الكتاب: خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة المؤلف: عبد الغني أحمد جبر مزهر الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 189 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة عبد الغني أحمد جبر مزهر الكتاب: خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة المؤلف: عبد الغني أحمد جبر مزهر الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 189 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. . . وبعد: فإن الخطابة إحدى وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي من أهم وسائل التربية والتوحيد والتأثير، لذا فقد كانت جزءا من مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله جل وعلا وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه، وأليم عقابه، ليقلعوا عما هم عليه من ضلال وفساد عقدي، وخلقي، واجتماعي. وما زالت الخطابة- أيضا- وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون، والعلماء، والدعاة، والقادة في كل العصور لتحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة. جاء في معجم كامبردج لتاريخ الأدب الأمريكي أن الرئيس " لنكولن " صاحب الشعبية الواسعة لم يفز بموقع الرئاسة في حزبه عام 1860م بسبب سياساته أو أعماله، وإنما بأسلوبه المؤثر في التخاطب والتعبير، وهكذا الحال في كل الحركات التغييرية، فإن الأقدر على قوة التعبير والخطاب هم الأقدر على القيادة (1) . وعلى رغم التأثير الكبير لوسائل الإعلام بأنواعها فإن من الباحثين من يذهب إلى أن الحديث المباشر بين الأشخاص، والمخاطبة المباشرة تؤدي إلى تغيير الآراء، والتأثير في الآخرين أكثر من الاستماع إلى الإذاعة، أو مشاهدة التلفاز، أو قراءة الجريدة، أو المجلة ونحو ذلك (2) .   (1) انظر: دليل التدريب (ص 65) . (2) انظر: الاتصال الجماهيري والمجتمع (ص 232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وكم من خطبة تناقل الناس عباراتها، واحتجوا بأفكارها، وتداولوها بينهم إعجابا واستحسانا بها، وكم من خطبة أحدثت تحولا في عادات الناس وتصوراتهم وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين. غير أنه بالمقابل ربما كان للخطبة آثار سيئة، وأضرار خطيرة على المخاطبين من تهييج أو تيئيس، أو تناقل أخبار من قبيل الشائعات، أو نشر بدعة، وطمس سنة، أو بث فتنة وفساد بين الناس. فإن المرء لا يكون خطيبا بمجرد صعوده المنبر، ومخاطبة الجموع، فالخطابة لها قواعدها، ومعالمها، وآدابها التي ينبغي أن يحرص عليها الخطيب حتى يكون ناجحا فاعلا مؤثرا، فلا بد أن يأخذ بحظ وافر من المران والممارسة، والتأهل والإعداد والتحضير، والعلم والثقافة المتنوعة. ولقد كان لعدد من خطباء العرب البارزين في الجاهلية دور كبير جلي في إخماد الفتنة بين القبائل أو إشعالها، وكان لهم أثر واضح في المناسبات الاجتماعية من حض على القتال، وإدراك الثأر، أو الدعوة إلى رفيع الشيم، ومعالي الأخلاق، أو في خطب الوفود أو النكاح، أو المفاخرات والمبارزات الكلامية، مما جعل القبيلة تعتز بخطيبها وتفاخر به القبائل الأخرى تفاخرها بشعرائها أو أشد من ذلك. وهكذا كانت الخطابة في العصور الإسلامية المتعاقبة، وقد جعل الإسلام أهمية بالغة، ومكانة عظيمة لخطبة الجمعة لما تختص به من خصائص، وتتميز به من مزايا تحتم على الخطيب أن يكون على مستوى هذه المكانة، وتلك الأهمية ليؤتي جهده أكله، ويثمر الثمرات المرجوة. إن خطبة الجمعة تتميز بمزايا، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى، حيث إنها تمثل شعيرة من شعائر الإسلام، وتتم في جو مهيب خاشع تتهيأ فيه النفوس للتلقي والاستماع، ويشعر المسلم فيه أنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 صلاة وطاعة لله جل وعلا، كما أنها تتميز بوجوب الإنصات إلى الخطيب. وعدم التشاغل عنه، مما يفردها عن سائر الخطب، والمحاضرات، والندوات التي لا ينطبق عليها الحكم الشرعي نفسه. وتتميز خطبة الجمعة أيضا بالاستمرارية والتكرار في كل أسبوع، ففي العام الواحد يستمع المصلي لاثنتين وخمسين خطبة، وهذا يمثل مساقا دراسيا متكاملا، فإذا أحسن إعداده كانت آثاره جليلة، وثمراته عظيمة. وتتميز خطبة الجمعة إلى جانب ذلك بتنوع الحاضرين إليها، وباختلاف مستوياتهم وطبقاتهم العلمية، والاجتماعية، فإن الخطيب في خطبة الجمعة يخاطب جميع فئات المجتمع، ولا يختص الحضور على فئة دون أخرى، وهذا التنوع يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية، فإن العامل وصاحب العمل، والطالب والمعلم، والموظف والرئيس كلهم يخاطبون في آن واحد، ويوضعون أمام مسؤولياتهم، فلا تخاطب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى. ومن هنا كانت الكتابة في موضوع خطبة الجمعة ودورها في الأمة على جانب كبير من الأهمية، وتدعو إليه الحاجة الملحة. لذا فقد رأيت الكتابة في هذا الموضوع الجليل خطره العظيم أثره، مشاركة في الارتقاء بمستوى الخطبة، وإحياء لدورها في الأمة، ونهوضا بمستوى الخطيب، وإبرازا لدوره في إيقاظ الهمم، وشحذ العزائم، في تبصير المسلمين بحقائق دينهم، وعقيدتهم، ومكايد عدوهم، ومما يجب عليهم، وما لا يسعهم جهله. وقد قسمت هذا الكتاب إلى أربعة فصول رئيسية: الفصل الأول: مقومات الخطبة المؤثرة، ويشتمل هذا القسم على المباحث التالية: 1 - قصر الخطبة وأثر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 2 - اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - اشتمالها على ضرب المثل من التاريخ، ومن واقع المخاطبين. 4 - اختيار موضوع الخطبة وأثر ذلك. 5 - اشتمالها على الأسلوب الحسن، وذلك يتمثل في الآتي: (أ) تجنب التخصيص في الخطاب غالبا وأثر ذلك. (ب) تجنب التجريح سواء للهيئات أم الجماعات أم الأشخاص. (ج) تجنب المبالغة والتهويل في الخطاب. (د) تجنب أسلوب التيئيس وما يولد الإحباط عند المخاطبين. 6 - اشتمال الخطبة على العظة، والحث على التقوى، وما يرقق القلوب ويقوي الإيمان واليقين في النفوس. الفصل الثاني: مقومات الخطيب المؤثر، وفيه المباحث الآتية: 1 - الإخلاص وصدق اللهجة وأثر ذلك. 2 - سيرة الخطيب وأخلاقه وأثر ذلك. 3 - علمه وثقافته. 4 - لغته وفصاحته. 5 - نبرة صوته وحركة يده. 6 - حسن مظهره الخارجي. 7 - تثبته من المعلومات، والأخبار، والأحكام التي يلقيها للناس. 8 - حسن عرضه وخطابه للناس. 9 - تجنبه للتقعر والتكلف، والتقليد في الكلام والحركة. 10 - إعداده للخطبة سواء أكان مرتجلا للخطبة أم لا. 11 - تقويمه لكل خطبة من خطبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الثالث: المخاطبون، وفيه المباحث التالية: 1 - مستواهم من حيث السن والعمل والعرف. 2 - أمراضهم الاجتماعية، وحسن معالجتها. 