اسم الكتاب: من مشاهير المجددين في الإسلام (ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا] ---------- من مشاهير المجددين في الإسلام صالح الفوزان اسم الكتاب: من مشاهير المجددين في الإسلام (ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا] [ تقديم ] من مشاهير المجددين في الإسلام تقديم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الدكتور صالح الفوزان المدرس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض في ترجمة للإمامين العظيمين شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته وأجزاهما عن دعوتهما إلى الله وعن جهادهما في سبيله أحسن ما جزا به المحسنين فألفيتها ترجمة موجزة وافية بالمقصود من التعريف بحال الشيخين وما بذلاه من الجهود العظيمة في بيان حقيقة الإسلام والدعوة إليه والتعريف بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن أتباعهم بإحسان وفي بيان الرد على خصومهما وكشف الشبهات التي أوردوها وإيضاح ذلك بأوضح عبارة وألخص إشارة فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من دعاة الهدى وأنصار الحق إنه خير مسئول. ومن تأمل مؤلفات الشيخين ورسائلهما عرف حقيقة دعوتهما وسلامة عقيدتهما وأنهما قد سارا على الصراط المستقيم والمنهج القويم الذي سار عليه سلف الأمة وأئمتها وعلم نصحهما لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وعلم أيضا شرحهما للعقيدة الصحيحة وبيانهما أقسام التوحيد الثلاثة التي جهلها الأكثرون وظنوا أنما كان عليه كفار العرب من قريش وغيرهم من الاعتراف بتوحيد الربوبية هو الدين الحق وهو حقيقة الإسلام جهلا منهم وتقليدا لعباد الأصنام أصحاب القبور والحق أن توحيد الربوبية وحده هو الاعتراف بأفعال الرب سبحانه من كونه الخالق والرازق والمدبر لأمور الخلق وغير ذلك من أفعاله سبحانه لا يدخل من اعترف به في الإسلام كما أن أهل الجاهلية لم يدخلوا في الإسلام بذلك وقد أخبر الله عنهم عز وجل أنهم قد اعترفوا بذلك كما في قوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية وهو الإقرار بأفعال الرب سبحانه كما تقدم وإنما كان كفرهم لشركهم في العبادة وعدم توحيد الله بها واتخاذهم الوسائط والشفعاء في ذلك. كما قال عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} [الصافات: 35 - 36] وقال سبحانه في سورة ص: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4 - 5] بين سبحانه في هذه الآية إنكار المشركين لتوحيد العبادة واستكبارهم عن الالتزام به كما أخبر سبحانه في آيات أخرى لاتخاذهم الشفعاء والوسطاء بينهم وبين الله في طلب حوائجهم فقال عز وجل في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ثم رد عليهم بقوله عز وجل: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وقال عز وجل في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 1 - 3] فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه أنزل الكتاب من عنده سبحانه وهو القرآن الكريم وهو كلامه عز وجل وأنه أنزله بالحق وأمر نبيه أن يعبد الله مخلصا له الدين وهذا الأمر خرج مخرج الخصوص والمراد العموم له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعده: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] ثم أنكر على المشركين اتخاذهم الأولياء من الرسل والأنبياء والصالحين وسائط يعبدونهم من دونه ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله بذلك زلفى ثم أكذبهم الله سبحانه في هذا الزعم بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فأوضح عز وجل بهذا كذبهم فيما زعموا وكفرهم فيما فعلوا من اتخاذهم الأولياء آلهة مع الله يعبدونهم معه للدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر وغير ذلك والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله عز وجل. كما أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وسيرته المعلومة في دعوة أهل مكة وغيرهم إلى التوحيد وإنكاره عليهم ما هم عليه من الشرك وقتالهم على ذلك في غزوة بدر وأُحد وغيرهما كل ذلك يدل أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ولم يعصم دماءهم وأموالهم وإنما يحصل الدخول في الإسلام بالاعتراف بتوحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله عز وجل وحده مع الإيمان بتوحيد الربوبية ومع الإيمان به صلى الله عليه وسلم والإيمان بجميع ما جاء به والإيمان بأسماء الله سبحانه وصفاته كما جاءت في النصوص مع اعتقاد أنها حق وأنها ثابتة لله سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل كما قال الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] وقال سبحانه في سورة الشورى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقد عني الشيخان رحمة الله عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذه المطالب العظيمة في دعوتهما وفي مؤلفاتهما وأوضحا للناس حقيقة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا سيما خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أقسام التوحيد وأنواع الشرك وأقاما على ذلك البراهين النقلية من الكتاب والسنة والبراهين العقلية الصريحة الصحيحة على صحة ما دعت إليه الرسل وعلى صحة ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه أمته وردا في مؤلفاتهما ومجالسهما العامة والخاصة على خصوم الإسلام وكشفا الشبه التي يروجها أعداء الله، وكل من راجع مؤلفاتهما وتأمل ما أوضحناه فيها - طالبا للحق متجردا من الهوى - علم صحة معتقدهما وسلامة سيرتهما وأنهما قد سارا على منهج السلف الصالح وعلم براءة شيخ الإسلام ابن تيمية مما افترى عليه أعداؤه من كونه على خلاف مذهب السلف بل يعلم المنصف إذا قرأ مؤلفاته أنه هو الذي نشر مذهب السلف ودعا إليه ونصره بقلمه ولسانه وسنانه، وقد انتفعت الأمة الإسلامية بكتبه انتفاعا عظيما وشهد له أئمة العلم في زمانه وبعده من ذوي الإنصاف والعدالة أنه على طريقة السلف الصالح وأنه قد نصر دين الله بعلمه ولسانه ورد على خصوم الإسلام وأبان باطلهم وكشف شبههم بأساليب واضحة وبراهين قاطعة وحجج نيرة وقد جعل الله له لسان صدق في العالمين وثناء عاطرا بين العلماء المهتدين والأخيار الصالحين رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في المهديين وجزاه عن جهاده ودعوته وصبره أحسن ما جزى به عباده المخلصين وأولياءه الناصرين دينه الذابين عن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا من تدبر كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب وسيرته ودعوته علم بذلك أنه قد سار سيرة هذا الإمام قبله على نهج السلف الصالح وأئمة الهدى في الدعوة إلى الله سبحانه وبيان حقيقة الإسلام ونشر تعاليمه وإيضاح العقيدة الصحيحة التي درج عليها سلف الأمة وبيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام من نوح إلى محمد عليهما وعلى سائر النبيين الصلاة والسلام كما أبان حقيقة الشرك وحذر منه وأبان ما كان عليه أهل الجاهلية من دعوة الأصنام والأشجار والأحجار والأنبياء والصالحين وأصحاب القبور وجاهد في بيان ذلك والدعوة إليه ونصر من دعا إليه والرد على خصوم الإسلام بقلمه ولسانه وسنانه وعلم أيضا أنه ليس له مذهب خاص كما يزعم خصومه والجهال بدعوته بل هو يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم وإلى مذهب سلف الأمة ويحذر من أنواع الشرك والبدع والخرافات التي كثرت في عصره وانتشرت بين الناس في نجد وغيرها فأعانه الله على ما قام به من الدعوة وأيده الله بآل سعود رحمة الله عليهم وأصلح بقيتهم ووفقهم لكل خير وأعانه الله أيضا بالعلماء الناصحين الذين عرفوا صحة ما دعا إليه فوازروه وساعدوه في نجد وغيرها حتى ظهر الحق وانتصر دين الله وعلت راية الإسلام واختفت أنواع الشرك والبدع في نجد وملحقاتها ثم في الحجاز وانتفع بهذه الدعوة الجم الغفير من العلماء في مصر والشام والعراق وأفريقيا وإندونيسيا والهند وغيرها رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في المهديين وبارك في ذريته وزادهم من العلم والإيمان ونصر بهم الحق وضاعف المثوبة لأنصاره من آل سعود وغيرهم وبارك في ذرياتهم ونصر بهم الحق كما نصر بأسلافهم ووفق جميع المسلمين للتفقه في الدين والثبات عليه والبصيرة فيه وأعانهم على ترك كل ما يخالف شرعه ووفق قادتهم وحكامهم لما فيه رضاه ولتحكيم شريعته وإلزام الشعوب بها وترك ما خالفها لأن ذلك هو طريق القوة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واستقام على سنته ودعا إلى ما جاء به إنه جواد كريم. عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 [ مقدمة ] مقدمة الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه. فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين (1) . