحكى، أن أبا عبد الله قال له: يا أبا محمد أنت شيخ المؤمنين، ومن يوثق بك، أدخل العهد وخذ البيعة. فعطف عليه أبو محمد وقال له: شيخ له ستون سنة، يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنين وسبعين فرقة، يقال له هذا؟ لو نُشِرتُ بين اثنين، ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه. فخرجوا ومعهم سيوف مصلتة. فمر بجماعة من الناس ممن أحضر، لأخذ الدعوة. فوقف عليهم فقال: تثبتوا ليس بينكم وبين الله عزّ وجلّ إلا الإسلام. فإذا فارقتموه هلكتم. فترك عبد الله طلب بقية الشيوخ، بعد ذلك المجلس. ذكر مذهبه في الإيمان رحمه الله تعالى قال الداودي: كان ابن التبّان إذا سئل عن غيره، هل يقول: هو مؤمن عند الله، أو يسكت. فكان يقول: هو مؤمن عند الله. وقال بقوله جماعة من علماء القيروان. وخالفه أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله. وأنكر عليه ذلك. وقال: إنما يقول، إن كانت سريرتك، مثل علانيتك، فأنت مؤمن عند الله. وقال بمثل مقالته، أكثر علماء القيروان. ووقع بين الطائفتين في ذلك تهاجر، وتقاطع. قال الداودي: فكلمنا ابن التبّان في ذلك، وقلت له: كيف نقطع على غيبة؟ فقال: فإن كانت سريرته مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 علانيته، كان كذلك. يقال هذا مؤمن في حكم الله تعالى، مثل قوله تعالى: " فإن علمتُموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهُنّ الى الكفّار ". فقال لي أبو محمد: ليس هذا أراد. فقلت: كذلك يقول. ذكر حكم من كلامه وبقية أخباره ووفاته قال أبو محمد لبعض من يتعلم منه: خذ من النحو، ودع. وخذ من الشعر، وأقل. وخذ من العلم وأكثر. فما أكثر أحد من النحو إلا حمّقه. ولا من الشعر إلا أذلّه. ولا من العلم إلا شرفه. ويذكر عنه أنه كان كثيراً ما كان ينشد: قد غاب عنك ثقيلُ كل قبيلة ... ممن يشوب حديثه بمراء فالآن طاب لك الحديث إنما ... طيبُ الحديث بخفة الجلساء وكان رحمه الله يسمع التعبير ويرق لهذه المعاني. سأله الخراط يوماً، وقد وجد عنده معبراً. فقال له: أليس التعبير بدعة؟ قال: والاجتماع على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 إلقاء المسائل بدعة. فبلغ كلامه السبائي، فشقّ عليه. قال اللبيدي: قال ابن التبّان يوماً: لا شيء أفضل من العلم. قال الجبنياني: العمل به. فقال: صدق، العلم إذا لم يعمل به صاحبه، فهو وبال عليه. وإذا عمل به كان حجة له، ونوراً يوم القيامة. وتوفي رحمه الله يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. وصلى عليه القاضي محمد بن عبد الله بن هشام، وخرج الناس لجنازته من ثلث الليل، حتى ضاقت بهم الشوارع، وفاضوا في الصحراء غدوة الثلاثاء. مولده: سنة إحدى عشرة وثلاثماية. ومما رثي به قول بعضهم: لقد ظلم الله البلاد بأسرها ... بموت ابن إسحاق الفقيه المهذب أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الله الزبيري المعروف بالقلانسي. كان رجلاً صالحاً فاضلاً فقيهاً عالماً بالكلام، والرد على المخالفين. له في ذلك تواليف حسنة. وله كتاب في الإمامة والرد على الرافضة. سمع من فرات بن محمد، وحماس بن مروان، وابن المغامي. ومحمد بن عبادة السوسي. وخلق كثير. روى عنه أبو ابراهيم بن سعيد، وأبو جعفر الداودي، وغيره. وامتحن على يدي أبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 القاسم بن عبيد الله الرافضي. ضربه سبعماية سوط، وحبسه في دار البحر، أربعة أشهر، بسبب تأليفه كتاب الإمامة. وقيل الذي ألفه ابن سحنون. وتوفي رحمه الله سنة تسع وخمسين، وقيل سنة إحدى وستين وثلاثماية. أبو الحسن بن علي بن محمد بن مسرور الدباغ كان من أهل العلم والورع، والتعبّد والصيانة والأخبات، والسلامة والحياء. ثقة، حسن التقييد. سمع من أحمد بن أبي سليمان. وعول عليه. ومن محمد بن بسطام، وعمر بن يوسف، ومحمد بن بسيل، وعبد الرحمن الورقة، وغيرهم. وسمع أيضاً في رحلته من محمد بن زيان، ومحمد بن رمضان، وبعد هذا من عبد الله بن أبي هاشم، وأبي بكر بن نادر، وأبي بكر بن اللباد. واجتمع بأبي الحسن الدينوري، سمع منه أبو الحسن القابسي، وأبو عبد الرحمن بن محمد الربعي، وأبو جعفر الداودي، وعبد الرحمن بن محمد الربعي، وبكر بن يوسف، وأحمد بن حاتم الزيات، وخلف بن أبي فراس، وعمران المقري ومحمد بن علون، وعتيق بن ابراهيم الأنصاري، وعالم كثير. ذكر ثناء العلماء عليه كان عبد الله ابن أبي هاشم، يثني عليه ويأمر بالسماع منه. قال الربعي: كان ثقة مأموناً، لم أرَ أعقل منه، ولا أكثر حياء. اجتمع له من العلم والورع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 والعبادة والتواضع. سريع الدمعة، رفيق الطالب. أخذ الناس عنه من سنة ثلاثين وثلاثماية، الى سنة تسع وخمسين. ثم منع السماع، ورعاً لما دخله من السنين. وكان الجبنياني يحبه، ويثني عليه ويعظمه. وقال الجبنياني للقابسي: أو ليس عندكم أبو الحسن الدباغ؟ وددت لو أن وسادتي في عتبة باب أبي الحسن الدباغ. ما يكلمه أحد إلا احمر لونه، ولقد كان أحيا من الأبْكار. وقدم رجل من أهل الشرق، فسمع الناس يقولن: أبو الحسن الدباغ الفقيه، وأبو إسحاق السبائي العابد. فقال لهم: بل العابد أبو الحسن، والعالم البحر أبو إسحاق. قال أبو إسحاق: كان يخيل إليّ أن صاحب الشمال، لا يكتب عن أبي الحسن لطهارة قلبه، وعفة بطنه. وكان من أهل التحقيق في معاني الولايات. ذكر أخباره وفضائله رحمه الله تعالى كان أبو الحسن قد ورث مالاً حلالاً. فأقام نفسه فيه مقام الفقراء، وأسوتهم. وكان يصرف في كل شهر أربعة دنانير، اثنين لصدقته، واثنين لنفقته. قال ابن الخلاف: وكان أصابه آخر عمره، بلغم منعه القيام على قدميه. فكان يحمل لحاجته، أو يزحف. فإذا جاءت الصلاة. أخذ بيده فاستوى قائماً وصلى، وأتم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 صلاته دون إمساك، فإذا فرغ عاد الى حاله. وقال غيره: بت عنده ليلة، فسمعت حسّ ماء يقطر، فظننت أنه آنية ماء انكسرت. فقمت لأنظر ذلك، فإذا به قائم يصلي ويبكي. وإذا الذي سمعت دموعه، تقطر على الحصير. وكن بينه وبين السبائي صحبة، فلما خبر بموت السبائي، بكى كثيراً. وقال: واكشفاه، اليوم انكشف. وكان أيام بني عبيد لا يؤذّن إلا على سنّة الأذان، ولا يقول حي على خير العمل. فحماه الله منهم. ولقد أذّن مرة. فخاطبته نفسه بقولها: وإن لم يقلها قتل، فقالها. فلما فرغ إذا أسود ناصد حربته بين كتفيه. إن لم يقلها طعنه بها، فعافاه الله. وكان يقول للناس: تمادوا على الأذان على سنته، في أنفسكم. فإذا فرغتم فقولوا: حي على خير العمل. فإنما أراد بنو عبيد خلاء المساجد، لفعلكم هذا - وأنتم معذورون - خير من خلاء المساجد. وكان يوم الجمعة يغتسل، ويلبس ثيابه، ويتطيّب. ويخرج حتى يصل الى الجامع، ويرفع عينيه الى السماء، ويقول: اللهم أشهد. ويرجع الى داره. ويقول: كنت في المكتب فانصرفت. فإذا بهرة خارة من قناة، فرميتها بحجر، فلا أدري أصبتها أم لا. فأنا أتذكرها الى الآن. ولما توفي السبائي، وخرج أبو الحسن للصلاة عليه: ازدحم الناس عليه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 يسألونه الدعاء، ويسلمون عليه، حتى كاد يموت لكثرة ازدحامهم عليه. فألزم نفسه ألا يخرج من داره. فلزمها حتى مات. فصول من كلامه في الرقة والعلم قال بعضهم: سمعته يقول: إن طال عمرك فجعت بأحبابك. وإن قصر فجعت بنفسك. قال عتيق بن ابراهيم: لما وقعت مسألة الإيمان، واختلف فيها الفقهاء، قلت لأبي الحسن: إيش مذهبك في ذلك، نتبعك؟ فقال: إنا إذا وقفنا بين يدي الله، لم يسألنا الله عن هذه المسألة. إيش أنتم مؤمنون عنده، وإلا عندكم؟ إن كنتم عقلاء فاسكتوا عنها. قال أبو الحسن الدباغ: لما نهبت تونس، سرت الى عبد الرحمن الورقة، صاحب سحنون، فقلت له: ما ترى في البيع والشراء من أهل الأسواق؟ فقال لي: أقصد أهل العفاف. قال أبو الحسن: وبلغني أنه لما دخلت غنائم تونس القيروان، سأل رجل البهلول، وشقران عن ذلك. فقالا له: اشترِ من أوسط أهل السوق، ودع المعروفين بالشر، ومن لا يرجع عن هذه الغنائم. قال عبد الرحمن بن محمد: فسألت أبا الحسن عن ذلك. فقال: أقصد أهل العفاف. فليس فيهم اليوم كأهل ذلك الزمان. ثم قال: من قنع بعباة وأكل الشعير في هذا الوقت، فقد طاب عيشه، وتخلص. ومن كان مثلنا غرق. لانا لا نستبد من البيع والشراء والأسواق. وسألته: هل تقطع لغيرك بالإيمان عند الله؟ فقال: لا. إلا أني أقول له: إن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 ظاهرك وباطنك واحداً. وكان ينهى عن الكلام فيها ويقول: ما لنا والكلام في شيء إن أصبنا فيه لم نؤجر، وإن أخطأنا فيه أثمنا. ويقول لأبي الحسن الزيات: ذهبت الى العراق، فأتيتنا بهذه البدعة. وهو الذي كان جابها وألقاها بالقيروان. وتوفي رحمه الله منتصف رمضان، من تسع وخمسين وثلاثماية. وعهد ألا يعلَم الناس بموته. فلما خرج بجنازته، لم يكد يصل الى قبره، بعد صلاة المغرب، إلا بجهد كبير. وولد سنة إحدى وسبعين ومايتين. عبد العزيز بن رشيق - مولى الرحمة قال ابن الناظور: عن بعض شيوخه، كان شاباً من أهل العلم، من حفاظ المسائل، جميل الأحوال، وكان يحضر حلقة الشيخ أبي إسحاق السبائي، ثم قطعه. لأن أبا إسحاق أعجب يوماً برقة فهمه، وحفظه، ومناظرته، وحسن سيرته. فسأل عنه. فأخبر عنه. فقال له: إن كنت قبضت من ميراث أبيك شيئاً فتصدق به، وإلا فلا تدخل إليّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 أبو القاسم بن شبلون اسمه عبد الخالق، ابن أبي سعيد، واسمه خلف. قال الشيرازي: تفقه بابن أخي هشام. وكان الاعتماد عليه بالقيروان في الفتوى، والتدريس. بعد أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله. وسمع ابن مسرور الحجام، وألف كتاب المقصد، أربعين جزءاً. وكان يفتي في اللازمة بطلقة واحدة. وتوفي سنة إحدى وتسعين. وبخط أبي عمران. في ربيع الأول، سنة تسعين وثلاثماية. أبو الأزهر عبد الوارث بن حسن بن أحمد بن معتب ابن أبي الأزهر، عبد الوارث بن حسن الأزدي تقدم ذكر جده في أصحاب سحنون، وكان بيت بني معتب، بيت علم بالقيروان. وكان ابن أبي الأزهر هذا من أهل الفهم، واللسان الجيد، والعقل والوجاهة. وكان رجلاً صالحاً خيّراً. فاضلاً. قال ابن حارث: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 درس أبو الأزهر وحفظ، واختلف معنا الى الشيوخ. وكانت له قريحة حسنة، وفهم جيد في الفقه، وعناية بالوثائق. قال المالكي: كان أبو الأزهر من الأئمة الراسخين، ذا فقه بارع، وعلم بالأصول، مجوداً للوثائق والأحكام، وعلم القضاء، مبرزاً، حسن الوجه، جميل الشيبة، متواضعاً. قال أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله: ما بإفريقية أفقه من أبي الأزهر، إنما قطع به، قلة دنياه. صحب أبا بكر ابن اللباد، وأبا عبد الله بن مسرور، وأبا محمد بن أبي هشام، ولم تكن له دنيا. كان عيشه، من الوثائق. وأراد عبد الله بن هاشم القاضي استكتابه، فاستشار أبا محمد بن أبي زيد فكسّر عليه، فبلغ ذلك أبا الأزهر، فجلس بالقرب من درب السكة، فإذا خرجت مسألة من عند ابن أبي زيد، كتب تحت الجواب: خطأ، ونبّه على ذلك. فضاق من ذلك ابن أبي زيد، ووجه إليه يعتذر له. وقال: إنما فعلت ذلك، إجلالاً لقدرك إذ أنت من شيوخنا. قال: فترك ذلك. قال أبو إسحاق القابسي: اختلف أصحابنا فيمن صلى بامرأته، المكتوبة هل يصلي تلك الصلاة مع الجماعة؟ فقال أبو سعيد ابن أخي هشام وغيره: لا يفعل. وجعلوا صلاته مع زوجته جماعة. وقال أبو الأزهر: لا بأس بذلك. وأتى أبو الأزهر لإشهاد أملاك لرجل مشهور بالقيروان، وقد حضره أبو سعيد، وابن التبّان، وابن أبي زيد وغيرهم، وامتلأت الدار، فلم يجد أين يجلس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 ولم يفسح له. وجلس على الماجل. وقرأ الوثيقة، أبو محمد الشقيقي، غيظك على هؤلاء، ترده عليّ؟ أنا قلت لك أقعد على الماجل؟ قال ابن حارث: وأبو الأزهر هذا حافظ فقيه، موثوق به، لزم بيته لما حدث من غلط الزمان. وقد ذكرنا أنه كان يحلق بجامع القيروان، أيام أبي يزيد رحمه الله، مع ابن أخي هشا، وابن أبي زيد، وغيرهم. وتوفي رحمه الله، سنة إحدى أو اثنتين وتسعين وثلاثماية. ويقال سنة ثمان وستين. حباشة بن حسين اليحصبي قال ابن الفرضي: سمع بالقيروان، من زياد بن عبد الرحمن بن زياد. وابراهيم بن عبد الله القلانسي، ونظرائهما، قدم الأندلس، فصحب أبا عبد الله محمد بن أحمد الخراز القروي وسمع منه، ومن أبي بكر بن الأحمر، وتردد في الثغور مرابطاً. ثم رحل الى المشرق حاجّاً. فسمع من أبي زيد المروزي، وغيره. وانصرف الى الأندلس، فلزم العبادة، ودراسة العلم. والجهاد الى أن توفي به. وكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 فقيهاً في المسائل. حافظاً للاختلاف، عالماً بالسنن والآثار. وسمع أيضاً من ابن عون الله. ومحمد بن أحمد بن يحيى، وغيرهم. وقال: أدركت بالقيروان ستة عشر رجلاً، كلهم يقول: حدثني سحنون، ودُعي الى أن يجري عليه جراية من عند خليفة الأندلس هشام، ويتوسع له، ويجلس للفتوى. فلم يجب الى ذلك. وكان يتكرر على إشبيلية. وتوفي بقرطبة ليلة السبت. لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة، سنة أربع وسبعين وثلاثماية. محمد بن حارث بن اسماعيل الخشني، أبو عبد الله تفقه بالقيروان، على أحمد بن نصر، وأحمد بن زياد، وأحمد بن يوسف، وابن اللباد، والممسي. وسمع من غير واحد من شيوخ إفريقية. وقدم الأندلس حدثاً، سنة إحدى عشرة، فسمع من ابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن عبادة ومحمد بن يحيى بن لبابة، وأحمد بن زياد والحسن بن سعد، وغيرهم من القرطبيين. واستوطن بعد هذا قرطبة. وقد دخل بلدنا سبتة قبل العشرين وثلاثماية. فحبسه أهلها عندهم، وتفقه عليه قوم منهم، وذكر أبو الفرج الجياني في تاريخه، أنه حقق قبلة جامعهم، إذ ذاك، فوجد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 فيها تغريباً فامتثلوا رأيه وشرّقوها. ثم دخل الأندلس، وتردد في كور الثغور، واستقر آخراً بقرطبة. قال ابن عفيف: وكان حافظاً للفقه، متقدماً فيه. قال أبو أيوب: كان ابن حارث نبيهاً ذكياً. فقيهاً فطناً. متقناً عالماً بالفتيا. حسن القياس في المسائل، وأولاه الحكم المواريث ببجانة. وولي الشورى بقرطبة. وتمكن من ولي عهدها الحكم، وألف له تواليف حسنة. منها كتابه في الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك. وكتابه في التحاصُر والمغالاة. وكتاب الفتيا. وكتابه في تاريخ علماء الأندلس. وتاريخ قضاة الأندلس. وتاريخ الأفريقيين. وكتاب فقهاء المالكية. وكتاب التعريف، وكتاب المولد والوفاة، وكتاب النسب، وكتاب الاقتباس، وغير ذلك. قال ابن الفرضي: بلغني أنه ألف له ماية ديوان. وكان عالماً بالأخبار وأسماء الرجال. وكان حكيماً يعمل الأدهان، ويتصرف في الأعمال اللطيفة، شاعراً بليغاً إلا أنه يلحن. وكان يتعاطى صنعة الكيمياء. وآلت به الحال بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 موت الحكم، وتقصير ابن أبي عامر بصنائع الحكم، الى الجلوس في حانوت يبيع الأدهان. حدث عنه أبو بكر بن حرمل، وغيره. قال أحمد بن عبادة: رأيت ابن حارث في مجلس أحمد بن نصر - يعني في وقت طلبه بالقيروان - وهو شعلة يتوقّد في المناظرة. وتوفي بقرطبة لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، سنة إحدى وستين وثلاثماية، فيما قهل ابن الفرضي، رحمه الله. وقال ابن عفيف: سنة أربع وستين، رحمه الله. تميم بن محمد بن أحمد بن تميم التميمي ولد أبي العرب. يكنى بأبي العباس. وسماه بعضهم تماماً. والأول هو المعروف. أدرك صغار رجال سحنون، عيسى بن سليمان، والمغامي، وابن أبي زاهر، ومحمد بن بسطام، وحماس بن مروان، وفراتا، ومحمد بن عمر. وسمع من أبيه والقطان، ونفيس السوسي، وسع منه أبو محمد الأجدابي، والوليد بن مخلد، والأندلسي، وأبو القاسم الوهراني، وغيرهم. وكان يحفظ المسائل، ويتكلم فيها. وكان من أهل الورع والاجتهاد والانقباض، قرئ عليه بالقيروان، وسمع منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 قال المالكي: كان رجلاً صالحاً، فاضلاً، متفنناً، ناسكاً، كثير الأخذ على لسانه، أغلب أقواله الورع والسخاء والمروءة. أجمع الناس على فضله. قال أبو عبد الله الخواص: كان إذا أراد أن يطين سقوفه، حفر أصل داره، من أجل قبالة السلطان، على التراب. وكان يطعم من أتاه، ويخرج لهم ما عنده، ويقول: من أراد أن يأكل، أو يحمل، فليفعل. وكان إذا دعاه أحد الى وليمة، حمل كسرة من خبز، وشيئاً من تين من ربعه. فإذا أكل الناس الطعام، أكل هو ما معه، مما حمل. قال بعضهم: كنت مع أبي العباس يوماً جالساً على باب داره، إذ وثب وقال لأصحابه: قوموا فادخلوا. فدخلوا وأغلق الباب، ولا يدرون ما السبب. فقال: رأيت رجلاً من أصحابنا سكران فلم أرد أن تروه. فقالوا له: من هو؟ فقال: أنا سترته منكم، ثم أخبركم به؟ فقال الأجدابي: ولقد صحبته كثيراً فما رأيته ضاحكاً قط. قال أبو الوليد بن مخلد: أما تميم بن محمد الزاهد، فلم أرَ أعبد منه. وقال أبو القاسم الوهراني: - فيما وجدته معلقاً عنه في أخبار رحلته وشيوخه - وكان أبو العباس تميم بن محمد كوالده خيراً فاضلاً، ورعاً زاهداً، متقشفاً من أهل العلم والصيانة. لزمته أربعة أعوام للسماع منه، وأخوه أحمد يكنّى بأبي جعفر، ودخل الى الأندلس واستوطن قرطبة، وحدث عن أبيه، وعبد الله بن محمد الرعيني، وأبي الغصن السوسي، وكان يضعّف. تكلم فيه أخوه وقال: إنه لم يسمع كتب أبيه. وكان هو يدعي سماعها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 وتوفي رحمه الله سنة تسع وخمسين وثلاثماية. مسرة بن مسلم بن ربيعة الحضرمي من أهل العلم والعبادة والزهد التام، بساحل القيروان، هو وإخوته. وقد تقدم ذكرهم عند ذكر أخيهم الأكبر أبي يوسف في الطبقة قبل هذه. ويكنى مسرة هذا: بأبي بكر. قال ابن اللبيدي: كانوا أهل بيت قرآن، وعبادة. وتفقه مسرة مع حمود بن سهلون. وكان صديقاً لأبي إسحاق الجبنياني، وسمع من مسرة اللبيدي، وعطية بن مسلم الصفاقسي، وولد أبي إسحاق الجبنياني، وعالم كثير. ورحل إليه الناس من الأقطار. قال اللبيدي: ولم يترك مسرة من اجتهاده في العبادة شيئاً. وكان من النوّاحين على أنفسهم، حتى تستقر الدموع في موضع سجوده. حتى يسقط من قامته فيتهشم وجهه. وكان أبو إسحاق يوثقه في العلم، ويأمر ولده وغيره، بالسماع منه. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً ناسكاً مجتهداً. طويل الصلاة. وكان بسّاماً لجلسائه، ذا حزن وبكاء، إذا خلا. سمع من محمد بن عمر، ورحل سنة ثلاثماية مع أخيه، فسمع من النسائي، ومحمد بن زيان، وأبي محمد بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 الجارود، ومأمون، وأبي الطاهر بن مهدي القاضي، ومحمد بن رمضان، وابن الأعرابي، والإيلي، وأبي عبد الله بن الربيع الجيزي، وأبي القاسم البغوي. رحمهم الله. ذكر عبادته وزهده وأخباره قال اللبيدي: أقام مسرة ستة عشر عاماً في دكان، في زاوية البيت، لا ينزل إلا لحاجة الإنسان، يتلو ويبكي ويتكلم بالحاجة إشارة. وكان في ابتداء أمره، يختم ختمة بالنهار، وأخرى بالليل، أقام على ذلك أربعين سنة، ثم ضعف. فكان يختم ختمة سائر ليله ونهاره. ولقد رأيته يوماً يقرأ ويبكي، وأن دموعه تجري على الأرض، وكان من الخائفين. وكان يسمع التعبير وربما تغير منه، فبكى. ويقيم أياماً لا ينتفع به. قال مسرة: كنت في شبيبتي أورق، فغلا الرق، فوقف بي هاتف فقال: أبا بكر، إذا غلت الرقوق يرخصها لك العلام الرفيق. ولما احتضر رحمه الله، ابتدأ القرآن، فانتهى في طه، الى قوله تعالى: " وعجِلتُ إليك ربّي لترضى ". ففاضت نفسه. قال اللبيدي: رأيت أبا إسحاق الجبنياني، ومسرة جالسين في جنازة، وعلى مسرة جبة صوف. فقال له الجبنياني: من أين لك هذه، يا أبا بكر؟ قال: من سوق المسلمين. فقال له أبو إسحاق: سبحان الله تشتري من السوق، وفيه تخليط، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 وأنت يقتدى بك؟ فقال مسرة فمن أين هذه الدراعة التي عليك - وعليه مرقعة بخرق المزابل - فقال له: أصلها منذ ثلاثين سنة، عملتها لي أختي، بموضع كذا، كشف عن أصله، فقال مسرة: موضع السراق أنت يا أبا إسحاق. أنت رجل مجنون - لتضييقه على نفسه، وتتبعه غاية الأمور، التي ليست لها غاية - فقال له أبو إسحاق: صدقت. كان معلمي يقول لي: إنك مجنون. ثم أقيمت الصلاة. فقدم مسرة، أبا إسحاق، ثم أتي بالجنازة، فقدمه أيضاً. وكان الميت ابن أخي مسرة. فلما فرغا جرى بينهما حديث، ودعاء وتوادعا، وتصافحا. وكان كل واحد منهما، يجلّ قدر صاحبه، ويعرف له فضله. قال اللبيدي: فما علمت أنهما اجتمعا بعد ذلك اليوم. مات أبو إسحاق، ومات مسرة بعده، بنحو ثمان سنين. قال: وكنت عنده قبل موته، بثلاث سنين، حتى جاءه رجل، فقال: رأيت أبا إسحاق في المنام واقفاً، فصاح ثلاث صيحات: يا مسرة، يا مسرة، يا مسرة. فقال: اما ثلاث ساعات، فقد ذهبت، وأراني أموت الى ثلاثة أيام، أو ثلاثة شهور، أو ثلاث سنين. فأرخنا الرؤيا فمات لثلاث سنين. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين وثلاثماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 محمد بن حكمون الربعي الزيات أبو الكم. سمع من ابن مسرور الغسال وغيره، وهو الذي جاء بالمسألة التي في الإيمان، فألقاها الى علماء القيروان، ووقع فيه من الخلاف بين ابن زيد، وابن التبّان، رحمهما الله، ما اشتهر. أحمد بن عبد الله المهدي أبو جعفر، قيرواني. من أصحاب أبي بك ابن اللباد، من أهل العناية بالعلم. وكان في الدراسة والمطالعة آية لا يكاد يسقط الكتاب من يده، حتى عند طعامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 ابراهيم بن يزيد المكني رحمه الله من مكنة. ذكره المالكي. وقال فيه: فقيه حافظ عابد، مجتهد. كان يسكن المنستير. ثم بلغه أن صديقاً له توفي، وترك بنتاً بصفاقس. فقال: كفالة بنت صديقي، أولى بي. فترك سكنى المنستير، وكفلها وربّاها. رضي الله عنهم، ورحمهم أجمعين. علي بن أحمد المعافري أراه من أهل الساحل. قال المالكي: كان فقيهاً حاذقاً. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثماية. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 أبو عبد الله محمد بن خليفة السوسي من فقهاء هذه الطبقة. وكان أبوه خطب لبني عبيد بالقيروان. ورأيت أيضاً عبد الله بن محمد بن خليفة السوسي، مذكوراً في فقهاء الطبقة التي بعد هذه، فلعله ابنه. ورأيت أيضاً عبد الله محمد بن خليفة السوسي من الفقهاء، يروي عن الدويلي، من الطبقة بعد هذه. رحمه الله. عمرو بن محمد بن عمرون السوسي أبو حفص. من فقهاء هذه الطبقة وفضلائها. يروي عن الإبياني، وابن الحقبة. والحسن بن نصر، وبهما تفقه. وروى أيضاً عن محمد بن يزيد بن عاصم، وطال عمره. روى عنه أبو القاسم اللبيدي. كان عمرون طيّب المسكب متوقفاً عن الشبهات. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثماية. وهو ابن ماية سنة وأربع سنين. أبو الحسن بن الخصيب رحمه اله هو علي بن أحمد بن زكريا بن الخصيب، ويعرف بابن ذكرون، طرابلسي. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً متعبداً ناسكاً، ذا فضل وعبادة وعقل رصين، وإشارة جميل، منوّر الوجه. له في الفقه والفرائض، والشروط والرقائق، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 مصنفات كثيرة. وله في الحديث والرجاء تواليف. وكان كريم الأخلاق باراً بمن قصده. قال أبو عبد الله الأجدابي: صحب رفيق القطان، وشقّ معه القفار، وسال معه الشامات، وله سمات وسند عال. وسمع من أبي عبد الله الجيري، وابن المنذر، وابن رمضان، وابن شعبان، وابن الأعرابي، وابن الجارود. وصحب أبا علي بن الكاتب الزاهد المصري. وجماعة من النسّاك، وروى عنه أبو الحسن القابسي، وأبو الحسن بن النمر الطرابلسي. وأبو القاسم بن نمر. وأبو علي بن المثنى، قاضي طرابلس. وأبو الحسن الحصائري الفارضي. رضي الله عنهم أجمعين. ومن أهل الأندلس عبدوس بن محمد الطليطلي وغير واحد، وبه انتفع أهل طرابلس. وكانوا يعلمونه. قال أبو الحسن بن النمر: كان أبو الحسن بن ذكرون من الورعين، في مطعمه ومشربه وملبسه، ومكسبه، ولفظه، تعلم الناس منه الفقه والحديث والورع، قال غيره: أقام أربعين سنة لم يضحك، ولم يتكلم في غيبة أحد، ولا يسمي أحداً بلقب، وأقام خمسين سنة، لم يحلف بالله. قيل له لما احتضر أتذكر كفارة؟ قال: أعلم ما عليّ يمين أكفرها. وكانت بينه وبين ربيع، مراسلات. توفي سنة سبعين وثلاثماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 ومن أقصى المغرب فمن أهل بلدنا أبو زيد عبد الرحمن بن مسعود الكتامي يعرف بابن أبي عامر. بعين معجمة وباء. كذا وجدته بخط أبي إسحاق بن يربوع. وهو أحد من أخذ عنه. سمع وتفقه، ورحل فسمع من رجال المصريين، ولقي أئمة المالكيين، وبكر بن العلاء القشيري. وسمع منه أحكامه، وأبا الحسن بن جعفر التلباني القاطبي. وأبا حفص عمر بن حفص الاسكندراني. وعن خالد بن جميل، كتاب محمد بن المواز عن أبي مطر. وسمع منه الناس. أخذ عنه عبد الله بن غالب. وعبد الرحيم ابن العجوز، وابراهيم بن يربوع، وقاسم بن عيسى بن علاء، وغازي بن سعيد بن محمد بن عفان، وغيرهم من مشيخة بلدنا. وتوفي رحمه الله بعد التسعين. عيسى بن علاء بن نذير بن أيمن رحمه الله من أهل سبته. يكنى بأبي الأصبغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 سمع بقرطبة، من أحمد بن خالد، ومحمد بن عبد الملك، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن عيسى بن رفاعة، وغيره. وكان طلبه بقرطبة، من سنة سبع عشرة الى سنة أربع وعشرين، وليَ الصلاة والقضاء سبته. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً، ومحدّثاً ضابطاً، كتب عنه. وتوفي سنة ست وثلاثين وثلاثماية. وهو ابن ست وثمانين سنة. قال: وسمع منه من أهل بلدنا: ابنه قاسم، وخلف بن ناصر، وغالب بن تمام، جد بني غالب، وقاسم بن مخلد المعروف بابن علاء قومه، ومحمد بن علي ابن الشيخ. عيسى بن سعادة أبو موسى السجلماسي، من فقهاء بلدنا، ومشاهير المغرب. أخذ ببلده عن خير الله بن قاسم، وطلب بالقيروان ومصر والأندلس. وكان صاحب أبي الحسن القابسي عند الشيوخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 سمع من أبي الحسن الإمام، والدبّاغ والإبياني، وصحب الأصيلي أيضاً عند الإبياني، وحمزة بن محمد الحافظ وغيرهما. وأخذ بالأندلس عن أبي ابراهيم، وابن الخراز. قال المالكي: رحل سنة ثلاث وثلاثماية. فسمع من حمزة وغيره. وحفظ الحديث، وفاق فيه غيره. وكان في الحفظ عجباً. أبله في أمر دنياه. وتوفي بمصر سنة خمس وخمسين وثلاثماية. ولما مات تنازعت الفقهاء والمحدّثون، كلهم يدعيه، ويقول: أنا أحق بالصلاة عليه. ورأيت في تعاليق أبي عمران، أن أبا محمد، حمل عنه عن أبي الجزار، عن ابن لبابة، مسألة كراهة استنشاق الصائم للبخور، الذي ذكر في مختصره. وهو الذي أخبره بذلك، عن ابن لبابة. وقد صرح به، أبو محمد أيضاً. فقال: حدثني عيسى بن سعادة عن خير الله بن قاسم، أنه حكى عن أصبغ في امرأة المسافر، ترفع أمرها الى السلطان، أنه لم يترك لها نفقة، أنه يطلقها عليه. قال القابسي: وذكر مسألة فقال: كذا قال في هذه المسألة، عيسى بن سعادة، الذي ما تكلم قط في مسألة حتى يتقنها. قال القابسي: لما أتينا حمزة بن محمد أنا وعيسى بن سعادة والأصيلي، وافقناه نازلاً من درج مسجد. فقال من هؤلاء؟ فقيل له قوم مغاربة. فوقف، فسلمنا عليه. ثم رجع فقعد، فنظر في وجوهنا وقال: ما أرى إلا خيراً. حدثونا عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن عمر بن قيس الملاني، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: احذروا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى. وتلا: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين ". موسى بن يحيى الصديني، رحمه الله من أهل فاس. كنيته أبو هارون، كبير فقهاء بلده، وشيخهم الشهير في وقته، وبعده. قال القاضي أبو الوليد بن الفرضي: كان فقيهاً عالماً بالرأي حافظاً للمسائل، وله رحلة الى المشرق، سمع ولقي فيها أبا جعفر الأسواني، المالكي، وغيره. ودخل الأندلس، وتردد بالثغر، وكتب عنه هناك. حدّث عنه أبو الفرج عبدوس، وتوفي بفاس يوم الجمعة، يوم عرفة، سنة ثمان وثمانين وثلاثماية، وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه: وسمع أيضاً من ابن عبدون الغزويني، وابنه أحمد أيضاً، كان فقيهاً. وتوفي رحمه الله، سنة ثمان وأربعماية. وبقي سؤدد العلم في بيته، الى الآن. رضي الله عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 من أهل الأندلس القاضي أبو بكر ابن السليم هو محمد بن إسحاق بن منذر بن محمد بن ابراهيم بن محمد بن السليم، ابن أبي عكرمة، واسمه جعفر - وهو الداخل الى الأندلس - ابن يزيد بن عبد الله، مولى سليمان بن عبد الملك. قيل إن عبد الله جده، رومي. وقال ابن مفرج في انتسابه: إنه لخمي من أشراف كورة شذونة. تولى سلفه لبني أمية، وإليهم تنسب المدينة المعروفة ببني السليم، من كورة شذونة. نزلوها عند فتحهم الأندلس، وهو قرطبي. سمع بها من أحمد بن خالد صغيراً، ومحمد بن أيمن، ومحمد بن قاسم، وعبد الله بن يونس، وقاسم بن أصبغ، وأبي عمر بن دحيم، وسعيد بن جابر، وغيرهم. ورحل سنة اثنتين وثلاثين. فسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبالمدينة من المرواني، القاضي. وبمصر من الزبيري، وعبد الله بن جعفر البغدادي، وأبي جعفر النحاس، وابن بهزاذ. وابن أبي مطر، وأبي العباس السكري، ومحمد بن أيوب الرّقي، وجماعة. وانصرف الى الأندلس، فأقبل على الزهد والعبادة ودراسة العلم. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للفقه، بصيراً بالاختلاف، عالماً بالحديث، ضابطاً لما رواه، متصرفاً في علم النحو واللغة، حسن الخطابة والبلاغة. لين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 الكلمة، متواضعاً. وكان مع ذلك ذا غور ودهاء. وسمع منه كثير، وبخط الحكم أمير المؤمنين، وذكره فقال: هو فقيه بمذهب مالك، حافظ متقدم، من أهل المعرفة بالحديث والرجال. له حظ من الأدب. لم يلِ القضاء بقرطبة أفقه منه، ولا أعلمه، إلا منذر بن سعيد. لكنه أرسخ في علم أهل المدينة، من منذر. قال ابن مفرج: كان ابن السليم راسخاً في العلم، مجتهداً في طلبه، عالماً بالحديث والفقه. قال غيره: جمع الى الرواية الواسة جودة استنباط الفقه، والفتيا والحذق بالفرائض، والحساب والتصرف في البلاغة، والشعر والافتتان في العلوم، وكان جماعة من كبراء العلماء بالأندلس ممن أدركوه قاضياً. وذكره الحميدي، وأبو عبد الله في تاريخه، كان مع هيبته ورئاسته، حسن العشرة. كريم النفس كابن زرب، وأبي العباس المروقي، يقطعون على أنه لم يكن قط في قضاء الأندلس، منذ دخلها الإسلام الى وقته، قاضٍ أعلم منه. قال أبو محمد الباجي: فما رأيت في المحدثين مثله، وله كتاب التوصل مما ليس في الموطأ. واختصار كتاب المروزي في الاختلاف. وكتاب المحسن في الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 ذكر ورعه وزهده وفضله وكان مع علمه من أهل الزهد والتقشف والبر. طال هربه من السلطان الى أنشبه المقدار. نال رئاسة الدين والدنيا بالأندلس، فما استحال عن هدية ولا غرته الدنيا بوجه. قال ابن مفرّج: وكان قد بلغ به التقشف وطلب الحلال، إن كان يصيد السمك بنهر قرطبة. ويبيع صيده. فيأخذ من ثمنه ما يقتات به ويتصدق بفضله. ذكر ولايته وسيرته رحمه الله قال ابن حيّان: كان أول معرفته بالحكم المستنصر، وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه الناصر، أنه طلب رجلاً عالماً زاهداً يحجّ عن والدته، بعد موتها بخمسماية دينار - دراهم كانت أعدتها لذلك، من طيب مالها - فذكر له ابن السليم هذا، فأمر بإحضاره. والحكم خلف ستر، وأمر أن يُكلَّم في القصة، ويرغب إليه في ذلك فأبى وأقسم أن لا يفعل ذلك أبداً. فتعلق بقلب الحكم. ولم يزل يجتذبه بكل حيلة، حتى اقتضاه من طريق محبته في العلم. فاستخدمه في المقابلة لدواوين بيت حكمته الذي حوى من كتب العلم ما لم يحوه بيت ملك. فداخله من حينئذ وصاحبه. فنوه الحكم باسمه، وقدمه الى الشورى. فلما ولي الخلافة - بعد موت أبيه - قدمه الى المظالم والشروط. الى أن توفي قاضيه، منذر بن سعيد، فولاه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 مكانه قضاء الجماعة. وذلك سنة ست وخمسين. وجمع له معها الخطبة والصلاة سنة ثمان وخمسين. فحمد الناس سيرته. فكان من سيرته التواني، في الأحكام والتبطؤ في القضاء. فردّ لومه في ذلك من لم يعرف غرضه. لم ينقم عليه شيء سوى ذلك. فلما مات اتفقت الألسنة بالثناء عليه. قال الرازي: وفي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان، سنة خمس وستين وثلاثماية. أمر القاضي ابن السليم، أئمة الفرض، أن يصلوا الوتر بالجامع ثلاثاً، لا يفصلون بتسليم. كما كان يفعل قبل ذلك. وذلك أن بقي بن مخلد، كان يأخذ به، واتبعه عليه بعض الأندلسيين، وهو مذهب أهل العراق. قال القاضي الفقيه الإمام المؤلف أبو الفضل عياض، رضي الله عنه: وقال ابن الحدائي، في كتاب الخطب والخطباء، كان ابن السليم، قد اقتطع من مقاصر النساء بجامع قرطبة، موضعاً اتخذه لصلاته، يوم الجمعة، يبكر للرواح فيه. فلا يزال فيه بين صلاة وذكر، حتى يؤذّن المؤذن بالوقت، فيقوم نحو المقصورة. وحضر مرة جنازة رجل ترك ابناً رجلاً، فلما وضع النعش، تقدم الابن ليصلي من غير إذن، فلما فرغ من شأن الميت، وانفض الناس، أمر القاضي فحمل الولد الى الحبس. فأقبل يقول: ما ذنبي؟ فقال: جهلك، إذ تقدّمت بمحضري، ولم تستأذني ولا رعيت حق الخليفة، إذ الصلاة له وأنا خليفته. فليس لأحد أن يتقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 إلا بإذننا، فلم تفعل، ولابد من تأديبك، لأرشد بك مثلك. فمضي به الى السجن، فلما وصل القاضي الى داره، أمر بإطلاقه، وقال: ما فعلنا به، أدب له. قال المؤلف رضي الله عنه: قد مرّ في أخبار سحنون مثل هذا. قال ابن مسعود: لوى القاضي ابن السليم، للوزير أبي زيد بن خدير بإنفاذ تسجيل له، فاستبطاه أبو زيد، وكتب إليه يعتبه بشعر أوله: إليك بك الشكوى لعلك موصلي ... وإن كنت قد ضيعت سبل توصلي عتب عليه فيه، وشكا من مطلعه ثم قال: إذا لم يكن منك الجميل فإنني ... رضيت بأن أعتاض حسن التنصّل لأجعل دون الصبر للوصل عقله ... عسى وطناً يبقى لنا بالتجمّل فأجابه القاضي بقوله: أتاني قريض كالجمان المفصل ... بديع معانيه لطيف التوصّل حباني به ندب كريم معظّم ... بأسلابه من ماجد متفضّل خلا أن فيه بعض عتب ... لشخص يلام لتقصير وليس بمؤتل وما عاق عن إنفاذ ما قد رغبته ... سوى خطأ في العقل غير محصّل وغاب اللذان أخطآ في نظامه ... فلم يكتمل منه مراد مؤمّل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 وإني وقد طال انتظاري علاجه ... فأكملت ما قد كان، غير مكمل وهذا أبو بكر فأعدل شاهد ... يقول مقالي لا محالة فاعدل ورفقاً بخل غير جلد لعاتب ... على أنه جلد لدى كل معضل وهي أطول من هذا. بقية أخباره رحمه الله حدّث أبو القاسم أحمد بن يوسف، معلّم الخليفة هشام، قال لي: انصرفت من الحج، فصيّرني ولي العهد الحكم لمقابلة كتبه، وأجرى لي على ذلك رزقاً. فأتاني ابن السليم، وهو يومئذ معتزل عن السلطان، على غاية من التقشف، يقعد عندي، وأقبل يعذلني ويقول: يا أبا القاسم بعد طلب العلم، وتقييد الحديث، والرحلة فيه، ركنت الى هؤلاء القوم، واستهوتك دنياهم. فقلت له: وما الذي وليت لهم، إنما هي كتب علم، لمثلها كان سعيي، أصححها لهم بأجرة؟ فقال لي: لا تقل هذا. فقد أعلقتك حبالهم، فلن تقلها. فمن هنا يزفونك الى غيره، ولا يمكننا خلافهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على عظم المصاب بك. ثم مدّ يده الى كمه، وأخرج منه حجرين، وقال لي: خذهما واضرب بهما صدرك، ونُح علي نفسك، سلام عليك. وخرج عني، وتركني أبكي علي، فما مضت الأيام، حتى صار الى منزلتي. ثم ارتقى الى الشورى، ثم الى المظالم، ثم الى قضاء الجماعة، فانتهى الغاية. فأردت معارضته، فأمرت جاراً بحمل حجرين ضخمين، وبعثت معه غلاماً بعد صلاة العتمة. حتى أنزلهما باب القاضي ابن السليم، وأنزلهما الى مصراعيه، فلما قام القاضي لصلاة الفجر، وفتح بابه سحراً، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 لقي الحجرين مسندين إليه، فبقي مفكراً، ومضى الى المسجد، مشغول البال، الى أن دخلت عليه غدوة. فما هو إلا أن رآني اهتدى الى وجه القصة، فقرّبني وقال لي: أنت صاحبه؟ فقلت: هما الحجران اللتان دفعت إليّ، وضعتهما عندي حتى كبُرتا وصرفتهما إليك أذكرك حالك. فبكى، وقال: هو حقك، والبادئ أظلم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون على عظم منشبنا، وخسران صفقتنا. قال ابن الهندي: وكان ابن سليم شديد المحبة لبنيه، والإشفاق عليهم. وكان يوصي مؤدبهم ألا يضربهم. فقال له مؤدبهم، يوماً: كيف يتعلمون بلا ضرب؟ فقال له: " الرّحمانُ علّم القرآنَ ". أوصى مؤدبي أبي، أن لا يضربني، فما ضربني قطّ غير مرة واحدة. فلذلك لم أتعلم. قال ابن الهندي: قال لي ابن السليم: رأيت ثلاث مرات تؤيا استدللتُ من اثنتين منها، على أنني ألي الضاء، وبالأخرى على أني ألي الصلاة. قلت له: كم كان بين رؤياك الأولى، وولايتك القضاء؟ قال ثلاثين سنة. ودخل ابن السليم يوماً، على الخليفة الحكم، وهو ينظر في كتاب فيه من صعاب المسائل، في الفرائض، فألقى عليه منها، أول مسألة. فأجابه: كأنه يقرأها معه في الكتاب الى أن أتى على آخرها. فأعجب به، وقال: أنت من الراسخين في العلم. وكان ابن السليم، حسن الخلق، حليماً. حضر يوماً مسجداً بأطراف قرطبة، لانتظار جنازة فحان وقت العصر، فلم يؤذّن لها. فقال لرجل من العامة: يا هذا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 أخرج فأذن، فإذا به جاهل، فتغيّر لقوله، وقال: ألم ترَ في المجلس أنحس مني؟ فتبسم القاضي واستغفر الله، وخرج، وأذن، فرجع وصلى بالناس. ثم قال للرجل: قد وجدت أنحس منك، فلا تعد الى مثل قولك، ولكن قل لا أحسن، تاب الله علينا وعليك. حكى القاضي يونس بن معتب: أن القاضي ابن السليم، خرج يوماً فأصابه مطرٌ اضطره الى أن دخل بدابته، في أسطوان دار رجل يعرف بالنسائي من أهل المشرق، وساكناً بقرطبة. فوافقه فيه، ورحب به، وسأله النزول عنده. فنزل وأدخله وتفاوض، ثم قال له: عندي جارية مدينية لم يسمع بأطيب من صوتها. فإن أذنتَ أسمعتك عشراً من كتاب الله، وأبياتاً. فقال: نعم، فأمرها فقرأت، ثم أنشدت. فاستحسن ذلك ابن السليم وأخرج دنانير كانت في كمه، فجعلها تحت الفرش الذي كان عليه من حيث لم يره. فلما ارتفع المطر ركب وودعه وقال: تركت شيئاً، هو للجارية، وأقسم لسيدها ليفعلن. وكانت عشرين مثقالاً. قال القاضي ابن مفرج: لما قدّم المستنصرُ ابنَ السليم قاضيه الى الصلاة والخطبة، وكان ذلك ليلة الفطر، كتب الى جماعة من ثقاة إخوانه، يسألهم أن يصبحوا له، فأتيناه. فقال: أريد أن تحفوا بي وتشهدوا خطبتي، لتصدقوني على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 نفسي. وما يتعقب عليّ، ففعلنا. وخطب وأبلغ إلا أنه أهذر، وأكثر الإهذار. فلما انصرفنا سألنا، فقال أحمد بن نصر صاحب الشرطة والسوق: يا سبحان الله، سألكم. فقولوا الحق. فقلنا له: قل أنت يا أبا عمر. قال: قعدنا ننظر خطيباً يهدهد يرفع رأسه ويضعه لكل كلمة. وليس هذا من سمت الخطباء، فأقصر عنه ورتل كلامك وزن جسمك. فشكره القاضي. وتفقد نفسه، فلحق بالخطباء المتقدمين. ذكر وفاته رحمه الله قال ابن حيان. لم يزل ابن السليم على القضاء بقية أيام الحكم. فلما وليَ ابنه هشام، أبقاه. إلا أن كان ما بينه وبين قيّم دولته ابن أبي عامر من شنآن، يقال إن سببه كلمات بدرت من ابن السليم، في حين خلافة هشام. إذ كان صغيراً ابن إحدى عشرة سنة. منها أن سرير الملك الحكم، لما قدم للصلاة عليه قالوا لجعفر بن عثمان خاصته: من يصلي على أمير المؤمنين؟ فقال ومن إلا أمير المؤمنين ولي عهده؟ فتقدم هشام، فصلى. فسمع بعض أكابر الخدم القاضي يهمس، ويقول: وما تغني صلاة أمير المؤمنين عنه، ونحو هذا. ثم برز القاضي عن الصف، فصار متقدماً للناس، خلف هشام، مؤذناً لهم بتكبيره. فيقال: إنه نوى التقديم للصلاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 عليه. وروى عنه أنه قال: لولا أني نويت عقد الصلاة بمقامي هذا لدُفن بغير صلاة، وليست بأشد عقوباته لتقديمه على الأمة صبياً لم يدرك الحلم. فنميت هذه الكلمات الى ابن أبي عامر، فمقته. وكان صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، فثقل مكانه عليه. ولم يزل ابن أبي عامر، يسعى في توهين أمره، ويتعرض بأحكامه، وينقض قضاياه، وفطن هو لذلك فخفف وطأته، ودارى سلطانه شهوراً، الى أن وقع في العلة التي توفي منها. فمات رحمه الله. وذلك يوم الاثنين لخمس أو ست بقين من جمادى الأولى. وفي كتاب الاحتفال: جمادى الآخرة، سنة سبع وستين وثلاثماية، وسنّه خمس وستون، مولده سنة اثنتين وثلاثماية، فلما نعي الى ابن أبي عامر، قال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاء، ومات حين شاء؟ فقد رأيناه وهو هذا، رحمه الله. أخوه منذر بن إسحاق أبو الحكم، كان أسنّ من أخيه، وكان مشاوراً له بقرطبة. وابنه أبو الوليد عبد الله بن محمد، كان سليمان المستعين قدمه للشورى في الفتنة، تنويهاً بمكانه. ولم يكن لذلك أهلاً. وتوفي سنة اثنتين وأربعماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله ابن عبد العزيز بن عمر بن عثمان بن محمد بن خالد بن عقب بن أبي معيط واسمه أبان بن أبي عمر بن أمية بن عبد شمس - قرطبي. دخل الأندلس صغيراً مع أبيه. وأصله من برقة. يكنى أبا مروان، ويعرف بالمعيطي. وسمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ، والحسن بن سعد، وأحمد بن عبادة، ومحمد بن أبي دليم، وأحمد بن دحيم، وابن الأحمر. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالفتيا، بصيراً بالمسائل والشروط. مشاوراً في الأحكام، حافظاً للخبر والشعر، طيب النفس، فكه الخلق، حدث وسمع منه جماعة، أنا منهم. قال غيره: واليه والي ابن أبي دليم، انتهت رئاسة الفتوى، أيام الحكم. مولده رحمه الله سنة اثنتين وثلاثماية. وتوفي لعشر بقين لمحرم، سنة ثمان وسبعين. سليمان بن أيوب بن سليمان قرطبي. بيته بيت نباهة. تقدم ذكره أولاً، عند ذكر أبيه، يكنى بأبي أيوب. سمع من أبيه وابن لبابة، وابن أبي الوليد، وابن أبي تمام، وأسلم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 وابن قاسم، وابن أبي دليم، ورحل حاجّاً. وسمع من ابن خالد وابن أيمن، وعثمان ابن أبي زيد، وابن الأغبس، ومحمد بن أحمد الشبلي، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن بقي. وكان من أهل العلم والنظر، بصيراً بالاختلاف حافظاً للمذهب، مائلاً الى الحجة. كان محمد بن يحيى بن الجزار، ومحمد بن أبي دليم، يثنيان عليه. قال ابن الفضي: وهما بعثاني للأخذ عنه، وكان زاهداً خاشعاً متواضعاً كثير البكاء. حدث وسمع منه الناس كثيراً. قال ابن عفيف: وكان من أهل العلم واليقظة، والرواية. روى عنه ابن حبيب، وابن الفرضي، وغير واحد. وتوفي سنة سبع وسبعين. وابنه أحمد يكنى بأبي عمر. سمع ابن قاسم، وابن أبي دليم، وغيرهم. ورحل حاجّاً. وكان صالحاً مشاركاً في فنون من العلم، مع سلامة وأمانة. توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين - وهو آخر من حدث عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 عبد الملك بن هذيل بن عبد الملك بن هذيل بن اسماعيل ابن نويرة بن جميل بن نويرة بن مالك بن نويرة التميمي قرطبي، أبو مروان. سمع من أحمد بن خالد، وابن أيمن، وابن أصبغ، وغيرهم. ورحل فحجّ، وسمع من أحمد بن رشدين بمصر، ومن ابن الأعرابي بمكة. ومن ابن اللباد بالقيرون، وانصرف الى الأندلس، فالتزم العزلة والانقباض، وكان يلبس خلق الثياب. فسمّته العامة الخلقي لذلك، قال ابن عفيف: كان واحد عصره في التقشف والزهد والعقل. من الراسخين في علم الفقه والحفظ. وله المعرفة بالحديث، واختلاف العلماء. صحب الصالحين فأخذ بسيرتهم. ورفض الدنيا ولزم منزله. وهجر الناس، وأقبل على صلاته وعلمه، حتى أتاه اليقين. وكان يذهب في الماء مذهب العراقيين. قال ابن الفرضي: كان لا يسند حديثاً. فإذا سئل عن سند حديث قال: يا ابن أخي، إنما هي بتر. فكان من الناس من يحمل ذلك منه على الانقباض، ومنهم من يحمله محملاً قبيحاً. قال: وسمعت محمد بن أحمد بن يحيى، يسيء فيه القول، وينسبه الى الضعف. وتوفي سنة تسع وخمسين وثلاثماية. ورثاه أخوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 أبو بكر يحيى بن هذيل الشاعر، سمع مع أخيه من رجاله، والأندلسيين، وغلبت عليه صناعة الشعر. فكان شاعر وقته، غير مدافع. وطال عمره فسمع منه. قال ابن مفرج: وكان عالماً نزيهاً فصيحاً، حافظاً للفقه، راوية للحديث والخبر. ظاهر البشارة، من ملبس ومركب، حسن الحديث، ذا عفة وتقى، كثير التلاوة للقرآن. وكان القاضي ابن زرب، يفضله ويزكيه، ويرد عليه المتخاصمين من جيرانه كثيراً، ليصلح بينهم. سمع منه ابن الفرضي، وغيره، وكان الرؤساء يقدمونه ويبرونه. وعمي آخر عمره، فدعي الى أن يقدح عينيه، فأبى من ذلك. وقال أبعدما أوجب الله لي الجنة، أدعها وأستأنف العمل؟ والله لا فعلت، ولأجعلن بقية عمري لله تعالى. وكان يكثر تلاوة القرآن بالنهار، والتهجد بالليل، وكان وضع على باب مستراحه، مسماراً يتحسسه بيده ويضع فيه خاتمه، عند دخوله، حتى لا يناله شيء، إذ كان فيه منقوشاً: نجا بفضل الله تعالى يحيى. وقرأ عليه قارئ محسن سورة، فبكى وانتحب، ثم شهق وغشي عليه، حتى ظن أنه مات، ثم أفاق وبقي مهيضاً أياماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 وكانت بينه وبين الفقيه أبي عبد الله ابن أبي زمنين، مهاداة أشعار في الذكرى، حسنة. منها مقصورة لابن أبي زمنين، رحمه الله، أولها: تذكر أخي مثواك في منزل الهلكى ... رهيناً به لا تستجيب إذا دعا وهي طويلة. أجابه عنها ابن هذيل بأخرى أولها: أخي غاية قصوى ومن لي بالقصوى ... وقد بلدت خيلي وعن مثلها نعني وكان قال الشعر في المكتب. فكان معلمه يعجب منه، الى أن دخل عليه يوماً رجل من حكماء وقته، فأخبره بخبره. فقال له: أرنيه. فقال له: لا، ولكن تفرسه في صبياني. فقال: إن كان فهو ذلك، فقال له المعلم: صدقت. فمن أين تفرسته؟ فقال: أما تراه صبياً أسمر معرباً على خلقة العرب. ثم قال له أجز: لستَ من الشعر ولا صوغه. فقال له ابن هذيل سريعاً: فدع مقال الشعر لا تبغه. فصفق الرجل بيديه، وحوقل، وقال له: أحسن ما سمعت مع البديهة وصعوبة القافية. ومن أخباره: أن الناصر كان قد أنذر الخطباء والشعراء بحضور خيل الحلبة في المهرجان، قال ابن هذيل: فجاءني الأمر بذلك، عشي نهارها. فخلوت بقية يومي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 والنصف من ليلتي، لم أنظم كلمة. فأويت الى فراشي، فأخذتني عيني، فكنت أرى شخصاً في المنام يقول لي: ترقد يا أبا بكر، ولم يفتح عليك. ثم يقول: مشاهد يلزمنا حضورها ... للخيل حتى تنقضي أمورها وهببت سريعاً وقد توقد خاطري وافتتحت بهذا الابتداء، وانثالت علي القوافي. فجئت بأرجوزة حسنة. غدوت بها أول منشد. وتوفي رحمه الله، سنة إحدى وسبعين وثلثماية عم عمر - فيما قاله ابن عفيف - وقال ابن الفرضي، رحمه الله: توفي سنة تسع وثمانين. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي من بيت نبيه بقرطبة، في أصحاب السلطان. يكنى بأبي بكر. كان خيراً فاضلاً، حليماً طاهراً عالماً. كثير الخير والمعروف. طويل الصلاة. يقال إن قدميه تفطرتا من طول قيامه. قال ابن الفرضي: سمعت محمد بن يحيى بن عبد العزيز يقول - وقد خرج من عنده، وقد أتاه عائداً: ما أعرف أحداً يصلح للقضاء غيره. وقال سليمان بن أيوب: كان أولى بالقضاء من ابن أبي عيسى، ومنذر وغيرهما. ثم قال: هذا الذكر يغار له الناس. واستوزره الحكم، تنويهاً بمكانه. فلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 تستوفزه الدنيا بحال. ومات رحمه الله، وهو مخطط بالوزارة، في جمادى الأولى، سنة خمس وسبعين وثلاثماية. أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن ابراهيم بن عيسى بن عمر بن عبد العزيز يعرف بابن القوطية. قال ابن حارث: من مواليد البربر نسب بيتهم الى أم جد أبيهم. وهي ابنة ملك الأندلس. قبل دخول الإسلام إليها وفدت به قبل دخول الأندلس، على هشام بن عبد الملك بالشام، متظلمة. فتزوجها هنالك عيسى بن مزاحم، وقد الأندلس، فنسبت بنوها إليها. وهم من أهل إشبيلية، وسكن أبي بكر قرطبة. وقد ولي أبوه قضاء إشبيلية. وسمع من ابن القون، وحسن الزبيري، وابن جابر، وعلي بن أبي شيبة، وسيد أبيه الزاهد. وبقرطبة من طاهر، وابن أبي الوليد، ومحمد بن مغيث، وابن لبابة، وابن أبي تمام، وأسلم القاضي، وابن أيمن، وابن الأغبس، وابن يونس، وقاسم بن أصبغ، ونظرائهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 قال ابن غفيف: كان جليلاً من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، حافظاً للفقه، والخبر النادر، والشعر. قال ابن أحمد: وله في الحديث قدم ثابتة، ورواية واسعة، وهو على ذلك من أهل النسك والعبادة. وقال ابن عبد الرؤوف في طبقاته: كان أبو بكر عالماً من علماء الأندلس، فقيهاً من فقهائهم، صدراً في أدبائهم، حافظاً للغة والعربية، بصيراً بالغريب والنادر، والشاهد والأثر. عالماً بالخبر والأثر. جيد الشعر، صحيح الألفاظ واضح المعاني، إلا أنه تركه ورفضه مؤثراً ما هو أولى منه. فهو إمام من إئمة الدين، تامّ العناية بالفقه والسنّة، مع مروءة ظاهرة، وتمام خِلقة وسمت وحسن بيان. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالنحو، حافظاً للعربية، مقدّماً فيها على أهل عصره، لا يشق غباره. وله في ذلك تصانيف حسنة. ككتاب تصاريف الأفعال، وكتاب المقصور والممدود، وشرح رسالة أدب الكاتب، وغير ذلك. وكان حافظاً لأخبار الأندلس، وسير أمرائها وأحوال رجاله. وله تصنيف في تاريخها حسن. قال ابن الفرضي: ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه. ولا له أصول يرجع إليها. وما سمع عليه من ذلك يحمل على المعنى. وكثيراً ما كان يقرأ عليه ما لا رواية له فيه على سبيل التصحيح. وطال عمره حتى سمع طبقة بعد طبقة من الشيوخ والكهول، ممن ولي القضاء والشورى والخطط من أبناء الملوك وغيرهم. وسمعت منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 قال ابن الفرضي: وكانت فيه غفلة وسلامة، وتقشف في ملبسه وورعه. وذكر أنه كان يدلس في حديثه. وحكى أن الحكم سأل أبا علي البغدادي: من أنبل من رأيت في بلدنا في اللغة؟ فقال: ابن القوطية. وذكر أبو بكر بن هذيل، أنه لقيه بسفح جبل قرطبة صادراً من ضيعته، فسلم عليه وفداه ابن هذيل. فأنشده على البديهة مداعباً: من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال: فابتسم وأجابني بديهاً: من منزل يعجب النسّاك خلوته ... وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا قال: فقبّلت يده. إذ كان شيخي، ودعوت له. وتوفي رحمه الله، سنة سبع وستين وثلاثماية. اسماعيل بن إسحاق بن ابراهيم القيسي ثم النصري بالنون رفع نسبه ابن الفرضي الى قيس بن عَيلان بن نصر. يكنى بأبي القاسم. ويعرف بابن الطحان. من طيء. كان من أهل الفقه والحديث، مشهوراً بالخير، غلب عليه الحديث. وله في المدونة اختصار معروف. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالآثار والسنن، عالماً بالحديث ورجاله، وأخبارهم، حسن الحكاية كثير الفائدة، موروداً من الناس. سمع من قاسم بن أصبغ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 وابن الخشني، والرعيني، وابن دحيم، وابن أبي دليم، وابن الأحمر، وابن مطرف، وأحمد بن حزم، وخالد بن سعد، وحسان بن عبد الله الاستجي، وغيرهم. وكان أكثر وقته في تصنيف الحديث، والتاريخ وغيرها. وخرج في غير نوع من المصنفات. سمعت منه، وأكثر أصحابنا. وانتفع به أهل الكور، لصبره على المواظبة على الجلوس. وكان يعقد الشروط ويفتي. وكان فتياه بما ظهر له من الحديث، توفي رحمه الله، سنة أربع وثمانين. مولده سنة سبع وثمانين. رحمه الله. عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري أبو محمد قرطبي. قال شيخنا أبو علي حسن بن محمد الغساني الحافظ: هو والد شيخنا أبي عمر بن عبد البر، من فقهاء قرطبة. تفقه على أبي ابراهيم التجيبي، ولازمه. وسمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 من أحمد بن مطرف، وأحمد بن حزم، وأحمد بن دحيم، وابن الأحمر، ومحمد بن أحمد بن قاسم بن هلال، وغيرهم. توفي رحمه الله، سنة ثمانين وثلاثماية. مولده سنة ثلاثين وثلاثماية. وكان أبوه محمد بن العباد المنقطعين، المعروفين بالتهجد، والمبرزين فيه، من أصحاب ابن مجاهد الألبيري. رحمه الله. توفي قبل ابنه بسبعة أشهر. محمد بن أحمد بن خالد بن يزيد بن الجباب تقدم ذكر أبيه، قرطبي، يكنى أبا بكر. سمع من أبيه. قال ابن الفرضي: ولا أعلمه روى عن غيره. قال أبو الوليد الباجي فيه: فقيه. وقال ابن الفرضي: كان قليل العلم، روى عنه القاضي يونس، توفي سنة اثنتين وستين. وله كتاب فضل العلم. أبو عبد الله محمد، وأبو محمد، عبد الله ابنا أبان بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار من جملة فقهاء قرطبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 سمعا أباهما: عيسى، ووهب ابن مسرة، وأحمد بن مطرف، وندبهما الحكم، الى اختصار الكتب المبسوطة، تأليف يحيى بن إسحاق بن يحيى، فاختصراها وقرباها. واختصر اختصارهما بعد هذا، شيخنا قاضي الجماعة: أبو الوليد ابن رشد. وتوفي عبد الله منهما في جمادى الآخرة، من سنة ست وعشرين وثلاثماية. رحمه الله. يحيى بن هلال بن زكريا بن سليمان بن مطر قرطبي. يكنى بأبي زكريا. سمع من عمه ابن مطر وأحمد بن خالد، وابن أيمن، وعثمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن قاسم، ومحمد بن مسوّر، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن حكم ومحمد بن أبي لبيد، والدينوري، وسمع ببجانة من ابن فحلون، وكان حافظاً لمسائل المالكية، بصيراً بالعقود، مقصوداً في السماع، درباً عليه، لم يرَ في المحدثين أصبر منه على المواظبة. لذلك كان يجلس كل يوم لإسماع المدونة، من الظهر الى الليل، يستوعب قراءتها كل شهر. تمادى على ذلك عمره. وسمع منه الواضحة وغيرها، وسمع منه جماعة من الأندلسيين وغيرهم. وممن سمع منه الفقيه أبو علي الحداد، وابن عمرون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وتوفي سنة سبع وستين وثلاثماية، على ما قاله ابن عفيف، وابن الفرضي. وقال محمد بن يحيى بل توفي سنة ست قبلها. وسنّه أزيد من خمس وسبعين. عبد الله بن محمد الصابوني المعروف بابن بركة، قرطبي. يكنى بأبي محمد، مولى لبني هارون لآل باد حجر، ويقال لفهر. وغلب عليه اسم أمه. سمع ابن الأحمر، وابن حزم، وابن مطرف، وتفقه. قال غيره: وكان حسن الثناء في الناس، والإصلاح بينهم، حتى كان الحكام يوجهون إليه المتشاكيين من الخصوم، لحسن وساطته. توفي سنة ثمان، ويقال ثلاث وسبعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 أبو بكر بن عبد العزيز بن يحيى المعروف بابن الحصار. قرطبي. قال ابن مفرج: كان من أهل الحديث من الصالحين، حافظاً للفقه، ودعي الى الشورى، فامتنع عنها. ولزم العبادة والانقباض، الى أن مات رحمه الله، وسمع عليه أخوه: أبو عبد الله محمد بن العزيز بن يحيى المشتهر بأسفيل. قرطبي. قال ابن عفيف: كان من حفاظ الفقه، ورواة الحديث. أخذ عن ابن خالد وابن أصبغ، وابن أيمن، وغيرهم. وكان أبصر أهل زمانه بالوثائق. وله فيها تأليف حسن. قال ابن مفرج: كان ابن الحصار هذا من أهل العلم والرواية والدرس، والنظر بالحجة. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالوثائق، وشهر بالدلسة فيها، غير ثقة. ولا مأمون، وذكر غيره ابن الحصار هذا: خرج سحراً لحاجة، فأخذته الصلاة في مسجد الأمير ابن الشرح، فوجد في الصفّ الأول فرجة استوى فيها، إذ أقبل ابن الشرح، فجاء المؤذن الى ابن الحصار فقال له وهو لا يعرفه: يا هذا، قم عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 مكان الأمير، وإذا في المكان حصير نظيف كان يفرش له، فانتزعه ابن الحصار من تحته، ورمى به وراءه وقال: دونك حصير الأمير يا جاهل، فأما المكان فليس لك ولا له. ولم أحضركم إذ نسبتم المسجد، فأخذ يحط منه. فرفع الناس رؤوسهم، واستحيى الأمير، وأقبل يفنّد مؤذنه، فلما صلى جاء الى الشيخ، واعتذر له، وكان جار من النصارى من وجوه الخدمة، يقضي حوائجه، ومتى مرّ بدار الشيخ وقف به، فيهشّ إليه الشيخ ويدعو له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك. أقر الله عينك. يسرّني ما يسرك. جعل الله يومي قبل يومك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات. والنصراني يبتهج بذلك. فعوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي معاريض، عرف الله نيتي فيها، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاءه لغرم الجزية، وأن يتولاه بعذابه. وقولي أقر الله عينك، فإني أريد قرار حركتها بشر يعرض لها، فلا تحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالعافية تسرني وتسره. وأما جعل الله يومي قبل يومك، فيوم دخولي الجنة قبل دخولك النار. وتوفي رحمه الله سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. أبو عمر أحمد بن عيسى بن مكرم الغافقي قرطبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 قال ابن الفرضي: كان متصرفاً في الفتيا، وعقد الشروط. توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين. وأخوه أبو عثمان سعيد بن عيسى قرطبي. سمع من قاسم بن أصبغ، وأحمد بن زياد، والحسن بن سعد، وغيرهم. وكان متصرفاً في حفظ الرأي وعقد الشروط، ذا عدالة ووجاهة. رحمه الله. توفي بعد أخيه سنة ثمان وسبعين. رضي الله عنه. أحمد بن محمد بن زكريا بن الوليد بن عبد اللرحمن بن عبد الله ابن زيد بن مكيال مولى عبد العزيز بن مروان بن الحكم المكفوف، المعروف بالرصافي، قرطبي. سمع أحمد بن خالد، وأحمد بن زياد، ومحمد بن حكم، وكان مفتي أهل تلك الجهة، ومحدثهم. كتب عنه غير واحد. قال ابن الفرضي: كان صالحاً. توفي في صفر سنة أربع وستين وثلاثماية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 أحمد بن هلال بن زين العطار قرطبي. يكنى بأبي عمر. ورحل فسمع بمصر من زيان، ومحمد بن الربيع الجيزي، وغيرهم. قال ابن الفرضي: كان حافظاً للشروط، نبيلاً في الرأي، على مذهب المالكية. مفتياً في السوق، وحدث عنه اسماعيل بن إسحاق البصري وغيره. وتوفي عقب صفر سنة أربع وستين، وسنّه قد نيف على تسعين، مولده سنة اثنتين وسبعين ومايتين. رحمه الله. أحمد بن بدار المؤدب قرطبي. يكنى أبا عمر. سمع ابن قاسم والحسن بن سعد، وغيرهما. قال أبو الوليد: كان حافظاً للفقه، على مذهب مالك بن أنس. وكان يؤدب بالقيروان. وكان من العباد المتبتلين. وحدث. توفي آخر سنة سبع وسبعين رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 زكريا بن يحيى بن زكريا التميمي قرطبي. أبو يحيى، يعرف بابن برطال. وهو خال المنصور بن أبي عامر. سمع من ابن لبابة، وابن خالد، وابن قاسم، وغيرهم. وكان فقيهاً نبيلاً في الفتيا، وعقد الشروط، وتصرف في القضاء ببطليوس وطليطلة، وباجه، وأكشونية، ووادي الحجارة أيام الناصر والمستنصر. وكتب عنه الناس كثيراً. قال ابن الفرضي: وكان ثقة. قال ابن حارث: هو من أهل العقل الجيد والمذاهب الحسنة، عفيفاً متورعاً. وكان أبو يحيى، قد وليَ القضاء قبله، ببطليوس وباجه، ولاردة أيام الناصر. قال ابن حارث: وكان محموداً في قضائه، حسن الوفاء، موصوفاً بحسن المعاشرة، ولم يزل قاضياً هنالك، الى أن توفي بعد عشرين وثلاثماية. وتوفي ابنه زكريا سنة تسع وخمسين، وثلاثماية. وسنّه إحدى وسبعين سنة. وابنه الآخر القاضي: محمد بن يحيى أبو عبد الله سمع بقرطبة من ابن خالد، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن عيسى بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 رفاعة، وابن دحيم، وغيرهم. ورحل الى الشرق فحجّ حججاً، وسمع من أبي إسحاق بن فراس، وابن جامع السكري، والقشيري، وحمزة الحافظ الرازي، وعبد الكريم النسائي، وجماعة كثيرة. ووليَ أيام الناصر، قضاءَ ريّة. ثم قضاء جيّان أول أيام المؤيد، وأحكام الشرطة. فلما توفي ابن زرب، وليَ قضاء الجماعة - مكانه - والصلاة معاً، سنة إحدى وثمانين. فاستخلف على الصلاة ابن الشرفي، وبقي على القضاء، الى أن علت سنّه، وتلف ذهنه، فصرفه ابن أبي عامر عن القضاء، سنة اثنتين وتسعين، ونقله الى الوزارة تنويهاً بمكانه، وتسلية له. فكانت مدة قضائه عشرة أعوام ونحو أربعة أشهر. قال ابن الفرضي: وكان شيخاً مسمتاً جميلاً، وقوراً حليماً متواضعاً، كثير الصوم، لم يحفظ له فيما تولاه بنفسه قضية جور، ولا غرته الدنيا. وكان باطنه كظاهره، سلامة ونزاهة. قال ابن معمر: كان ورعاً عفيفاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 قال ابن جيّان: كان عبداً صالحاً، ورعاً عاقلاً، عفيفاً. قال بعضهم: وكان عاطلاً من الفقه، مشهوراً بالصدق، والأمانة. سمع عليه الناس، وحدث عنه ابن الفرضي، والقاضي سراج بن عبد الله، وجماهير الناس. وكان مجلسه من أجلّ المجالس، وتوفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. وخلّف ثناءً حسناً. وسنّه يوم توفي ست وتسعون سنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 أبو عبيد الله الجبيري رحمه الله بضم الجيم، واسمه قاسم بن خلف بن فتح، بن عبد الله، بن جبير. طرطوشي الأصل. ولزم قرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ وغيره. ورحل فسمع بمصر من جماعة، وبجدة من الحسين بن حميد الحرمي، وبالعراق من أبي بكر الأبهري، ولزم وتفقه عنده على مذهب المالكية. وتحقق به، وأقام في رحلته ثلاثة عشر عاماً، وانصرف الى الأندلس. ومن شيوخه: عبد العزيز بن محمد الواثق. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً عالماً، حسن النظر، صدراً في أهل الشورى، يجتمع إليه، ويتاظر عنده. وكانت الرواية أغلب عليه، روى عنه أبو بكر ابن رهما. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بالفقه، والحديث نظاراً مدققاً في المسائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 قال ابن مفرج: كان أبو عبيد الله من الصالحين العلماء، طلب صغيراً ورحل فحجّ وتوسع في الطلب. وكان له الي علمه، أدب وفهم، وحسن خط وذكاء، وتفنن في المعرفة. وكان حسن التلاوة، له كتاب في التوسط بين مالك وابن القاسم، فيما خالف فيه ابن القاسم مالكاً. كتاب حسن. وكانت له من الحكم المستنصر، منزلة ومكانة عالية. أسكنه معه الزهراء. وتوسع له، ووليَ قضاء بلنسية، وطرطوشة. فحكمها دهراً فيما قال ابن حزم. وقال ابن الفرضي: استقضاه المستنصر، على طرطوشة وعملها، فاستعفى، ولحقته التهمة مع عبد الملك بن منذر البلوطي - صاحب الردّ - في جماعة من العلماء وغيرهم، بالقيام مع عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، على مؤيد هشام، وصاحب دولته ابن أبي عامر. وكانت قصة عظيمة. حان فيها لحينه، عبيد الله وصاحب الرّد عبد الملك، بسبب إقراره واعترافه بذلك، لخدعة لحقته من ابن أبي عامر، بالإقرار. فأفتى بعضهم على عبد الملك بالقتل، ونزع بآية المحاربين. وقال ابن المكوى: هؤلاء هموا بمعصية، فلم يفعلوها. فلا قتل عليهم. فأمر ابن أبي عامر، بقتل عبد الله، وصلب ابن منذر، فنفذ ذلك ولاذ أبو عبيد الله بالإنكار. وتخوف مما فرق به. وقال: معاذ الله، أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أفعل هذا وقد رويت كذا، وسمعت كذا، وجلب الآثار في ذلك في نكث البيعة، والسعي والفساد. فلم يوجد إليه سبيل وسلك غيره من العلماء المتهمين، مسلكه. فأمر به وبهم الى المطبق، على اختلاف أحوالهم، وكان ذلك في سنة ثمان وسبعين، فيما قاله ابن مفرج. قال: بعد أن أقام فيه، نحو عشرة أعوام. وقال ابن الفرضي: توفي أبو عبيد الله بمطبق الزهراء، سنة إحدى وسبعين. ومولده فيما قيل: آخر سنة اثنتي عشرة. وقيل: توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة. وذكر أن أبا بكر بن مجاهد الألبيري، نهض مع أصحابه، الى أبي عبيد الجبيري، ليزوره بالزهراء على عادته له، وكان صديقه. فلما حضر عنده أحضر طعاماً ودعاهما الى أكله. فأكلا معه. فلما خرجا سئل أبو بكر عن أكل طعامه وقد علم أنه ليس له مال، إلا ما أعطاه السلطان. فقال أبو بكر: هو رجل من أهل العلم، فلو أمسكت عن طعامه، لكان جفاءً. وأنا في نفسي أحقر من أن أجعلها في هذا النصاب، وقد قدمت ما ملكت وأجمعت على الصدقة به، وثواب ذلك لصاحبه، ورأيت هذا، أفضل من الشهرة والإمساك عن طعامه والجفاء عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 محمد بن سعيد العصفري رحمه الله وقيل محمد بن يحيى بن خليل العصفري، اللخمي، قرطبي. أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن أبي دليم وغيرهما. وكان حافظاً للمسائل، مفتياً في السوق بقرطبة، ويجتمع إليه في لمناظرة في الجامع. وتوفي رحمه الله سنة ثلاث وستين وثلاثماية. وقيل سنة أربع وستين. ابراهيم بن أحمد بن فتح مولى أبي إسحاق. يعرف بابن الحداد، قرطبي. روى عن محمد بن عبد الملك بن أيمن، ومحمد بن مسرور، وعبد الله بن يونس القبري. وأحمد بن زياد، وقاسم بن أصبغ، والحسن بن سعد، وأحمد بن الشامة. وكان حافظاً للمسائل، عاقداً للشروط، ضابطاً. قرئ عليه المدونة، وغير ذلك. وتوفي رحمه الله آخر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 عيسى بن محمد بن عيسى البجاني أبو الأصبغ. ويعرف بعيسون، بسين مهملة. قرطبي. وبجانة هذه: آخر عمل الزهراء. سمع ابن فطيس الألبيري، وأحمد بن زياد، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن يحيى بن لبابة. وكان ختمه هو على ابن لبابة. وتردد عليه، وكتب بين يديه، حتى فقه. وقيل كان مشاوراً في الأحكام، صدراً فيمن يستفتى، مرشحاً للأحكام الشرطية. توفي قبل ذلك. كان عبيد الله بن المعيطي واسماعيل بن إسحاق، يثنيان عليه. روى عنه اسماعيل بن إسحاق. وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثماية. محمد بن يحيى بن خليل اللخمي، العصفري، الحباب. قرطبي. أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ ومحمد بن أبي دليم وغيرهما. وكان فقيهاً حافظاً معتنياً بالرأي، يفتي في السوق، ويجتمع إليه في المناظرة. توفي رحمه الله سنة أربع وستين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 محمد بن عبد الله بن أيمن البزاز قرطبي. أبو عبد الله. سمع طاهر بن عبد العزيز، والأعناقي، وابن خمير، وابن مُعاذ، وابن الزرّاد، ومحمد بن عمر بن لبابة. وكان متصرفاً في الفتيا والشروط، وحدث. قال القاضي ابن مفرج: كان رجلاً صالحاً، ثقة، وأثنى عليه، رحمه الله. محمد بن نجاح بن عبد الرحمن بن علقمة بن منعوش قرطبي. أبو القاسم. روى عن القاسم بن أصبغ وغيره. وولي قضاء طليطلة. فلم يزل قاضياً عليها، الى أن توفي رحمه الله، سنة ست وسبعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 أحمد بن محمد بن يوسف المعافري أبو القاسم، قرطبي. يعرف بالقشطيلي. سمع أبا عيسى الدينوري. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بفنون كثيرة، من الفقه والحديث والعربية، واللغة. رحل وسمع وحجّ. ولقي رجال الشرق والأندلس. وأكثر من الرواية. وأدخل الأندلس علماً جماً، واستعمله الحكم المستنصر في خطة المقابلة. ثم صيّره الى تأديب ولده هشام: المؤيد، القرآن. فاختص به. فلما تولى هشام الخلافة بعد أبيه، قدمه للحكم بالشرطة. فلم يزل على ذلك الى أن هلك. وقد حدث وسمع منه الناس. حدث عنه ابنه، أبو عمر الفقيه. وأبو علي الحداد، وابن عفيف وابن الحداد. وهو صاحب قصة الحجرين، مع القاضي ابن السليم التي ذكرناها في أخباره. وتوفي رحمه الله، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية، من سقطة سقطها في الحمام. أقام بعدها ثلاثة أيام ثم مات. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 سعيد بن حمدون بن محمد الدقي القيسي. أبو عثمان. سمع ابن أصبغ، وابن الشامة، وابن أحمد وابن مطرف، وغيرهم. وحجّ فسمع الآجري وابن الورد، وغيرهما. قال ابن الفرضي: ولم يزل سامعاً وطالباً الى أن مات. قال: ولم يكن له نفاد في شيء من العلم، وتكلم فيه. وكان أعور العين اليمنى. فكانت العامة تسميه: دجّال الفقهاء. وزاره ابن زرب من علة، فألطف سؤاله. فشكا له حمى فمد ابن زرب يده، وأدخلها في جيبه - كأنه يلمس جسده - وقد قبض على صرة دراهم وضعها على صدره. فلما وجد حسها قال: قد شفاني الله عزّ وجل، بلمس كفك المباركة يا قاضي، ولقد بردها الى قلبي، ولم يعلم أحد ما أراد حتى حدث به بعد إفاقته. وتوفي، رحمه الله سنة سبع فيما قاله ابن مفرج. أو ثمان وسبعين، فيما قاله ابن الفرضي. رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 خطاب بن مسلمة بن محمد بن سعيد بن بتري الأيادي قرموني، سكن قرطبة. يكنّى بأبي المغيرة. سمع ابن لبابة، والقاضي أسلم، وأحمد بن خالد، وعثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، ورحل مع القاضي ابن السليم، فحجّ وبقي بالشرق أعواماً. سمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من القرشي، وابن بهزاد، وأبي جعفر بن النحاس، وابن الورد، والصموت وغيرهم. وكان زاهداً فاضلاً، مجاب الدعوة. قال ابن السليم: هو من الأبدال. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للفقه بصيراً بالنحو والعربية، نبيلاً. قال ابن عفيف: كان من أهل العلم بالفقه، والحديث والإعراب واللغة. قال محمد بن يحيى: كان خيراً زاهداً فاضلاً مجتهداً في العبادة، منقبضاً عن الناس، وكان من العلماء العاملين. سمع منه، من القرطبيين: ابن الفرضي، وابن الحداد. ومن أهل بلدنا ابن أبي مسلم القاضي، وناس كثير. مولده سنة أربع وتسعين ومايتين. وتوفي رحمه الله في شوال، سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. وسنّه نحو ثمانين سنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 وابنه أبو عبد الله محمد رحمه الله من أهل العلم والرواية أيضاً. سمع من أبيه. قال محمد بن يحيى: كان خيراً فاضلاً، زاهداً مجتهداً في العبادة، منقبضاً عن الناس، وكان من العلماء العاملين. وابن أخيه مسلمة بن محمد بن مسلمة أبو عبد الله. ويعرف بالزاهد. كان فقيهاً زاهداً فاضلاً متبتلاً، كثير الجهاد، ورعاً. سمع الباجي وابن عون الله، ووهب، وابن الحداد، وأبا عيسى بن مفرّج، وعمّه. ورحل فسمع بإفريقية من السدري. وبمكة من الآجري، وغيرهما. وامتحن في الطريق بذهاب رحله. وقرئت عليه المدونة، والمستخرجة، وغير ذلك. وكان أكثر ما يحمله من الحديث إجازة. وكانت العبادة أملك به، وأغلب عليه. توفي سنة إحدى وتسعين. ولم ينصرف من جنازته، إلا بالليل. رحمه الله. عبد القادر بن عبد العزيز العتروني مرشاني. أبو المطرف. سمع من قاسم بن أصبغ، ووهب بن مسرة. وكان حافظاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 للمسائل، عاقداً للشروط، مفتي موضعه. توفي سنة تسع وستين وثلاثماية. مولده سنة ثمان عشرة. رحمه الله تعالى. عتاب بن هارون بن عتاب بن بشر بن عبد الرحيم بن بشر ابن الحارث بن سهل بن الوقاع بن قطنة الغافقي أبو أيوب. شذوني روى عن أبيه وغيره. وقد تقدم ذكر أبيه وجده. ورحل الى المشرق، فسمع بمكة من أبي بكر الأنماطي، والجمحي، وأبي محمد الطوسي، والخزاعي. وبمصر من ابن الحداد التنسي، وغيره. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً لمذهب مالك وأصحابه حسن الباطن. يقال إنه مجاب الدعوة. سمعت أبا محمد الثغري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 يقول: لست أعلم بالأندلس أفضل منه. سمع منه ابن الفرضي. وتوفي سنة إحدى وثمانين. مولده: سنة إحدى عشرة وثلاثماية. ابراهيم بن مَيسر شذوني أبو إسحاق. سمع أحمد بن عبادة الرعيني، وغيره. وكان فقيهاً. توفي رحمه الله في نحو الستين وثلاثماية. سعيد بن يوسف بن كليب الخولاني أبو عثمان. شذوني. يعرف بابن البيضاء. سمع من وهب وغيره. مفتياً بموضعه. مقدماً للشورى فيه. توفي آخر سنة خمس وستين وثلاثماية. سعيد بن أحمد بن رمح الخولاني شذوني. أبو عثمان. كان مفتياً بموضعه، مقدماً للشورى. وتوفي رحمه الله، بعد خمسين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 حمدون بن سعدون بن بطال التجيبي شذوني. يكنّى بأبي مروان. سمع ابن وهب وغيره. وكان حافظاً للمسائل، مشاوراً بموضعه. توفي سنة أربع وستين وثلاثماية. سعيد بن مرشد شذوني أبو عثمان. سمع من وهب وابن حزم، وابن الخراز القروي. وشوّر ببلده، مع صاحبيه حمدون وابن كليب. توفي رحمه الله بمصر، منصرفاً م الحجّ، سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية. عثمان بن سعيد بن البشر بن غالب بن فيض اللخمي شذوني. أبو الأصبغ سمع من ابن الوليد، وابن لبابة، وابن خالد. وكان فقيهاً بموضعه. صاحب صلاة. شيخاً صالحاً. توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية. رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 علي بن عمر بن حفص بن عمرو بن نجيح بن سليمان ابن عيسى الخولاني الكبير أبو الحسن. كان فقيهاً حافظاً للمسائل، موثقاً، روى عن أبيه وسعيد بن فحلون، وعلي بن الحسين المري، ومسعود بن علي، وسمع منه ابن الفرضي، وغيره. قال ابن الفرضي: وكان لا بأس به، رحمه الله. وتوفي سنة أربع وثمانين. ومولده سنة تسع وثلاثماية. عبد الله بن عيسى بن أبي زمنين المري من أهل البيرة، وأصله من نفزة من العدوة، يكنّى بأبي محمد. سمع ببجانة من ابن فحلون، وعلي بن الحسن المري، وبقرطبة من ابن أيمن، والرعيني، وابن أبي دليم، وغيرهم. قال القاضي أبو الوليد الباجي: كان فقيهاً روى عنه ابنه محمد، وسيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى. والقاضي يونس بن مغيث، وغيرهم، رضي الله عنهم. توفي بقرطبة سنة تسع وخمسين وثلاثماية. وسنّه تسع وخمسون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 مطرف بن عيسى بن أيوب بن الليث بن مطرف الغساني الألبيري. سمع من شيوخ بلده، وشيوخ بجانة: محمد بن فطيس وفضل بن سلمة، وأحمد بن عمريل ومحمد بن أبي خالد، وغيرهم. وبقرطبة من محمد بن لبابة وأحمد بن خالد، قال ابن حارث: كان فقيه غرناطة وولاه الحكم قضاء كورة البيرة. قال ابن الفرضي: وكان متصرفاً في علم الإعراب، والغريب. ورواية الشعر والخبر، والتأليف للكتب. وألّف كتاباً في فقهاء البيرة، وكتاباً في شعرائها، وكتاباً في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم. ومات بقرطبة فحمل الى بلده فدفن فيه، سنة ست أو سنة سبع وخمسين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 سليمان بن حسين الحجازي يعرف بابن الطويل. قاضي مدينة الفرج. سمع ببلده من وهب بن مسرة. له رحلة سمع فيها من بكر القاضي، وابن أبي العرب، وأبي بكر ابن الأبيض، وسمع غيرهم. وولي قضاء مدينة الفرج، للحكم المستنصر. محمد بن عبد الملك الخولاني أبو عبد الله. يعرف بالنحوي. أصله من بلنسية. وسكن ببجانة. كان فقيهاً حافظاً متصرّفاً في المسائل، يناظر عليها. وله في المدونة اختصار مشهور. وكفّ بصره قبل وفاته بأعوام. توفي رحمه الله سنة أربع وستين. علي بن عبيد الله الباهلي بجاني. أبو الحسن. فقيه مذكور ببلده. توفي في آخر سنة خمس وستين وثلاثماية. رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 محمد بن عبد الله بن رشيد بجاني. أبو عبد الله. وكان فقيهاً حافظاً للمسائل، وبوب العتبية للحكم أمير المؤمنين. وتوفي في نحو سنة ثلاث وستين وثلاثماية. سلمة بن الفضل بن سلمة الجهني بجاني. أبو الفضل. أخذ عن أبيه. وكان مذكوراً في أهل العلم، معدوداً فيهم. وحدث وتوفي بقرطبة، سنة تسع وعشرين فيما وجدت في بعض التواريخ. وسنّه ثلاثون. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 عمر بن محمد بن ابراهيم رحمه الله المعروف بابن الوفي، بجاني. وليَ قضاء بلده، ثم قضاء تدمير. قال ابن مفرج: كان من أهل العلم والرواية، ولقي الأبهري وتفقه عنده. وروى كتاب الأشراف لابن المنذر، عن مؤلفه. وسكن البصرة عشرين سنة. وتولى للحكم ابتياع الكتب والذخائر هناك. فيقال إنه جرت على يده من النفقات هناك، من هذه الوجوه، مقدار ماية ألف وعشرين ألف دينار. وتوفي وهو قاضي بلده، سنة ثمانين، وهو ابن سبعين سنة. روى عنه أبو الوليد بن سعد، وعيسى بن علاء، والقاضي يونس، وأبو عبد الله بن باب، وغيرهم. رضي الله عنهم. أحمد بن موسى بن أحمد بن يوسف بن موسى ابن محمد بن حصيب يعرف بابن الإمام، من أهل تطيلة، وبيتهم بها مشهور من الجلالة والعلم، والتقدم. كنيته أبو بكر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 قال ابن الفرضي: كان عالماً نبيهاً. سمع من عمه عمر بن يوسف، ومحمد بن شبل، وولي قضاء بلده. مولده: سنة سبع وعشرين وثلاثماية. وتوفي في صدر شعبان سنة ست وثمانين وثلاثماية. أخوه عيسى أبو الأصبغ سمع من عمه، وابن شبل. وبقرطبة من أبي عيسى، وطبقته. وسمع بالقيروان من أبي القاسم الصقلي، وغيره. ووليَ قضاء موضعه. وكان خيراً فاضلاً. وتوفي سنة ست وثمانين. وهو ابن سبع وخمسين سنة. رحمه الله. عبد الله بن محمد بن أزهر بن حريز بن قيس ابن أيوب بن جبير مولى معاوية بن هشام. استجي. أبو محمد. قال ابن الفرضي: كان صدراً فيمن يستفتى في موضعه. أديباً شاعراً بليغاً عظيم الرئاسة. سرياً كريم النفس، مداخلاً للسلاطين. متصرفاً في أمور الناس. توفي ببلده سنة تسع وسبعين رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 أحمد بن يوسف بن إسحاق بن ابراهيم أبو القاسم. استجي. كان متصرفاً في الفتيا والشروط. حافظاً للخبر، والمثل. يقرض الشعر. توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. محمد بن عبد الله بن قاسم استجي. أبو عبد الله. سمع من ابن لبابة، وابن خالد، وابن أيمن، ومحمد بن قاسم، وقاسم بن أصبغ، وعمران بن يوسف، وعمروس وابراهيم بن داود وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل، عالماً بعقد الوثائق، بصيراً بالنحو، ورعاً في الفتيا. حدث عنه اسماعيل بن الطحان. وأثنى عليه. رضي الله عنهم. عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم بن خلف الثغري ويقال القلعي. أبو محمد. من أهل قلعة أيوب، من ثغر شرق الأندلس. ويعرف بالبطرنولي. وكان ولده بها الى اليوم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 ذوي ظهور ورئاسة. الى أن تغلب عليها العدو، فيما تغلب عليه من تلك الثغور، سنة أربع عشرة وخمسماية. سمع بالثغور من ابن شبل، وابن عباس، ووهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، وأحمد بن خالد التاجر، والأنطاكي. ورحل فدخل العراق، فسمع بها وبالبصرة: من أبي إسحاق المالكي، والدينوري، ونظائهما. وببغداد أبا بكر الأبهري، وأبا علي الصواف، وابن مالك، وأبا بكر الشافعي، وابن مقسم، وغيرهم. وفي الكوفة، من ابن دحيم، وبالشام، من أبي العقب، وبمصر من ابن الورد، وابن رشيق، وأحمد بن الحسن الرازي، وابن أبي طنة، وجماعة. وبإفريقية من ابن اللباد، وانصرف الي الأندلس، فلزم العبادة والجهاد، ووليَ قضاء بلده. ثم استعفى، فعوفي. قال ابن الفرضي: وكان فقيهاً فاضلاً، ديّناً ورعاً صليباً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم. ما كنا نشبهه إلا بسفيان الثوري في زمانه. وأنكر على بعض أصحاب السلطان في ناحية شيئاً، فسعي به وعهد بإسكانه قرطبة، فقدمها، فحدث بها، وسمع منه خلق كثير: ابن عون الله - وسمع هو منه - ومحمد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 أحمد بن يحيى القاضي، وعباس الحجري. وابن الطحان، وعبد الله بن اسماعيل، وأبو عمر الطلمنكي، وابن الفرضي، وابن الشقاق، الى أن سرح الى بلده. قال ابن الفرضي: وكان ثقة مأموناً، وإليه كانت الرحلة من جميع نواحي الثغر، ونفع الله به عالماً كثيراً. قال ابن الحذّاء: وكان رجلاً صالحاً فاضلاً زاهداً منقطع القرين. وكان بطلاً شجاعاً. قال ابن الفرضي: بلغني أنه كان يقف وحده للفئة. قال ابن الحذّاء: يذكر عنه أهل جهته في هذا الباب، مقامات مشهورة، منها: أن العدو قصد بلدهم في نحو ثلاثة آلاف فارس، وكان قائد القلعة شجاعاً أيضاً. فاجتمعا فقال أبو محمد: معنا خمسماية فارس، وأنت تعدّ بخمسماية فارس، وأنا بخمسماية فارس، فقد وجب علينا لقاؤهم بنص الكتاب. فأطاعه الناس وبدروا إليهم، فظهروا عليهم وانهزم العدو، وتحكموا فيهم قتلاً وغنيمة. فحسن ظن الشيخ رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 وتوفي ببلده، سنة ثلاث وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وترك حملاً جاء بعده، وتسمى باسمه. فكان صالحاً حسن السيرة كريماً ورعاً، لم يكن له كثير علم، وليَ قضاء بلده، نحو أربعين عاماً. توفي وترك ولداً، وليَ أيضاً أحكام بلده، ولم تزل رئاسة بلدهم فيهم من القضاء والتقدم، الى وقتنا هذا. الى أن تغلب العدو عليها. وأبو محمد بن قاسم بن حزم أبو عبد الله، من أهل العلم، له رحلة لقي فيها بالقيروان ابن زياد، وابن اللباد، حدث عنه ابنه، وتوفي سنة أربع وأربعين وثلاثماية. رحمه الله. عبد الرحمن بن عيسى بن محمد يعرف بابن مدارج. أبو المطرف. أخذ ببلده طليطلة، عن عبد الله بن سعيد، وبقرطبة عن أحمد بن خالد، وابن أيمن، وقاسم بن أصبغ، وعثمان بن عبد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 الله. وناظر عندهم في التفقه، وأكثر من الرواية. ورحل الى المشرق فلقي حماداً، وكان مَن جمع الحديث والرأي، وحفظ وأتقن. وكان من أهل العلم والعمل به. ورعاً عالماً بمذهب مالك. حافظاً له، راسخاً في علمه، فقيه الصدر ذكياً يتكلم في كل علم ويغلب عليه الفقه. متحريّاً في روايته، شديداً على أهل الأهواء، كثير التهجد والتلاوة. وكان يتفقه عنده، وسمع منه. وله أوضاع كثيرة في غير ما فن من فنون العلم وكان فيه تلطف. مات بعض أصحابه، وترك ولداً. فأخبر عنه بسلوكه غير القوام فأمر أن يؤتى به إليه، يشاهد عنده المجلس، وحان وقت الصلاة فقدمه، فلما فرغ وخلا به، وعظه وقال له: أنظر، لا تجعل الناس يقولون أنظر من قدم عبد الرحمن يصلي به. وكان له مجلس يعظ الناس فيه، وكان يرحل إليه للرواية والتفقه. عظيم القدر، ونافذ الأمر، يذكر عنه استجابة الدعوة. وكان يأكل من عشائه المساكين، كل ليلة. حتى كان أهله يقولون له: ليس ثم مرق ما يعم كل من جاء. فيقول: ألم يكن معك الماء؟ فكثري من المرق، ليعم من جاء. وكان لا يجيب في نازلة، حتى تقع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 وحكى أنه لقي رجلاً وقع بينه وبين زوجته شيء لزمه فيه ثلاث تطليقات. وأفتى جميع الفقهاء بطليطلة، واحدة. فجاءت زوجة الحالف لزوج ابن مدارج بحلي من حليها. وذكرت لها من قصتها، وأن زوجها تورّع وحلف أن لا يأخذ إلا بفتوى ابن مدارج، فلما دخل ابن مدارج على زوجته، أرته الحلي وذكرت له القصة. فلم يراجعها وأرسل في الحين الى دلال العقار، وأمر ببيع حظٍ له في رحى، وقبض ماله، وابتاع حلياً مثل ما سيق الى زوجته، ثم أتاها وقال لها: أيهما أفضل؟ فأشارت الى الذي جابه. فقال: هو لك، واصرفي حلي المرأة إليها. وقال بعضهم: النظر الى عبد الرحمن بن عيسى، قربة الى الله عز وجلّ. ودخل على الحكم في وفد أهل طليطلة، وكان أصغرهم. فقال الحكم: ما معنى قول الله عز وجل، يا معشر العلماء: " إن أحسنتُم أسحنتم لأنفسكم، وإن أسأتُم فلَها ". رب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 رحيم يغفر الذنوب ولا يأخذ بها. استحسنه الحكم، وسأل عنه، فأمر بعد هذا باستجلابه لقرطبة، فاستعفى من ذلك، رضي الله عنه. وتوفي رحمه الله تعالى، في جمادى الآخرة، من سنة ثلاث وستين وثلاثماية. رضي الله عنهم جميعهم. عبد الله بن عبد الوارث بن متبتل طليطلي. أبو الفرج. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً، استخلفه ابن الجزّار أيام قضائه، بطليطلة. توفي في رمضان سنة ثلاث وسبعين. قال ابن مظاهر: كان مشهوراً بالعلم والفضل، مستوفياً في الأحكام، من أهل الفقه والورع في جميع أموره. أخذ عن أبي ابراهيم، ووهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، ومحمد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 عيشون، ومحمد بن وسيم، وابن جزار القروي، واسماعيل بن بدر. وكان اسمه متبتلاً. فسماه أبو ابراهيم: عبد الله. رحمه الله. عبد الرحمن بن تمام بن مكحول أبو المطرف. طليطلي. له رحلة سمع فيها بمكة من الجمحي، والخزاعي، وبمصر من أبي الحسن النيسابوري، وأبي علي ابن شعبان، وابن أشبه، وابن رعد، وغلب عليه حفظ الفقه. وكان فقيهاً حافظاً. قال ابن الفرضي: وكان ينسب الى قلة ورع. وحدّث. توفي في صدر سنة تسع وسبعين وثلاثماية. مولد، رحمه الله: سنة خمس عشرة، وقيل: سنة تسع وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 أبو غالب تمام بن عبد الله بن تمام بن غالب المعافري طليطلي من أهل العناية بالعلم، والرواية الواسعة، والفتيا، والتقدم والديانة والعقل. قال ابن مظاهر: كان على طريقة المتقدمين في صحة المذهب، وسلامة الظاهر، قال ابن الفرضي: سمع وهب بن عيسى ووهب بن مسرة، ورحل فسمع من ابن الأعرابي، وابن فراس، وسمع بالشام وبالقيروان من أبي عبد الله بن مسرور الغسال، وغيره. كتبت عنه بقرطبة وجماعة من أصحابنا. قال ابن مظاهر: وسمع من محمد بن عيشون، ووسيم بن سعدون، وسمع في رحلته من جماعة ذكرهم، منهم: أبو علي ابن السكن، وابن رشيق، وأبو الحسن ابن الكوفي، وحبيب ابن الربيع، ومحمد بن نافع الخزاعي، وأبو العباس ابن أبي العرب، وجلب كتباً كثيرة. وكان حسن الضبط متحرياً. روى عنه ابن أبي زمنين، وغيره، بقرطبة. وكان الحكم قد جلبه الى قرطبة، فقامت له بها سوق. وكان متواضعاً يعود المرضى، ويتعاهدهم بالطعام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثماية في جمادى الآخرة. مولده رضي الله عنه سنة خمس وثلاثماية. رحمهم الله أجمعين. عبد الله بن فتح بن فرج بن معروف ابن أبي معروف التجيبي أبو محمد. طليطلي. قال ابن الفرضي، سمع وهب بن مسرة، ووهب بن عيسى، ورحل فسمع بالمضرق من جماعة، منهم: ابن الورد والسكري، وابن أبي الموت. قال غيره: وسمع بالأندلس أيضاً من أبي بكر بن وسيم، وبالمشرق من القاضي الحصين، وابن بهزاد، وأبي الطاهر المدني. كان ممن يحفظ الرأي، مفتياً بموضعه. ومن أهل الخير والطهارة والثقة، والأحوال المحمودة والتقدم ببلده. وجلس بعد ابن مدارج بمجلسه، فلما تحلق إليه الناس مرّ به بعض المجانين فسأل عنه: فقيل: مات فلان، وهذا فلان صار مكانه. فقال خير شيء، من لا شيء. واستظرف قوله، وصار مثلاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 توفي منتصف شعبان، سنة ست وسبعين وثلاثماية بطليطلة. ومولده سنة اثنتين وثلاثماية. رحمه الله. عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة ابن محمد بن سماعة اللخمي المعروف بالباجي. أبو محمد. كذا ضبط اسم جده: شريعة على وزن مدينة بالشين المثلثة، المفتوحة والراء المكسورة. وجدت بخط أبي عبد الله بن عتاب، أن صوابه، سريعة بسين مهملة وراء مفتوحة على وزن هبيرة والمشهور الأول. وكذا يكتبه لآله، وأهل بيته، ويعرفونه. ولكن ابن عتاب لا يحكي إلا ما سمع. وهو من أشرف أهل بلده من لخم ذؤابة، وشهرة في العلم. أنجب ولده فرأسوا بلدهم في العلم، والقضاء، الى زمننا هذا. سمع أبو محمد هذا من ابن القون، وحسن الزبيدي، وسيّد أبيه الزاهد، وابن أبي شيبة، وسمع بقرطبة ابن لبابة، وأسلم القاضي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 وابن أبي تمام، وابن خالد، وعثمان بن عبد الرحمن، وابن مسرور، ومحمد بن قاسم، وابن الأغبس، وابن أيمن، وابن أبي عبد الأعلى، وقاسم بن أصبغ، وعبد الله بن يونس وغيرهم. وسمع بالبيرة، من محمد بن فطيس كثيراً. ومن عثمان ابن حربي، قال ابن الفرضي: وكان ضابطاً لروايته، صدوقاً حافظاً للحديث، بصيراً بمعانيه، لم ألق فيمن لقيت، من شيوخ الأندلس، بعد ابن حبيب، مثل أبي محمد الباجي. قال ابن الفرضي: أبو الوليد الباجي، ثقة مشهور، راوية الأندلس. واستقدم الى قرطبة، فأقام بها يحدث. ثم انصرف الى موضعه. روى عنه الناس كثيراً، ممن سمع منه ابنه، أبو عمر، وحفيده القاضي محمد، واسماعيل بن إسحاق، وأبي بكر بن وهب وابن الفرضي، وابن الخزار الإشبيلي، والزبيدي النحوي، والأصيلي، فيمن بعدهم. ومن أهل بلدنا: أبو إسحاق ابن يربوع وأبو محمد بن غالب، في جماعة لا يحصون كثرة. وإليه كانت الرحلة في وقته بإشبيلية. وحدث نحواً من خمسين سنة وغلبت عليه الرواية والحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 قال ابن مفرج: كان الباجي من أهل الرواية العالية، والبصر بالحديث، والمعرفة بالفقه، من الراسخين فيه والحافظين له، من أهل النصائح في الدين، والتواضع في الدنيا. ولا يصحب السلطان. وليَ مرة قضاء بلده، وشوراه وألحّ في الاستعفاء حتى عوفي، من القضاء. وبلغ عدد ما رواه من الدواوين مايتين وثمانين ديواناً. وأوصله ابن أبي عامر الى نفسه، وسلم عليه. وكانت فيه صحة. وقد عارضه فقال لابن أبي عامر: لي والد كان والدك، رحمه الله - وأثنى عليه خيراً - ووصفه بطلب. قال: وكان لي صديقاً، سمعت منه على الشيوخ، ولم يكن فضولياً، وأنت فلم تماثله. وأدخلت يدك في الدنيا، فانغمست في لجتها، وطلبت الفضول، وعلمت أخباراً كثيرة. وأوبقت بنفسك، والله يا مغرور، عزّ عليّ انتسابك. فاحتمل ابن أبي عامر قوله، لعلمه بسلامته. ثم قال له: يا حاجب: قال النبي صلى الله عليه وسلم، لبس على مسلم جزية. فأيش تقول أنت فيه؟ فقال ابن أبي عامر: وما عسى أن أقول في حديثه، صلى الله عليه وسلم، هو حق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 لا شيء فيه. فقال: وايش أنا عندك؟ فقال: مسلم حنيفي، بحمد الله، فقال له: فلم أغرم الجزية إذاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك بإسقاطها عني؟ فقال ابن أبي عامر: سمعاً وطاعة له. ولن تغرمها بعد. وصحكك له بجزية ضياعه. توفي رحمه الله، يوم سبع وعشرين من رمضان. وسنّه إحدى وتسعون سنة. محمد بن عبد الله بن أبي شيبة أبو القاسم، إشبيلي. سمع من عمه، علي. وكان من فقهاء بلده. وتوفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. محمد بن حسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي إشبيلي. تقدم ذكر أبيه. سكن قرطبة. وتوفي بإشبيلية. يكنى بأبي بكر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 سمع من قاسم بن أصبغ، وسعيد بن فحلون، وأحمد بن سعيد، وأبي علي البغدادي، وأكثر عنه، ولازمه. وكان متفنناً فقيهاً أديباً شاعراً. قال ابن عفيف: كان الزبيدي، مع أدبه من أهل الحفظ للفقه، والرواية للحديث. تفقه عند اللؤلؤي، وابن القوطية، وغلب عليه الأدب، وعلم لسان العرب. فنهض به. وصنّف فيه، واستأدبه الخليفة، الحكم، لابنه هشام. وولاه قضاء إشبيلية، وقلده هشام الشرطة. قال ابن الفرضي: كان واحد عصره في علم النحو، وحفظ اللغة. قال ابن حيان في هذا الباب: لم يكن له نظير في الأندلس، مع افتنان في علوم كثيرة، من فقه وحديث، وفضل واستقامة. قال القاضي أبو عمر ابن الحذّاء: لم ترَ عيني مثله في علمه، وأدبه. قال ابن عفيف: وكان ابن زرب يقدمه ويعظمه، ويزوره. قال غيره: وكان ابن أبي عامر يثق به في لقائه الخليفة هشام. حدث عنه ابنه القاضي أبو مسلم من أهل بلدنا، وأبو عمر ابن الحذّاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 وألف كتاب الواضح في النحو. وكتاب الأبنية. وكتاب لحن العامة. وكتاب مختصر العين، وزيادة كتاب العين. وكتاب غلط صاحب العين، وغير ذلك من تأليفه. وله كتاب في الردّ على محمد بن مسرة. رحمه الله. ملح من أخباره ذكر ابن عفيف، أن ابن زرب القاضي، وقف يوماً بالزبيدي، فلما علم به، خرج إليه مكشوف الرأس، بيده مدية. فلما كان في بيته، سارع لقضاء حقه - كما جاءه الى محله - فوقف قائماً وقضى حقه. فأنكر ابن زرب خروجه على تلك الهيئة وقيامه. وسأله الجلوس. فأبى وأنشد: أقوم وما بي أن أقوم مذلة ... عليّ وإني للكرام مبجل على أن لي منها لغيري مجنة ... ولكنها بيني وبينك تجمل وأنشد ابن أبي وافد له في منجّم: يقول المنجم لي لا تسر فإ ... نك إن سرت لاقيت ضرا فإن كان يعلم أني أسير ... فقد جاء بالنهي لغواً وهجرا وإن كان يجهل سيري فكيف ... يراني إذا سرت لاقيت شرا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 وأنشد له في كتاب ابن مفرج: أقابل بالرفق عنف العنيف ... وأقنع من صاحبي بالطفيف ويكرمني برّ غير الشريف ... فانسخ ذاك ببرّ الشريف وفاته رضي الله عنه توفي الزبيدي، رحمه الله بإشبيلية. وهو على قضائها في جمادى، سنة تسع وسبعين وثلاثماية. ووليَ بعد وفاته القضاء مكانه: ابنه أبو القاسم أحمد. وسلك مسلك أبيه في مداخلة الخليفة هشام، فاتهمه ابن أبي عامر، وسيره الى العدوة. فقتله اللصوص في بعض انتقالاته، وابنه الآخر: أبو الوليد محمد. روى عن أبيه، حدث عنه القاضي ابن وردون وغيره. يحيى بن شراحيل بلنسي. أبو زكريا. قال ابن الفرضي: كان حافظاً لمذهب مالك، عاقداً للشروط، ولم تُشهر له رواية. وكان موصوفاً بالعلم، معدوداً في أهله. وله كتاب في توجيه حديث الموطأ. توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 مفضل بن عياش بن سليمان بن أيوب الخولاني مولاهم، جياني. يعرف بابن الطويل. كان حافظاً للمذهب، صاحب شروط من أهل العفاف، والخير والثقة. سمع حميداً وأبا صالح، وغيرهما. وكن مفتياً. ولحقته مطالبة ببلده. فخرج الى الثغور، فرابط بها. الى أن مات، سنة ستين وثلاثماية. إدريس بن عبيد الله بن ادريس بن عبيد الله، بن يحيى بن عبد الله ابن خالد بن عبد الله بن الحسين بن جعد بن أسلم مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قرطبي. كنيته: أبو يحيى. سمع أباه، وغيره. وكان حافظاً فقيهاً مشاوراً، ولي أحكام الشرطة. وكان زاهداً، ورعاً متقشفاً، متواضعاً، لم تغيره الدنيا. توفي آخر سنة ثلاث وسبعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 عيسى بن العلاء أبو الأصبغ. تدميري، عني بالعلم، وسمع من ابن العابد، وغيره. ورحل الى المشرق، وكان موصوفاً بالفقه، مستفتى بموضعه، توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثماية. رحمه الله تعالى. محمد بن عيسى بن حسين بن أبي السعد ابن سيد الدارين يوسف التميمي أصله من تاهرت. وخرج جده الى فاس، ومولده سة ثمان وعشرين وأربعماية، فيما أخبر به، رحمه الله. كملت الطبقة، بحمد الله تعالى. طبقة سابعة بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وسلم. قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله عنه: ثم انتهى المذهب بعد هذه الطبقة الى أخرى تليها: من أهل الحجاز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 أبو القاسم سليمان بن علي بن سليمان الجبلي بجيم وباء واحدة، مفتوحتين، كذا قيده الأمير، وعبد الغني. قال الأمير: هو من جبلة الحجاز وكان مقيماً بمكة، رأس الثلاثماية. وكان فقيهاً مالكياً. حدث عن أبي بكر ابن عبد المؤمن، وأبي إسحاق الدينوري، روى عنه الناس. حدث عنه مكي. وأبو بكر بن عقال، وأبو القاسم ابن عيشون، وأحمد بن جمهور الرشياني، وغيرهم. قال مكي: سألته عن التزامه لمذهب مالك، رضي الله عنه، ما السبب فيه. فقال لي: أبو الفرج المالكي رحمه الله. كان نازلاً بمكة. ذكره القابسي. قال: وكان من أهل العلم، ورآني أرفع يدي، عند افتتاح الصلاة قائمتين وأحني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 أصابعي. قال: وكذلك كان يفعل أبو عمران الفاسي. من أهل العراق والمشرق وأكثرهم من أصحاب أبي بكر الأبهري، رحمه الله أبو بكر بن محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني. الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب المثبتة، وأهل الحديث، وطريقة أبي الحسن الأشعري خرّج له ابن أبي الفوارس. قال الخطيب أبو بكر في تاريخ البغداديين: درس على أبي بكر ابن مجاهد الأصول، وعلى أبي بكر الأبهري الفقه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 قال أبو بكر: وكان ثقة. حدثنا عنه السمناني، قال: وكان أبو الحسن بن جهضم الهمداني، وذكره في كتابه، فقال: كان شيخ وقته، وعالم عصره، الرجوع إليه فيما أشكل على غيره. قال غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته. وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة. وكان ينزل الكرخ. ذكر أبو عبد الله بن سعدون الفقيه، أن سائر الفرق رضيت بالقاضي أبي بكر في الحكم بين المتناظرين. قال ابن عمار الميورقي: كان ابن الطيب مالكياً، فاضلاً متورعاً، ممن لم تحفظ له قط زلة. ولا نسبت إليه نقيصة. وكان يلقب بشيخ السنة. ولسان الأمة، وكان فارس هذا العلم مباركاً على هذه الأمة. قال: وكان حصناً من حصون المسلمين، وما سرّ أهل البدع بشيء كسرورهم بموته. وليَ القضاء بالثغر. وذكره أبو عمران الفاسي فقال: سيف أهل السنة في زمانه، وإمام متكلمي أهل الحق في وقتنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 قال القاضي أبو الوليد: كان أبو بكر مالكياً، وحدث عن أبي ذر الهروي. قال: كان سبب أخذي عن القاضي أبي بكر، ومعرفتي بقدره، أني كنت مرة ماشياً ببغداد، مع أبي الحسن الدارقطني، إذ لقيت شاباً فأقبل الشيخ أبو الحسن عليه، وعظمه، ودعا له. فقلت للشيخ: من هذا الذي تصنع به هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، نصر السنّة، وقمع المعتزلة. وأثنى علي. قال أبو ذر: فاختلفت إليه، وأخذت عنه من يومئذ. وأخذ عنه جماعة لا تعد، ودرسوا عليه أصول الفقه والدين. وخرج منهم من الأئمة أبو محمد عبد الوهاب بن نصر المالكي، وعلي بن محمد الحربي، وأبو جعفر السماني، وأبو عبد الله الأدري وأبو الطاهر الواعظ، رحمهم الله. ومن أهل المغرب: أبو عمر بن سعد، وأبو عمران الفاسي. رحل إليه، وأخذ عنه. قال أبو عمران: رحلت الى بغداد وكنت قد تفقهت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 بالمغرب، والأندلس عند أبي الحسن القابسي، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر ورأيت كلامه في الأصول والفقه، والمؤالف والمخالف، حقرت نفسي وقلت: لا أعلم من العلم شيئاً. ورجعت عنده كالمبتدئ. وتفقه عنده القاضي أبو محمد بن نصر، وعلق عنه، وحكى في كتبه ما شاهد من مناظرته في الفقه بين يدي ولي العهد ببغداد، للمتخالفين. قال أبو بكر الخطيب: كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم فيه خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضهم بياناً، وأصحهم عبارة. وحكى أن أبا بكر الخوارزمي كان يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس، إلا القاضي أبا بكر فإن صدره يحوي علمه، وعلم الناس. وقال علي بن محمد الحربي: كان القاضي أبو بكر يهم بأن يختصر ما يصنعه، فلا يقدر لسعة علمه وحفظه. وما صنف أحد كلاماً إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين، غير أبي بكر فإن جميع ما يذكر من حفظه. وكان أبو محمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 الشافعي يقول: لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس، لوجب أن يدفع الى أبي بكر الأشعري. وكان بعضهم يقول: جاء في الأثر أن الله تعالى، كان يتعاهد عباده بأنبيائه ورسله، فلما ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، تعاهد أمته في رأس كل مائة عام برباني من علمائها، يحيي لها دينها، ويجدد شريعتها، فكان إمام رأس أربعماية: أبو بكر بن الطيب رحمه الله تعالى. ذكر فضله وسيرته ووفاته قال أبو عبد الله الصيرفي: كان صلاح القاضي أكثر من علمه، وما نفع الله هذه الأمة بكتبه، وبثها فيهم، إلا بحسن نيته واحتسابه بذلك. قال: وكان يدر نهاره، وأكثر ليله. وذكر من فضله كثيراً. وحكى أبو بكر الخطيب: كان ورد القاضي كل ليلة عشرين ترويحة، ما ترك ذلك في حضر ولا سفر، وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده، وضع الدواة بين يديه، وكتب خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان يذكر أن الكتابة بالمداد، أسهل عليه من الكتابة بالحبر. فإذا صلى الفجر، دفع الى بعض أصحابه ما صنفه ي ليلته، وأمره بقراءته عليه. وأملى عليه الزيادات فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 قال القاضي أبو عبيد الله البيضاوي: رأيت في المنام: كأني دخلت مسجدي الذي أدرس فيه، فرأيت رجلاً جالساً في المحراب، وآخر يقرأ عليه. فقيل لي أما الجالس في المحراب، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأما القارئ: فأبو بكر الأشعري، يدرس عليه الشريعة. قال الميورقي: حسبت تواليف القاضي، وإملاءاته، فسمت على أيام عمره، من مولده الى موته. فوجد أنه يقع لكل يوم منه عشرون. قلت: أو نحوها. وتوفي القاضي أبو بكر يوم الست، لتسع بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وأربعماية، فيما حكاه الخطيب، ووجدت عن غيره: سنة أربع. أيام بهاء الدولة، والخليفة القادر بالله. وهذا خطأ. والأول هو الصحيح. وقد أثبت أبو عمران الفاسي سماعه منه إملاء، في رمضان من سنة اثنتين. قال: وصلى عليه ابنه الحسن. قال غيره: وكان الحسن مرجواً فاخترمته المنية، بعد أبيه. قال الخطيب: ودفن القاضي أبو بكر في داره، ثم نقل الى مقبرة باب حرب. وأنشد بعضهم يرثيه: أنظر الى جبل تمشي الرجال به ... وانظر الى القبر ما يحوي من الصلف وانظر الى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر الى درة الإسلام في الصدف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 قال: وحدثني أبو الفضل، عبد الله بن علي المقرئ: سرت أنا وأبو علي بن شاذان، وأبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، الى قبر القاضي أبي بكر بعد موته بشهر، لنترحّم عليه. فرفعت مصحفاً كان على القبر وقلت: اللهم بيّن لي في هذا المصحف حال أبي بكر وما صار إليه. ثم فتحت المصحف، فإذا فيه: " يا قومِ أرأيتم إن كُنتُ على بيّنةٍ من ربّي وأتاني رحمةً من عنده " الآية. ما اشتهر من مناظرته مع الفرق وأخباره في ذلك قال الخطيب: حُدّثنا أن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها، حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له. إذ أقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم الى أصحابه، فقال لهم: جاءكم الشيطان. فسمع القاضي الكلام، وكان في بعد من القوم، فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم: قال الله عز وجلّ: " إنّا أرسلنا الشّياطين على الكافرين تؤزّهُم أزّاً ". وحكى غيره أن الحكاية جرت له مع أهل مجلس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 فناخسرو الملك، من شيوخ المعتزلة، وأنه كان داخلاً، إذ سمعهم يذكرون أمره، فقال لهم بعضهم ما هو إلا شيطان. فوصل إليهم وهو يتلو الآية. وسمعت بعض الشيوخ يحكي، أن ابن المعلم تكلم معه يوماً، فلما احتدّ الكلام بينهما رماه ابن المعلم بكفّ باقلاء أعده له - يعرّض له بما ينسب إليه ليخجله بذلك ويحصره - فرد القاضي للحين يده الى محمد ورماه بدرّة أعدّها له. فعجب من فطنته، وإعداده للأمور أشباهها، قبل وفاته. مناظرته المشهورة في مجلس عضد الدولة قال أبو عبد الله الأزدي، وغيره: كان الملك عضد الدول فناخسرو بن بويه الديلمي، يحب العلم والعلماء. وكان مجلسه يحتوي منهم على عدد عظيم في كل فن، وأكثرهم الفقهاء والمتكلمون. وكان يعقد لهم للمناظرة مجالس. وكان قاضي قضاته بشر بن الحسين، معتزلياً. فقال له عضد الدولة، يوماً: هذا المجلس عامر بالعلماء إلا أني لا أرى فيه عاقداً من أهل الإثبات - يعني مذهبهم - والحديث يناظر فقال له قاضيه: إنما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعاً. ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر. وإنما أراد ذمّ القوم، ثم أقبل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 يمدح المعتزلة. فقال له عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصرٍ، فانتظر أي موضع فيه مناظر، يكتب فيه فيجلب. فلما عزم عليه. قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً، وشاباً، الشيخ يعرف بأبي الحسن الباهلي. - وفي رواية بأبي بكر بن مجاهد - والشاب يعرف بابن الباقلاني. فكتب الملك من حضرته يومئذ يشير الى عامل البصرة، ليبعثهما. وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله. فلما وصل الكتاب إليهما، قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة - لأن الديلم كانوا روافض - لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله، لنهضت. قال القاضي: فقلت له: هكذا قال ابن كلاب والمحاسبي، ومن في عصرهم، إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى سيق أحمد بن حنبل الى ظرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف. ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن، ونفي الرواية؟ وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 أما إذا شرح الله صدرك لهذا، فاخرج. فخرجت مع الرسول، نحو شيراز في البحر، فوصلت، فسألت عن صفة الدخول عليهم، فأخبرت أنه إذا كان يوم الجمعة، لم يحجب عنه كل صاحب طيلسان. لأن له فيه مناظرة، وفي رواية: فلما كان من الغد دخلت على الملك، وكان إذا صلى الظهر، وقعد العلماء، رفع الحجاب ودخل كل صاحب طيلسان. فدخلت والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سرير، وبين يديه غلمان بأيديهم السيوف المحلاة. وعن يمينه ويساره مراتب. وما عن يمينه خال لا يقعد هناك إلا وزير، أو ملك عظيم. فكرهت أن أقعد آخر الناس، للذلة. فمضيت وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القضاة، عن يساره، فنظر الملك لقاضي القضاة، نظراً منكراً. ولم يكن في المجلس من يعرفني إلا واحد، وقد فزعوا لفعلي. فقال الرجل للقاضي: هذا الرجل الذي طلبه الملك من البصرة. فأعلم الملك بذلك، والتفت إليّ وأومأ بعينه الى الحجاب، فطاروا عني. ثم أقبل فقال: هاتوا مسألة. وفي المجلس رئيس المعتزلة البغداديين الأحدب، وكان أفصح من عندهم، وأعلمهم. وعدد كثير من معتزلة البصرة، أقدمهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 أبو إسحاق النصيبيني. فقال الأحدب لبعض تلاميذه: سله، هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون؟ كان غرضه تقبيح صورتنا عن الملك. قال: فقلت إن أردتم بالتكليف، القول المجرد، فقد وجد ذلك إن شء الله تعالى، قال: " قُل كونوا حجارةً أو حديداً " الآية. ونحن لا نقدر أن نكون كذلك. وقال تعالى: " أنبِئوني بأسماءِ هؤلاء " الآيتان. فطالبهم بما لا يعلمون. وقال تعالى: " يومَ يُدعَون الى السّجود " الآية. فهذا كله أمر بما لا يقدر الخلق عليه. وإن أردتم بالتكليف، الذي نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض، وسؤالك فاسد، فلا تستحق جواباً، لأنك قلت تكليف، والتكليف اقتضاء فعل ما، فيه مشقة على المكلف. وما لا يطاق لا يفعل بمشقة، ولا بغير مشقة. فسكت السائل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 وأخذ في الكلام الأحدب فقال: أيها الرجل، سئلت عن كلام مفهوم، فطرحته في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب. وجوابه إذا سئلت أن تقول: نعم، أو لا. قال القاضي: فأحفظني كلامه، لما لم يوقرني، توقير الشيوخ. وقلت له: يا هذا، أنت عائم ورجلاك في الماء. إنما طرحت السؤال في الاحتمالات، وقد بينت لك الوجوه المحتملة. فإن كان معك في المسألة كلام، فهاته، وإلا تكلم في غيرها. فأعاد الكلام الأول. فقال الملك: هذا الشيخ، قد بيّن وجوه الاحتمال، وليس لك أن تعيب عليه، ولا أن تغالطه، وما جمعتكم إلا لفائدة، لا للمهاترة ولما لما لا يليق بالعلماء. ثم التفت الملك الى القاضي، وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق، على ضربين. أحدهما، لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده. كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة. وهذا سبيل الكافر، أنه لا يطيق الإيمان، لاشتغاله بالكفر، وهو ضده. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً. وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق. فقال عز وجلّ: " ولا تحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به ". لأن الله تعالى، له أن يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام الى غيره. وتكلم معه القاضي. ومال الملك الى قوله. ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني، عن مسألة الرؤية. فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة. وسئل ما حجته؟ فقال: كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي، فالتفت الملك الى القاضي أبي بكر، فقال القاضي أبو بكر: لا يرى بالعين. فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يرَ بالعين، فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين، وهو البصر، ولو كان الشيء يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلّم قولي. وجرى له في هذا المجلس كلام كثير، أعجب به الملك. ولم يزل يحلو له كلامه، ويزحف عن سريره، حتى نزل عنه. وحصل بين يديه. ثم أقبل الملك على قاضي القضاة، فقال له: ألم أقل لك مذهب طبق الأرض، لابد له من ناصر؟ قال القاضي: فلما انقضى المجلس، صحبني بعض الحجّاب الى منزل هيأ لي فيه، جميع ما نحتاج إليه، فسكنته. ولم يزل مع الملك الى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه، يعلمه مذهب أهل السنة. وألّف له التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك، أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنّة، بشيراز. وقرأوا عليه شرح اللمع، قال، وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قتلة أقتله، بجلوسه حيث جلس بغير أمري. وأما الآن، فقد علمت أنه أحق بمكاني مني. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي، قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر، وأخذي عنه، أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني، في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به. ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له، وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا، ما عجبت منه. فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، الذي نصر الله به أهل السنّة. وقمع به أهل البدعة. أو كما قال. الملك الى القاضي، وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق، على ضربين. أحدهما، لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده. كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة. وهذا سبيل الكافر، أنه لا يطيق الإيمان، لاشتغاله بالكفر، وهو ضده. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً. وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق. فقال عز وجلّ: " ولا تحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به ". لأن الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 تعالى، له أن يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام الى غيره. وتكلم معه القاضي. ومال الملك الى قوله. ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني، عن مسألة الرؤية. فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة. وسئل ما حجته؟ فقال: كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي، فالتفت الملك الى القاضي أبي بكر، فقال القاضي أبو بكر: لا يرى بالعين. فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يرَ بالعين، فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين، وهو البصر، ولو كان الشيء يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلّم قولي. وجرى له في هذا المجلس كلام كثير، أعجب به الملك. ولم يزل يحلو له كلامه، ويزحف عن سريره، حتى نزل عنه. وحصل بين يديه. ثم أقبل الملك على قاضي القضاة، فقال له: ألم أقل لك مذهب طبق الأرض، لابد له من ناصر؟ قال القاضي: فلما انقضى المجلس، صحبني بعض الحجّاب الى منزل هيأ لي فيه، جميع ما نحتاج إليه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 فسكنته. ولم يزل مع الملك الى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه، يعلمه مذهب أهل السنة. وألّف له التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك، أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنّة، بشيراز. وقرأوا عليه شرح اللمع، قال، وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قتلة أقتله، بجلوسه حيث جلس بغير أمري. وأما الآن، فقد علمت أنه أحق بمكاني مني. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي، قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر، وأخذي عنه، أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني، في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به. ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له، وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا، ما عجبت منه. فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر ابن الطيب، الذي نصر الله به أهل السنّة. وقمع به أهل البدعة. أو كما قال. مناظرته في مجلس ملك الروم وأخباره معه وجه عضد الدولة في بعض سفراته، الى ملك الروم الأعظم، القاضي أبا بكر ابن الطيب، واختصه بذلك، ليظهر رفعة الإسلام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 ويغض من النصرانية. فلما تهيأ للخروج، قال للقاضي، وزير عضد الدولة: الطالع خروجاً؟ فسأله القاضي أبو بكر. فلما فسر مراده، قال: لا أقول بهذا. لأن السعد والنحس كله، والشر والخير كله، بيد الله عز وجلّ. ليس للكواكب هاهنا مثقال ذرة من القدرة. وإنما وضعت كتب المنجمين ليتمعش بها الجاهلون، بين العامة. ولا حقيقة لها. فقال الوزير: احضروا لي ابن الصدفي، ليست المناظرة من شأني. ولا أنا قائم بها، وإنما أنا أحفظ علم النجوم، وأقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا. وأما تعليله، فهو من علم المنطق. فأحضر وأم بمكالمة القاضي، فقال له أبو سليمان: هذا القاضي يقول: إن الباري سبحانه، قادر على أن يركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة، فإذا وصلوا الى الجانب الآخر يكون الله قد زاد فيهم آخر فيكونون أحد عشر. ويكون الحادي عشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 من خلقه الله في ذلك الوقت. ولو قلت أنا لا يقدر على ذلك أو هذا محال، قطعوا لساني وقتلوني، وإن أحسنوا إليّ كتفوني، ورموني في الدجلة. وإذا كان الأمر كما ذكرت لم يكن لمناظرتي معه معنى. فالتفت الوزير الى القاضي وقال: ما تقول أيها القاضي؟ فقلت: ليس كلامنا هاهنا في قدرة الباري تعالى، والباري تعالى قادر على كل شيء. وإن جحده هذا الجاهل، وإنما كلامنا في تأثيرات هذه الكوامب، فانتقل الى ما ذكر لعجزه وقلة معرفته، وإلا فأي تعلق للكلام في قدرة الباري، عز وجلّ، في مسألتنا؟ وأنا وإن قلت إن القديم تعالى قادر على ذلم، ما أقول إنه يخرق العادة، وبفعل هذا. لأنه لا يجوز عندنا أن يخلق اليوم إنساناً من غير أبوين، فإذا كان كذلك فقد علم الوزير أن هذا فرار من الزحف. فقال هو كما ذكرت. فقال المنطيقي: المناظرات دربة وتجربة، وأنا لا أعرف مناظرات هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعتنا وعبارتنا، ولا تجمل المناظرة بين قم هذا حالهم. فقال له الوزير: قبلنا اعتذارك والحق أبلج. قال القاضي: ومال إليّ بوجهه، وقال: سر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 في دعة الله. فخرجت. فدخلنا بلاد الروم، حتى وصلت الى ملك الروم بالقسطنطينية، وأخبر الملك بقدومنا. فأرسل إلينا من تلقانا، وقال: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم، حتى تنزعوها. إلا أن تكون مناديل لطاف، وحتى تنزعوا أخفافكم. فقلت: لا أفعل، ولا أدخل، إلا بما أنا عليه من الزي، واللباس. فإن رضيتم، وإلا فخذوا الكتب تقرأونها، وأرسلوا بجوابها وأعود به. فأخبر بذلك المل، فقال: أريد معرفة سبب هذا وامتناعه عما مضى عليه رسمي مع الرسل. فسئل القاضي عن ذلك. فقال: أنا رجل من علماء المسلمين، وما تحبونه ما ذلّ وصغار، والله تعالى قد رفعنا بالإسلام وأعزّنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن من شأن الملوك، إذا بعثوا رسلهم الى ملك آخر، رفع أقدارهم، لا إذلالهم. سيما إذا كان الرسول من أهل العلم. ووضع قدره انهدام جانبه، عند الله تعالى، وعند المسلمين. فعرّف الترجمان الملك بذلك، فقال: دعوه يدخل ومن معه كما يشاؤون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 ندخل بها على سلطاننا الأكرم، الذي هو تحت يد أمير المؤمنين، وأدخل بها على سلطاننا الأكرم الذي أمرنا الله تعالى ورسوله، بطاعته. فما تنكرون عليّ هذا، وأنا رجل من علماء المسلمين؟ فإن دخلت بغير هيئتي ورجعت الى حكمك، أهنت العلم ونفسي، وذهب عند المسلمين جاهي. فقال للترجمان: قل له قد قبلنا عذرك، ورفعنا منزلتك، وليس محلك عندنا محل سائر الرسل، وإنما محلك عندنا محل الأبرار الأخيار، وقد أخبرنا صاحبكم في كتبه: إنك لسان المسلمين والمناظر عنهم، وأنا أشتهي أن أعرف ذلك وأسمعه منك، كما ذكروه عنك. قلت: إذا أذن الملك، فقال: أنزلوا حيث أعددت لكم، ويكون بعد هذا الاجتمال. قال القاضي: فنهضنا الى موضع أُعدّ لنا، وذكر أبو بكر البغدادي الحافظ: أن القاضي، لما وصل الى مدينة الطاغية، وعرّف به وبمحله من العلم، أفكر الطاغية في أمره، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه - كما جرى رسم الرعية أن يقبل الأرض بين يدي ملوكها - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 فرأى أن يضع سريره، وراء باب لطيف، لا يمكن أن يدخل أحد منه إلا راكعاً، ليدخل القاضي من ذلك الباب. فلما رآه القاضي، تفكّر وأدار رأسه، وحنى رأسه راكعاً، ودخل من الباب يمشي مستقبلاً الملك بدبره، حتى صار بين يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه الى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه. قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب الى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا. فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟ فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب. فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئاً مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني. وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، الى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب. قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا. يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه الى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه. قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب الى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا. فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟ فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب. فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئاً مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني. وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، الى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب. قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا. قال القاضي: ثم سألني الملك في مجلس ثانٍ، فقال: ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟ قلت روح الله، وكلمته، وعبده، ونبيه، ورسوله. كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون. وتلوت عليه النص. فقال: يا مسلم تقولون: المسيح عبد، فقلت: نعم، كذا نقول، وبه ندين. قال: ولا تقولون إنه ابن الله؟ قلت: معاذ الله، " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " الآيتان، إنكم لتقولون قولاً عظيماً. فإذا جعلتم المسيح ابن الله، فمن أبوه وأخوه وجده وعم وخاله. وعددت عليه الأقارب، فتحيّر وقال: يا مسلم، العبد يخلق، ويحيي ويميت ويبرئ الأكمه والأبرص؟ قلت: لا يقدر العبد على ذلك وإنما ذلك كله من فعل الله عز وجلّ. قال: وكيف يكون المسيح عبداً لله وخلقاً من خلقه، وقد أتى بهذه الآيات، وفعل ذلك كله؟ قلت: معاذ الله ما أحيى المسيح الموتى ولا أبرأ الأكمه والأبرص. فتحيّر وقلّ صبره، وقال: يا مسلم، تنكر هذا مع اشتهاره في الخلق، وأخذ الناس له بالقبول؟ فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة، إن الأنبياء عليهم السلام، يفعلون المعجزات من ذاتهم. وإنما هو شيء يفعله الله تعالى على أيديهم، تصديقاً لهم، يجري مجرى الشهادة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 فقال: قد حضر عندي جماعة من أولاد نبيّكم، وأهل دينكم المشهورين فيكم، وقالوا، إن ذلك في كتابكم. فقلت: أيها الملك، في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله، وتلوت عليه منصوص القرآن في المسيح: " بإذن الله " وقلت: إنما فعل ذلك كله بإذن الله وحده لا شريك له، لا من ذات المسيح. ولو كان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص من ذاته، لجاز أن يقال: موسى، فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته. وليست معجزات الأنبياء عليهم السلام من ذاتهم وأفعالهم، دون إرادة الخالق. فلما لم يجز هذا، لم يجز أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح إليه. فقال الملك: وسائر الأنبياء كلهم من آدم، الى من بعده كانوا يتضرّعون للمسيح، حتى يفعل ما يطلبون. قلت: أوَفي لسان اليهود عظم، لا يقدرون أن يقولوا إن المسيح كان يتضرّع الى موسى؟ وكل صاحب نبي يقول: إن المسيح كان يتضرع الى نبيه، فلا فرق بين الموضعين في الدعوى. قال القاضي رحمه الله: ثم تكلمنا في مجلس ثالث فقلت له: أتحد اللهوت بالناسوت؟ قال: أراد أن ينجي الناس من الهلاك. قلت له: درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا ولم يؤمن به اليهود؟ فإن قلت إنه لا يدري ما أراد اليهود به، بطل أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 يكون إلهاً. وإذا بطل أن يكون إلهاً، بطل أن يكون ابناً، وإن قلت قد درى ودخل في هذا الأمر على بصيرة، فليس بحكيم، لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء. فبهت. وكان آخر مجلس كان لي معه. وذكر ابن حيّان عمن حدثه أن الطاغية، وعد القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية ليوم سمّاه. فحضر أبو بكر وقد احتفل المجلس، وبولغ في زينته، فأدناه الملك وألطف سؤاله، وأجلسه على كرسيه، دون سريره بقليل. والملك في أبهته وخاصته، عليه التاج، والذرية ورجال مملكته، على مراتبهم. وجاء البطرك قيم ديانتهم، وقد أوعد الملك إليه في التيقظ، وقال له: إن فناخسرو ملك الفرس، الذي سمعت بدهائه وبكرامته، لا ينفذ إلا من يشبهه في رحلته وحيلته. فتحفظ منه. وأظهر دينك. فلعلك تتعلق منه بسقطة، أو تعثر منه على زلة تقضي بفضلنا عليه. فجاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 البطرك قيم الديانة، وولي النِّحلة. فسلم القاضي عليه أحفل سلام. وسأله أحفى سؤال، وقال له: كيف الأهل والولد؟ فعظم قوله هذا عليه، وعلى جميعهم وتغيروا له، وصلبوا على وجوههم، وأنكروا قول أبي بكر عليه، فقال: يا هؤلاء تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحبة والولد، وتربون به عن ذلك، ولا تستعظمونه لربكم، عزّ وجهه، فتضيفون ذلك إليه؟ سوءة لهذا الرأي ما أبين غلطه. فسقط في أيديهم، ولم يردوا جواباً. وتداخلتهم له هيبة عظيمة، وانكسروا، ثم قال الملك للبطرك: ما ترى في أمر هذا الشيطان. قال: تقضي حاجته، وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرج العراقي عن بلدك من يومك إن قدرت. وإلا لم آمن الفتنة منه على النصرانية. ففعل الملك ذلك وأحسن جواب عضد الدولة، وهداياه، وعجل تسريحه، ومعه عدة من أسارى المسلمين والمصاحف. ووكل بالقاضي من جنده من يحفظه، حتى وصل الى مأمنه. قال غيره: وكان سير القاضي الى ملك الروم، سنة نيف وثمانين وثلاثماية. ن وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 فهرست كتب القاضي أبي بكر ابن الطيب نقلتها من خط شيخي القاضي أبي علي الصدفي: كتاب الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة. كتاب الاستشهاد، كتاب إكفار الكفار المتأولين وحكم الدار. التعديل والتجريح، التمهيد، وشرح اللمع، الأمانة الكبيرة. الأمانة الصغيرة. شرح أدب الجدل. الأصول الكبير في الفقه. الأصول الصغير. مسائل الأصول. أمالي إجماع أهل المدينة. فضل الجهاد. المسائل. المجالسات المنثورة. كتاب على المتناسخين. كتاب الحدود على أبي طاهر محمد بن عبد الله بن القاسم. كتاب على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن. كتاب المقدمات في أصول الديانات، في أن الروم ليس بشيء. نصرة العباس وإمامة بنيه، في المعجزات أصل استجلبت. المسائل القسطنطينية. الهداية. وهو كتاب كبير. جواب أهل فلسطين. البغداديات. النيسابورات. الجُرجانيات. مسائل سأل عنها ابن عبد المؤمن. الأصبهانيات. التقريب والإرشال في أصول الفقه، كتاب كبير، المقنع في أصول الفقه. الانتصار للقرآن. دقائق الكلام. الكرامات. نقض الفنون للجاحظ. تصرف العباد، والفرق بين الخلق، والاكتساب. الأحكام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 والعلل. كتاب الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ومما لم أجد بخط الشيخ، مما وقفت عليه، كتاب البيان، عن فرائض الدين، وشرائع الإسلام. وصف ما يلزم من جرت عليه الأقلام، من معرفة الأحكام، مختصر التقريب والإرشاد الأصغر. وله الأوسط. ولم أره. وكتاب مناقب الأئمة. وكتاب التبصرة. وكتاب رسالة الحرة. وكتاب رسالة الأمير. وكتاب كشف الإسراء في الرد على الباطنية. وكتاب إعجاز القرآن. كتاب في إمامة بني العباس. القاضي أبو الحسن ابن القصار اسمه علي بن عمر بن أحمد. الإمام. بغدادي. قال أبو إسحاق الشيرازي: تفقه بالأبهري. وله كتاب في مسائل الخلاف. لا أعرف للمالكيين كتاباً في الخلاف أحسن منه. وكان أصولياً نظاراً. وولي بغداد. قال أبو ذر: هو أفقه من رأيت من المالكيين. وكان ثقة، قليل الحديث. يروي عن أبي الحسن علي بن المفضل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 السامري. وعليه تفقه ابن نصر. أخذ عنه ابن عمروس وأبو ذر الهروي. توفي، فيما قيل: سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. قال القاضي عبد الوهاب: تذاكرت مع أبي حامد الإسفراييني الشافعي، في أهل العلم. وجرى ذكر أبي الحسن ابن القصار، وكتابه في الحجة لمذهب مالك. فقال لي: ما ترك صاحبكم، لقائل ما يقول. أبو علي اسماعيل بن الحسن بن علي بن عتاس بتاء باثنتين من فوق، من فقهاء بغداد المالكيين. روى عنه أبو ذر، وذكره في معجمه. وقال لقيته ببغداد وقرأت عليه. وكان لا بأس به. وذكر أنه فقيه مالكي. وقال في موضع آخر: إنه درس على الأبهري، قبل ابن القصار. وحدث أبو علي، عن الحسين بن يحيى بن عيّاس، بياء باثنتين، من أسفل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 أبو سعيد الأبهري رحمه الله واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن يزيد بن عبد السلام. قال أبو ذر فيه: الفقيه المالكي، سمعت منه بأبهر وكان شيخاً صالحاً، لا بأس به. يروي عن أبي بكر عبد الله بن طاهر بن حاتم الطائي، الأبهري. رحمه الله. أبو جعفر الأبهري رحمه الله هو محمد بن عبد الله. ويعرف بالأبهري، الصغير. وبالوتلي، وابن الخصاص. تفقه بأبي بكر الأبهري. ورحل الى مصر، وتفقه عليه خلق كثير. قاله الشيرازي. وسمع من أبي زيد المروزي، ورأيت سماعه في أصل الأصيلي بخطه. روى عنه. وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، نحو مايتي جزء. وكتاب تعليق المختصر الكبير مثله. وكتاب في الرد على ابن علية، فيما أنكره على مالك. وتوفي في حياة أبي بكر الأبهري. رحمه الله. فوجدت في مختصر التعليق أن وفاته، سنة خمس وستين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 أبو جعفر محمد بن عبد المنعم بن عيسى بن محمد ابن عيسى بن أبي حماد الأسدي كان باهراً. قال أبو بكر بن عتيق السمنطاري في فهرسته: لقيته بأبهر، وكان مالكياً مشهوراً هناك بالعلم والحديث، ومكارم الأخلاق، وأنه روى كتب أبي بكر الأبهري عنه. وسمع من ابن لؤلؤ البغدادي، وأنه سمع منه، أبو القاسم الأناتي، والمالكي. روى عنه أبو ذر. أبو سعيد القزويني هو أحمد بن محمد بن زيد. تفقه بالأبهري. قال لي أبو بكر الصالحي: وقد ظن القاضي أبو الوليد، أن الصالحي غير الأبهري. فقال: الصالحي مجهول. وقال أيضاً في القزويني: مجهول. ولا جهالة بمثله. ولكنه أكبر من حاله عنده. إذ لم يكن عنده منه علم. فرب رجل معروف عند واحد. ومجهول، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 إنما توقع على من لم يعرف أحد من أهل الصنعة له حالاً. وأما أن يسمع واحد منهم برجل لم يسمع قبل به، ولا علم عنده منه، فلا ينبغي أن يطلق عليه حكمه عنده وحده، من الجهالة بأمره، إذ ذاك لا يؤثر حتى يبحث عليه. ويتعرف حاله، من أئمة أهل العلم بالباب، فإن لم يعرفوه فحينئذ. قال الشيرازي: وصنف في المذهب والخلاف. وكان زاهداً عالماً بالحديث. وقد سمع من أبي زيد المروزي. ورأيت أنا ذلك بخط الأصيلي في كتابه. وسمع أيضاً من أبي الحسن الدارقطني، وأبي الحسين الدقاق، العدل بالأهواز، وأبي مالك القطيعي، وجعفر بن عبد الله بن يعقوب بالري. وأبي يعقوب إسحاق بن الحسن بن سفيان، وعلي بن أحمد السكري المقري. وله كتاب المعتمد في الخلاف، نحو ماية جزء. وهو من أهذب كتب المالكية. وله كتاب الإلحاق في مسائل الخلاف. وتوفي في نيف وتسعين وثلاثماية. القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشمي واسمه أحمد بن محمد بن أبي موسى، عيسى بن أحمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 بن موسى، بن محمد بن ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب. سمع ابراهيم بن عبد الصمد الهاشمي. ومحمد بن حمدويه المروزي، وأحمد الادمي بن محمد بن اسماعيل، وأحمد بن علي الجرجاني، والقاضي المحاملي، والحسين يحيى بن العياش القطان وغيرهم. حدث عنه العتيقي، وعبيد الله بن عبد العزيز البرذعي، والقاضي التنوخي، ومحمد بن طلحة الكتاني وغيرهم. قال الخطيب أبو بكر: وكان ثقة مأموناً. كتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني. وكان مالكي المذهب. وتقلد قضاء المدائن وسر من رأى ونصيبين، وديار ربيعة وغيرها. وخطابة جامع المنصور. ولد سنة خمس عشرة وثلاثماية. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 أبو القاسم ابن الجلاب رحمه الله واسمه عبيد الله. ويقال، أبو الحسين بن الحسن. وقال أبو إسحاق الشيرازي: اسمه عبد الرحمن بن عبيد الله. والأول هو الصواب، إن شاء الله. بصري، تفقه بالأبهري. أخذ عنه القاضي أبو محمد بن نصر الطائفي. وابن أخيه المسدد بن أحمد. وله كتاب في مسائل الخلاف. وكتاب التفريع في المذهب مشهور. قال أبو القاسم الهمداني: كان من أحفظ أصحاب الأبهري، وأنبلهم. وتوفي فيما قيل قديماً. منصرفه من الحج، في صفر سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. رضي الله عنه. أبو تمام علي بن محمد بن أحمد البصري من أصحاب الأبهري، أيضاً. وكان جيد النظر، حسن الكلام حاذقاً بالأصول، وله كتاب مختصر في الخلاف، سماه نكت الأدلة. وكتاب آخر في الخلاف كبير. وكتاب في أصول الفقه. رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 أبو بكر بن خُويز منداد رحمه الله ويقال خوين منداد. إذ كذا كنّاه أبو إسحاق الشيرازي. وسماه محمد بن أحمد بن عبد الله. ورأيت على كتبه تكنيته، بأبي عبد الله. وفي نسبته: محمد بن أحمد بن علي بن إسحاق. وقال الشيرازي، أيضاً تفقه بالأبهري وسمح الحديث. يروي عن أبي داسة، وأبي الحسن التمار، وأبي الحسن المصيصي، وأبي إسحاق التجيبي، وأبي العباس الأصم. وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وفي أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك. وله اختيارات وتأويلات على المذهب في الفقه، والأصول، لم يرجع عليها حذاق المذهب. كقوله في بعض ما خالفه فيه من الأصول: إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار يوجب العلم. وفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 بعض مسائل الفقه حكايته عن المذهب: إن التيمم يرفع الحدث. وإنه لا يعتق على الرجل سوى الآباء والأبناء. ولم يكن بالجيد النظر، ولا بالقوي الفقه. وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي. قال: إني لم أسمع له في علماء العراق بذكر. وكان يجانب الكلام جملة، وينافر أهله، حتى تعدى ذلك الى منافرته المتكلمين من أهل السنّة. وحكم على الكل بأنهم من أهل الأهواء، الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وعيادتهم وجنائزهم ما قال. رحمه الله. الحسين بن علي من ساكني البصرة. أبو عبد الله من أصحاب الأبهري. ذكره أبو عمر المقري في طبقاته. وقال: انتحل مذهب مالك، وسمع من الأبهري، وأخذ القراءة عن أبي بكر الشداني، وفارس بن أحمد، وأبي القاسم الحافي. وكان شيخاً صالحاً ثقة. رحمه الله. توفي بمصر، في حدود الأربعماية. ومن في هذه الطبقة ممن ذكره، أبو ذر في شيوخه، وذكر أنه في المالكية. رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 أحمد بن إسحاق بن ابراهيم الصفار المقري البصري. يروي عن عبد الكريم بن الرواسي، وأبي يوسف الخلاّل. قال فيه أبو ذر: شيخ فقيه مأمون. أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن القاسم بن الصلت يعرف بالمجبّر. بجيم وباء بواحدة مشدودة مكسورة. بغدادي. قال أبو ذر: لا بأس به. سمع أبا بكر البهلول، واسماعيل الصفار، وابراهيم بن عبد الصمد الهاشمي. حدث عنه أبو ذر، وأبو عمران الفاسي، والقاضي أبو محمد بن نصر، وابراهيم بن عبد الصمد. رحمهم الله. ادريس بن علي بن إسحاق بن يعقوب أبو القاسم المؤدب. سمع أبا حامد الحضرمي، وأبا علي بن اسماعيل الوراق. بغدادي حدث عنه أبو ذر. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 أبو عبد الله الحفاظي سماه القاضي أبو الوليد الباجي، في أئمة الفقهاء المالكيين. ولم يزد على هذا، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في أئمة الشافعية. أبا عبد الله الحفاظي الطبري. من طبرستان. وقدم بغداد في أيام الشيخ أبي حامد الاسفراييني الشافعي. والله أعلم وأحكم. أبو الحسن بن أحمد بن سعيد أراه عراقياً. قال أبو الوليد الباجي: شيخ فقيه مالكي. روى عنه أبو الحسن العتيقي. يروي عن أحمد بن الحسين الجيار الصوفي. رحمه الله. أبو الحسين بن محمد بن علي المالكي يروي عن القاضي عبد الوهاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 السعدي، البغدادي. من بيت جلالة وتقدم وقضاء ببغداد. قرأت في معجم الرازي، أنه كان مالكي المذهب، ودرس ابنه القاضي أبو الفضل، محمد بن أحمد علي القاضي أبي حامد الاسفراييني فذهب الى مذهبه. وكان ابنه خليلاً، محدثاً. سمع ابن بطه، ونظراءه. ونزل مصر، فسمع بها وحدث. سمع منه شيخه عبد الغني بن سعيد الحافظ فيمن دونه. أحمد بن عيسى بن عبد الله بن عبد الوهاب السعدي البغدادي من بيت جلالة وتقدم وقضاء ببغداد، قرأت في معجم الرازي، أنه كان مالكي المذهب، ودرس أبو الفضل، محمد بن أحمد، على القاضي أبي حامد الاسفراييني، فذهب الى مذهبه، وكان ابنه جليلاً محدثاً، سمع ابن بطة، ونظراءه، ونزل مصر فسمع بها، وحدث، سمع منه شيخه عبد الغني بن سعد الحافظ، فمن دونه. الوليد أبو بكر بن مخلد النحوي أبو العباس. أصله أندلسي من سرقسطة، وسكن المشرق، وغلب عليه الحديث. ذكره أبو القاسم الطرابلسي فقال فيه: مالكي نحوي، دخل المشرق، وكان من أهل الحديث، وألّف كتاب الوجارة في صحة القول بالإجارة. روى عنه أبو ذر الهروي في كتابه هذا، وحمزة بن محمد بن طاهر، وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، وأبو الحسين بن الكناس، يروي عن علي بن زكريا الهاشمي. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 أبو عبد الله بن دُوسْت واسمه أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن دوست البزاز، البغدادي، حدث عن أبي جعفر المطيري، والحكيمي، وعمر بن الحسن الأشناني، واسماعيل بن محمد الصفار، وأبي الحسن المصري، وغيرهم. قال الخطيب: كتب عنه الأزهري، والحسن الخلاّل، وحمزة بن محمد الدقاق، وهبة الله الطبري، وعامة أصحابنا، وسمعت منه جزءاً واحداً، وكان مكثراً من الحديث عارفاً به حافظاً له، مكث مدة يملي في جامع المنصور بعد وفاة المخلِّص، ثم انقطع ولزم بيته، قال حمزة بن محمد: مكث ابن دوست سبع عشرة سنة يملي وكان إذا سئل عن شيء أملى من حفظه في معنى ما سئل عنه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 قال عيسى بن أحمد بن عمر الهمداني: وكان ابن دوست فهماً في الحديث عارفاً بالفقه على مذهب مالك، وكان عنده عن الصفار وحده ملء صندوق وكان يذاكر بحضرة الدارقطني ويتكلم في علم الحديث، وتكلم فيه الدارقطني لذلك، قال حمزة بن محمد، قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: لم تملي من حفظك، ولا تملي من كتابك؟ فقال لي: أنظر فيما أمليته فإن كان فيه خلل لم أمل من حفظي، وإن كان جميعه صواباً فما الحكمة في الكتاب أو كما قال، وحكى الخطيب أنه مكث سنة بعد موت ابن حبابة يملي من حفظه في حياة المخلّص، وابن شاهين، ثم تكلم فيه ابن أبي الفوارس، قال عيسى الهمداني كان ابن أبي الفوارس ينكر علينا مضيّنا له وسماعنا منه. ثم جاء بعد ذلك وسمع منه، قال الأزهري: هو ضعيف رأيت كتبه كلها طرية، وقال إن كتبه كلها عرفت فاستدرك نسخها. قال ابن البرقاني: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلموا فيه، وكان يكتب الأجزاء ويتربها لترى أنها عتق. توفي في رمضان سنة سبع وأربعماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 أبو الحسين بن فارس رحمه الله هو أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي الرازي، أحد رجال خراسان وعلمائها وأئمة أدبائها، غلب عليه علم الفقه ولسان العرب، فشهر به. وكان إماماً في ذلك، وقد حدث عنه، روى عن علي بن مهرويه، وأبي الحسن علي بن أبي ابراهيم الحداد، وروى عنه أبو ذر الهروي، والقاضي أبو زرعة روح بن محمد الرازي، وأبو العباس الغضبان، والقاضي أبو عبد الله الديباجي، وغيرهم، ومحمد بن الحسن النيسابوري، وذكر أبو ذر أنه كان مالكياً. قال ولم أحمد حاله. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي فقال: كان فقيهاً مالكياً، وحقق لي ذلك بعض من ذاكرته من شيوخنا المغاربة الراحلين. وحكى لي بعض من لقيته من أهل المشرق أنه شافعي المذهب، واحتج بشرحه لألفاظ مختصر المزني الذي سماه حلية الفقهاء، وله من التواليف غير كتاب: فقيه العرب، وكتاب مجمل اللغة المشهور المعترف بتفضيله على سائر المؤلفات في هذا الباب، وكتاب الاتباع والمزاوجة في جزء. وكان أديباً شاعراً مجيداً في ذلك، وقد ذكره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 أبو منصور الثعالبي في يتيمته في جملة شعراء أهل الجبل من كتابه. وحكى عنه أنه ألّف للصاحب ابن عباد كتاباً سماه كتاب المجد ووجهه إليه. فقال الصاحب: وذو المجد حيث جاء ثم قبله ووصلَه. وله رسالة مشهورة حسنة طويلة كتب بها الى بعض الكتّاب في شأن كتاب الحماسة ذكرها الثعالبي، ومما أنشد له الثعالبي قوله: يا ليت لي ألف دينار موجّهة ... وإن حظي منها فلس إفلاس قالوا فما لك منها؟ قلت: يخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس محمد بن عبد الله البصري من أصحاب الأبهري، وكان فقيراً متقنعاً منقبضاً متنسكاً، لم يكن له بيت، إنما كان يأوي الى المساجد، ويودع كتبه عند إخوانه، وكانت له كتب كثيرة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 وكان ما يقع له يبتاع به كتباً، وكان الناس يعرفونه بالشهرة بالعبادة وطلب العلم، وكان الأبهري يحبه ويجلّه، وتوفي بهمدان رحمه الله. من أهل الشام عبد الباقي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز دمشقي، يكنى أبا الحسن، من أصحاب الأبهري، سمع منه ببغداد وكتب عنه كتبه في شرح المذهب، وكان إماماً في علم القرآن، وغلب ذلك عليه، قال أبو عمرو الداني في طبقاته إن أصله خراساني، وولد بدمشق، قال: وكان خيراً فاضلاً ثقة مأموناً إماماً في القراءة، عالماً بالعربية بصيراً بالمعاني، أخذ عن جماعة من أهل العراق والحجاز والشام ومصر، وكان يقول قرأت كل قراءة في مصرها، قال وسمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول كان عبد الباقي يسمع معنا ببغداد على الأبهري. وكتب كتبه في المشرق، ثم قدم مصر فقامت له بها رئاسة عظيمة، وكنا لا نظنّه إذ كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 معنا بالعراق هناك، وكان سبب خروجه الى مصر شيء وقع بينه وبين شيوخ بلده دمشق، فتعصّب له قوم وعليه آخرون، وذلك في جامع دمشق حتى تطاول بعضهم الى بعض فخرج الى الاسكندرية، قال أبو عمرو توفي بعد سنة ثمانين وثلاثماية. أبو الحسن علي بن الحسين بن مندار الأنطاكي قاضي أذنه. وسكن مصر، يروي عن جماعة، يروي عنه أبو الحسن ابن أبي الكرام، وأبي حفص بن شعيب الألكيان. من أهل مصر أبو عبد الله بن الوشاء واسمه محمد بن أحمد بن محمد بن عبيد بن موسى. أخذ عن ابن شعبان والطبري، وابن أبي الحديد، سمع منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 أبو عمران الفاسي، وأبو محمد الشنجتالي، وأبو محمد بن غالب السبتي الفقيه، وكان عالماً بالحديث واسع الرواية فقيهاً، رحل إليه الناس وسمعوا منه، قال محمد بن سعدون في كتابه: وكان شديد المباينة لبني عبيد، وهو الذي حبس مع السباع فلم تضره ولا عدت عليه. توفي رحمه الله بمصر سنة سبع وتسعين وثلاثماية، وذكره أبو الحسن بن محمد الحباني الحافظ رحمه الله تعالى. الحسن بن عمر بن الحسين بن أبي إسحاق الغافقي حدث عنه أبو ذر بالاسكندرية، وذكره، فقال الفقيه المالكي، يعرف بأبي علي بن المصباح، وكان يفهم لا بأس به، حدث عنه عثمان بن محمد السمرقندي. رجاء بن عيسى بن محمد الأننصِناوي بثلاث نونات وصاد مهملة. ويقال الأنصاوني بالواو، وأنصنا قرية بمصر، أبو العباس المصري المالكي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 أخذ عن القاضي الذهلي، ومؤمل بن يحيى، وحمزة الحافظ، وأبي العباس الرازي، وأبي العباس ابن أبي تمام، وابن رشيق، وغيرهم، وحدث عن مؤمل بن يحيى المصري، عن حمديس، عن محمد بن عبد الحكم: أفضل ما جر المرء نفسه في أعمال البر، حدث عنه أبو ذر الحافظ قال وكان ثقة مأموناً، لقيته بالبصرة. قال الخطيب أبو بكر: وقدم بغداد فحدّث بها وسمع منه أبو عبد الله بن بكير وعبيد الله بن عثمان الصيرفي، والعتيقي، قال أبو عبد الله الصوري: وكان فقيهاً مالكياً مرضياً ثقة في الحديث متحرياً في الرواية مقبول الشهادة. مولده سنة عشر وثلاثماية، قال الحبال توفي سنة سبع وأربعماية، وقال الصوري: توفي بمصر ما بين سنة خمس وسنة عشرة وأربعماية. أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد بن ابراهيم الحضرمي فقيه مالكي، يروي عن أبيه، وعن أبي جعفر الأسواني، والحسن بن رشيق، والحسين بن عبد الله القرشي، وعبد الله بن محمد المفسر. روى عنه أبو محمد بن الوليد، وأبو اسحاق الخيال، رحمهم الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 أبو مطر علي بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن عبد الرحمن الغفاري المعافري الاسكندراني قاضيها، من بيت علم وقضاء وتقدم في مذهب مالك، قال أبو ذر وكان مالكياً شيخاً ثقة، قرأت عليه في منزله بالاسكندرية، حدث عن عبد الرحمن بن عمر بن عثمان العلاف، وقد تقدم ذكر بيته رحمه الله. محمد بن عبد الله بن عتاب أبو عبد الله يعرف بابن المقري، من أهل الاسكندرية. روى عنه أبو ذر بها، وذكره فقال: كان فقيهاً مالكياً من خيار المسلمين، ثقة مأموناً، وكان بنو عبيد ضربوه وردوه على السنة وأحرقوا كتبه، فحدث عن الأعرابي. محمد بن أحمد بن العباس أبو الحسن الأخميني، ذكره أبو ذر فقال شيخ صالح ثقة مالكي، قرأت عليه بمصر، ولقد قال لي عبد الغني بن سعيد رأيت له عن ابن زيان مثل هذا - يعني رزمة كبيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 الحسن بن عمر بن ابراهيم أبو محمد بن زكريا العروضي، ذكره أبو ذر وقال قرأت عليه بمكة وكان لا بأس به، حدث عن ابن القاسم بن بكار بن أحمد السلمي المرادسي. أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد خالد ابن خالد بن يزيد المطري الأزدي يعرف بالصواف، دخل الأندلس تاجراً آخر الدولة العامرية وفاراً من مصر لشيء وقع له فيها مع أميرها، سمع القاضي أبا طاهر الذهلي، وأبا سعيد بن يونس الصدفي، وحمزة الحافظ، وابن أبي الموت، وأبا محمد الفرغاني، وابن الورد، وابن السكن، رآه عمر السمرقندي وغيره، حدث عنه بالأندلس أبو عمر ابن الحذاء، وابن الحصار، وقاسم ابن الراموني السبتي. قال ابن المأموني: كان منقطع القرين في مروءته وعلمه، وكان فقيهاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 مالكياً متكلماً نسابة أدبياً، ذا قوة في علم الاعتقاد ويحقق في علم النسب. له قطع من الشعر مطبوعة. وقع الاجتماع أنه لم يصل الى الأندلس من بلده مثله. ولم يكن بالراسخ في الفقه، كان مشاوراً فيه، قال أبو عمر ابن الحذاء كان حافظاً للحديث حسن الشعر، قال الحصار: استوطن قرطبة أعواماً كثيرة الى زمن الفتنة، فخرج عن الأندلس الى مصر فتوفي بها. وقال ابن حيان: خرج من الأندلس الى إفريقية ثم جاء الى الأندلس فمات بها سنة عشرة وأربعماية. من أهل إفريقية أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري المعروف بابن القابسي. سمع من رجال إفريقية أبي العباس الإبياني، وأبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي عبد الله بن مسرور الغسال، وأبي محمد بن مسرور الحجام، ودراس بن اسماعيل الفاسي، والسدري، ورحل فحجّ وسمع بمصر ومكة من حمزة بن محمد الكناني، وأبي الحسن التلباني، وابن أبي الشريف، وابن زيد المروزي، وأبي الحسن ابن حبونه النيسابوري، وأبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 الحسن بن أبي هلال، وأبي الحسن بن شعبان الطحان، وأبي الحسن بن هاشم، وأبي الطاهر محمد بن عبد الغني، وأبي الحسن الأسيوطي، وأبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن، وأبي أحمد بن المفسر، وأبي الفتح بن يرمين، وأبي إسحاق عبد الحميد بن أحمد بن عيسى. وكتب إليه أبو بكر ابن خلاد، وكان واسع الرواية عالماً بالحديث وعلله ورجاله، فقيهاً أصولياً متكلماً مؤلفاً مجيداً. وكان من الصالحين المتقين الزاهدين الخائفين، وكان أعمى لا يرى شيئاً وهو مع ذلك من أصح الناس كتباً وأجودها ضبطاً وتقييداً. يضبط كتبه بين يديه ثقات أصحابه، والذي ضبط له في البخاري سماعه على أبي زيد بمكة أبو محمد الأصيلي بخط يده، وكان يزور الشيخ الزاهد أبا إسحاق الجبنياني فدعا له. قال أبو الحسن: قلت له - يعني عند رجوعه أول ما زاره - أذكر لك اسمي فمتى ذكرتني دعوت لي، فقال: بل أدعو لك في جملة المسلمين، فقلت: بل تخصني، قال: أرأيت من أودع وديعة فضيعها، أليس يضمن كالمعتدي؟ قلت: بلى فما دعا الإنسان الى شيء أن ضيعه ضمنه. قلت لا عليك أن أعرفك باسمي فإن نشطت للدعاء دعوت وإلا تركت، فلما رآني كئيباً إذ لم يقبل مسألتي، قال لي: ما اسمك؟ قلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 علي، قال لي: أبشر يا علي أعلى الله قدرك في الدنيا والآخرة، فلما قدمت دابة أبي الحسن أخذ الجبنياني بركابه، وكانت عادته لمن قبله علم أو خير. قال الشيرازي: وجلس مجلس ابن شبلون بعد وفاته. وكان أبو سعيد ابن أخي هشام يعظم الشيخ أبا الحسن ويقول: الشيخ أبو الحسن لا يحاسب على مكيال ولا ميزان. وإن كان لا يدخل الجنة إلا مثل أبي الحسن فما يدخلها منا أحد. وذكر ابن سعدون أن أب الحسن لما جلس للناس وعزم عليه في الفتوى تأبّى وسدّ بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم ابن شبلون اكسروا عليه بابه لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، هو أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى ذلك خرج إليهم ينشد: لعمر أبيك ما نُسب المعلى ... الى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتُها رُعِي الهشيم قال حاتم الطرابلسي صاحبه: كان أبو الحسن فقيهاً عالماً محدثاً ورعاً متقللاً من الدنيا، لم أرَ أحداً ممن يشار إليه بالقيروان بعلم إلا وقد جاء اسمه عنده وأخذ عنه، يعترف الجميع بحقه ولا ينكر فضله. وقال محمد بن عمار الهوزني - في رسالته - وذكره فقال: متأخر في زمانه متقدم في شأنه العلم والعمل والرواية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 والدراية، من ذوي الجتهاد في العباد والزهاد مجاب الدعوة. له مناقب يضيق عنها الكتاب. عالماً بالأصول والفروع والحديث وغير ذلك من الرقائق، وذكره أبو عبد الله ابن أبي صفرة فقال: كان فقيه الصدر، قال أبو الحسن: لما رحلت الى الإبياني أنا وأبو محمد الأصيلي، وعيسى - يعني ابن سعادة الفاسي - كنا نسمع عليه، فإذا كان بعد العصر ذاكرنا في المشكل، فتذاكرنا يوماً وطال الذكر فخصني بأن قال لي يا أبا الحسن لتضربن إليك اباط الإبل من أقصى المغرب، فقلت له: ببركتك إن شاء الله، ولما نرجوه من النفع بك إن شاء الله. ثم جرى لي منه ذلك يوماً آخر ثم ذاكرني يوماً ثالثاً فهمني له، فقال مثل ذلك، فقلت له ببركتك إن شاء الله فقال: والله لتضربن إليك اباط الإبل من أقصى المغرب، وعليه تفقه أبو عمران الفاسي، وأبو القاسم البيري، وغيرهما. وروى عنه أبو بكر عتيق السوسي، وأبو القاسم ابن الحساري، وابن سمحان، وابن أبي طالب العابد، وأبو عمرو ابن العتاب، وابن محرز، وابن سفيان، وأبو محمد اللوبي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وأبو حفص العطار، وأبو عبد الله الخواص، وأبو عبد الله المالكي، ومكي الفارسي، وابن الأجدابي، وروى عنه من الأندلسيين المهلب ابن أبي صفرة، وحاتم بن محمد الطرابلسي، وأبو عمر المغربي. ذكر تواليفه رحمه الله لأبي الحسن تواليف بديعة مفيدة ككتابه: المهذب في الفقه، وأحكام الديانة، وكتاب المنقذ من شبه التأويل، وكتابه المنبه للفطن من غوائل الفتن، والرسالة المعظمة لأحوال المتقين، وأحكام المتعلمين والمعلمين، وكتاب الاعتقادات، وكتاب مناسك الحج، وكتاب الذكر والدعاء، ورسالة كشف المقالة في التوبة، وكتاب ملخص الموطأ، وكتاب رتب العلم وأحوال أهله، وكتاب أحمية الحصون، ورسالة تزكية الشهود وتجريحهم، ورسالة في الورع. ذكر فضائله وخوفه وبقية أخباره كان أبو الحسن من الخائفين الورعين المشتهرين بإجابة الدعوة، سلك في كثير من أموره مسلك شيوخه من صلحاء فقهاء القيروان المتقللين من الدنيا، البكائين، المعروفين بإجابة الدعاء وظهور البراهين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 قال بعض أصحابه كان أبو الحسن إذا دخل محرابه وانتفخت عيناه واحمرت، ولجأ الى الله عز وجل ورأينا ذلك منه انتظرنا إجابة دعائه، وكانت الى ثلاثة أيام، وكان بالمهدية نصراني ابن أخ لخاصة باديس صاحب القيروان فافتض هذا النصراني صبية شريفة، فلما سمعت بذلك العامة رجعوا إليه فقتلوه، وبلغ ذلك باديس فعظم ذلك عليه، وأرسل قائداً بعسكر الى المهدية، وقال لهم: اقتلوا من هو قد السيف الى فوق، وبلغ ذلك أبا الحسن، فدخل المحراب وأقبل على الدعاء في كشف هذا، فلما وصل القائد الى قصر مسور قرب المهدية بات فيه فقام بالليل وهو سكران يمشي على السطح فمشى في الهواء وسقط على رأسه وانتثر دماغه، وجاءت البرد الى باديس بذلك، وأعلم بدعاء الشيخ أبي الحسن فرعب لذلك، وقال لابن أبي العرب وكبراء رجاله: تمشون للشيخ. فلما ضربوا عليه بابه وأعلم بهم، قال: تمضون للجامع حتى يأتيكم العلماء - ولم يدخلهم داره - ووجه الى أصحابه أبي بكر ابن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وأبي القاسم ابن الكاتب، وأبي محمد اللوبي، وأبي عمرو ابن العتاب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 والخواص، وابن سفيان، وأبي عبد الله المالكي، ومكي الفارسي، وابن الأجدابي، والربعي، وابن سمحان، وغيرهم، وأملى عليهم رسالة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم بالله أستعين، وعليه أتوكل. الغوث الغوث الغوث بما حلّ بالمسلمين من الافتئات عليهم، ثم ينادي بمثل. وفي فصل منها: كيف يحل لمن يعتقد الإسلام أن يقوم في دم كافر اغتصب صبية من سلالة المصطفى صلى الله عليه وسلم. لو انطبقت السماوات والأرض من أجل هذا الفعل كان قليلاً. وهي رسالة طويلة. وقال لأصحابه إذا وصلتم الى الجامع فليقرأها واحد منكم على المنبر ممن له صوت. ففعلوا ذلك فجعل القواد يقول بعضهم لبعض والله ما السلطان إلا هذا الشيخ. ذكر البيري أنه رآه قد اجتمع مع عيسى بن ثابت العابد يوماً فتذاكرا وبكيا حتى سقط كل واحد منهما على ظهره. وذكر أن رجلاً من أصحاب أبي إسحاق غره القمر ليلة فبكر فأخذه الحرس بالقيروان فاستغاث به وأعلمهم أنه ضيف أبي الحسن ومن أصحابه، فلم يلتفتوا إليه، وحملوه الى السجن وأودعوه الحديد، وأطلع رجل من غرفة على ذلك، فلما أصبح، أعلم أبا الحسن بحال صاحبه، فقال له اذهب فأخرجه من السجن، وثق بالله، أو كما قال، فذهب الرجل فدخل الى السجن حتى وصل الى الرجل دون أن يعترضه أحد، فوجد الرجل في ثقل الحديد، فلم يقدر الرجل على الخروج في حديده، فرجع الرسول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الى أبي الحسن فأخبره، فقال له: اذهب بحداد يحل عنه، فأخذ الرجل معه حداداً حتى حلّ عنه حديده في السجن، وخرج ثلاثتهم، وحراس السجن ينظرون إليهم فلا ينكرون عليهم شيئاً مما صنعوه، وكأنهم لا يرونهم، وكأنهم ألقي إليهم النسيان فلم يعرف من جهة الحرس من القصة خبر، قال أبو عمرو المقري في طبقات القراء وذكره فقال: أخذ عن ابن الدهن، وأقرأ القرآن بالقيروان دهراً، ثم قطع القراءة لما بلغه أن بعض أصحابه استقرأه الوالي فقرأ عليه، ودرس الحديث والفقه الى أن رأس فيهما، وبرع الى أن صار إمام عصره وفاضل دهره، وذكر أن أبا الحسن سأل أصحابه يوماً في رمضان عما كان إفطارهم عليه ليلة يومهم فأخبره كل واحد منهم بما كان على قدر وسعه، فقال أبو القاسم البرادعي: أفطرت على ثريدة خروف بأطراف سلق وحمص، وبعد ذلك إسفنجة، فقال له أبو الحسن: والله يا خلف لا صلحت أبداً ما اجتمع هذا من حلال قط، ولم يكن أبو الحسن قابسيّاً وإنما كان له عم يشد عمامته مثل القابسيين فسمي بذلك، وهو قيرواني الأصل، وتوفي أبو الحسن بالقيروان سنة ثلاث وأربعماية، ودفن بباب تونس، وقد بلغ الثمانين أو نحوها بيسير، مولده في رجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 لست ليال مضين منه سنة أربع وعشرين وثلاثماية، وكانت رحلته الى المشرق وسنّه اثنتان وخمسون سنة. أبو عبد الله الحسين ابن أبي العباس عبد الله ابن عبد الرحمن الأجدابي المشهور في فقهاء القيروان. من أصحاب أبي محمد بن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وكان واسع الرواية سمع من شيخه، ومن هبة بن أبي عقبة، وأبي القاسم بن حيران، وتميم بن أبي العرب، وأبي عبد الله بن الناظور، وأبي محمد البادسي، وغيرهم من أهل إفريقية، ورحل فلقي الناس بمصر والحجاز فسمع من أحمد بن أبي يعلى الحمادي، وأبي حفص بن عراك، وأبي بك الأدفوي، وأبي القاسم السفطي، والقاضي أبي نصر النيسابوري، وأبي الحسن ابن زريق، وأبي زرعة الجرجاني. وسمع أيضاً من عيسى بن حبيب، وابن اسماعيل المهري، وأبي زكريا بن عابد الأندلسي، وأبي القاسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 عبد الرحمن بن خالد الأزدي، وتميم بن أبي العرب، وسمع منه أبو محمد عبد الحق، وابن سعدون، وأبو محمد بن سبعين وغيرهم. وألّف مناقب ربيع القطان، والممسي، والسبائي، وابن نصرون. وأخوه أبو محمد الحسن مشهور بالعلم والتقدم في الفهم، وكثرة الرواية بإفريقية والمشرق، ومقدم في بلده، وسمع منه. وأخوه أبو الحسن علي. حدث عن تميم ابن أبي العرب، وأبي القاسم بن حيران، حدث عنه ابن سعد. أبو عمر أحمد بن سعدي واسمه: أحمد بن محمد أصله أندلسي إشبيلي، ونزل المهدية، وعليه دارت الفتيا بها وكان فقيهاً صالحاً، وله رحلة دخل فيها العراق، ولزم أبا بكر الأبهري وحمل عنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 كتبه وتفقه عليه. وسمع من جماعة بمصر والعراق، ولقي أيضاً من المالكية أحمد بن أبي يعلى الحمادي، وأبا القاسم الجوهري، وابن الوشاء، وأبا إسحاق التمار، وأبا بكر الباقلاني، وسمع أيضاً أبا الفضل الهاشمي، وابن غلبون، والحربي. حدث عنه حاتم الطائي الطرابلسي، وأبو محمد ابن الوليد، وأبو القاسم بن محرز، وتوفي بالمدينة. أبو الحسن علي بن أحمد اللواتي سوسي، كان فقيه بلده في وقته. أخذ عن أبي العباس الإبياني، وابن مسرور، والدباغ، سمع منه أبو عمران الفاسي. أبو موسى عيسى ابن القمودي فقيه مالكي من أصحاب الإبياني رضي الله عنه. أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسمين في العلم، المجيدين للتأليف، أصله من المسيلة، وقيل من بسكرة. كان بطرابلس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 وبها أملى كتابه في شرح الموطأ، ثم انتقل الى تلمسان، وكان فقيهاً فاضلاً متفنناً مؤلفاً مجيداً، له حفظ من اللسان والحديث والنظر، أخذ عنه أبو عبد الله البوني، وعليه تفقه، وألّف كتاب القاضي في شرح الموطأ، والواعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، والإيضاح في الرد على الفكرية، وكتاب الأصول، وكتاب البيان، وكتاب الأموال، وغير ذلك، وبلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك. فأجابوه أسكت لا شيخ لك، أي لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل الى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان، وأنهم لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرّق من بقي فيها من العامة الألف والآلاف فرجحوا خير الشرين، والله أعلم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 حمل عنه أبو عبد الله البوني، وأبو بكر ابن الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، وأبو علي ابن الوفاء من أهل بلدنا وغيرهم. قال حاتم الطرابلسي: توفي بتلمسان سنة اثنتين وأربعماية، وقبره عند باب العقبة، ولم يسمع منه حاتم وكان حياً إذ كان حاتم بالقيروان، وقرأت في بعض التواريخ أن وفاته سنة إحدى عشرة والأول أصحّ. أبو موسى بن مناس رحمه الله من كبراء فقهاء إفريقية ونبهائها، والمقدّمين بها، وله كلام كثير، وتفسير لمسائل المدونة مسطرة، وقد سمع من البوني رضي الله عنه. أبو علي بن خلدون رحمه الله من فقهاء إفريقية وعلمائها وصلحائها، من أصحاب أبي الحسن القابسي، كان قد نشأ بإفريقية، جليل القدر في فقهائها، مطاعاً. وكانت العامة تتبعه. وكان شديداً على أهل البدع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 والروافض مغرياً بهم، يستند منه أهل السنّة الى ملجأ ووزر، فضجر لذلك شاعر الرافضة المعروف بالباحجوري في قطعة له وهي: عيني من التغميض ممنوعة ... ومهجتي بالنار ملذوعة من حسن ظبي حسن وجهه ... طرته بالمسك مصنوعة كأنما ذكرى الهوى عنده ... ذكرى ابن خلدون لدى الشيعة ذكر الشيخ أبو عمران قال: نزلت بالقيروان مسألة الملاعنة إذا نكلت عن اليمين ثم أرادت الرجوع الى اللعان فاختلفنا فيهعا، فأفتى فيها أبو علي ابن خلدون وغيره أن لها ذلك، كما لها الرجوع بالإقرار المحض، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن، وذهب أبو القاسم ابن الكاتب أن الرجم قد وجب عليها، وليس لها الرجوع بعد النكول لأن الزوج لما حقق عليها ما رماها به بالشهادات الأربع صارت تلك الشهادات كأربعة شهدوا على معاينة الزنى فعليها أن تأتي بما يقابلها ذلك ويكافئ شهادته، فإن نكلت فكأنها صدقت شهادته، بخلاف مجرد الإقرار، وبه قال أبو عمران، ولابن الكاتب في ذلك تأليف طويل نص فيه فتياه وبيّن وجه قوله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 خبر قتله رحمه الله تعالى ولما قتلت الرافضة سنة سبع وأربعماية، وكان ابتداء ذلك يوم الجمعة منتصف محرم مفتتحها، وهو يوم كان وصول المعزّ بن باديس الى القيروان فيه، بعد موت أبيه واستفتاح ولايته، فقتلت العامة الرافضة أبرح قتل بالقيروان، وحرقوهم وانتهبوا أموالهم وهدموا دورهم وقتلوا نساءهم وصبيانهم وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم، وقال إن عامل القيروان منصور بن رشيق كان يمشي كأنه يسكن الناس وهو يشير على العامة، وأفتق الأمر فلم يقدر السلطان على ضبطه وولي عاملاً آخر فتعذر عليه سده، وخرج الأمر عن القيروان الى المهدية وسائر بلادهم، فقتلوا حيث وجدوا وأحرقوا بالنار فلم يترك أحد منهم بمدن إفريقية وأعمالها إلا من اختفى. ولجأت الرافضة الى مساجد البادية فقتلوا فيها أبرح قتل وهدموا دار الإمارة بالمنصورة، وتعدت العامة ذلك الى جماعة من أهل السنة من غيرهم. فلقد حكي أن العامة جاءت تتعلق برجل منهم اتهموه برأيهم فمروا به على شيخ من العامة بسألهم عن تعلقهم به، فقالوا نسير به الى الفقيه أبي علي ابن خلدون فنأخذ عليه بما يأمرنا به، فقال لهم الشيخ العامي لمَ لا تقتلوه الآن فإن كان رافضياً أصبتم وإن كان سنياً عجلتم بروحه الى الجنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 من الآن؟ أو كما قال. وحكي أنه رئي يتبع واحداً منهم ليقتله، فقيل له ما تصنع؟ فقال هذا زنديق يفضّل علي ابن الخطاب على عمر ابن أبي طالب أو كما قال بلفظ العامي، فانتقم الله منهم على أيدي عامة المسلمين وقتلوهم كل مقتل، فرعب المعز منهم وأراد كسر شوكتهم فدبر قتل زعيم السنة وشيخ هذه الدعوة. فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال من السنة، أتى عامل القيروان ومعه خيل ورجال فتقدم الى مسجد أبي علي بعد صلاة العصر وهو جالس وعنده جماعة، فطلع بعض رجالاته الى المسجد فقتلوا أبا محمد ابن العرب جليسه وهم يظنونه أبا علي إذ احتقرت عيونهم أبا علي لكونه سناطاً فلم يظنوه صاحب المجلس، وخرجوا، فلما عرفوا أنه ليس إياه رجعوا فقتلوا أبا علي وتعاودوه بسكاكينهم وجرحوا جماعة ممن في المسجد فحمل الى داره به حشاشة فتوفي في ليلته، وارتجت المدينة وثارت الصيحة من نواحي القيروان فمال أهل المنصورة من الرجال والعبيد فنهبوا جميع ما في حوانيتها، حتى لم يدعوا حانوتاً، وألقيت النار في كبار الأسواق، ونهبت أموال التجار، وكانوا آمنين وأموالهم بحوانيتهم، فذهل الناس وخرجوا، وشغلوا بأنفسهم عن ذكر أبي علي وخبره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 فطاح بهذه السبيل دمه، وأراد عامل البلد استرضاء الناس فجاء برجلين وقال إنهما اللذان قتلاه فقتلهما، ودفن أبو علي بالليل، وفي ذلك يقول الحصري أبو إسحاق الأديب من رثاء فيه: دفنوا صبحهم بليل وجاءوا ... حين لا صبح يطلبون الصباحا ومن رثاء ابن الوراق فيه: مضرج بدم الإسلام، مهجته ... من بين أحشاء دين الله تنتزع والمراثي فيه كثيرة منها لابن جرمون قصيدة أولها: جفوني لا تدري الدموع بأسحم ... ونفسي ألا تلتظي فتضرمي فلا وجد إلا أن تفيضي من الأسى ... ولا دمع إلا أن يكون مع الدم وقال ابن يحيى في قصيدة: وأكون متبعاً لأشنع سنة ... قبلي العالم أبو تمام للبست لبس الثاكلات وجئت في ... سود السلاب بكاة من حام أبو جعفر عمر بن مثنى كان أبوه من جلّة أصحاب عيسى بن مسكين، مات وتركه صغيراً، فربّاه الشيخ أبو الحارث ليث بن محمد الفقيه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 قال اللبيدي: وكان عمر من العلماء بالقراءة، يجيد رواية ورش، مقدماً في الإعراب، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والتفسير والغريب والحساب والفرائض ودرس الفقه، سمعت أبا محمد الصدفي يقول: ما رأيت في خارج إفريقية أعلم منه وكان قد لزم السكنى بعد مسرة بن مسلم بقصر زياد يؤمد فيه ويطلب عليه الناس منقطعاً في العبادة، ما رأيته ضاحكاً قط، ولا كان يبتسم ولا يتكلم يما لا يعنيه، إنما كان يجلس لقراءة القرآن، ومذاكرة العلم، وينزوي للصلاة والذكر، وكان من أعلم الناس بالوثائق والبلاغة في الترسيل، وحجب أيضاً حمدون بن مجاهد، ومحمد بن عبد الرحيم بن عبد ربه، وكان خاصة بأبي إسحاق الجبنياني ينشط إليه ما لا ينشط الى غيره رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 من أقصى المغرب أحمد بن خلف المسيلي أبو جعفر يعرف بالخياط، من أهل العدوة ودخل الأندلس فاستوطنها، قال ابن الفرضي كان فقيهاً عالماً بالمسائل حافظاً لها، حسن التكلم في الفقه على مذهب مالك، وكان ورعاً زاهداً فاضلاً، دخل الأندلس، وسكن الثغر أعواماً كثيرة. وكان منسوباً الى البأس والنجدة، وتوفي رحمه الله بقرطبة في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وثلاثماية، رحمه الله. عبد الله بن الزويزي بزاءين، قاضي أصيلا من بلد المغرب، مشهور الاسم بعيد الصيت في الفتيا والذكر بالعلم، وبه يضرب المثل الى الآن بالمغرب، فيقول لا أفعل كذا لو أفتاك به ابن الزويزي، وله مع بني عامر غزوات بثغور الأندلس رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 أبو سعيد خلف بن مسعود الرعيني يعرف بابن أمنية من أهل المغرب، ودخل الأندلس. فنزل مالقة. قال ابن حيان: كان من أهل الرواية والعلم وذا لسان وعارضة، وقدم قرطبة سنة ثلاث وتسعين، فحمل عنه بها علم كثير، وكانت له بها من ابن ذكوان مكانة. فلما ثارت الفتنة بقرطبة وقاموا على البربر أول قيام المهدي اتصلت الثورة بالأندلس فأغرى العامة بعض أعدائه فشدخوه بالحجارة، وقيل إنهم لما أرادوا قتله سألهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، فأمهلوه، ثم أضجعوه فذبحوه، وطافوا برأسه، وذلك آخر سنة أربعماية، وقد نقل الشيعي عنه في نوازله في مسألة. أبو بكر محمد بن عيسى رحمه الله ويعرف بابن زويع، من أهل سبتة، وقال أبو حيان: ابن زويعة، من أهل العلم والأدب، وأجلّ قضاة سبتة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 وكان تخطط بالشرطة العليا، وقضاء سبتة وأصيلا والمغرب. كذا رأيت السجلات تنعقد عليه، ويقال إن أصله من البصرة، وله رحلة الى الأندلس، ويقال إنه دخل العراق وحجّ ولقي علماء البلاد، ورجع الى قرطبة فاختصّ بابن ذكوان، وهو كان المنوه به لما وجد عنده من العلم، وكان له مال واسع وذلك أن قاضي الجماعة تسلف له مالاً من مال الأحباس بإشبيلية وأخرجه في زيت باسمه فعاد عليه منه عائد كان أصل ماله فيما ذكر، وكان حسن السيرة في قضائه وأيامه مشهورة لعلو مكانه، وسعة علمه، وبعد صيته، قال لي بعض الشيوخ وكان متفنناً في علمه نظاراً صاحب حجة وجدل عالماً بالحديث، قال ابن حيان: وكانت له منزلة عالية عند سلطان الأندلس متمكن الأسباب لديه وهو آخر قضاة بني أمية بسبتة. قال أبو مروان ابن حيان: وكان من وجوه أصحاب ابن ذكوان وله في العلم والعفة والصرامة درجة سامية، وقدم صدق أدنته الى المنية، وقال: وقلده المظفر قضاء سبتة بلده وعمله، بإرشاد ابن ذكوان إليه، وذلك عند اختياره لخطة القضاء أهلها، فحمدت ولايته واتصلت الى أن قامت الفتنة، وسما قاسم بن حمود الى الخلاف على بني مروان بسبتة فكان من قاضيها هذا عنه بعض التأخر، فأغرى به العامة بقتله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 ورعب الناس بقتله فلم يختلوا عليه، وخبره مشهور في الجزالة، وما قاله ابن حيان من إغرائه للعامة غير صحيح، فقد كان أجل في قلوبها من ذلك وإنما قتلته رجال بني حمود والصحيح أن الآمر بقتله علي بن حمود أخو قاسم، وذلك بعد الأربعماية، وقد بسطت أخباره في ذكر قضاة سبتة من تاريخها. أبو مروان عبد الملك الكوري من أصحاب أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، من فقهاء فاس، ومعظمها بعدوة الأندلس منها، وبه تفقه عثمان بن مالك، وغيره من الفاسيين، وتوفي سنة سبع وأربعماية. يحيى بن تمام رحمه الله من فقهاء سبتة في هذا الحين، قال أبو بكر الحسن بن مفرج القيسي كان من فقهائها مشهوراً بالعلم بها، وهو صاحب مسألة الشفعة في الصدقة، وقد ذكرناها في أخبار أبي عمر ابن المكوي رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 من أهل الأندلس القاضي أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب بن يزيد قرطبي، كان أبوه يبقى أحد قراء القرآن للناس، قال ابن الفرضي: سمع من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن عبد الله بن أبي دليم وطبقتهما، وعني بالرأي فتقدم فيه. وكان تفقه عند اللؤلؤي، وأبي ابراهيم، واللؤلؤي هو المنوه به. وكان ابن زرب من أحفظ أهل زمانه لمسائل مذهب مالك وأفقههم به. وعليه كان مدار طلبه في المناظرة، وكان الفقه جلّ علمه، ولم تكن له رحلة ولا رواية، كان القاضي ابن السليم يقول له: لو رآك عبد الرحمن ابن القاسم لعجب منك يا أبا بكر، وشوّر في الأحكام أيام ابن السليم قبل أبي عمر ابن المكوى سنة ستين، فلما مات وليَ مكانه قضاء الجماعة سنة سبع وستين الى أن مات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 قال غير واحد: كان ابن زرب مع علمه عالماً مجتهداً ورعاً عفيفاً كثير الصلاة والتلاوة، بصيراً بالعربية والحساب، حسن الخطابة، قريب الدمعة، بعيد المنظر، دقيق التفقه، مستبحراً في المسائل، حافظاً للأصول حاذقاً بالفنون، كثير الاقتداء، متثبتاً في أحكامه، وإليه كانت الخطبة والصلاة، وألّف كتاب الخصال المشهور في الفقه على مذهب مالك عارض به كتاب الخصال لابن كاوس الحنفي، فجاء غاية في الإتقان، وله كتاب في الردّ على ابن مسرة، وكان آخر حاله قد فرّ الى العمل وجدّ في القيام وأكثر الاستغفار، حتى قيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة. ويقال إن سبب ذلك حضوره المجلس الذي عقده ابن أبي عامر وذلك لتهمتهم في القيام على هشام الخليفة، وإقرار عبد الملك بذلك على نفسه. ويقال إن القاضي كان نزع عندما استفتي بالآية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله "، وقيل نزع بها غيره، نكث ابن منذر لإقراره حتى زجره ابن أبي عامر، وقال له تريد أن تشككه في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 نفسه يا قاضي هو أعلم بما أقر به على نفسه، فرخص القاضي رحمه الله ونفذ قتل ابن منذر وصلبه. سيرته رضي الله عنه قال ابن حيان: سمعت المشيخة رضي الله عنهم يقولون إنه لما وليَ القضاء احتبس خواص أصحابه المشاورين وقد جاءوه مهنئين، فأمر غلامه فكشف عن مال عظيم في صندوق وقال يا أصحابنا قد عرفتم ما امتحن به من تولى القضاء قديماً من سوء الظنة، وأخشى أن أطرق الناس على عرضي. وهذا حاصلي ورزقي هذا من الصندوق، وفي مخازني ما يفي بقيمته، وحظي من التجارة ما عرفتم، فإن فشى من مالي ما يناسب هذه الجملة فلا لوم، وإن تباعد ذلك فقد وجب مقتي فاسألوا الله تخليصي مما نشبت فيه. وكان ابن زرب لا يجلس للحكومة حتى يأكل. وكان موصوفاً بطيب الطعام، له منه ومن الحلوى والفاكهة وظيفة معلومة، كان لا يؤاكل أحداً إذا قرّب عامه قرماً عليه، دون أن يستدعي أحداً، فلما كان أحد الأيام حضره المتطيب الترجلي وكان يخف عليه فقرع عليه وقال لا أريد فقال المتطيب فما قولك لمن يريده فقال نعمى عين ومسرة وعلي أن تأكل وحدك فلا فضل في الأكل. فقال المتطيب تكفاه، فضحك وأمر فتاه بإخراج المائدة فقدمها عليها ثريدة صغيرة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 درمك مكللة بلحم خروف الصنعة، ثم بعدها جنب خروف مشوي برغيف درمك، فقال: هذا طعامي الذي يكثر عليّ فيه، لونان كل وقت لا أزيد عليهما، ولا سرف في لونين. فقال له: أيها القاضي أمن أصل تقوله؟ قال نعم، ورفع فيه حدياً لبعض السلف، لم يذكره الراوي: قال ابن الفرضي: وكان بعيداً من الحيف في أحكامه وفيه سلامة حال، قال غيره: كان كريم العناية نفاعاً لمن صحبه وكان ابن أبي عامر يعظمه ويستحسنه ويتحرك إليه إذا أتاه ويجلسه معه في فراشه، لم يقبّل له ابن زرب يداً قط عند أخذه أهل مملكته، ولما أشهر ابن أبي عامر جامع الزاهرة واستشار الفقهاء في التجميع فيه أفتى القاضي بمنع ذلك وقال بقوله ابنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 ذكوان، وابن المكوى، وابن وافد، وابن الفرج الطائي، وجماعة، وساعده ابن العطار على التجميع فاستحيى خلاف ابن زرب وآدابه كثيرة، وتوفي رحمه الله في رمضان سنة إحدى وثمانين، ومولده في رمضان سنة سبع عشرة وثلاثماية. وتفاقده الناس وأثنوا عليه حسناً، وأظهر ابن أبي عامر لموته غماً شديداً. وكتب لورثته كتاب حفظ ورعاية انتفعوا به، وتفقدهم في حياته، واستدعى ابنه محمداً وهو طفل ابن ثلاثة أعوام فوصله بثلاثة آلاف دينار والطاف قيمتها ألف دينار، قال القاضي غريب بن محمد: رأيت ابن زرب بعد وفاته، فسألته؟ فقال: ما وجدت شيئاً أضرّ من الاختلاف الى أبواب الملوك، وقال المقرئ الباقلاني: سألته في النوم؟ فقال ما وجدت أنفع من قراءة القرآن، وكانت ولايته في القضاء أربعة عشر عاماً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 محمد بن عبيد الله بن الوليد المعيطي أبو بكر، من أبناء الأشراف وأعيان الفقهاء الأخيار. سمع من أبيه ووهب وابن الخراز القروي، وابن سعيد، والمحيلي، وأبي ابراهيم الطليطلي، قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للفقه، عالماً بمذهب مالك وأصحابه. قدم الى الشورى وهو ابن ثلاثين سنة. وكان ورعاً زاهداً وصار في آخر عمره متبتلاً منقطعاً معتزلاً عن جميع الناس. قال غيره: وكان ثبتاً سليماً طرح الدنيا عندما تمت له. وصارت إليه رئاسة قرطبة بالعلم والشرف والقرب من الخليفة، وصيّر قاضي الجماعة فزهد في ذلك كله في عنفوان شبابه، فلزم بيته وأطرح السلطان والفتيا، وعهد ضيعته، وباع دابة ركوبه، ولزم غرفة باب داره منفراً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 لعبادة ربه، ويأكل ما يصنع بيده مثل بقل الفحص وما أشبه ذلك، ولبس الصوف وتوسّد الأرض، واعتزل امرأته باختيارها المقام معه، وكان لا يجالس أحداً البتة. قال القاضي موسى: كان أبو بكر فقيهاً قد عني بالحديث والمسائل، وكان ذا رئاسة في العلم والخبر، وشوّر وعظم جاهه، ثم أوقع الله تعالى في نفسه حب الآخرة والزهد في الدنيا، فزهد في الدنيا ولزم العبادة الى أن مات. وكان ابتداء تبتله عند انصرافه من دفن أبي بكر البيري الزاهد صاحبه، وكان يجالسه، وهو سهّل الطريق له الى العبادة بتدريج حتى تم له مراده، فكان يصوم النهار ويقوم الليل، حتى مات. وكان يخدمه أيام نسكه أبو بكر القرشي الزاهد، قال القاضي يونس الصفار: فعدت الى المعيطي في تبتله مرة في الجامع فوجدته على ما عهدته من الانبساط إليّ وكان بيننا المرافقة في طلب العلم، فذاكرته بحديث نقله ابن أبي الدنيا في أن الشاب إذا صدق في توبته عجلت منيته، فسرّ به وسألني أن أرسل إليه بالكتاب الذي وجدته فيه، فما عاش بعد ذلك إلا نحو شهرين ومات، وما رجع إليّ الكتاب إلا بعد موته وكان موته بعد انقباضه بسبعة عشر شهراً رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 خبر تأليف كتاب الاستيعاب لقول مالك رضي الله عنه كان ساقطاً الى الحكم أمير المؤمنين كتاب من رأي مالك، ابتدأه بعض أصحاب اسماعيل القاضي، وبوبه وقدره ديواناً جامعاً لقول ملك خصة، لا يشاركه فيه قول أحد من أصحابه باختلاف الروايات عنه، وذكر من رواها: مضى للمؤلف منه مقدار خمسة أجزاء أو نحوها، واخترمته المنية عن تمامه فلما رآه الحكم أعجبته بساطته وحرص على إكمال الفائدة به فذاكر به قاضيه ابن السليم وسأله هل عندهم من يكمله على الرغبة؟ فقال له: نعم بشرط إباحة أمير المؤمنين خزانة كتبه للبحث عن أقوال مالك حيث كانت، روايات المكيين والمدنيين والعراقيين والمصريين والقرويين والأندلسيين وغيرهم، فقال له الحكم: افعل ذلك على ضنانتي بها حرصاً على إكمال الفائدة. فسمى له الفقيهين أبا بكر المعيطي القرشي هذا، وأبا عمر ابن المكوى فمكنهما من الأسمعة وما جانسها فاقتدرا منها على ما أراداه، وألّفا كتاب الاستيعاب الكبير في مائة جزء، بلغا فيه النهاية، وكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 بين أيديهما راوٍ مجيد لتبييض ما يودانه، فكان ابن المكوى أولاً يقدم القرشي لنسبه ويقدم اسمه عليه فيما يتكلمان فيه فيقول: قال محمد حتى وقع بينهما شيء فأنف أبو عمر من تقديم اسمه عليه لسنّه وعلمه فجعل يقدم نفسه فيما يكتب ويملي، وعارضه الآخر بمثل ذلك وأنكر الحكم اختلافهما في ذلك بحجة تقديم القرشي لنسبه. وأقرّ قاضيه - ابن السليم - بإصلاح بينهما وجمعهما على ما أمر به، فصلحت حالهما، فلما تم الكتاب سُرّ به ووصل كل واحد منهما بألف دينار ومنديل بكسوة، وقدمهما الى الشورى. وفاته رضي الله عنه واخترم المعيطي قبل أقرانه، فكانت وفاته في ذي القعدة سنة سبع وستين وثلاثماية، وأبوه عبيد الله حي وهو الذي صلى عليه، وسنّه نيف على الأربعين سنة، مولده سنة سبع وعشرين في صفر منها، وكان له ابن يسمى عبد الله ويكنى بأبي مروان، قال ابن حيان: كان حافظاً عالماً ورعاً فاضلاً عظيم الصدقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 من بيت علم وفقه وعبادة، بشر بخير قبل موته. وشاوره سليمان المستعين في أيامه وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وخمسماية، وسنّه ثلاث وأربعين سنة، قال بعضهم حضرت يوم موت أبي بكر المعيطي وهو يغسل إذ نظرت في قبلة حائط بيته مكتوباً بخطه: من رجال شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. فقلت: أنت والله ذلك الطالب الهارب يا أبا بكر، فنفعك الله بذلك. أبو عمر أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكوى، مولى بني أمية، وسكن قرطبة، شيخ فقهاء الأندلس في وقته، تفقه بأبي ابراهيم وصحبه، وكان أبو إبراهيم يتفرس فيه النجابة فحرضه واعتنى به، وكان قد حبب إليه الدرس مدة عمره لا يفتر عنه ليله ونهاره، ورجعت فيه لذته، وكان أول أمره ضعيف الحفظ قليل العلم، فلم يزل أبو ابراهيم عليه بالدرب والتحريض على المطالعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وإقامة الدرس حتى فتح عليه، وكان أول طلبه ممكناً في عيشه يتجر في سوق البزازين لا يفارق أثناء ذلك المطالعة في جلوسه وحركته، فلما شهر في الناس حذقه، واحتاجوا الى فتواه قلده الحكم الشورى، وقرر القاضي ابن السليم أمره للحكم فأخرج له ألف دينار فلما رآها هالته، قال: كنت أرى القيامة قد قامت وأنا أساق الى العرض، فكنت أسير وأجد في نفسي قوة فإن أمري على دين الإسلام، فكنت أقف بين يدي العرض فأحاسب يسيراً، ثم يقال لي أقعد فأنت آمن، ثم يؤتى بصكوك كثيرة، فيقال لي خذ كتابك فأقبض يدي ثم الثانية فلا آخذه ثم الثالثة فكنت كذلك ثم استيقظت، وبي رجف من الفزع فلم يلهني، فانقطع بعد هذه الرؤيا ولم تبق من نفسه بقية الى أن مات، ذكر أن صديقاً له قصده في عيد زائراً له فأصابه داخل داره ودربه مفتوح، فجلس منتظره وأبطأ عليه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 فأوصى إليه فخرج وهو ينظر في كتاب فلم يشعر بصديقه حتى عثر فيه لاشتغال باله بالكتاب، فتنبّه حينئذ له، وسلم عليه، واعتذر إليه من احتباسه بشغله بمسألة عويصة لم يمكنه تركها حتى فتحها الله عليه، فقال له الرجل: في أيام عيد ووقت راحة مسنونة؟ فقال: إذا علمت بهذه النفس انصبت الى هذه المعرفة، والله ما لي راحة ولا لذة في غير النظر والقراءة. قال ابن عفيف: إليه انتهت رئاسة العلم بالأندلس حتى صار بمثابة يحيى بن يحيى في زمانه، واعتلى على جميع الفقهاء، ونفذت الأحكام برأيه، فحكم على الحاكم، وبعد صيته بالأندلس، وحاز رئاسة أحاديثها مشهورة، وكان رحمه الله من ذوي المتانة في دينه والصلابة في رأيه والبعد عن هوى نفسه، لا يداهن السلطان، ولا يدع صدعه بالحق، كان البعيد والقريب عنده في الحق سواء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 ذكر مكانه من العلم رحمه الله قال ابن مفرج: وكان أفقه أهل زمانه، وأتقنهم للرأي، وكان أحفظ الناس لمذهب مالك رحمه الله، واختلاف أصحابه، لا يلحقه أحد من المتقدمين في عصره، ولا يقوم به أحد من طبقته، وكان متفنناً في علوم الشريعة، وأطلب الناس لنجاة الناس عند مضائق الفتيا. وكان في الحفظ آية من آيات الله عز وجلّ. أقرّ له أصحابه كلهم بذلك. وكانوا يقولون: أبو عمر ابن المكوي أحفظ منا للعلم كثيراً. وسمع أبو محمد ابن الشقاق الفقيه يوم دفنه يقول على قبره: رحمك الله يا أبا عمر، فلقد فضحت الفقهاء بقوة حفظك في حياتك، ولتفضحهم بعد مماتك، أشهد أني ما رأيت أحداً أحفظ للسنة كحفظك، ولا علم من وجوهها كعلمك. وكان ابن زرب على تقدمه يعترف له بذلك. ولقد قال يوماً لأصحابه، بعد خروجه عنه وثنائه عليه في وجهه: يا أصحابنا الحقُّ خيرُ ما قيل، أبو حمر والله أحفظ منا كلنا. ولقد كانت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 أعيتهم مسألة عويصة، فسأله القاضي، هل يذكرها قال نعم، في كتاب كذا من المبسوط في باب كذا آخر مسألة منه، أو كما قال. فطلب منه الكتاب فإذا بها كما ذكرها، قال غيره: وعلى أبي عمر دارت الفتيا بالأندلس أجمع الى أن هلك، وكان في ذريته فيما جرى على يديه أحصى العجائب، وكان تماماً في ذهنه وفطنته، لطيف الحياة في الإصلاح بين الناس. قال أحمد بن الليث: كان أبو عمر من أهل الحفظ والفهم الثاقب، مع الذكاء والفطنة وحدة الذهن، حتى كان يشبه بإياس بن معاوية ونظرائه. ظهرت له من ذلك في فتاويه أمور عجيبة، قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله عنه: وعظم قدر أبي عمر بالأندلس كلها، وصار معتمداً لجميع قضاتها وحكامها فيما اختلفوا فيه. ودعاه ابن أبي عامر الى تقليد قضاء الجماعة مرتين، إحداهما عند وفاة ابن زرب والأخرى عند عزل ابن برطال بعدها فأبى من ذلك في المرتين أشد إباء، وأغلظ القسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 ألا يلي القضاء ولا شيئاً من الأحكام أبداً، وهو الذي أسند إليه الحكم تأليف كتاب الاستيعاب الذي قدمنا ذكره، مع أبي بكر المعيطي. قال ابن حيان، وكان في أول حاله لم يأخذ نفسه بتثقيف علم اللسان فراغت في فتاويه غرائب من لحنه، بقاها عليه أصحابه ثم فطن لنفسه، فأشاع ذكر مرض حبس نفسه فيه شهراً عاكفاً على كتاب سيبويه، فخرج مكتفياً من علم النحو لقوة حفظه وتقرب فهمه، فصلحت حالاته. وكان مما أعانه على سعة المطالعة، أنه تخير هو وقوم من الفقهاء صدر خلافة هشام أيام ابن أبي عامر لامتحان خزانة العلم، وتفتيش ما يعرض فيها من آلاته وردها الى مواضعها مرتبة الى أشكالها، معهم من الفتيان طائفة يتولون ذلك بين أيديهم، فاستجاب أبو عمر لما كلف من ذلك، على بعده من الالتباس بعمل السلطان، لما رجا في ذلك من المطالعة للغرائب، التي جلبها الحكم، واقتدر منها على ما لم يقدر عليه سواه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 مما كان أبو عمر يتشوق إليه، فرغب أبو عمر الى أصحابه أن يعفوه من مباشرة ما اشتغلوا به من التأليف، ويتركوه والمطالعة، فاستوسع في ذلك وطالت مدة عملهم في ذلك، لكثرة هذه الكتب، ووفور خزانتها حولاً كاملاً وفوقه، فحصل للشيخ من ذلك ما أمله، وكان عظيم التذكر، حسن الحفظ، بطيء النسيان، وكان يتكلم عنده يوم الإثنين في الموطأ، وما شاكله، ويوم الثلاثاء في المدونة والمستخرجة وما جانسهما، فكان النبلاء من أصحابه كابن الشفاء، وابن دحون وأمثالهما من الأكياس والحفاظ، يتظاهرون عليه، لينشروا حفظه، فإذا جرت المسألة وأمعن القول فيها الى أبي عمر وترجيحه، بدر كلٌّ من أولئك الحفاظ الى ما يغرب من قولة شاذة، فينصت أبو عمر الى كل ما يقوله كل منهم، حتى يستوفي كلامهم. ثم يرد على كل واحد فيما أغرب به، ويفصل له أمكنته ونسبته الى قائله. ويذكر الاختيار من ذلك من قول الأصحاب كأنما ينظر في صحيفة، ثم يجرد إثر ذلك هو اختياره فيريهم العجب، من كل فعله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 ومن غرائب فتاويه ونزعاته رحمه الله، كان أبو عمر لكثرة حفظه، وقوة درايته، لا يبطئ بالفتاوي ولا يطيل حسبما عند نفسه، بل يجيب لوقت أو يومه، ومن نوادر ما أفتاه أبو عمر فتواه في امرأة حرة بقرطبة، لها ابنة مملوكة صبية باعها مولاها من رجل يخرجها عن قرطبة، فشكت أمها ذلك فأفتى بمنعه من إخراجها وبيعها على مشتريها، وخالفه في ذلك القاضي ابن زرب وغيره من الفقهاء، فأخذ فيها ابن أبي عامر بقول أبي عمر. ومنها مسألة وقعت ببلدنا بسبتة وهي إذ ذاك من عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ بالشيخ أبو عمر فوقع أسفلها: هذا من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة. فلما رأى ابن تمام جوابه، قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات مالي وخذ حمامك. ومن غرائب فتاويه التي زاحم فيها ابن أبي عامر، قصة عبد الملك بن منذر البلوطي وكان يتولى الرد بقرطبة وكان من صنائع الحكم، فلما تغلب ابن أبي عامر على الأمر واتخذ لنفسه صنائع، وحجر على هشام الأمير وهويت قلوب الناس إليه فكانوا يتربصون به الدوائر، واجتمع جماعة من وجوه الناس على النكث بهذه الطبقة المستغربة، والبطش بهذا الخليفة المستضعف، والبطش بابن أبي عامر وقتله، والقيام بغيره. وكان ابن منذر المتولي لكبر القصة فوقع ابن أبي عامر على الخبر وعلى كتاب بخط ابن منذر في القصة، وجمع الفقهاء والقاضي ابن زرب للشورى في أمرهم. وقد أقر ابن منذر بالأمر على نفسه، وأن الكتاب خطه. فأفتى بعض الفقهاء فيهم بحكم المحاربة، لما سعوه من الفساد في الأرض. وتوقف آخرون، منهم القاضي وألحّ ابن أبي عامر، على أبي عمر ابن المكوى واضطره الى القول فيها. فقال: ما أرى عليه شيئاً، هو رجل همّ بمعصية فلم يفعلها. ولم يجرد سيفاً، ولا أخاف سبيلاً. إنه ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فخرج أمر السلطان بعد ذلك بطلب ابن المنذر، فنفذ ذلك في الحين وانقبض ابن المكوى في داره، وادعى مرضاً نحواً من شهرين فلم يفتِ أحداً، ولا خرج لمن أتاه، إنكاراً لما جرى على صاحبهم، ابن المنذر. وإذ لم يؤخذ فيه برأيه وتوقعاً لشر ابن أبي عامر، الى أن تقادم العهد وخشي زيادة وحشة ابن أبي عامر، فعاد لحاله. ومن غرائب ذكائه وتلطفه، أن بعض الحكام وجه الى امرأة معها بنية تطلب فرضها من أبيها، والرجل ينكر أن تكون ابنته، فلم يزل به يعظه، ويخوفه، ويستلطفه، ولا تنفعه رأفة فيه، وكانت عادته الصبر في مثل هذا. الى أن أخذ أبو عمر الطفلة، وكانت حسنة الصورة، عليها فروة جديدة فأجلسها في حجره، وجعل يمسح عليها، ويثني على حسنها، ويترصد غفلة الرجل، الى أن رآه مطرقاً غافلاً فقال: حتى فروها مشاكل لها، أحسن في شرائه أخلف الله له، ثم قال له مستعجلاً بكم بالله اشتريته؟ فقال - من غير روية -: بعشرة دراهم فقال: أحسنت قم فأفرض لابنتك بأقل ما يلزمك كذا. فخجل الرجل وأذعن. ومثل ذلك قصة أخرى في رجلين رفعا إليه من العامة أحدهما يدعي رق الآخر، وأنه ابن أمته، منذ زمان حتى عرفه الآن وهو في زي التجار. فأخذ الشيخ في ألطافهما ووعظهما فلا يلقى منهما إلا الإصرار فتفرس في المدعى قوة أدّته الى طول مراوضتهما فلعله يظفر ببغيته، فجعل يكلمهما معاً ومنفردين في الرجوع الى الحق فلا يغيبه، فكان فيما سأل عنه المدعي أن قال له: كيف كان اسمه عندك؟ فقال: رزق، قال فاكتم هذا، وكان قد تسمى بأحمد، وعاد الى شأنه من مراوضتهما الى أن أظهر الضجر وقال: أصرفهما يا غلام وعرف الحكم أني ما أجد على المدعي عليه حجة، ولا شبهة توجب شيئاً غير ضامن يأخذه عليه، الى أن يظهر غير هذا فانطلقا عنه، وقد علت المدعي فترة أكسبت العبد طمعاً ألقاه في الغفلة، فلما ولوه ظهرهما نادى الفقيه: يا رزق فلبّاه نعم يا سيدي، فقال له: طال ما أعييتنا يا كذا أطع مولاك وقال لمولاه: خذ بيد عبدك، فبهت العبد وانقاد لسيده فمضى معه. عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 بالشيخ أبو عمر فوقع أسفلها: هذا من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة. فلما رأى ابن تمام جوابه، قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات مالي وخذ حمامك. ومن غرائب فتاويه التي زاحم فيها ابن أبي عامر، قصة عبد الملك بن منذر البلوطي وكان يتولى الرد بقرطبة وكان من صنائع الحكم، فلما تغلب ابن أبي عامر على الأمر واتخذ لنفسه صنائع، وحجر على هشام الأمير وهويت قلوب الناس إليه فكانوا يتربصون به الدوائر، واجتمع جماعة من وجوه الناس على النكث بهذه الطبقة المستغربة، والبطش بهذا الخليفة المستضعف، والبطش بابن أبي عامر وقتله، والقيام بغيره. وكان ابن منذر المتولي لكبر القصة فوقع ابن أبي عامر على الخبر وعلى كتاب بخط ابن منذر في القصة، وجمع الفقهاء والقاضي ابن زرب للشورى في أمرهم. وقد أقر ابن منذر بالأمر على نفسه، وأن الكتاب خطه. فأفتى بعض الفقهاء فيهم بحكم المحاربة، لما سعوه من الفساد في الأرض. وتوقف آخرون، منهم القاضي وألحّ ابن أبي عامر، على أبي عمر ابن المكوى واضطره الى القول فيها. فقال: ما أرى عليه شيئاً، هو رجل همّ بمعصية فلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 يفعلها. ولم يجرد سيفاً، ولا أخاف سبيلاً. إنه ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فخرج أمر السلطان بعد ذلك بطلب ابن المنذر، فنفذ ذلك في الحين وانقبض ابن المكوى في داره، وادعى مرضاً نحواً من شهرين فلم يفتِ أحداً، ولا خرج لمن أتاه، إنكاراً لما جرى على صاحبهم، ابن المنذر. وإذ لم يؤخذ فيه برأيه وتوقعاً لشر ابن أبي عامر، الى أن تقادم العهد وخشي زيادة وحشة ابن أبي عامر، فعاد لحاله. ومن غرائب ذكائه وتلطفه، أن بعض الحكام وجه الى امرأة معها بنية تطلب فرضها من أبيها، والرجل ينكر أن تكون ابنته، فلم يزل به يعظه، ويخوفه، ويستلطفه، ولا تنفعه رأفة فيه، وكانت عادته الصبر في مثل هذا. الى أن أخذ أبو عمر الطفلة، وكانت حسنة الصورة، عليها فروة جديدة فأجلسها في حجره، وجعل يمسح عليها، ويثني على حسنها، ويترصد غفلة الرجل، الى أن رآه مطرقاً غافلاً فقال: حتى فروها مشاكل لها، أحسن في شرائه أخلف الله له، ثم قال له مستعجلاً بكم بالله اشتريته؟ فقال - من غير روية -: بعشرة دراهم فقال: أحسنت قم فأفرض لابنتك بأقل ما يلزمك كذا. فخجل الرجل وأذعن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 ومثل ذلك قصة أخرى في رجلين رفعا إليه من العامة أحدهما يدعي رق الآخر، وأنه ابن أمته، منذ زمان حتى عرفه الآن وهو في زي التجار. فأخذ الشيخ في ألطافهما ووعظهما فلا يلقى منهما إلا الإصرار فتفرس في المدعى قوة أدّته الى طول مراوضتهما فلعله يظفر ببغيته، فجعل يكلمهما معاً ومنفردين في الرجوع الى الحق فلا يغيبه، فكان فيما سأل عنه المدعي أن قال له: كيف كان اسمه عندك؟ فقال: رزق، قال فاكتم هذا، وكان قد تسمى بأحمد، وعاد الى شأنه من مراوضتهما الى أن أظهر الضجر وقال: أصرفهما يا غلام وعرف الحكم أني ما أجد على المدعي عليه حجة، ولا شبهة توجب شيئاً غير ضامن يأخذه عليه، الى أن يظهر غير هذا فانطلقا عنه، وقد علت المدعي فترة أكسبت العبد طمعاً ألقاه في الغفلة، فلما ولوه ظهرهما نادى الفقيه: يا رزق فلبّاه نعم يا سيدي، فقال له: طال ما أعييتنا يا كذا أطع مولاك وقال لمولاه: خذ بيد عبدك، فبهت العبد وانقاد لسيده فمضى معه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وفاته رضي الله عنه توفي أبو عمر رحمه الله أول انبعاث الفتنة البربرية بقرطبة، في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعماية فجأة. ويقال إن سبب موته ما جرى على أصحابه، زعماء قرطبة بني ذكوان عند نكبتهم، وتسييرهم عن الأندلس. وأعظم الناس ما جرى عليهم، وذهلوا لعظمهم في أنفسهم، فيقال إن موته كان بعد تسييرهم عن الأندلس بيوم والله أعلم. مولده سنة أربع وعشرين وثلاثماية وذكر ابن أخيه أبو الأصبغ قال: كان عمي من أشد الناس رضاء عن ابن المسيب وأحرصهم على اقتفاء أثره وسيرته، لا يزال يذكره ويحفظ أخباره، ويثني عليه. فلما احتضر رأيناه تبسم وسلم ويشير بإصبعه، ويقول انزل يا سيدي رضي الله عنك إلي الساعة أقوم معك - بكلام خفي - فسئل فقال: هذا سعيد بن المسيب معي جاءني، ثم قبض رحمه الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وترك ابناً اسمه عبد الله وليَ قضاء قرطبة أيام بني جهور بعد ولد ابن ذكوان، وكان صارماً في حكومته، عفيفاً مستقيماً، خلواً من المعرفة أجلس معه أبو عمر ابن القطان لفتواه، وتسديد أحكامه، وتوفي سنة تسع وأربعين. أبو محمد الأصيلي رحمه الله واسمه عبد الله بن ابراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر. قال ابن مفرج: أصله من كورة شذونة. وقال ابن الحذاء: أصله من الجزيرة الخضراء. وكان جده من مسالمة أهل الذمة، ورحل به الى أصيلا دخل من بلاد العدوة فسكنها. ونشأ أبو محمد بها وطلب العلم بالآفاق. ويقال بل ولد بأصيلا فيما قاله ابن عائد. قال ابن الفرضي: أخبرني أنه دخل قرطبة سنة اثنتين وأربعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 قال ابن الحذاء: وكان أبوه وراقاً للحكم. قال ابن عائد: تفقه أبو محمد بقرطبة منذ صباه بشيخيها اللؤلؤي وأبي ابراهيم وسمع ابن حزم وابن المشاط والقاضي ابن السليم وابن الأحمق وأبان بن عيسى بن دينار الأصغر ونظرائهم. وأخذ عن وهب بن مسرة الحجازي بوادي الحجارة، وعن ابن فحلون ببجانة. ورحل الى المشرق سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية. وقال ابن الفرضي: سنة إحدى وخمسين وثلاثماية فلقي شيوخ إفريقية كأبي العباس الإبياني التونسي وأبي العرب التميمي، وعلي بن مسرور، وعبد الله بن أبي زيد رحمه الله. وكتب عنه ابن أبي زيد عن شيوخه الأندلسيين، ولقي بمصر القاضي أبا الطاهر البغدادي، وابن رشيق، وحمزة الحافظ وأبا إسحاق ابن شعبان، ومحمد بن عبد الله بن زكريا النيسابوري وأبا أحمد بن المصف وغيرهم. وحجّ سنة ثلاث وخمسين فلقي بمكة أبا زيد المروزي، سمع منه البخاري وأبا بكر الآجري. وبالمدينة قاضيها أبا مروان المالكي، وسار الى العراق فلقي بها الأبهري رئيس المالكية، وأخذ عنه الأبهري أيضاً. وسمع من الدارقطني، وسمع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 منه الدارقطني أيضاً. وقد حدث عنه كثيراً في كتابه في الرواة عن مالك وسمع بها من أحمد بن يوسف ابن خلاد، وأبي علي الصواف، وأبي بكر الشافعي وغير واحد واضطرب بالمشرق مدة طويلة. قال أبو عمر ابن الحذاء: أقام بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً، وسمع ببغداد عرضته الثانية في البخاري، من ابن زيد، وسمعه أيضاً من أبي أحمد الجرجاني، وهما شيخاه في البخاري وعليهما يعتمد. قال في كتاب ابن مفرج: وسمع به الحكم وهو بالشرق مدة طويلة فأقبل الى الأندلس فلما وصل المرية مات الحكم، فانعكس أمل الأصيلي وبقي حائراً هائماً. نهض الى قرطبة ونشر بها علمه، فسار ذكره. وشرق به فقهاء البلد فبقي مدة مضاعاً حتى همّ بالانصراف الى المشرق، الى أن عرفه ابن أبي عامر فنوه به وأمر بإجراء الرزق عليه، باسم المقابلة. ثم ارتقت حاله بتقليده الشورى فنبّه حاله على غيره، انصرف الى الأندلس إثر موت الخليفة الحكم سنة ست وستين. فأقام بقرطبة وابن أبي عامر على غاية التعظيم له. وسمع منه عالم كثير وبه تفقه أبو عمران الفاسي وغيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 جمل من ثناء الجلة عليه وذكر علمه وفضله وشيء من فتاويه واختياراته قال أبو إسحاق الشيرازي: وممن انتهى إليه هذا الأمر من المالكية بالأندلس أبو محمد الأصيلي، وانتهت إليه الرئاسة، قال ابن عفيف: رحل وتفقه فاحتوى على علم عظيم، وقدم الأندلس ولا نظير له فيها في الفهم والنبل، قال غيره: كان من جلة العلماء نسيج وحده، رحل الى الأمصار ولقي الرجال وتفنن في الرأي ونقد الحديث وعلله وألف كتباً نافعة. قال ابن الفرضي: كان عالماً بالكلام والنظر منسوباً الى معرفة الحديث. وجمع كتاباً في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة سماه الدلائل، وحفظت عليه شيئاً - يعني فيما خالف فيه أهل الحديث - من العقود فذكرها. قال ابن الحذاء وذكره: لم ألق مثله في علمه بالحديث ومعانيه وعلله ورجاله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وقال ابن المهلب: وذكر مشيخته، فقال: فأجلّهم علماً، وفقهاً، وأثبتهم نقلاً، وأصحهم ضبطاً، وأرفعهم حالاً، وأعدلهم قولاً، أبو محمد الأصيلي. وقال ابن حيان: كان أبو محمد في حفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والإتقان للنقل، والبصر بالنقد، والحفظ للأصول، والحذق برأي أهل المدينة، والقيام بمذهب المالكية، والجدل فيه على أصول البغداديين، فرداً لا نظير له في زمانه. بلغني من غير واحد أنه وجد في كتب الدارقطني: حدثني أبو محمد الأصيلي ولم أرَ مثله. قال غيره: كان الأصيلي من حفاظ رأي مالك، والمتكلم على الأصول وترك التقليد، من أعلم الناس في الحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله، ويحض أصحابه عليه، ولا يرى أن من خلا من علمه فقيهاً على حال، ولما ورد أبو يحيى ابن الأشج من أهل المشرق وكان قد روى كتاب البخاري سئل إسماعه فقال: لا يراني الله أحدث به والأصيلي حي أبداً. فلما مات الأصيلي أسعف، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 قال أبو الوليد: لما دخلت القيروان أتيت أبا محمد ابن أبي زيد فقال لي: ما حاجتك؟ قلت: الأخذ عنك. فقال لي: ألم يقدم عليك الأصيلي؟ قلت: بلى، قال لي: تركت والله العلم وراءك، فكيف حاله مع أهل بلده؟ فأخبرته بظلمهم له، قال: جهلوا ما أتى به. وأتيت القابسي فجرى لي معه مثل ذلك. وقال لي مثل قوله. وأحضره ابن أبي عامر في جملة الفقهاء، فاستشارهم في أرض موقوفة على بعض كنائس أهل الذمة، أراد شراءها، فمنعه جماعة الفقهاء منها، غير الأصيلي وحده فإنه أفتاه بجوازه، واحتج لذلك. فرجع ابن صاعد منهم الى قوله. والأصيلي أيضاً أفتى لابن أبي عامر بجواز الصلاة، في العمارية التي كان يلزم الركوب فيها في أسفاره، وإباحة ذلك في الفريضة، دون النزول بالأرض إذا كانت صلاته إيماء للوجع الذي أصاب قدميه من علة النقرس، وهي إحدى روايتي ابن القاسم عن مالك. ولم يرَ غيره هذه الفتيا. ورأي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، التي هي أم المذهب منع ذلك حتى يباشر الأرض، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وكان يخطئ القول بنبوءة مريم أم عيسى عليهما السلام، ويقول: هي صدّيقة، ويرد القول بإتيان النساء في إعجازهن كراهة من غير تحريم، على أن الآثار في ذلك شديدة. وقد روي في بعضها التحريم ولعنة فاعله، وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء، ويثبت منها ما صح سنده أو كان بدعاء الصالحين. وقال المهلب: وكان يعمل بالمزارعة على الثلث والربع. ويرى ذلك ولا يقول بمنعها في المذهب، ويقول هي ألين مسائلنا وأضعفها، وحجته حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم في أن يزرعوها ويعملوها ولهم شطر ما يخرج منها، وما حكي عن عمر وجماعة أهل المدينة. وله كتاب الدلائل، ونوادر حديث، خمسة أجزاء، والانتصار، ورسالة المواعد المنتجزة، ورسالة الرد على من استحل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسالة الرد على ما شذ فيه الأندلسيون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 بقية أخباره رحمه الله وكانت بين الأصيلي وابن زرب القاضي، وأصحابه مشاحنة، أثارتها النفاسة، وعلو كعب الأصيلي في العلم، وأزراؤه عليهم، فأراد ابن أبي عامر صلاح حالهم بتفريقهم، فقلد الأصيلي قضاء سرقسطة، فدارت بين الأصيلي وواليها بين يدي ابن أبي عامر منافسة، ومحارجة لأشياء أنكرها عليه الأصيلي. وكان في خلق الأصيلي حرج وزعارة، فاستعفى من القضاء فعوفي، وقيل بل حلف الوالي أن لا يلي معه. فصرفه ابن أبي عامر عن القضاء، صرفاً جميلاً. وأراد حاجته الى قربه بالحضرة. فأقام رأساً في أهل الشورى بقرطبة، سيما بعد وفاة ابن زرب. فإنه استكملت رئاسته، حتى كان بالأندلس نظير ابن أبي زيد بالقيروان وعلى هديه، إلا أنه كان فيه ضجر شديد، يخرجه أوقات القيظ الى غير صفته. ذكر بعضهم أنه هنأه بالشورى حين تقلدها، فقال: لعن الله الشورى إن لم أرفعها، ولعنني إن رفعتني، ونحو هذا. وأبلغ عن القاضي ابن زرب رحمه الله يوماً كلاماً، عرض به فساءه، وحرك منه وانبعث من ضجره، ما شق جيبه غيظاً وتمثل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 لبستم ثياب الخز لما كفيتم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى وقوفاً بأطراف الفجاج وخيلنا ... تساقي كؤوس الموت يدعو بالقنا فلما أكلتم قتلنا بسلاحنا ... تحدث مكفي يعيب الذي كفى ويحكى أنه ناظر ابن أبي زيد يوماً في مسألة فاحمر مزاجه، فقال له ابن أبي زيد: قال خلاف قولك فلان. فقال: لو قالها فلان ما صدقته، أو لكان خطأ، أو نحو هذا من الكلام مما أسرف فيه، وغلا بفرط حرجه، فانتدب له البرادعي وتولاه ووجد للمقال سبيلاً وأنكر عليه كل من حضر ولكن تولى ذلك البرادعي، بفرط حرج منه هو أيضاً. فخرج الأصيلي. فكان ذلك سبب مقاطعته مجلس ابن أبي زيد. فيقال إن ابن أبي زيد قال للبرادعي: لقد حرمتنا فوائد الشيخ بإسرافك في الرد عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 ذكر وفاته رضي الله عنه توفي رحمه الله يوم الخميس، لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين. وكان جمعه مشهوداً. وجهزه المظفر ابن أبي عامر على عادته للفقهاء. وبعث الى ابنه أكفاناً له وحنوطاً من عنده، رعاية لمكانة من أبيه المنصور. فقبل ابنه كرامته. وجهز شيخه فيما كان أعده لنفسه. وكان أراد أن يدفن ليلاً ولا يعلم بجنازته، فرده عن ذلك صهره ابن أبي صفرة، وأوصى أن يدفن في خمسة أثواب. وكان آخر ما سمع منه لما احتضر: اللهم إنك قد وعدت بالجزاء عند كل مصيبة، ولا مصيبة عليّ أعظم من نفسي، فأحسن جزائي عنها يا أرحم الراحمين. ثم خفت. وكان قد أعد قبره لنفسه، يقف عليه ويتعظ به. وكان كثيراً ما يتخوف من سنة أربعماية، وما يجري فيها من الفتن. فذكر يوماً شأنها في مجلسه، ودعا الله تعالى أن يتوفاه قبلها، وابنه محمداً. وسأل من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 حضر التأمين. وأن ابنه محمداً حاضر كاره، ففعل من حضر ذلك. وأجيب دعاؤه، فتوفي عما قريب كما ذكرنا. وتوفي ابنه بعده بأعوام. وكان سنة أربعماية، فكان فيها من الفتن، وخراب الأندلس ما كان. عيسى بن محمد بن عبد الرحمن أبو الأصبع يعرف بابن الحشاء، وبابن المعلم. قرطبي. روى عن جماعة من الأندلسيين ورحل الى المشرق، فلقي الناس واتسعت معرفته، قال ابن عفيف: كان فيها من أهل الأدب والعلم، راسخاً في الرأي، بصيراً بالوثائق، ورعاً، منقبضاً، من خيار المسلمين، عامراً للمسجد الجامع لتفقيه الناس وفتياهم، بصيراً بالاختلاف، جميل اللقاء، إماماً في المذهب المالكي. ناظر الجلة في علم السنة. وعلا بغزارة علمه، وقدمه ابن زرب للشورى، فانتفع به، ودعي للقضاء مرتين فأبى. ولزم حاله الى أن مات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 قال ابن حيان: كان غزير العلم، معتنياً بالأخبار، حسن الأدب والفهم، كثير الحفظ، فصيحاً، عفيفاً، ورعاً مجانباً للسلطان. أراده المظفر والمهدي بعده عن القضاء ببعض الكور فأبى. ولم يقدر فيه على شيء، واستهدف بجفوتهما فوقي شرهما. وعاتبه ابن ذكوان في ذلك، وكان الذي هدى ابن عامر الى مكانه. وقال له: يقع الناس فيك. فقال: بلى. فبرر جفاه حيناً. ومات رحمه الله سنة اثنتين وأربعماية. فقدم موضعه للشورى ابن دحون. أحمد بن سعيد بن ابراهيم الهمداني أبو عمر. المعروف بابن الهندي، قرطبي. أخذ عن ابراهيم وظيفته، وسمع محمد بن أبي دليم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 قال ابن حيان: كان واحد عصره في علم الشروط لا نظير له، يعترف له بذلك فقهاء الأندلس. وله فيها كتاب مفيد جامع محتو على علم كثير وفقه جم، وعليه اعتماد الحكام والمفتين، وأهل الشروط بالأندلس والمغرب. إذ سلك فيها الطريق الواضح، وقد اختصره جماعة منهم. اعتنى به منهم القنازعي، وابن ذهل، وابن عبد الواحد، مع ما أضاف إليه. ولم يكن بالمرضي في دينه، ولا بالمقبول قوله، عديم المروءة. وذكرت فيه أشياء منكرة. وهو أحد من لاعن زوجته بالأندلس بعهد القاضي ابن السليم. وكان فكهاً حسن الحديث. وتوفي في رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثماية. وهو ابن ثمانين سنة. ولا أعلم روى عنه غير أبي بكر ابن سيرين وحمزة بن حاجب فإنه روى عنه تأليفه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 محمد بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن العطار، أبو عبد الله. قرطبي. قال ابن حيان: كان هذا الرجل متفنناً في علوم الإسلام، وثابتاً في الفقه، لا نظير له، حاذقاً بالشروط، وأملى فيها كتاباً عليه معول أهل زماننا. وكان يفضل فقهاء وقته بمعرفته بالنحو واللسان. فكان لا يزال يزري بأصحابه المفتيين، ويعجب بما عنده، الى أن تمالأوا عليه بالعداوة، وحملوا قاضيهم ابن زرب على إسقاطه، وقد استفسده بعد أن كان مقدماً في أصحابه، وهو الذي رقاه الى الشورى أول ولايته، فجرى له مع الفقهاء أخبار كثيرة. وذكر الفقيه أبو عبد الله ابن عتاب فقال: ومحل أبي عبد الله في العلم معروف، وهو به موصوف، ولقد كان فقيهاً موثقاً، لم يحفظ أنه أخذ عليها أجراً. قال ابن حيان: فلم يزل ابن العطار مع خصاله منقوص الحظ، وكان فريد فقهاء وقته مع توافرهم. أيام ضمهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 مجلس ابن أبي عامر الذي عقده للمناظرة في موطأ مالك رحمه الله. فقصر أكثرهم عن شأوه في تدقيق معانيه وغريبه، حتى شرقوا منه، وتلطف أحمد بن ذكوان الى صاحبه ابن أبي عامر عنه حتى قطعه، فاستجر الى جماعتهم. وكان الذي هيّج أحقادهم عليه، عجب فيه، وشكاسة في خلقه. ذكر بعضهم أنه حضر مجلس شورى، في مسألة اختلف فيها ابن العطار والوتد، وأمسك سائرهم لياذاً من ابن العطار، الى أن خرجا الى المهاجرة فقام عندها ابن المكوى والأصيلي منصرفين عنهم. وزاد الأمر بينهما الى أن حذب ابن العطار الوتد بالدراية، فحلف الفقهاء ألا يحضروا مع ابن العطار مجلس شورى. فكان الحكام يوجهون فيه وحده بعدهم. ذكر محنته رضي الله عنه قال ابن العطار: رأيت في المنام قبل محنتي كأني أنظر في المرآة، فأرى في جبهتي سطراً مكتوب: أنظر لنفسك أيها الإنسان ... سينالك النقصان والشنئان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وكنت أرى نعشاً يحمل، وموضع الجنازة قلم كنت أكتب به عرفته، فكان يدفن في القبر ويصلي عليه، فترحمت لذلك حتى جرت الحادثة، وكان السبب في مطالبة ابن زرب له ومساعدة أعدائه عليه، أن ابن العطار سبق بالفتح عليه يوم الجمعة في خطبته لتوقف عراه. فقال ابن زرب: وكفوا ألسنتكم عن الرفث، فلم يكد يقف، حتى قال ابن العطار: قبيح القول. وكانت معهودة من كلام ابن زرب: فنظره ابن زرب شزراً وقال: ودور الكلام وما عاد لتلك اللفظة الأولى بعدها في خطبة. ومضى في خطبته، وقد توقد عليه غضباً شغله في الصلاة. فأسقط من القراءة ففتح عليه ابن العطار أيضاً. فكانت حسبة مغيرة عليه. فأنكر ذلك من فعله وقال: هل سمعتم بخطيب فتح عليه، كان ذلك الكلام لا يبدل، أو نحو هذا. وسعى ابن العطار في استصلاحه فلم يقدر واستمسكت مديدة، لحسن رأي ابن أبي عامر فيه، الى أن سقط عنده، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 لقيه فأسلمه لابن زرب وأصحابه. وكان ابن العطار قد رد على ابن أبي عامر قولاً قاله، وذلك أنه حكى حكاية قال فيها: فلقنه بعينه أي أصابه - بالقاف - فنظر ابن العطار لخطابه ولم يكن يصبر عليها لشرهه. فاستطر بذكر حكاية من ذلك المعنى فلقنه بعينه - على الصواب - ففطن ابن أبي عامر لمراده وقال: لو علمنا سقوط الهيبة لاشترطنا حسن المجالسة، يدخل مَن على الباب من أرباب اللغة، فإذا بصاعد قد مثل فسأله، وقد كان الأمر ألقي إليه، فقال: يقال بالقاف والفاء والقاف أشهرهما فأخذ ابن أبي عامر حجة، وأقبل على توبيخ ابن العطار وتبكيته، وأمر بإخراجه، ومكن منه أعداءه، فقاموا في ذلك وحمل ابن زرب على كشف معايبه، الشاهد بما عندهم. فأتوا من ذلك بما أراده، إلا قوماً منهم ابن المكوى، وابن صاعد فأبوا ذلك وأنكروه. وسجل شهادتهم تلك وقد حوت عظائم من الجرح، اقتضت إسقاطه عن الشورى، والشهادة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 وأمضى ذلك ابن أبي عامر عليه وأوعد عليه بالانقباض عن الناس وإغلاق بابه. فجرى عليه مكروه عظيم ولم يزل ابن المكوى يذكر ما جرى عليه، ويتشنع ما شهد به عليه فيه، حتى غمص ابن زرب بسببه وقال: رفعه لغير الله ووضعه لغير الله. وقال حين دعي للشهادة: ما أعلم فيه جرحة أشهد بها، مع أنه كان يؤذيني في مجالس الشورى بلسانه. ولما نفذ السجل عليه كتب الى المنصور ابن أبي عامر: بالله والحاجب المنصور أعتصم ... من حاسد وبنصر الله أنتقم الظلم فيما رويناه ونعلمه ... يوم الحساب على أربابه ظلم والإفك والبغي معدولان عن رجل ... له حشاشة دين أو له كرم هل من رأى عجباً مثلي ومثلهم ... بأن تعاور الغربان والرخم وما لنا عندهم ذنب سوى حسد ... نيرانه داخل الأحشاء تضطرم وهي طويلة، تشكى فيها للمنصور، مدحه، وتلطفه، فدس فيه الوتد - عدوه - بيتاً في ذم القاضي ابن زرب أحفظه، وكان يقول: لو كنت شاعراً لأجبته. فأجابه الوتد على لسانه في الروي والقافية، ناقضه فيها وأفحش له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 ويقال إن ابن أبي عامر لم يهنى عليه ما بلغ منه، ولكنه استحيى قاضيه ابن زرب، ولم يمكنه من الحمية، واستأذن للحج فأذن له فرحل وقضى فرضه. واجتمع في طريقه هذا بجماعة من علماء الأمصار، فاعترفوا بفضله. وذكر في كتابه وجرت له معهم أثناء ذلك قصص من هنياته. فيحكي أنه سأل أبا محمد ابن أبي زيد رحمه الله، بالقيروان يوماً عن صلاة الناس بصلاة الإمام على قعيقعان وأبي قبيس، فأجابه بالجواب المنصوص في المسألة، أنه لا يجوز، فسأله من قال هذا، أو كيف قال؟ فاحتج له بنص المسألة في المدونة وكررها. فقال له: إنما وقعت مسألة المدونة، إذا صلى المأموم هنالك بصلاة الإمام في الحرم. ولم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن مسألة إذا كان الإمام والمأموم جميعاً هنالك، وهذا ما لا يخالف فيه أحد ولا يمنعه. ففطن الشيخ لما أراد من تعنيته، وأضرب عن كلامه في المسألة، إذ لم يظن هذا. وإنما أجابه عن المسألة المعروفة. ثم انصرف الى الأندلس. وقد مات ابن زرب، وقد كملت خصاله، ونقصت شكاسة خلقه، وكبر منه، واعتدلت حاله، فلاطف ابن أبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 عامر فانفسح له، ورحب به فحكي أنه قال يوماً لأهل مجلسه، إثر خروج ابن العطار: إني لأستحي من هذا الرجل، ولوددت لو تهيأ صرفه لحاله، وإباحة المسلمين الانتفاع به. فقال له بعضهم: وما يمنع من ذلك إذا أردته. قال: وكيف يحل تسجيل ابن زرب؟ فقال المتكلم: ليس يحل، ولكن يعارض بالشهادة لابن العطار باستقامة أحواله، وزيادته في الخير بعد التسجيل، وأنه أهل الفتوى فأنفذ الى ابن الشرفي، صاحب الشرطة النظر في القصة، فأظهرت وثيقة بصلاح ابن العطار، وأعيد الى طريقته، وصحة نزوعه عما نقم عليه، واقتدائه بالسلف. شهد فيها ثقاتهم وعلماؤهم. وقل من توقف عن الشهادة فيها وأثبت ابن الشرفي، ورفعت الى المنصور، فجمع أهل العلم فرأوا إسقاط السخطة عنه، ورده الى أفضل أحواله فنفذ. وعهد المؤيد الى القاضي ابن برطال، فأعاده الى حاله، واستقل من نكبته، ولزم القاضي وكبر عنده، ولولده ألّف كتابه في الوثائق المعروف، وأفرده ابن أبي عامر بالفتوى في أمور الجناية بين العمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 والرعية، وكان من أفتاه بالتجميع بجامع قصر الزاهرة، وخالف في ذلك أصحابه، والتزم الصلاة معه فيه، بقية مدته، والجلوس فيه للإقراء. وأقصر مع ذلك من غلوائه إلا فوارض يدرسها في أصحابه، خلال الفتوى، بفضله وزيادة أدبه. وكان أبعدهم له أحمد بن ذكوان، وبخاصة لما ولي القضاء. فإنه غض منه غضاً شديداً، وجعل ينكر صرفه الى الفتوى، بعد التسجيل، وجرت بينهما خطوب، وعلا لسان ابن ذكوان أيام عبد الملك المظفر، فازدادت غضاضة ابن العطار ودب ابن العطار لمطالبة ابن ذكوان أيام المهدي، فأعجلته المنية قبل تمكنه من ذلك رحمه الله. فصل من نوادر ابن العطار سئل ابن العطار عن مسألة من السهو في الصلاة، فأفتى فيها بسجود السهو، فقال له السائل: إن أصبغ بن الفرج الطائي، لم يرَ علي سجوداً، فرد عليه ابن العطار: كلا لا تطعه واسجد واقترب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 وبلغه أن ابن المكوى لم يشهد عليه، حين دعي الناس للشهادة بجرحه. فقال: كل يعمل على شاكلته، من قول الله تعالى، وكل إناء ينضح بما فيه. من قول العرب، والأمور بيد الله لا شريك له في حكمه، ولما سمع ابن العطار أن ابن صاعد لم يشهد عليه قال: هون عليك الخطب ... فالله فيما حاولوا حسبي فكان ابن صاعد يقول: من عذيري من ابن العطار، ما وجدت في رضاه حيلة. ولما بلغه ما شهد به عليه. قال: ستكتب شهادتهم ويسألون. ذكر ابن صاعد يوماً لابن العطار فاستصغر حفظه، فبلغ ابن صاعد. فقال: ما الذي أصنع معه؟ سالمته فلم أسلم. فقال ابن العطار: إن كان خالف الحق فقد أثم، وإن كان خالف المين فقد ظلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 وجاءت إليه جارية شاطرة ناشز على زوجها، فقالت: يا فقيه الحب إذا سقط كيف فقال: الهم من الألم وفي التعليل شفاء الغليل. وكان المنصور أمره بالمسير إليه كل يوم ثلاثاء يذاكره ويحدثه. فحضر يوماً منها وتعذر عليه الوصول لشغل المنصور فكتب إليه: يا من حكى بهديه لنا السلفْ ... عبدك بالباب ماثلاً يقف كل ثلاثاً يومُ زورته ... وهي العلا والفخار والشرف يدعو لك الله في البقاء ... وفي التأييد والنصر ثم ينصرف وكتب أبو بكر الزبيدي الى ابن العطار: يا عليماً بكل علمٍ عليّ، ناظراً ... فيه عن عيان خفي هل تجوز الصلاة خلف إمام ... ألكن أو تجوز خلف الخصي فأجابه ابن العطار: لا تجوز الصلاة خلف إمام ... ألكن بالقرآن جذم عيي وتجوز الصلاة في الغب ما لم ... يتصل منه ذاك خلف الخصي نسأل الله أن يوفق للحق ... بفعل ومنطق مرضي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 توفي ابن العطار عقب ذي الحجة، سنة تسع وتسعين وثلاثماية. وكان جمعه عظيماً. وانتاب قبره طلاب العلم أياماً، ختم قراؤهم على قبره القرآن ختمات وذلك أمر لم يعهد قبل بالأندلس. موسى الوتد رحمه الله هو موسى بن أحمد. ويقال ابن محمد بن سعيد بن الحسن اليحصبي قرطبي، يعرف بابن الوتد ويكنى بأبي محمد. سمع من قاسم بن محمد، وأحمد بن مطرف، ومحمد بن يحيى بن عبد العزيز ونظرائهم. وكان بصيراً بالشروط نبيلاً فيها، حافظاً، يقظاً، حازماً في أموره، حسن المعاملة مع إخوانه. وله حظ من تعبير الرؤيا، كتب لمحمد بن برطال أيام قضائه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 وقلد الشورى، وتصرف في دفع كتب المظالم الى المنصور. ودرس عليه الفقه. قال ابن الفرضي: وكان ينسب إليه تخليط كثير عرف منه، وشهر به، وتوفي في ربيع الأول المبارك سنة سبع وتسعين وثلاثماية. أصبغ بن الفرج بن فارس الطائي أبو القاسم، قرطبي، أحد أكابر علماء قرطبة، وزعماء مفتيها. قال ابن مفرج: كان فقيهاً جليلاً في الدولة العامرية، حافظاً بالمسألة بصيراً برأي مالك وأصحابه، عارفاً بالوثائق. ورحل فحج ولقي الناس بالمشرق. وكان من أكرم الناس عناية، وأعلاهم همة. وليَ قضاء بطليوس وثغورها. فحسنت سيرته. ثم لحقته من ابن أبي عامر غضاضة، بسبب مخالفته لهواه في الفتيا بالتجميع في الجامع الذي بناه في مدينته، بطرف قرطبة الشرقي، المسماة بالزاهرة. فإنه استشار في التجميع فيه الفقهاء، فمنعه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 من ذلك أكثرهم، إذ لا يجمع في مصرٍ واحدٍ في جامعين. ومضى أكثرهم على ذلك، وأفتى ابن العطار في قليل منهم بجواز ذلك، لاتساع البلد وعجز كثير ممن يسكن هنالك عن الوصول الى الجامع الأول. حتى قاسوا ما بين المسجدين، على أبعد الطرق بينهما، فوجدوه نحو الفرسخ. فامتثل ابن أبي عامر رأي من أجازه، على أنه لم يجمع به حتى مات قاضيه ابن زرب. وذهب من يستحيي منه، ودعا ابن أبي عامر أصبغ هذا، الى تولي الصلاة والخطبة بأهله. وكان ممن لم يرَ ذلك فامتنع. وقال: سبحان الله يا منصور أنا لا أرى الجمعة أقامت به، فكيف أقوم بها، والعرض مني كثير. فألزمه المنصور ذلك، وأظهر إكراهه عليه. فألح وامتنع، وأقسم على ذلك ولو ناله العقاب. فسخط عليه المنصور عندها، وعزله عن القضاء والفتيا. إلا أنه سلم من أذاه، وعاش بقية عمره مصوناً، الى أن مضى لسبيله. وكان ممن سخط عليه المنصور لذلك أيضاً، أبو بكر بن وافد، فأسخطه عن الشورى والشهادة، وألزمه داره. واحتصل الباقين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 من ابن ذكوان، والأصيلي، وابن المكوى، وابن صاعد، وابن جني، وابن الصفار. فلم يغير عليهم شيئاً. وجمع ابن العطار في هذا الجامع، وجلس فيه للفتيا، والتعليم والتفقه. وانفرد بالفتيا بين العمال والرعية. وجعل قوم من رؤساء الفقهاء، من سكان الربض الشرقي، جوار هذا الجامع يشهدون الصلاة فيه، ويعيدونها أصلاً، لئلا يحقد ابن أبي عامر عليهم، منهم الأصيلي، وابن صاعد، وابن الصفار، وابن جني. ولم يصنع ذلك ابنا ذكوان ثقة بمكانهما من ابن أبي عامر. فكان إذا احتاجهما، دعاهما إثر الصلاة. وتوفي أصبغ بن الفرج سنة سبع وتسعين وثلاثماية. عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن صاعد بن وثيق أبو المطرف. يقال جده صاعد معتق بني عبده، قرطبي. سمع بها من ابن الأحمر، وابن عيسى، وابن الخراز وغيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 وبالقيروان من ابن أبي زيد، والقابسي، رحمهما الله. قال ابن الفرضي: عني بحفظ الرأي والتفقه في المسائل، وقدم للشورى أيام ابن زرب. وكان حليماً، أديباً، نزيهاً عن المطامع. ووليَ قضاء شذونة. ثم استعفى. قال ابن حيان: كان من أهل العلم، والفقه، والديانة. قال ابن مفرج: كان فقيهاً فاضلاً، ديّناً فهماً، حافظاً كريم الأخلاق، حسن الصحبة، ذا أدب بارع، وجاه باذخ، كثير الصلاة والصدقة، والبكاء والخشية. كتب إليه بعض إخوانه: أيا عالماً فاق الأنام بعلمه ... وأربى عليهم بالسنى والفضائل فديتك هل يجري الطلاق لذاهل ... فرد أنت اليوم قطب المسائل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 فأجابه رحمه الله: إذا كان ذا فهم وطلق زوجه ... فقد لزم التطليق يا خير سائل فإن كان معتوهاً ولا عقل عنده ... يقيناً فلا طلاق لذاهل توفي رحمه الله تعالى، سنة تسعين، وهو كهل ابن تسع وأربعين سنة. أبو العاصي أمية بن أحمد بن حمزة القرشي المرواني قرطبي. كانت له من ابن أبي عامر خاصة، وكان يتقيه. وشاوره ابن زرب في الأحكام. وكان من وجوه أصحابه، وولي الشرطة، والأحكام. فجلس لذلك في الجامع، وكان شديداً سالماً انتفع به. مع الغفلة. تولى لابن أبي عامر من وجوه الإنفاق في سبيل الأمانات، في بناء الجوامع، والحصون، وتفريق الصدقات مالاً أحمله فما تعلق بمثقال ذرة، ولا ازداد كسبه درجة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 قال ابن الفرضي: وكان متأخراً في عمله وعقله. ومن غريب غفلاته، أنه صرف يوماً الى المنصور درهمين، زعم أنهما بقيا له من صدقة دفعها إليه يفرقها. وأنه لم يجد لمن يدفعهما، لعمومه، أهل الحاجة، فاستضحك المنصور. محمد بن أحمد بن محمد بن قادم بن زيد قرطبي مشهور، أبو عبد الله. سمع من قاسم بن أصبغ، وغير واحد. ورحل فسمع ببغداد أبا بكر الشافعي، وابن حمدان، والصواف. وأخذ عن السيرافي. وسمع أيضاً بالبصرة من غير واحد. وبمصر من ابن الورد، وحمزة، وابن أبي التمام. وتفقه عند ابن شعبان. وكان ينتحل مذهب مالك رضي الله عنه. وكان شاعراً محسناً حافظاً للخبر. وهذا كان الغالب عليه. قال ابن الفرضي رحمه الله: وكان مضعوفاً، غير ضابط لنفسه، ولا للسانه. وذكر أنه كان قاضياً. وكتب عنه غير واحد. قال: وكان أهلاً لذلك. توفي سنة ثمانين وثلاثمائة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 أحمد بن محمد بن عبد الله بن هاني العطار المعروف بابن اللباد، قرطبي. يكنى بأبي عمر. سمع هو وأبوه من قاسم بن أصبغ، وكان أبوه أحد العدول. وكتب عنه. قال ابن الفرضي: وكان أحمد فقيهاً. وقد كتب عنه أيضاً، ومات وأبوه حيّ. وتوفي أبوه سنة خمس وتسعين. محمد بن رادع بن محمد الضرير يكنى أبا عبد الله، قرطبي. له رحلة سمع فيها من القاضي المرواني بالمدينة، ومن الخزاعي بمكة، ومن العجيمي بالبصرة، قال ابن الفرضي: كان العجيمي يومئذ ابن مائة سنة وأربع وأربع سنين. وبقي بعد سماعه منه عاماً. وسمع ببغداد من الأبهري أبي بكر، وأخذ عنه كتبه، وسمع من غيره. وانصرف الى الأندلس وكفّ بصره. فقرئ عليه بعض كتب الأبهري، وابن أبي زيد رحمه الله. حدث عنه ابن الفرضي وغيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: الذي عرفته وذكره أئمة الصنعة، أن أبا إسحاق ابراهيم ابن علي العجيمي، توفي وهو ابن ماية سنة وثلاث سنين، وأنه لم يحدث حتى تمت له ماية سنة، وذلك أنه كان رأى في منامه أنه تعمّم، ودور على رأسه ماية وثلاث دورات. فعبر له أنه يعيش هذا القدر من السنين. فلم يحدث حتى بلغ المائة. ثم حدث فأراد السامعون اختبار عقله بعلو سنّه، فقرئ عليه القارئ يوماً: إن الجبان حتفه من فوقه ... كالكلب يحمي جلده بروقه فقال العجيمي: قل الثور يا ثور. فإن الكلب لا روق له. فسرّ الناس بثباته وصحة عقله. وكان العجيمي يروي عن القاضي اسماعيل كتبه، وعن غيره من الجلة رحمه الله تعالى. وتوفي ابن رادع سنة ثلاث وسبعين، وقيل أربع، وهو ابن ستين سنة. قاضي القضاة أبو العباس ابن ذكوان اسمه أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبد الله بن عبدوس بن ذكوان الأموي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 قال ابن الفرضي: أصلهم من جيان. قال ابن حيان: أصلهم فيما يقال من برابرة فحص البلوط ويتولون بني أمية. فلما انقضرت دولة بني أمية انتموا في قيس بن غيلان من سليم. وكان أبوه أبو بكر بن عبد الله من أهل العلم. وليَ خطة الرد بقرطبة، بعد طلب عبد الملك بن منذر صاحب الرد. وله مكانة من المنصور، وسمع قاسم بن أصبغ، وأحمد بن عبادة ونظرائهم. قال ابن الفرضي: وكان عاقلاً عالماً باللغة والنحو، حافظاً للمشاهد والأيام، ذا مروءة وافرة. وكانت وفاته سنة سبعين وثلاثماية. ونشأ ابنه العباس هذا أكمل رجالات الأندلس، وأتمهم عقلاً. كان من جلة أصحاب ابن زرب. وهو الذي قدمه للشورى، ثم ولاه ابن أبي عامر عند وفاة أبيه خطة الرد. ثم قضاء الجماعة، عند عزل ابن برطال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 قال ابن حيان: وكان صارماً في حكمه، محمود الطريقة، عاقلاً عاملاً بمذاهب المالكية. ذا عفاف ونزاهة وبراءة من الريبة، وبعد همة، وفرط هيبة وزكانة. فلقد كان في هذا الباب في مرتبة الخليفة، لم يقدر أحد ينقصه منها قلامة ظفر، مع اختلاف الدول، وحلول الفتن، الى أن فارق الحياة، وهو أعلى الناس محلاً. وذكر أبو الخيار الشنتريني الداودي، أبا العباس - وكان ما بينهما شيئاً - فقال: أبو العباس وما أبو العباس نظر في الفقه على مذهب مالك فأدرك طرفاً منه، إلا أنه لم يستجد في الحفظ، واكتسب بالدربة الحذق في الحكومة. وكان مع ذلك صليباً فهماً بعيداً من المداراة، حاد بالناس إجلاله عن مذاكرته، فلاذوا من مناظرته، بالتسليم والموافقة. وتحاموا السؤال منه وكان أكبر ما فيه عقله ورأيه. ولايته القضاء وخبره فيها مع العامرية وسيرته قد قدمنا أن الذي ولاه القضاء، المنصور ابن أبي عامر. وكان من جملة أصحابه وخواصه، ومحله منه فوق محل الوزراء يفاوضه في تدبير الملك وسائر شؤونه. لم يتخلف عنه في غزوة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 من غزواته، ولا فارقه في ظغن ولا إقامة. وكذلك كان حاله مع ولديه المظفر والمأمون بعده. قد تيمنوا برأيه وعرفوا النجاح في مشورته. وكان له داخل القصر بيت خاص به يأتيه آخر النهار. فيجلس فيه الى أن يخرج إليه ابن أبي عامر فيفاوضه في جميع ما يحتاج إليه. وربما بات عنده بالنزاهة وخفة الوطأة، حتى قيل إنه ما سأله قط على مكانته منه، حاجة لنفسه ولا لغيره بتصريح، مع كثرة ما انقضت على يديه من حوائج الناس. بل كان يعرض ما يحتاج إليه عرضاً كالمنكر أو المستحسن، يطّرد للبحث عنها. وكانت الصلاة والخطبة أيامه لابراهيم بن الشرفي الحاكم، الى أن فلج، فجمعت مع القضاء لابن ذكوان. ولم يزل على هذا الى أن هلك المنصور، وولي ابنه المظفر فزاده أثرة. الى أن فسد ما بين القاضي، وبين وزير الدولة، عيسى بن سعيد، بسبب فسخ شراء ضيعة اشتراها عيسى من ولد ابن السليم السفيه، فقضى ابن ذكوان بردها الى السفيه. وفسخ بيعه فالتحمت بينهما العداوة، وعمل عيسى في طلب ابن ذكوان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وجوه الحيلة، الى أن أوقع المظفر بخادمه الغالب على أمره طرفة فسعى عيسى به. وكانت لابن ذكوان من طرفة هذا ألطف منزلة. ونسب عيسى طرفة وأصحابه الى القدح في الملك. فقتل طرفة. ونكب أصحابه. واشتملت التهمة على بني ذكوان. ووجد عيسى للمقال سبيلاً، فصرف المظفر أبا العباس ابن ذكوان عن القضاء والصلاة. وصرف أخاه أبا حاتم عن المظالم. وساء رأيه فيهما. وولى مكانه القضاء والصلاة، عبد الرحمن ابن فطيس. فلم يقم - على استقامته واستقلاله - مقام ابن ذكوان، لتبريزه. فحن القضاء إليه، وأسف الناس على فقده، وحسن رأي عبد الملك عما قريب فيهما. فصرف أبا العباس الى خطته، بعد تسعة أشهر من عزله. بعد إلزام ورغبة، فازداد رفعة الى رفعته وسمت حاله عند المظفر، سيما عند اتهامه وزيره عيسى عدو ابن ذكوان بالقدح في دولته، وبطش المظفر به وقتله إياه. ففرغ مكانه لأبي العباس، واستراح منه. فلم يجر شيء من أمر المملكة إلا عن مشورة ابن ذكوان. الى أن هلك عبد الملك المظفر ووليَ أخوه عبد الرحمن. فرفع منزلته جداً. وولاه الوزارة مجموعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 الى القضاء. ولم يجتمعا قبل لأحد بالأندلس قبله. ولا خطط لقاضي القضاة بها أيضاً لأحد قبله. وإنما كانوا يتخططون بقضاء الجماعة. وانقرضت دولة بني عامر بقيام المهدي ابن عبد الجبار المرواني عليهم أول ملوك الفنتة. وكان أحقد الناس على ابن ذكوان، بخاصة تقربه من العامرية، ناقماً عليه أحكاماً أمضاها عليه في قضائه، فتوق عنه لجلالته في قلوب الخاصة والعامة، والتماساً للعثرة، الى أن عوجل المهدي فمضى لسبيله، ووقي شره. إلا أنه أزال عنه اسم قاضي القضاة. واقتصر به على قضاء الجماعة. قال: وكان ابن ذكوان ضابطاً للحق، صليباً فيه، لا تأخذه لومة لائم. وكان الناس والخصوم يلتزمون في مجلسه من الوقار وغضّ الصوت الغاية. وكانوا يقربون إليه الأول فالأول بأسمائهم، قد قيد ذلك في جريدة فمن ضاق عنه أول يوم الوصول، دفعت إليه رقعة ترتبه للغد، على الرسم القديم للقضاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 ومن نوادر الخبر أن أبا بحر أنس بن أحمد بن فرج الجياني الشاعر، خاصم عند أبي العباس وقتاً فجعل يرفع صوته، ويستطيل، ويحسر عن ساعديه، بخلاف الرسم، فنهاه أبو العباس عن ذلك وأمره بقبض ذراعه. فلما انقضى المجلس ناوله أبو محمد رقعة لوقته فيها: أسأت أبا العباس تأديباً ... فاتك معامله وقف علي فتكات تؤنبني إن لاح مني ساعدي ... مبسم في ظهر كل شدات ولست من الصنف الذي قيل فيهم ... ولم تك إن أنصفتني بصفاتي يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات فلما قرأها ابن ذكوان وجم. وقال: تكلم بكلتا يديك ورجليك فلا حرج عليك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 محنته ووفاته رحمه الله ولما قتل واضح - الصقلي الحاجب - المهدي، وبايع الناس لهشام المؤيد خلافته الثانية، وقام واضح بأمره وحجابته، والبرابرة مع سليمان المستعين يفاتنون قرطبة، ويرومون دخولها. وكان هوى بني ذكوان في جماعة الناس الى السلم وصلح البرابرة وصاحبهم. فيقال إن ابن ذكوان نصح لهشام في واضح فبلغت واضحاً. فسعى على بني ذكوان، بالتهمة في الميل الى البرابرة، وأن الناس تبع لما يشيرون به. فنفذ أمر هشام بإخراجهم عن الأندلس، ونفيهم الى العدوة. فأخرج أبو العباس وأخوه أبو حاتم وأخوهما الأديب أبو عمر. وذلك في سنة إحدى وأربعماية. ووكل بهم من يوصلهم، فحملوا الى المرية، وأجيزوا لحينهم البحر في حال شدة ارتجاجه، وعنِّف بهم، وخلفوا دوابهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وثيابهم، فكتبت سلامتهم. وخرجوا الى وهران. وقامت لنكبتهم بقرطبة القيامة، وعظم على الخاصة والعامة ما جرى عليهم. حتى تفزع جماعة من الأعيان لاستهوال الحادث عليهم، لفرط محنتهم وجلالتهم في القلوب. وأسرعت الإقالة لهم عما قريب. فلما قتل الجند واضحاً حسن الرأي فيهم فوجه فيهم، وعادوا الى وطنهم بالأندلس. إلا أنهم لم يعاودوا بعد العمل، ولا تقلدوا ولاية، مع تكرار الرغبة إليهم من جميع خلفاء الفتنة. بل كان رجال الولايات عن رأيهما، الى أن مات أبو العباس سنة ثلاث عشرة وأربعماية. ثم تلاه أبو حاتم أخوه، فاعتد أهل قرطبة المصيبة بهما كفاء ما جرى عليهم من المحن. وذهب من يستحيي منه. فاستوى الناس بعدهما فكانت مدة عمل أبي العباس على القضاء في الكرتين سبعة أعوام ونصفاً. وترك ابنه أبا بكر فجاء بعد منه خير خلف. وولي القضاء وسيأتي ذكره بعد هذا في طبقته. ورثى ابن الخياط الغرير أبا العباس: عفاءَ على الأيام بعد ابن ذكوان ... وقبحاً لدنيا غيّرت كل إحسان سأبكي دماً بعد الدموع بعبرة ... تغيّر أحزاني تعبر عن شان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وإن حياتي اليوم بعد وفاته ... دليل بأن الغدر في كل إنسان أحقاً سراج العلم أخمده الردى ... وهدم ركن الدين من بعد تبيان وغودر في دار البلى علم الهدى ... مزعزع آساس مضعضع أركان فشقت عليه المكرمات جيوبها ... وألقت رؤوس المجد عنها بتيجان وقال أبو عامر رحمه الله أخرى أولها: إذا لم تجد إلا الأسى لك صاحباً ... فلا تمنعنّ الدمع ينهل ساكبا هوت بأبي العباس شمس من التقى ... وأمسى شهاب الحق في الغرب غاربا أخوه أبو حاتم محمد بن عبد الله صاحب المظالم كان من جملة القضاة والحكام بعهد العامرية. عمل فيها أعمالاً جليلة بغير كورة. وتصرف في الأمانات. وولاه المظفر المظالم. فحمد في كل ذلك وكان يخلف أخاه أبا العباس على قضاء الجماعة، بقرطبة مدة مغيبه في المغازي مع السلطان. وتأيد مع أخيه على إعزاز الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 قال أبو حيان: كان أبو حاتم أطلق من أخيه لساناً، وله طبع في حسن الإيراد والامتناع. قال أبو الخيار الشنتريني: وذكره إثر ذكر أخيه قال: وأما أبو حاتم فتلوه في الصنعة ودونه في العلم، يختص بأدب وسط وعلم بالخبر وطيب بالمجلس. وله أوفر حظ من الدربة بالحكومة. وقد ذكرنا من أخباره ونكته في أخبار أخيه ما قدمناه. وتوفي أبو حاتم نصف شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربعماية. مولده سنة أربع وأربعين وثلاثماية. وترك ابنه حسناً أبا علي، فوليَ الحسبة بقرطبة في الفتنة، ثم أحكام القضاء. وكان ثقة عارفاً بالحكومة، ذا جزالة ونزاهة عاطلاً من العلم والأدب. قاضي القضاة ابن وافد رحمه الله تعالى أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي، قرطبي. سمع بها من أبي عيسي. قال ابن حيان: كان أحد من حاز كمال القضاة بالأندلس، علماً وهدياً ورجاحة وديناً، جامعاً لخلال الفضل. تقلد الشورى بعهد العامرية. فكان مبرزاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 في أهلها، وتقلد الصلاة بالزهراء مدة الى أن استعفاها. وقد ذكرنا في أخبار أصبغ بن الفرج الطائي، أنه كان ممن لا يرى التجميع بالزاهرة. وأبى من فتيا ابن أبي عامر بجوازه، حتى سخط عليه، كما فعل بأصبغ وعزله عن الشورى بعد. قال أبو الخيار الطاهري: كان ابن وافد مستبحراً في مذهب المالكية، حاذقاً بحفظ المسائل والأجوبة، من أكمل قضاة الأندلس، ولي القضاء والخطبة عند صرف ابن ذكوان ونكبته في الفتنة. ولقب بقاضي القضاة. قال ابن حسان: وكان حاضر العلم في مجالسته، كثير الإفادة، فصيح اللهجة، وكان شاعراً مطبوعاً. قرأت في انتخاب ابن مفرج: أهدى الفقيه ابن وافد الى الزبيدي في طبق ورد بكيراً وكتب معه إليه: أهديت شبهك منظرا ... في العالمين ومخبرا فتقبلن بدر الذي ... يرجو رضاك وذا حرا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 فأجابه الزبيدي: قد أتانا منك ما جانس ... أخلاقك فوحا طبق الورق الذي أهدى ... الى الأرواح روحا فأنا دهري عليه اعتنى ... بالشكر مدحا لم تزل في العلم يا يحيى ... على الأدواح دوحا محنته ومهلكه رحمه الله تعالى كان ابن وافد أحد الأشداء على البرابرة، وخليفتهم المستعين سليمان، وأكثر الناس نفاراً منهم، ومن البيعة لصاحبهم. والصلح معهم على خلع هشام المؤيد خليفة قرطبة. وقد حصلت قرطبة من ذلك في محنة، وشد البرابرة عليها قتالهم من كل جهة، وخربوا أفاءها وقطعوا مرافقها حتى رضي الناس بالدخول تحت طاعتهم وخلع هشام ومصالحتهم على ذلك وتقديم صاحبهم. وكان أبناء ذكوان ممن يرغب في ذلك في طائفة من الفقهاء والجلة، منهم ابن حوبيل، وابن الشقاق، وابن دحون. وكان ابن وافد شديد النفار والإبانة عن ذلك. مغرياً بهم العامة محرضاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 عليهم صلحهم والإنابة إليهم، معه على رأيه ابن الفخار في جماعة. فلما تغلب البربر على قرطبة، وتم الصلح وخلع هشام، وهم أحنق الناس على ابن وافد فاستخفى واشتد الطلب فيه فعثر عليه عند امرأة، فحمل راجلاً مكشوف الرأس مهاناً يقاد بعمامته في عنقه، والمنادي ينادي عليه: هذا قاضي النصارى، مسبب الفتنة وقائد الضلالة. وهو يقول: كذبت بفيك الحجر بل والله ولي المؤمنين، وعدو المارقين. أنتم والله شر مكاناً، والله أعلم بما تصفون، والناس تتقطع قلوبهم لما نزل به. فلقيه في هذه الحال بعض أعدائه فقال: كيف رأيت صنع الله بك؟ فقال: ما أتاهم قضاؤه كان ذلك في الكتاب مسطوراً. ولقيه بعض أصحابه فقال: ترى أن أبلغ أمرك أبا العباس ابن ذكوان، فإنه مقبول القول عند البرابرة؟ فقال لا حاجة لي في ذلك. فأدخل على المستعين سليمان بن الحكم في ذلك الوقت. فأكثر توبيخه وأغرته به البرابرة فأمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 بصلبه، وشرع في ذلك فاضطرب البلد له، ووردت عليه شفاعة أبيه الحكم، وشفاعات ابن ذكوان وابن حوبيل، وجماعة من الفقهاء والصالحين، الذين لا يرى ردهم يرغبون إليه في شأنه ويقبّحون إليه ما أمر به فيه، فرفع عنه الصلب والمثلة، وأمر بضمه الى المطبق وتثقيفه، فكان شديد الصبر في محبسه كثير التبسم والحديث متعاهداً لصلاح نفسه وجسمه من الاغتسال والاستياك والاستحداد حتى عذله بعض من جمعته وإياه المحنة في ذلك المكان على فعله، فقال له: وما لي لا أتهيأ للقدوم على ما لابد لي منه واصل الراحة؟ والله إني لا أرجو غادياً أو رائحاً. وسواكي طواي وجسمي نقي. أو نحو هذا. وكان السلطان يجري وظيفته على من فيه. وكان ابن وافد لا يأكلها معهم. ولم يبعد رحمه الله أن اعتل في مجلسه فمات. فتكلم الناس أن حيلة وقعت عليه، فالله أعلم. فأخرج ميتاً في نعش منتصف ذي الحجة سنة أربع وأربعماية. فوضعه الأعوان بالميضآت موضع غسل المحاويج، فاحتمله قوم الى دار صهره ابن الأعرش الفقيه فسد الباب في وجه النعش تقية. وسمع الزاهد حماد بن عمار بالقصة، فبادره وصار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 بنعشه الى منزله فقام بأمره. وكان من عجيب الاتفاق أن ابن وافد كان أودع عند هذا الصالح كفنه وحنوطه وقارورة من ماء زمزم لجهازه. فتم مراده. وعدت من كراماته. وجاء بنعشه فصلى عليه في طائفة من العامة عند باب الجامع ثم ساروا به فواروه. وامتنع من يعرف ممن شهد الجامع من الصلاة تقيه. وكانت مدة عمله للقضاء في الكرتين والمصرتين عشرين شهراً. وولده الوزير ابن وافد الطبيب المشهور المعترف بإمامته في علمه وصحة نظره ومنفعته بحرفته وله في هذا العلم تأليف مشهور منتفع به. أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس من مشاهير علماء القرطبيين وجلتهم وفضلائهم وكان الغالب عليه الحديث، سمع ابن الأحمر وأبا عيسى وطبقتهما، وبعدهم أبا عبد الله بن مهدي حدث عنه حاتم الطرابلسي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 قال أبو محمد بن حزم وكان وليَ القضاء والمظالم بقرطبة، وكان واحد زمانه في جمع الحديث وروايته، ولم يكن بعهد المستنصر أجمع منه ولا أعرف بما يجمع، ولم يكن بالأندلس من يملي الحديث من حفظه على رسم أهل المشرق وسواه أحد من أئمة السنن. قال أبو حيان كان مشهوراً بالزهد والفقه والصلابة. فقلد المظالم والأحكام لابن أبي عامر المنصور ومن بعده، فقام بها أحسن قيام ووليَ قضاء الجماعة للمظفر عند صرف ابن ذكوان الأول تسعة أشهر، وغلب عليه الحديث والبصر به وأسماء الرواة، وتوفي سنة أربعين وثلاثماية. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان من أبناء الدنيا فلما وليَ القضاء وترك زي الوزارة ولزم زياً أخضر - زي الفقهاء - وكان عدلاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 شديداً في أحكامه عالماً بالحديث والتقييد. ذكر أنه لما ولي القضاء دخل عليه ابن العطار مهنئاً، وكان ابن ذكوان عدوه، فقال: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة، وصرفهما عن أهل الكفر والجهل وجعلهما في أهل العلم والفضل، ونحو هذا من الكلام، فلم يمضِ إلا مدة حتى سئل ابن العطار فقال: عدو عاقل خير من صديق أحمق. ولما رضي المظفر عن ابن ذكر ذكوان صرف ابن فطيس عن قضاء الجماعة، ورد إليها ابن ذكوان رحمه الله وخطط بالوزارة تنويهاً به. أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى ابن أبي زمنين المري البيري أصله من العدوة من نفزة، تفقه بقرطبة عند أبي ابراهيم، وسمع منه ومن وهب بن مسرة، وابن الجزار القروي، وابن المشاط، وأبان بن عيسى بن محمد، وأحمد بن حزم، وابن فحلون، وابن الأحمر، وابن العطار صاحب الورد. وسمع من أبيه، ومحمد بن قاسم بن هلال. تفقه به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 أهل بلده وغيرهم. وحدث عنه أبو زكريا القلعي، وأبو عمر ابن الحذاء، وحكم ابن محمد، وهشام بن سوار، والقاضي يونس وحسين بن غسان، وأبو عبد الله ابن الحصار. قال ابن عفيف: كان من كبار المحدثين والفقهاء الراسخين في العلم. قال ابن مفرج: كان من أجلّ أهل وقته حفظاً للرأي ومعرفة بالحديث، واختلاف العلماء، وافتناناً في الأدب والأخبار، وقرض الشعر، الى زهد وورع واقتفاء لآثار السلف، وكثرة العمل والبكاء والصدقة والمواساة بماله وبجاهه. وبيان ولهجة، وما رأيت قبله ولا بعده مثله، قدم قرطبة، فسمع منه بها الناس سنة ثمان وسبعين. قال الخولاني: كان رجلاً زاهداً صالحاً من أهل الحفظ والعلم. آخذاً في المسائل، قائماً بها، متقشفاً واعظاً له أشعار حسان في الزهد والحكم، له رواية واسعة. وكان حسن التأليف، مليح التصنيف، مفيد الكتب في كل فن، ككتابه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 المغرب في اختصار المدونة وشرح مشكلها، والتفقه في نكت منها ليس في مختصراتها مثله باتفاق. قال ابن سهل: هو أفضل مختصرات المدونة وأقربها ألفاظاً ومعاني لها، وكتاب المنتخب في الأحكام الذي ظهرت منفعته، وطار بالمشرق والمغرب ذكره، وكتاب المهذب في اختصار شرح ابن قرين للموطأ، وكتاب المشتمل في علم الوثائق، وكتاب مختصر تفسير ابن سلام للقرآن، وكتاب حياة القلوب في الرقائق والزهد، وكتاب أنس المريد في مثله، وكتاب أدب الإسلام، وكتاب أصول السنّة، وكتاب قدوة الغازي، وكتاب منتخب الدعاء، وكتاب المواعظ، وكتاب النصائح المنظومة من شره. وله شر في المواعظ والرقائق والزهد كثير جداً حسن فمنه قوله: أيها المرء إن دنياك بحر ... طامح موجه فلا تأمننها وطريق النجاة منها مبين ... وهو أخذ الكفاف والقوت منها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وقوله: خليلي أنا للذي تعلمانه ... زمان التصابي وانطلاق عنانه شديد الجوى جم الأسى محرق ال ... حشى فهل من مجير مخبر بأمانه وإني مجير عند من قد عصيته ... فيا أسفي إن لم يجد بحنانه وقوله: وذي دوعة راحت زفراته ... إذا ما سطت في قلبه خطراته له في دجى الأظلام خلوة مخلص ... تذكره فيها الجحيم هناته إذا ما تلا التنزيل وانكشفت ... له عجائبه زادت له عبراته وإن لحظت عين المبين سعادة ... سعت خوفه من مائها لحظاته بنفسي وليّ أنسه بمليكه ... وفي ذكره أصباحه وبياته وتوفي بالبيرة سنة تسع وتسعين وثلاثماية. مولده آخر سنة أربع وعشرين وثلاثماية. وخلف ابناً من الصالحين اسمه أحمد رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 أبو عمر أحمد بن يحيى بن سعيد بن الحديدي الطليطلي قال صاعد بن أحمد بن صاعد: من بيوت الشرف والعلم بطليطلة بيت آل الحديدي. وكان كبيرهم أبو عمر هذا فقيهاً ذا رئاسة جليلة في بلده، وذا مكانة من الفقه والعفاف والثروة. وتلاه في حاله ولده بعده. أبو موسى ابن أبي الحزم ابن جهور المرشاني من أهل سبحه، قال ابن حيان كان فقيه بلده ووجهه، مشهوراً بالعفة والعلم. قتله البرابرة سنة سبع وعشرين وأربعماية. قال ابن عفيف وهو من ذرية أبي موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري رواية مالك بن أنس. أخوه أبو الوكيل. سمع منهما الناس ببلدهما بقرطبة، وأبو عمر ولد أبي الوكيل منهما حجّ وروى العلم، رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 أبو بكر محمد بن موهب التجيبي الحصار المعروف بالقبري. قرطبي مشهور، وهو جد القاضي أبو الوليد الباجي كان من العلماء الزهّاد الفضلاء. أخذ ببلده عن أحمد بن ثابت، وابن قطن وأحمد بن هلال، وأبي محمد الباجي وغيرهم. ورحل الى المشرق فسمع من رجاله، وصحب أبا محمد ابن أبي زيد رحمه الله، واختص به وحمل عنه تواليفه وغير ذلك، وكان القاضي ابن ذكوان يقدمه على فقهاء وقته وعلى نفسه ويرغب دعاءه. وكان الأصيلي يعرف حقه ويثني عليه، وغلب عليه الكلام والجدل على نصرة مذهب أهل السنّة، والتواليف في ذلك، إلا أنه كان يخل بعلمه عدم معرفته اللسان. وذكره الجياني أبو علي شيخنا فقال: أحد الفضلاء العلماء حدث عنه أبو بكر بن الغراف، واسماعيل بن حمزة السبتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 قال ابن حسان: وكان شديد الورع والزهد مجتنباً للسلطان اشترى يوماً تيناً فلما عده عليه بايعه، أقبل يثني له عليه أنه يشرب من ناعورة السلطان، فترك التين عنده ودفع إليه ثمنه، وقال لبائعه: أمسكه الى أن أقضي حاجة فإن أبطأت عليك فتصدق به ومضى لسبيله. واستدعاه المستعين صاحب البرابرة، فأجابه مع مجانبته لمن قبله، ودخل عليه بعد أن استعفاه من تقبيل يده الذي جرت به عادتهم فأعفاه وزاد تكرمته، وله في العقائد تواليف كثيرة مفيدة وله شرح رسالة شيخه أبي محمد ابن أبي زيد رحمهما الله. ذكر محنته رضي الله عنه كان أبو بكر هذا لتعلقه بهذه العلوم النظرية الغريبة بالأندلس مشوماً عند كثير من الفقهاء بقرطبة، سيما من لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 يتعلق منهم من العلم بغير الفقه ورواية الحديث، ولم يحضر في شيء من النظر. وكان أبو عون الله شيخ المحدثين في طائفة من أصحابه، منهم أبو عمر الطلمنكي تلميذه، قد أغروا به فجرت بينه وبينهم قصص ومجاوبات في مسألة الكرامات، فإن ابن وهب كان يذهب فيها مذهب شيخه أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، في إنكار الغلو فيه. وكان أولئك يجوزونها ويسعون في رواية أشياء كثيرة منها، وكان يثبت نبوءة النساء ويقول بصحة نبوءة مريم وبإحالة بقاء الخضر عليه السلام أبد الآبدين. فجرت بينهم في هذه المسائل فتن لاسيما عند موت ابن عون الله تداركها ابن أبي عامر، فسير جماعة من الطائفتين عن الأندلس الى العدوة فيهم ابن القبري هذا، مع طائفة من أضداده. وكان الأصيلي وابن ذكوان في طائفة من نحارير العلماء في حزب القبري، وجماعة الفقهاء والمحدثين في الحزب الآخر. فخرج القبري إذ ذاك الى العدوة وبقي فيها مدة أخذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 عنه بها، وأراه أقام ببلدنا مدة، وبها أخذ عنه اسماعيل بن حمزة كتبه وكتب الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، ثم راجع الأندلس خفية فورد قرطبة متستراً، فرمى بنفسه على الأصيلي، ففزع الأصيلي لذلك، لسطوة ابن أبي عامر فوبخه القبري وقال له: افعل ما بدا لك فعلى الله توكيلي أو نحو هذا، فأعلم الأصيلي ابن أبي عامر بالأمر وأنه لم يعرف به حتى ورد عليه ورفعه إليه، فعفا عنه ولزم قرطبة ممسكاً لسانه بقية دولتهم، وتوفي بقرطبة سنة ست وأربعماية. أبو عثمان سعيد بن محسن الغاسل من أصحاب ابن زرب والمتفقهين عنده، قال ابن حيان، وقلد الشورى بقرطبة ودخل السلطان وعمل في القضاء، فلم يحمد ولم يكن بالقوي في علمه. وكان يختص بغسل موتى أولي النباهة. توفي في ذي القعدة سنة إحدى وأربعماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن ابراهيم الحضرمي المعروف بابن الشرفي الخولاني. كان قديم الصيانة، إماماً في الرواية والعلم. قائماً بذلك قوياً عليه، مجتهداً فيه، من النقاد، متسنناً، على تقوى وسمت، ذكياً نبيلاً حافظاً حسن الإيراد. قال ابن الفرضي وأبو عبد الله: من أهل الفضل والعبادة والعلم بالقرآن. سمع أبو إسحاق من أحمد بن سعيد ابن حزم، وأحمد بن مطرف، ومحمد بن أحمد بن قاسم بن هلال وأبي إسحاق عيسى، وأبي ابراهيم التجيبي، وابن أبي العطاف، وابن الخراز. قال ابن حيان: كان أحد رجالات قرطبة المعدودين في الجزالة والرجولة مع جودة المعرفة وغزارة العلم ومتانة الخطابة، والسداد في الحكومة مع الصلابة والنزاهة. وليَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 الشرطة والأحكام بقرطبة والصلاة والخطبة بجامعها مع المواريث. وكان ابن أبي عامر يسترجحه ويباهي به. ويذكر عنه أنه قال: في أصحابي رجل بصير بدنياه يصلح لكل خطة، من مكاني بالحجابة الى مكان بوابي فلان فما بينهما، من ذوي منزلة، ومشتغل بكل أمر، ويصلح لكل خطة فإذا استفسر عنه قال هو ابن الشرفي، وكان من ثقاته وخواصه، سمع منه عالم عظيم من الناس، وكان يتولى القراءة بنفسه فكان يكمل في ميعاده ما بين الظهر والعصر كل يوم اثنين وخميس جزءاً لدربته في القراءة. قال ابن حيان ولم ينتقل - مع ما ناله من حظوة - عن سنن التواضع والاقتصاد. وله في التسحير أخبار عجيبة منها: أنه ما ارتبط لنفسه دابة قط، خوفاً لمؤنتها، وإنما كان يمتطي دواب ابن أبي عامر ترتبط له بنوبة. ويكتري ما احتاج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 إليه، وأصابه فالج عطله، قبل موته نحو ثلاثين شهراً، فكان لا ينطق بغير: لا إله إلا الله. ولا يكتب غير: بسم الله الرحمن الرحيم. لا يقدر على غير ذلك، آية من الله. بعد أن كان فيهما طرفاً. توفي في نصف شعبان سنة ست وتسعين. أحمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن الكلاعي المعلم. من أهل قطربة، يعرف بابن الضحى، يكنى أبا عمر. وكان فقيهاً عالماً بالمسائل، عاقداً للشروط، سمع من ابن عيسى، ومسلمة بن محمد، وشكور الطليطلي، وغيرهم. وكان يجتمع إليه في التفقه ويقرأ عليه، وكان على سنة وقوان طريقة. توفي فجأة في جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وثلاثماية. وكان الثناء عليه حسناً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر المعروف بابن الحصار. قرطبي كنيته أبو العباس. وهو والد القاضي أبي المطرف بن بشر، مولى لابن فطيس، سمع من قاسم بن أصبغ، وابن أبي دليم، ومسلمة بن قاسم، وخالد بن سعيد، ومحمد بن عيسى وغيرهم. وكان كثير السماع مشهوراً بطلب الحديث يعقد الشروط، ويفتي ويحدث. سمع منه كثير روى عنه ابنه وابن نبات. قال ابن حيان كان فقيهاً راوية. قال ابن الفرضي: ولم يكن بالضابط لكتبه. توفي في شعبان سنة اثنتين وتسعين وثلاثماية. وهو ابن وست وأربعين وكان أعور. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 أحمد بن عبد الله بن الحسن قرطبي. أبو عمر، سمع من قاسم ابن أصبغ وغيره. واستقضي بكورة ريّة، الى أن توفي. وكان مشاوراً. وكتب عنه فيما قيل. توفي آخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. وهب بن محمد بن محمود بن اسماعيل بن عبد الله بن جني الأموي قرطبي. أبو الحزم، سمع من قاسم بن أصبغ، ووهب بن مسرة وغيرهما. وكان حافظاً للرأي شاوره ابن السليم، أيام قضائه. ولم يشاور ابن زرب. كان شيخاً صالحاً كثير الصلاة والملازمة للجامع، يجتمع إليه فيه، ويستفتى، وقد حدث. توفي سنة إحدى وتسعين رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني المعروف بابن المشاط. قرطبي. في كتاب ابن مفرج: كان من أهل العلم والفهم أديباً بصيراً بزمانه. وليَ الشورى والوثائق للسلطان، وقضاء استجة، واشبونه وقرمونه. ولاّه جميع ذلك ابن أبي عامر. ثم صرفه عنه وولاه أحكام السوق، وقضاء جيان، ثم قضاء بلنسية، وقلده التاريخ، فجمع كتابه الباهر، وكان حاملاً لما قلده، ذا جاه ومنزلة. حسن المنطق والصوت مليح الإيراد. قال ابن حيان: وتوفي في مجلس نظره أيام المظفر سنة ست وتسعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 أبو العباس الباغاني رحمه الله واسمه أحمد بن علي بن أحمد المغربي. قال ابن حيان: ربانياً في علوم الإسلام. جمّ الرواية شديد الحفظ، آية في ذلك. لم يخلف بعده أحد يقربه في علوم القرآن. وهي كانت الغالبة عليه. وكان بحراً من بحار العلم، وله تأليف في أحكام القرآن، وكانت له خاصة من العامرية. وقدم للشورى أثر موت ابن المكوى، فلم يطل أمره. وكان أبو عبد الله بن عتاب يستحسن تأليفه في الأحكام، وقرأه عليه. وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وأربعماية. وهي سنة ابن الكوى وابنه أبو بكر خلفه، بجامع قرطبة للإقراء. وكان حسن التلاوة ذا حظ من الفقه، وبصيراً بالشروط، طاهر الثوب. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد البكري المعروف بابن عجب. أبو المطرف، قرطبي. قال ابن حيان: كان أحد الحفاظ للمسائل، المتبحرين في الرأي. ووليَ الشورى والأحباس لابن ذكوان، وكان أحد أصحابه. توفي رحمه الله أول سنة أربع وأربعماية. أبو عبد الله الحسن بن جني بن عبد الملك بن جني التجيبي قرطبي. طلب العلم بالأندلس ورحل فحجّ، وتردد في الشرق فسمع الآجري، وانصرف الى الأندلس، فقدمه ابن زرب للشورى، وتقلد القضاء بجهات، والوثائق، للعامرية. قال ابن حيان: ولم يكن بالبارع في فقهه ولا بالمحمود في شيء من أمره. وكان مفرط القصر، ولذلك كان ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 المنتحيلي ذو النوادر العجيبة يسميه بالقصير كله، واستهواه حب الدنيا فارتكس في الفتنة، مع المهدي ابن عبد الجبار. وكان أحد دعاته فاستوزره عند ظهوره وقلده المظالم. فأخلد الى الأرض واعداً ردع هشام المخلوع مدة؟ وكان محمد ابن أبي عامر يتفرس فيه ويقول له: إنه يموت على فتنة. ولما انقرضت دولة المهدي، لجأ الى الاستخفاء، والطلب عليه شديد الى أن وجد سبحاً في بعض المقابر، قد استخرج من استخفائه ميتاً فوق نعش، على صدره رقعة فيها خبره. فرفع أمره الى السلطان. فأمر بمعاناته ودفنع. وذلك في آخر سنة إحدى وأربعماية. عبد الرحمن بن عبد الله الترجالي أبو بكر من بيت نبيه بقرطبة، في أصحاب السلطان. كان خيراً فاضلاً حليماً، طاهراً، ديّناً، كثير الخير والمعروف، طويل الصلاة. يقال إن قدميه تقطرتا صديداً من طول قيامه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 قال ابن الفرضي: سمعت محمد بن يحيى بن عبد العزيز يقول: وقد خرج من عنده، وقد أتاه عائداً: ما أعرف أحداً يصلح للقضاء غير هذا الرجل. وقال سليمان بن أيوب: كان أولى بالقضاء من ابن أبي عيسى وغيره. ثم قال: هذا الذكر يغار له الناس. واستوزره الحكم أمير المؤمنين تنويهاً بمكانه. فلم تستهوه الدنيا بحال. ومات وهو مخطط بالوزارة في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثماية. عبد الله بن محمد الصابوني المعروف بابن بركة، قرطبي. يكنى بأبي محمد، مولى بني مروان لآل الأحمر. ويقال مولى للفهريين. وغلب عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 اسم أمة بركة مولاة ابن القاسم سمع ابن الأحمر، وابن حزم، وابن مطرف، وتفقه. قال ابن مفرج: وكان من أهل الحفظ للفقه والحذق به، وليَ الشورى أيام ابن زرب. وكان عالماً بالوثائق، وقال ابن الفرضي: كان قليل العلم ولم يزل مشاوراً الى أن مات. قال غيره: كان حسن التأني للناس والإصلاح بينهم، حتى كان الحكام يوجهون إليه المتشاكين من الخصوم لحسن وساطته، وكان له دكاكين يصنع فيها خدمته الصابون، ومنه عيشه. توفي في سنة ثمان وسبعين وثلاثماية ويقال ثلاث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 أبو عبد الله محمد بن طاهر بن أبي الحسام المعروف بالشهيد القيسي. التدميري. من بيوتات الشرف ببلده. قال ابن مفرج وغيره: وكان من عظماء الأندلسيين، بعيد الصيت في الخير والصلاح والانقطاع الى الله تعالى. طلب العلم ببلده، ومن شيوخه. وبقرطبة من العابدي، وابن مفرج وغيرهما وتفقه وأخذ بحظ وافر من علم الرأي، ورسخ في علم السنة. وبالغ في صالح العمل، وحجّ وجاور في الحرمين ثمانية أعوام. فلقي هناك العلماء والصالحين، وسمع منهم وصار الى العراق للقاء أبي بكر الأبهري. فتفقه معه ودخل واسط، فلقي العلماء والنساك، واقتدى بآثارهم، ولبس الصوف، وأعرض عن شهواته. وكان عيشه تلك المدة من الوراقة، فإذا سئم منها أجر نفسه في الخدمة. وكان أعظم علمه الورع والتشدد فيه، وله سؤالات في وجوه المكاسب، سألها عنه مصنفها وجريت منه دعوات مستجابة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 قال ابن الفرضي: وظهرت له بالشرق إجابات وكرامات وذكره هناك مشهور. وانصرف الى بلده مجيباً لدعوة والده، إذ كان في الحياة، فتنكب مدينة مرسية، ولقيه قبل، فنزل خارجاً منها في قرية بني طاهر. وكان لا يرى سكناها ولا الصلاة فيها في جامعها، واتخذ لنفسه خيصة من شعر البقر واعتمر جنينة له هناك، يقتات من تينها، ثم نزع الى الجهاد فلازم الثغور، وحسن أثره في العدو وشهر بالبأس الى أن استشهد رحمه الله، سنة تسع، فيما قاله ابن مفرج. وصحح ابن الفرضي أنه سنة ثمان، وله كتاب في الإجابات والكرامات أخذ عنه. عيسى بن العلاء أبو الأصبغ تدميري عني بالعلم، وسمع من ابن عائد وغيره، ورحل الى الشرق. وكان موصوفاً بالفقه مستفتى بموضعه. توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 أبو عبد الله بن الجالطي واسمه محمد بن قاسم بن محمد الفراء. سمع القرشي وابن الأحمر وطبقته، بقرطبة. ورحل الى المشرق، وصحب القاضي أبو عبد الله ابن الحذاء في السماع هناك. ولقي جماعة وانصرف، فوليَ بقرطبة الحكم بالشرطة والصلاة والخطبة بالزهراء مدينة السلطان. وقدّم الى الشورى أيام المظفر. قال ابن الحصار: كان ممن عني بالعلم، وشهر بالفهم، وكان نظاراً معدوداً في الحذاق. قال ابن حيان: كان محمود الطريقة في حكمه، رفيع المنزلة في علمه، قتله البرابر يوم دخولهم قرطبة. في شوال سنة ثلاث وأربعماية. فبقي مطروحاً ثلاثة أيام الى أن اصطلح الناس فووري وفعل به ما يفعل بالشهداء. سمع منه أبو عمر ابن عبد البر الحافظ وابن الحصار وغيرهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 يوسف بن محمد بن عمر بن يوسف بن عمروس استجي. يكنى بأبي عمر من أهل بيت علم وجلالة بموضعه. تقدم ذكر أبيه وجده. سمع من قاسم ابن أصبغ كثيراً، ومحمد بن أبي دليم، وابن الأحمر وغيرهم. وكان حافظاً للمسائل، رأساً في فتيا موضعه. له حظ من التهجد بالقرآن. وحدث وسمع منه غير واحد. حدث عنه ابن الفرضي، رضي الله عنه. توفي سنة ثلاث وتسعين ومولده سنة عشرين وثلاثماية. أبو عمر أحمد بن عبد الله الباجي ولد الشيخ أبي محمد، إشبيلي. من أنبه بيت بها في العلم تقدم ذكرهم عند ذكر أبيه. كان أبو عمر فقيهاً، راوية، مسنداً. سمع أباه وولي قضاء بلده أيام المظفر، عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 عزله اسماعيل بن عباد عنها سنة ثلاث وتسعين. ثم صرف اسماعيل الى قضائها، وصرف أبا عمر أجمل صرف بعد نحو عام، لانقباضه عن الدخول في أمور السلطان. قال ابن حيان: كان أحد أكابر أهل العلم بإشبيلية ذا رواية مشهورة عن أبيه مع جاه وثروة. أبو حفص عمر بن عبادل الرعيني من كورة رية. قال ابن عفيف: كان من الزهاد المتبتلين، والعلماء الراسخين، بصيراً بالفقه، وعقد الوثائق والحفظ للمسائل. له كرامات كثيرة، وكان كثير التواضع يهين نفسه ويحرث أرضه بيده، ويحتطب على ظهره، ويتصرف في جميع أموره، رافضاً للدنيا لا يشتغل بغير عبادة ربه. وكان مع ذلك بسيط الوجه، حسن الخلق. وكان العمال يبادرون الى بره يحمل مغرمه وأتيهم به لوقته، راضياً بذلك من فعله. ويقول: حيف السلطان أرجح للميزان، وأنصف للجيران وأوفق للزمان. وينشد رحمه الله: الله يدفع بالسلطان معضلة ... عن ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلائف لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا قال الفقيه معوذ الزاهد: اشتقت الى رؤية الشيخ أبي حفص ابن عبادل فخرجت أريده من موضعي، فباكر بالرؤيا بعثتني على لقائه. وبين موضعينا نحو من أربعين ميلاً فمشيت نحوه بقية يومي، وبعض ليلتي فرأيته من الغد فسألت عن منزله، فأرشدت إليه فاستأذنت، فقال لي ولده الأكبر: وكان - على سمته في الصلاح - أقول من؟ قلت: رجل نزاهة وعفة. من أحببته في الله تعالى. قصده ليلقاه فأذن. فدخلت إليه، فقام مبتهجاً وصافحني. وقال: مرحباً بك أبا عمرو جئت جاداً على فاقة، وألطف مسألتي. وكنت لم أره قبل ذلك. فقلت: أصلحك الله بأي شيء عرفتني؟ فقال: أخبرت البارحة في النوم أنك تصافحني اليوم. وكنت أهوى لقاك، وما زلت منتظراً لك منذ صليت الصبح. فقلت له: وأنا ما حملني على قصدك وتجشم السفر إليك إلا أني كنت في منامي، وقائلاً يقول أقصد منينانة من فحص رية وهي قرية ابن عبادل، فإن فيها ولياً من أولياء الله تعالى، يرغب رؤيتك فقال: نعم يا أبا عمرو علق ذكرك بقلبي، واشتهيت رؤيتك. فدعوت الله أن يستعملك للقاء. فقد أنعم عليّ بك، فمكّنّي الأنس بك أياماً. فأقمت عنده. وقرأت عليه القرآن، وتفقهت معه. فنفعني الله تعالى به. فانصرفت وحبلي به موصول أزوره في كل عام، وأتكرر عليه وبلغتني علته التي قبض فيها، فانصرفت إليه فلما دخلت عليه استبشر بي وأنشد رحمه الله: أنت الحبيب الذي تأتي على قدر ... من الذي يشتهى أو حاجة عرضت مرحباً بك قد سألت الله عز وجلّ أن يرينيك قبل الموت. فقد فعل وأحسب أني مقبوض، فأنشدك الله أن تقيم عليّ تشهدني وتقوم بشأني. فإذا مت فاغسلني ونقني وجهزني وحنطني وطيبني وكفنّي في ثلاثة أثواب غير مخيطة. قد أعددتها ولا تعممني وضعني فوق نعشي، وتقدم بالصلاة عليّ، واجتهد في الدعاء الى الدائم القائم، الحي الذي لا يموت. واسأله أن يجمعني وإياك في جواره برحمته ورضوانه حيث أنا من الغربة. وتعم في النعمة، ثم اتركني لولدي وأهلي وجيراني يتولون دفني. وانهض أنت الى موضعك مصحوباً بالخير مشيعاً بالسلامة. واستودعتك الله تعالى خير مستودع. قال فشهدت موته ولقنته الشهادة، وهو غير مؤتل في تكريرها الى أن زهقت نفسه. فقمت بأمره، وكانت سنة ثمان وسبعين وثلاثماية. رحل مع ابنه محمد فحجّ، وسمع من جماعة منهم الميمون بن حمزة وعبد الغني بن سعيد. وقد سمع من عبد الغني سعيد بمصر أيضاً. قال أبو علي الجياني: كان من أهل العلم والفضل، قال الخولاني: كان من أهل العلم مقدماً في الفهم عارفاً بالحديث ووجوهه، إماماً مشهوراً بذلك، سيما في العلم. ومات عليه. لم ترَ عيني مثله في المحدثين، وقاراً وسمتاً. استقدم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 الى قرطبة آخر الدولة العامرية. سمع منه بها. حدث عنه ابنه وأبو عمر ابن عبد البر، وقاسم ابن المأموني السبتي، وأبو عبد الله محمد بن حصار. وتوفي في المحرم سنة ست وتسعين، ومولده سنة أحد وثلاثين، وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها عمامة. رحمه الله تعالى. سعيد بن عبد الملك الجذامي إشبيلي، أبو عثمان يعرف بالملاح. كان حافظاً للرأي، عاقداً للشروط مشاوراً في الأحكام. حدث وتوفي سنة أربع وسبعين وثلاثماية وهو كهل. سعيد بن موسى بن معمر الغساني البيري. أبو عثمان. رحل ولقي الأبهري. حمل عنه كتبه وسمع من غيره. انصرف الى الأندلس فلزم تطيلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 مرابطاً بها والثغر الى أن توفي. وكان فقيهاً زاهداً ورعاً. يصوم الدهر. لم يحدث. وقتل بالمعترك سنة ثلاث وتسعين. أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الجنبي طليطلي. سكن قرطبة. من أهل الفقه والرواية والأدب. سمع من قاسم بن منذر القاضي وغيره. رحل فسمع بمصر والشام والحجاز من أبي عباس ابن السكن، وابن أبي الجوز، وابن أبي الورد، وابن جامع السكري، وحمزة الحافظ، وابن أسيد، وابن إسحاق، وابن فراس محمد بن سرور الغسال والقشيري، وأحمد بن ابراهيم بن جامع، وغير واحد. توسع في السماع، وكان ضابطاً متفنناً للرواية، حسن الحديث، فصيح اللسان، حاضر الجواب، جليل القدر. ويجمع الى الفقه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 الأدب. وله حظ من علم اللغة والشعر. وكان لا يغير كتاباً إلا بمشقة، ولا يسمع في غير كتابه. ولم يرو بالأندلس سماعاته بالمشرق، إذ لم يكن معه أصول قال أبو عمر ابن الحذاء: كان شيخاً وقوراً فاضلاً رفيع القدر. ما رأيت أضبط لكتبه منه. حدث عنه أبو عمر ابن عبد البر، وأبو عمر ابن الحذاء وحكم بن محمد. وكان يستحسن التفاؤل في المصحف لالتماس البركة. يحكى أنه صرف مدة، وقد أراد ركوب البر فألفى: واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون. قال: فتخلفت وركب غيري فغرقوا بأجمعهم. وكان يقول ما وليت لبني أمية إلا قراءة كتب الفتوح وقتاً، وهي أدنى الحفظ. ولقد أساءني القول عنها أشد مساءة. وامتحن أيام ابن المظفر بالغيرة عليه والتقييد والإخراج عن الأندلس. توفي في آخر سة خمس وتسعين وأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيه قميص ولا عمامة. مولده رحمه الله سنة عشر وثلاثماية. رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 أبو عبد الله محمد بن عيسى المريني قاضي تطيلة قال ابن حيان: كان رجل الثغر، موصوفاً بالشجاعة والعلم والفقه. مثابراً على الجهاد. رحل وحجّ ولقي مشايخ القرويين والمصريين وتفقه معهم. سمع الحديث. قتل في وقعة البقر سنة أربعمائة بظاهر قرطبة. وكان جاء مع المهدي لحرب البرابرة بجازر فاسه بلده. بعد ابنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 أحمد بن عبد الله بن محمد بن عروس الموروري الحضرمي قال ابن الفرضي: كان أحمد هذا فقيه بلده، وكتب عنه. قال ابن الرازي: وكان الخليفة يصرفه في الأمانات. قال ابن حيان: كان من جوابر الحديث والفقه. وسلك سبيل العلماء. وليَ القضاء ببعض النواحي. ثم صحب ابن أبي عامر، فتجرد لطلب دنياه، وتحول عن طبقته، فلحق أهل الخدمة. ونال الوزارة وتقلد المدينة. وصادر المكوس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 وارتكب الجرائم، وأغرق في ظلم العباد. فلم تطل مدته حتى اخترمته المنية في شهر رمضان من سنة ست وستين وثلاثماية. وترك من المال ما لا كفاية له مما غله. فحاز ابن أبي عامر أكثره. محمد بن علي بن محمد بن شبل ويقال الشبل ابن بكير القيسي. تطيلي. من فقهائها وبيوتها المشهورة في العلم والجلالة. ووليَ أحكم بلد. حدث عنه عيسى بن موسى بن الإمام. روى عنه أبو الأصبغ ابن أبي درهم. وجده محمد بن شبل، يكنى بأبي بكر. سمع من المغامي وغيره، ورحل فسمع من يحيى بن عمر، ويحيى بن عون، وعمر بن يوسف، وأبي مضر دارم بن ملك البغدادي، ويعيش الغرابلي، وزيدان بن اسماعيل. وولي الصلاة ببلده. وكان يرحل إليه من مدن الثغر للسماع منه. وطال عمره ومات سنة ثلاث وخمسين. حدث عنه أبو محمد القلعي، وعيسى بن موسى الإمام، رضي الله عنهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 محمد بن يعيش بن منذر الأسدي طليطلي. كان يكنى بأبي عبد الله. قال ابن الفرضي: كان فقيهاً حافظاً للمسائل عالماً بالشروط رأساً في ذلك. قال ابن حيان: كان محمد بن يعيش فقيه بلده في وقته. وإليه انتهت فتواه، من بيت علم وجلالة ورئاسة. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين. سعيد بن كوثر رحمه الله قال ابن حيان: كان نظيراً لابن يعيش في العلم والجلالة بطليطلة. وكان من بيت علم وجلالة ورئاسة بها. وكان متصافين جداً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 أبو الحزم خلف بن عيسى بن سعد الخير بن أبي درهم وشقي. فقيه بلده وقاضيه. قال ابن الحذاء: كان فاضلاً تلك الجهة وعاقلها. يروي عن محمد بن عمر بن عيشون، وابن الأبار، ويحيى بن مطر، وابن عيسى. حدث عنه أبو عمر ابن الحذاء وابنه أبو الأصبغ. قال الباجي فيه وفي ابنه أبي الحزم: لا بأس بهما. انتهى. أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن مسافر الهمداني المعروف بالواهراني، وبالتجاني. ويعرف بابن الخراز. قال ابن غلبون: كان صالحاً صاحب سنّة. له رحلة قديمة لقي فيها الناس، وحجّ ورحل الى العراق وغيرها ولقي الأبهري، وروى عنه كتبه. ولقي بها جماعة سواه. ولقي بمصر والبصرة وغيرهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 قال غيره: لم يكن فيما أدركنا أوثق منه، ولا أورع ولا أحسن تمسكاً منه بالسنّة. وسمع منه جماعة الناس بالأندلس، كحاتم الطرابلسي، ومحمد بن غلبون الخولاني، وغيرهم. وله مشائخ كثيرة. سمع منهم بإفريقية ومصر والحجاز والعراق وخراسان والجبل. ورحل لابن مرد ولابن شبويه، فسمع منه صحيح البخاري، ورحل الى نيسابور وبلخ، وتفقه بالأبهري، ودرس عليه كتبه، سنين مع أصحابه. ولقي بالبصرة فقيهي المالكيين: أبا يعلى البصري، وأبا عبد الله بن عطية، وذاكرهم. وسمع من اليحرمي، وابن مالك، وابن السقا، وابن مامي، وابن سيف، وأبي الفضل العطار، وأبي الحسن ابن لؤلؤ وغيرهم من البغداديين. وسمع بالقيروان من أبي العباس، وابن أبي العرب، وأقام في رحلته نحو عشرين عاماً. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 طبقة ثامنة بسم الله الرحمن الرحيم. قال الفقيه القاضي أبو الفضل رضي الله عنه وقد غفر له بمنه: ثم انتهى الفقه والمذهب بعد هذه الطبقة الى أخرى تليها فمنهم: من أهل العراق أبو محمد عبد الوهاب بن نصر القاضي قال أبو بكر بن ثابت الحافظ في تاريخ: عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك أبو محمد الفقيه المالكي. سمع أبا عبد الله بن العسكري، وعمر بن محمد بن سبنك، وأبا حفص بن شاهين. كتبت عنه ولم ألقَ في المالكيين أفقه منه. وكان حسن النظر جيد العبارة ووليَ القضاء بالدينور وغيرها، وخرج في آخر عمره الى مصر، فمات بها ورأيت في بعض الكتب أنه ولي قضاء الدينور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 وقال أبو إسحاق الشيرازي في تعريفه: أدركته وسمعت كلامه في النظر قال: وقد رأى أبا بكر الأبهري إلا أنه لم يسمع منه شيئاً، وكان فقيهاً متأدباً شاعراً. وخرج في آخر عمره الى مصر فحصل له حال من الدنيا. قال الفقيه أبو الفضل قوله لم يسمع من أبي بكر غير صحيح، بل حدث عنه وأجازه وسمع أيضاً من أبيه عن أبي ثابت الصيدلاني، وابن عمر بن السماك، وأبي خالد النصيبي والحاوي. وممن سمع منه أيضاً القاضي أبو محمد بن زرقونه، وأبو عم الهاشمي، وأبو سعيد الكرخي، والمخلص، وأبو الحسن ابن الصلت، والمجد، وابن نافع، ومحمد بن أحمد الصياد، وأبو علي ابن شاذان وغيرهم. وكان تفقهه على كبار أصحاب الأبهري: أبي الحسن ابن القصار، وأبي القاسم ابن الجلاب، ودرس الفقه والأصول والكلام على القاضي أبي بكر الباقلاني وصحبه وألف في المذهب والخلاف والأصول تواليف بديعة مفيدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 ككتاب التلقين. وكتاب شرحه لم يتم، وكتاب شرح الرسالة، وكتاب المهدي في شرح مختصر الشيخ أبي محمد. صنع منه نحو نصفه، وكتاب شرح المدونة لم يتم، وكتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، وكتاب المعونة لدرس مذهب عالم المدينة، وكتاب أوائل الأدلة في مسائل الخلاف، وكتاب الرد على المزني، وكتاب الإفادة في أصول الفقه، وكتاب التلخيص فيه أيضاً، وكتاب عيون المسائل، وكتابه الآخر المسمى بالمروزي في الأصول، وكابه المسمى بالمفاخر، وعليه تفقه ابن عمروس، وأبو الفضل مسلم الدمشقي. وأبو العباس ابن قشير الدمشقي. وروى عنه جماعة، منهم: عبد الحق بن هارون الفقيه، وأبو عبد الله المازري البغدادي. وأبو بكر الخطيب، ومن الأندلس جماعة منهم: القاضي ابن شماخ الغافقي. ومهدي بن يوسف صاحبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 ذكر ملح من أخباره ولمع من فضائله وجدت فيما يذكر من أخباره والله أعلم بصحته؟ أنه لما خرج من بغداد الى مصر وتبعه الفقهاء والأشراف من أهلها، قالوا له: والله يعز علينا فراقك، فقال لهم: والله لو وجدت في بلدكم كبجلتين من ذرة، ما خرجت منها. ولق ترك أبي جملة دنانير وداراً، أنفقتها كلها على على صعاليك من كان ينهض بالطلب عندي. فنكس كل واحد منهم رأسه. ثم أمرهم بالانصراف، فانصرفوا. وأنشد: لا تطلبن الى المجبوب أولاداً ... ولا السّراب لتسقي منه ورّادا ومن يروم من الأنذال مكرمة ... كمن يوتّد في الأتبان أوتادا وقد رأيت نحو هذه الحكاية، دون الشعر، في مثالب أهل البصرة، وأنها جرت للنضر بن شميل معهم، والله أعلم. ويقال إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 سبب خروجه من بغداد قصة جرّت له الكلام مع الشافعي. فخاف على نفسه، وطلب. فخرج فاراً عنها. قال الشيرازي رحمه الله: وأنشد أبو محمد في خروجه من بغداد: سلام على بغداد في كل موطن ... وحُقَّ لها مني السلام المضاعف لعمرك ما فارقتها عن ملالة ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت عليّ برحبها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف فكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتجانف وقرأت في بعض الأخبار، أن الشعر ليس من قوله. وأن القاضي أبا محمد قال: وجدت مكتوباً على سارية بحران، فذكر الشعر، وأكثر الناس يروونه له. فالله أعلم. ويروى له أيضاً في مثله: بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق أصبحت فيها مضاعاً بين أظهرهم ... كأنني مصحف في بيت زنديق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 ومما أنشده أيضاً في ذلك، وبعضهم ينسبه له: وقائلة: لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمغترين المراسيا وما هجروا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذاراً من شمات الأعاديا وحدث عن بعض الأندلسيين أنه قال: دخلت بمصر، حمّاماً، فاجتمعت فيها بالقاضي أبي محمد، وعندي آنية بطفل مطيب، فقصدت إليه، وسألته استعماله، فتناوله واشتمه، وسألني من أين هو لك؟ قلت: اشتريت خادماً، وكان هذا في أسبابها. فقال لي: اشترطت ماله؟ قلت: لا. قال: خذه إليك فلا حاجة لي به. ولما وصل الى مصر ونيته المغرب، فوصف له فزهد فيه، وخاطبه ابنا الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد، وقد انعقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 بينهما وصلة بسبب شرحه لتواليف أبيهما، ووصلاه بمال لم يرضه، واستدعياه للدخول الى المغرب فكتب إليهم: أنا ذاك الصديق لكن قلبي ... عند قرب الديار ليس بقلب ما انتفعنا بقربكم ثم لا لوم ... عليكم وإنما الذنب ذنبي أنا في حطة واسأل ربي ... في خلاصي من شرها ثم حسبي وكان خطاب فقهاء أهل القيروان في الوصول إليها، فرغبه في ذلك أبو عمران، وكسره عنه أبو بكر ابن عبد الرحمن، وخاطبه أيضاً مجاهد الموفق، صاحب دانية، في الوصول الى الأندلس فيما ذكره. توفي بمصر سنة اثنتين وعشرين وأربعماية، يقال من أكلة اشتهاها. ويحكى أنه قال: لما أحسّ بالموت بمصر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 إثر ما اتسع حاله بها بعد ضيقه بالعراق: لا إلا الله، لما عشنا متنا. ورأيت في بعض التواريخ أن سنّه كان حين مات ثلاثاً وسبعين سنة. أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن إسحاق الطافي البصري. وطافة قرية من قرى البصرة. نزل مصر وأخذ بالعراق عن أبي القاسم ابن الجلاب، وهبة الله الضرير المقري، وغيرهم. ولقي بمصر أبا القاسم ابن الكاتب، وكتب عنه الفروق في مسائل، سأله عنها. أخذ عنه أبو العباس الدلائي، وأبو محمد الشجالي، وذكره أبو الوليد الباجي، فقال: فقيه. وله كتب في الفقه معروفة. رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 المسدد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن أيوف بن محمد بن عبد الله ابن قيس بن سعيد بن عبادة بن دلامة بن الخزرج البصري. سمع من خاله أبي القاسم ابن الجلاب، وشرح كتابه المسمى بالتفريع. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم والحظ الوافر من العلم. سمع بالعراق والبصرة، وبشيراز وغيرها. ومن شيوخه أبي علي السلمي، والقاضي أبي بكر الظهراني، وأبي بكر أحمد بن عبيد الله، يروي عنه الدلائي وغيره. ودخل المغرب، فاستوطن القيروان، وبها مات. واستجازه ابن الحصّار، وابنه أبو القاسم فأجازهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الفارقي يعرف بابن البغدادي. كان بميّافارقين، من ديار بكر. قال عتيق: هو ديّن زاهد، مشهور. مالكي، من المالكية. يروي عنه القاضي أبو القاسم الحسن بن الحسن بن المنذر، روى عنه أبو حفص السمنطاري العابد، وعتيق بن علي السمنطاري، الصقلي. أبو ذر الهروي رحم الله هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عفير بن عرك، بن خليفة بن ابراهيم بن نيسان، بن قيس بن عامر، بن قيس، بن أبي ردمة، بن عمر بن قيس بن رفاعة بن الحارث، بن سواد بن سلا بن غنم، بن مالك بن النجار. هكذا وجدت نسبه في ظهر كتابه، الذي نقل لي عن خط شيخنا أبي علي الجياني، رحمه الله. أصله من هراة، وتمذهب بمذهب مالك، رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 ولقي جلة من أعلامه، وأخذ عنهم، كالقاضي أبي الحسن القصار، وأبي بكر الأبهري، وابن عباس البغدادي، وأبي إسحاق الدينوري، واشتغل في الحديث فتقدم في إمامته، وغلب عليه حال في بلاد خراسان والجبل، وبلاد العراق، ورحل الى الحجاز ومصر، فسمع من جلة كأبي الحسن الدارقطني، وأحمد بن عبد الله الشيرازي، وأبي بكر بن شاذان، وأبي الحسن بن فراس، وأبي الفضل بن حمدونه، وأبي إسحاق المستملي، وأبي محمد الحموني، وأبي الهيثم السرخسي، والخليل بن أحمد القاضي، وأبي المنتعل، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي عمر الحران، وأبي عبد الله العصفي، وأبي حفص ابن شاهين في عدد كثير، قد ألّف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 فيهم كتابين، أحدهما فيمن روى عنه الحديث، اشتمل على نحو ثلاثماية اسم، أو أزيد من الفقهاء، والمحدثين، والآخر فيمن لقيه ولم يروِ عنه حديثاً. وأخذ عن أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك من متكلمي أهل السنّة حظاً من علم الاعتقاد، وسكن الحرم وجاور فيه، الى أن مات ناشراً للعلم. وسمع منه عالم لا يحصى من أهل الأقطار من شيوخ شيوخنا. وقد أدركنا غير واحد ممن سمع منه، ولم يقدر على السماع منهم، لقصر أو بعد الدار، وآخر من حدث عنه بالإجازة، أحمد بن محمد الإشبيلي، بعد الخمسماية. وقد أجازنا وسمع منه من جلة أقرانه: أبو محمد عبد الغني الحافظ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران القابسي. ولم يسمع هو من عبد الغني تحرياً لمداخلته ببني عبيد أمراء مصر الشيعة. ولا سمع من القضاعي، لكونه قاضياً لهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 ذكر فضله وزهده رضي الله عنه كان رحمه الله، مالكي المذهب، إماماً في الحديث حافظاً له، ثقة ثبتاً متفنناً، واسع الرواية متحرياً في سماعة، كثير المعرفة بالصحيح، والسقيم، وعلم الرجال. حسن التأليف في ذلك كثيراً. وكان مع ذلك زاهداً متقشفاً، فاشلاً متقللاً. نزل مكة، وجاور بها أزيد من ثلاثين سنة. وكان سكن منها بسراة بني سبابة. وكان يتحرى في الفتيا، ويحيل على من يحضره من فقهاء المالكية للسماع منه. قال أبو محمد الشتنجالي: من رأى أبا ذر، رآه على هدى السلف الصالح من الصحابة، والتابعين. رضي الله عنهم. قال حاتم بن محمد: كان أبو ذر مالكياً خيراً، فاضلاً متقللاً من الدنيا، بصيراً بالحديث وعلله، ويميّز الرجال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 ولأبي ذر كتابه الكبير في المسند الصحيح، المخرج على البخاري ومسلم. وكتاب السنة والصفات، وكتاب الجامع، وكتاب الدواة، وكتاب القرآن، وكتاب فضائل يوم عاشوراء، وكتاب مسانيد الموطآت، وكتاب كرامات الأولياء، وكتاب الرؤى والمنامات، وكتاب فضائل مالك بن أنس، وكتاب المناسك، وكتاب دلائل النبوءة، وكتاب الرباء واليمين الفاجرة، وكتاب شهادة الزور، وكتاب بيعة العقبة، وحديث الجعرانة وخيبر، وكتاب شهادة النبي وأصحابه، وكتاب ما روي في بسم الله الرحمن الرحيم، وكتاب في شيوخه. وتوفي أبو ذر رحم الله، في ذي القعدة، سنة خمس وثلاثين وأربعماية. قال: سألت أبا ذر عن مولده، فقال: ولدت أنا سنة خمس أو ست وخمسين وثلاثماية. شك أبو ذر رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 محمد بن اسماعيل النصيبي أبو بكر. يعرف بالعربي. قال أبو عمر: وكان واثق المعرفة ذا ضبط وفهم، ثقة ثبتاً، وكان إمام مسجد نصيبين. وذكر أنه كان مالكياً. قال: وكانت له رواية في القراءات عن أبي بكر الشرابي، وامتنع من التصدر، وتوفي بعد عشرين وأربعماية. علي بن محمد بن الحسن الحربي مالكي. أخذ عن أبي بكر الأبهري، وعن عبد الله بن عثمان الصفار. روى عنه أبو بكر الخطيب الحافظ، رحمه الله. الشهرزوري رحمه الله مالكي. ثقة بغدادي، وأحسب أن اسمه محمد بن منصور، ويكنى بأبي بكر. ودخل الأندلس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 قال القاضي أبو عمر ابن حسين: قدم علينا الفقيه الشيخ الشهرزوري، من المشرق. وكان من كبار الفقهاء المالكيين، ومن المحسنين فيهم. وحكي عنه أن بعض العراقيين سأل عن قوله تعالى، لمحمد نبيّه عليه السلام: " فلا تكونن من الجاهلين ". وعن قوله تعالى لنوح: " إني أعظُك أن تكون من الجاهلين ". فإن ظاهر الكلام، أنه أغلظ في حق نبيّنا صلى الله عليه وسلم. فأجابه بعض علمائهم: إن هذا مما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم، أقرب الى الله وأحبّ. ولا يكون شدة التأديب إلا للمحبوب القريب، وأنشد: لا يعيب الصّديق قارعة التأ ... نيب إلا من الصّديق الرّغيب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 قال القاضي أبو عمر: ولو قيل في هذا إنه رفق بنوح في عظته للسن والشيخ، وأنه كان مصاباً بابنه وبقومه، وما لقي من أهوال الغرق وضيق السفينة، كان وجهاً. قال القاضي أبو الفضل: ولو عُكس السؤال لكان باللفظ أليق. وذلك أن قوله: أعظك أن تكون من الجاهلين، أشدّ من قوله: فلا تكونن من الجاهلين. لأن في الآيتين النهي، ثم في قوله: أعظك، الزّجر والتحذير. والصحيح أن الآيتين معنى واحد، وليس في واحدة منهما إثبات جهل لواحد منهما. ولا نهيه عنه إذ كانا منزّهين عن صفات الجهّال واتباع مقاصدهم، بل المراد بالآيتين جميعاً. قال القاضي أبو الفضل عيّاض رضي الله عنه. من أهل مصر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد بن العباس بن فهر البزار الفهري فقيه مالكي محدث مصر. ألّف في فضائل مالك رضي الله عنه اثني عشر جزءاً. سمع الحسن بن رشيق وأبا الحسن ابن زريق وأبا الطاهر الدبيلي وأبا القاسم الجوهري، وأبا سعيد السحري، وأبا علي المطرّزي، وأبا أحمد بن اليسر، وأحمد بن فراس، وأبا مسلم الكاتب، سمع منه الدلائي، والمهلب بن أبي صفرة، وابن الوليد، وغلبت عليه الرواية. قال القاضي أبو الوليد الباجي: تعرّض من الكلام لما لم يكن من شأنه، فأنكر ذلك عليه. وقال أبو عمران الفاسي: تفقّه بمصر وبمكة، ولم ألقَ مثله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 أبو محمد بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري أندلسي. أصله من قرمونه. سمع بالأندلس من الطحّان الحافظ، وابن ثابت، وأبي جعفر ابن عون، وأبي الحسن ابن السماك، ورحل فسمع بمصر وإفريقية والحجاز من ابن أبي زيد والفاسي والإجدابي، وأبي العباس بن بندار الرازي، وأبي عمر بن سعدي، والحسن بن فراس، وأبي القاسم الحضري، وابن فهر، وأبي ذر الهروي، وأبي العباس الرازي، وابنه، ومروان بن عبد الملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي: أبو محمد بن الوليد الأنصاري الفقيه على مذهب مالك، من سادات المغاربة وفاضليهم، سكن مصر وأخذ عنه بها الناس. قال أبو الوليد الباجي فيه: شيخ صالح ثقة مصحح لكتبه، كثير الرواية، ومكث بالقدس من نحو الأربعين، رضي الله عنه. من أهل إفريقيا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الخولاني من أهل القيروان، وشيخ فقهائها في وقته، مع صاحبه أبي عمران الفاسي. وكان أبو بكر فقيهاً حافظاً ديّناً، كان تفقه بأبي محمد، وأبي الحسن، وسمع منهما ومن غيرهما من شيوخ إفريقية، كأبي بكر أحمد بن بكر الدويلي، وأبي محمد بن خالد السوسي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 المعروف بالبادلي. وأبي بكر عتيق بن موسى الحاتمي. وسمع بمصر من أبي بكر النعّال وغيرهم، وتفقه عليه خلق كثير، كأبي القاسم بن محرز، وأبي إسحاق التونسي، وأبي القاسم الستوري، وأبي حفص العطار، وأبي الفضل ابن بنت بن خلدون. وابن سعدون، وأبي محمد عبد الحق وغيرهم. وحاز الذكر ورئاسة الدين، في وقته مع صاحبه في المغرب بأسره، حتى لم يكن لأحد معهما اسم يعرف. وكان الذي بينهما متباعداً، حتى طمع بذلك صاحب إفريقية، ليجد الحجة على العامة، طوعهما. فلما اختبرهما في ذلك وجد عندهما ما يوافقه، ووجد دينهما أمتن مما يظن، ويذكر أن أصحاب أبي بكر، تعجبوا من حفظه وذكره في آخر عمره. فقال بعضهم: نراه يواظب على الدرس، للميعاد، أو يتكلم على قديم حفظه، فاتفقوا على اختباره. فلما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 كان من الغد، أخذوا غير الكتاب الذي كانوا يتذاكرون فيه. وكانت مذاكرتهم إذ ذاك في كتاب محمد بن المواز. فلما أخذوا الكتاب، قال الشيخ لهم: ليس كتابنا هذا. فجمحوا له، وأروه الوهم، وأنه إذا حضر فالمذاكرة فيه أولاً. ففطن الشيخ لمرادهم، وأخذ الكتاب ونظر فيه، ثم طواه، فألقاه عليهم من حفظه. وقال: علمت ما أردتم. لو عدم هذا الكتاب لأمليته من حفظي. وكانت وفاته فيما حكاه أبو إسحاق الشيرازي، وابن سعدون: سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. وقال غيرهما: سنة خمس وثلاثين. ومن شيوخه بالأندلس أيضاً: أبو يحيى بن الأشج، وأحمد بن قاسم، ومحمد بن خليفة، وأبو عمر الباجي، وغيره. قال ابن سعدون: رأيت في النوم وأنا في القيروان، أول سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية، بعد فراغنا من ميعاد يوم الأربعاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 على الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن في المدونة، وكانت مواعيده بها يوم الإثنين والأربعاء والجمعة. قائلاً يقول بين السماء والأرض: إلا أن أبا بكر بن عبد الرحمن، ورث خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من أهل الجنة. ثم رأيت في الحال كأني يلقى علينا كتاب القضاء. فلما كان يوم الأربعاء، سألني عن ذلك بعد ذلك اليوم. ودخل داره ومرض مرضه الذي مات فيه، رحمه الله. قال ابن سعدون: أخبرنا الشيخ أنه كان يرى في النوم كأن قائلاً يقول له: اكتب اسمك في ذلك اللوح، الذي فيه أسماء العلماء، فانظر فيه الى اسم مالك. فأكتب اسمي تحته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 أبو عمران الفاسي رحمه الله واسمه موسى بن عيسى بن أبي حاج. واسمه يحجّ ابن وليهم بن الخير الغفجومي، وغفجوم فخذ من زناتة. وقال السمنطاري: من هوّارة. أصله من فاس، وبيته به مشهور، ويعرفون ببني أبي حاج. ولهم عقب، وفيهم نباهة الى الآن. واستوطن القيروان، وحصلت له بها رئاسة العلم. وكان تفقه بالقيروان عند أبي الحسن القابسي. وسمع بها من أبي بكر الدويلي، وعلي بن أحمد اللواتي السوسي. ورحل الى قرطبة فتفقه بها عند أبي محمد الأصيلي. وسمع بها من أبي عثمان سعيد بن نضرة. وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم وغيرهم. ثم رحل الى المشرق فحجّ حجيجاً. ودخل العراق، فسمع من أبي الفتح ابن أبي الفوارس، وأبي الحسن علي بن ابراهيم المستملي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 وأبي الحسين ابن الحمامي المقري، وأبي الحسن ابن الرفاء، وأبي الحسن بن الخضر، وأبي أحمد الفرضي، وأبي الطيب المجد، وأبي العباس الكرخي ابن المحاملي، وأبي عبد الله بن بكران الرازي، وأبي القاسم الضريري، وأبي عبد الله الجعفي القاضي، وأبي أحمد بن جامع الدهان، وهلال الحفار، وأبي الحسن ابن الفضل العطار، وغيرهم. ودرس الأصول على القاضي أبي بكر الباقلاني، ولقي جماعة. وكان قد سمع بمكة من أبي ذر. ثم ترك أن يسميه لشيء جرى بينهما. فكان يقول: فيما سمعت عنه. وذكروا أن السبب في ذلك بعد صداقتهما ومودتهما، أن أبا عمران لما رجع من العراق، وجد أبا ذر بالفرات خارج مكة، وكتبه بمكة عند جارته، فطلبها من جارته، فلم تمكنه. وكان له غرض في بعضها. فبإدلاله وما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 بينهما. وسمع بالحجاز أيضاً، من أبي الحسن ابن فراش، وأبي القاسم السفطي، وبمصر من أبي الحسن ابن أبي الجدار، وأحمد بن نور القاضي، وعبد الوهاب بن منير الوشاء. ثم رجع الى القيروان فاستوطنها، فلم يزل إماماً بالمغرب، أخذ عنه الناس وتفقه عليه جماعة كثيرة ممن ذكرنا في أصحاب أبي بكر وغيرهم، كعتيق السوسي، وأبي محمد الفحصلي، ومحمد بن طاهر بن طاوس، وجماعة من الفاسيين، والسبتيين والأندلسيين، فطارت فتاويه في المشرق والمغرب، واعتنى الناس بقوله. وكان يجلس للمذاكرة، والسماع في داره، من غدوة الى الظهر. فلا يتكلم بشيء إلا كتب عنه، الى أن مات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 ذكر فضائله وأخباره رحمه الله قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أعلم الناس، وأحفظهم. جمع حفظ المذهب المالكي الى حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة معانيه. وكان يُقرئ القرآن بالسبعة، ويجوده. مع معرفته بالرجال وجرحتهم، وتعديلهم. أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه من لم يلقه. وخرج من عوالي حديثه نحو مائة ورقة. قال حاتم: ولم ألقَ أحداً، أوسع منه علماً، ولا أكثر رواية. قال عمر الصقلي: أبو عمران الثقة الإمام الديّن، المعلم. وذكر أن الباقلاني كان يعجبه حفظه، ويقول: لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبد الوهاب بن نصر، وكان إذ ذاك بالموصل، لاجتمع فيه علم مالك. أنت تحفظه وهو ينصره. لو رآكما مالك لسرّ بكما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 قال ابن عمار في رسالته، فذكره فقال: كان إماماً في كل علم، نافذاً في علم الأصول، مقطوعاً بفضله وإمامته. ولما دخل بغداد شاع أن فقيهاً من أهل المغرب مالكياً، قدم. فقال الناس: لسنا نراه إلا عند القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو إذ ذاك شيخ المالكية بالعراق، وإمام الناس. فنهض من أهل بغداد من المالكية. فقال السائل: أصلحك الله، هذا شيخ من كبار شيوخنا، ومن الجفاء أن تكلفه المناظرة من أول وهلة. ولكن أنا أخدمه في نصرة هذه المسألة وأنوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 عنه فيها، الدليل على صحة ما أجاب به الشيخ، حرسه الله تعالى، كذا وكذا، ما اعترضه الشافعي فيه. ثم انفصل المالكي من اعتراضه، حتى خلص الدليل. فلما أجمل الكلام على المسألة، قام إليه الشافعي، وقبّل رأسه، وقال: أحسنت يا سيدي، وحبيبي. أنت والله شيخ المذهب، حين نصرته. وجرت في ذلك المجلس مسائل غيرها. وذكره أبو عمر المغربي في كتابه، فقال: قرأ القرآن على أبي الحسن علي الحمامي، وقرأ القرآن بالقيروان مدة، ولما ورد القيروان وجلس مدة، بان علمه. قال كبار أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمان: نسير إليه. وقالوا إنه يعزّ على شيخنا ذلك. وتروّضوا في الحضور عنده. ثم عزموا على ذلك. قالوا إنه لا يجمل بنا التخلف عن مثله، فأسخطوا شيخهم حتى يحكى أنه دعا عليهم، وهجرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وجرت بالقيروان مسألة في الكفار، هل يعرفون الله أو لا؟ فوقع فيها تنازع عظيم بين العلماء. وتجاوز ذلك الى العامة، وكثر التمادي بينهم، حتى كان يقوم بعضهم الى بعض في الأسواق، ويخرجون عن حد الاعتدال الى القتال. وكان المتهجم بذلك رجل مؤدب يركب حماره، ويذهب من واحد الى آخر. فلا يترك متكلماً ولا فقيهاً إلا سأله فيها وناظره. فقال قائل: لو ذهبتم الى الشيخ أبي عمران لشفانا من هذه المسألة. فقام إليه أهل السوق بجماعتهم، حتى أتوا باب داره واستأذنوا عليه، فأذن لهم. فقالوا له: أصلحك الله، أنت تعلم أن العامة إذا حدثت بها حادثة، إنما تفزع الى علمائها. وهذه المسألة قد جرى فيها ما بلغك، وما لنا في الأسواق شغل إلا الكلام فيها. فقال لهم: إن أنصتّم وأحسنتم الاستماع أجبتكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 إلا واحد، ويسمع الباقون. فقال له: أرأيت لو لقيت رجلاً فقلت له: تعرف الشيخ أبا عمران، فقال: نعم. فقلت: صفه لي، فقال: نعم. هو رجل يدرس العلم ويدرسه، يفتي الناس ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: والأول ما كان يعرفني؟ قال: لا. قال لهم الشيخ: كذلك الكافر، إذا قال لمعبوده صاحبة، وولداً، وأنه جسم، وقصد بعبادته مَن هذه صفته. فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفاته. ولم يقصد بالعبادة إلا مَن هذه صفته، وهو بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده: الله، الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد. فهذا قد عرف الله، ووصف بصفته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون، علواً كبيراً. فقامت الجماعة وقالوا له: جزاك الله خيراً من عالم. فقد شفيت ما بنفوسنا، ودعوا له، ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا. وذكر أبو الحسن ابن رشيق الأديب في كتابه، قال: كتب محمد بن علي الطبني حين عزم أبو عمران على السفر الى الحج إليه: أقول والنفس حزنى منك والهة ... مما تحاذره من فقد محياها ومن له رب ما تراه من عمل ... برٍ وإن كان في بقياه بقياها فإن تُقم لم يُرِعني نأيُ مرتحل ... وإن ترد سفراً ودعتك اللهَ نفسي بما ترتضيه غير كارهة ... وحسبك أن ما أرضاك أرضاها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 فأجابه أبو عمران رحمه الله: حياك ربك من خل أخي ثقة ... وصان نفسك بالتكريم مولاها من كل غم وشأن لا يوافقها ... هو العليم بما يبديه مولاها ولا أضاع لها الرحمن حرفتها ... وقولها إن تسر ودعتك اللهَ فالله يجمعنا من بعد أوبتنا ... ويؤتنا من وجوه البر أسناها وتوفي أبو عمران سنة ثلاثين وأربعماية. ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثماية. فيما حكى الجياني، عن أبي عمر ابن عبد البر، وقال أبو عمر المقرئ: مات وسنه خمس وستون سنة. أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الكناني المعروف بابن الكاتب. من فقهاء القيروان المشاهير، وحذاقهم. قال ابن سعدون: كان موصوفاً بالعلم والفقه والنظر، وفضله مشهور. تفقه في مسائل مشتبهة من المذهب. وحجّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 ولقيه أبو القاسم الطائي بمصر، وسأله عن فروق أجوبته في مسائل مشتبهة من المذهب. قال الطائي: وقد كان أعضل جوابها بكل من لقيته من علماء القيروان. فأجابني أبو القاسم فيها ارتجالاً، على ما كان عليه من شغل البال بالسفر، وقد وقفت على جوابه في جزء منطوٍ على أحد وأربعين فرقاً. وكان قوياً في المناظرة، حتى علا العرق أبا عمران، وبلّ قميصه ورداءه، وصار كمن غمس في ماء. وبينهما في ذلك خلاف ونزاع ومراجعة، في مسائل مشهورة، نقلت عنهما. ولأبي القاسم كتاب كبير في الفقه، نحو ماية وخمسين جزءاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي المعروف باللبيدي. ولبيدة من قرى الساحل، من مشاهير علماء إفريقية. ومؤلفيها وآخر طبقته موتاً. تفقه بأبي محمد ابن أبي زيد رحمه الله، وأبي الحسن القابسي، وسمع منهما ومن غيرهما من شيوخ إفريقية، وعباد أهل الرّباط، كأبي الحسن اللواتي، وأبي إسحاق الساحلي، وأبي عبد الله بن مالك الطرشي، وصحب الشيخ الفاضل أبا إسحاق الجبنياني، وانتفع به. روى عنه أبو عبد الله بن سعدون وغيره من القرويين والأندلسيين، ووجهه أبو الحسن القابسي لتفقيه أهل المهدية، وامتدّ عمره بعد اقترانه، فجاز رئاسة العلم، والتشييخ فيه بالقيروان. وألّف كتاباً جامعاً في المذهب كبيراً. أزيد من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 مائتي جزء كبار، في مسائل المدونة وبسطها والتفريع عليها. وزيادات الأمهات، ونوادر الرايات. وألف أخبار مشيخة أبي إسحاق الجبنياني، وفضائله. وكتاباً في اختصار المدونة، سماه الملخص، وكان أيضاً ينظم الشعر، ويحسن القول. فمما أنشده لنفسه قوله: أنت العلي وأنت الخالق الباري ... أنت العليم بما تخفيه أسراري أنت العليم بما في الخلق مقدرة ... في وسع عيش وفي بؤس واقتار تصفي الولاية أقواماً فتكسبهم ... ثوب المهابة محروساً من العار تجول في ملكوت العزّ أنفسهم ... تبدي مدامعهم خوفاً من النار قد أسلموا الأرض والأوطان وارتحلوا ... ما إن نرى مثلهم من نازح الدار يا طول حزني على تركي لوصلهم ... يا ويح نفسي على بعد وإدبار عسى المليك يذود النفس عن عطب ... يجلو العمى بتوفيق وأنوار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 وتوفي بالقيروان فيما أخبرني ثقة من شيوخنا: سنة أربعين وأربعماية. قال غيره: ذلك لليلتين بقيتا من شوال منها، بالقيروان. وسنه ثمانون سنة. وصلى عليه ابنه أبو بكر. وكان أبو بكر من أهل العلم. وحضر جنازته صاحب إفريقية. وجميع رجاله. ودفن في داره. ورثي بمراثٍ كثيرة. ونوه السلطان إثر ذلك بولده، وخلع عليه وأجلسه مقعد أبيه، وسنذكره إن شاء الله تعالى. أبو القاسم خلف ابن أبي القاسم الأسدي المعروف بالبرادعي. ويكنى أيضاً بأبي سعيد. من كبار أصحاب أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وحفاظ المذهب المؤلفين فيه. له كتاب التهذيب واختصار المدونة، وحذف ما زاده أبو محمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وقد ظهرت بركة هذا الكتاب على طلبة الفقه. وتيمنوا بدرسه وحفظه. وعليه معول أكثرهم بالمغرب والأندلس، على أن أبا محمد عبد الحق ألّف عليه جزءاً، فيما وهم فيه على المدونة. وأنا أقول: إن البرادعي ما أدخل ما أخذ عليه فيه، إلا كما نقله أبو محمد ابن أبي زيد، ومن تآليفه أيضاً كتاب تمهيد مسائل المدونة على صفة اختصار أبي محمد وزياداته. ولأجل ذلك قصده بعض الطلبة ليسمعه منه. فلما أتم الصدر، أغلق كتابه وقال: قد سمعت الباقي على أبي محمد. وهل زدت فيه غير هذا الصدر، وكتاب الشرح والتّمامات، وكتاب اختصار الواضحة. ولم تحل له رئاسة بالقيروان، وكان مبغضاً عند أصحابه، بصحبة سلاطينها الذين تبرأوا منهم. فكان مرفوض القول لديهم، ثقيل المكان عليهم. ويقال إن فقهاء القيروان أفتوا برفض كتبه، وترك قراءتها لتهمته لديهم، وسهل بعضهم في اختصاره المدونة وحده، لشهرة مسائله. ويقال إن الذي مكّن تغيرهم عليه، أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 وجد بخطه في ذكر بعض بني عبيد، أو أسبابهم يتمثل في تفريطهم بهذا البيت المشهور: أولئك لوم إن بنوا أحسنوا البناء ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا ويقال: بل سببه أنه ألّف كتاباً في تصحيح نسب بني عبيد، وأنه كانت تأتيهم إمامة. ويقال: بل لحقه في هذا دعاء الشيخ أبي محمد، رحمه الله. إذ كان البرادعي أيام دراسته عنده، لا يزال يتسبب في الاعتراض عليه والتنبيه على أوهامه، والإزراء ببعض كلامه. فعزّ ذلك على الشيخ، وتفرّغ عند خروجه الى الدعاء عليه. فكانوا يرون أن ذلك لحقه منه، فلفظته القيروان. ولم يستقر بها. فخرج الى صقلية، وقصد أميرها. فحصلت له مكانة. وعندها ألّف كتبه المذكورة. وكان ممن له دنيا، ولم يبلغني وقت وفاته. رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 أبو عبد الملك البوني رحمه الله واسمه مروان بن علي القطان. أندلسي الأصل. سكن بونة من بلاد إفريقية. وكان من الفقهاء المتفننين. وألّف في شرح الموطأ، كتاباً مشهوراً حسناً، رواه عنه الناس، وتفقه بأحمد بن نصر الداودي. روى عنه حاتم الطرابلسي وأبو عمر ابن الحذاء. قال حاتم: كان رجلاً فاضلاً حافظاً، نافذاً في الفقه والحديث. أصله من قرطبة. سمع معنا وكتب عنه تفسير الموطأ من تأليفه. ولازم الداودي وغيره. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان صالحاً عفيفاً عاقلاً، حسن اللسان رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 أبو عبد الله محمد بن عباس الأنصاري المعروف بالخواص، من فقهاء إفريقية ورواتها، ومقدمي فضلائها وزهادها، وأصحاب الفاسي، وأصاب أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي سعيد ابن أخي هشام. حدث عنهما عن زياد بن عبد الرحمن، وتميم ابن أبي العرب، وأبي الحسن البلوي، وأبي محمد البادسي، وهبة الله ابن أبي عقبة، وأبي بكر الصقلي، وأبي القاسم الصقلي، وابن حنيف السوسي، وأجازه سهل بن عبد الله بن سودان، وروى عنه عبد الجليل الربعي، وابن المرابط المري، وابن سهل القروي. وتوفي رحمه الله في شعبان، سنة ثمان وعشرين. ورثاه أبو علي ابن رشيق بقصيدة أولها: الله باقٍ وكلٌ هالك مودي ... والموت ليس على حال بمردود فانظر وإنك في الدنيا على خطر ... ما يفعل الدهر في صم الجلاميد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 رماها العنى في دار غبطته ... إذا استفاد بلى منها بتجديد هذا محمد المحمود أجمعه ... قد خلف الدهر فينا غير محمود فأي حظ من المعروف منقطع ... وأي ركن من الإسلام مهدود أودى ابن عباس الثاني ووارثه ... ديناً وعلماً وفضلاً غير مجحود أودى ولم يبق شيئاً كان يملكه ... إلا بيوتاً كأمثال المساجيد من لا يردّ ضعيفاً عند مسألة ... ولا يُرى وهو ثاني العطف والجيد فليبكه كل ملهوف لحاجته ... وكل معفى عن الأبواب مطرود له التقدم في فرض نافلة ... على أئمتنا الغر الصناديد فما رأيت مصابيح الهدى اجتمعوا ... إلا وألقوا إليه بالمقاليد عبد الله بن إسحاق السرتي يعرف بابن سمحان، من فقهاء إفريقية، يروي عن عبد الله المستملي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 أبو محمد بن هبة الله البلوي رحمه الله أبو القاسم. قيرواني، فقيه واسع الرواية، له رحلة الى الشرق. أبو عبد الله مكي بن عبد الرحمن المنستيري القرشي من فقهاء إفريقية. وأصحاب القابسي. وكان كاتبه ومختصاً به. رحمه الله. أبو علي حسين بن محمود المولى التونسي قدم القيروان سنة ثلاث وعشرين. فسمع عنه بها. يروي عن الإبياني. ورحل الى المشرق ولقي ابن فورك وغيره. روى عنه عبد الجليل الرّبعي. وأبو محمد بن سهل المقري، وأبو بكر عبد الله بن محمد المالكي. وأبو عبد الله المعروج القار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 محمد بن سفيان الهواري رحمه الله المقري، قيرواني. أبا عبد الله بن محمد. أخذ عن القابسي، ورحل الى عبد المنعم بن غلبون. وكان الغالب عليه علم القرآن. قال أبو عمر الداني: كان ذا حفظ وفهم، وستر وعفاف. قال حاتم الطرابلسي: كان رجلاً عاقلاً فهماً، حلواً متقللاً. أشهر من في المغرب في وقته بالقراءات، وأبصرهم بها. وله في القراءات كتاب الهادي وغيره. روى عنه حاتم الدّلائي. قال أبو الطيب الخلودي الفقيه: كان شيخنا أبو عبد الله بن سفيان، إماماً فاضلاً، وكان له اعتناء بعلم الحساب، والهندسة. وقد حكى ابن محرز عنه في مسألة. قال أبو عمر المقرئ في طبقاته: وخرج من القيروان لأداء الفريضة، سنة ثلاث عشرة وأربعماية. فحجّ وجاور بمكة. ثم أتى المدينة. فتوفي بها سنة خمس عشرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 سيدي محرز العابد رحمه الله تعالى وغفر له هو أبو محمد محرز بن خلف ابن أبي رزين التونسي، المعروف بالعابد. خاتمة صلحاء علماء إفريقية. روى عن أبي إسحاق الدينوري. وكتب الى الأبهري، ولا أدري لقيه أم لا. روى عنه حاتم، وكان متقشفاً فاضلاً، زاهداً في الدنيا، مجانباً لأهلها، مستجاب الدعوة. ذكر أن أهل تونس لما قتلوا الروافض، القتلة المعلومة، وحدثوا أن محرزاً شيخهم حملهم عليه، وطهر الأرض منهم، ورفعت القصة الى باديس أمير إفريقية، حنق على التونسيين، وعزم على القصد لهم، وقال: تكون الأرض، ولا تكون تونس. فبلغ الخبر أهل تونس، فجزعوا له. وفزعوا الى شيخهم محرز، وأخبروه ما بلغهم بأنفسهم، وقال لهم: بل تكون الأرض ولا باديس، فأخذ في الدعاء عليه. فأخذ باديس ذبحة أتت عليه، وأراح الله تعالى منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 حكى بعضهم أنه كان آخر ليله ونهاره، إنما صلاته النافلة. يصلي ركعتين ثم يجلس، يتفكر ساعة أو ساعتين، ثم يقوم فيركع ركعتين ثم يجلس يتفكر، يفعل ذلك عامة ليله ونهاره، وكان بتونس، صقليّ أمر الناس ألا يكبّروا على الميت، إلا خمس تكبيرات. فقال له المشارقة: أبو كسية يكبّر أربعاً، ولا يؤذن حيّ على خير العمل، ولا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، ولا يسلم تسليمتين، ولا يؤذن الصلاة خير من النوم. فأرسل وراءه، فدخل عليه محرز، وحول الصقلي المشارقة. فلم يسلّم، فقال له الصقلي: السلطان يأمر بكذا. وأنت لا تفعل أمر السلطان، إحذر من السيف. فقال له: الصراط أحدّ من السيف، ومن السلطان وأمره؟ ثم انصرف. فبهت الصقلي، ولم يتكلم بكلمة. وغشي عليه، فلما أفاق من غشيته، قال: تقولون أبو كسية؟ لما أشار بيده إليّ حسبت كأن من ضربني برمح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 في القلب، فغشي عليّ. ودخل عليه كاتب ابن أبي العرب. فقال: أحب أن توصيني بوصية، الى عبد الله ابن أبي العرب. فقال له: ولابد. قال: نعم، إذا وصلت إليه، فقل له: يقول لك المؤدب إقرأ سورة ابراهيم. فإذا فرغت منها كررها ثلاث مرات، يريد تنبيهه على قوله تعالى: " ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون " الآية. كتب الى الأبهري، أبي بكر، يسأله عما يأخذ بنو عبيد من الزكاة. فأجاب بأنها لا تجزئ. وكذلك الجبنياني، والقابسي. لأنهم يقرون بالزكاة المفروضة، وإنما يأخذونها على أنها جزية. وهم على غير الإسلام. وقال ابن أبي زيد وابن اللباد: إنها تجزئ، لأنا إن قلنا لا تجزئ، لم يؤدوا شيئاً. فلأن يؤدوا بتأويل، خير من تركها عامدين. قال أبو محمد: وكنت أستحب ذلك، إذ كانوا يشحون بيت المال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 وقد أعطوا ذلك اليهود والنصارى وأنفقوها في الخمور، وحالوا بينها وبين أهلها. فلا تجزئ ويكون ما أخذوا منها، كمالٍ غصبه الغاصب، وعلى أهل الأموال إخراج زكاة ما بقي، كان فيه ما فيه الزكاة. قال: جُعِلت على بعض طلبة المؤدب محرز دراهم، جوراً وظلماً. فأتى المؤدب فأخبره. فقال: لا خلاص لي من هذا، إلا بالله، ثم بك. فإن امتنعت خاصمتك غداً بين يدي الله تعالى. فقال الشيخ عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. ما تريد يا أخي؟ قال: كتاباً الى باديس، يصرف عني ما أنا فيه. فقال: تكلفني مشقة. فقال: لابد. فقال الشيخ: الله المستعان. وأخذ قرطاساً وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حقق الله الحق في قلوب العارفين من عباده، ونقل المذنبين الى ما افترض عليهم من طاعته. أنا رجل قد عرف كثير من الناس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 اسمي. وهذا من البلاء. وأنا أسأل الله أن يتغمدني برحمة منه، وفضل. وربما جاء المضطر يسأل الحاجة. فإن تأخرت، خفت، وإن سارعت، فهذا أشرّ. وقد كتبت إليك في مسألة رجل من الطلبة، طولب بدراهم ظلماً، ولا شيء له. وحامل رقعتي يشرح لك ما جرى، فعامل فيه مما لابد من لقائه، واستح ممن هو وحده. وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء. فإنهم إنما يريدون دراهمك ويقرّبون من النار لحمك ودمك. فاحفظ، تحفظ واتق الله، فإن من يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ومن يتق الله يجعل له مخرجا. واستعن بالله، فإنه من يتوكل على الله، فهو حسبه. الآية. واستكثر من الزّاد، فقد دنا الرحيل. والسلام. فتلقى الطالب بكتابه، ولد المنصور. فقال له كاتبه - ابن أبي العرب - ما تريد؟ فأعلمه. فقال: هات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 الكتاب. فقال الطالب: إنما أريد وضعه في يد باديس. فأخذه باديس، وقبّله. وقال: هذا كتاب صديق الله. وأم الكاتب أن يكتب سجلاً، لجميع الطلبة بالحفظ، والرعاية. وأن يصرف عن جميع طلبة الشيخ ما تسبب إليهم، من المظالم. ظ، والرعاية. وأن يصرف عن جميع طلبة الشيخ ما تسبب إليهم، من المظالم. أبو بكر عتيق السوسي قيرواني، من أصحاب القابسي. رضي الله عنه أبو محمد عبد الله العربي قيرواني، معظّم في فقهائها. ذو علم، وحفظ، ونظر، وتحقيق، من أصحاب القابسي. أخذ عنه ابن محرز وابن سعدون، وغيرهما. قال ابن سعدون: مبرزاً من أحفظ الناس. القاضي أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحصائري. صقلي. لقي أبا محمد ابن أبي زيد، وأبا الحسن ابن بكرون، وأبا عبد الله محمد بن أحمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 بن يزيد القروي، من أهل الفقه والفضل والدين، والرواية. أخذ عنه الناس، وتفقهوا عليه. سمع منه عتيق السمنطاري، وأبو بكر ابن يونس، وعتيق بن عبد الجبار، الربعي، الفرضي. أبو بكر بن العباس فقيه صقلية. فاضل. أدب في القرآن والفرائض وتفقه عليه في المدونة وكان إماماً في علم الفرائض، وعنه أخذها أهل صقلية وغيرهم. حدث عن القابسي، أخذ عنه ابن يونس، والسمنطاري. أبو علي حسن بن أبي طالب الزيّات المروي فقيه حدث عن هبة الله بن عقبة بن سعدون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 أبو حسين بن سلمون المسيلي دخل الى الأندلس، فقطن قرطبة، بعهد الجماعة. فلم يرمها، وشهر بها علمه وفضله، وولي الشورى. فكان أحد جلة مفتيها الى أن مات. وكان عفيفاً متواضعاً حافظاً للمسائل، واقفاً على الأصول، فيما قاله ابن حيان. قال: وتوفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين وأربعماية. رحمه الله. أبو عبد الله ابن البناء رحمه الله فقيه زاهد من أهل صقلية، رضي الله تعالى عن جميعهم. محمد بن محمد بن إدريس الزيات المعروف بابن الناظور، وأبو بكر من فقهاء القيروان، وأهل العناية بالعلم والظهور في الحديث والفقه. سمع من أبيه ومن أبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي القاسم الستوري، وهبة الله بن محمد، وأبي الحسن بن شعبان وأبي إسحاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 ابراهيم بن عبد الله الملايسي، وجماعة غيرهم. وكان أبوه راوية القيروان في وقته. رواه عنه ابن سعدون الفقيه، وأبو محمد بن سعيد. أبو بكر بن عبد الله بن أبي زيد ولد الشيخ أبي محمد. كانت له ولأخيه عمر بالقيروان، مكانة جليلة، بأبيهما وتقدمهما. ووليَ قضاء القيروان، قبل الفتنة. ولم يكن فيما بلغني بالمحمود السيرة. وقد رويت عنه كتب أبيه. وكان أدركه صغيراً. وكتب أحمد بن نصر الداودي عنهما. ولم يكن بالطائل المعرفة. وله ولأخيه خاطبهما ابن رشيق بقوله: يا موضعي أملي على التحقيق ... وسميّي الصدّيق والفاروق ما زال رأيكما كرأي أبيكما ... يجري على التسديد والتوفيق لكن أمتُّ إليكما دون الورى ... فسرقت أمن ما لكون فويق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 من أي وجه تنصران مخاصمي ... من بعد ما وجبت عليه حقوقي وأنا أحق بذاك غير مدافع ... في كل ناحية وكل طريق إن كان إشفاقاً عليه فإنه ... فيما تعالى لم يكن بشفيق لا ترغبا في بر من هو مثله ... فلرب برٍّ يرجعنْ بعقوق وإذا الفتى لم يرضَ من خالقه ... لم تلقه يرضى عن المخلوق أبو عمر عثمان أبو العتاب من فقهاء القرويين، وعظماء مدرسيها. أخذ عن القابسي، رحمهما الله. أبو المنجار زيادة الله رحمه الله الطرابلسي. له كتاب تذكرة الدارس. رضي الله عن جميعهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 أبو الحسن علي بن محمد رحمه الله المعروف بابن الهمر، من أهل طرابلس. أخذ ببلده عن ابن بكرون، وبه تفقه. وبمصر عن محمد بن عبيد الوشاء، وأبي القاسم الجوهري، وبمكة عن أبي الحسن ابن رزين، وبالقيروان عن القابسي، وكان فقيهاً فرضياً. له في الفرائض كتاب مفيد مشهور، سماه بالكافي. أخذ عنه ابن محرز. أبو الحسن بن سي رحمه الله قاضي طرابلس. من أصحاب ابن بكرون أيضاً. رضي الله عن جميعهم. أبو بكر اسماعيل بن إسحاق بن عذرة الأيدي فقيه فاضل زاهد قيرواني. من أصحاب أبي محمد ابن أبي زيد، وطبقته. ورحل الى المشرق فلقي ابن مجاهد الطائي المتكلم، وأخذ عنه. وأبا بكر الأبهري، وأبا بكر محمد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 أحمد البغدادي. وسمع غيرهم. وكان الغالب عليه الزهد والعبادة. وقد سمع منه الناس، روى عنه حاتم الطرابلسي، وأبو مروان الطلبني، وأثنى عليه ابن أبي زيد في شيبته، في كتابه منه، الى من سأل ابن عذرة عن خطباء بني عبيد. وقيل له: إنهم يثنون عليهم. قال: أليس يقولون: اللهم صل على عبدك الحاكم، وورّثه الأرض؟ قالوا: نعم. قال أرأيتم لو أن خطيباً خطب فأثنى على الله تعالى ورسوله، فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافراً؟ قالوا: نعم. قال: فالحاكم أشر من أبي جهل. وسئل الداودي عن المسألة فقال: خطيبهم الذي يخطب لهم، يدعو يوم الجمعة. كافر يقتل. ولا يستتاب، وتحرم عليه زوجته، ولا يرث ولا يورث ماله في المسلمين. وتعتق أمهات أولاده، ويكون مدبروه للمسلمين. يعتق أثلاثهم، بموته، لأنه لم يبق له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 مال. ويؤدى مكاتبوه للمسلمين ويعتقون بالأداء، ويرجعون بالعجز، وأحكامه كلها، أحكام الكفر. فإن تاب قبل أن ظهر الندم، ولم يكن أخذ دعوة القوم، قبلت توبته. ومن صلى وراءه، خوفاً، أعاد ظهراً أربعاً. ثم لا يقيم إذا أمكنه الخروج، ولا عذر له بكثرة عيال ولا غيره. أبو محمد بن الكراني من فقهاء القيروان سئل عن من أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم، أو يقتل؟ قال: يختار القتل، ولا يعذر أحد بهذا، إلا من كان أول دخولهم البلد. فيسأل إن يعرف أمرهم، وأما بعد، فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع، لا يجوز، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 وإنما أقام من هنا من العلماء والمتعبدين على المباينة لهم، لئلا يخلو بالمسلمين عدوهم، فيفتنوهم عن دينهم. وعلى هذا كان حبيب بن حمدون ونظراؤه، القطّان، وأبو الفضل الممسي، ومروان بن نصرون والجبنياني والسبائي، وبه يقولون ويفتون. وقال أبو يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: أجمع علماء القيروان أبو محمد، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم ابن شبلون، وأبو علي بن خلدون، وأبو بكر الطبني، وأبو بكر بن عذرة: أن حال بني عبيد، حال المرتدين والزنادقة، بما أظهروه من خلاف الشريعة، فلا يورثون بالإجماع، وحال الزنادقة بما أخفوه من التعطيل. فيقتلون بالزندقة، قالوا: ولا يقدر أحد بالإكراه على الدخول في مذهبهم، بخلاف سائر أنواع الكفر. لأنه أقام بعد علمه بكفرهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 ولا يجوز له ذلك، إلا أن يختار القتل، دون أن يدخل في الفكر. على هذا الرأي أصحاب سحنون يفتون المسلمين. قال أبو القاسم الدهان: وهم بخلاف الكفار، لأن كفرهم خالطه سحر بمن اتصل بهم، خالطه السحر. ولما حمل أهل طرابلس الى بني عبيد، أضمروا أن يدخلوا في دينهم، عند الإكراه. ثم ردوا من الطريق سالمين. فقال ابن أبي زيد رضي الله عنه: هم كفّار لاعتقادهم ذلك. عبد الرحيم بن أحمد الكتامي أبو عبد الرحمن، المعروف بابن العجوز من أهل سبتة. كان كبير قومه، كتامة. وإليه كانت الرحلة في جهة المغرب. وذا ذكر شهير في بلاد المغرب. ومنزلهم بالدمنة، من بلد قومهم، معروف. وإليه كانت الرحلة في جهة المغرب في وقته. وعليه مدار الفتوى، سمع عبد الرحيم بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 العجوز، وطلب العلم، ورحل فيه الى الأندلس، وإفريقية. ولزم أبا محمد بن أبي زيد فقيه القيروان نحو خمسة أعوام، وسمع منه كتبه النوادر، والمختصر وغير ذلك. وسمع أيضاً من عبد الملك بن الحسن الصقلي. وسمع من درّاس بن اسماعيل القابسي. وأبو محمد الأصيلي، ووهب بن مسرة الحجاز، وكانت رحلته ورحلة صاحبه، محمد بن غالب الى القيروان، في نحو الثمانين وثلاثماية. قرب وفاة أبي محمد ابن أبي زيد، رحمه الله. أخذ عنه الناس بسبتة، علماء كثيراً. وتفقهوا عليه وسمعوا منه. وكان من حفاظ المذهب القائمين به. روى عنه أبو محمد قاسم ابن المأمون، ومحمد بن عبد الرحمن بن سليمان، وابن خلف الله، وجماعة فقهاء السبتيين والفاسيين، وسواهم من غيرهم، ممن روى عنه. وأبو عثمان بن سولب من أهل قلعة حماده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وتوفي رحمه الله: سنة ثلاث عشرة وأربعماية. وكان له بنون، عبد العزيز، وعبد الرحمن، وعبد الكريم. فأما عبد العزيز وعبد الرحمن، فخلفا أبيهما وسدا مكانه. وسيأتي ذكرهما. وأما عبد الكريم فطلب العلم أيضاً. وسمع من أبيه، وكان أكثر مدته في قومه كتامة، رأساً فيهم. وهم له طاعة. وقتله المرابطون عند غلبتهم على كتامة. ودخولهم قلعتهم الدمنة. يوسف بن حمود بن خلف بن أبي مسلم الصفّي القاضي. أبو الحجاج. سبتي شهير البيت بها في العلم. كان فقيهاً خيراً فاضلاً زاهداً متقشفاً أديباً شاعراً. راوية. سمع من شيوخ بلده. ورحل الى الأندلس، فسمع أبا محمد الباجي، وأبا محمد الأصيلي، وأبا المغيرة خطاب بن بتري. وأبا بكر الزبيدي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 وغيرهم. ووليَ قضاء سبتة ولاه المستعين من بني أمية العلويين، بعد قتل ابن زوبع. فكان من أجل قضاتها طريقة، وأحمدهم سيرة، وأشدهم على أصحاب السلطان شكيمة. وله في كل هذا أخبار مأثورة. وكان يرغب الانحلال عن الخطة، فلا يسعف. رحل الى المشرق، وهو كبير. بعد ولايته القضاء، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. واستعفى الى الخطة عنه. فلم يسعف في الانحلال، فقيل له: استخلف. فاستخلف قاسم بن الفضل ابن أبي مسلم. وتخطط بالفقهاء. وسافر، فحجّ وسمع من أبي ذر، وأبي عبد الله الصوري، وانصرف. فرجع الى قضائه. وكان على مكانه من الجلالة، كثير التواضع، يمتهن نفسه، في نتاول أسبابه وفلاحته جنته. ويمتطي حماراً له في تصرفاته. حدّثني من رآه متحزماً في جنته بالميناء، ينظر في بعض مصالح غراستها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 وحدثني غير هذا: أنه كان في بعض أزقة الميناء، إذ سمعت الناس يقولون: القاضي. ويتأهبون لحضوره. قال: فإذا بشيخ طويل القامة، أبيض اللحية، طويلها، يمشي وبيده قفة، فيها آلة الفلاحة. قد سترها بطنب غفارة عليه. وإذا به القاضي منصرفاً من جنته تلك. وخيره مع الغربيين اللذين قصداه، فألفياه بجنته. فدقا عليه الباب، فخرج إليهما في صورة خدمة الجنات، فعرّفاه أنهما يريدان لقاء القاضي، وهما يظنان أنه أجيره. فقال لهما: ترونه إن شاء الله تعالى. فلما قضى شغله لبس ثيابه، وركب حماره، وانصرف الى المدينة والرجلان معه. وتبين لهما من إجلاله وإكبار الناس له، أنه القاضي، فاعتذرا له، فهون عليهما ونظر في قصتهما. ومن خبره أن إدريس بن علي الحسني، أمير سبتة إذ ذاك، رأى هلال شوال في جماعة من أصحابه، ولم يره أحد من أهل سبتة سواهم. فقال له بعض أصحابه: إدفع شهادتك الى القاضي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 وثبات ذلك عندك وصحته. فقال لهم ابن حمود: ذلك لا يغني عنده شيئاً، فأنكروا ذلك عليه. فقال لهم: سترون. ووجه إليه بعض ثقاته، يخبرونه برؤيتهم الهلال. ويأمه بالخروج من عندهم الى الصلاة، مع الناس. فقال لهم: إن كان ثبت عندي شيء يوجب أمراً الى الآن. فرجع الرسول إليه. فقال لهم أبيتم إلا فضيحتنا. وقطع اليقين على أنه لا يقبل شهادتنا؟ قال: وجاء داخل الليل شيء من الصيادين، في البحر من الثقات. فأخبروه بكشفهم الهلال، من موضع صيدهم، ورؤيتهم له. فأثبت شهادتهم ووجه الى ابن حمود بإثبات الخبر عنده، بشهادة من شهد بذلك من الصيادين، فزادهم عجباً. وقد بسطنا من أخباره أشبع من هذا في قضاة السبتيين من تاريخنا. ولم يزل ابن أبي مسلم يتردد في الاستعفاء من القضاء الى آخر أيام إدريس. فصرفه وألحقه غضاضته. وسبب عليه من يطلبه، بما تولاه من الأحباس والأوقاف، فوقاه الله شرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 توفي إثر ذلك في نحو ثلاثين وأربعماية. وكانت مدة قضائه، بضعاً وعشرين سة. وابنه أبو الفضل حمود، أحد رجالات سبتة. وكان قليل العلم، استشاره البرغواطيون في قلة الفقهاء. وكان المنظور إليه في البلد من مواليهم الأدراسة، سمع منه ابنه حمود، وابن أخيه ابراهيم بن الفضل القاضي، وقاسم بن علا قومه، وبنو عنان، وعبد الله بن محمد بن غالب، واسماعيل بن حمزة وابن المري، والمسيلي، ومحمد بن سليمان المعافري، وجماعة سواهم، من أهل بلدنا. والغرباء، ورحل إليه، رحمه الله. من أهل الأندلس عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو بكر المخزومي. قرطبي. أبو بني زيدون، وزراء العبّادية. كان أحد أصحاب ابن ذكوان، وكان متفنناً في ضروب العلم، جم الرواية والمعرفة. فصيحاً، جميل الأخلاق. ويخضب بالسواد، وكان أحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 المشاورين المفتين بقرطبة. وابنه الأديب أبو بكر ابن زيدون ذو الثناء البعيد، في جودة الشعر والبلاغة. ولي كتابة المعتضد ابن عبّاد، وابنه، وليَ بعده وزارة ابنه المعتمد. وقتله المرابطون عند دخولهم عليه قرطبة، وقتلهم صاحبها المأمون ابن المعتمد بن عبّاد. وكانت وفاة الفقيه أبي بكر ابن زيدون: سنة خمس وأربعماية. وهو كهل، ابن نحود الخمسين سنة بالبيرة، فجيء بتابوته الى قرطبة. فدفن بها. ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثماية. ورثاه أبو عبادة ابن ماء السماء الشاعر، بقصيدة أولها: أي ركن من الشهادة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا مثل حمل الرياح مزناً طبيباً ... ليداوي به مكاناً مريضا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 أبو عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن الفخار، ويعرف بالحافظ - لقب عرف به - أحد أئمة المالكية بقرطبة. وأحفظ الناس وأحضرهم علماً، وأحسنهم تذكّراً، وأسرعهم جواباً، وأوقفهم على اختلاف العلماء، مرجحاً بين المذهبين. جافظاً للحديث والأثر، مائلاً الى الحجة والنظر، سمع أبا عيسى، وكان أولاً يميل الى مذهب الشافعي، ثم تركه. وروى عن الربيع أنه قال: دخلت على الشافعي في مرض موته، فوجدته يبكي. فقلت له: ما بكاؤك رحمك الله. قال أبكي، والله، لمفارقة مذهب مالك، وأنا أعلم أنه الحق. وكان ابن الفخار، يفضل داود القياسي ويقول في بعض الأشياء بقوله. قرأت بخط أبي محمد ابن أبي قحافة الفقيه. وذكر ابن الفخار، فقال: كان واحد عصره، وبديع دهره، ورئيس وقته، وعالم فقهه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 وكان أرزق الناس وأسكنهم طائراً، وأقنعهم مجلساً، قبل أن يهاج. وكان سريع الغضب، تبدر منه عند ذلك بوادر، لا يضبط كلامه عند ذلك. وكان ذا منزلة عظيمة في النّسك، والفقه، والتقشف، والمشاورة في الأحكام. ورحل الى المشرق، فحجّ، وجاور واتسع في الرواية. وسكن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وشوّر بها، فكان يفخر بذلك على أصحابه. وكان كثير الانتزاع بكتاب الله تعالى. حاضر الجواب في ذلك. وحكي أنه قال: لما حججت وانصرفنا، وصلت برقة. فرأيت قائلاً يقول لي في النوم: يا محمد ارجع فحجّ، فإنك لم تحجّ. ففكرت في العلة. فوجدت المال الذي أنفقته، فيه شيء، فتفرغت من بقيته، ورجعت أخدم في سقي الماء وغيره، حتى حججت مرة ثانية. فلما بلغت برقة رأيت ذلك القائل بعينه يقول لي: قد قبل حجّك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وله اختصار في كتاب نوادر الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد. ورد عليه في بعض مسائله، واختصار المبسوط لاسماعيل القاضي، لا بأس به. وله رد على أبي محمد ابن أبي زيد، في رسالته، رداً تعسف عليه فيه. في كتاب سماه التبصرة. ورد على أبي عبد الله بن العطار في وثائقه. وكانت له مذاهب، أخذ بها في خصة نفسه، خالف فيها أهل قطره. وكان يصلي الإشفاع خمساً، ويعجل بصلاة العصر شديداً ولا يرى غسل الذكر كله من المذي. وكانت له أعمال من البر صالحة. ودعوات مستجابات. وانتفع المسلمون بوعظه، وإرشاده. وفرّ عن قرطبة عند غلبة البرابرة عليها، لهدرهم دمه. إذ كان أحد المشددين في صلحهم، والنهي عنهم. فاضطرب بجهات الغرب والشرق وألقى عصاه ببلنسية. فأقام بها مطاعاً الى أن هلك لعشر خلون من ربيع الأول، سنة تسع عشرة فيما قاله ابن حيان. وثمان عشرة فيما قاله ابن مفرج، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 وأربعماية. وسنّه نحو الثمانين سنة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، وعاين الناس فيها آية من طيور سوداء، مثل أمثال الخطاطيف تخللت الجمع دافقة فوق نعشه، مرفرفة عليه، لم تفارقه الى أن ووري في لحده، وسوي علي، فعجب منها. أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن التجيبي المعروف بابن حرمل، قرطبي. كبير المفتين في هذه الطبقة. سمع أبا ابراهيم، وابن الأحمر، وابن حارث، وابن مطرف، وأبا عثمان بن عبد ربه، وابن السليم القاضي، وأبا عيسى، واسماعيل بن بدر، وأبا جعفر التميمي. أخذ عنه ابن عتاب، وحاتم، جميع مسائل ابن زرب. قال أبو عبد الله الخولاني: كان من أهل العلم والصلاح، والفضل. قديم الخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 قال ابن حيان: كان حافظاً عالماً، راوية، وجيهاً في قضاء الحوائج. طليق المحيا لجميع الناس، ولحقته زمانة أقعدته آخر عمره في بيته. وتوفي في منتصف صفر، سنة نيف وعشرة وأربعماية، فقده الناس. وترك ابنه محمداً. وكان له حظّ من علم الشروط والأدب والمعرفة. ولم يحذق الفقه حذق غيره، ولا حفظ المسألة حتى حفظها. وكان ذا مروءة وظرف وفصاحة. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعماية. ومولده سنة إحدى وسبعين وثلاثماية. رحمه الله تعالى. أبو المطرف عبد الرحمن بن هارون بن عبد الرحمن الأنصاري المعروف بالقنازعي. منسوب الى صنعته. قرطبي، فقيه زاهد ورع، متقشف، تفقه بالأصيلي، وابن المكوى، وابن أخي مسلمة، ونظرائه بالأندلس. وسمع الحديث بها من ابن أبي عيسى، والقلعي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 وابن عون الله، وابن الخراز والباجي، وابن القوطية، وأبي المغيرة ابن بتري، وابن مفرج. ثم رحل الى المشرق، فلقي ابن أبي زيد بالقيروان، وأخذ عنه، وحجّ وسع بمصر، من أبي علي المطرزي، وأبي الحسن ابن شعبان، وأبي القاسم ابن المؤمل، وأبي محمد الفاسي، وأبي الطيب الحريري، وأجازه ابن رشيق. وأخذ عن أبي بكر الأرموني، ثم تركه، إذ رآه داخل بني عبيد. وخرج محملاً بهم، فحمل بين يديه بين السماطين، وكان يقول: إنه دخل مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط. وفيه من مجالس المالكية في الفقه، والحديث نحو عشرين حلقة. وأهله يشكون لقياه والنقص بانتقال الدولة للشيعة على السنة. وحدث أبو علي المطرزي أن حمزة الكناني، قال له في سنة ثمان وأربعماية: سيمر بك سنة تسع وستين إن عشت، ولست والله ترى في الجامع من ينصر الله، ولا رسول من سنة. قال المطرزي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 فمات من كان بها من العلماء. ومنع بقيتهم من الجلوس في الجامع. والأمير كان على مذهب الشيعة. فجاءت السنة المؤرخة، بما قال حمزة. وذكر الفقيه أبو عبد الله بن عتّاب، فقال: كان خيراً فاضلاً. قدمه القاضي ابن بشر الى الشورى، فلم يلتفت الى ذلك، واستحضره للشهادة فاعتذر، وأبى. وكان يقرأ القرآن. قال ابن عبد البر: كان خيراً عفيفاً ورعاً. كان يلبس قميصاً أبيض، على فروة. وربما لبس الفروة دونها. قال ابن الحصار: كان ورعاً زاهداً صالحاً، من أهل العلم والتفقه في الحديث، وعلوم القرآن، من أحسن الناس تثبتاً لرواية يحيى، وعناية بها. قال ابن حيان، وذكره، فقال: الفقيه المقرئ الراوية الحافظ الزاهد المخبت الورع، المتقشف الفاضل العالم، أحد من تناهت فيه خلال الصلاح بقرطبة. وعظمت به المنفعة. ظاهره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 وباطنه. وسلك سبيل السلف المتقدمين من هذه الأمة في الزهد في الدنيا، والبعد عن الأمراء والقناعة باليسير، والحرص على التعليم والرضى عن الله، والتذكر لبلائه. وكان ممن امتحن بالبرابرة في الفتنة، أيام ظهورهم على قرطبة. محنة أودت بحاله، وقدحت في خاطره. فعراه طيف خيال خفيف، يغشاه فلا يؤذيه، واضطر الى مؤاجرة نفسه في الإمامة والتعليم على حد من التحري. وتسرح في أيام الأخمسة والجمعات، الى الإسماع والتفقه. وكان أقوم من بقي بحديث موطأ مالك رحمه الله، وله في تفسيره كتاب مشهور، مفيد مستعمل، واختصار كتاب ابن سلام في تفسير القرآن، وكتاب اختصار وثائق ابن الهندي. وكان له حظ من علم العربية، يستقل به. روى عنه ابن عتاب، وابن عبد البر، وابن الطبني، وأبو أحمد جعفر ابن عبد الله التجيبي، وعبد الرحمن القلعي، والطرابلسي. مولده سنة إحدى وأربعين وثلاثماية. وتوفي في رجب سنة ثلاث عشرة وأربعماية بقرطبة. رحمه الله. وجعلت رجلاه مما يلي يحيى بن يحيى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 أحمد ويحيى ابنا حكم العاملي المعروف بابن اللبان من أهل قرطبة. وليَ أحمد قضاء طليطلة. وأخذ المنصور بها عيداً، فخطب به أحمد بإشارة ابن ذكوان القاضي، تنويهاً به. فارتج عليه، ففزع الى الدعاء ثم صلى. فقال المنصور لابن ذكوان: لم يف ضمانك فيه، لم يأمر بشرائع الإسلام. فذكر له ذلك ابن ذكوان، فقال: أحببت السنّة في تقصير الخطبة، ولم أظن أنكم نسيتم شرائع الإسلام فأذكركم بها. فلما بلغ المنصور كلامه ضحك واستظرفه. وأما أخوه يحيى، فكان في عداد المشاورين بقرطبة. ولم يكن فيها أهلاً لذلك. كان قليل العلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 أبو سعيد عمران بن عبد ربه المعافري. قرطبي. فقيه صالح، اختصر كتاب الدلائل الكبير للأصيلي. وتوفي بقرطبة سنة إحدى وعشرين وأربعماية. رحمه الله تعالى. أبو محمد الشقاق واسمه عبد الله بن سعيد بن محمد، قرطبي. شيخ المفتين بها في وقته، وأحد أكابر أصحاب بني عمر بن المكوى المختصين بقرنائه. وقرأ القرآن على ابن النعمان. وسمع من أبي محمد القلعي. قال أبو مروان: كان أحد علماء الأندلسيين النحارير المبرزين في الفقه، والحذق بالفتوى والشروط والفرائض، والحساب. إماماً في القراءات والتفسير، مشاركاً في الأدب والعربية والخبر، وانفرد هو وصاحبه أبو محمد بن دحون برئاسة العلم بقرطبة. وكانا خليلي صفاء. وقد عمل عمَل القضاء بعهد الجماعة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 ببعض الجهات، ونظر بالحكم بالرد في الفتنة، وذكره أبو عمرو المقرئ في طبقات القراء فقال: كان مقرئاً بالقرى في مسجده، بقرطبة زماناً. قال أبو حيان: كان هو وصاحبه ابن دحون يرخصان في السماع. توفي آخر رمضان، سنة ست وعشرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة. مولده سنة ست وأربعين وثلاثمائة. رحمه الله. أبو محمد عبد الله بن يحيى بن دحون أجد جلّة شيوخ المفتين بقرطبة وكبار أصحاب ابن المكوى، وابن زرب. صحبهما وتفقه بهما وبغيرهما. قال ابن حيان: لم يكن في أصحاب ابن المكوى، بإجماع، أفقه منه. ولا أغوص على الفتيا ولا أضبط للروايات مع نصيب من الأدب والخبر. ولم يكن معه كتب إلا يسيراً من الأصول. وكان بقية علماء وقته بقرطبة. وعاش بعد قرنائه، فانفرد بالرئاسة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 بقية مدته. وكان فكه المجلس. جمّ الإفادة. شديد التواضع مع رفعة حاله، وتقديم الناس له. يشتري جميع ما يحتاج إليه في الأسواق لنفسه. حسن الرأي. أنشد بعض الأدباء لابن دحون، وزعم أنها من قوله، وهي تنشد لابن الروي رحمه الله: عجبت من الخير في أنعم بالدجى ... وأصبح ريّاه مع الصبح يعجب فخلت الرِّيا طبعاً له فكأنه ... فقيه يرائي وهو بالليل يشرب قال ابن حيان: وكان يرخص في السماع، ويجادل فيه عن مذهبه. وسئل عن حاله، فقال: ما حال من يعثر في ثوبه ويلقط الحيوان في جسمه. وتوفي في صدر محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعماية. وسنه تسع وثمانون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 أبو محمد حماد بن عمار الزاهد قرطبي. كان منقطع القرين في فضله. جمع الى العلم الأدب والفقه، والبلاغة. وكان منزوياً عن الناس، منقبضاً عن الرؤساء، متبركاً به، مقطوعاً بفضله. خرج بعد الفتنة الى طليطلة، وطلب لقضاء قرطبة في الفتنة، فلم يطمع به. ولا أعلم أنه أخذ عنه علم. وبه ختم زهاد الأندلس، من طبقته. حدث عنه الطرابلسي. وتوفي بطليطلة سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. وسنه بالقياس أزيد من ماية سنة. وهو ممتع بجوارحه. أبو القاسم ابن نابل رحمه الله واسمه: يحيى بن عمر بن حسين بن محمد بن نابل، قرطبي. بيته، من بيت علم. جدّه أبو بكر: من أهل الرواية الواسعة، عن أحمد بن خالد، ومحمد بن عبد الملك بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 أيمن، وقاسم بن أصبغ، وابن لبابة، والقاضي أسلم. وابن الأعرابي، والطحاوي، والزبيدي، وابن أبي مطر، وأبي الطاهر المدني، وابن الورد، ونظرائهم من الأندلسيين، والمشرقيين. وكان شيخاً صالحاً. له حظ من الفقه، وعقد الشروط، وتصرف في العربية والشعر، وقرضه. غلبت عليه الرواية. حدث عنه ابن الفرضي وغيره. وكانت فيه غفلة. توفي سنة تسع وسبعين وثلاثماية، فيما قاله ابن عفيف، أو اثنين وسبعين. فيما قاله ابن الفرضي. ومولده سنة ست وتسعين ومايتين. وأبوه عمر بن حسين من أهل العلم والرواية أيضاً، عن قاسم بن أصبغ - وهو آخر من حمل عنه - وابن أبي دليم، ووهب، وطبقتهم. وكان مسنداً صدوقاً ثقة فاضلاً ورعاً. وعمي، وسُمع منه على حالته. وروى عنه ابنه أبو القاسم هذا. قال ابن عفيف: كان من أنجب في العلم وتفقه، وشهر بالحفظ الجيد، وقُدّم الى الشورى أيام القاضي ابن ذكوان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 قال أبو عبد الله بن الحصار، كان من أهل الخير والفضل والصلاح، والتقدم في الفهم والأمانة في العلم. فقيه مشاور من بيت طهارة، واستقامة وهدي، رحل مع أبيه فحجا، وسمع من رجال المشرق. وقال ابن حيان: كان فقيهاً فاضلاً، خيراً ورعاً، مقتدياً بالسلف، وقلده هشام المؤيد خطة الردّ بقرطبة. فجاءته الولاية يوم وفاته وكان موصوفاً ببر والدته، حتى أنه أسخط أباه بإرضائها. لما وكلته بمخاصمته في حقوق ادعتها قبله - أيام فارقها - فرأيت في كتاب الإمام أبي بكر الطرطوشي: حكى لنا أستاذنا أبو الوليد الباجي، أن امرأة وكلت ولدها على زوجها في طلب مال لها عنده، فأبى. فاستشار الفقهاء بقرطبة. فأشار بعضهم أن يطيع أمه. فيتوكل لها عليه، مراعاة بأن مبرة الأم آكد للحديث الوارد في ذلك. فلعل هذه الحكاية التي حكاها أبو الوليد، هي في قصة أبي القاسم هذا، أو غيره، فالله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 ولما كانت الحادثة في نكبة بني ذكوان، رؤساء قرطبة. وكان أبو القاسم هذا صديقاً لهم، أعظم ما جرى عليهم كما قدمناه عن ابن المكوى. فلحقه من الأمر جزع عظيم، اختلط من أجله، فاحتجب ستة أيام. وذلك سنة إحدى وأربعماية. وأبوه عم حي بعد، مكفوف البصر، فصلى عليه ثم مات بعده بيسير، في السنة نفسها. وظهرت في موت عمر هذا آية وكرامة، وذلك أنه عهد الى ابنه أن يدرجه في كفنه، دون قطن، فخالفه وألقى القطن. فلما سوي فوق أكفانه على المشجب للبخور طارت شرارة، أحرقت القطن فأخبر حينئذ ابن ابنه بالأمر. فكفن دون قطن. كما عهد رحمهم الله. وأخوه ابراهيم بن محمد عم أبي القاسم، شيخ أديب له حظ من العلم. يكنى بأبي إسحاق، رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 أبو علي الحسن بن أيوب الأنصاري المعروف بالحداد. شيخ الشورى بقرطبة. ومقدم مفتيها لاسيما بعد موت صاحبيه، ابن الشقاق، وابن دحون. كان حافظاً للمسائل، والأجوبة. قائماً بها على مذهب المالكية، عارفاً بالحديث بارعاً في الخبر والأدب. ذا تفنن في المعارف وحذق بالشروط، وسعة الرواية. سمع من أبي عيسى، وأبي علي البغدادي، وأحمد بن هلال، وابن ثابت، وابن عيسى، وابن دحون، وغيرهم. حدث عنه أبو عبد الله بن عتاب. وأبو عبد الله بن الطلاع والساري الطليطلي. وأبو محمد بن الدباغ، وابن الحصار وابنه. توفي سنة خمس وعشرين وأربعماية. وقد بلغ سنّاً عالية. مولده سنة سبع وثلاثين وثلاثماية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 أبو عبد الله ابن الحذاء واسمه محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يعقوب بن داود التميمي. هكذا نسبهم. والحذاء بالذال المعجمة. وحكى ابن عفيف، أنهم يأبون ذلك. ويقولون هو بدال مهملة. من حدا الإبل. وإن جدهم الذي ينسبون إليه هو حادي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: ولكن لما سكن أولنا في ربض الحذائين بقرطبة، تصحف على الناس نسبنا، لقرب الحرفيين، ينسبون الى بني أمية. وكان جدهم داود: أمير، يوم مرج راهط. فكان صدراً في موالي بني أمية. وهو الداخل الى الأندلس من الشام. وكان بنوه ذوي وجاهة في أعمال السلطان بالأندلس، من التقديم على مهم الأعمال والتصريف في الأمور الجليلة. قال ابن عفيف: كان أبو عبد الله هذا فقيهاً عالماً حافظاً، متفنناً في الأدب، حافظاً للرأي، مميزاً للحديث ورجاله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 بصيراً بالوثائق، مرسلاً بليغاً. وكان خطيباً مجيداً، ومعبراً من أبصر الناس بذلك. له فيها نوادر مشهورة، محسناً، حسن المشاركة للناس. قال ابن عفيف: وغلب عليه الحديث، فبذّ في علومه أهل زمانه. وكان ابن زرب قد استخثه من صغره. وهو ابن أربعة عشر عاماً، وتفقه عنده، ولقي غيره من شيوخ الأندلس، رحمهم الله، كزكريا بن برطال، وابن السليم، ومحمد بن أبي دليم، والأنطاكي، وابن عون، والقلعي، والزبيدي، وابن النعمان، وابن عابد، وأبي عيسى الليثي، وغيرهم. ثم رحل، فلقي ابن أبي زيد بالقيروان، وتفقه معه. وحمل عنه تواليفه، ولقي بمصر الثعالبي، والجوهري والذهلي الكبير. فتفقه عندهم، وسمع منهم ومن عبد الله بن عبد الغني، وابن ماهان، وأبي القاسم هشام بن محمد بن أبي خليفة، راوية الطحاوي، وابن المهندس، والأدفوي، وابن غلبون، وابن حسنون السامري وابن رشدين وغيرهم. وحجّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 فسمع من أبي إسحاق الدينوري، وغير واحد. وكان عدة شيوخه ستين شيخاً. وانصرف فبقي بمصر والقيروان مستكثراً من مشائخه، متفقهاً عندهم في الحديث والمذهب. وورد الأندلس، فلازم الأصيلي، وارتفعت طبقته في العلم، وولاه السلطان خطة الوثائق والشورى والقضاء، بغير جهة، كإشبيلية وبجانة. ولحقت فتنة البربر، فلحق بالثغر، فوليَ هناك قضاء تطيلة، ثم استوطن سرقسطة، حتى مات بها. وذكر ابنه القاضي أبو عمر، فقال: كان له علم بالفقه والحديث والعبارة للرؤيا، روى عنه الطرابلسي وابن الحصار، قال أبو عبد اللهالخولاني: كان من أهل العناية بالعلم، متقدماً في الفهم والنّبل، وكان من النقاد يشبه المتقدمين في حذقهم وسيرهم. وألف شرحاً في الموطأ سماه كتاب الاستنباط لمعاني السّنن والأحكام، من أحاديث الموطأ، ثمانين جزءاً، وكتاب التعريف برجال الموطأ، أربعة أسفار، وكتاب البشرى في عبارة الرؤيا، وهو شرح كتاب الكرماني، خمسة عشر جزءاً، وكتاب الأنباء على أسماء الله تعالى. وكتاب الخطب والخطباء. قال ابنه أبو عمرو: ما حدثت عندنا حادثة إلا وقد أنذر بها أبي، حسبما دلت عليه الرؤيا. فنجدها كما قال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 مولده سنة سبع وأربعين وثلاثماية، في المحرم. وتوفي سنة عشرة. وقال ابنه ست عشرة وأربعماية. وهو ابن سبعين سنة. ولقبه: القاضي أبو عمر رحمه الله. أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف قرطبي. سمع بها من ابن عيسى وابن السليم، وابن زرب، وابن برطال، وابن عون الله، والقلعي، وابن مظهر ناصر السبتي، وعباس بن أصبغ البصري، والزبيدي، وابن القوطية، ومحمد بن رفاعة وغيرهم. وأخذ بحظ وافر من الفقه، وبرع في الوثائق والشروط. قال ابن مفرّج: فلم يكن في عصره أعلم بها منه. وشارف كثيراً من العلوم، وصحب الصالحين كالقرشي، والقبري، ومسلمة وغيرهم. حدث عنه الطرابلسي، والدلائي. وكان يعظ الناس في مسجده. ويقرأ عليهم كتب الرقائق. وكان كثير الخشية، سريع الدمعة، متهجداً بالقرآن، متقناً لأحرفه السبعة، بصيراً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 بمعانيه، وإعرابه. عارفاً بالخبر والشعر، طيب المجالسة، وقوراً سمحاً قانعاً برزقه وحظه. وكان يغسل الموتى، وله كتاب حسن في ذلك، سماه كتاب الجنائز. وألّف في علم الشروط تأليفاً حسناً، وألّف كتاب المعلمين وكتاب الاحتفال في علماء الأندلس، وصل به كتاب ابن عبد البر، وله شعر حسن، ولاه المهدي خطة الشرطة والوثائق. فلما زالت أيامه، قضاه المستعين. فخرج عند حلول الحادثة بقرطبة الى المرية. فنوه به صاحبها. وقلده قضاء لورَقه. فحسنت سيرته، الى أن توفي بها سنة عشر وأربعماية، وسنّه أربع وسبعين سنة. مولده سنة ست وأربعين وثلاثماية. أبو عامر محمد بن حفص بن الأشعث المعروف بابن قرطبي. قال ابن حيان: كان عفيفاً سمحاً متصاوناً، عدلاً متأدباً. مشاوراً لم يكن بالمستبحر في الرأي. كان حسن العلم، مشاركاً في الأدب. توفي سنة تسع وعشرين بقرطبة. وسنه نحو الستين سنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 القاضي أبو المطرف ابن بشر المعروف بابن الحصار، اسمه: عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر، مولى بني فطيس. تقدم ذكر أبيه. وكان أبو المطرف هذا، من أجلّ علماء وقته، علماً وعقلاً وفقهاً، وسمتاً وعفة وهدياً. صحب ابن ذكوان قاضي الجماعة. وكتب له بعهد الجماعة ووليَ الشورى، مع ابن الفخار، وطبقته. ثم اختاره ابن ذكوان للقضاء في الفتنة، أيام الحمودية. فعمل مدتهم وبعدهم الى أيام المعتمد، آخر خلفاء بني أمية في الفتنة. قال أبو محمد ابن حزم، وذكره في كتابه، قال ابن حيان: لم يكن في وقته بقرطبة مثله، حفظاً للفقه، وحذقاً بالحكم، وبصراً بالشروط، ومشاركة في الأدب، مع العفة والصيانة، وبعد الهمة. وكان شديد التعسف على الفقهاء والتقويم لميلهم. فلما وليَ المعتمد اجتمعوا عليه وطلبوه، حتى عزله. وولى مسرة بن الصفار، وعهد إليه بالتزام داره، وسد بابه. فأدركه خمول كثير ثم أبيح له الخروج، فمات بقرب ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 وقال ابن حيان في موضع آخر: كان عالماً فطناً. وكان من الفقه والعلم بالشروط، بمحل كبير. أخذ عن أبيه، وبه تفقه أبو عبد الله بن عتاب. وكتب بين يديه. وكان يفخر ابن عتاب بذلك ويثني عليه. وكانت وفاته منتصف شعبان، سنة اثنتين وعشرين، وشهده الناس وتعاهدوه. وحضر جنازته الخليفة المعتمد. مولده سنة أربع وستين. وكانت مدة قضائه بقرطبة اثنتي عشرة سنة وعشرة أشهر. رحمه الله. أبو عبد الله محمد بن علي بن هشام بن عبد الرؤوف الأنصاري حاكم قرطبة، زمن الحمودية وبعدهم. قال ابن حيان: كان واسع العلم حاذقاً بالفتوى، صليباً في الحكم، شديداً على أهل الاستطالة. متحققاً بعلم اللسان، ورعاً عفيفاً متقللاً، جواداً قوالاً للحق. نفاعاً لإخوانه. طالت ولايته، ولم يوجد له بعد موته كبير شيء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 وتوفي في رمضان سنة أربع وعشرين. وكان موته مشهوداً ورثاه ابن الخياط الشاعر بقصيدة أولها: لو رمت من أسف لكنت خليقاً ... لم يبق لي ريب الزمان صديقا قالوا أبا عبد الإله طوى الردى ... فافزع لصبرك قلت لست أطيقا إن كان أودى علة فأنا الذي ... أودي عليه زفرة وشهيقا حكم يذكرنا بفضل قضائه ... وقضائه، الفاروق والصديقا يرويك قائله إذا ما لم تجد ... في فيك من ظمأ الحوادث ريقا رضي الله عنهم أجمعين. الليث بن حريش أبو الوليد. قرطبي. من مشيخة المفتين بها. وولي قضاء المرية فانتقل إليها، الى أن توفي بها، عقب صفر، سنة ثمان وعشرين وأربعماية، بوجع أصابه لليلته، وقد قارب ثمانين سنة. قال أبو عبد الله بن عتاب: شاهدت القاضي أبا المطرف ابن بشر، يتكلم معه في مسألة. رضي الله عنه ورحمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 أبو محمد مكي ابن أبي طالب واسمه محمد - ويقال له حموس - ابن مختار القيسي، وأصله من القيروان، نزيل قرطبة، المقرئ. كان فقيهاً مقرئاً أديباً متفنناً راوية، وغلب عليه علم القرآن، وكان من الراسخين فيه، أخذ بالقيروان عن أبي محمد ابن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي، وأبي عبد الله الفراء اللغوي، ورحل الى الشرق سنة سبع وسبعين. فلقي ابن الأدفوي، وابن غلبون بمصر، وحجّ عامه. ثم عاد مكة، سنة سبع وثمانين. فأقام بمكة أربعة أعوام، وتحول في رحلته، فلقي من المحدثين والفقهاء جماعة، منهم: أبو القاسم السقطي، وأبو الفضل أحمد بن عمران الهروي، وأبو العباس أحمد بن محمد بن زكريا البسري، وعبد الرحمن بن علي العباسي، وأبو الحسن المطوَّعي، وصدقه بن أحمد الزقي، وغير هؤلاء. وانصرف الى القيروان سنة اثنتين وسبعين، ودخل قرطبة أيام المظفر ابن أبي عامر، سنة ثلاث وتسعين ولا يؤبه به الى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 أن تنبه لمكانه ابن ذكوان القاضي، فأجلسه في المسجد الجامع، فنشر علمه وعلا ذكره ورحل إليه الناس، ثم وليَ الخطبة والصلاة مدة، الى أن أقعده عنها الخوف. وكان رسوخه في علم القرآن وتفننه فيه، قراءات وتفاسير ومعاني، نحوياً لغوياً فقيهً راوية. وليَ الشرى وصنف تصانيف جليلة في علوم القرآن، وغير ذلك. ومن أشرف تصانيفه كتاب الهداية في التفسير، وكتاب الكشف في وجوه القراءات، واختصار الحجة للفارسي، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الإيضاح في ناسخه ومنسوخه. وهو كتاب حسن، وكل تواليفه حسنة، وكتاب المأثور عن مالك في الأحكام، والتفسير والتبصرة والموجز، واختصار أحكام القرآن، والإيجاز واللمع في الإعراب، وانتخاب نظر القرآن للجرجاني، والواعي في الفرائض وغير ذلك. وأخبرني شيخنا الفقيه أبو إسحاق ابراهيم بن جعفر أن له تصنيفاً روى عنه جلة الناس، كأبي عبد الله بن عتاب، وأبي فلان الباجي، وحاتم الطرابلسي، وأبي محمد بن سهل المقري، وبعدهم أبو الأصبغ ابن سهل، وآخر من حدث عنه بالإجازة، شيخنا أبو محمد بن عتاب، وتوفي رحمه الله صدر محرم، سنة خمس وخمسين وثلاثماية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 سليمان بن بيطير بن سليمان بن بيطير بن ربيع الكلبي أبو أيوب. قرطبي. قال ابن الحصار: كان رجلاً صالحاً حافظاً للمسائل، تفقه بابن زرب. سمع من ابن الأحمر، وأبا عيسى وابن القوطية، وابن قطر، وله في الكتب الثمانية، لأبي زيد القرطبي، اختصار، واختصر كتب المدينة لعبد الرحمن بن دينار، واختصاره حسن. وخرج الى مالقة، بعد زمن الفتنة. القاضي يونس ابن الصفار هو: أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث. قرطبي. وكان أولاً يتولى بني أمية. فلما انقرضت دولتهم، انتمى في الأمصار. نشأ في طلب العلم، فسمع من ابن الأحمر، وابن أبي بدر، وابن ثابت وزكريا بن بطال، وابن الخراز صاحب الصلاة، وابن أبي زمنين، وابن أبي العرب، وأبا عيسى، ومحمد بن عبد العزيز، وابن مجلس الكبير، وابن السليم، وابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 جهور المرشاني، وابن زرب والزبيدي، وعبد الرحمن بن أحمد بن بقي، ومحمد بن أحمد بن خالد، وابن القوطية، وابن عبدون، وجماعة سواهم. قال محمد بن عبد الله الخولاني: كان رجلاً صالحاً، قديم الخير والطلب، مع الأدب. مقدماً في الفقهاء والأدباء، مشاركاً في كل فن. قدمه ابن زرب للشورى، وسمع منه الناس، روى عنه جماعة من الجلة، منهم: القاضي أبو الوليد الباجي، وابن عتاب، وأبو مروان سراج، والعقيلي والطرابلسي، وأبو مروان الطبني، وحازم بن محمد، وأبو عبد الله بن الطلاء، وأبو المطرف الشعبي، وآخر من حدث عنه بالإجازة: أحمد بن محمد الحصار، بعد الخمسماية. قال ابن حيان: كان يونس من أكابر أصحاب ابن زرب، المقدمين في بسط العلم وسعة الرواية وجودة الخطابة، وبراعة الشعر. آخر الخطباء المعدودين، وأسند من بقي من المحدثين، وأوسعهم جمعاً وأعلاهم سنداً، وكان خاتمة قضاة بني أمية في الفتنة، وتولى للسلطان أعمالاً كثيرة من القضاء، بالكور والعمل بخطة الرد والشرطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 وولي الشورى بقرطبة والزهراء والزاهرة، وولي قضاء الجماعة أيام المعتمد، وهو ابن نيف وثمانين، وكان يقال بقرطبة، إن مات يونس ولم يلِ القضاء الجماعة، مات شهيداً. وكان يميل مع هذا الى التصرف والعبادة والنسك، مع هذا كله. وكان مقدماً في علم اللسان والأدب، حسن البلاغة سريع الدمعة، ولم يكن بالبارع في فقهه، وتوالى مرضه فاستخلف على الصلاة والخطبة مكي ابن أبي طالب، ولازم الحكم متحاملاً الى أن مات، وأشهد على عهده بالقضاء لحفيده مغيث بن محمد بن يونس، فلم ينفذ فيه عهده بعد موته. فكانت مدته في قضاء قرطبة تسع سنين، ونصفاً. وذكره الأمير أبو نصر في كتابه فقال: مختلف فيه. قال الباجي: هو مشهور بالعلم. قال ابن الحصار: وكان في سيرة يونس أيام قضائه إباحته المقصورة لجميع الناس، ومنع المارة في صحن الجامع. قال أبو مروان الطبني: شهدت يوماً شيخاً جاء الى القاضي يونس يرغب إليه أن يجيز له ما رواه، ولم يرو بعد هذا، فلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 يجبه. فغضب السائل، فنظر الى يونس، فقال: يا هذا نعطيك ما لم نأخذ؟ هذا، محال، محال. فقال يونس: هذا جوابي. وأنشد له ابن حيان: أدافع أيامي بقصد وبلغة ... وألزم نفسي الصبر عند الشدائد وأعلم أني في مكابدة البلاء ... بعين الذي يرجوه كل مكابد وله أيضاً رحمه الله: سارع الى الخير وبادر به ... فإن من خلفك ما تعلم لا تسأم الكد وطول السرى ... فطالب الفردوس لا يسلم وله أيضاً رحمه الله: النوم من مرسله رحمة ... وراحة للبدن المتعب فخذ من النوم بحظ فإن ... قضيت منه وطراً فانصب وألّف كتاب الموعب في تفسير الموطأ، وجمع مسائل ابن زرب، وأكثر تواليفه في أخبار الزهّاد وأرباب الرقائق، وهي تواليف مليحة مفيدة. منها كتاب التسبيب والتقريب، وكتاب الابتهاج لمحبة الله عزّ وجلّ، وكتاب المنقطعين الى الله عز وجلّ، وكتاب التهجد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 وكتاب فضائل الأنصار، وكتاب التسلي عن حب المدينة، وتكملة كتاب العباد، وكتاب الموجز الكافي ودعاء الصالحين، وكتاب طب القلوب الشافي من ألم الذنوب، وكتاب أنس الوحيد، وكتاب المراقب والمحاضر، وكتاب المعمرين، وكتاب الحكايات، وكتاب فضائل السير في الزاهد، وكتاب المستصرخين بالله تعالى. وتوفي في رجب سنة تسع وعشرين، وقد نيف على التسعين سنة. مولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثماية. وهو سليم الحواس. ويخطب ويؤلف. أبو المطرف عبد الرحمن سعيد بن فرج أوله من البيرة. وسكن قرطبة، وطلب العلم وتفقه بابن أبي زمنين، ومسلمة بن البتري وطبقتهم. ورحل فحجّ وأخذ عن القابسي، والداودي وغيرهما. وشوّر بقرطبة. وكان كثير الدعاء والذكر، ملازماً للجامع يقرأ فيه على من يحلق إليه من العامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 قال ابن حيان: ولم يكن من المستبحرين في العلم، ولا من أهل الحذق بالمسائل المالكية. وتوفي سنة تسع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة. مولده سنة ثمان وستين وثلاثماية. أبو القاسم أحمد بن مختار بن شهر قال ابن حيان: كان فقيهاً حافظاً، حسن القيام على المسائل، من بيت نباهة. توفي بقرطبة سنة إحدى عشرة وسنذكر ابنه وغيره، من آل بيته. أبو مروان عبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك ابن الأصبغ القرشي المرواني المعروف بابن المشتري الحناط. من ولد الأصبغ بن هشام بن الحكم بن عبد الرحمن بن معاوية. وكان متقدماً في فقهاء قرطبة الأشراف، مشاوراً. له حظ من علم المسائل، مع عفة. وله كتاب سمّاه: كنز معرفة الأصول، ورجح مذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 مالك. جمع فيه أشياء من أصول الفقه، ومقدمات العلم، لم يكن فيما جمع من ذلك بالحاذق ولا بالنبيل القول. رواه عنه ابنه. وروى عنه أيضاً ابن الحصار وابنه أحمد. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم، مقدماً في الفهم قديم الخير والفضل. قال: وله تأليف حسن في الفقه والسنن. وولاه المعتمد نقابة قريش. ولم يلها بالأندلس سواه. وامتحن بالشهادة في شأن الدعي المشبه، الذي قام به بنو مروان، وزعموا أنه هشام المؤيد المخلوع، فيمن امتحن بالشهادة من أكابر الناس على عينه. فسقط بذلك بعد تقدمه. وأخرجه بنو جهور الثوار بقرطبة، عن قرطبة لذلك، ولفرط تشيعه في المذكور. وتوفي رحمه الله تعالى، سنة ست وثلاثين إثر ذلك. وابنه أبو عبد المهيمن كان متفقهاً عفيفاً. منقبضاً. روى عن أبيه كتابه. رواه عنه أبو الأصبغ بن سهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 القاضي، أبو بكر محمد بن علي حسين المخزومي، المعروف بابن امحي بالحاء المهملة. كان من فقهاء قرطبة. مشهوراً آخر أيام العامرية. فلما انقرضت دولة بني أمية اتهمه بنو حمود بالعصبية لهم. وكان شديداً في ذلك، فامتحن وسجن وأخرج عن قرطبة، ثم رجع إليها. فمات في محرم سنة أربعماية. رحمه الله. أحمد بن ابراهيم بن أبي سفيان الغافقي أبو عمر. قرطبي. من فقهائها. قال ابن حيان: وكان أديباً عفيفاً غنياً وجيهاً. قدمه المهدي الى الشورى في الفتنة مع ابن بشر، وابن الفخار القروي، وابن المشاء، وابن حيوة الصخري. وتوفي في صفر سنة عشر وأربعماية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 عبد الرحمن بن أحمد بن نصر بن خالد أبو المطرف. المعروف بابن الطيش، والقاضي. كان ممن قُدِّم بقرطبة للشورى، أيام الفتنة. وولي قضاء إشبيلية. وتوفي آخر سنة تسع وأربعماية. أبو القاسم خلف بن البناء الملقب بشراها. من الفقهاء الحفّاظ لمسائل المذهب بقرطبة. وكان أمنياً، وكان أكابر الفقهاء يعترفون بقوة حفظه. توفي في آخر جمادى سنة عشر وأربعماية. رحمه الله. أبو الوليد بن هشام رحمه الله من فقهاء قرطبة. وليَ الشورى، وتوفي أول سنة خمس عشرة وأربعماية. أبو محمد الباجي رحمه الله من أهل القيروان، وولى المهدي له الشورى بقرطبة في الفتنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 هشام بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أكدر بن حما كان من أهل العلم والمعرفة والعفة، والفقه والرواية. سمع من الأصيلي، والعائذي وطبقتهم وأخذ عنه الناس. قال ابن حيان: كان من المقدمين في العلم والعفة واليسار. وعمل للمظفر ابن أبي عامر أعمالاً واسعة من القضاء. كان فيها محمود الطريقة، ولحق الفتنة ولم يتلبس منها بشيء. وكان أصمّ، قال ابن الحصار رحمه الله: كان من أهل العلم والأدب والفهم، والميز بالرجال. كتب عن الشيوخ رضي الله عنهم. توفي سنة إحدى وعشرين. رحمه الله. خلف بن مروان بن أمية بن حيوة الصخري والصخرة بلد بغرب الأندلس. قال ابن حيان: كان أحد أكابر الفقهاء بقرطبة. وكانت له عناية بطلب العلم والرحلة فيه الى المشرق. وله بيت شهير، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 ومروءة. ذا معرفة في العلم والنزاهة، والتفقه. قلده الظفر قضاء طليطلة وأعمالها، كارهاً. فحكم بين أهلها مقسطاً، وأقام بها مستعفياً، الى أن وافاه الأجل، بعد حول. فخرج عنها مبادراً على بغله الذي جاء عليه، بأخف من خروجه الذي جاء به، ما أبدل في ولايته شكلاً، لبغلته. فضلاً عن غيرها. ولم يقتبس من طليطلة ناراً. فأبكى أهل طليطلة فراقه، ثم وليَ الشورى بقرطبة. صدر الفتنة. فهلك ببلده، في رجب سنة إحدى وأربعماية. أبو محمد عبد الله بن محمد بن قيد المعروف بالطليطلي. قرطبي. من أكابر أصحاب الأصيلي. لزمه، وصاحبه للمناظرة والسماع. كان من أهل البراعة في الفقه والحديث، والافتتان في ضروب من العلوم، والتحقق منها بعلم العربية، مع مروءة وعفة. وولي الأحكام بقرطبة، وخطط بالوزارة، ووليَ قضاء بجانة والبيرة. وكان متقعراً في كلامه. له في ذلك نوادر محفوظة مستظرفة، من ذلك: رسالته الى البربر المشهورة. واخترم قبل أقرانه، ففقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 بظاهر قرطبة يوم وقعة النصارى بأهلها، بعقبة البقر، عند تفانن المهدي والمستعين. وانضمت النصارى الى المستعين، القائم عليه بها. وكان المستعين أخرجه معه في جماعة. فكان ممن فقد، رحمه الله. وكانت هذه الوقعة سنة أربعماية. عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي من بيوتات العلم والشرف بقرطبة. قد تقدم ذكر أبيه، وأخيه. أخذ عن أبي محمد الباجي، وطبقته، ووليَ الشورى بقرطبة. فلما كانت الفتنة خرج عن قرطبة. فاستدعاه مجاهد الموفق - صاحب دانية والجزائر الشرقية - فرضيه خليفة، وأخذ له على الناس البيعة. فكان يخطب بنفسه في الجمع، ويصلي. فلم يستجب أحد من أمراء الفتنة لدعوة مجاهد له. وخرب ما بينه وبين مجاهد فهمّ بالقبض على مجاهد. فبادر به مجاهد، وأخرجه عن الأندلس الى ساحل إفريقية، بجهة بجاية، فاستقر هنالك، خاملاً فخفي شأنه، يؤدب الصبيان الى أن مات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 حكى أبو علي ابن ذكوان: أن المعيطي كان يختلف الى أبي محمد الباجي بقرطبة، أيام كونه بها. وله منه منزلة. فقال له الباجي يوماً: يا قرشي كأني بك قد أثرت فتنة وتقلدت إمارة، إلا أنك قليل المتعة بها. فاستعذ بالله من شرها. فوجم المعيطي وقال له: من أين يقول الشيخ هذا؟ ويعلم الله بعدي منه. فقال: رأيتك في النوم، توقد ناراً حطبها زرجون، لم تلبث أن خمدت فأوّلتها ذلك. وكانت وفاته بموضع خموله، سنة اثنتين وثلاثين وأربعماية. رحمه الله. أحمد بن عمر بن عبد الله بن منظور الحضرمي إشبيلي. أبو القاسم، يعرف بابن عصفور. كان ببلده فقيهاً مشاوراً خطيباً فاضلاً، صالحاً زاهداً، عاقلاً، من أهل العلم والأدب، يروي عن أبي محمد الباجي، ونمطه. وكان شاعراً مطبوعاً. ذكره أبو عبد الله ابن الحصار، وحدث عنه. وقال أبو حيان: توفي الأديب الخطيب الناسك ابن عصفور، صاحب صلاة إشبيلية، وكان ناسكاً في الورع والعلم والحكاية، سنة عشر وأربعماية، ببلده، رضي الله عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 أبو بكر ابن زهر رحمه الله واسمه: محمد بن مروان بن زهر الإيادي، إشبيلي. شهير البيت بها نبيه. سمع من ابن الأحمر، وابن ثابت، وابن عيسى، وأبي يحيى ابن بطال، وأبي بكر ابن القوطية، وابن زرب والجسري، وغيره. حدث عنه أبو المظفر ابن سلمة الطليطلي، وحاتم بن محمد وأبو عبد الله الحصار وابنه، وابن الفرات البطليوسي، وأبو جعفر بن مغيث. وبه تفقه أهل طليطلة. قال محمد بن الحصار الخولاني: كان فقيهاً مشاوراً من أهل العلم، والحفظ للمسائل، قائماً بها، مطبوعاً في الفتيا على الأصول. ذكر أبو الأصبغ بن سهل: أنه كان من يفتي في الإيمان اللازمة، بطلقة واحدة على ما ذهب إليه أبو عمران الفاسي. قال أبو الأصبغ: وكان بعض الطليطليين يفتي فيها بواحدة بائنة. ولا أعلم لقوله بائنة، وجهاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 خبر محنته رضي الله عنه ولما قام أبو القاسم ابن عباد في الفتنة بإشبيلية، واقتنصها ملكاً لنفسه واحتاط لحاله، فنكب كل من خشي على نفسه من كبرائها منه، وكان الرجل حيث كان جلالة وعلماً، فخاف على نفسه، وسكن طليطلة مدة. فعندها أخذ الطليطليون عنه. وتفقهوا معه، ثم رُدّ بالثغور الشرقية، الى أن مات، واقتطع بنو عباد عند مغيبه أمواله، واستصفوه. كانت واسعة، ومن ذريته هؤلاء، بنو أزهر النجباء، منهم ابنه عبد الملك ابن أبي بكر. ثم مال الى الطب، ففاق. ورأس أهل وقته، وتلاه في ذلك ابنه الوزير الأجلّ، أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر. ففاق أهل وقته، جلالة وعلماً وجاهاً، ومكانة عند الرؤساء، والخاصة والعامة. مولده سنة ثمان وثلاثين، وثلاثماية. سليمان بن بطّال أبو أيوب البطليوسي، وانتقل الى البيرة. ويعرف بالمتلمس. كان مقدماً في أهل العلم والفقه والفهم، والشعر والأدب. وكان أولاً كثير الشعر، مشهوراً به، ومال آخراً الى الزهد، وترك قول الشعر. وله كتاب في مسائل الأحكام، سماه المقنع. عليه مدار المفتين والحكام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 قال ابن عبد البر: وليس لمالكي مثله في معناه. وكتاب في الزهد سماه الموقظ. وكتاب أدب الهموم، وكتاب الدليل الى طاعة الجليل. وبمثل هذا الاسم، سمي أيضاً أبو علي الطلمنكي، كتابه الكبير. حدث عنه أبو عمر بن عبد البر، وحكم بن محمد بن أبي الربيع الأيسري، وابن الرمينة السبتي، وابن الحصار الإمام. توفي عام اثنين وأربعماية، فيما أظن. عيسى بن معاوية إشبيلي، الضرير. أحد وجوه أهل إشبيلية ورجالاتهم ودهاتهم، مع المعرفة والعلم والنزاهة. وليَ القضاء بعهد المنصور. وكان يقول: منه جنة لو عوينت ببصر، لطمست الأعين. وكان من أصحاب ابن ذكوان. فلزم الانقباض وحسن الطريقة، الى أن مات رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 أبو الوليد بن محمد بن عباد اللخمي إشبيلي. قال ابن حيان: كان رجل غرب الأندلس في وقته. وكان حسن المعرفة، يقطع من العلم جليله، صالح النظر في الفقه، عالماً كاتباً حليماً أديباً، حسيباً كثير التوجيه للمرافق، وافر النعمة. ذكروا أن أملاكه كانت تعدل ثلث كورته. لم يكن رئيس يعدله في قراه. قديم الجاه عند سلطان الأندلس، زمن العامرية، مشتغلاً لهم بالأمور العظيمة، تولى قضاء بلده، وعمله مدة. ثم صرف عنها أيام المظفر عند ارتياده للقضاء أهل السلامة. واستقدم الى قرطبة، وولي مكانه أبو عمر ابن الباجي، نحو سنة. فلم يحمدوه في أمورهم، ولا قام لهم مقامه، ولم يخلص القضاء بغيره. فاضطروا إليه، وردوه الى عمله، وصرفوا الآخر صرفاً جميلاً. وأصيب ببصره آخراً، فاحتيج إليه، على ما هو به. وقعد عن القضاء آخراً، شيخاً. وكان أهل الغرب لا يخرجون عن طاعته. وتوفي في ربيع الآخر سنة عشرة وأربعماية. وانتصب للرئاسة مكانه ابنه، أبو القاسم محمد، وكان جزلاً ذا أدب ومروءة، وولاه القاسم ابن حمود القضاء، مكان أبيه، فسد مكانه، وأثروا صيته الى أن ثار ببلده عند اضطراب أمر بني حمود، فتأمر به، وحاز رئاسته وأورثها عقبه، فجاءوا بعد من أجل الملوك بالأندلس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 أبو عمر الطلمنكي واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن أبي عيسى - واسمه لبّ - ابن يحيى بن محمد بن قزلمان المعافري، أصله من طلمنكة، بثغر الأندلس الشرقي، وبها ولد، ونشأ بقرطبة. فسمع من رجالها: ابن مفرج، وابن عون الله، وأبي محمد القلعي، وأبي عيسى، وأبي القاسم خلف بن محمد المكتب، وزكريا بن خالد، وابن ناصر السبتي، وابن النعمان والأنطاكي، وابن زرب، وحسين بنابل، والزبيدي، وعباس بن أصبغ، ومحمد بن خليفة ومسلمة بن بتري، وابن جندل، وابن البلكاوشي، وطبقتهم. ورحل الى المشرق فلقي جماعة منهم ابن عمار الدمياطي، وأبو الطيب بن غلبون وابنه ظاهر، والأدفوي، وأبو القاسم الجوهري، وابن صفوان البرذعي، وابن المهندس، وابن عراك، وابن أبي غالب، وابن سنجر، وأبو إسحاق التمار، وغير هؤلاء. سع منه وحدث عنه الجلة، سماعاً وإجازة. منهم حاتم الطرابلسي، وأبو عبد الله بن عتاب، وابن المرابط وابن فوريش، والمووفشي. وأبو عمر بن الحرار، واتسعت روايته. وتعين في علوم الشريعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وغلب عليه القرآن والحديث ألف تواليف نافعة كثيرة، كباراً، ومختصرة، احتساباً. ككتاب الدليل الى معرفة الجليل، نحو ماية جزء. وكتابه في تفسير القرآن، نحو هذا. وكتاب البيان في إعراب القرآن. وفضائل مالك، ورجال الموطأ، وكتاب الرد على ابن مسرة، وكتاب الوصول الى معرفة الأصول. وغير ذلك من تواليفه. قال حاتم: كان أبو عمر من أهل الإقامة بالعلم، والضبط له، وله علوم ما شاء حسنة. قال ابن الحصار الخولاني: كان من الفضلاء الصالحين، على هدى وسنّة. قديم الطلب والعلم. مقدماً في الفهم مجوداً للقرآن. حسن اللفظ، فضائله جمة أكثر من أن تحصى. قال أبو معمر عمر المقرئ: وكان خيراً فاضلاً، ضابطاً لما روى. قال ابن الحذاء: وكان فاضلاً شديداً في كتاب الله تعالى. سيفاً على أهل البدع، سكن قرطبة وأقرأ بها. ثم سكن المرية ثم البيرة ثم سرقسطة. ثم عاد الى بلده، طلمنكة، مرابطاً. فتوفي بها صدر محرم، سنة تسع وعشرين، وقيل في ذي الحجة سنة ثمان، وقد قارب التسعين، وصحبه ذهنه. مولده سنة أربعين وثلاثماية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 أبو الوليد بن مقبل رحمه الله واسمه محمد بن عبد الله البكري. من أهل مرسية، ولازم مدة قرطبة، وبها تفقه. ثم عاد الى بلده. سمع من سهل بن ابراهيم الاستجي. حدث عنه أبو عبد الله ابن المرابط، وأبو عمر ابن الحذاء، وأبو بكر عبد الرحمن بن عيسى السماني. وآخر من حدث عنه، صاحب المظالم ابن طاهر. كان فقيهاً ديّناً. وقال أبو عمر ابن الحذاء: ما رأيت أتم منه ورعاً، ولا أحسن خلقاً، وكرماً. لم يأكل لحماً. مذ وقعت الفتنة إلا من طير أو حوت، ولا لبس خفّاً، إلا من جلود، ميورقة، إذ لم يدخلها النهب. وكان من أحفظ الناس لمذهب مالك. وأقومهم فيه حجة. عالماً بصحيح الحديث، وسقيمه ورجاله. وباللغة والنحو والشعر والقراءات. وكان كثير الضيافة على توسط حاله. ولقد أضاف أقواماً نزلوا به أعواماً. وكان محسوداً ببلده. وتوفي فيها. قرأته بخط شيخنا القاضي عبد الله التميمي، في شوال سنة ست وثلاثين وأربعماية. مولده سنة اثنتين وستين وثلاثماية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي سكن المرية، من أهل العلم الراسخين فيه. المتفنني في الفقه والحديث والعبارة، والنظر. صحب الأصيلي، وسمع منه، وتفقه معه. وكان صهره، وسمع أيضاً من غيره، من شيوخ الأندلس، كأبي زكريا الأشعري، وعبد الوارث بن خيرون، ورحل فسمع بالقيروان ومصر من جماعة. منهم: أبو الحسن القابسي، وأبو ذر الهروي، ويحيى بن محمد الطحان، وعبد الوهاب بن الحسن بن منير الخشاب، وأخوه عبد الله، وأبو بكر ابن يزيد الأنطاكي، ومحمد بن عباس، وأبو جعفر ابن مسمار، وأبو عبد الله بن يسار، وأبو بكر بن ابراهيم البغدادي، المعروف بابن الحداد، وأبو إسحاق المصري، وأبو عبد الله بن صالح المصري، ومحمد بن شاكر. وروى عن أبي الحسن الطائي العابد، كتبه. حدث عنه القاضي ابن المرابط، وأبو عم ابن الحذاء، وأبو العباس الدلائي، وحاتم الطرابلسي. وولي القضاء بمالقة. قال أبو عمر ابن الحذاء: كان أذهن من لقيت، وأفهمهم وأفصحهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 قال أبو الأصبغ ابن سهل القاضي: كان أبو القاسم وأبو محمد من كبار أصحاب الأصيلي، وبأبي القاسم حيا كتاب البخاري بالأندلس، لأنه قرئ عليه تفقهاً، أيام حياته. وشرحه واختصره. وله في البخاري، اختصار مشهور، سماه كتاب النصيح في اختصار الصحيح. وعلق عليه تعليقاً في شرحه مفيد. وتوفي سنة ثلاث وثلاثين، أو نحو ذلك. أخوه محمد رحمه الله سمع من الأصيلي. وكان من كبار أصحابه، وتوفي بالقيروان. وقد سمع منه أخوه المهلب، وله شرح في اختصار ملخص أبي الحسن القابسي. رحمه الله. أبو محمد عبد الله بن سعيد بن أرباح الأموي الشنتجالي، الشيخ الصالح. طلب بالأندلس، وأخذ عن سلمة الزاهد. ورحل الى المشرق فجاور بمكة، بضعاً وثلاثين سنة. يثابر على الحج، وكتابة الحديث والقيام بالعلم، وأكثر من ذلك. واشتهر هنالك اسمه، وانتفع به، وحصل على منزلة رفيعة في النسك والخير. وكان الغالب عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 قال الباجي: كان شيخنا صالحاً يكنى بالضابط. سمع من أبي سعيد السنجري، وأبي سعيد الواعظ، وأبي بكر المطوعي، وأبي الحسن الطائي الفقيه، وأبي الحسن ابن فراس، وأبي القاسم السقطي، وأبي ذر، والقاضي أبي العباس الكرخي، وأبي عبد الله الوشاء، وأبي العباس الكناني، وأبي الحسن القروي، وأبي الفضل بن أحمد الهروي وغيرهم. وانصرف الى الأندلس، سنة ثلاث وثلاثين، راغباً في الجهاد. فلم يزل مثابراً عليه بالثغور والناس يأخذون عنه، خلال ذلك. حدث عنه خلق كثير. منهم أبو عبد الله بن عتاب، والطرابلسي، ومحمد بن الحصار، وأبو حفص الهروي، وآخر من حدث عنه بالإجازة: شيخنا، أبو محم بن عتاب. ودخل قرطبة، فسمع منه بها مسلم، وأجازه لكل من دخل قرطبة من طالبي العلم. قال القاضي أبو الأصبغ: سألت ابن عتاب إجازة، كتاب مسلم. وكان الشيخ سمعه من الشنتجالي. فقال لي: أنتم ونحن سواء. قد أجاز الشنتجالي، لكل من دخل قرطبة من طالبي العلم. قال المؤلف رضي الله عنه: ذكرنا هذه الحكاية ليعلم أن مذهب هؤلاء الثلاثة، جواز إجازة المجهول، المختلف فيها. وقد رأيت إجازة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 القاضي أبي الأصبغ ابن سهل، بخط يده لكل من طلب عنده العلم بسبته، بلده. وله مختصر في الفقه مشهور. وكان يوالي الاكتحال بالإثمد. وتوفي بقرطبة سنة ست وثلاثين. أبو الطيب سعيد بن أحمد بن يحيى بن سعيد المعروف بالحداد، طليطلي. حاز رئاسة بلده، بعد أبي عمر في الفقه، والوجاهة وبيتهم بطليطلة، من بيوت الشرف والعلم. قال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد: كان لأبي الطيب حظ من الفقه، والرواية. ورحل فحجّ وكتب العلم، وسمع عبد الغني بن سعيد الحافظ، بمصر وغيره. وساد أهل بلده في وقته. وقد روى أيضاً عن أبي العباس أحمد بن محمد القاضي، وأبي عبد الله بن محمد بن ثمد الكرخي. وروى عنه أبو عبد الله بن عتاب. وكناه بأبي عثمان، ومرة قال عنه: حدثنا بعض أصحابنا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 ولم يصرح باسمه. وكان لا يصرح به. ذكر ذلك القاضي ابن سهل. وروى عنه أيضاً حاتم الطرابلسي. وتوفي بطليطلة، سنة ثمان وعشرين وأربعماية. وقد تقدم ذكر أبيه. وسيأتي ذكر ابنه إن شاء الله. أبو العباس أحمد بن أيوب بن أبي الربيع الألبيري الواعظ. أصله من البيرة، ونزل في الفتنة الى قرطبة، فهلك بها هنالك. كان ممن أمعن في الطلب، وتفنن في المعارف، وأخذ عن الأندلسيين، ورحل الى المشرق، فلقي رجاله. فمن شيوخه ابن أبي زمنين، لزمه واختص به. وروى عنه كتبه، ومن شيوخه: أبو الحسن القابسي، ومسلة بن سعيد الاستجي، والقاضي أبو أيوب بن بطال، ولم يخالف بالمشرق زيه. فلبس قلنسوة بين أظهرهم، وكان فصيح اللسان. ذا فرائض، مطبوعاً. وكان الغالب عليه الوعظ والذكر. له في هذا الباب تصانيف. روى عنه أبو المطرّف الشعبي، وابن الحصار، وابنه. وكانت العامة حزبه، وكان مديناً لهم، مقرباً لإفهامهم، ما عسر عليهم. حاضّاً لهم على فعل الخير، حاضر العلم، كثير الشعر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 له في أيدي الناس أزهاد وتكافير، يتداولها المنشئون، والمفتون. وله في بعضها مجموع. توفي بقرطبة، في مجلسه بالجامع، فجاءةً، أبسط ما كان، فاحتمل ضحوة. ومات وسط النهار من يومه. وانزعجت العامة لموته انزعاجاً لم يسمع بمثله. وشهده الناس، حتى خلت قرطبة، واحتاج أولو الأمر الى ضبطها، وحرس أبوابها، حتى فرغ من شأنه، ولم يصل نعشه الى قبره، إلا أصيلاً. وجعلت العامة تلمسه تبرّكاً به، بأيديها وأثوابها. وزاروا قبره مدة. رحمه الله. أبو بكر أحمد بن أدهم مولى بني مروان. جياني من بيوت الشرف بها. قال ابن حيان: وليَ القضاء بالمرية. وكان صليباً في حكمه، قوياً في علمه وأدبه. ولم يكتسب في العمل، مع الفقر. توفي سنة تسع وعشري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 أبو بكر يعيش بن محمد بن يعيش بن منذر الأسدي طليطلي. ذكرنا أباه قبل هذا. قال ابن حيان: إليه والى صاحبه أبي عمر أحمد بن سعيد بن كوثر، انتهت رئاسة بلدهما، بعد أبويهما. وكانا على صفاء. وقد فاق فيها محمد بن يعيش أقرانه في العلم، إلى أن جرت بينهما منافسة أيام بني ميسرة. أدتهما الى التقاطع، فمال ابن ميسرة لابن يعيش. ونكب ابن كوثر، وصيره الى شنترين، ثم دس إليه من قتله. فخلا لابن يعيش مكانه، وتفرد برئاسة البلد. فلما مات ابن ميسرة، أجمع ابن يعيش ولده، واقتطع البلد رئاسة. وقام فيه مقام القاضي أبي القاسم بن عباد بإشبيلية، والبكري بغرب الأندلس. وحمى جهته، وحسن سياسته. وهو في هذا كله لا يدعي باسم الرئاسة، مقتصراً على اسم الفقيه. ولا يفارق زي العلماء. وقد جعل الأمر والاسم لولده، عبد الله. وكان من شدته منع النساء الخروج من باب طليطلة، خلف الجنائز كثرة. وقطع عمل الدرمك بالجملة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 قال السبتي: كان ابن يعيش، أول أمره معدوداً في أهل الصلاح والفضل. أخذ من العلم بأوفر نصيب. وولي الجهاد والحجّ. وأوسع النفقة في السبيل، وأكثر التلاوة والصلاة، الى أن ابتلي بحب الدنيا، مما يغفره الله تعالى له بفضله. ولم يلبث أهل طليطلة، أن ملوا دولته، وثقل عليهم وطأته، وخلعوه، وقتلوا ولده. وذلك سنة سبع عشرة وأربعماية. أبو عمرو معوذ بن داود بن معوذ بن دلهاب الأزدي التاكرني الزاهد. بقية الزهّاد العلماء العباد في وقته، انقطع زمن الفتنة ببعض جبال رية. كان فقيهاً عالماً، بليغاً أديباً، متبتلاً سمحاً، حسن العشرة. لقي الناس وصحب الفقهاء والعلماء، ولقي الفقيه الزاهد أبا حفص ابن عبادل، فأخذ عنه، وتفقه معه، وانتفع به. وقد ذكرنا خبره قبل هذا، وعلا ذكره في العلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 والخير، والزهد. وإليه كانت الفتوى من جميع الجهات، بموضع انقطاعه، وانعزاله. وكان الناس ينتفعون به الى أمر الفنتة. فيكتب لهم بما لا تخيب شفاعته، ويتحامى أهل الفساد حوزته، ويعظ من قصده منهم. وكان ممن لا يقبل هدية إلا مع تعجيل المكافآت، عليها حصوراً. لم يتخذ قط لنفسه فراشاً. يصرف فضل ضيعته الى من ينتابه من أهل السبيل وطلبة العلم، كلفاً بجمع الكتب. له رسائل في الزهد والمواعظ، مستحسنة. وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين. أبو عمر أحمد بن حسين القاضي بدانية، من أهل العلم والقرآن. وكان الموفق صاحب دانية، قد وجهه في رسالة الى المعزّ صاحب القيروان. فجرت له بالقيروان أخبار وأجوبة حسنة. وكتب الى علمائهم بماية من فنون العلم، أجاب عنها أبو عمران الفاسي رحمه الله. وفي ذلك كتب القاضي أبو عمر للمعز: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 يا معزاً أعزّ أهل الدين ... وتردى بكل فضل مبين ماية كالبدور أو هي أضوى ... في عيون الأذهان لا في العيون مقبلات فإن مست بإذن ... فتحت في فنائك الميمون وبدت قاصدات علم وفقه ... ومعانٍ غريبة وفنون فمن القيروان تبتغى المعاني ... وبها نشر كل علم مصون وله أبيات غير هذه. وقد وقفت على أجوبة أبي عمر هذا، فيها فقه واستحسنت فيها قوله. وقد سأل عن المرأة الميتة لم خُصّت بوضع القبة على نعشها، على ما استمر عليه عمل المسلمين من صدر هذه الأمة. وهي في حياتها ألا يلزم إخفاء شخصها بل تستر جسدها. فقال: علة ذلك لما حملت على الأعناق، وتعين عينها، زيد في سترها، حتى لا يعلم طولها من قصرها، وسمنها من هزالها. وفي حياتها هي مختلطة بغيرها، فلم تتعين. وأما أبو عمران فأجاب: إنها لم تملك من أمرها شيئاً، فلذلك جعل لها أتم الستر. سعيد بن سهل الشرفي إشبيلي. آخر فقهاء بلده. ووجوهه، نكبه ابن عباد في الفتنة. بسبب التهمة في بني حمود. واستصفى ماله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 أبو بكر عبيد الله القرشي التيمي أصله قرطبي، ونزل إشبيلية. وكان أحد المفتين بها. وممن له وجاهة، وكان أحد الدعاة للشبيه الدعي القائم بها، باسم هشام المخلوع. وممن شهد على عينه، وكف بصره آخر عمره. ذكر القاضي أبو الأصبغ ابن سهل في كتاب الأعلام: إن هذا القرشي التيمي، أفتى في أم الولد، تقوم في غيبة سيدها بعدم النفقة. أنها تعتق عليه، كالزوجة. وخالفه في ذلك غيره من فقهاء إشبيلية. وأفتى فيها ابن الشقاق، وابن القطان، أنهن بخلاف الزوجات، لا يعتقن. وهو الذي حكاه ابن القطان في وثائقه. قال: وهذه الرواية لا تشبه فيمن عجز عن نفقة أمهات الأولاد، أنهن يعتقن عليه، بعد انتهاء أمد شهر، ونحوه. لعلي بن زياد، واختاره ابن سهل، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الباجي إشبيلي، نبيه البيت في العلم والجلالة والقضاء ببلده. تقدم نسبه، وذكر أبيه وجده. سمع أبو عبد الله من جده أبي محمد، ورحل مع أبيه أبي عمر، ولقي عدة من الشيوخ والفقهاء، وروايته ورواية أبيه واحدة. سمع منه ابن الفرات البطليوسي، ومحمد بن عبد الله الحصار، وأبو بكر ابن الوليد، وآخر من روى عنه، أحمد بن محمد الحصار بالإجازة. ولي الشورى ببلده، ثم القضاء. وكان يستفتي في كثير من مسائله، أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران الفاسي. قد ذكر القاضي ابن سهل في كتابه، من مسائل لهما، جملة صالحة. قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله، وقد ذكره. كان أبو عبد الله هذا من أهل العلم بالحديث، والرأي، والحفظ للمسائل. قائماً بها واقفاً عليها، عاقداً للشروط، محسناً لهم. بيته بيت علم، هو وأبوه وجده. وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجتهم في السن، ومنازلهم في السبق. وتوفي في محرم سنة ثلاث وثلاثين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 خلف بن سعيد بن أحمد بن محمد الأزدي أبو القاسم إشبيلي. كان رجلاً صالحاً من الفضلاء الزهداء في الدنيا. منقبضاً قديم الخير. له رحلة، حجّ فيها. وتنسك وتقشّف. وكان فقيهاً مفتياً. وليَ الشورى. سمع من أبي محمد الباجي وغيره. سمع منه أبو عمر بن عبد البر، وأبي بكر بن أبان، وأبو عبد الله الخولاني. محمد بن مغيرة بن عبد الله بن مغيرة بن معاوية بن المأمون القرشي أبو بكر المعروف بالإشبيلي. قال ابن الحصار: كان من أهل العلم بالحديث والفقه، والفهم بضروب الأدب، متقدماً فيما وصفناه. له أشعار كثيرة، مشهورة. ولي الشورى بموضعه. وأخذ عن رجال الأندلس، ورحل فلقي رجال المشرق، أبا الحسن بن فراس، وطبقتهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وأخوه أبو سليمان عبد الرحمن بن مغيرة. قال: كان أيضاً من أهل الفهم والأدب والخير والانقباض. رحل وتجول، وسكن مصر مدة. وصحب بها جلة وسمع منهم واشتغل في العبادة والتبتل، الى أن توجه أخوه حاجّاً، فعزم عليه وانصرف معه بعد حجهما. وقد استفاد علماً ونبلاً وفهماً. فسكن قرطبة. ثم انتقل في الفتنة الى إشبيلية. رحمه الله. أبو بكر يحيى بن محمد بن أحمد بن عبد الملك القرشي العثماني إشبيلي. كان من أهل العلم والتقدم في الفهم للحديث والسنن، والرأي والأدب. فقيهاً مشاوراً. لقي جماعة، وسمع منهم. كابن عن الله، وابن مفرج، وعباس بن أصبغ، وسهل بن ابراهيم الاستجي، وأحمد بن عبد الله بن العنان، وهشام بن يحيى البطليوسي، وعبد الله بن النون وغيرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 خلف بن مسلمة بن عبد الغفور فقيه حافظ. ألّف كتاب الاستغناء في أدب القضاة والأحكام. كتاب كبير نحو خمسة عشر جزءاً، كثير الفائدة والعلم، وقفت عليه. وكانت وفاته نحو أربعين وأربعماية. رحمه الله. أبو بكر خلف بن أحمد بن خلف الرحوي من أهل طليطلة، وفقهائها. أخذ عن أبي محمد بن أبي زيد بالقيروان. وحدث عنه بكتبه. وسمع منه أبو الوليد الباجي، وأبو القاسم الطرابلسي، وأبو محمد الشارني، وأبو جعفر ابن مغيث. وتفقه به الطليطليون. وحكى أبو جعفر ابن مغيث عنه، أنه كان يرى بالرأي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 إسحاق بن يحيى بن ابراهيم سرقسطي من فقهائها، ومشاوريها ومدرسيها. سمع منه وضاح بن محمد الرعيني وغيره. وتوفي سنة إحدى وعشرين وأربعماية. رحمه الله. عبد العزيز بن علي المقري المالكي المصري من أصحاب أبي الذكر الفقيه بها. المالكي. وممن عني بلفقه، علم القرآن وغلب عليه. وكان من المتصدرين للإقراء للقرآن في جامع عمر. ويختلف الى أبي الذكر. وتفقه عنده في المسائل. ويجالسه في ذلك كل يوم، من بعد صلاة الصبح الى الزوال، ومن الظهر الى العصر. فبينما هو كذلك إذ جلس إلينا شاب، فكان يجيب في المسائل أحسن جواب. وجعل يختلف الى الحلقة زماناً. وعلى وجهه أثر صفرة. وكان من أحسن الناس وجهاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 وعليه ديفتان وطيلسان، ونعل شراكه أسود. وكان لا يلبسها بشراك أسود، إلا الشطار. فكنا نعجب من ذلك، فلما دخل الشتاء وغير الناس زيهم، لم يغير الشاب زيه. فقال لنا الشيخ: أظنه مقلاً. ويجب أن يتفقد حاله. فبادر الناس وجمعوا له ماية مثقال. وعقدها الشيخ في خرقة حمراء. وقال لأحد أصحابه: أرصد الشاب. فإذا قام من الحلقة، تدفعها إليه وتقول: جمعها لك الشيخ من وجه طيب. فلما خرج الشاب من الجامع، تبعه رسول الشيخ، حتى أتى القرافة، فدعي للصلاة على جنازة. فقدم عليها. فلما سلّم، أخذ الرسول بطرف ردائه، فأدى إليه رسالة الشيخ وسلامه، ودفع إليه الصرة. فقال: وما هي؟ قال دنانير. قال: وما أصنع بها؟ قال: تصرفها في مصالحك وتجعلها حيث شئت من أهلك، وأصدقائك. فقال الشاب: ما لي أهل يحتاجون إليها ولا صديق. فألحّ عليه الرسول، وهو يمشي معه. حتى قربا من المقطم، فلما خشي فواته، قبض عليه. فقال الشاب: يا هذا ما علمت أن لله عباداً، لو سألوه، أن يجعل لهم الحصى دنانير لفعل. وحرّك شفتيه، قال الرسول: فنظرت الى الصحراء، دنانير. فتركت يدي منه، وحثوت بيديّ جميعاً في الأرض حرصاً على الدنانير. فوقع في يدي دينار أطلس بلا كتابة. وتعلق الفتى في الجبل، وفاتني. وانصرفت حيران، فلما أبصرني الشيخ، قال لأصحابه: أرى الصرة سقطت منه. فحكيت له الحكاية. وأريته الدينار، فقلبه ووضعه على عينيه. وفعل الناس كفعله. ثم كان عند الشيخ حتى مات، وأدرج في كفنه. ذكر أن أبا بكر ابن مجاهد الألبيري، نهض مع أصحابه الى أبي عبيد الجيزي، ليزوره بالزهراء، على عادته له. وكان صديقه. فلما حضر عنده أحضر طعاماً ودعاهما الى أكله. فأكل أبو بكر، فأكلا معه. فلما خرجا، سئل أبو بكر عن أكله طعامه. وقد علم أن ليس عنده مال، إلا ما أعطاه السلطان. فقال أبو بكر: هو رجل من أهل العلم. فلو أمسكت عن طعامه، لكان جفاء عليه. وأنا في نفسي أحقر من أن أجعلها معه، في هذا النصاب، وقد قوم ما أكلت وأجمعت على الصدقة بقيمته، وثواب ذلك لصاحبه، ورأيت هذا أفضل من الشهرة بالإمساك عن طعامه، والجفاء عليه. رضي الله عنه. تمت الطبقة بحمد الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 طبقة تاسعة بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال الفقيه القاضي، أبو الفضل عياض رضي الله عنه. ثم انتهى المذهب بعد هذه الطبقة، الى طبقة أخرى. منهم من أهل المشرق أبو الفضل بن عمروس رحمه الله واسمه محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عمروس البزار، بغدادي. إمام فاضل. ذكر اسمه، هكذا. الشيخ أبو بكر بن ثابت الحافظ في تاريخ البغداديين. درس على القاضي أبي الحسن بن القصار، والقاضي ابن نصر، وحمل عنهم كتبهما. وحمل كتب أبي محمد ابن أبي زيد عنه إجازة. وذكر اسمه ونسبه هكذ، الشيخ أبو بكر بن ثابت الحافظ، في تاريخ البغداديين. وكذا قال السمنطاري، وسماه الباجي، عبيد الله. والأول أثبت وأصحّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 قال الخطيب: وهو أحد الفقهاء يعني ببغداد، على مذهب مالك. وكان من حفاظ القرآن ومدرسيه. سمع من ابن جباية، وابن شاهين، كتبت عنه. وكان ثقة ديّناً مشهوراً، وإليه انتهت الفتوى في الفقه بمذهب مالك ببغداد. وقبل القاضي الدامغاني شهادته. وذكره أبو إسحاق الشيرازي، فقال: كان فقيهاً أصولياً. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي، فقال: فقيه صالح. وذكره السمنطاري فقال: فقيه شاطر، جلد قيم بمسائل الخلاف، صاحب حلقة المالكيين بجامع المنصور. وله تعليق حسن، كبير مشهور في المذهب، والخلاف. ومقدة حسنة في أصول الفقه. ودرس عليه القاضي أبو الوليد الباجي ببغداد. وحدث عنه هو، وأبو بكر الخطيب. توفي أول محرم سنة اثنتين وخمسين وأربعماية. وقد بلغ الثمانين سنة. مولده فيما حكاه الخطيب: في رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثماية. رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 أبو العلاء الحسن بن محمد البصري من علماء مالكية المشرق. له كتاب في الجموع والفروق. رحمه الله. القاضي أبو الحسن علي بن هارون التميمي من شيوخ المالكية من أهل البصرة. أخذ عنه أبو يعلى العبدي، إمام البصرة. سمع أبا يعقوب المحرمي. وله كتاب بصحة ما صحّ فيما يلزم المسلمين في دينهم ودنياهم. رحمه الله. أبو بكر بن المؤمل البغدادي مالكي، يروي عن ابن ماسة. ويعرف بغلام الأبهري. حدث عنه أبو الوليد الباجي. وقال فيه: شيخ لا بأس به. أبو الحسن علي بن محمد بن قيس البغدادي كان مالكياً. سمع من الأبهري. وأبي بكر تواليفه، وعن أبي حفص الكتاني، وأبي علي الفهري. قال أبو الوليد الباجي: هو شيخ من أهل المعرفة باللسان. مالكي لا بأس به. سمع منه أبو الوليد الباجي، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 من أهل مصر أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد الهاشمي العباسي يعرف باليازري، بغدادي، من أصحاب ابن نصر. ومن فقهاء المالكية بمصر. سكنها وأقرأ في جامعها. وكان أديبً. حدث عنه أبو مروان الطبني. أبو القاسم عبد الواحد بن علي الجيزي من مالكية مصر. وله كتاب في أصول الفقه. من أصحاب القاضي ابن نصر، وعنه أخذ ابن سعيد فقيه ميورقة. حدث عنه مكحول. رحمه الله تعالى. أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد بن عيسى المالكي المعروف بابن شمس، البصري. يروي عن القاضي، أبي الحسن بن بندار الأنطاكي. روى عنه الحمال، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 من أهل الشام أبو الفضل مسلم بن علي بن عبد الله بن محمد بن حسين الدمشقي ويعرف بغلام عبد الوهاب. فقيه مالكي مشهور. اختص بالقاضي أبي محمد بن نصر وأطال صحبه، وخدمته. فشهر به. وله كتاب في الفروق معروف. حدث عن القاضي أبي محمد، ودرّس. أخذ عنه الناس، وأخذ عنه من أهل بلدنا قاسم ابن المأموني. أبو العباس أحمد بن منصور بن محمد بن قيس الغساني دمشقي. ذكره بعضهم. قال: وكان فقيهاً على مذهب مالك. يروي عن القاضي عبد الوهاب بن نصر، وعن أبي محمد بن نصر وغيرهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 أبو النجا حيدرة بن علي بن ابراهيم الأنطاكي المعبر المالكي. ذكره الأمير أبو نصر. وقال: هو شيخ كتبت عنه بدمشق. حدث عن ابن نصر، رحمه الله. من أهل إفريقية أبو إسحاق التونسي واسمه ابراهيم بن حسن. تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، وطبقتهم. ودرس الكلام والأصول عن الأزدي. وكان جليلاً فاضلاً، إماماً صالحاً، منقبضاً متبتلاً. وبه تفقه جماعة من الإفريقيين. وأخذ عنه عبد الحق، وابن سعدون، وعبد العزيز التونسي، وابن أبي جامع وغيرهم من الجلة. وله شروح حسنة، وتعاليق مستحسنة مستعملة، متنافس فيها على كتاب ابن المواز، وعلى كتاب المدونة. وذكره ابن عامر الميورقي في رسالته، هو والسيوري. فقال: لحقا من تقدمهما في العلم والورع، وأعجزا من يأتي بعدهما. وهما والله أعلم آخر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 علماء المغرب. وفي التونسي يقول عبد الجليل الديباجي: حاز الشريفين من علم ومن عمل ... وقلما يتأنى العلم والعمل وكان مدرّساً بالقيروان، مستشاراً فيها. مع بقية المشيخة، قبل الفتنة كأبي القاسم اللبيدي، وغيره. رضي الله عنهم أجمعين. ذكر محنته رضي الله عنه كان الشيخ أبو إسحاق، قد امتحن مع فقهاء القيروان، محنة عظيمة في سنة سبع وثلاثين وأربعماية. وذلك أنه استفتى في تدمية ما عداه، في مراجعة عقدها ولي من العبيديين. وذلك بعدما جرى عليهم ما جرى بالقيروان. وقيام المسلمين عند ولاية المعزّ بن باديس، صاحبها عليهم. وتقتيلهم كل مقتل. واستنصار المعزّ في ذلك. فرد الفقيه أبو إسحاق في بعض جوابه. أن هذه الفرقة على ضربين: أحدهما كافر، مباح الدم، والضرب. والآخر الذين يقولون بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة، لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 يلزمهم الكفر، ولا تبطل نكاحاتهم. وشاعت فتواه فأنكرها فقهاء إفريقية بالقيروان، وغيرها. وكانوا من التشدد على هذه الفئة المارقة. وكل من يتعلق بهم، حيث كانوا. والعامة أشد من ذلك. لاسيما بظهورهم عليهم، وبغضهم فيهم، وأرسلوا الى أبي إسحاق، في معاودة النظر، وأن يرجع، فأبى إباءً شديداً. فخالف الجميع، واستحقر مخالفته، وانتهت القصة الى السلطان المعزّ، فجمعهم بعض الجمع عنده في المقصورة، وناظروه. فأظهر الإنابة الى قولهم، والرجوع إليهم، ثم خلا بأصحابه، فأنكروا عليه، رجوعه، عن قولهم، وأنه الحق الذي لا يجب سواه. وكان رأي الفقهاء، سد هذا الباب للعامة على هذه الكفرة. وأن بني عبيد زنادقة، وأنّ الداخل في دعوتهم، وإن لم يقل بقولهم، كافر لتوليه الكفرة. فأظهر أبو إسحاق التمادي على قوله، وإنكار الرجوع عنه. ومشى الناس في هذا بعضهم الى بعض. وامتزج فيه القيام لله عزّ وجل في ذلك، بالشهوة من العصبية للغلبة. واجتمعت الفقهاء في ذلك، وأتتهم مكاتبات علماء الجهات بإنكار ذلك. وأن المنتقمين بهذه المقالة الخبيثة، من المصريين والشاميين، قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 استحسنوا جوابه. ونهضوا ليفتنوا به الناس، وسرّ به من في قلبه مرض، واحتجّ به. فأطلق الفقهاء الفتيا بما عليه، بمقالته هذه، بالتضليل والتبديع. وقال فيها الشعراء قصائد كثيرة. تضمنت إيذاء أبي إسحاق والتبرؤ منه. وأنشدها الشعراء والطلبة عند الفقهاء غيره، في دورهم وجموعهم. وأطلقوا فيها عليه. وأمر السلطان بسجل أنشئ في القصة من التبرؤ من قوله. وقيل فيه منه ما يعظم الله به أجره، وأمر بقراءته يوم جمعة على المنبر، قبل الصلاة، مستهل صفر عام ثمان وثلاثين. ثم أمر السلطان بإحضاره في ذلك اليوم، إثر الصلاة. وأحضر معه الفقيه أبا القاسم اللبيدي في بقية مشيخة الفقهاء، وكبيرهم، والفقيه أبا الحسن ابن المغربي، والقاضي أبا بكر بن محمد بن أبي زيد، خاصة من بين سائر الفقهاء. وكان هذان الفقيهان من أشد الناس، وحكم في المسألة اللبيدي، فحكم بأن يقر بالتوبة على المنبر، بمشهد جميع الناس، وأن يقول: كنت ضالاً فيما رأيته ونطقت به. ثم رجعت عن ذلك الى مذهب الجماعة. فكانوا على ذلك، وكأنه استعظم الأمر على المنبر، وقال ها أنا أقول هذا بينكم. فساعدوه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وقنعوا منه بقول ذلك بحضرة السلطان، والجماعة. وأن يقوله في مجلسه، ويشيعه عن نفسه. فافترقوا على ذلك. وجعلت على الشيخ من ذلك غضاضة. فخرج في فصبيحة يومه متوجهاً الى منستير، للرباط مستكناً لقضيته. ومسبباً لها. فتغيب شخصه. قال القاضي عياض: لا امتراءَ عند منصف أن الحق ما قاله أبو إسحاق. ولا امراء أن مخالفته أولاً لرأي أصحابه في حسم الباب، لمصلحة العامة واللجاج خطأ. وأن رأي الجماعة، كان أسدّ للحال. وأولى بعائدة الخير، وفتواه جري على العلم وطريق الحكم. ومع هذا فما نقصه هذا عند أهل التحقيق. ولا غضّ من منصبه عند أهل التوفيق. وقد حكى أبو عبد الله بن سعدون، قال: رأيت أبا القاسم اللبيدي بعد موته، فسألته: من على الحق؟ أنت أو أبو إسحاق؟ فسكت. وأمسكت بعضده، فكان يقول بصوت خفي: التونسي. ومات أبو إسحاق بعد هذا بسنين، فرأيته أول فتنة القيروان، وكان ابتداء فتنتها سنة اثنتين وثلاثين بالقيروان. ورثاه أبو علي ابن رشيق بقصيدة فريدة أولها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 ليس امرؤ صاحب الزمان بباقي ... والخلق مرجعهم الى الخلاق يا للرزية في أبي إسحاق ... ذهب الزمان بأنفس الأعلاق ذهب الزمان بخاشع متبتل ... تبكي العيون عليه باستحقاق ذهب الحمام ببدر تمّ لم يدع ... منه التقى إلا هلال محاق صبرنا الى الحال التي من أجلها ... كنا نعد الدمع في الآماق فاليوم أغلق كل فهم بابه ... لما فقدنا فاتح الأغلاق ما القيروان أذقت ثكلك وحدها ... قد ذاق ثكلك سائر الآفاق وإذا مصارمة الصروع تخاطرت ... وأتاك ابراهيم بالمصداق زدت شفاء بها الى لهواتها ... من بعد نا نفدت على الأشداق دنياك قدماً كنت قد طلقتها ... ما اليوم حين فجعته بطلاق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 أبو الحسن علي بن تمام المعروف بابن بنت المهدي وغلب عليه اسم عند الناس المهدي. أحد فقهاء هذه الطبقة في وقته بالقيروان. وله صيت وأتباع كثيرة وصلابة في القيام، في تغيير النكرات والتكلم بالحق، ومكانة عند السلطان. وهي عنده في حوائج الناس وأمور العامة، وهو كان أحد القائمين على القاضي أبي بكر ابن أبي زيد والمحسنين في عدواته، كما ذكرناه في خبره. وكان قد خالفه في أمر العيد، إذ كان القاضي المذكور قد أمر بأن العيد من غدهم. لما ثبت عنده، وعند السلطان، والقاضي وسائر الفقهاء، وخرجوا لصلاتهم، ورجعوا وذبحوا. وكان يوم جمعة، إلا المهدي، فخالفهم في هذا كله، وجلس في داره. فلما صلى بهم الخطيب صلاة الجمعة، وكبّر تكبير التشريق، قال له المهدي من موضعه: كذبت أيها الفاسق. وأصبح اليوم الثاني في باب داره، وصلى العيد مع خلق، اتّبعوه. وكان من جملة من صلى معه، خطيب الناس بالأمس. وقال له: إنما صلى بالأمس تقية. فبلغ ذلك القاضي، فأحضره. فقال: إنما فعلت هذا عند المهدي، خوفاً منه، فكان هذا سبب نكبة هذا الخطيب، وعزله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 أبو القاسم السيوري واسمه عبد الخالق بن عبد الوارث. قيرواني. آخر تبعاته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان. وذوي الشأن البديع في الحفظ والقيام بالمذهب والمعرفة بخلاف العلماء. وكان زاهداً فاضلاً ديناً نظاراً. وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ دواوين المذهب، الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف. حتى أنه كان يذكر له القول لبعض العلماء، فيقول: أين وقع هذا. ليس في كتاب كذا، ولا كتاب كذا. ويعدد أكثر الدواوين المستعملة من كتب المذهب والمخالفين، والجامعين. فكان في ذلك آية. وكان نظّاراً. ويقال إنه مال أخيراً الى مذهب الشافعي، وله تعليق على نكت من المدونة. أخذه عنه أصحابه. ويقال إنه تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران، وطبقتهم. وقرأ الكلام والأصول على الأزدي، وأكثر ما قرأ الكلام. ولازم مدينة القيروان بعد خرابها، الى أن مات بها، وعليه تفقه عبد الحميد، والمهدي، واللخمي، والذكي. وأخذ عنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 عبد الحق، وابن سعدون وغيرهما، وبعدهم حسان ابن البربري، وأبو القاسم المنهاري، وأراهم آخر من أخذ عنه وطال عمره. فكانت وفاته سنة ستين بالقيروان. رضي الله تعالى عنه. أبو محمد الفحصلي واسمه عبد الله. أخذ عن أبي بكر وأبي عمران. وكان من الفضلاء العبّاد. لم يكاتب السيوري، أحداً من هذه الطبقة بالفقه غيره. وكان زاهداً متقللاً، قوته في النهار. الى غد نصف مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أكبر هذه الطبقة. وكان يحلق في حياة الشيوخ رضي الله عنهم. أبو الطيب عبد المنعم بن ابراهيم الكندي والمعروف بابن بنت خلدون، قيرواني، هو ابن أخت الشيخ أبي علي ابن خلدون من نبلاء هذه الطبقة ومتفننيها. وكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 له علم بالأصول، وحذق بالفقه والنظر. تفقه بأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران. وأخذ عن أبي سفيان المقرئ، وبه تفقه اللخمي، وأبو إسحاق بن منصور القفصي، وعبد الحق، وابن سعدون وغيرهم. وحكى عن بعض شيوخ الإفريقيين أنه كان يقول: دخلت عليه، فوجدته ينظر في اثني عشر علماً. وكان له حظ من الحساب والهندسة في العلوم القديمة. ويحكى أنه كان دبر جلب ماء البحرين من ساحل تونس، الى القيروان، وسوقه خليجاً من هنالك بنظر هندسي، ظهر له. فاخترم قبل نفاد رأيه فيه، وظهور ما دبره منه. وذكره بعض العلماء فقال: كان قدوة في العلم والدين، ورأيت أهل قفصة قد سألوه في مسألة يرونها، بقولهم: إن الله تعالى منّ علينا معشر المسلمين، بأن جعلك إماماً يقتدى به، وراسخاً في العلم، نفزع إليه. وكانت له رحلة. ودخل مصر، وله على المدونة تعليق مفيد. أبو حفص عمر بن أبي الطيب المعروف بالعطار. قيرواني فاضل. وكان حافظاً قيّماً بالمذهب. حسن الاستنباط. وكان اعتماده على المدونة. وبه تفقه عبد الحميد المهدي، وابن سعدون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 كان ابن العطار يقول للطلبة: فقر وعلم. لم تبلغوا هذه الدرجة. أنتم ورثتم الفقر، والعلم منزلة الأنبياء عليهم السلام. أبو القاسم عبد الرحمن بن محرز قيرواني. تفقه بشيوخ القيروان، أبي بكر بن عبد الرحمن. وسمع من ابن عمران، وأبي حفص العطار، يتولى الطلبة: نبيلاً، ذا رأي حسن، ومروءة تامة. وابتلى آخر عمره، فيما بلغني، بالجذام. وله تصانيف حسنة. منها تعليق على المدونة، سماه: التبصرة، وكتابه الكبير المسمى بالقصد والإيجاز. توفي نحو الخمسين وأربعماية. أبو إسحاق بن منصور القفصي كان من فقهاء إفريقية وفضلائها، من أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمن، وطبقته. وصحب أبا الطيب عبد المنعم الخلدوني، وأبا إسحاق التونسي، والسيوري، وغيرهم. أثنى عليه بالعلم البارع والدين، القاضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 أبو عبد الله ابن داود. وذكر لنا أن شيخه أبا عبد الله الذكي كان يثني عليه كثيراً، ويقول: ما اجتمع لأحد من أهل إفريقية، ما اجتمع لأبي إسحاق. أو كما قال. أراه سكن طرابلس، وأصله من قفصة، وبها كان مدة. أبو بكر محمد ابن أبي القاسم اللبيدي كان من أهل العلم والأدب والفهم الحسن، وجلس بأمر السلطان مجلس أبيه، بعد موته، سنة أربعين، قبل الفتنة، بعد أن استدعاه إليه في جماعة من أهل العلم. فنوّه به وشرّفه، وخلع عليه خلعة تليق بأهل العلم. وكان معظماً في الناس لنفسه وأبويه ومكانته عند السلطان. وكان حسن المعاشرة طلق الوجه، مبادراً لقضاء حوائج الناس، مكارماً لهم، يجيد قرض الشعر، جميل الصورة، واسع الحال. كانت له مشية حسنة، وملبس نظيف، وتوقر مفرط. وكان النساء يتصدين لرؤيته، وحسن إشارته. وتمادت الرئاسة بالعلم والقضاء في بيته، الى وقتنا هذا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 أبو حفص عمر بن ساروا، اللواتي من فقهاء صقلية ومشاهيرها. وكان شاعراً أديباً. وهو القائل يفخر بقومه لواته، من قصيدة أولها: لمن تعزى المكارم والأيادي ... ورد الخيل ذاهبة الهوادي سوى قومي الذين سمت نفوس ... بهم شرفاً الى السبع الشوادي وله أيضاً: أأجازيك أم أعاديك سفلا ... أم تراني أراك للسب أهلا سب ما شئت لست ممن يجازي ... أنا بالسب إن شتمتك أولى محمد بن عبد الصمد كان هذا الرجل من علماء وقته، بالقيروان. وغلب عليه الزهد. وكان ممن انقطع وأخذ في وعظ الناس وتحذيرهم. وكان يجتمع إليه، ويسمع منه حتى حضره صاحب القيروان. فحكى أبو الطيب بن الكماد الأديب القيرواني: أن المعزّ صاحب القيروان كان تحيل حتى استعار منه بعض كتبه، يريد أن يطلع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 شيئاً منها، فأقامت عنده أياماً، ثم ردها إليه، لأنها السبب. وأحسبه بخط فيها: زعمت ملوك الفرس، وحكماء السند والسياسة، أن أهل المعرفة والوعظ وتأليف العامة، وإقامة المجالس أضرّ الأصناف وأقبحهم أثراً في الدول. فيجب أن يتدارى أمرهم، ويبادر الى حسم الإيذاء منهم، وأبلغ ما يكون في ذلك، عرض المال عليهم، فإذا قبلوه، كفي أمرهم. ففهم ابن عبد الصمد، أنه قصده بذلك، فاستعمل الخروج الى الحجّ، وخرج معه من عامه. ثم عاد فأخذته الفتنة الناشئة، بالقيروان وهو به. أبو الحسن بن سليمان سكن المهدية، وكان خير فقهائها، في هذه الطبقة. فأخذ على التونسي رحمه الله في نازلته. عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي أبو محمد. من أهل صقلية. تفقه بشيوخ القرويين والصقليين. فمن شيوخه بصقلية: أبو بكر ابن أبي العباس، والفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن، وابن عمران الفاسي، وعبد الله بن الأجدابي، وأبو عبد الله مكي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 القرشي. وتفقه مع التونسي والسيوري، وبابن بنت ابن خلدون وغيرهم، وحجّ مرتين. فلقي في إحداهما أبا محمد عبد الوهاب بن نصر، وأبا ذر الهروي، آخر بعد أن أسنّ، وكبر وبعد صيته. فلقي بمكة إذ ذاك إمام الحرمين، أبا المعالي العالم المتكلم. وذلك سنة بضع وخمسين، فباحثه وسأله عن مسائل أجابه عنها أبو المعالي، هي مؤلفة مشهورة في أيدي الناس. وكان عبد الحق يعترف بفضله، ويقول: لولا كبر سني، ما فارقت عتبة منزله. وكان الآخر يجله ويعترف بفضله. سمعت شيخنا أبا القاسم عبد الرحمن بن محمد يقول: - وكان معهما إذ ذاك بالحجاز - إنهما اجتمعا، وحانت الصلاة، فقدم أبو المعالي شافعي المذهب، وتكرر عبد الحق بعد هذا ببلاد مصر، الى أن توفي بها. وكان فقيهاً فهماً صالحاً ديّناً مقدماً. بعيد الصيت، شهير الخير، مليح التأليف. وألف كتاب النكت والفروق لمسائل المدونة، وهو أول من ألف، وهو مفضل عند الناشئين من حذاق الطلبة. ويقال إنه قدم بعد ذلك على تأليفه، ورجع عن كثير من اختياراته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 وتعليلاته فيه، واستدرك كثيراً من كلامه فيه. وقال: لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت، أو نحو هذا. وألف أيضاً كتابه الكبير في شرح المدونة، المسمى بتهذيب الطالب، ونبه فيه على ما استدركه، على كتاب النكت. وله استدراك على مختصر البرادعي. وكان له حظ من الأصول والفروع، وله عقيدة رويت عنه. وله جزء في ضبط ألفاظ المدونة. وذكره ابن عمار المتكلم، فقال: إمام مشهور بكل علم متقدم، مدرس للأصول والفروع. وذكره ابن سعدون فقال: كان من الصالحين المتقين فيه قدر أهل العلم، وسكينتهم، وإذعانهم للحق. كثير الإنصاف. وأنشد له ابن القطان من شعره: أرى فتن الدنيا تزيد وأهلها ... يخوضون بالأهواء في غمرة الجهل فما أن ترى من مخلص ذي عقيدة ... وما أن ترى من صادق القول والفعل فيا سوء حالي حين أصبح فازعاً ... ولم أدخر زاداً وما زلت في شغل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 وله يرثي ابنه عمران: أراك قريباً واللقاء بعيد ... وجسمك يبلى والزمان يعيد وما كان يا عمران بي الظن أنني ... أراك مقيماً في التراب تبيد ولا أنني أبقى وراءَك ساعة ... أعاين موجوداً وأنت فقيد سأصبر في الدنيا بنيّ لعلني ... ألاقيك في الأخرى وأنت سعيد وتوفي عبد الحق بالاسكندرية، سنة ست وستين وأربعماية. رحمه الله تعالى. عبد الجليل بن مخلوف الصقلي أبو محمد، حدث عن عبد الملك الصقلي. يروي عنه الشيخ أبو محمد عبد القادر القروي. رحمه الله. أبو محمد المعروف بابن صاحب الخمس فقيه متكلم أصولي، فاضل مشهور في موضعه. ذكره الميورقي، فقال: كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 متكلماً إماماً في علم الأصول، نافذاً في علم الفروع، متورعاً عن الفتيا. قال: وهو أكبر من لقيت بصقلية. وكان شيخنا القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد المعافري، قد لقيه بها. وكان يثني علي، وحدث عنه، وأخذ عنه. أبو العباس أحمد بن محمد الجزار صقلي مشهور. مقدم ببلد. انفرد فيه برئاسة الفتيا والشهرة بالخير والصيانة والديانة. وكان من أهل التحقيق بالفقه والأصول، وبه تفقه أبو القاسم السرقوسي، ومتأخر الصقليين. ولقيه أبو الوليد الباجي، وابن عمار، وغيرهما من الأندلسيين. قرين عبد الحق في رئاسته العلم بصقلية. رحمه الله. فتوح بن الغزال الباغاني من أهلها. وكان فاضلاً فقيهاً موسراً خيراً، حسن الطريقة، منظوراً إليه ببلده. رأس على من فيها من أهلها من العلماء، بعلمه وخيره، ومكانته من السلطان. فكان صاحب القيروان يخاطبه في أمر بلده، فحسده على ذلك كل من كانت له بها رئاسة، من عربها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 وعجمها. فاتفقت كلمتهم على إغراء العامل به، والسلطان مشغول بفتنة القيروان إذ ذاك، المذهلة. فأجابهم ووجه فيه بأمر، فقتله بالرماح بحضرتهم، وبقي مطروحاً يومين، وكان له ابن صغر سنه، ذا علم بالفقه. وانتهبت أمواله، وكشف عياله. وكان فيما انتهبت له كتب بنحو ألفي مثقال. وكان ذلك كله منتصف شعبان من سنة ست وأربعين. وعجل الله بالانتقام من المغرين به. فخرج جماعة منهم، صحبة الفقيه المعروف بابن عفيف، من فقهائها، إعانة للقاء العرب من أهلها، لشحناء وقعت بين العرب والعجم، فتغلبوا على العرب فقتلوهم، إلا خيرهم ابن عفيف. سفره النساء بعد أن أصابه مكروه، ثم سلط الله العجم عليه، فقتلوا العرب وانتقم الله للفقيه، من الجميع. أبو الحسن بن المقلوب السوسي عظيم بلده، وشيخ فقهائهم. من أصحاب القابسي، وانتقل الى المهدية، وأخذ عنه. أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد اللواتي المعروف بالخرقي، بكسر الخاء، معجمة. من شيوخ هذه الطبقة وفقهائها، ومحدثيها وأسند من كان معه في وقته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 مع القابسي، وأبي ذر العروي. وكان ممن يجتمع إليه بالقيروان، ويتناظر عنده مع المشيخة. سمع منه ابن أبي الفرج المدلجي، وأبو القاسم السرقوسي، الصقلي، وأبو حفصل ابن الصقلي، وأبو علي الحسين بن مكي المعروف بحسان المهدوي، وغير واحد. ممن حدث عنه من القرويين النازلين بالأندلس، أبو محمد ابن الخياط. أبو محمد بن سبحان ممن كان يدرس بالقيروان من هذه الطبقة، ويجتمع إليه، ويعرف بالفقه من أصحاب القابسي. وممن كان يحلق بها أيضاً في هذا الوقت، من المالكيين ممن يعرف عبد العزيز بن المهدي، والصدفي المالكي، المعروف بالشقاشقي. وكلهم من أصحاب أبي الحسن القابسي، وممن انتفع به، رحمه الله. أبو عثمان ابن أبي سوار من أهل قلعة حماد، ومن فقهائها. وتفقه بشيوخ جهته. وأخذ عن عبد الرحيم بن العجوز السبتي، من أهل بلدنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 أبو حفص عمر ابن أبي الحسين ابن الصابوني من أهل قلعة حماد أيضاً. زعيم فقهائها في وقته. وطال عمره، فانفرد برئاسة جهته، وكان فقيهاً نظاراً محققاً، حسن الفهم جيد الكلام في الفقه. أبو القاسم ابن أبي مالك من العرب. وكان سكناه بجهة القلعة. قال ابن شرف في تاريخه: كان يوصف بفقه وورع، وزهادة ومروءة وخير. وورد القيروان رسولاً من قبل ابن حماد، على المعز، سنة ثمان وثلاثين، فخاطب بأبلغ خطاب، وأحسنه، وألطفه. ولقي مسرة من السلطان، ولا أنفق في هذه المدة إلا ماله، ولا اقتات إلا منه. من أهل المغرب الأقصى عثمان بن مالك فقيه فاس، وزعيم فقهء المغرب في وقته، وعنه أخذ فقهاء فاس، وتفقهوا به. منهم أبو بكر ابنه. وأبو بكر ابن الخياط وغيرهم. ولهم عنه تعليق على المدونة. تفقه بفقهاء بلده، على أبي مروان الأزدي. توفي سنة أربع وأربعين، وأربعماية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 الحسن القرشي رحمه الله من فقهاء فاس. ألّف كتاباً سماه التصنيف. رضي الله عنه. حمزة بن يوسف ابن الحوراء من فقهاء فاس. وتوفي بها سنة ثمان وثلاثين. وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن بن الباز اليحصبي، قاضي فاس. وكان من جلتها وفضلائه ونبهائها. أيوب بن محمد رحمه الله. ذكر أنه كان من أهل العلم، والرحلة فيه الى بلاد المشرق. ولقي أبا عمران وغيره من شيوخ القرويين. وكان فقيه المصادقة في وقته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 أبو القاسم بن عذرا رحمه الله تعالى الفقيه. أخو سليمان بن عذرا الجزولي. وكان من أصحاب أوبان بن زلوه، اللمطي، الفقيه. وأخوه سليمان، القائمين بأمر المرابطين بعد عبد الله بن ياسين. وكانت وفاة سليمان سنة اثنتين وخمسين. تومارت بن تيدي الفقيه. من الفقهاء الفضلاء، من المصامدة، من هذه الطبقة. رحمه الله. لمتاد بن نفير اللمتوني رحمه الله كان من عبادهم وفقهائهم. وهو الذي تولى قتل مسعود بن راقودي، الزناتي، صاحب سجلماسة عند قيام المرابطين، وغررهم إياهم. والمثل يضرب بفتياه في بلاد الصحراء وتعظيم أمرها الى الآن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 عبد الله بن ياسين الجزولي ذو الأنباء العظيمة، والقصص الغريبة، القائم بدعوة المرابطين، المزين لدولتهم، أول خروجهم. كان أولاً من طلبة أوكاد بن زلوه اللمطي، في داره، التي بناها بالسوس للعلم والخير، وسماها دار المرابطين. الى أن مرّ به رجل من جزلوة يعرف بالجوهر بن سكن، ممن كان يحب الخير، منصرفاً من الحج، فرغب الى أوكاد، أن يوجه معه رجلاً من طلبته، ليعلم قومه العلم، إذ كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما. فوجه معه عبد الله بن ياسين، وكان موصوفاً بعلم وخير، فسار معه، وفهم له سيره، ولقومه. وأخذ من الشدة في ذات الله تعالى، وتغيير المناكير وانعزام صاحبه، من لم يقبل الهدى، ولم يزل يستقر تلك القبائل حتى علا عليهم، وأظهروا الإيمان هنالك. ثم جرت له قصص، مع هذا الحاج، الجالب له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 ولغيره من الشدة، في إقامة الحدود، خاف منها آخراً على نفسه. قيل إنه أفتى بقتل الحاج المذكور، لأمر أوجبه عنده. وخرج عن جزولة الى ملتونة. فقام بأمرهم، قبل أيام تاشفين بن عمر، وقبل أيام يحيى بن عمر، وهو الذي سماه بأمير المسلمين، وأول من تسمى منهم بذلك. فقام بأمره، وجاهد معهم وقلدوه أمرهم. وأنفذ حدوده في أميرهم، فمن دونه. ثم توفي يحيى، فسلك تلك السبيل مع أخيه أبي بكر بن عمر. ولقد ذكر أنه ضرب بالسوط أبا بكر بن عمر وهو إذ ذاك أمير المسلمين، لحق تعين عليه عنده. والكل له مطيع، وسيرته في أموره هناك وتقريراته معروفة، محفوظة. يتأثر عليها مشيخة المرابطين. ويحفظون من فتاويه وأجوبته، ما لا يعدلون عنه. وكان أخذ جميعهم بصلاة الجماعة. وعاقب من تخلف عنها عشرة أسواط، لكل ركعة، تفوته. إذ كانوا عنده ممن لا تصح له صلاة إلا مأموماً، لجهلهم بالقراءة والصلاة. واستقامت للمرابطين بلاد الصحراء بجملتها وما وراءها من بلاد المصامدة، والقبلة، والسوس، بعد حروب كثيرة. ثم خرج بالناس لجهاد برغواطة الكفرة. فغزاهم مع أبي بكر بن عمر، في جمع عظيم من المرابطين، والمصامدة. قيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 إنهم كانوا في نحو خمسين ألف راجل، وراكب. فحل ببلادهم تامسنا، وقد فرت برغواطة أمامه في جبالهم وغياطهم. وتقدمت العساكر في طلبهم، وانفرد عبد الله في قلة من أصحابه، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديداً. فاستشهد رحمه الله، وذلك سنة خمسين وأربعمائة. وقد بسطنا أخباره في كتاب التاريخ. ومن بلدنا عبد العزيز بن عبد الرحيم بن أحمد بن الفخور الكتامي كان فقيهاً فاضلاً، خيراً ديّناً، أخذ عن أبيه، وسمع أحمد بن محمد، وعبد الملك بن أحمد ولم تطل حياته. وكان صديقاً لابن أبي مسلم القاضي، وعلى طريقته في الخير، والصيانة. وعليه كان اعتماد ابن أبي مسلم في الفتيا، بعد أبيه. مع ابن يربوع وابن غالب. أراه توفي في نحو ثلاثين وأربعماية. رحمه الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وأخوه أبو القاسم عبد الرحمن من أهل الفقه والصلاح. وذو بيت شهير في العلم بسبته. تقدم ذكر أبيه. وسمع من أبيه وطبقته. وحجّ مع ابنه القاضي، أبي عبد الله محمد، وسيأتي ذكره. وكان أبو القاسم هذا من رؤوس فقهاء سبتة في وقته، ومفتيهم. وعليه دارت الشورى، أيام قضاء محمد بن عتاب، بعد موت المشيخة قبله. وكان حسن الأخلاق، ذا علم وفضل ونباهة. توفي سنة تسع وأربعين وأربعماية. عثمان بن سعيد بن حمادة بصري الأصل. سكن سبتة، تقدم ذكر أبيه. وكان عثمان من أعيان فقهائها، ونبهائها. صاحب نظر وكلام وجدال وحجة. وتفقه على طريقة العراقيين. سمعت أنه لم يكن يُقرن في وقته بسبتة، وأنه لم يكن بالمغرب، أقوم منه، بحجة. أُخرج عن سبتة عند دخول برغواطة، بعد الثلاثين للمناقشة التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 بين أهلها، وبين قطانها من أهل بصرة المغرب. فسكن غرناطة وله بها عقب. سعيد بن خلف الله بن إدريس بن سليمان البصري المعروف بالرياحي. أبو عثمان، سبتي، من أهل العلم والفضل والدين. سمع من عبد الرحيم بن أحمد بن العجوز، ومن أبي عبد الله ابن الشيخ وغيره، من أهل بلده. وأرى له رحلة وسماعات بالأندلس. وكان منقبضاً زاهداً، متبتلاً صاحب سلامة، وعفاف وخمول، وتقشف وعزلة. وكان مقامه ليله ونهاره بمسجده، بزقاق الخير. ولم يكن له عيال أكثر دهره. فكان يلازم المسجد المذكور فيه. يكتب ويفتي، ويقرئ ويؤخذ عنه، فإذا احتاج الى ضرورة الناس، خرج الى دار قريبة له هنالك. وهناك كان يصنع غداءه، ويؤتى به الى المسجد، وكان أكثر دهره، صائماً. وكان الفقيه أبو عبد الله بن عيسى، شيخنا يقول: كنت أراه في الجامع قائماً يصلي، وربما كان يغلق عينيه لئلا يرى ما يشغله. وكان من جملة من يستفتى. وذكر أن أبا عبد الله بن عتّاب، قال لمن سأله بقرطبة، عن مسألة السبتيين: أليس عندكم ابن خلف الله؟ وأثنى عليه. وكتب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 بيده كثيراً من الدواوين. قل ما رأيت كتاباً مشهوراً في المذهب، إلا وقع إليّ بخط يده، وسوى ذلك من كتب التفسير، وغيرها، انتهى. قاسم بن محمد بن هشام الرعيني المعروف بابن المأموني. سبتي شهير البيت بها. أخذ عن عبد الرحيم بن العجوز، وابن الشيخ، وابن يربوع ونظرائهم بسبتة. ورحل الى الأندلس، فسمع من ابن الدبّاغ، وأبي محمد الباجي، ورحل الى المشرق، فحجّ ولقي مسلماً المالكي، وسمع من عبد الوهاب بن منير، وأبي محمد عبد الغني الحافظ، وأبي القاسم بن أبي يزيد، وغيرهم من المصريين. ثم انصرف فسكن المرية. وقد أخبرت أنه سكن إشبيلية أيام القاسم بن حمود، قبل هذا، وكانت له بها مكانة. وقد أخذ عنه جلة من مشيختنا وغيرهم. وحدثوا عنه، منهم أبو المطرف الشعبي، وأبو بكر ابن صاحب الأحباس القاضي، وأبو محمد غانم الأديب المالقي، وابنه حجاج بن غانم الفقيه، وغيرهم. وله كتاب في المناسك، رواه عنه ابنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 من أهل الأندلس أبو بكر محمد ابن قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن ذكوان، تقدم ذكر أبيه، وجده. قال ابن حيان: قرأ العلم، وسمع الحديث، وعكف على النظر، وتوسع في الكتب، حتى كان الحذّاق يتباهون بمجالسته. وكان قد خطط إثر موت أبيه، وهو شاب بمكانه، فسلك أسد مسالك أبيه، الى أن جاء عما قريب، أجود نسيج وحده. وكان قد جمع أشتات الفضائل مع رفعة المنصب، وعزة القدر والعلم والرحابة والأدب، وعزة النفس، ولم يكن من نمطه بالأندلس، أكثر كتباً منه، ولاه المعتمد خطة المظالم، الخاصية. ثم وليَ القضاء بقرطبة، بعد موت يونس بإجماع أهلها عليه. وكان حميد السيرة، شديد المذهب صليب القناة، حمي الأنف، رامه الرئيس ابن جهور، على أخذ مال الأوقاف، لينفقه على المصالح. فلم يوافقه عليه. وألحّ ابن جهور عليه. فلم يساعده، وسد بابه عن الحكم، فاحتشم منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وتوفي سنة خمس وثلاثين مخترماً أول كهولته. ولم يكمل أربعين سنة. مولده سنة خمس. فحزن الناس لفقده. وأرغبوا لجنازته. وانهاروا لقبره، مع رئيسهم ابن جهور، ورثاه جماعة منهم، أبو الوليد بن زيدون بقوله: أعجب بحال السرو كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال لا تفسحن للنفس في شأو المنى ... إن اغترارك بالمنى لضلال يا قبره العطر الثرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال مَن للعلوم فقد هوى العلم الذي ... وسمت به أنواعها الأغفال مَن للقضاء يعزّ في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها إشكال وُدّعتَ عن عمر عمرتَ قصيرَه ... بمكارم أعمارهن طوال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن مختار بن سهر الرعيني قال ابن حيان: كان عفيفاً متصاوناً يقظاناً، ذكياً متصرفاً لمعاني الفقه، بصيراً بالحساب من أهل بيت نباهة، بقرطبة. توفي سنة أربع وأربعين، وهو ابن أربعين سنة. تقدم ذكر أبيه. أبو الحسن مختار بن عبد الرحمن بن سهر الرعيني القرطبي قال ابن حيان: كان من كبار رجال قرطبة، جامعاً لفنون العلم، مستقلاً بما تقلده من الحكم. حسن الشارة والبلاغة، أديباً فقيهاً، حاسباً معدلاً، حافظاً جزلاً، عزيز النفس. وليَ قضاء المرية، استجلبه أهلها لذلك، على عادتهم من تدافع القضاء بينهم نفاسة. فلم يزل عليها الى أن مات. ويقال إنه شرب البلاذر، للحفظ، فأورثه سوء مزاج. فلم يزل به الى أن أهلكه سنة خمس وثلاثين، وهو بقرطبة. مولده سنة ثلاث وتسعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي رعيل المعروف بابن الرقاق. قرطبي. كان مقدم المفتين، في هذه الطبقة نحو سنة. وكان حسن الخلق، سالم العيب، كثير الغفلة. تؤثر له في هذا الباب، نوادر محفوظة. ولم يكن راسخاً في علمها، ولا ذا تحقيق بها. عمر وتوفي في رجب سنة أربع وخمسين رحمه الله. سوار بن أحمد بن سوار أبو القاسم قرطبي. قال ابن حيان: كان معظّماً معززاً، مقبلاً حليماً، حسن البشر والتودد، لا يلقى السلطان، ولا يتصرف له. ولا يأتي الحكم ولا يشهد عندهم، لعلة أوجبت ذلك، ذا معرفة بأخبار بلده، وملوكه. فصيح اللسان حافظاً للمسائل، قائماً على الشروط حسن الخط، يشرح العلم، ويفتي الى أن توفي، رحمه الله، سنة أربع وأربعين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 وخلفه ابنه عبد الرحمن وكان حسن الخلق، ذا صياغة وعفة، داخل السلطان. وولي الشورى وقضاء قرطبة، وتوفي سنة أربع وستين. محمد بن عبد الرحمن بن عقبة قرطبي، من أهل النفاذ في المعرفة والتفنن في العلم. وليَ الشورى أيام المعتمد، وهو شاب، ثم مات عما قريب. رحمه الله. أبو القاسم محمد بن محمد بن عبد الله ابن أبي الحارث الثقفي الطائي قرطبي. صلب الفتيا، عفيف الطعمة، من قسم بالفقه، واقف على كثير من أصول المالكية. قال ابن حيان: من غير استبحارٍ في ذلك. قال: ولم يكن بالرضي، في كل أموره. توفي سنة أربع وثلاثين وأربعماية رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 أحمد بن سعد بن دنبل الأموي قرطبي. أبو القاسم ممن له عناية في العلم. أخذ عن أبي عيسى بن الخراز، وابن مفرج، وابن عون الله، والقلعي، وابن زرب. وله مختصر في وثائق ابن الهندي، مستحسن عند أهل الصنعة. وكان ثقة حليماً، معلّماً. قال الخولاني: كان من أهل العلم والفهم، والعدالة. من أصحاب ابن الشقاق وابن دحون، وصديقاً لهما. وعمر وأسنّ. حدث عنه أبو عبد الله الخولاني، وابنه أحمد. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعماية. مولده سنة سبع وأربعين وثلاثماية. عبد الرحمن بن أحمد بن العاصي المعروف بولد المطورة. قرطبي من أصحاب أبي محمد بن دحون، ويونس القاضي، وممن لازمهما وأفاد منهما. وكان طلبه وهو كبير. فحصل على حظ من علم المسائل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 ودربة فيه. وقلد الشورى بقرطبة. وكان المبدأ به آخر وقته عند موت أقرانه. وكان ملازماً للقضاة. توفي سنة أربع وأربعين وأربعماية. رحمه الله. أبو عمر بن عبد الرحمن بن القرداحي قرطبي. كان أبوه المنبوذ بهذا اللقلب، رجلاً صالحاً. وكان ابنه أبو عمر هذا، فقيهاً أديباً، حافظاً ذكياً. أحذق أصحاب ابن دحون. قال ابن حيان: ولم يكن بالمرضي في نفسه، توفي وأبوه حي، سنة خمس وعشرين وأربعماية. أبو عمر أحمد بن عبد الله بن الزبير الثعلبي كان فقيهاً ذكياً حافظاً. من أصحاب الشيخ ابن دحون، رحمه الله. توفي سنة تسع عشرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 ابن سيد المعروف بابن سرحان المري له كتاب في الوثائق، وكتاب في فقهها. سماه المفيد. وتوفي سنة نحو الخمسين وأربعماية. أبو بكر محمد بن مغيث رحمه الله من أهل طليطلة. وحكماء فقهائها المتقدمين في الفتيا، والعلم. وله كلام حسن في الفقه، ونظر جيد. وكان يذهب الى الحجة والنظر على طريقة أبي عمر ابن الفخار، وكان يفقه أهل طليطلة. أبو محمد بن الرحوي رحمه الله من عظماء هذه الطبقة، بطليطلة، والرواية والمفتين بها. وله رحلة أخذ فيها عن القاضي أبي محمد بن أبي زيد بالقيروان. روى عنه كتبه. حدث عنه القاضي، أبو الوليد الباجي، وأبو عمر مغيث، رضي الله عنهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 محمد بن اسماعيل بن محمد بن فورتش أبو عبد الله. سرقسطي. شهير البيت بها. وفي القضاء والنباهة. قال ابن الفرضي: وهم ينسبون الى بني أمية. وحدثني بعض أصحابنا من أهل بلدهم، أنهم ينسبون الى عذرة. وكان أبو عبد الله أحد فقهاء الثغور، ورجاله، وليَ قضاء بلده. حدث عن أبي عبد الله محمد بن نصر بن عاصم، وأبي عمرو السفاقسي، وحكم بن ابراهيم، وأبي عمر الطلمنكي. حدث عنه ابنه القاضي أبو محمد، والقاضي أبو الوليد الباجي، وأبو عبد الله بن الضراب، وغيرهم. محمد بن أيوب بن بسام من أهل مالقة. وكبير فقهائها، ومشاهير بيوت العلم والقضاء. وبقي ذلك فيهم الى وقتنا هذا. وآخر من بقي منهم من أهل النباهة: أبو الحسن جابر بن بسام بن مسلم، كان مفتياً في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 بلده، في زماننا، نبيلاً عاقلاً، سرياً. توفي بعد عشرين وخمسماية. وأما أكبرهم أبو عبد الله هذا. فكان من كبراء فقهاء بلده، ومشاوريهم ورأساً فيهم، مع ابن بدر و، ابن أبي الهيثم وأبي علي حسون، وأخذ عن ابن المكوى، وطبقته، وليَ قضاء بلده. ووقفت له على أجوبة نبيلة، وكلام في الفقه، حسن، واستدراك جيد على المفتين في أحكام ابن زياد القاضي. ويحكى عنه أخبار في نبله في أمر دنياه، ظريفة. أحمد بن محمد بن بدر من أهل مالقة أيضاً، والمشاورين الكبراء في وقته، وليَ قضاها. رحمه الله. ابن أبي الهيثم من أهل مالقة، وكبراء فقهائها، من هذه الطبقة. وولي القضاء، وألّف كلاماً في الفقه، حسناً. ووقفت له على جواب في مسألة غائب، عن ملك، مدة من الزمان. فلما انصرف وجده عند أقوام ادعوا ابتياعه، ولم يثبت لهم ذلك، ولا ظهرت لهم وثيقة به. وطلب منهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 صاحب الأرض الغلة. فقال: إذا ثبت الأصل للقائم، وأنه لم يفته في علم شهوده، ولم يعلم شراء من وجد بيده، إلا بقوله. فاختلف فيه أصحاب مالك، واختلف فيه أيضاً قول مالك، فقال، وقالوا: يحمل على الشراء. حتى يستبين خلافه. ويعلم أنه غاصب، ولا غلة عليه. وقالوا أيضاً: هو كالغاصب وعليه الغلة حتى يعلم الشراء. وقع القولان في أمهات كتبه. وخالفه أبو علي حسون في المسألة وقال: لا رجوع. ولا أعلم خلافاً بين مالك وأصحابه، فيمن استحق بيده شيء، لا يعلم تفويته فيه. أن لا رجوع عليه بغلة. وإنما يجب الرجوع بالغلة على الغاصب. تمت الطبقة بحمد الله، وعونه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 طبقة عاشرة بسم الله الرحمن الرحيم. قال القاضي أبو الفضل عياض، رضي الله عنه: ثم انتهى الفقه في المذهب بعد هذه الطبقة، الى طبقة أخرى، بعد هؤلاء. منهم من أهل المشرق أبو يعلى أحمد بن محمد العبدي إمام المالكية بالبصرة، وصاحب تدريسهم، ومدار فتواهم، وذو التواليف في وقته، مذهباً وخلافاً. أخذ عن أبي الحسن ابن هارون التميمي، المالكي. قال شيخنا القاضي الشهيد، أبو علي حسين بن محمد: كان مشهوراً بتقدم وإمامة، وصلاح. وكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 يملي في كل جمعة في جامع البصرة، وعلى رأسه مستمليان يسمعان الناس ما يمليه، وبه تفقه مالكية البصرة، أبو عبد الله بن صالح، وأبو منصور بن باقي، وغيرهم. وسمع منه شيخنا القاضي أبو علي، والقاضي أبو بكر عبيد بن عمران النفزاوي، من بلدنا، وعالم عظيم، وقد ذكرته في معجم المشيخة. وتأخرت وفاته. فتوفي فيما بلغني: سنة تسع وثمانين وأربعماية. أبو الحسن علي بن محمد بن الطيب الواسطي قال شيخنا القاضي الشهيد: كان شيخاً فاضلاً، فقيهاً مالكياً، وكان خطيب بلده واسط، يفتي بها. وسمعت منه. وكان يتعاطى الحديث. سمع من الشريف: أبي الحسن علي بن عبد الصمد الهاشمي، وغيره. وورد بغداد بعد الثمانين. فغرق في الدجلة، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج المازري المعروف بالذكي. صقلي الأصل. وسكن قلعة بني حماد، ثم خرج الى الشرق، فدخل العراق، وسكن أصبهان الى أن مات بها فعداده فيها. وكان فقيهاً حافظاً، مدركاً نبيلاً، فهماً متقدماً في علم المذهب واللسان. متفنناً في علوم القرآن، وسائر المعارف. أخذ عن شيوخ بلده، وأخذ بالقيروان عن السيوري، والخرقي وغيرهما. وحكي أن السيوري كان يقول: ابن أبي الفرج، أحفظ من رأيت. فقيل له: تقول هذا، وقد رأيت أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران الفاسي. فقال: هو أحفظ من رأيت. وكان القاضي أبو عبد الله بن داود يقول: شيخنا الذكي، أفقه من أبي عمران، ومن كل مالكي، حتى فضله على اسماعيل بن إسحاق القاضي. تفقه به في المغرب أبو الفضل ابن النحوي، والقاضي أبو عبد الله بن داود، وحمل عنه أدب كثير، وعلم جمّ، وألّف في علوم القرآن كتاباً كبيراً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 سماه الاستئلاء. وله تعليق كبير في المذهب، مستحسن، وخرج على أنه ألف سؤال، وعنده تفقه أبو الفضل ابن النحوي، وأبو عبد الله بن داود القاضي، وغيرهما. بقية أخباره رحمه الله تعالى ولما صعد الى المشرق ودخل بغداد، وجد مذهب مالك بها قد درس وقل طالبه. فلم يحصل له بالفقه رئاسة هناك. ولتقدم أهل المشرق في صنعة النظر، وحذق الجدل الذي بذلك تقدم أئمتهم، فرس في النحو وعلم لسان العرب، واستصحبه القيم بالخلافة بها. إذ ذاك الملك العادل، أبو الفتح. واستصحبه الى أصبهان، لتدريس بقية الأدب، فذهب علمه بالسنة هناك ضياعاً. ولم يبلغني أن أحداً أخذ عنه هناك، ويقال إن سبب هذا دعاء الشيخ أبي القاسم السيوري عليه. فإنه يحكى أنه كان كثيراً ما يسيء الأدب معه، ويتبع سقطاته، حتى جمع من فتاويه نحو ثلاثين مسألة ادعى عليه الخطأ فيها، فأنكرها الشيخ، وكتب الى أصحابه لا تسمعوا منه فإنه كذاب. فأسقط بهذا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 وتوفي بأصبهان بعد الخمس، بعد أن جرت له بها حروب، في مطالبة الغزالي. وكان أحد القائمين عليه هناك، لكنه حمي عنهم فلم يصلوا إلي. والله أعلم بالسرائر. لا إله غيره. من أهل مصر أبو محمد التونسي سكن مصر، وكان فقيهاً مالكياً، وكان مفتي مصر في وقته، أخبرني بخبره شيخنا الأستاذ الخطيب، أبو القاسم خلف بن ابراهيم المقرئ، وقال لي: لقيته بمصر، وأفتى بقطع نخلة لبعض المصريين لإضرارها بما جاوره. فبلغ ذلك من صاحبها مبلغاً، وكان شاعراً. فقال في رثاء نخلته أشعاراً كثيرة. ومال على التونسي فيها وذمه. يحيى بن حمود الاسكندراني كان فقيهً في وقته. وحاز رئاستها. وكان بها معظماً، عليه اعتماد أهلها. ذكره أبو الحسن بن برية قال: قال لي يحيى بن حمود الفقيه: هل لك أن تزور هذا الفقيه، أبا بكر محمد بن ابراهيم الحنفي، الرازي؟ فقلت له: لا. لأنه يجاري المذهب. فلما بت رأيته في النوم، كأنه مقبل من البحر يمشي على الماء، وأنا وابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 حمود وآخر وقوف على الساحل. فلما وصل إلينا، أقبل على ابن حمود وصاحبه، وسلم عليهما وأعرض عني، فلما أصبحت، استغفرت الله من سوء ظني به، وسرت الى ابن حمود فجئناه زائرين. محمد بن الفرج بن عبد الله القروي الأنصاري الطليطلي يعرف بالصواف. سكن مصر وحدث بها. روى عنه شيوخ بلده. وكان قد كتب عن جماعة، منهم: أبو الوليد محمد بن المجيش، بن السمّاك، وأبو العباس بن بندار الرازي، قال الرازي في مشيخته: كان فقيهاً وغلب عليه الرواية. حدث عنه الأمير أبو نصر بن ماكولا، وأبو العباس أحمد بن ابراهيم الرازي، وابنه. وعلي بن مشرف وابن مسلم. وحدثنا عنه شيخنا أبو القاسم ابن لنحاس، المقرئ، القرطبي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 من أهل إفريقية أبو محمد عبد الحميد بن محمد المغربي المعروف بابن الصائغ. قيرواني. سكن سوسة. أدرك صغيراً أبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا عمران. وتفقه بالعطار، وابن محرز والبوني، والتونسي والسيوري، وسمع أبا ذر الهروي، وكان فقيهاً نبيلاً فهماً فاضلاً، أصولياً زاهداً نظاراً، جيد الفقه، قوي العارضة، محققاً. وله تعليق على المدونة. أكمل بها الكتب التي بقيت على التونسي. وبه تفقه أبو عبد الله المازري، المهدوي، وأبو علي ابن البربري، وأبو الحسن الحوفي، وأخذ عنه من أهل الأندلس: أبو بكر بن عطية. وأصحابه يفضلونه على أبي الحسن اللخمي، قرينه، تفضيلاً كثيراً. جمل من أخباره رحمه الله لما أراد تميم بن المعز صاحب المهدية، تولية أبي الفضل بن شغلان، قضاءها. شرط ابن شغلان ألا يتقلد ذلك إلا باستجلاب عبد الحميد الى المهدية، ليقوم بفتواها، إذ لا يرى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 استفتاء أحد من فقهائها، لأمور يتهمها عليهم. فحلف له، فلزم المهدية. ودارت عليه فتواها، فلما شغبت سوسة على تميم، قبض على جماعة، فيهم ولد عبد الحميد، فضربه وأغرمه ستماية دينار. فباع فيها عبد الحميد كتبه. وكان سبب انقباض عبد الحميد عن الفتيا، فلقيه بعد ذلك تميم واعتذر له، فلم ينفعه ولزم الانقباض، والتزام داره، وأظهر التجانز، ولم ينتفع به في شيء، وجعل لا يجالس أحداً، وتحيّل في الخروج الى سوسة، لعلة المعاناة بحسن هوائها. فبقي على حالته تلك ستة أعوام الى أن دخل الإفرنج المهدية، واستباحوا أهلها. ودخل جلّ قصر صاحبها، وذلك سنة ثمانين، فانكسر بعد ذلك تميم، وقلّ حزبه. وهان على الناس، وداراهم. فظهر عبد الحميد وراجع حالته الأولى. وأفتى ودرّس وانتفع به، الى أن مات. حكى أن الفقيه أبا علي حسان المهدوي، قال: رحلت الى سوسة، الى عبد الحميد للأخذ عنه، فلما لقيته رحب بي، ثم قال لي: من الحق ألا أدخرك نصيحة شيخي، الذي أخذت عنه وأفخر به، أبي القاسم التونسي السيوري، الى الآن حيّ. وإنما بيننا وبينه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 ميسرة كذا، وإن شغلت بالأخذ عني فإن لك منه خير كثير، وإن لقيته لم أفتك أنا إن شاء الله تعالى، بتبليغي عمر مثلي. فانهض إليه، وستدركني إن شاء الله تعالى. فشكرته وخرجت الى السيوري، وخرج مع الشيخ مشيعاً. فلما ودعته، وجئت لأركب، أخذ بركابي، وغلبني على ذلك، وقال لي: أنت تمشي في خير، فعونك عليه فيه أجر، أو نحو هذا. فلقيت السيوري، وأخذت تعليقه، وصحبته مدة، ثم لحقت أملي من عبد الحميد. وتوفي عبد الحميد، رحمه الله سنة ست وثمانين وأربعماية. أبو إسحاق بن منصور القصي كان من فقهاء إفريقية، وفضلائها، من أصحاب أبي بكر ابن عبد الرحمن وطبقتهم. وصحب أبا الطيب الخلدوني، وأبا إسحاق التونسي، والسيوري، وغيرهم. أثنى لنا عليه بالعلم البارع والدين، القاضي أبو عبد الله بن داود، وذكر لنا أن شيخه أبا عبد الله الذكي، كان يثني عليه كثيراً. ويقول: ما اجتمع لأحد من أهل إفريقية، ما اجتمع لأبي إسحاق، أو كما قال: أراه سكن طرابلس، وأصله من قفصة. وكان بها مدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز التميمي يعرف بابن غرور. نزل المهدية من أصحاب أبي بكر، وأبي عمران، وكان أحد الأربعة الفقهاء، الذين خرجوا من القيروان، بعد خرابها. وهم عبد الحميد المقرئ، وأبو الحسن اللخمي، وأبو محمد هذا، وأبو الرجال المكفوف. وكان أبو محمد هذا، فقيهاً فاضلاً، مفتياً. به تفقه ابن حسان والقاضي ابن اللبيدي، وغير واحد. وكان رأس الفقهاء بالمهدية، في وقته. وكان من أقيم الناس على كتب المدونة، وأحثهم على أسرارها، وإثارة الخلاف من آثارها. وكان الفقيه حسان يرفعه جداً. ويصفه بفهم عظيم. وكان من أهل العبادة، والفضل. يقال إنه أفتى ابن نيف وعشرين، وأزيد، وطلب على القضاء فامتنع. توفي فيما أظن، في نحو ثلاث وسبعين رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي. وهو ابن بنت اللخمي. قيرواني، نزل صفاقس، تفقه بابن محرز، وأبي الفضل ابن بنت خلدون، وأبي الطيب، والتونسي، والسيوري، وظهر في أيامه. وطارت فتاويه. وكان السيوري يسيء الرأي فيه كثيراً، لطعن عليه. وكان أبو الحسن فقيهاً فاضلاً ديّناً مفتياً متفنناً، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه، جيد الفهم. وكان فقيه وقته، أبعد الناس صيتاً في بلده. وبقي بعد أصحابه، فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة. وتفقه بجماعة من الصفاقسيين، وغيرهم. أخذ عنه أبو عبد الله المازري، وأبو الفضل ابن النحوي وشيخنا أبو علي الكلاعي، وعبد الحميد الصفاقسي، وعبد الجليل بن هور وغير واحد. وله تعليق كبير على المدونة سماه بالتبصرة، مفيد حسن، وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب واستقراء الأقوال، وربما اتبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده فخرجت اختيارته في الكثير عن قواعد المذهب. وكان حسن الخلق مشهور المذهب، توفي سنة ثمان وسبعين رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 أبو حفص عمر العمودي قيرواني، نزل صفاقس، وكان فقيهاً أديباً مفتياً من حفّاظ المدونة والقائمين عليها، ومن حفاظ الشعر أخذ عن أبي بكر وأبي عمران وصحب السيوري. ذكر بعض أصحابه، قال: لما ودعني الفقيه أبو حفص أنشدني: هيّجوا للبين برقاً فلمع ... وأثاروا دمع عيني فاندفع ودعوا قلبي فلما جاءهم ... أوقفوه بين يأسٍ وطمع أبو سعيد القصار قيرواني، من فقهائها. من أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران وكان أكثر - فيما يقال - فقهه في البيوع والأقضية، رحمه الله تعالى. أبو الرجال المكفوف قيرواني، فقيه فاضل، أراه سكن المهدية، رحمه الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 مكي المعروف باللياني يكنى فيما أظن بأبي يحيى. أخذ عن السيوري وأبي إسحاق رضي الله عنه. وكان فقيهاً توفي بعد الثمانين، رحمه الله. أبو عبد الله محمد السلمي قيرواني، سكن المهدية آخراً. سمع أبا ذر الهروي، وأبا عمران الفاسي، سع منه أبو بكر ابن عطية، رحمه الله. أبو عمران موسى المعروف بالشعري مهدوي، من فقهائها ومفتيها، وقتله الإفرنج عند دخولهم المهدية سنة ثمانين رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 أبو بكر بن أبي طاعة من أهل العلم من أصحاب أبي عمران الفاسي رحمه الله. أبو محمد عبد الله بن حسن الجبيري بجيم مكسورة بعدها ياء باثنتين من أسفل وباء مكسورة، وأراه مهدوي من فقهائها ومفتيها، وكان له معرفة بالحديث ورجاله. وتوفي الجبيري في سنة اثنتين وثمانين. أبو عبد الله محمد بن سعدون بن علي بن بلال القروي تفقه بالقيروان على جماعة، وسمع من شيوخها كابن الأجدابي وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي علي الزيات، والبوني واللبيدي، ومكي القرشي، وأبي سعيد ابن الفاسي، والسيوري، وأبي عبد الله المعروف بالمالكي وغيرهم. ثم حجّ فسمع بمكة من أبي صخر، وأبي بكر المطوعي، وأبي ذر الهروي، وسمع بمصر من ابن أبي ربيعة وابن الطبّال، وأبي الحسن بن منير، وأبي العباس بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 النحاس وابن باشاد. وسمع أيضاً من جماعة غير هؤلاء. وكان فقيهاً حافظاً للمسائل نظّاراً فيها على مذهب القيروانيين، حسن اللسان، وألّف إكمال التعليق للتونسي على المدونة، واشتغل بالتجارة فطاف ببلاد المغرب والأندلس، وأخذ عنه هناك الناس، وسمعوا منه كثيراً ولم يكن له أصول حسنة. سمع منه بالأندلس جماعة من شيوخها أبو علي الحافظ، وأبو محمد سفيان بن العاصي، ومن غيرهم ابنا مفوز وابنا مدير في آخرين، وسمع منه ببلدنا شيخنا القاضي أبو عبد الله التميمي، وأبو علي النحوي وغيرهما. وتوفي بأغمات في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وأربعماية. مولده عام ثلاثة عشر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 أبو بكر أبو عبد الله بن يونس، صقلي. وكان فقيهاً فرضياً حاسباً أخذ عن القاضي أبي الحسن الحصائري، وصنف في الفرائض وشرحاً كبيراً للمدونة عليه اعتماد الطالبين بالمغرب للمذاكرة. أبو الحسن علي بن عبد الجبار المعروف بابن الكوني من فقهاء صقلية، وكان نبيلاً أديباً وهو القائل يرثي صقلية عند الحادث بها من الفتنة: كانت وكنّا بها في ... ظل عيش ناعم رطب مدّ عليها الأمن أستاره ... فسار ذكراها مع الركب لم يشكروا نعمة ما خولوا ... فبدلوا المالح من العذب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 أبو حفص عمر بن عبد النور يعرف بابن الحكّار، صقلي، فاضل عالم نظّار محقق حسن الكلام والتأليف، أديب شاعر حسن القول. وله في المدونة شرح كبير نحو ثلاثماية جزء، وانتقد على التونسي، ألّف مسألة واختصر كتاب التمامات. أنشد له جامع شعر الصقليين قوله: تأملت علم المرتضين أولي النهى ... فأفضلهم من ليس في جده لعب ومن فقهه مستنبط من حديثه ... رواه بتصحيح الرواية وانتخب وما مالك إلا الهدى وإذا اهتدى ... به أمم من سائر العجم والعرب حكي أن بعض شباب فقهاء صقلية وحفّاظها وهو أبو القاسم ابن الحداد وكان ممن يعتني، تقدم مرة بين يدي الشيخ أبي حفص رحمه الله، فأصله له قرنه أو نعله، فقال له: اصفعني به يا أبا القاسم ولا تفتني في دين الله عز وجلّ، رضي الله عنهم جميعهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 ابن فروج صقلي، موصوف بعلم، له تأليف رتّب فيه تمهيد البرادعي على نسق كتاب المدوّنة رأيت له أسماء تعاليق وتصانيف كثيرة، رحمه الله. أبو العباس أحمد بن محمد الكلاعي أحد فقهاء صقلية ونبلائها من هذه الطبقة، وكان أديباً شاعراً ظريفاً رحمه الله. ابن القابلة صقلي، من فقهاء صقلية رحمه الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 من أهل الأندلس القاضي أبو الوليد الباجي واسمه: سليمان بن خلف بن سعدون بن أيوب بن وارث الباجي أصلهم من بطليوس. ثم انتقلوا الى باجه الأندلس، ثم سكنوا قرطبة واستقر أبو الوليد بشرق الأندلس، أخذ بالأندلس، عن ابن الرحوي وأبي الأصبغ ابن أبي درهم وأبي محمد مكي وأبي شاكر القبري خاله ومحمد بن اسماعيل بن فورتش وأبي سعيد الجعفري والقاضي يونس بن مغيث. ورحل سنة ست وعشرين أو نحوها - فيما قاله الجياني - فأقام بالحجاز مع أبي ذر ثلاثة أعوام حجّ فيها أربع حجج. كان يسكن معه بالسراة ويخدمه ويتصرف له في حوائجه، وسمع هناك أيضاً من أبي بكر المطوعي وأبي بكر ابن سحنون وابن صخر وابن أبي محمود الورّاق. ورحل الى بغداد فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويسمع الحديث عن أئمتها فلقي بها جلة من الفقهاء كأبي الفضل بن عمروس إمام المالكية وأبي الطيب الطبري وأبي إسحاق طاهر بن عبد الله الشيرازي الشافعي وأبي عبد الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 الدامغاني والصيمري رئيس الحنفية، وسمع بها من أبي إسحاق البرمكي وابن العشاري وابن قشيش النحوي وغلام الأبهري وأبي عبد الله الصوري، وأبي بكر الخطيب، وأبي النجيب الأرموي، وأبي الحسن العتيقي وأبي الفتح الطناجري وابن حمامة وأبي علي العطار وأبي القاسم التنوخي وأبي الحسن ابن زوج الحرة وأبي منصور السوّاق وأبي رومة وغيرهم. ودخل الشام فسمع بها من ابن السمسار وطبقته، وسمع بمصر من أبي محمد بن الوليد وغير واحد، ودخل الموصل فأقام بها عاماً يدرس على السمناني الأصول، وحاز علمً كثيراً، قال الجياني: وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً وجلّ قدره بالشرق والأندلس، وسمع منه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً وحاز الرئاسة بالأندلس، فأخذ عنه بها علم كثير وسمع منه جماعة. وتفقه عليه خلق. فممن تفقه عنده وسمع منه الإمام أبو بكر الطرطوشي وابنه أبو القاسم، وأبو محمد بن أبي قحافة، وأبو الحسن بن مفوز وغيرهم، وشيخنا القاضي أبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 عبد الله بن شبرين، وسمع منه من شيوخنا سواه وأبو علي الحافظاني، والقاضي أبو القاسم المعافري من أهل بلدنا والفقيه أبو محمد ابن أبي جعفر، وأبو بحر سفيان بن العاصي وغير واحد. وكان أكثر تردد أبي الوليد بشرق الأندلس ما بين سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية ولم يكن بالأندلس قط أتقن منه للمذهب، وبلغني أن أبا محمد ابن أبي جعفر وأبا محمد بن حزم الظاهري على بعد ما بينهما كان يقول: لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد، رحمه الله. مكانته من العلم وثناء الجلة عليه كان أبو الوليد رحمه الله، فقيهاً نظّاراً محققاً راوية محدثاً، يفهم صيغة الحديث ورجاله، متكلماً أصولياً فصيحاً شاعراً مطبوعاً، حسن التأليف، متقن المعارف. له في هذه الأنواع تصانيف مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه، على طريق النظّار من البغداديين وحذّاق القرويين والقيام بالمعنى والتأويل، وكان وقوراً بهياً مهيباً جيد القريحة حسن الشارة والذي ذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 إكماله فقال: هو من باجة الأندلس، متكلم فقيه أديب شاعر. رحل الى المشرق فسمع بمكة من أبي ذر، وبالراق من البرمكي وطبقته، ودرس الفقه على الشيرازي والكلام على السمناني، ورجع الى الأندلس يروي، ودرس وألّف، وكان جليلاً رفيع القدر والخطر، وقد روى عنه الخطيب أبو بكر، وسألت عنه شيخنا قاضي قضاة الشرق أبا علي الصدفي الحافظ صاحبه فقال لي: هو أحد أئمة المسلمين لا يسأل عن مثله ما رأيت مثله، وكان القاضي أبو عبد الله بن شبرين يثني عليه كثيراً، وكذلك كان شيخنا أبو إسحاق ابن جعفر الفقيه وقاضي القضاة أبو محمد بن منصور يربون به جداً، ويفضلونه ويفضلون كتبه وذكره الإمام أبو بكر الطرطوشي فقال: ذكر أستاذنا أبو الوليد الباجي قال لي القاضي: لما ورد علينا بغداد أبو القاسم ابن القاضي أبي الوليد سرت معه الى شيخنا قاضي القضاة أبي بكر الشاشي وكان ممن صحبه أبو الوليد قديماً ببغداد وعلّق عنه فلما دخلنا عليه قلت له: أعزك الله هذا ابن شيخ الأندلس فقال: لعله ابن الباجي. فقلت نعم، فأقبل عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 ذكر جمل من أخباره رحمه الله وكان في رحلته وأول وروده الأندلس مقلاً من دنياه حتى احتاج في سفره الى القصد بشعره، واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضاً لحراسة درب، فكان يستعين بإجارته على نفقته، وبضوئه على مطالعته. ثم ورد الأندلس، وحاله ضيّقة فكان يتولى ضرب ورق الذهب للغزل والأنزال ويعقد الوثائق، فلقد حدثني ثقة من أصحابه - والخبر في ذلك مشهور - أنه كان حينئذ يخرج إلينا إذا جئنا للقراءة عليه وفي يديه أثر المطرقة وصدأ العمل، الى أن فشا علمه وعرف وشهرت تواليفه، فعرف حقه وجاءته الدنيا وعظم جاهه وقرّبه الرؤساء وقدّروه قدره، واستعملوه في الأمانات والقضاء وأجزلوا صلاته. فاتسعت حاله وتوفر كسبه حتى مات عن مال وافر خطير وكان يصحب الرؤساء ويرسل بينهم ويقبل جوائزهم، وهم على غاية ابرّ، فكثر القائل فيه من أجل هذا، وليَ قضاء مواضع من الأندلس تصغر عن قدره، كأريولة وشبهها، وكان يبعث إليها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 خلفاءه وربما قصدها المرة بنفسه ووجد عند وروده بالأندلس لابن حزم الداودي، صيتاً عالياً وظاهريات منكرة، وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له، على اعترافهم بتخليطه، فحادوا عن مكالمته. فلما ورد ابن الوليد الأندلس وعنده م الإتقان والتحقيق والعرفة بطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته، أمله الناس لذلك، فجرت له معه مجالس كانت سبب فضيحة ابن حزم وخروجه من ميورقة، وقد كان رأس أهلها، ثم لم يزل أمره في سفال، فيما بعد. وقد ذكر أبو الوليد في كتاب الفرق من تأليفه من مجالسته تلك ما يكتفي به من وقف عليه، ولما ألّف أبو الوليد رسالته المسماة بتحقيق المذهب من أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب وكان أصل ذلك أنه قرئ عليه بدانية في كتاب البخاري، حديث المقاضاة فمرّ في حديث إسرائيل فتكلم أبو الوليد على الحديث وذكر قول من قال بظاهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 هذا اللفظ فأنكره عليه ابن الصائغ وكفّره بإجازته الكتابة على النبي الأمي، وأن هذا تكذيب للقرآن وأعلى ما حمل من أشياعه في الإنكار والشناعة، وقبّحوا عند العامة ما أتى به وأكثر القالة فيه من لم يفهم غرضه، حتى أطلق عليه اللعنة غلاتهم وضمنوا البراءة منها، أشعارهم، وحتى قام بذلك بعض خطبائهم في الجمع وفي ذلك يقول عبد الله بن هند الشاعر: برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا - في نظمه - أخبرني الثقة أنه سمع خطيب دانية ضمّنها خطبته يوم الجمعة فأنشدها على رؤوس الناس رحمه الله، فألف هذا الكتاب وبيّن فيه وجوه المسألة لمن لم يفهمها وأنها لا تقدح في المعجزة كما لم تقدح القراءة في ذلك بعد أن لم يكن قارئاً، بل في هذا معجزة أخرى. وأطال في ذلك الكلام وذكر من قال بهذا القول من العلماء، وكان المقرئ أبو محمد ابن سهل من أشدّ الناس عليه في ذلك. ولم ينكر عليه في ذلك، ولم ينكر عليه أولو التحقيق في العلم والمعرفة بأسراره وخفائه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 شيئاً من قوله، وكتب بالمسألة الى شيوخ صقلية وغيره فأنكروا إنكارهم عليه وأثنوا عليه وسوغوا تأويله، منهم: ابن الجزار ممن ذكرنا ثناءه عليه في الباب المقدم ذكره. ذكر تصانيفه من ذلك في الفقه والمعاني كتابه المنتقى في شرح الموطأ عشرين مجلداً لم يؤلف مثله، وكان ابتدأ كتاباً أكبر منه بلغ فيه الغاية سماه الاستيفاء في هذا المعنى، لم يصنع مثله، في مجلدات، ثم اختصر من المنتقى كتاباً آخر سماه الإيماء خمس مجلدات وكتاب السراج في عمل الحجّاج في مسائل الخلاف كبير لم يتمّ، والكتاب المقتبس في علم مالك بن أنس لم يتم أيضاً، وكتاب المهذّب في اختصار المدونة، وهو اختصار حسن، وشرح المدونة لم يتم ومختصر المختصر في مسائل المدونة ومسألة مسح الرأس، ومسألة غسل الرجلين ومسألة اختلاف الزوجين في الصداق وغير ذلك، ومن تواليفه في الحديث: كتاب اختلاف الموطآت، وكتاب التعديل والتريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح. ومن كتبه في الأصول والكلام، كتاب التسديد الى معرفة طريق التوحيد، وكتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 أحكام الفصول في أحكام الأصول، وكتاب الإشارة في الأصول، وكتاب الحدود، وكتاب تفسير المنهاج في ترتيب طرق الحجاج وتواليفه كثيرة مفيدة، ككتاب سنن الصالحين وسنن العائدين، وكتاب سبيل المهتدين، وكتاب تهذيب الزاهر لابن الأنباري، وتفسير القرآن لم يتم، والناسخ والمنسوخ لم يتم، وكتاب الأنصار لأعراض الأئمة الأخيار، وغير ذلك. بقية أخباره ووفاته وكان مطبوع القول، شغفاً بالشعر، وقد ألّف أبو القاسم ابنه شعره. ومن شعره المشهور، ما أنشده أبو بكر الخطيب البغدادي. قال أنشدني أبو الوليد سليمان بن خلف لنفسه رحمه الله: إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 ومما أنشدناه له ثقة من أصحابه يرثي ابنه وأخاه: رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب يقر لعيني أن أزور رباهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب وأبكي وأُبكي ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحب وأمطر من سحب فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روحت ريح الصبا عن أخي كرب ولا استعذبت عيناي بعدهما كرىً ... ولا ظمئت نفسي الى البارد العذب أحن ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمود الى المركب الصعب وكان له ابنان أحدهما أبو القاسم خلف مجلسه، وسيأتي ذكره والأخر أبو الحسن محمد، توفي في حياة أبيه بسرقسطة، وكان نبيلاً ذكياً مرجواً، فرثاه أبوه بمراثي شجية، وكان له إخوة جلّة نبلاء، وبيته بيت علم ونباهة قال أبو علي الجياني: مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعماية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 وتوفي بالمرية سنة أربع وسبعين لسبع عشرة خلت من رجب، وكان جاء الى المرية سفيراً بين رؤساء الأندلس يؤلفهم على نصرة الإسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود ملوك المغرب المرابطين على ذلك، فتوفي قبل تمام غرضه رحمه الله. أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله اسمه: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ شيخ علماء الأندلس وكبير محدّثيها في وقته، وأحفظ من كان بها لسنة مأثورة، قد تقدم ذكر أبيه، رحل عن وطنه قرطبة في الفتنة فكان بغرب الأندلس، ثم تحول منها الى شرق الأندلس فتردد فيه ما بين دانية وبلنسية وشاطبة، قال شيخنا أبو علي الغساني، رحمه الله: أبو عمر رحمه الله من النمر بن قاسط في ربيعة. من أهل قرطبة طلب بها وتفقه عند أبي عمر بن المكوى وكتب بين يديه ولزم أبا الوليد ابن الفرضي الحافظ وعنه أخذ كثيراً من علم الرجال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 والحديث وهذا الفن كان الغالب عليه، وكان قائماً بعلم القرآن، وسمع من سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم البزاز، وأبي محمد بن أسد وخلف بن سهل، وابن عبد المؤمن، وأبي زيد عبد الرحمن بن يحيى وسعيد بن القزاز، وأبي زكريا الأشعري، وأبي عمر الباجي، وأبي القاسم ابن أبي جعفر، وابن الجسور. وأجازه أبو الفتح بن سَيبُخت، وعبد الحميد بن سعيد الحافظ، ولم تكن له رحلة. سمع منه عالم عظيم فيهم من جلة أهل العلم المشاهير أبو العباس الدلائي، وأبو محمد بن أبي قحافة وسمع منه أبو محمد ابن حزم، وأبو عبد الله الحميدي، وطاهر ابن مفوز. ومن شيوخنا أبو علي الغساني، وأبو بحر سفيان ابن العاصي، وهو آخر من حدث عنه من الجلة، وكان سنده مما يتنافس فيه. ذكر الثناء عليه رحمه الله قال أبو علي الجياني: وصبر أبو عمر على الطلب ودأب فيه ودرس وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وعظم شأن أبي عمر بالأندلس وعلا ذكره في الأقطار، ورحل إليه الناس وسمعوا منه، وألف تواليف مفيدة طارت في الآفاق. قال أبو علي: سمعت أبا عمر يقول: لم يكن ببلدنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 أفقه من قاسم بن محمد بن قاسم، وأحمد بن خالد. قال أبو علي وأنا أقول إن أبا عمر لم يكن دونهما ولا متخلفاً عنهما. وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة كثيرة من علم النسب والخبر. وذكره القاضي أبو الوليد الباجي في كتاب الفرق ولم يكن الذي بينهما بالحسن لتجاذبهما سؤدد العلم في وقتهما. ذكر تصانيفه رضي الله عنه ألّف أبو عمر رضي الله عنه على الموطأ، كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وهو عشرون مجلداً، وهو كتاب لم يضع أحد مثله في طريقه، وكتاب الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وكتاب التقصي لحديث الموطأ، وكتاب الاستيعاب لأسماء الصحابة، وكتاب جامع بيان العلم، وكتاب الإنباه على قبائل الرواه، وكتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء مالك والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم، وكتاب البيان عن تلاوة القرآن، وكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس، وكتاب أسماء المعروفين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 بالكنى سبعة أجزاء، والكتاب الكافي في الفقه في الاختلاف وأقوال مالك وأصاحبه رحمهم الله عشرون كتاباً والدرر في اختصار المغازي والسير، وكتاب القصد والأمم في التعريف بأنساب العرب والعجم وأول من تكلم بالعربية من الأمم. والشواهد في إثبات خبر الواحد. والبستان في الإخوان. والأجوبة الموعبة في الأسئلة المستغربة، وكتاب الاكتفاء في القراءة، وكتاب التجويد واختصار التمييز لمسلم، وكتاب الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، واختصار تاريخ أحمد بن سعيد. والإشراف في الفرائض، وغير هذا من كتبه الصغار ولأبي عمر في وصف كتاب التمهيد: سهير فؤادي من ثلاثين حجة ... وصاقل ذهني والمفرج عن همي بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لما في معانيه من الفقه والعلم وفيه من الآداب ما يهتدى به ... الى البرّ والتقوى وينهى عن الظلم مات بشاطبة ليلة الجمعة، سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعماية عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 أبو عبد الله محمد بن عتاب بن محسن قرطبي. شيخ المفتين بها في هذه الطبقة، تفقه بأبي عمر ابن الفخار، وأبي الأصبغ القرشي، وبالقاضي ابن بشير، صحبه أزيد من اثني عشر عاماً. وكتب له في مدة قضائه، وروى عن القنازعي، وابن وافد، وابن حوبيل، وأبي علي الحداد، وأبي محمد بن بنوش، وأبي عبد الله بن نبات، وأبي أيوب بن عمران، وسعيد بن رشيق، وسعيد بن سلمة، والشنتجالي والطلمنكي، وأبي محمد مكي، والقاضي يونس، وخلف الله، وخلف بن يحيى، والطليطلي، وعبد الرحمن بن الأشج، وأبي الطيب بن الحديدي، والباغاني المقرئ، وأحمد بن ثابت الواسطي، ومحمد بن عمر بن عبد الوارث. وأجازه أبو ذر ولم تكن له رحلة، تفقه به الأندلس. وسمعوا مه كثيراً. فمن تفقه به، وسمع منه ابناه والقاضي بن سهل، وأبو لحسن بن حمدين وأبن جعفر بن رزق الله رحمهم الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 ذكر مكانه من العلم والثناء عليه وفضله قال القاضي أبو الأصبغ عيسى بن سهل، وذكره: كان إماماً جليلاً، متصرفاً في كل باب من أبواب العلم. أحد الفقهاء بالأندلس، حافظاً نظّاراً مستنبطاً بصيراً بالأحكام والعقود، معه كان أكثر تفقهي. وصحبته طويلاً ورويت عنه كثيراً. وأجاز لي جميع ما رواه. وذكره أبو علي الغساني الحافظ شيخنا رحمه الله. فقال: كان من جلة الفقهاء وأحد العلماء الأثبات، وممن عني بسماع الحديث دهره وقيده فأتقنه. وتقدم في المعرفة بالأحكام، وعقد الشروط وعللها فاق في ذلك أقرانه. وكان على سنن أهل الفضل، جزل الرأي، حصيف العقل، على منهاج السلف المتقدم. وقال الفقيه أبو مروان بن مالك، وقد رأى له كلاماً استحسنه: لو كان هذا الكلام لأحد من المتقدمين، لعدّ في فضائله. وذكر غيره: أنه كان متواضعاً يتصرف راجلاً ويحمل خبزه الى الفرن بنفسه، ويتولى شراء حوائجه ويحملها الى داره بنفسه، فإذا لقيه من يكبره من طلبته وغيرهم، وسأله أن يكفيه مؤنتها وحملها قال له: لا أفعل، الذي يأكلها يحملها. وهو مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 ذلك في عيون الناس وقلوبهم النجم رفعة وجلالة، حتى رئيس البلد ابن جهور ينزل الى مسجده في الأحيان، لمهم الأمور، ويأخذ فيها رأيه هناك، وربما جمع له بقية فقهاء الشورى، فيقضي قضاءه، وينفذ أحكامه هناك. سمعت شيخنا أبا محمد عبد الرحمن ابن أبي عبد الله بن عتاب يقول: كان أبي يقول لا غنى للطالب عن الإجازة، وإن سمع الديوان أو الحديث قراءة على المحدث أو منه لجواز السهو والغفلة والسنة على أحدهما، قال: وعلى هذا اعتمدت في روايتي. وروى لنا عنه أنه كان لا يزيد في الرد إذا شمت عند العطاس يرحمك الله على قوله: وإياكم. وأريد أبو عبد الله بن عتاب على القضاء غير مرة، فامتنع ولم يقدر عليه بشيء. طلبه أهل طليطلة، وأهل المرية لقضاء بلدهم على عادتهم معاً في كون القضاء عندهم في غير بلدهم للتنافس الذي كان بين أهل هذين البلدين في القضاء، فكانوا يطلبونه من غيرهم، فطلب أهل هذين البلدين ابن عتاب لذلك، وبذلوا له ليقبل ذلك الرزق الواسع فامتنع، ولما مات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 القاضي بقرطبة سراج بن عبد الله، رغبه ابن جهور بنفسه ولاطفه جهده، فلم يقدر عليه، وحلف بحضرته ألا يلي وقال: ما إبايتي إلا إباية ضعف وقوة، لا من وهن وطاعة. وحكى أنه كان خلّف صندوقاً مقفلاً قد أوصى ألا يفتح إلا بعد موته، فلما مات، فتح فإذا فيه أربعة كتب من أربعة رؤساء: ابن عباد وابن الأفطس وبن صمادح وابن هود، كل منهم يدعوه الى نفسه وتقلّد القضاء ببلده، وقد كتب على كل كتاب منها: تركت هذا لله. وسأله رجل عن مسائل انتخبها وأعدها فأجابه أحسن جواب. فأثنى عليه الرجل فقال له: يا ابن أخي لا تتخذ هذا عادة، فلولا أني طالعتها البارحة ما أجبتك بمثل هذا أو كما قال. توفي ليلة الثلاثاء لعشر بقين من صفر سنة اثنتين وستين وأربعماية. وقد نيف على الثمانين سنة. ولد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين - ذكر ذلك الجياني - رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 أبو عمر ابن القطان رحمه الله اسمه: أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال. قرطبي. بعيد الصيت في فقهائها، وعليه وعلى أبي عبد الله بن عتاب دارت الفتيا بها، الى أن فرّق الموت بينهما. وكان لا يزال الذي بينهما متباعداً ولا يزال يخالف ابن عتاب إذ كان متقدماً عليه لسنة. وكان ابن عتاب مع سنه يفوقه بتفننه، وثبوت معرفته، وهذا ببيانه وقوة حفظه، وجودة استنباطه. وكان قائماً بالشروط بصيراً بعقدها، تفقه بأبي محمد بن دحون وابن الشقاق وابن حوبيل. وسمع القاضي يونس، وشور في أيام ابن بشر القاضي. قال ابن حيان: وكان أحفظ الناس للمدونة والمستخرجة، وأبصر الناس بالتهدي الى مكنونهما وأبعد أصحابه عن مكروه، وبأبي عمر تفقه القرطبيون، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 وابن مالك وابن الطلاع، وأحمد وابن دحون وابن رزق ونمطهم. وروى عنه مولد أبي عمر فيما ذكره ابن حيان بقرطبة، سنة تسعين وثلاثماية. وتوفي ببجاه، وقد خرج عن قرطبة يروم مدينة المرية للاستحمام بحماماتها لفالج أصابه يوم الاثنين منتصف ذي القعدة سنة ستين وأربماية. أبو مروان بن مالك رحمه الله واسمه: عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن مالك. قرطبي. كان أبوه محمد يتفقه على ضعف معرفته وكتب لأبي الحسن ابن بقي في قضائه بطليطلة. ثم توفي وابنه هذا قد علق بصناعة قبى الحرير، فتعلق إذ ذاك بالطب فانقطع إليه، فجلس الى فقهاء طليطلة. ثم عاد الى وطنه فجد في طلبه، وأخذ عن القرشي وابن الأصبغ، وأبي عمر ابن القطان، ومن أدركه. فأعمل لحينه، ورسخ في مذهب مالك، واستظهر أم كتبهم المدونة، قبل في تصريفها، وله فيها مختصر حسن، فعضل، واحتيج إليه فشور مع شيوخه ودارت عليه معهم الفتوى حياته، وكتب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 لولد ابن زرب عند ولايته قضاء قرطبة، وكان له بالحساب والفرض واللسان والكلام والجدل والتفسير، وله في عقود أهل السنة والكلام عليها كتاب حسن. وبه وبابن عتاب، تفقه ابن سهل وغيره من القرطبيين. وكان كثير الجهاد والرباط مذكراً للعامة يقرأ عليها كتب التفسير والرقائق، ولم تكن له كتب. سمعت شيخنا أبا إسحاق ابن جعفر الفقيه يحكي عن شيخه القاضي ابن سهل، قال: لم يكن عند ابن مالك من الكتب إلا فقه فيها معاني النحاس ومختصره في المدونة وأراه ذكر المستخرجة وأشياء من الكتب قليلة فكان إذا ذكر عنده المكثرون في الكتب وجمع الدواوين يقول: لا أدري هذه كتبي والله لأموتنّ وأنا أجهل الكثير مما فيها فماذا يصنع بالإكثار منها؟ أو نحو هذا من الكلام. وكان ابن سهل يعظمه ويستنبله كثيراً ويفضله على غيره. قال بعض القرطبيين دخلت مع أبي مروان الزهراء مدينة الخلفاء بقرطبة الخراب فوقف متعجباً ثم تناول فحمة فكتب بها على جدار: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 بلدٌ ألمّ بها الخراب وزارها ... فغدوت أنظر شاخصاً آثارها فالدهر أفناها وغير حالها ... وأباد منها صرفه عمارها وإلهنا ذو العرش يحيي أهلها ... يوم تحدّث الأرض أخبارها وتوفي بقرطبة ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من جمادى الأولى سنة ستين وأربعماية عام وفاة ابن القطان بشبه الفجأة. ذكر أهله أنه انصرف من صلاة العشاء بمسجده وآوى بعد حين الى فراشه فقبض أسهل قبض لم يعلم به ضجيعه حتى جفّ. وسنه إذ ذاك ستون سنة، مولده سنة أربعماية رحمه الله. ابن أبي عبد الصمد رحمه الله واسمه: موسى بن هذيل ابن أبي عبد الصمد وكنيته أبو محمد. قرطبي. جليل مفتٍ مع أصحابه، فقيه البيت في العلم. قال ابن حيان: كان من فضلاء قرطبة وكفّ بصره قبل موته بمدة فكان ابنه يكتب عنه وكان له ابنان، عبد المولى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 توفي شاباً في حياة أبيه، سنة ثمان وخمسين وأربعماية وسنّه ثلاثون سنة، وكان ذا حظ من الفقه والمعرفة، ذا هدى وفضل. وأبو الحسن حاز خطة أبيه من الفتيا والرئاسة بعد موته ووليَ بعده قضاء قرطبة، وسيأتي ذكره بعد هذا وكانا جميعاً - فيما ذكره ابن حيان - يشاركان أباهما فيما يتقلده من الفتوى. سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج الأموي أبو القاسم. قرطبي. من بيت شهير، في موالي بني أمية. قال أبو علي الغساني الحافظ: كان من موالي بني أمية وخاصتهم، وأهل الجاه والحظوة منهم. وكان شيخاً صالحاً عفيفاً على منهاج السلف الأول، قال ابن حيان: وكان يصرح بولائهم ويفخر بكتاب عتق جده الأكبر سراج من مولاهم المنعم عليه عبد الرحمن بن معاوية، رحمه الله. قال القاضي: وكان ابنه شيخنا الوزير أبي الحسن سراج بن عبد الملك بن سراج الحافظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 اللغوي الأديب ينتفي من مواليه بني أمية رقاً وأقساماً، ويدعي أن ذلك إغراق وولاء وأن جدهم سراج بن قرة الكلابي الوافد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الوليد ابن طريف: إن أولهم أصابه سبى قديم صيرهم أولاً في ولاء بني أمية بالمشرق فكانوا في عداد مقدمة مواليهم وينكر أن جدهم سراج بن قرة الكلابي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا سمعت شيخنا أبا الحسين يقول: إن قرة بالراء وصوابه قوة بالواو وكذا قيده أصحاب الصنعة، وهو سراج بن قوة بن رفعي بن زرعة بن الكاهن بن عمر بن عوف بن أبي ربيعة بن الصوت بن عبد الله بن كلاب وهو شاعر مشهور. وما ذكره من أن له وفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أعلم أحداً ذكر ذلك. سمع القاضي أبا القاسم الأصيلي، والقاضي ابن برطال، ومسلمة بن بتري ونمطهم. حدث عنه أبو علي الجياني وابنه أبو مروان عبد الملك بن سراج الحافظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 وابن طريف الكاتب وغير واحد، وولي الشورى بقرطبة مع هذه الطبقة وخطط بالوزارة، ثم وليَ قضاءَها. قال ابن حيان: وكان من أفضل أهل زمانه وأعفهم وساذج الفقه، قليل المعرفة. وتوفي في شوال سنة ست وخمسين، ولم يختلف الناس في إجمال ذكره والثناء عليه لعفته وطيب طعمته وانقباضه واقتفائه آثار من سلف ولين جانبه، وبه اختتم وجوه موالي بني مروان بقرطبة، وكانت مدته في القضاء ثمانية أعوام. وخلف سؤدده وسد مكانه ابنه أبو مروان عبد الملك الحافظ إمام الأندلس في وقته في علم لسان العرب وضبط لغاتها وأذكرهم لشوارد أشعارها وأوثقهم في ذلك، وإليه كانت الرحلة من جميع جهات الأندلس. سمع من أبيه والإقليلي والصفاقسي والحراني والقاضي يونس، ومكي المقرئ وطبقتهم واحتاج الكثير بعد من شيوخه الى الأخذ عنه والاستفادة منه. حدثنا عنه ابنه أبو الحسين الحافظ، وأبو علي الجياني والصدفي الحافظان، والقاضي أبو عبد الله بن عيسى الفقيه وأبو عبد الله ابن الحاج وغير واحد من شيوخنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 وتوفي رحمه الله في ذي الحجة سنة تسع وثمانين، فصير مكانه وناب منابه شيخنا أبو الحسين سراج. ووصل الرحلة الى داره وأخذ عنه الناس وأخذ عنه في حياته ابنه أبو الحسين المذكور وحاز الإمامة في هذا الباب بعده وكان رجل وقته فهماً وعلماً وحفظاً وإتقاناً مع التقدم في ثمرة الأدب النثر والنظم وهو القائل: بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... في آمل شكر المعروف أو كفرا كالغيث ليس يبالي حيث ما انسكبت ... منه الغمائم ترباً كان أو حجرا لقيته رحمه الله بقرطبة وقرأت عليه من كتب الشروح وغيرها كثيراً. وتوفي رحمه الله في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسماية، وقد أجريت من ذكرهم في كتاب المعجم في الشيوخ أشبع من هذا، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 أبو زيد عبد الرحمن بن عيسى بن محمد المعروف بابن الحشاء القاضي. قرطبي. قال ابن حيان: كان بارع العلم راجحاً، عفيفاً، حاضر الشاهد والخاطر، حلو الشمائل. حجّ ولقي الناس بالمشرق وتخلق بأخلاقهم، وكان أحد نبلاء قضاة وقته، وليَ قضاء طرطوشة أيام مقاتل، ثم استعفاه لوحشة تخيلها منه، لحكم حكمه على بعض أصحابه، كره ذلك مقاتل. ثم ولي قضاء طليطلة فحمدت فيها سيرته الى أن نكبه صاحبها المأمون يحيى بن ذي النون عند قبضه على مشيختها فعزله وأخرجه منها. وكتب له في قضائه بطليطلة أبو الأصبغ بن سهل وأبو محمد ابن أبي قحافة. وعلى يده جرت قصة ابن الشرهو في ذنبه. وكانت وفاته في نحو السبعين وثلاثماية. أبو محمد عبد الرزاق ابن عبد الرحمن بن خلف الصفار القرطبي كان حافظاً للمسائل حاذقاً بالوثائق متقناً لمعانيها مطبوعاً فيها وكتب للقاضي سراج بن سراج أيام قضائه بقرطبة، وتوفي سنة خمس وخمسين وأربعماية بقرطبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 عبد الرحمن بن سعيد المرواني الملقب بالمدوري، ويعرف بالطالوتي لمذهب مالك مفقه للعامة يجتمع إليه في مسجده للمناظرة ويعقد للشروط مع فضل وعفة وصبر على القلة وانقباض، الى أن مضى لسبيله رحمه الله. وكانت فيه غفلة تغلب عليه. وتوفي سنة خمس وخمسين، وقد نيف على السبعين رحمه الله. أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب التجيبي. المعروف بابن القبري، خرج عن قرطبة في الفتنة، وكان من أهل العلم بالحديث والفقه والعربية والكلام والنظر والجدل على مذهب أهل السنة والحذق، يصوغ القريض والخطابة، تولى المظالم بشاطبة، والصلاة والحكم ببلنسية. سمع من أبيه وأبي محمد الأصيلي، وأبي حفص بن نابل وغيرهما، وأجازه أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي. سمع منه ابن أخته القاضي أبو الوليد الباجي، وشيخنا أبو علي الباجي الجياني الحافظ وأبو الأصبغ بن سهل وغيرهم. وله خطب مؤلفة حسان، وهو القائل في رثاء قرطبة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 يا ليت شعري والأيام تجمعنا ... ونأخذ البين مغلوباً فنصفعه في جنة الأرض أعني أرض قرطبة ... فكل شيء بديع فهي تجمعه استودع الله أهليها فإنهم ... كالمسك قد ملأ الدنيا تضوّعه قال أبو علي الغساني الحافظ: كان من أهل النبل والذكاء سرياً متواضعاً وتوفي في رجل سنة ست وخمسين وسنّه نحو الثمانين سنة بشاطبة وحمل الى بلنسية فدفن بها. مولده في ذي القعدة سنة سبع وسبعين وثلاثماية رحمه الله. أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الصدفي كبير طليطلة وفقيهها. كان حافظاً بصيراً بالفتيا والأحكام. فهماً نظاراً فصيحاً أديباً. تفقه بابن زهير وابن أرفع رأسه وابن بدر وابن الفخار. ورحل فحجّ وسمع منه. حدث عن صاعد بن محمد وأحمد بن صاعد، وأبي محمد الشارفي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 وأبي محمد العقيبي وأبي الطيب بن الحديدي وغيرهم. وحدث عنه بالإجازة شيخنا أبو عبد الرحمن بن عتاب وأراه لقي بالقيروان أبا بكر بن عبد الرحمن وألف المقنع في الوثائق. أبو جعفر أحمد بن قاسم القروي المعروف بابن أرفع رأسه. طليطلي. شهير البيت بها في العلم والجلالة كان رأساً في فقهاء بلده، مقدماً فيهم، مفتياً. حدث عنه القاضي ابن سهل وكان حافظاً تفقه بابن الفخار وطبقته. أبو جعفر أحمد بن سعيد المعروف بابن اللورانكي من كبار فقهاء طليطلة ومفتيها وأجدر علمائها، امتحن بابن ذي النون يحيى المأمون محنته المشهورة في ستة من أكابر البلد فيهم ولد ابن مغيث وأبو جعفر هذا وولد ابن أرفع رأسه. وكان قد وشي بهم إليه بالتهمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 على سلطانه فاستدعاهم مع قاضيهم أبي زيد ابن الحشاء القرطبي يريهم أنه يأخذ معهم في أمر من أمر النصارى غدوة، فحضروا، وربما اجتنبوا حضور قصره، إذ كانوا في ظهيرة من عامة بلدهم، فلما نزلوا بموضع، ترك لهم استدعاءهم واحداً واحداً، فيعدل بالداخل الى موضع قد أعد له فيه قيود وحداد، ففرق بينهم ستتهم، وسخط على قاضيهم فعزل وحوسب على ما جرى على يده، وبلغت العامة القصة فهموا بالنفور الى السلاح، على عادتهم لقصرهم، فإذا بمنادي السلطان في الجند بالسيف على من أعلن أو نطق. فسكن الناس واستبيحت دور الممتحنين. وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة ستين وأخرج القوم يومهم الى قلعة كونكة، واسكنوا المطبق وأزعج قاضيهم الى وتده. واتهم بالسعي عليهم ضدهم كبير البلد أبو الطيب ابن أبي بكر يحيى بن سعيد بن أحمد الحديدي وبيته في العلم والرئاسة بطليطلة كما قدمنا شهرة وجلالة، فلم يزل القوم بهذا السبيل وقد خلت وجوههم لابن الحديدي وحاز رئاسة البلد وحده، الى أن مات المأمون وولي ولده الملقب بالقادر والحال لابن الحديدي حتى كأنه في حجره. فخاب حاله وقيل له لن تقدر عليه إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 بإخراج أضداده، فتستميل بهم الى العامة وتفترق العامة عنه. فأخرجوا ليلاً الى طليطلة، ودخلوا القصر سراً، واستدعاه الى القصر فجاء على عادته، فلما رآهم سقط ما بيده. فتناولوه بالسبّ وقام بعض من كان في المحنة معهم بقتله مع اثنين من أصحابه الفقهاء، كانا قد تبعاه مستحسنين خبره فيمن تبعه من أشياخه، فجلسا بخارج القصر، الى أن حدثت الحادثة، فسعوا بهما ووقع الى العامة دسّ من الخبر، فهاجت فلم يرعها إلا الرؤوس مائلة والمنادي بين أيديهم والمشيخة الممتحنون خلفها يتقدمهم شيخاهم الفقيهان أبو جعفر بن مغيث وابن اللورانكي، وقد أصاب شيخهم ابن اللورانكي من العمى ببصره في المطبق ما زاد في الزكانة له والحنق على عدوه، فنسيت العامة ابن الحديدي برؤيتهم، وأقبلوا مبتهلين بالدعاء لهم والتهنئة بخلاصهم فطاح بهذا السبيل، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 أبو جعفر بكر بن عيسى بن أحمد المعروف بالكندي، الفقيه الناسك. جياني. وسكن في الفتنة الأخيرة قرطبة، أخرجته عن بلده المخافة، فلزمها ملتزماً مسجدها بالنهار للإقراء ومنزله بالليل للعمل الصالح، لا يخوض في شيء من أمر الفتنة ولا يخالطه الناس جملة. قال ابن حيان: كان على تحققه بعلم القرآن والسنة، عالماً بالعربية بصيراً بالنحو مشاركاً في الأدب، له حظ من الطب في الناس دون ثواب، وتظهر المنفعة به، أجمع الناس على عدم نظيره في وقته، وانتفع به أصحابه، تفقه عنده جماعة، منهم: ابن بنته أبو الحسن ابن حمدين وأبو جعفر ابن رزق، وأبو الأصبغ بن سهل وغيرهم من شيوخ شيوخنا، وكان شديداً عليهم يأخذهم بالأدب والزجر، وربما أمر من يمسك له من يتهمه من طلابه بأمر لو يتخيل فيه تعطيل قراءة واشتغالاً بفضول، فيوجعه أدباً، ويحتمل له ذلك، فانتهوا به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 توفي رحمه الله بقرطبة صدر رجب سنة أربع وخمسين، وجعل الناس لمشاهدته. وحدث بعض من كان في الصحراء من مشاهير الناس أنهم رأوا يوم موته عمود نور قد تخلل ما بين قرطبة والسماء، فلما وردوا الحضرة سألوا: هل من حادثة؟ فأخبروا بموت هذا العالم العامل رضي الله عنه. أبو المطرف عبد الرحمن بن سلمة فقيه طليطلة وحافظها ومفتيها، كان من أحفظ القوم وأعرفهم بطريق الفتيا، ذا فضل وصلاح وانقباض عن السلطان وأشياعه، لم يدخل في شيء مما دخل فيه فقهاء بلده، رزق السلامة. أخذ عن أبي بكر ابن زهر وطبقته حدث عنه شيخنا أبو محمد ابن أبي جعفر. وكان رحل إليه وتفقه عنده، وروى عنه أيضاً القاضي أبو الأصبغ ابن سهل غير شيء من فتاويه. وسع منه الناس، ولما دارت المحنة من النصارى على طليطلة وافتتحوها، خرج أبو المطرف فيمن خرج. فتوفي رحمه الله ببطليوس رضي الله عن جميعهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 أبو علي حسين بن عيسى المالقي المعروف بحسون. فقيه بلده ومفتيه وكبيره، وذو بيت مشهور فيه وأبو علي حسون من كبرائه وقضاته. تفقه ببلده وبفقهاء سبتة عبد الرحمن بن العجوز وابن غالب. وولي قضاء بلده وكان مشاوراً فيه وكان من أهل الفقه الجيد والحفظ والذكاء والمعرفة. وحجّ، وله سماع من أبي ذر الهروي، وأبي الحسن الحوفي. ولقي أبا عمران القابسي وساءله، وذكر أن أبا ذر كان إذا سأله سائل عن مسألة بحضرته بمكة، أحال عليه في الفتيا. أخذ عنه أبو المطرف الشعبي وبه تفقه. وذكره ابن سهل القاضي فقال: فقيه مالقة، ورثاه الأديب أبو محمد بقصيدة أولها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 لو كان يُبقي الموت حبراً عالماً ... لوقى الحمام أبا علي واق وموقر لبس المشيب جلالة ... بحر لباغي العرف عذب مذاق أبقيت في الدنيا مآثر جمّة ... تتلى على الأيام وهي بواق وفيه أيضاً يقول ابن الخياط الضرير الشاعر لما وليَ القضاء في دولة العلويين: حسنت بحسونٍ خلافة هاشم ... قاض تخيره الخليفة فاتقى حسنت به الدنيا وأصبح عدله ... في المغرب الأقصى فأضحى مشرقا وفيه يقول أيضاً: يا هادي الضلال نهج طريقه ... وموفّي الإسلام كنه حقوقه وإمام علم الدين والعدل الذي ... سواه بين عدوه وصديقه وُفّقت فاستقضيت أنك واحد ... وجدوا صلاح الكل في توفيقه أبو محمد عبد الله بن موسى المعروف بالمشارقي من أهل طليطلة وذوي العلم والفهم موصوفاً بورع بها، لقي شيوخها وشيوخ قرطبة وسمع منهم. حدث عن القاضي يونس وابن عتاب وأبي لأصبغ القرشي وابن القطان، ومن أهل طليطلة: عن أبي بكر ابن الرحوي، وأبي محمد ابن ادريس وابن أرفع رأسه. حدث عنه القاضي ابن سهل، وأبو الحسن ابن المشاط حاكم الجزيرة الخضراء، وأبو القاسم بن عفيف. وكان يكتب لابن الحديدي، ذكر أنه جلس معه أخ له يوماً فرأى حال ابن الحديدي ورئاسته وسعة حاله. فقال له أخوه: أين كنا إذ فرقت هذه الأموال؟ فسكت عنه، فلما خرجا مر به على ربط الجذمى فلما أوقفه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 على اختلاف بلائهم، قال له أبو محمد: أين كنا يا أخي إذ فرق هذا البلاء. أبو بكر عيسى بن محمد بن عيسى المعروف بابن صاحب الأحباس، فقيه أهل المرية، ومقدمهم في العلم والرواية والفتيا والأدب. سمع المهلب ابن أبي صفرة، وأبا الوليد ابن ميقل وأباه أبا عبد الله، وأبا محمد قاسم بن المأموني. وأجازه أبو عبد الله بن عباس الخواص القروي. أخذ عنه جماعة من شيوخنا، وحدثنا عنه أبو عبد الله بن سليمان وغيره. وولي قضاء بلده وتفقه عنده في البخاري وغيره. وكان يتكلم عليه، رحمه الله. أبو إسحاق ابراهيم بن سعيد بن وردون فقيه المرية وكبير مفتيها. وليَ قضاءها. سمع من أهل بلده لأبي حفص بن مقيوس، وأبي القاسم الهمداني، وأبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 عبد الله بن محمود، وأبي محمد الرميني، وأبي حفص عمر بن يوسف، وأبي الوليد ابن الزبيدي. حدث عنه ابن أبي قحافة، وشيخنا أبو عبد الله بن سليمان، وأبو جعفر أحمد بن سعيد وغيرهم. وعنده تفقه أهل المرية. أبو عمر أحمد بن رشيق المري شيخ فقهاء المرية، وكبير مفتيها. وكان من أهل العلم والنظر، مقدماً في جودة الفتيا. أخذ عنه حجاج المأموني وغيره، من فقهاء المرية. حدثنا بعض المشيخة أن حجاجاً المأموني كان يناظر عند ابن رشيق بالمرية، فجرت مسألة تكلم فيها حجاج مع الشيخ، واستقصر حجاج كلام الشيخ أبي عمر واعتراه وهم، فساء حجاج معه الأدب، وقال له: هنا أنت بعد، وبلغت القصة قاسماً، والد حجاج، فبلغ منه ووبخ ابنه على سوء أدبه مع الشيخ وقال له: الى هنا بلغت معه والله ما يحسن بك أن تتكلم بين يديه فكيف تخطئه أنت اليوم؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 ومما عرف به أبو عمر في فتاويه أنه زاد في يمين القائمة بعدم النفقة على زوجها الغائب: أن تحلف - بعد ضرب الأجل - أنه ما ترك لها نفقة ولا كسوة، ولا شيئاً تمون به نفسها، ولا تعلم له مالاً ترجع فيه ولا تعلم أن الزوجية انقطعت بينهما. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل قوله: ولا أن الزوجية انقطعت بينهما. لا أعلمه لغيره. أبو عبد الله محمد بن منظور القيسي إشبيلي. طلب الفقه والحديث ببلده، ورحل فسمع من أبي ذر الهروي، وأبي القاسم بن بقي، وأبي النجيب الأرموني وغيرهم. فانصرف الى الأندلس واحتيج إليه وسمع منه. ووليَ القضاء، حدث عنه أبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 علي الجياني. قال أبو علي: وكان حسن الضبط، جيد التقييد للحديث، كريم النفس خيراً. توفي في شوال سنة تسع وستين، وهو ابن سبعين عاماً، وأربعة أشهر، رحمه الله تعالى. أبو حفص عمر بن حسين الهوزني من أهل إشبيلية. وهوزن بطن من ذي الكلاع. كبير فقهائها، كان متفنناً في علوم كثيرة. وله مع فقهه وروايته الحديث، نظر في علوم قديمة مع أدب صالح، وشعر حسن، ونثر بارع، وحكم مأثورة. أخذ بالأندلس عن مشيخة بلده القاضي أبي عبد الله الباجي، وحجّ فلقي شيوخ صقلية ومصر وسمع بمكة وغيرها من أبي محمد بن الوليد، وكتب عن ابن منصور الشهرزوري، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 وسكن شرق الأندلس. نزل في كنف بني طاهر رؤسائها، وله بها مع القاضي أبي الوليد الباجي أيام سكناها منازعات. ثم رجع الى إشبيلية بلده، وأفتى وسمع منه الناس. سمع منه ابنه أبو القاسم. وحدثنا عنه أبو محمد ابن أبي جعفر الفقيه. ومن شعره يحض المعتضد عباد بن عباد على الجهاد، عند ظهور الروم شرق الأندلس بالثغر: أعباد حل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يتقنع تلق كتابي من فراغك ساعة ... وأن طال فالوضع للطول موضع إذا لم أبتَّ الداء رب دوائه ... أضعت وأهلٌ للبلاء المضيّع وقتله المعتضد عباد بإشبيلية بلده في جمادى الأولى سنة ستين وأربعماية. بعد أن أمر من حضر من فتيانه، فلم يقدموا عليه إجلالاً له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 وابنه أبو القاسم الحسن، كان زعيم بلده في وقته. سمع أباه وابن منظور وغيرهما من أهل بلده. ورحل فكتب عن جماعة من العلماء، وأجازه محمد بن الوليد، وأبو المنصور الشهرزوري، وسمع منه. توفي سنة اثنتي عشرة وخمسماية رحمه الله. أبو الوليد ابن البارية رحمه الله من فقهاء ميورقة من أهل هذه الطبقة المشهورين بها المتقدمين. وله مع أبي محمد ابن حزم الظاهري مناظرة في اتباع مالك، تعصب فيها عليه ابن حزم حتى حمل الوالي على سجنه واستهانته. وقد ذكر خبره معه القاضي أبو الوليد الباجي في كتاب الفرق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 أبو عبد الله محمد بن موسى بن عمار الكلاعي من أهل ميورقة. كان من أهل العلم والفهم، ورحل فلقي بقية مشيخة القيروان السيوري وطبقته. وأخذ الكلام والأصول هناك عن أبي عمر ابن سراج، وأبي عبد الله الصيرفي، وأبي القاسم الديباجي. ولقي بها أبا الطاهر البغدادي. وأخذ بصقلية عن شيوخها أبي محمد عبد الحق، وأبي العباس الخراز، وأبي محمد بن الأحب. ولقي شيوخ مصر ومن كان بمكة كرافع المعروف بالحمال وغيره. وغلب عليه علم التوحيد والكلام فيه. وألف في ذلك كتاب الأعلام. وكان حسن العبارة جيد القريحة. أبو بكر ابن الصائغ رحمه الله من فقهاء دانية ومتقدمي المفتين بها. موصوفاً بالحفظ. وله به مع القاضي أبي الوليد الباجي أخبار ذكرها في كتاب الفرق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري يعرف بابن النجام. أصلهم بقرطبة وأخرجته الفتنة فخرج الى بلنسية أخذ عن الطلمنكي، وابن عفيف، وابن الفرضي، وأبي القاسم الوهراني، وأبي عبد الوارث، وأبي بكر الرازي. وألف شرحاً لكتاب البخاري كبيراً. يتنافس فيه، كثير الفائدة. وله كتاب في الزهد والرقائق. روى عنه أبو داود المقرئ، وعبد الرحمن بن بشر من مدينة سالم. وكان نبيلاً جليلاً متصرفاً. توفي سنة أربع وسبعين ببلنسية. أبو زكريا يحيى بن محمد بن حسين الغساني المعروف بالقلعي من أهل غرناطة من البيرة. شهير البيت بموضعه. صحب الفقيه أبا عبد الله ابن أبي زمنين وأكثر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 عنه وحمل عنه جميع تواليفه. وروى عن أبي سعيد خلف بن ناصر السبتي المعروف بابن الرقية، ويكنى أيضاً بأبي محمد الشيخ الصالح. ورحل فسمع من الفقيه أبي مروان البوني ببونة. وحدث بغرناطة ورحل إليها. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: كان أبو زكريا من كبار أهل بلده مشاوراً حسن الهيئة والسمت فاضلاً جزلاً رحل إليه أبو الأصبغ وسمع منه غير شيء. وكان من أجل شيوخه. وسمع منه أيضاً حفيده ابن ابنته أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الفقيه زعيم غرناطة - حرسها الله تعالى - في دولة المرابطي، وأحد دعاتهم. تفقه بأبي زكريا وبفقهاء بلده وبقرطبة على ابن القطان وابن عتاب رحمه الله تعالى ورضي عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 ابراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الألبيري من أصحاب أبي عبد الله ابن أبي زمنين رحمه الله. وروى عنه كتبه وكان فقيهاً معظماً في وقته وعليه تفقه عبد الواحد بن عيسى بن الهمداني فقيه غرناطة. وروى عنه كتب ابن أبي زمنين. وتوفي عبد الواحد هذا سنة أربع وخمسماية وقد رأيته أنا رحمه الله. أبو عثمان سعيد بن خلف بن جعفر الكلابي الكبير غرناطي. من فقهاء وقته. سمع ببلده من أبي عبد الله محمد بن عيسى الناشي، عن عيسى. أخذ عنه أبو بكر ابن عطية وغيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 أبو محمد ابن هاني البيري رحمه الله من هذه الطبقة وفقهء بلده المشاهير. ذكره ابن حيان رحمه الله. هشام بن وضاح أبو الوليد المرسي شهير البيت بموضعه وتقلد فتيا بلده. سمع ابن نبات وابن عابد وغيرهما. سمع منه شيخنا أبو محمد ابن أبي جعفر وغيرهما. أبو الربيع سليمان ابن الربيع القيسي من فقهاء غرناطة. سمع أبو المطرف عبد الرحمن بن هاني. أخذ عنه أبو بكر بن عطية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 ابن حرب الله من أهل بلنسية، ومن فقهاء بلده المشاهير، ذكره ابن حيان رحمه الله. أبو القاسم ابن بهلول المعروف بالبربري. كان مفتي بلنسية في وقته، ومن أهل العلم والجلالة. وله كتاب في شرح المدونة سماه التقريب. استعمله الطلبة للمذهب في المناظرة وانتفعوا به. أخذت عليه فيه أوهام في النقل. حدث عنه المقرئ أبو داود الموفرني. وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعماية، رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 هشام بن عمر بن سوار أبو الوليد الفزاري. جياني. من أصحاب أبي عبد الله بن أبي زمنين. يروي عنه وعن أبي عروة مجاهد بن أبي عروة، وأبي محمد عبد الله بن مسلمة ابن بتري، ومسلمة بن محمد الزاهد. ورحل فلقي بالقيروان أبا عبد الله الخواص، وأبا عبد الله الأجدابي وغيرهم. سمع منه أبو الأصبغ ابن سهل. قال: وكان شيخنا وسيماً مفتياً. وليَ الأحكم بشرق الأندلس رحمه الله. محمد بن الحسن الحبيب بن سماخ أبو عبد الله، الغافقي من أهلها. وليَ قضاءها. وكان من أهل العلم والفقه والفضل. وله رحلة لقيَ فيها القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر وحمل عنه تواليفه، وأثنى عليه ابن عتاب، وابن القطان، وابن مالك فقهاء قرطبة. ووصفوه بالعلم والفضل والسداد فيما يتولاه. أخذ عنه الناس وحملوا عنه كتب القاضي أبي محمد. وكان يحمل عنه فممن روى عنه القاضي أبو الأصبغ عيسى بن سهل، وشيخنا أبو محمد ابن عتاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 أبو محمد عبد الله بن فتوح بن موسى بن عبد الواحد السبتي من فقهاء هذه هذه الطبقة. وألف الوثائق المجموعة، وهو تأليف مشهور مفيد، جمع فيه أمهات كتب الوثائق وفقهها. وهو مستعمل وكانت وفاته نحو ستين وأربعماية، رحمه الله تعالى وغفر له. تم الجزء الرابع من المدارك وهو الأخير، بعون الله، على يد كاتبه لنفسه الفقير الى ربه الأعظم، عبده الحاج محمد الأصرم. وكان الفراغ منه يوم الثلاثاء في 3 محرم الحرام فاتح شهور سنة 1231 لإحدى وثلاثين ومايتين ألف. غفر الله لي ولوالدي ومشائخي وجميع المسلمين بمنه وكرمه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166