3 - أمراض القلوب وحسن معالجتها. وبناء الثقة بينهم وبين الخطيب بمخالطتهم وتحسس مشكلاتهم، ومشاركتهم في همومهم وتطلعاتهم، والتواضع لهم. ورصد انفعالاتهم بالخطبة، ومتابعة تقويم ذلك، وتلمس آثار الخطبة في سلوكهم وعاداتهم وعلاقاتهم المختلفة. الفصل الرابع: أثر الخطبة في تربية الأمة، وفيه مبحثان: 1 - خصائص خطبة الجمعة. 2 - بروز آثارها في الواقع. خاتمة: وتتضمن خلاصة الكتاب وبعض التوصيات والمقترحات. والله تعالى أسأل أن يجعل هذا الكتاب من العلم النافع لكاتبه، وقارئه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، مبرءا من كل شرك أو رياء، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم. وكتبه عبد الغني أحمد مزهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 [ الفصل الأول مقومات الخطبة المؤثرة ] [ المبحث الأولى قصر الخطبة وطولها ] الفصل الأول مقومات الخطبة المؤثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المبحث الأول قصر الخطبة وطولها إن الخطبة المؤثرة ينبغي أن تتصف بصفات، وتشتمل على مقومات، ومنها قصر الخطبة، غير أننا لا نستطيع أن نحكم على الخطبة بالجودة والتأثير لمجرد كونها قصيرة وحسب، أو نحكم عليها بالفشل لكونها طويلة فحسب، فإن قصر الخطبة وطولها أمر تحدده عوامل كثيرة، وتدعو إليه أسباب متنوعة، وربما وصفت الخطبة بأنها جامعة مؤثرة مستوفية لموضوعها، مع كونها قصيرة لم تتجاوز دقائق معدودة، وربما وصفت بذلك مع كونها طويلة تجاوزت الوقت المعتاد لمثلها، وإن من العوامل التي تتحكم في وقت الخطبة طولا وقصرا: - طبيعة الموضوع الذي يتناوله الخطيب، وأهميته بالنسبة للمخاطبين، وكونه مما يحتاج إلى البسط والإيضاح، أو يكفي فيه الاختصار والإيجاز. - ومن العوامل كذلك سعة المسجد أو ضيقه، وكثرة المصلين أو قلتهم، وكذلك ما يطرأ على الناس من أحوال عامة تؤدي إلى اضطراب نفوسهم، واشتغال أذهانهم وعقولهم، وما يستجد من أحداث لها آثار على عقيدة المسلمين، أو أخلاقهم أو أمنهم واستقرارهم. فالخطبة وقت النوازل والكوارث والأحداث الجسام تختلف عنها في الأحوال المعتادة، والخطبة في مسجد السوق تختلف عنها في مسجد الحي إذ ينبغي أن يعطي لهؤلاء من الوقت ما يناسبهم. والخطبة وقت الحرب والدعوة إلى الجهاد تختلف عنها وقت السلم، وهكذا فإن لظرف الزمان والمكان دورا واضحا في تحديد الحاجة إلى الطول، أو الحاجة إلى القصر في الخطبة، غير أننا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قصر الخطبة وطول الصلاة بجعله ذلك علامة على فقه الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 روى مسلم في صحيحه عن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل - وهو شقيق بن سلمة - خطبنا عمار رضي الله عنه فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست- أي: أطلت- فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة - أي: علامة- من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا» (1) . فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خصلتين عظيمتين إذا وجدتا في الخطيب تمكن من حسن الخطاب، وقوة التأثير، وهما: الفقه والعلم الشرعي الذي يمكنه من أداء الصلاة على وجهها قراءة، وخشوعا، وأحكاما، وأداء الخطبة على وجهها، ثم البيان والفصاحة التي تمكنه من جوده الخطاب، ورصانة الأسلوب، وسلامة التعبير، لتقع الخطبة موقعها من النفوس. إن مراعاة الأحوال المختلفة للمخاطبين، ثم القصد - أي: الاعتدال والتوسط - هو الأفضل بوجه عام، وذلك لأن الطول يفضي في الغالب إلى السآمة والملل بالنسبة للسامعين، وقد يؤخرهم عن بعض أعمالهم، ويشغلهم عن قضاء بعض حاجاتهم، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فضل ذلك بالصلاة التي هي أجل شأنا، وأعظم قدرا من الخطبة، فقال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة» (2) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف الرجل، فكأن معاذا تناول منه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " فتان، فتان، فتان " (ثلاث مرار) أو قال: "فاتنا، فاتنا، فاتنا" وأمره بسورتين من   (1) رواه مسلم (الجمعة- 6 / 153) . (2) رواه البخاري (الأذان، تخفيف الإمام- 702) ، ومسلم (الصلاة، أمر الأئمة بتخفيف الصلاة- 466) وهذا لفظه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أواسط المفصل.» (1) . وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: «اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى» (2) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء» (3) . ومع أمره صلى الله عليه وسلم لمعاذ بالقراءة بأواسط المفصل، إلا أنه كان يؤم الصحابة فيطيل في بعض الأحيان، ويسمع صراخ الصبي وهو يريد أن يطول في صلاته، فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه (4) . واختيار مسلك التوسط والاعتدال في الخطبة يمنع أن تكون الخطبة قصيرة قصرا مخلا بموضوعها، حائلا دون تحقيق الفائدة والثمرة المرجوة منها، ويمنع كذلك من طروء السآمة والملل على نفوس المصلين مع إعطاء الموضوع حقه في التفصيل والبيان. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «فإن خلفه الضعيف، والكبير، وذا الحاجة» إلى تنوع الحاضرين إلى الصلاة، واختلاف طاقتهم وقوتهم، ففيهم الشاب، وفيهم الشيخ الكبير، وفيهم المتفرغ من الشواغل، وفيهم العامل وذو الحاجة، فعلى الإمام أدن يراعي هذا التنوع والاختلاف في قدرات الناس. والحاضرون إلى صلاة الجمعة وخطبتها هم كذلك تتعدد مشاربهم وثقافاتهم فعلى الخطيب أن يتنبه لذلك ويعطيه حقه. عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم،   (1) رواه البخاري (الأذان- 701) بهذا اللفظ. (2) رواه مسلم (الصلاة- 465) . (3) رواه البخاري (الأذان- 703) ، وهذا لفظه، ومسلم (الصلاة- 467) . (4) رواه البخاري (الأذان- 707) ، ومسلم (الصلاة- 470) من حديث أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا» (1) . والقصد والاعتدال نهج إسلامي أصيل، حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها، بل جعله جزءا. من أجزاء النبوة. روى الترمذي من طريق عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» (2) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحدا منكم عمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» (3) . ومن المعلوم أن خطبة الجمعة هي غير المحاضرة، أو الندوة، أو الدرس الذي يتطلب البسط والشرح غالبا، والوقوف عند أهم العناصر والأفكار والاستعانة بكثير من التكرار الذي يساعد على تثبيت المعلومة عند السامعين، وتقريبها. وكلما كان الخطيب أوسع فقها، وأدق فهما، وأرحب ثقافة، وأملك لناصية البيان والفصاحة، كانت خطبته موجزة بليغة عظيمة الواقع على قلوب المخاطبين، ولا يخفى أنه قد تدعو الحاجة أحيانا إلى الإطالة في الخطبة، وذلك لأمور تعرض، أو أحداث تقع، فليس ثمة