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد: فمن المعلوم أنه كلما تأخر الزمان وبعد الناس عن آثار الرسالة حدثت البدع والخرافات وفشا الجهل واشتدت غربة الدين وظن الناس أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الدين وإن كان بعيدا عنه، ولكن الله سبحانه لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من المسلمين لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى، كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره حيث قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» قال المناوي في فيض القدير (2 / 281 -282) أي يقيض لها «على رأس كل مائة سنة» ) من الهجرة أو غيرها والمراد الرأس تقريبا، (مَنْ) أي رجلا أو أكثر، «يجدد لها دينها» أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم وينصر أهله ويكسر أهل البدعة ويذلهم - قالوا: ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، قال ابن كثير: قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم، انتهى. وقد وقع مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلا يزال - والحمد لله - فضل الله على هذه الأمة يتوالى بظهور المجددين عند اشتداد الحاجة إليهم، ومن هؤلاء المجددين: شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القرن السابع وأول الثامن، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، وقد أحببت في هذه العجالة أن أقدِّم بعض المعلومات عن هذين الإمامين وما قاما به من تجديد هذا الدين مما لا تزال آثاره باقية في هذه الأمة ولله الحمد والمنة، والقصد من ذلك تعريف من يجهل مجهود هذين الإمامين، والتنبيه للانتفاع بآثارهما والاقتداء بهما، والله الهادي على سواء السبيل.   (1) هذه خطبة الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية رأينا مناسبتها للموضوع فقدمناه بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 [ أولا التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية ] [ نسبه ] أولا - التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية هو شيخ الإسلام الحافظ المجتهد تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي. ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة 667هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 [ مشايخه وتحصيله ] مشايخه وتحصيله أخذ الفقه والأصول عن والده وسمع عن خلق كثير منهم الشيخ شمس الدين (1) والشيخ زين الدين بن المنجا والمجد بن عساكر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه، وعني بالحديث وسمع الكتب الستة والمسند مرات، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك ورد على أكابر المتكلمين والفلاسفة، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين من السنين، وتضلع في علم الحديث وحفظه وكان سريع الحفظ قوي الإدراك آية في الذكاء رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف بحرا في النقليات، وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين.   (1) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام بن تيمية ص23، 25، 28 -30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [ اشتغاله في التدريس ] اشتغاله في التدريس كان والده من كبار أئمة الحنابلة فلما مات خلفه في وظائفه وكان عمره تسع عشرة سنة فاشتهر أمره وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير القرآن الكريم أيام الجمع من حفظه - قال عنه الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار وكان من معاصريه (1) لقد كان إذا قرأ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها، وقد منحه الله تعالى معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل واحد منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردود، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأن جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه العلماء فيه من الأولين والآخرين متصور مسطور بإزائه، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شيء من عمله ممن لم يغلط عقله الجهل والهوى، انتهى. وقال أيضا: وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها، وكان لا يهيئ شيئا من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء ونقد بعضها وتبيين صحته أو تزييف بعضها وإيضاح حجته واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر ناظمها، وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل ويفيض كما يفيض البحر، من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن بل فيض إلهي حتى يبهر كل سامع وناظر فلا يزال كذلك إلى أن يصمت، وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول، وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا ويصلي ويسلم عليه، ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئا من حديثه في مسألة ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى غيره من المخلوقين كائنا من كان، وقال: كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا فرغ من درسه يقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث، وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال، ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس، وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه حاضريه وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين، انتهى كلام البزار في كتابه "الأعلام العلية".   (1) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص23، 25، 28 -30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 [ مؤلفاته ] مؤلفاته لشيخ الإسلام ابن يتمية مؤلفات قيمة ضخمة ورسائل وفتاوى بلغ الموجود منها مجلدات ضخمة وعديدة، طبع منها حسب علمي خمسة وستون مجلدا وهي: 1 - "مجموع الفتاوى" خمسة وثلاثون مجلدا، وقد طبع عدة مرات ووزع في كثير من الأقطار الإسلامية وانتفع به المسلمون لما يحتويه من علم غزير في العقائد والفقه والتفسير والحديث والأصول. 2 - "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" وقد طبع في عشرة مجلدات. 3 - "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (رد على شبه النصارى) وقد طبع في أربعة مجلدات. 4 - "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية" وقد طبع في أربعة مجلدات محققة. 5 - "الفتاوى المصرية" وقد طبع في خمسة مجلدات. 6 - "الاختيارات الفقهية" وقد طبع في مجلد. 7 - "القواعد النورانية الفقهية" وقد طبع في مجلد. 8 - " نقض منهاج التأسيس" وقد طبع الموجود منه في مجلدين. 9 - "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وقد طبع في مجلد. 10 - "شرح العقيدة الأصفهانية" وقد طبع في مجلد. 11 - "الصفدية" وقد طبع في مجلدين. 