ما يمنع ذلك، وعلى الخطيب أن يكون لبقا، ذا فراسة في وجوه المصلين ومعرفة تعابيرها، فيراعي أحوالهم في   (1) رواه مسلم (الجمعة- 6 / 158) . (2) الترمذي (البر- 2010) وقال: حسن غريب، وأخرجه أحمد (1 / 296) ، وأبو داود (الأدب- 4776) من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس بلفظ: الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة. وقابوس فيه لين. (3) أخرجه البخاري (الرقاق- القصد والمداومة على العمل 6463) بهذا اللفظ ومسلم (صفات المنافقين- لن يدخل أحد الجنة بعمله 2816) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الخطبة والصلاة، بحيث لا يشق عليهم فيوقعهم في الضيق والحرج، وأن يعتذر لهم في لطف قبل أن يبتدئ الخطبة أو في نهايتها، وأنه ما لجأ إلى الإطالة إلا لخطورة الموضوع الذي يتناوله، والمهم أن قصر الخطبة وإطالة الصلاة هي الحالة الفضلى إذا تمكن الخطيب من الإتيان بمعاني الخطبة أو أفكارها ضمن ذلك، وإلا فالتوسط والقصد مع مراعاة أحوال المصلين والظروف العامة التي تحيط بهم. قال الشيخ عبد الله البسام: " إن قصر الخطبة، وإطالة الصلاة دليل على فقه الخطيب والإمام، فإنه استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة بألفاظ قليلة، وبوقفة قصيرة، أما تشقيق الكلام وتطويله فهو دليل على العي والعجز عن الإبانة، فخير الكلام ما قل ودل " (1) . والجمعة ليست مهرجانا للخطابة وإبراز القدرة على البيان والفصاحة، بل كلمات قليلة تشتمل على التذكرة، والعظة، والتبصرة بالواقع، وترقيق القلوب وزيادة الإيمان.   (1) توضيح الأحكام (2 / 333) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 [ المبحث الثاني اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ] [ المطلب الأول اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية ] المبحث الثاني اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المطلب الأول اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية مهما ملك الخطيب من أسباب البيان، وبلاغة الخطاب، ومهما كانت قوة عباراته وجزالة أسلوبه، فلن يصل إلى درجة تأثير القرآن في القلوب، وقرعه للعقول، وأين كلام البشر من كلام الله تعالى؟!! ولذا كان جديرا بالخطيب أن يضمن خطبته الآيات القرآنية التي تزين خطبته، وتجلي حجته، وتجعله ينطق بالحق، فإن الاستشهاد بالآية، وتلاوتها في الوقت المناسب والموضع المناسب، إقامة للحجة، وبيان وبرهان يأخذ بمجامع القلوب، ويشنف الأسماع، ويقرع العقول. {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71] قال ابن كثير: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71] أي: يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه (1) . وإن أظلم الظلمة من يعرض عن آيات الله تعالى بعد أن تتلى عليه، ويذكر بها فيولي مستكبرا كأن لم يسمعها، قال جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] (2) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " أي: لا أظلم ممن ذكره الله بآياته، وبينها له   (1) تفسير ابن كثير (4 / 66) . (2) السجدة: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، قال قتادة: " إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرر" (1) . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان يجعل خطبته أو جلها تلاوة سورة من القرآن لما يشتمل عليه من ابتداء الخلق والبعث، والحساب، والجنة، والنا ر، والترغيب والترهيب. أخرج مسلم في صحيحه عن عمرة بنت عبد الرحمن رحمها الله عن أخت لها كانت أكبر منها قالت: «أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة» . وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: «لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» . وعن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه: «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] » (2) . الزخرف-77. قال النووي رحمه الله في شرحه: " فيه القراءة في الخطبة، وهي مشروعة بلا خلاف، واختلفوا في وجوبها، والصحيح عندنا وجوبها، وأقلها آية " (3) . قال الشيخ عبد الله البسام: " وفيه مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وهي واجبة عند بعض العلماء، ومنهم الحنابلة، فلا بد من قراءة آية من كتاب الله، وفيه استحباب ترديد المواعظ لتذكير الناس في الخطبة، وأنفع   (1) تفسير القرآن العظيم (3 / 463) . (2) مسلم (الجمعة- 6 / 160- 162) . (3) شرح مسلم (6 / 160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ما يوعظ به العامة والعصاة هو ذكر الموت والبعث والجزاء " (1) . ومما ينبغي التنبيه له عند الاستشهاد بالآيات القرآنية في الخطبة ونحوها ما يلي: 1 - الحذر من الخطأ في تلاوة الآية، فإن هذا مما يعيب الخطيب، ويفسد عليه جمال أفكاره، وأهمية موضوعه، ويصرف السامع عن التأثر بالخطبة إلى التصحيح والنقد، وتتبع الأخطاء، فينبغي على الخطيب حفظ الآيات التي يستشهد بها في الخطبة حفظا دقيقا وسليما، فإن لم يتيسر له ذلك فلتكن مكتوبة يرجع إليها عند الحاجة، حتى ولو كان مرتجلا لخطبته ارتجالا. 2 - الحذر من قراءة الآية بقراءة غير معروفة ولا مشهورة لدى السامعين، وإن كانت قراءة سبعية، فهذا من شأنه أن يشوش أذهان السامعين، ويصرفهم عن تدبر المعنى إلى الوقوف عند اللفظ، ومن كان محدثا للناس فليحدثهم بما يعرفون، وليترك ما ينكرون. قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله " (2) . فإن أحب الخطيب أن يلفت النظر إلى معنى يكون في قراءة دون أخرى فلينبه إلى أن ذلك في قراءة " فلان " وهي قراءة سبعية. 3 - الحذر من الاستشهاد بالآية في غير موضعها، وإنزالها على غير واقعها، والتكلف في حمل الآية على حادثة معينة، أو على جماعة معينة، أو واقع معين مما يعد من التحريف، وتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، وعلى ذلك فلا بد من الاطلاع على تفسير الآيات من كتب التفسير المعتمدة، فلا أقل من أن يطلع على تفسير واحد من هذه التفاسير حتى يكون على علم   (1) توضيح الأحكام (2 / 334) . (2) رواه البخاري (العلم- / 1 272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بفهم السلف للآيات وتأويلها، مما يقيه من التأويلات الباطلة، والأقوال الواهية في ذلك، وليحذر من الاعتماد على تفاسير المبتدعين، من الباطنية والصوفية، والرافضة ونحوهم. 4 - الحذر من إقحام الآيات المتشابهة أو المحتملة المعاني في مواطن الخلاف بين المذاهب، والجماعات الإسلامية، وجعلها نصا قاطعا في الرد على بعضها، أو نصا له فيما يذهب إليه من رأي، وإنما حسبه في ذلك أن يبرز دلالة الآية القرآنية كما فهمها سلف الأمة، وليكن دور الخطبة هو جمع الأمة وتأليف القلوب على منهج علماء الأمة وسلفها، لا في تفتيت صفها، وتمزيق وحدتها، وهذا يتطلب سعة صدر وحكمة. 