12 - "الاستقامة" وقد طبع في المجلد الأول منه والبقية في الطريق. . إن شاء الله. 13 - "كتاب الإيمان" وقد طبع في مجلد. 14 - "كتاب نقض المنطق" وقد طبع في مجلد. 15 - "كتاب النبوات" وقد طبع في مجلد. 16 - "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" مجلد. هذا ولا يزال الكثير من كتبه ورسائله وفتاويه مفقودا، ويعثر بين حين وآخر على شيء منه فيبادر من وجده إلى نشره للانتفاع به. وقد لمعت كتبه في هذا العصر وانتفع بها الخلق الكثير لما تحويه من العلم الغزير والتحقيق والتدقيق والأصالة، وقد شهد بذلك كل من اطلع عليها ممن لم تأخذه العصبية الجاهلية والتقليد الأعمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 [ ثناء العلماء عليه ] ثناء العلماء عليه قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14 / 118 -119) : وقل أن سمع شيئا إلا حفظه ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا في ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، انتهى. وقال الحافظ المزي في الثناء عليه (1) ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه، وقال الحافظ ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقال الشيخ إبراهيم الرقي: إن ابن تيمية يؤخذ عنه ويقلد في العلوم فإن طال عمره ملأ الأرض علما وهو على الحق ولا بد من أن يعاديه الناس لأنه وارث علم النبوة. وقال قاضي القضاة (2) ابن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟ نقل هذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي في كتابه: (الكواكب الدرية) .   (1) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 21. لمحمد بهجة البيطار. (2) هذا على حد تعبيرهم وإن كان في إطلاق هذا اللفظ ما فيه من الكراهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 [ رد الشبهات التي وجهت في حق الشيخ ] رد الشبهات التي وجهت في حق الشيخ لقد ضاق خصومه قديما وحديثا به ذرعا ووجهوا ضده الاتهامات: 1 - من ذلك ما افتراه الرحالة ابن بطوطة حيث قال في رحلته في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر) وقد رد على هذه الفرية الشيخ العلامة: محمد بهجة البيطار (1) بما يلي: (1) أن ابن بطوطة لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة (726هـ) وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الإثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية. فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وهو إذ ذاك في السجن. (2) لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع وإنما كان يجلس على كرسي، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره وبعد صيته في العالم وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه. (3) إن هذا الذي ذكره ابن بطوطة يخالف ما ذكره الشيخ في جميع كتبه من أنه يجب إثبات أسماء الله وصفاته إثباتا بلا تشبيه وتنزيهها عن مشابهة صفات المخلوقين تنزيها بلا تعطيل، وهذا الذي ذكره ابن بطوطة تشبيه نهى عنه شيخ الإسلام ويحذر منه غاية التحذير. (4) لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضع النزول كتاب مستقل اسمه (شرح حديث النزول) وهو مطبوع ومتداول وليس فيه ما ذكره ابن بطوطة، بل فيه ما يرد عليه ويبطله من أصله والحمد لله رب العالمين. 2 - قالوا عنه إنه يخالف الإجماع، وقد أجاب عن هذه الشبهة الشيخ محمد بهجة البيطار (2) بقوله: اشتهر ابن تيمية بمسائل أثرت عنه وظن كثير من الناس أنه انفرد بها عن غيره. بل ظنوا أنه خالف في بعضها الإجماع وهي أمور اجتهادية يقع في مثلها الخلاف بين العلماء ومن المفروغ منه أن ابن تيمية قد بلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية. وأنه كان يفتي الناس بما أدى إليه اجتهاده (3) وأنه موافق في فتاواه بعض الصحابة أو التابعين أو أحد الأئمة الأربعة أو غيرهم ممن عاصرهم أو جاء قبلهم أو بعدهم. وقد قال العلامة برهان الدين بن الإمام محمد المعروف بابن قيم الجوزية: لا نعرف مسألة خرق فيها الإجماع، ومن ادعى ذلك فهو إما جاهل وإما كاذب، ولكن ما نسب إليه الانفراد به ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ما يستغرب جدا فينسب إليه أنه خالف فيه الإجماع لندور القائل به وخفائه على الناس لحكاية بعضهم الإجماع على خلافه. الثاني: ما هو خارج عن مذاهب الأئمة الأربعة وقال به بعض الصحابة أو التابعين أو السلف والخلاف فيه محكي. الثالث: ما اشتهرت نسبته إليه مما هو خارج عن مذهب الإمام لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم. الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد وإن كان محكيا عنه وعن بعض أصحابه، انتهى من كتاب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ محمد بهجة البيطار ص54-55. قلت: وبهذا يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينفرد بقول لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ومن أراد الحق في هذا فلينظر في مجموع فتاواه الكبير الذي بلغ خمسة وثلاثين مجلدا وطبع عدة مرات ووزع على نطاق واسع في العالم الإسلامي ولا يصدق ما أشاعه عنه المغرضون فإن قول الخصم غير مقبول على خصمه، وإنما يرجع إلى كلام الشخص نفسه ويحكم عليه بموجبه، واليوم والحمد لله كتب شيخ الإسلام وفتاواه قد انتشرت واشتهرت وهي تدحض ما افتراه عليه خصومه من الأكاذيب، ومن رجع إلى هذه المؤلفات القيمة أدرك أنه مفترى عليه ووجد في هذه المؤلفات العلم الغزير الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المنصف الخالي من التعصب الأعمى إلا أن يقر له بالعلم والفضل. 3 - قالوا إنه أفتى بفتاوى تخالف فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة، وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية فهو لم ينفرد بقول يخالف به الأئمة جميعا، سواء الأئمة الأربعة أو أئمة السلف الذين هم قبل الأربعة كما سبق بيانه فلم يقل قولا إلا وله سلف فيه من الأئمة، وأهل السنة والجماعة، اللهم إلا أن يريد هذا القائل بأهل السنة والجماعة جماعة الأشاعرة والماتريدية - فهذا اصطلاح خاطئ؛ لأن المراد بأهل السنة والجماعة حقا من كان على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم الفرقة الناجية وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم، والأشاعرة والماتريدية خالفوا الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة وهؤلاء لم يخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وحده بل خالفهم عامة الأئمة والعلماء الذين ساروا على نهج السلف. وهذه الفتاوى التي قالوا أن الشيخ خالف فيها فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة هي: (أ) أنه يرى جلوس الله على العرش كجلوسه هو وأنه قال ذلك على المنبر في مسجد بني أمية مرارا في دمشق وفي مصر. وقول هذا الكذب الواضح على شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام في هذه المسألة يثبت ما أثبته الله لنفسه من أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه كما قال الإمام مالك وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"، وإليك ما قال رحمه الله في هذه المسألة من إثبات استواء الله على عرشه مع نفي مشابهة المخلوقين في ذلك حيث قال رحمه الله: (ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة وللعبد استواء على الفلك حقيقة وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين. فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء بل هو الغني عن كل شيء) (4) فقال رحمه الله (لله استواء) ولم يقل جلوس، وفرق بين استواء الله واستواء الخلق. (ب) قالوا: إنه يقول: (نزول الله إلى سماء الدنيا كل ليلة كنزوله هو من المنبر) وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ومما افتراه عليه ابن بطوطة وقد بينا كذبه في ذلك ولله الحمد، ونحن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذه المسألة لما سئل عن حديث النزول وكان من جوابه: (لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثيله بصفات المخلوقات ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن هذا الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ أيضا في ذلك) (5) وقل أيضا: (من قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه) (6) (ج) قالوا: إنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا أيضا من الكذب الواضح، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا زيارة غيره من القبور إذا وقعت هذه الزيارة وفق الأدلة الشرعية بأن يكون الزائر رجلا والقصد منها التذكير والاعتبار والدعاء للموتى من المسلمين بالرحمة والمغفرة، وكانت هذه الزيارة بدون سفر، فإن كانت زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب المدد وقضاء الحوائج وتفريج الكربات من الموتى، أو كانت هذه الزيارة تحتاج إلى سفر أو الزائر من النساء فشيخ الإسلام ليس وحده الذي يمنع من هذه الزيارة بل يمنع منها كل المحققين من علماء السلف والخلف، لأنها زيارة شركية أو بدعية، قد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بمنعها، وإليك ما قاله في هذه المسألة: قال رحمه الله: (فإن زيارة القبور على وجهين: وجه شرعي ووجه بدعي، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواء كان نبيا أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك وغيره ذلك وقالوا: إنه من البدع المحدثة. ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر بل يستقبل القبلة وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة، وقال مالك والشافعي وأحمد: يستقبل القبر، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به، لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية وهي من جنس دين النصارى والمشركين وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه كلها من البدع (7) (د) قالوا: إنه يقول إن التوسل في الدعاء كفر أو شرك، وهذا أيضا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يحكم على التوسل بأنه كفر أو شرك وإنما كان يفصل في ذلك بين التوسل المشروع والتوسل الممنوع وإليك عبارته في ذلك، ويقول رحمه الله؛ (فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام به على الله بذاته والسؤال بذاته - فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: (لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك) (8) فبين الشيخ أن هذا النوع من التوسل لا يجوز وليس هو من فعل الصحابة ولم يقل إنه كفر أو شرك كما قال هذا الكاذب عليه. (هـ) قالوا: إنه يكفر الناس الذين لا يتبعون آراءه مثل تكفيره الذين يزورون قبر الرسول وهذا من جنس ما قبله من الأكاذيب، فالشيخ تقي الدين لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله بارتكابه ناقضا من نواقض الإسلام كدعاء غير الله من الموتى وغيرهم، ولم يكفر الذين يزورون قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية كما سبق بيانه. (و) قالوا: إنه يحرم الطرق الصوفية وحيال هذا الموضوع أنقل عبارة الشيخ رحمه الله في هذا، قال رحمه الله: (الحمد لله: أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك - إلى أن قال: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة لله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلا (9) . هذا كلامه رحمه الله في التصوف المعروف في وقته وقبله، أما اليوم فالطرق الصوفية تغيرت ودخلها من البدع والخرافات والشركيات الشيء الكثير، فيجب تركها والابتعاد عنها وملازمة السنة. 4 - قالوا: إنه أفتى بفتاوى تخالف الإجماع وهي كما يلي: [أ] لا يعتبر الحلف بالطلاق طلاقا وإنما يعتبره يمينا مكفرة. والجواب عن هذا أن نقول أن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى كاذبة، فإن الشيخ رحمه الله ذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهذا نص كلامه حيث يقول: (إذا حلف بالطلاق أو العتاق يمينا تقتضي حضا أو منعا - كقوله الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا أو قوله إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو فعبدي حر ونحو ذلك فللعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق، وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء. والثاني: لا يقع به شيء ولا كفارة عليه، وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين، ولهذا كان سفيان بن عيينة شيخ الشافعي وأحمد لا يفتي بالوقوع. والقول الثالث: أنه يجزئه كفارة يمين (10) . [ب] قالوا: إنه يعتبر الطلاق الثلاث واحدة إذا قاله الزوج دفعة واحدة. والجواب: أن هذا لم يخالف فيه الشيخ رحمه الله إجماعا ولم ينفرد به فقد سبقه إليه كثير من الأئمة قال رحمه الله: (وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاوس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه) (11) قال القرطبي: وشدد طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقيل عنهما لا يلزم منه شيء وهو قول مقاتل ويحكى عن داود أنه قال لا يقع والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا، (12) . [ج] وقالوا: إنه لا يصحح طلاق الحائض والطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، والجواب: أن هذا الطلاق طلاق بدعة وقد اختلف العلماء هل يقع أو لا، فإذا قال الشيخ بعدم وقوعه فإنه لم يخالف بذلك إجماعا كما يدعي هذا المفتري فالمسألة خلافية - قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب في آخرين لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، (13) . [د] قالوا: إنه لا يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدا، والجواب: أن الموجود من كلام الشيخ (14) في هذه المسألة ما نصه: (وأما من كان عالما بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها المؤقت فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدا - والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى. وقال الحافظ (15) على حديث «من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» قال: وقد تمسك بدليل الخطاب منه القائل: إن العامد لا يقضي الصلاة، لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي. اهـ. فالشيخ إنما حكى الخلاف فقط والمسألة خلافية ليست محل إجماع، والله أعلم. وقال الشيخ أيضا (16) واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدا هل يقضيه؟ فقال الأكثرون يقضيه، وقال بعضهم: لا يقضيه ولا يصح فعله بعد وقته كالحج، انتهى. ولم يزد على حكاية الخلاف. [هـ] وأنه قال: الذي ينكر الإجماع لا يعتبر كافرا أو فاسقا، وهذا كذب على الشيخ رحمه الله لأنه يحترم الإجماع ويحث على التمسك به وينهى عن مخالفته، قال (17) الحمد لله. . . معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، إذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، انتهى. [و] قالوا: إنه يرى أن ذات الله عز وجل مركبة بعضها يحتاج إلى بعض، وأن الله له جسم وله جهات وينتقل من مكان إلى مكان آخر، وهذا من الكذب الشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه رحمه الله في كل كتاباته ومؤلفاته يقرر مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في أسماء الله وصفاته وهو إثباتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] قال في مطلع الرسالة الحموية الكبرى لما سئل: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأجاب: الحمد لله رب العالمين. . . قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، (18) . وقال أيضا في موضوع الحركة والانتقال (19) والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعا كمن قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية، انتهى. وقال في موضوع الجسم والتركيب (20) فمن قال إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قول باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت الله مثلا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال أنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل. ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه والدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قول باطل، وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيما تلبيس منه. إلى أن قال: بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا فليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين. انتهى. وقال أيضا: وهذه الألفاظ المجملة المحدثة النافية مثل لفظ: (المركب) و (المؤلف) و (المنقسم) ونحو ذلك قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده. فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن وهو إثبات أحديته وصمديته، ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفيا وعبر عنه بتلك العبارة وصفا له واصطلاحا اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب، وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن ولا من لغة أحد من الأمم ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة، (21) وبهذه المنقولات من كلام الشيخ رحمه الله ظهر بطلان ما نسبه إليه أعداؤه الكذابون من هذه الأباطيل، والحمد لله. [ز] قالوا: إنه يرى أن القرآن حديث ليس بقديم، والجواب: أن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع، قال (22) إن السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا: لم يزل متكلما إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلا غير مخلوق ولم يكن مع ذلك أزليا قديما لقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلما إذا شاء فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض انتهى. فتبين بهذا أن نفي القدم عن القرآن ليس رأيه وحده كما يزعم المفترون، وإنما هو رأي سلف هذه الأمة قاطبة، وأن هناك فرقا بين جنس الكلام وأفراد الكلام والله أعلم. [ح] قالوا: إنه يقول بقدم العالم، وهذا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لا يقول بقدم العالم، وإليك عبارته رحمه الله في إبطال هذا القول ورده قال (23) فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ليسمع شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والعقول تعلم أن الحوادث لا بد لها من محدث، وفي الجزء الثاني من هذا المجموع المبارك في الصفحة (188) صرح بتكفير من قال بقدم العالم. [ط] قالوا: إنه يقول إن الأنبياء غير معصومين، والجواب: أن هذا كذب صريح وبهتان واضح، فان شيخ الإسلام رحمه الله يقرر عصمة الأنبياء ويثبتها وهذا نص عبارته في هذا الموضوع حيث يقول: (إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه. إلى أن قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط، وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث، أو لا؟ والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا (24) . وهكذا والحمد لله وجدنا في كلام الشيخ ردا على كل ما افتراه عليه خصومه ونفيا لما نسبوه إليه. وهذا مما يدل على غزارة علمه وإمامته، ونحن لا ندعي له العصمة فهو كغيره من الأئمة يخطئ ويصيب، قال الإمام ابن كثير في ترجمته له (25) وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من علماء عصره مثل القاضي الخوبي وابن دقيق العيد وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهتها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين. . . إلى أن قال ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهو مأجور، وقال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، انتهى (26) . وكما قلنا قريبا إن مؤلفات هذا العالم موجودة ومبذولة لكل من أرادها فمن أراد أن يعرف الحقيقة بلا مكابرة فليطالعها ولا يستمع لما يقوله عنه خصومه وحساده والمغرضون المضللون فإن العدل والإنصاف أن تحكم على الشخص من واقع كلامه المذكور في كتبه، لا من كلام خصومه. أعماله وجهاده: ظهر شيخ الإسلام في عصر قد اشتدت فيه غربة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع وخيم الجمود الفكري والتقليد الأعمى فأثر في الجو العلمي، ظهرت فرق الشيعة والصوفية المنحرفة والقبورية ونفاة الصفات والقدرية وطغى علم الكلام والفلسفة حتى حلا محل الكتاب والسنة لدى الأكثرية من المتعلمين في الاستدلال هذا كله في داخل المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، ومن خارج المجتمع تكالب أعداء الإسلام فغزوا المسلمين في عقر دارهم فجاءت جيوش التتار تداهم المسلمين وتفتك بهم، في هذا الجو المعتم عاش شيخ الإسلام ابن تيمية ضياء لامعا بعلمه الأصيل الغزير يدرس للطلاب ويؤلف الكتب والرسائل ويفتي في النوازل والمسائل، ويناظر المنحرفين وينازل الفرق والطوائف، فيرد على الشيعة والقدرية ويرد على علماء الكلام والفلاسفة، ويرد على المعطلة والمئولة في الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ويرد على الصوفية المنحرفة وعلى القبوريين والمبتدعة، وينازل أهل الجمود الفقهي والخمول الفكري برد الفقه إلى أصوله الصحيحة وتزييف الزائف حتى أعاد للشريعة نقاءها وإلى العلوم الشرعية صفاءها. يظهر ذلك في مؤلفاته التي خلفها ثروة علمية هائلة، وإلى جانب مجهوده العلمي العظيم شارك في الجهاد في سبيل الله فحمل السلاح وخاض المعارك ضد التتار عدة مرات مما كان له أطيب الأثر في تقوية معنوية المجاهدين حتى انتصروا على عدوهم، وقد تخرج على يد هذا العالم الجليل أئمة من طلابه حملوا الراية من بعده منهم الإمام ابن القيم والإمام ابن كثير والحافظ الذهبي والحافظ ابن عبد الهادي وغيرهم ممن أخذوا عنه العلم ونشروه في الآفاق بما ألفوه من المؤلفات القيمة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية اليوم، فجزى الله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ونفعنا بعلومه، ولما قام بهذا الواجب العظيم غاظ خصومه فرمته كل طائفة من الطوائف المنحرفة بلقب سيئ تريد بذلك صد الناس عن دعوته وتشويه علمه، فنفاة الصفات قالوا إنه مجسم لأن إثبات الصفات عندهم تجسيم. ومتعصبة الفقهاء والمبتدعة قالوا إنه خرق الإجماع، لأن أخذ القول الراجح بالدليل المخالف لما هم عليه ورد البدع خرق للإجماع عندهم، وغلاة الصوفية والقبوريون قالوا إنه يبغض الأولياء ويكفر المسلمين ويحرم زيارة القبور لأن الدين عندهم هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وتعظيم مشايخ الطرق الصوفية واتخاذهم أربابا من دون الله والغلو في تعظيمهم بصرف العبادة إليهم، هذا موقف هذه الطوائف من دعوة شيخ الإسلام وهو موقف يتكرر مع كل مصلح ومجدد يدعو إلى دين الله الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفه من دين الآباء والأجداد وعادات الجاهلية، وليس هذا بغريب فقد قوبلت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بأعظم من هذا وقيل عنه إنه ساحر كذاب وإنه شاعر مجنون إلى غير ذلك من الألقاب السيئة التي يراد بها الصد عن دين الله والبقاء على دين الشرك الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلشيخ الإسلام وإخوانه من الدعاة إلى الله أسوة بنبيهم ولهؤلاء المنحرفين سلف من المشركين والمكذبين، ولكن العاقبة للمتقين. فهذه كتب شيخ الإسلام تأخذ طريقها إلى أيدي كل من يريدون الحق ويتنافسون في الحصول عليها والتنقيب عن المفقود منها لإخراجه للناس، فعليك أيها المسلم الناصح لنفسه أن لا تلتفت إلى أقوال المرجفين في حق هذا العالم المجدد المجاهد وأن تنظر إلى أقواله هو لا إلى ما يقال عنه لتصل إلى الحقيقة: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] هذا وقد وصلت كتب هذا العالم المجاهد إلى مجدد القرن الثاني عشر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث تخرج عليها وانتفع بها فإلى التعرف على تلك الشخصية في الصفحات التالية:   (1) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص47 -48. (2) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 54 -55. (3) أي أنه الراجح من الأقوال. (4) انظر مجموع فتاوى الشيخ (5 / 199) . (5) انظر مجموع الفتاوى (5 / 323) . (6) المجموع (5 / 579) . (7) انتهى من مجموع الفتاوى (27 / 31 - 32) . (8) انتهى من مجموع الفتاوى (1 / 202) . (9) انتهى من مجموع الفتاوى (11 / 5، 17 -18) . (10) اهـ من مجموع الفتاوى (33 / 195 -196) . (11) انظر مجموع الفتاوى (33 / 8) . (12) انتهى. (3 / 129) . من تفسير القرطبي. (13) انتهى. (17 / 151) من تفسير القرطبي. (14) في مجموع الفتاوى (22 / 103) . (15) في فتح الباري (1 / 71) . (16) في مجموع الفتاوى (22 / 18 -19) :. (17) في مجموع الفتاوى (20 / 10) :. (18) انتهى من مجموع الفتاوى (5 / 5 -6) . (19) في المجموع (5 / 578 -579) . (20) في مجموع الفتاوى (17 / 317) . (21) انتهى من مجموع الفتاوى (17 / 351 -352) . (22) في مجموع الفتاوى (12 / 54) . (23) في مجموع الفتاوى (9 / 281) . (24) انتهى من مجموع الفتاوى (10 / 289، 292 -293) . (25) في البداية والنهاية (14 / 119) . (26) وقد رد على هذه الشبهات جماعة من العلماء منهم الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ومنهم علامة العراق الشيخ نعمان خيري الألوسي في كتابه": "جلاء العينين" ومنهم علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار في "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [ ثانيا التعريف بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ] [ نسبه ومولده ونشأته ] ثانيا: التعريف بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف النجدي التميمي. ولد سنة 1115هـ ونشأ في بيت علم، فوالده من علماء البلاد وتولى القضاء في عدة جهات، وجده الشيخ سليمان كان عالما جليلا وإماما في الفقه وهو المفتي في البلاد في وقته وقد تخرج على يديه عدد كبير من العلماء وطلبة العلم، وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان كان من أجلة العلماء، فنشأ الشيخ محمد في هذا الجو العلمي وكان حاد الذهن متوقد الذكاء سريع الحفظ، حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة ودرس على والده كتب الفقه الحنبلي وكان كثير المطالعة والقراءة للكتب إلى جانب قراءته على والده وقرأ في كتب التفسير والحديث والأصول، وعني عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم، وكان لكتب هذين الإمامين أكبر الأثر في تكوين شخصيته العلمية المتميزة والأخذ بيده إلى مصادر العلم الصحيحة فتكون لديه الاتجاه السليم منذ صغره وتركزت في قلبه العقيدة الصحيحة، وتخرج على كتب هذين الإمامين المحققين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 [ رحلاته العلمية ] رحلاته العلمية ولما استوعب ما يدرس في بلدته من علوم الفقه والعربية والحديث والتفسير تطلع إلى الزيادة وعزم على الرحلة إلى علماء البلاد المجاورة للاستفادة من علومهم فرحل إلى البصرة وإلى الأحساء وإلى مكة والمدينة والتقى بعلماء تلك البلدان وأخذ عنهم واستحصل على الكتب والمراجع، ولنترك المجال لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن ليحدثنا عن تلك الرحلات المباركة، قال: إنه نشأ في طلب العلم وتخرج على أهله في سن الصبا، ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارًا وللأحساء ثم إلى المدينة، ثم قال في تفصيل ذلك: فظهر شيخنا بين أبيه وعمه فحفظ القرآن وهو صغير، وقرأ في فنون العلم وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب، فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغني والإنصاف لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع، وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له أصول الدين ما خفي على غيره وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات والإيمان. . . . إلى أن قال: فصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث. . . . إلى أن قال: ثم إن شيخنا رحمه الله بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد وهناك رحل إلى الأحساء وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد، وحضر مشايخ الأحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر، وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء وغيرهم من أهل نجد. . . . إلى أن قال: ثم إن شيخنا رحمه الله رجع من الأحساء إلى البصرة وخرج منها إلى نجد قاصدًا الحج فحج رحمه الله، وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه ضلال من ضل باتخاذ الأنداد وعبادتها من دون الله في كل قطر وقرية إلا ما شاء الله، فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدًا المدينة مع الحاج يريد الشام فتعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه، وعاقه ذلك عن مسيرة مع الحجاج فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم محمد حياة السندي وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها وقراءة لبعضها ووجد فيها بعض الحنابلة (1) فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده وكتب متن البخاري وحضر في النحو وحفظ ألفية ابن مالك - حدثني بذلك حماد بن حمد عنه رحمهما الله ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله، انتهى المقصود. الدرر السنة (9 / 215 -216) . فأنت ترى أيها القارئ من هذا السياق قوة الأسباب التي بذلها الشيخ لتحصيل العلم: كثرة الحفظ وكثرة القراءة والاطلاع وكثرة الرحلات في طلب العلم للتلقي عن العلماء مع شدة الذكاء والنية الصالحة، إن هذه الأسباب مع توفيق الله تعالى كفيلة بتوفر التحصيل وهذا ما حصل.   (1) منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 [ حالة المسلمين عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ] حالة المسلمين عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لقد ذكر المؤرخون كابن غنام وابن بشر وغيرهما عن حالة أهل نجد خصوصا والعالم الإسلامي عموما الشيء الكثير من ظهور البدع والخرافات والشركيات والجهل بحقيقة الدين الصحيح، ففي نجد كانت القبور والأشجار والأحجار والمغارات تعبد من دون الله بأنواع من القربات، وفي الحجاز واليمن وغيرهما من البلاد من ذاك الشيء الكثير، يقول العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في قصيدة له يصف المظاهر الشركية في البلاد الإسلامية وهو معاصر للشيخ محمد وقد وصف ما يفعل ويمارس حول القبور من الشرك الأكبر فيثني على دعوة الشيخ: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... عيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد ويقول الإمام الشوكاني وهو من المعاصرين لدعوة الشيخ أيضا، يقول في وصف ما يفعل عند القبور من الشرك: وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي درء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمين تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا: لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارًا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد انتهى من نيل الأوطار (4 / 90) . وقد ألف كل من هذين الإمامين رسالة في التحذير من هذا الشرك الذي فشا في البلدان في عصرهما فألف الصنعاني رسالة اسمها "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، وألف الشوكاني رسالة اسمها "شفاء الصدور بتحريم البناء على القبور" وكلتا الرسالتين مطبوعة ومتداولة. وإليك ما قاله فاضلان من أهل العلم معاصران للشيخ محمد ودعوته، قالا رحمهما الله: (من محمد بن غيهب ومحمد بن عيدان إلى عبد الله المويس، الباعث للكتاب إخبارك عن ديننا قبل أن يجعل هذا الشيخ لهذا القرن (1) . يدعوهم إلى الله وينصح لهم ويأمرهم وينهاهم حتى أطلع الله به شموس الوحي وأظهر به الدين وفرق به أهل الباطل من السادة والكهان والمرتشين فهو غريب في علماء هذا الزمان هو في شأن وهم في شأن آخر، رفع الله له علم الجهاد فشمر إليه فأمر ونهى ودعا إلى الله تعالى ونصح ووفى بالعهد لما نقضوه وشمر عن ساعد الجد لما تركوه وتمسك بالكتاب المنزل لما نبذوه فبدعوه وكفروه، فديننا قبل هذا الشيخ المجدد لم يبق منه إلا الدعوى والإسم فوقعنا في الشرك فقد ذبحنا للشياطين ودعونا الصالحين ونأتي الكهان ولا نفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ولا بين توحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب وتوحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، ولا نفرق بين السنة والبدعة فنجتمع لليلة النصف من شعبان لصلاتها الباطلة التي لم ينزل بها من سلطان ونضيع. الفريضة، ونقدم قبل الصلاة الوسطى - صلاة العصر - من الهذيان ما يفوتها عن وقت الاختيار إلى وقت الضرورة، هذا وأضعافه من البدع لم ينهنا عنه علماؤنا بل أقرونا عليه وفعلوه معنا فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا ينصحون جاهلًا ولا يهدون ضالًا والكلام من جهتهم طويل عصمنا الله وإياك من الاقتداء بهم واتباع طريقتهم فكن منهم على حذر إلا القليل منهم يكفيك عن التطويل أن الشرك بالله يخطب به على منابرهم ومن ذلك قول ابن الكهمري: اللهم صل على سيدنا وولينا ملجانا منجنانا معاذنا ملاذنا. وكذلك تعطيل الصفات في الطيبي فيشهد أن الله لا جسم ولا عرض ولا قوة. فقبل هذا الشيخ لا تؤدى أركان الإسلام كالصلاة والزكاة فلم يكن في بلدنا من يزكي الخارج من الأرض حتى جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (2) .   (1) كذا في الأصل ولعل الصواب: "يجيء" "يجعل". (2) من كتاب "علماء نجد خلال ستة قرون" للشيخ عبد الله البسام (2 / 605 -606) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 [ عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ] عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال رحمه الله جوابا لمن سأله عن عقيدته: انظر الدرر السنية (1 / 28 -30) . أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني اعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلًا واحسن حديثًا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج، وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحية وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأؤمن بأن الله فعال لما يريد ولا يكون في ملكة شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لن يضمأ بعدها أبدًا، وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم، وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] هو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأؤمن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم على المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة} . وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم ما لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيًا مع كل إمام برًا كان أو فاجرًا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة. والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، أحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة، وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة. أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة، فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [ بدء دعوة الشيخ محمد رحمه الله ] بدء دعوة الشيخ محمد رحمه الله وفي وسط هذا الجو المظلم الذي سبق وصفه سطعت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورفع صوته منكرًا هذا الشرك داعيا الناس إلى التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فلقي من الناس ما يلقاه أمثاله من الدعاة إلى الله من الأذى وأطاعه من وفقه الله لقبول الحق، يقول حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: ثم رجع إلى نجدوهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها من الشرك بعبادة الأموات والأشجار والأحجار والجن، فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يبعدونه من قبر أو طاغوت أو شجر أو حجر، والناس يتبعه الواحد منهم والإثنان فصاح به الأكثرون وحذروا منه الملوك وأغروهم بعداوته. انتهى من الدرر السنية (9 / 216) . وهذا لا يعني أنه لا يوجد علماء في هذا العصر، بل يوجد منهم الكثير، ولكنهم ما بين مستحسن لهذا الوضع السيئ، أو غير مستحسن لكنه لا يملك الشجاعة لمقاومته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 [ أصول دعوة الشيخ رحمه الله ] أصول دعوة الشيخ رحمه الله لقد أوضح أصول دعوته في إحدى رسائله حيث قال: (1 / 62 -64) الدرر السنية: 1 - أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] 2 - وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] 3 - وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منزه هو وإخوانه عن الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66] وغير ذلك من الآيات، ونقاتلهم عليه كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] أي شرك، ثم ساق الأدلة على ذلك إلى أن قال: 4 - وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله. 5 - وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل. . . . نقاتل عباد الأوثان (1) كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، انتهى. وقال في رسالة أخرى من رسائله: (1 / 56) الدرر السنية: 6 - وأما التكفير فأنما أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك (2) . 7 - وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلا دون النفس والحرمة، فإنما على سبيل المقابلة: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه. وقال أيضا (1 / 54) الدرر السنية: 8 - وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات.   (1) وقال في بعض أجوبته: نقاتلهم بعدما نقيم الحجة عليهم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] . انتهى الدرر السنية (1 / 58) . (2) وقال: فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي تكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد ويسميهم بالخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 [ المراحل التي مرت بها دعوة الشيخ محمد رحمه الله ] المراحل التي مرت بها دعوة الشيخ محمد رحمه الله بدأ الشيخ دعوته في بلدة حريملاء لوجود والده فيها، ولكن لما كانت الظروف غير مواتية ترك هذه البلدة بحثا عن غيرها فاتجه إلى العيينة واتصل بأميرها عثمان بن معمر فساعده في أول الأمر واجتمع حوله طلبة وبدأ بتنفيذ الأحكام الشرعية فهدم بعض القباب الشركية ورجم في الزنا، ثم إن ابن معمر تخلى عنه خوفا من تهديد بعض الرؤساء، فترك الشيخ العيينة وبحث عن غيرها فاتجه إلى الدرعية واتصل بأميرها محمد بن سعود وعرض عليه دعوته فقبلها وبايعه على مناصرته وصدق في ذلك، وهنا استقر الشيخ رحمه الله وانعقدت حوله حلق الدروس ووفد إليه الطلاب من مختلف الجهات وتكونت في هذه البلدة ولاية إسلامية أميرها الإمام محمد بن سعود وموجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وامتدت الدعوة إلى البلاد المجاورة ونشأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة التوحيد وقمع الشرك، وماهي إلا فترة وجيزة حتى انتشرت الدعوة وتوحدت جميع البلدان النجدية تحت رايتها، وامتدت فيما بعد إلى الحجاز وعسير وشمال الجزيرة، وكان ذلك بفضل الله وحده ثم بمؤازرة آل سعود لهذه الدعوة المباركة، وصدق الله وعده: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] المراجع التي يعتمد عليها علماء الدعوة والمنهج الذي يسيرون عليه في الفتوى وأخذ المسائل: المراجع التي يعتمد عليها علماء الدعوة هي: 1 - القرآن الكريم وتفاسيره المعتمدة. 2 - السنة النبوية وشروحها. 3 - كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرها في سائر الفنون. 4 - كتب المذاهب الأربعة وبالأخص كتب المذهب الحنبلي وما ترجح بالدليل من غيره (1) . يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الدرر السنية (1 / 127، 133) مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف وهي أنا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها. ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الاربعة. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة. ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. ثم إننا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي وكذا البغوي والبيضاوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم. وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصًا الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولًا وفروعًا وقواعد وسيرًا ونحوًا وصرفًا وجميع علوم الأمة. هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة وكتبهم عندنا من أعز الكتب إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعًا للأئمة الأربعة.   (1) قال الشيخ محمد رحمه الله: (وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا فنعمل بما وافق النص منها ومالا يوافق النص لا نعمل به) انتهى. من الدرر السنية (1 / 65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 [ ثمرات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وآثارها ] ثمرات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وآثارها إن كل دعوة من الدعوات وكل عمل من الأعمال إنما تعرف قيمته من ثمراته المترتبة عليه ومن أثره الذي يتركه، وإن دعوة الشيخ ولله الحمد لما كانت دعوة خالصة لله مترسمة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمدة علمها من الكتاب والسنة صار لها أطيب الأثر واستمر نفعها وبقي أثرها وأنتجت للأمة خيرات كثيرة منها: 1 - قيام دولة إسلامية هي دولة آل سعود الذين آزروا هذه الدعوة وجاهدوا في سبيلها، ولا تزال هذه الدولة ولله الحمد تحكم بشريعة الله وتخدم الحرمين الشريفين وتشد أزر المسلمين في كل مكان من بقاع العالم بعمارة المساجد والمراكز الإسلامية والتعليمية. 