5 - الحذر من إقحام الآيات في مجال المخترعات الحديثة أو الصناعات والوسائل العلمية المستجدة ما لم يكن ذلك نصا أو معنى راجحا مرضيا من العلماء الأخيار، فإن ولوج ذلك الباب لا يخلو من التكلف والتعسف في لي النصوص وتحميلها ما لا تحتمل من المعاني، وهذا باب يستهوي كثيرا من الخطباء رغبة في التميز، وإعجاب الناس بسعة علمه، وثقافته، ودقة نظره، واستنباطه للطائف المعرفة، وهو أمر محفوف بالمخاطر، ربما فتح الباب للتأويلات الفاسدة، والتجرؤ على الخوض في أمور من العلم لا يحسنها. 6 - الحذر أيضا من التكلف في تطويع الآيات للمناسبات المختلفة سواء أكانت مناسبات عامة أو خاصة. قال الأستاذ نذير مكتبي: " إن من أقبح ما يقع فيه كثير من الوعاظ والخطباء إساءة قراءة النص القرآني، وعدم الاهتمام بأحكام التجويد وآداب الترتيل، فنجد أحدهم يتلو الآية أو الآيتين كأي كلام آخر غير القرآن، فلا يبالي بأي خطأ يعتري قراءته، إن رفع أو خفض أو غير أو بدل، أو أخرج الحرف من غير مخرجه، ولا ضير على الخطيب إذا لم يستوثق من متانة حفظه للشاهد القرآني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أن يكتبه على ورقة، ويقرؤه منها على الناس. . . وليس ثمة عيب في الخطبة إذا لم يستظهر الخطيب الآيات التي يوردها في خطبته. إذا قرأ الخطيب نصا قرآنيا، وكان فيه كلمة أو أكثر خفي معناها، فمن المستحسن بالخطيب أن يفسر معاني تلك الكلمات بأسلوب حكيم لا يخرج النص عن كونه شاهدا، حتى لا يبقى السامع في غموض عن إدراك المعنى المراد من السياق (1) . إن كتاب الله تعالى هو الشفاء، وهو الدواء الناجع لكل أمراض الأمة، وعللها، ولكن الدواء إذا وقع في يد متطبب لا يحسن الطب فإنه ربما كان ضره أكبر من نفعه، ومن هنا فإن الفرق الضالة والمبتدعة ترتكز في مناهجها ومسالكها المبتدعة على التأويل الفاسد لكلام الله سبحانه وتعالى. [ المطلب الثاني اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية ] المطلب الثاني اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية لا يقل الاستشهاد بالحديث النبوي أهمية عن الاستشهاد بالقرآن، فإن السنة شارحة للكتاب العزيز، مفصلة ومبينة لمجمله، مخصصة لعامه، ولا يستغني الخطيب عن دعم رأيه، وتقوية حجته بحديث النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكن عليه أن يراعي الأمور التالية عند الاستشهاد بالحديث النبوي: 1 - تجنب ذكر الأحاديث الموضوعة، والواهية، فإنه لا خير فيها، ولا نور عليها، بل إن ذكرها وحملها وتبليغها إلى الناس له دور خطير في نشر العقائد الفاسدة، والبدع والضلالات، لا سيما وأن العامة لا تمحيص ولا تثبت لديهم، فسرعان ما تنتشر مثل هذه الأمور فيما بينها لتعلقها بالغرائب، مع الاستهانة بما يترتب عليها من مفاسد. ولا يعفى الخطيب من التبعة أن يكون حسن النية سليم القصد، هدفه التأثير في القلوب، والترغيب في الإصلاح فإن الغاية المشروعة لا تسوغ الوسيلة   (1) خصائص الخطبة والخطيب (ص 62- 63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المحرمة، وقد وقع قوم من جهلة العباد والمتنسكة في هذه الخطيئة حيث زعموا أنهم يكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليه، ويكذبون للإصلاح لا للإفساد، ويكذبون حسبة للخير كما فعل نوح بن أبي مريم، وهو الذي وضع الأحاديث في فضائل القرآن سورة سورة (1) . قال النووي رحمه الله في التقريب: " والواضعون أقسام: أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة ". قال السيوطي رحمه الله: " أي احتسابا للأجر عند الله تعالى في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونا إليهم، لما نسب إليهم من الزهد والصلاح "، ولهذا قال يحيى القطان (198هـ) : " ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير ". ومن أمثلة ما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم (173هـ) " من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة " (2) . 2 - تجنب الأحاديث الضعيفة؛ لأن في الصحيح غنية عن الضعيف، ولا يخفى ما في نشر الأحاديث الضعيفة من آثار سيئة على الأمة في عقيدتها وفي سلوكها، فكم من حديث ضعيف أو واه، تناقله الناس محتجين به اعتمادا على إيراد الخطيب له، وكم من عادة تشبث بها الناس كان مستندها حديثا ضعيفا. إن الخطب إذا لم يكن من أهل العلم فعليه أن يرجع إلى كتب الحديث التي   (1) انظر تدريب الراوي (1 / 281- 282) . (2) تدريب الراوي (1 / 281- 282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 تقتصر على الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة التي تكون الأحاديث فيها مخرجة تخريجا علميا. 3 - تجنب التحريف في المعنى والتكلف في حمل الحديث على غير ما يحتمله معناه لتقوية رأي، أو مذهب، أو جماعة، أو نصرة فئة على فئة، فإن بعض الخطباء يبالغ في مثل هذا فيشعر السامعين أن الحديث إنما ورد في بيان قوة هذا الرأي، أو في بيان فساد تلك الجماعة بعينها. قال ابن القيم رحمه الله في إيضاح هذا المعنى: " أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدل عنه من الضلال، والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع في محنة الدين وأهله. وهل أوقع القدرية، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والجهمية، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن بعدهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه، ولا يرفع هؤلاء به رأسا " (1) . ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المجال، الحذر من التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب والمواعظ دون بيان لحالها، وعدم مراعاة للضوابط والشروط التي وضعها العلماء لرواية الضعيف في فضائل الأعمال، وكذلك ما يكثر لدى بعض الخطباء من إيراد الحديث الواهي مع   (1) الروح (ص 113- 114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تصحيح معناه، فيقولون حديث ضعيف لكن معناه صحيح، وربما كان الحديث ضعيفا جدا أو موضوعا، وهذا تساهل ومجازفة ينبغي الحذر منها، وعدم التهاون فيها. فإن هذا يفتح باب التساهل في رواية الأحاديث الواهية، والموضوعة، وتناقلها، وتداولها بين العامة، مع نوع من التأييد لها بحجة صحة معناها، وليعلم الخطيب أن كثيرا من الناس ينقل عنه، يصحح ما صحح ويضعف ما ضعف، ويحتج بما أورد، وإن هذا العلم دين، ثم ليحذر من التساهل في ذكر المنامات والرؤى والقصص الواقعية، أو القصص التي لم تقع في زماننا، والحكايات والمواقف المختلفة، فلا يذكرها حتى يتفحصها ويقلبها ويمحصها، ويدرس الآثار التي يمكن أن تنعكس على الناس من جرائها في اعتقادهم، وتصوراتهم وأخلاقهم، ولا يكن همه لفت أنظار الناس، ونيل إعجابهم بهذا الإغراب مهما كانت نتائجه وآثاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 [ المبحث الثالث اشتمال الخطبة على الأمثال والأشعار والقصص ] [ المطلب الأول اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال ] المبحث الثالث اشتمال الخطبة على الأمثال والأشعار والقصص المطلب الأول اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال المراد بضرب المثل هنا سوق الصور، والقصص، والوقائع المتشابهة، ليستدل بالحاضر على الغائب، وبالمحسوس على غير المحسوس، أو بالمحسوس من الصور الوقائع على نظائرها وأشباهها، والمقصود من ضرب المثل تقريب الأمر للمخاطب، وترسيخه في ذهنه لتحصل العبرة والعظة من ذلك (1) . ولذا نجد أن القرآن الكريم أكثر من ضرب الأمثال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] (2) . وقال جل وعلا في تمثيل الحق والباطل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] (3) . وضرب الله تعالى المثل بالعنكبوت، والبعوضة، والذباب، وغير ذلك، وكل أمثال القرآن عظيمة مؤثرة، تأخذ بالقلوب، وتهز النفوس، وتجسد المعاني في صور ماثلة للعيان كأن المرء يحسها ويلمسها بيده. والخطيب لا يستغني في خطبته عن ضرب الأمثال لما فيها من قوة التصوير والتأثير، ولذلك كانت الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت فيها بكناية من غير تصريح، فيجتمع لها   (1) وفوائد المثل كثيرة منها نزهة البال وترويح الخاطر، ومنها استقصاء الحكم (جواهر الأدب / 1260) . (2) الروم: 58. (3) الرعد: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بذلك ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه (1) . وليحذر الخطيب في هذا من الإكثار من الأمثال الشعبية، أو ذكر الأمثال الساقطة والمبتذلة، وما يشتمل على سوء أدب، أو إيذاء للأسماع، فإن ذلك سيئ الأثر على النفوس، وربما أدى إلى تثبيت وتأكيد مفاهيم اجتماعية خاطئة، أو مخالفة للشرع، ويكون الخطيب بذكرها أحد المروجين والناشرين لها، ولذلك فإن العلماء ذكروا لضرب المثل شروطا أربعة: الأول: أن تكون روايته خالية من كل تعقيد ليفضي المقصود منه إلى ذهن السامع. الثاني: أن لا يكون مسهبا مملا. الثالث: أن يهيج السامع بطلاوته، ويفكه فكره بجزل كلامه، وابتكار معانيه، ويضبط عقله في فهم الرواية المختلفة، وفض مشكلها. الرابع: أن يورد بصورة محتملة أي: مقبولة سواء من جهة اللفظ أم من جهة المعنى (2) . ولا ريب أن من أكثر الأمثال تأثيرا في نفوس. السامعين ما كان منتزعا من واقعهم لصيقا بعادتهم، سائرا في حياتهم معبرا عن مشكلاتهم. [ المطلب الثاني الاستشهاد بالشعر ] المطلب الثاني الاستشهاد بالشعر ومما يزين الخطبة، ويزيد من التأثر بها لدى السامع استشهاد الخطيب بالشعر، إن الشعر في موضعه يشد السامع ويلهب عاطفته، ويحرك نفسه، وفي الحديث الصحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة» (3) .   (1) شرح كتاب الأمثال لأبي عبيدة (ص 3) . (2) أنظر: جواهر الأدب للهاشمي (1 / 260) . (3) أخرجه البخاري (الأدب- ما يجوز من الشعر 6145) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ومن أول أغراض الشعر أن يكون في المواعظ، والأمثال، والآداب، والأخلاق، والحث على الجهاد أو الإنفاق، أو خلال الخير المتنوعة، وكذلك ما يرقق القلوب من شعر الزهد، والقناعة، والتذكير بالآخرة والجزاء. ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم استشهدوا بالشعر في مواطن مختلفة، في موطن العظة، وفي مقام الجهاد، فقد تمثلت عائشة رضي الله عنها بالشعر عند مرض أبيها " وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق عباد بن عباد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص، قال: إن عائشة رضي الله عنها قالت: حضرت أبي رضي الله عنه وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته فتمثلت ببيت من الشعر: من لا يزال دمعه مقنعا ... فإنه لا بد مرة مدفوق قالت: فرفع رأسه فقال: يا بنية ليس كذلك، ولكن كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وأخرج من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن البهي قال: لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] (1) . وتمثلت ببيتي متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا عند وفاة أخيها عبد الرحمن: وكنا كندماني جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول فراق لم نبت ليلة معا وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا   (1) تفسير ابن كثير (4 / 225) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 استراب الخبر تمثل بعجز بيت طرفة " ويأتيك بالأخبار من لم تزود » (1) وثبت أنه تمثل صلى الله عليه وسلم بالشعر في مناسبات أخرى، كحفر الخندق (2) ويوم حنين (3) أما خطباء الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم مشاهير الخطباء فإن تمثلهم واستشهادهم بالشعر في خطبهم كثير يصعب حصره، قال ابن حجر عند الكلام على إنشاد النبي صلى الله عليه وسلم الشعر يوم الخندق: وفي الحديث جواز قول الشعر وأنواعه. خصوصا الرجز في الحرب. . . لما فيه من تحريك الهمم، وتشجيع النفوس، وتحريكها على معالجه الأمور الصعبة (4) . [ المطلب الثالث الاستشهاد بالقصة في الخطبة ] المطلب الثالث الاستشهاد بالقصة في الخطبة القصة القرآنية: تعددت القصص في القرآنية الكريم، وتعددت أغراضها وفوائدها، إذ فيها تثبيت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وعبرة لأولي الألباب، أو نجد القرآن يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يتخذ القصة مسلكا من مسالك نشر دعوته، ووسيلة يستخدمها في توجيه الناس، فيأمره بمخاطبة الناس عبر قص قصص الأولين   (1) أخرجه أحمد (6 / 156) (6 / 31) والترمذي (2848) وقال: حسن صحيح من حديث المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قال: قيل لها هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت: كان يتمثل بشعر طرفة، ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود، وروى عن البخاري (مناقب الأنصار- 3906) في خبر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة. (2) رواه البخاري (المغازي- 4098) . (3) رواه البخاري (المغازي- 4315) . (4) فتح الباري (7 / 247) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عليهم، حتى يكون لهم في آثار السابقين عبرة وهدى وموعظة حسنة، فقال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] (1) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (2) . فأذن صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بني إسرائيل، ومن ذلك إيراد قصصهم وأخبارهم لما فيها من العبرة والعظة، على أن يخلو ذلك من الخرافات والأساطير، والإسرائيليات الموغلة في الأوهام المخالفة لشريعة الإسلام الواضحة الكذب، ولا يكون ذلك أيضا مجالا لتصديقهم أو تكذيبهم، أو الإعجاب بهم، إنما القصد استخلاص العبرة. قال ابن كثير رحمه الله: " وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل " (3) . ومما يؤسف له حقا أن المنابر تكاد تخلو من التذكير بما قصه القرآن الكريم من القصص، مع عظم العبرة، وقوة الموعظة فيها، فإن الخطيب البارع يستطيع أن ينزلها على واقع المخاطبين مع الإيجاز والتوجيه لتغدو أحداثها كأنما هي واقعة بينهم، ماثلة أمام أعينهم، ومهما كانت القصة طويلة، فإنه يستطيع أن يخلص إلى زبدتها وخلاصتها بأسلوب بليغ وجيز، وبأداء فصيح لا يتجاوز في زمنه دقائق معدودة، بل ربما رأى أن الأفضل توزيعها على أكثر من خطبة، مع ربط بواقع الناس والتحذير من نقمة الله تعالى وأليم عقابه، وشدة بطشه، وبيان سنته في المكذبين والمعرضين الغافلين، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر: 43]   (1) خصائص الخطبة والخطيب (ص 82) . (2) رواه البخاري (الأنبياء- 3461) . (3) تفسير ابن كثير (4 / 222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إن الخطيب البليغ، والداعية الموفق لا ينبغي له أن يغفل عن هذه الذخيرة الجليلة من بيان ما يذكر به، فإن التذكير بالقصة تذكير بالقرآن، وقوة بيانه، وبلاغة عرضه للأحداث، وعواقب الأعمال دون أدنى شائبة من ضعف الحوار أو طروء الخيال، أو عدم مطابقة الواقع. قال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] إن من خصائص القصة القرآنية أنها صالحة للاعتبار والاستشهاد في كل زمان، ولا عجب فهي جزء من هذا القرآن الذي هو موعظة دائمة، ورسالة خالدة لا تنفد خزائنه، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد. نموذج: فخذ مثلا من القصة القرآنية قصة "أصحاب الجنة" الذين غرهم المال، وغيرهم الجشع والطمع، فمنعوا حق المساكين الذين كان والدهم يوصله إليهم، فلقد كان للمساكين نصيب من العطاء عندما كان صاحب تلك الجنة حيا، ثم لما مات تآمر أبناؤه فيما بينهم واستكثروا ما ينقطع لهؤلاء المساكين من مالهم، فاتفقوا على أن يقطعوا الثمر في وقت مبكر من النهار حيث يأمنون تعرض المساكين لهم في هذا الوقت الباكر. وأقسموا اليمين على ذلك دون استثناء، فباتوا على كيد وغدوا على حرد، وإذا بطائف من الله تعالى يطوف عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلا يبقي منها باقية، فكأنه سبقهم إليها من صرمها وأتى على ثمارها كلها. فانظر كيف قوبل مكرهم وشدة تعميتهم وتبييتهم لسوء النية بهذا الانتقام الإلهي السريع {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] ثم تخلص القصة إلى العبرة العظيمة: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ألا ترى أن القصة في أحداثها وعبرتها تصلح أن تكون تذكارا صارخا في كل جيل لأولئك الذين بطروا نعمة الله، وبدلوها جحودا وكنودا، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ووسع عليهم من فضله، وبسط لهم الرزق، فأمسكت أيديهم، وشحت قلوبهم، ومنعوا حق الله عباد الله، وأخفوا الشر ومنعوا الخير. إنه نموذج من الكنود البشري المتكرر، تصلح له هذه التذكرة القرآنية في كل عصر، وهكذا كل القصص القرآني، فإنه يصلح أن يكون عظة بليغة وتذكرة حالة إذا أحسن ربطه بالواقع، بأسلوب موجز، وعرض محكم. واقع الآخرين: ومما يحسن الاستشهاد به في الخطبة، وتنويه الخطيب به بين الحين والحين ما يزخر به واقع غير المسلمين من تناقضات، وما يعصف به من فساد وموبقات، وآثار مدمرة في المجالات الصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، تتمثل في الأمراض الجنسية الفتاكة، وجرائم القتل، والاغتصاب، والسرقة، وترويج المخدرات، وتفكك الأسرة، والروابط الاجتماعية، وغير ذلك مما يصلح أن تكون كل جزئية منه مدارا لمضمون خطبة، ومحورا للتوجيه والتذكير، واستخلاص العبر، ولكن ليحذر الخطيب في هذا المجال من التهويل والمبالغة، والإفراط في وصف تلك المجتمعات، والاعتماد في استقاء المعلومات، والإحصائيات على مصادر غير موثوق بها، أو جهات غير معتمدة. وليكن قصده بيان عظمة الإسلام ونعمته، وسلامة المجتمع الإسلامي من أمراض الانحراف والشذوذ، والإيدز، وغير ذلك مما تعاني منه المجتمعات الكافرة والخارجة على دين الله تعالى المتمردة على شرائعه، وليست مهمة الخطبة إيصال المعلومات الجديدة للناس، بقدر ما هي تفعيل للسامعين، وتحريك لنفوسهم ثم الانتقال بهم من حال التأثر إلى التغير والإصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الاستشهاد بالقصة: لا يخفى أن اشتمال الخطبة على ضرب المثل، وحكاية القصة من الواقع الاجتماعي للمخاطبين، له أثر كبير في شد انتباههم، وتحريك عاطفتهم، ولكن لا يتأتى للخطيب هذا الصيد المؤثر إلا بصلته بالمجتمع والناس بفئاتهم المختلفة، ولا يكفي أن يجلس في بيته، وينزوي في مسجده ينتظر أن يأتوه بأسئلتهم وقضاياهم الاجتماعية المتعددة، وبقدر صلة الخطيب الاجتماعية، وعلاقاته المتنوعة يحصل لديه العديد من الحوادث الواقعية، والقصص التي تصلح أن يضمنها بعض خطبه لما فيها من الفوائد، والعبر، وعوامل التأثير على الناس، فإن هذه القصص والحوادث تتميز بما يلي: 1 - أنها من واقع الناس، فليست خيالية، ولا هي من نسج الأوهام والخرافات، وبالتالي فإن ما فيه عبرة وعظة من هذه القصص الوقائع، يصلح للاقتداء والتطبيق، فلا تصف في جملة المثاليات التي يصعب تحقيقها، فإن بعض الناس إذا دعي إلى بعض القيم، والأخلاق الإسلامية، تذرع بأنها مثاليات لا تتحقق في الواقع، أو أنه لا يمكن فعلها في عصرنا، فذكر الخطيب لشيء من هذه القصص والأحداث والوقائع يزيل التصور الخاطئ في المجال العملي التطبيقي. 2 - أن ذكر مثل هذه القصص الوقائع، وتلمس الحلول للمشكلات يوجد حركة اجتماعيه، ومحاورات، وربما ألفت لجان لمتابعة هذه المشكلات ومعالجتها، إذ يتكون لدى الكثير من المصلحين الحماس لمناقشة هذه القضايا بعد أن كانوا يتهيبون ذلك. 3 - إيجاد قدر كبير من الغيرة، والتفاعل، والمشاعر الجماعية، والشجاعة الأدبية، عند كثير من الناس، مما يوقظ المشاعر، والتفكير الجماعي. فإن من الظواهر المرضية السقيمة التي تفشت في كثير من المجتمعات أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يعيش الإنسان لنفسه وحسب، لا يبالي بمشكلات الآخرين، بل لا يبالي لمشكلات جيرانه، وإخوانه، والأقربين منه، وربما اعتقد أن الأمر لا يعنيه، وتركه من حسن إسلامه، وبذلك ضاقت مساحة الإصلاح في المجتمع وتقلصت وظيفة الأمر بالمعروف والتناصح والتعاون على البر والتقوى، واتسعت مساحة الصمت، وعدم إنكار المنكر، والتهيب من المناصحة والتذكير. غير أن الخطيب عندما يتعرض لذكر مثل هذه القصص، والأحداث، والوقائع ينبغي أن يتنبه إلى أمور مهمة حتى لا يكون لذلك آثار سيئه، وانعكاسات ضارة تفسد بدل أن تصلح، ومن هذه الأمور: أ- التثبت الشديد، والتوثق الأكيد