2 - تصحيح العقيدة الإسلامية مما علق بها من الشركيات والبدع والخرافات وإرجاعها إلى منبعها الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، وقد طهر كل البلاد التي صار لهذه الدعوة المباركة فيها نفوذ وسلطة من جميع مظاهر الشرك والبدع والخرافات. 3 - امتداد أثر هذه الدعوة المباركة خارج بلادها حتى انتفع بها من هدفه الحق في مختلف بلدان العالم الإسلامي في الشام ومصر والمغرب العربي وأفريقيا والسودان واليمن والعراق والهند والباكستان وأندونيسيا وغيرها. 4 - وجود حركة علمية واعية متحررة من التقليد الأعمى، فانتشر التعليم في المساجد في مختلف مناطق البلاد حتى تخرج فيه علماء أفذاذ في حياة الشيخ وبعدها قاموا بنشر هذه الدعوة ورعايتها إلى يومنا هذا، ثم أسست لهذا التعليم جامعات إسلامية تخرج الأفواج تلو الأفواج من مختلف العالم الإسلامي مسلحين بالعقيدة الصحيحة والفكر السليم ينتشرون في العالم الإسلامي وغيره للدعوة إلى الله. 5 - نشاط حركة التأليف والنشر، فقد قدم علماء هذه الدعوة للأمة الإسلامية رصيدًا من الكتب النافعة في الأصول والفروع ومن ذلك: 1 - . مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة ويتكون مجموعها من اثني عشر مجلدًا في الفقه والعقائد والتفسير والحديث والسيرة. 2 - . مجموع الفتاوى والرسائل لعلماء الدعوة ويتكون من أحد عشر مجلدًا. 3 - . كتب ألفها أئمة الدعوة في مختلف العصور للرد على خصوم الدعوة تبلغ العديد من المجلدات وهي مطبوعة ومتداولة. 4 - . نشر كتب السلف وتوزيعها على المسلمين في موسم الحج وغيره. 5 - . نشر كل مفيد من المؤلفات العصرية وتوزيعها مجانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 [ الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ ] الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ تعرضت دعوة الشيخ كغيرها من دعوات المصلحين للنقد من قبل خصومها وأثيرت حولها شبهات ربما تروج على من لم يعرف حقيقتها، وقد أثير كثير من هذه الشبهات في حياة الشيخ ورد عليها بنفسه، وأثير البعض الآخر أو بالأصح أعيدت إثارة نفس تلك الشبه بعد وفاته فرد عليها تلامذته وغيرهم من محققي علماء المسلمين الذين لا يروج عليهم البهرج والكذب ولا تأخذهم في الله لومة لائم ومن هذه الشبه: 1 - أنه يبطل كتب المذاهب الأربعة وأن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. 2 - أنه يدعي الاجتهاد وأنه خارج عن التقليد وأنه يقول اختلاف العلماء نقمة. 3 - أنه يحرم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبر الوالدين وغيرهما. 4 - أنه يكفر من حلف بغير الله. وقد أجاب الشيخ عن هذه بقوله: جوابي عن هذه المسائل أني أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] الآية بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرًا في النار فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] انتهى، انظر الدرر السنية (1 / 30 -31) . 5 - قالوا إنه ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يقول لو أن لي أمرًا هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يتكلم في الصالحين وينهى عن محبتهم. . . . وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: هذا كذب وبهتان افتراه عليَّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، انظر الدرر (1 / 52) . 6 - قالوا: إنه يكفر جميع الناس إلا من اتبعه وأن أنكحتهم غير صحيحة. . . . وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: يا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل وهل يقول هذا مسلم، إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا من مختل العقل فاقد الإدراك، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة، انظر الدرر (1 / 55) . 7 - قالوا إنه يكفر بالعموم ويوجب الهجرة إليه على من قدر على إظهار دينه. . . . وقد أجاب الشيخ على ذلك بقوله: كل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالها لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله ولم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل (1) سبحانك هذا بهتان عظيم. انظر الدرر (1 / 66) . 8 - قالوا إنه ينكر الشفاعة، فرد الشيخ على ذلك بقوله: ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه، هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين والائمة الأربعة أجمعين وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجة، والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله أو من إجماع الأمة والحق أحق أن يتبع، انتهى من الدرر السنية (1 / 46) . 9 - وأما اتهام الشيخ أنه يكفر بالعموم ويقاتل المسلمين، فقد أجاب عنه الشيخ بقوله: وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحدًا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرف فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه الرجال والنساء، انتهى من الدرر السنية (1 / 51) . وقال أيضًا لما بين بطلان الذي يفعله القبوريون: فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إلهي ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] انتهى من الدرر السنية (1 / 58) . وقال ابنه الشيخ عبد الله بن محمد مجملا هذه الشبه مع الرد عليها: وأما ما يكذب علينا سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع له منه وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل الله عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، ومن فروع ذلك أننا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركًا وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا، وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقًا لأهل البيت وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًا إذا ترافعوا إلينا، فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استَفْهَمنَا عنها من ذكر أولا (يعني علماء مكة) كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا ومن شاهد حالنا وحضر مجلسنا وتحقق ما عندنا علم قطعًا أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] فإنا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحدا بجميع أنواع العبادة، والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه الصلاة والسلام الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه وغمه كما جاء في الحديث عنه، ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته بل ومن كل مسلم فقد جاء في الحديث: (دعاء المسلم مستجاب لأخيه) الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليا بسؤال الاستغفار من اويس ففعلا. ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضا، ونسألها من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعا: (اللهم شفع نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة،،، اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى من الدرر السنية (1 / 127 -129) . هذا وقد انبرى كثير من العلماء بعد وفاة الشيخ رحمه الله للإجابة عن هذه الشبهات وألفوا في ذلك مؤلفات ضخمة من أشهرها: 1 - (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسب إليه تكفير أهل الإسلام) في مجلد وهو للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن من آل الشيخ رحمهم الله. 2 - (معارج القبول) ، للشيخ الحسين بن مهدي النعمي من علماء اليمن في مجلد. 3 - (غاية الأماني في الرد على النبهاني) للشيخ محمود شكري الألوسي من علماء العراق وهو في مجلدين. 4 - (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) للشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في مجلد، وغير ذلك من الكتب التي ألفت في الذب على دعوة الشيخ حتى من غير المسلمين. وهكذا يقيض الله سبحانه للحق أنصارا في كل زمان تقوم بهم حجة الله على خلقه، فلله الحمد والمنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.   (1) يعني لم يكفر المسلمين ويقاتلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17