من وقوع القصة أو الحادثة، ولا يكفي أن يسمعها من بعض المصادر أو من بعض الأشخاص الذين لا يعرف مدى ضبطهم وإتقانهم، وحرصهم على التثبت من الأخبار، فإن مخالفة بعض هذه الأخبار والحوادث للواقع، أو مجانبة بعض تفصيلاتها للحقيقة من شأنه أن يزلزل ثقة الناس بأخباره ونقوله، مما ينعكس على خطبه، ودروسه، ومواعظه. إن التثبت من النقل والأخبار منهج إسلامي أصيل يجب أن يراعيه المسلم في علاقاته المختلفة، وعلى الأخص الخطباء، والدعاة، والوعاظ، لأن دائرة النشر لديهم أوسع من غيرهم، والجمهور المتلقي منهم أكبر من غيرهم. إن الخطيب، أو الداعية ليس " قرص أسطوانة " أو " شريطا " يسجل عليه الناس شائعاتهم، ومقولاتهم، وقصصهم كيف كانت، لتعميمها من خلاله على الناس فلا يصح أن يقبل الخبر على علاته، ولا يقبله من كل من دب ودرج، فيجمع في كلامه بين الأروى والنعام، بل يجب عليه أن يتحرى فلا يقبل الخبر إلا من الثقة، الضابط المأمون، والدليل لهذا الأصل وهذا المنهج الإسلامي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] قال ابن جرير رحمه القه: قول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أمهلوا حتى تعرفوا صحته لا تعجلوا بقوله، وكذلك معنى فتثبتوا (1) . وقال أبو حيان رحمه الله: أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم (2) . قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون الحاكم قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل من اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال (3) . وواضح من كلام العلماء أن الراوي لا يحذر من خبره لفسقه فقط، بل إن الأمر يقتضي ذلك أيضا في حال كثرة الخطأ، وكثرة الوهم، وعدم الضبط، لذلك قد يوصف الثقة عند المحدثين بالوهم، وإنما خص الفاسق بالذكر لأن خبره قد يكون أشد عماء وأعظم خطرا من غيره، والحذر لا يعني تمدد أثر الشك ليصبح هو الأصل في كل خبر، ويصبح التشكيك في كل مخبر هو الأصل. " ومدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق، فأما الصالح فيؤخذ بخبره، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره، أما الشك المطلق في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة (4) . ب- تنقية هذه القصص الوقائع وتمحيصها، ليصل إلى ما يصلح منها لأن   (1) جامع البيان في تأويل القرآن (1 / 1383) . (2) البحر المحيط (8 / 109) . (3) تفسير القرآن العظيم (4 / 209) . (4) في ظلال القرآن (6 / 1 334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يذكره في الخطبة لاشتماله على العبرة والعظة، ولكونه مناسبا للوسط الذي يعيش فيه المخاطبون، ولا تنبو عنه أسماعهم، أو تمجه عقولهم. ج- الحذر من التصريح بذكر أشخاص القصة، أو بعضهم، أو مكانها، أو بلدها إذا كان ذلك يؤذي بعض المخاطبين بل يحكيها على وجه التعميم، لأن المقصود هو التوجيه لا التجريح، والموعظة لا التسلية، وربما لا يصلح حتى التعريض في بعض الأحيان، كأن تقع القصة في قرية، أو بلدة من البلدات الصغيرة، فإن التعريض حينئذ يكون كالتصريح، لأن القصة معلومة لدى الجميع، أما في مجال الخير فلا بأس من ذكر الأشخاص أحيانا مع مراعاة أدب المدح في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [ المبحث الرابع تحديد موضوع الخطبة وإعدادها ] [ المطلب الأول تحديد الموضوع ] المبحث الرابع تحديد موضوع الخطبة وإعدادها إن من مهام الخطيب الجليلة، ومسؤولياته الجسيمة، أن يحسن اختيار موضوع الخطبة، فلا تكون تكرارا لخطب سابقة، ولا تكون بعيدة في معالجتها، غريبة في مضمونها، عقيمة عن الفائدة، خالية عن الموعظة. إن أفضل الخطب أصدقها لهجة، وأنفعها موضوعا، وأسلسها أسلوبا، يستطيع الخطيب من خلالها أن يوصل فكرته للناس بأوضح عبارة، ومن أقصر طريق. وحتى تستكمل الخطبة عناصر التأثير، ومقومات النجاح لا بد من مراعاة الأمور التالية: المطلب الأول تحديد الموضوع ينبغي أن يكون موضوع الخطبة واضحا لدى الخطيب كل الوضوح حتى يتسنى الإعداد المسبق له، ومما لا يخفى على الخطيب أن موضوع الخطب يتغير من آن لآخر، ومن وسط لآخر، ومن مناسبة لأخرى، فعليه أن يراعي هذه الأمور حتى لا يكون كلامه في " الفائت "، أو خطبته مكررة وموضوعه مقتولا قد فرغ منه عشرات الخطباء. وعلى الخطيب عند اختياره الموضوع أن يضع نصب عينيه أمورا ثلاثة أساسية: (1) . 1 - الجمهور المستمع، وليحدث الناس بما يعرفونه، وما لا يصطدم بعقولهم، وليراع مستواهم الثقافي والاجتماعي، ولا يهمل التفاوت في المستويات بين الناس، وعليه أن يراعي هذا التفاوت لكي يختار الأسلوب المناسب للوسط الذي يخاطبه، والموضوع المناسب لذلك. 2 - الوقت: فعليه أن يراعي الوقت المناسب لجمهوره، المناسب لموضوعه   (1) انظر: خصائص الخطبة والخطيب (ص 27- 28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حتى يتم له إكمال الموضوع، وعدم إملال الجمهور المخاطب. 3 - المناسبة: فالمناسبة لها أثر كبير في تحديد المنطلق الرئيس لموضوع الخطبة، لذا فلا يصح من الخطيب أن يغفل شأن المناسبة عند تحديد موضوع خطبته، وليعلم أن المناسبات متغيرة، وليحذر من الاستمرار في المناسبات الثابتة سنويا أو شهريا على الخطب المكتوبة لكل مناسبة، فإن هذه الخطب وإن استوفت الكلام على المناسبة لكنها أغفلت ربطها بالواقع الحالي الذي يعيشه المخاطبون، والذي يهمهم بالدرجة الأولى معالجته. لذا يجب مراعاة ما يلي: - أ- تحديد موضوع الخطبة: إن تحديد موضوع الخطبة يجعل الخطيب واثقا مما سيقول، واعيا لما سيقول محددا الأسلوب المطرح والخطاب الذي ينبغي أن يختاره لذلك، وعندما يأتي الخطيب للمسجد يجب أن يكون مستحضرا لأهمية الموضوع وأثره الكبير في تلمس وحاجة الأمة لطرح مثله من الموضوعات حتى يعطيه ما يستوجب من الحماسة والتأثر، وإن هذه القناعة بأهميته تهبه القدر الكافي من الشجاعة في مناقشته، وحرارة التفاعل معه، ونقله بهذه القوة وهذه الحرارة إلى المخاطبين، وليكن ملما بجوانب الموضوع، مطلعا على مشكلاته، مهيئا للأسئلة التي قد تطرح حوله، لئلا يفاجأ ببعض الشبهات فيضيق صدره ولا ينطلق لسانه. ب- تحديد الهدف: لا بد للخطيب أن يقصد هدفا معينا محددا بالذات من خطبته، وهذا يجعله لا يصعد المنبر بصورة تلقائية رتيبة ليقول ما يخطر على باله، وقد يكون له هدف قريب "مرحلي " وهدف بعيد " نهائي ". وخطبة الجمعة هدفها النهائي الموعظة، وتربية الأمة، واستئنافها لحياة العزة والكرامة في ظل الإسلام عقيدة وشريعة، فلا يجوز أن يغيب هذا عن بال الخطيب، ولا يصح الإخلال به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وأما الهدف القريب فقد يكون بإيصال فكرة محددة، كفكرة أن العبادة حق لله تعالى وحده على جميع العباد، أو أن التشريع تحليلا وتحريما حق الله تعالى وحده وأن له تعالى حق الطاعة فلا طاعة لغيره، كائنا من كان في معصيته سبحانه. وقد تكون الفكرة في تجلية مفهوم إسلامي اختلط عند كثير من الناس، أو في توضيح حكم شرعي تهاون فيه كثير من الناس إلى غير ذلك. وليكن الخطيب حكيما في ترتيب الأمور، إما بحسب أهميتها، وإما بحسب الظرف المناسب للبدء ببعضها دون بعض، ولا ضير عليه في التقديم والتأخير إذا كان ذلك ضمن خطة شاملة، وتسلسل في إيصال هذه الأفكار وتوضيحها للناس واحدة بعد الأخرى. وإذا كان ذلك ضمن الهدف النهائي الذي يخطط ويعمل من أجل الوصول إليه، وعلى ضوء تحديد الهدف، فإن الخطيب يستطيع أن يقوم أداءه بين حين وآخر، ويحكم بالتالي على مدى نجاحه في تحقيق هدفه، وإلى أي قدر استطاع أن يصل من الهدف الذي يصبو إليه. وغياب الهدف من خطبة الجمعة جعل بعض الخطباء يقف على المنبر منطفئ الحماسة، فاتر الهمة، وكأنه يلقي درسا معتادا على الناس منبتر الصلة عما قبله وعما بعده، فيفقد بهذا قوة تأثيره، وشدة انجذاب المخاطبين إليه، بل ربما أصاب الكثير منهم الملل، وقد يرى الخطيب بعض الحضور وهو نائم دون أن يكترث لذلك، وكأنه شيء مألوف لا غرابة فيه. ج- تحديد مدة الخطبة: على ضوء تحديد موضوع الخطبة، وتحديد الهدف الذي يرمي إليه الخطيب يستطيع أن يحدد المدة المناسبة لهذه الخطبة، بحيث لا تتجاوز القدر المقبول، ويستوفي الكلام فيها على الموضوع، وخير الخطب في هذا الشأن ما كانت وافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الموضوع، واضحة الفكرة تؤدى في وقت قصير، فليست مملة في طولها، ولا مخلة في موضوعها، فإن البلاغة هي البلوغ إلى المعنى دون أن يطيل سفر الكلام. [ المطلب الثاني إعداد الخطبة ] المطلب الثاني إعداد الخطبة ومن الأمور التي تساعد الخطيب على إعداد الخطبة واختيار الموضوعات المؤثرة: 1 - أصول الشريعة، وأحكام الإسلام من عبادات ومعاملات وآداب إسلامية. 2 - مخالفات الناس في مجال العقيدة والعبادة، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، وبيان العقيدة الصحيحة والخلق الرفيع الذي ينبغي أن يتحلى به المسلم. 3 - الأحداث اليومية والأخبار التي يسمعها. 4 - الأحداث التاريخية. 5 - ما يقرؤه من الصحف والمجلات. 6 - ما قرأ من الكتب والمؤلفات. 7 - مشاهداته في أسفاره ورحلاته، وعجائب مرئياته. 8 - مسائل الناس ومشكلاتهم التي يسألونه عنها ويطلبون رأيه فيها. وينبغي أن يقيد ذلك ويدونه، حتى لا يفلت منه، فآفة العلم النسيان. وبعد أن يقوم الخطيب بتحديد موضوع الخطبة، والهدف الذي يرمي إليه، يقوم بإعداد أفكار الخطبة وعناصرها، والإعداد من الأمور الضرورية في مجال الخطبة، حتى من كان يملك القدرة على الارتجال، فإنه لا يستغني عن الإعداد المسبق ولو في نفسه، وإلا فإنه يعد غير مقدر لمهمة الخطابة، وغير محترم لفكرته، غير آبه بجمهوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إن إعداد الخطبة له فوائد متعددة تنعكس على الخطبة نفسها، وعلى الخطيب وعلى الجمهور المخاطب مما يكون له آثار واضحة على مدى قبول الناس وتأثرهم مما يسمعون، ومن هذه الفوائد: 1 - ترتيب الأفكار والعناصر بحيث لا تكون مبعثرة لا ترابط بينها، الأمر الذي يؤدي إلى تشويش السامعين، وتنافر أذهانهم، وعدم تركيزهم على الموضوع الأساسي للخطبة. 2 - إعطاء عناصر الخطبة وأفكارها ما تستحقه من البيان والإيضاح، بشكل متوازن دون أن يطغى فيها عنصر على آخر، حيث إن بعض الخطباء أحيانا يطيل الكلام حول فكرة واحدة على حساب الأفكار الأخرى، وبذا لا يوصل كل ما يريد إلى الناس بصورة متكاملة شاملة لجوانب الموضوع. 3 - ظهور الخطيب بمظهر المستعد للخطبة، المتأهب لها، وما عدا ذلك يعني أن يظهر الخطيب أمام الجمع بمظهر المجازف الذي لم يعد القول، وهذا فيه اعتداد بالنفس واستهانة بالحاضرين، وتبجح بعدم الاهتمام ودعوى أن خاطره أسرع من خواطر الناس، وهذه كلها صفات لا ترتضيها الجماعات، ولقد يعسر على المرتجل تفكيرا وتعبيرا أن يعالج الموضوع، وأن يصل منه إلى نتيجة، فهو كساع إلى الهيجا بغير سلاح، أو كهائم لا يعرف وجهته، ولا المسالك إليها: ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشو الخطيب لذا كان كثير من البلغاء القدامى يعدون خطبهم ويهذبونها، ويتمرنون على إلقائها (1) . 4 - نضوج الفكرة، وعمقها، وتخلص الأسلوب من التكرار الكثير، واختيار الألفاظ والتراكيب القوية التي تبرز المعاني في أثواب جذابة، فرب معنى جميل   (1) فن الخطابة (ص 186) الحوفي، أحمد محمد، بتصرف يسير، وانظر للاستزادة: خصائص الخطبة والخطيب (ص 152- 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 صرف الناس عن التأمل فيه، ضعف الألفاظ، ورداءة الأسلوب، وسوء التعبير. الإعداد ليس ضعفا: وربما ظن بعض الخطباء أن إعداد الخطبة كتابة دليل على الضعف وعدم التمكن من الخطابة (1) وهذا ظن ليس في محله، فقد بينا أهمية الإعداد، وفوائده. وإذا أردنا تجلية هذه الحقيقة فلنتصور نموذجين لخطيبين: أحدهما لا تنقصه الحماسة وقوة الطرح، وإثارة المشاعر، لكنه لم يعد الخطبة ولا أخذ لها أهبتها، لا من حيث الموضوع، ولا من حيث الأفكار والعناصر الأساسية، فبدت عليه السطحية، وعدم النضج وإعادة بعض الأفكار من خطبه القديمة، مما قلل من أثر خطبته ومن قيمتها العلمية أو التربوية، فلم يخرج المخاطبون من هذه الخطبة إلا بصدق العاطفة وقوة الصوت، وكلمة من هنا وفائدة من هناك، وهذا وحده غير كاف ولا مقنع للمخاطبين، ولا يؤدي إلى الأثر المطلوب من خطبة الجمعة، والهدف الأساسي منها هو تربية الأمة، والأخذ بقيادها إلى معاقد العزة والقوة والقدوة. أما الخطيب الثاني فيتصف بالصفات نفسها من حيث العاطفة، وجزالة الأسلوب، وقوة التعبير، وهو بالإضافة إلى ذلك يتناول في خطبته موضوعا محددا، بأفكار وعناصر محددة يضرب لها الأمثال، ويسوق لها الصور الواقعية. إننا لا نملك إلا أن نحكم للخطيب الثاني بالنجاح، وأن خطبته أوقع في النفوس، وأكثر أثرا، وأعظم فائدة من الخطبة الأولى. وخلاصة القول أن الإعداد هو الذي ينتج الأفكار الناضجة، والمعاني المتناسقة، والألفاظ المناسبة المنمقة الموحية، والسبك الرائع المعجب، والأداء القوي المشرق، والنفس الطويل الموقظ.   (1) فن الخطابة (ص 186) الحوفي، أحمد محمد، بتصرف يسير، وانظر للاستزادة: خصائص الخطبة والخطيب (ص 152 - 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فموضوع الخطبة لا يستطيع الخطيب أن يقدمه كامل الأفكار، متزن المعاني، بديع الألفاظ، رائع التعبير إلا بعد إعداد سابق، حيث يخلو الخطيب بمعارفه ومطالعاته فيختار منها ما يناسب موضوع الخطبة، ويرتبه، ويرصفه رصفا محكما كلبنات البناء الواحد، ويتخير العبارات المناسبة التي تمنح خطبته جمالا وتأثيرا. وظاهرة الإعداد ليست دليلا على ضعف الخطيب، وضمور قدرته الخطابية، بل نجد في الإعداد دليلا على مدى اعتداد الخطيب بموضوع خطبته، واهتمامه بجمهوره الذي ينتظر منه النفع، ويستهدف الفائدة، إذ لو ارتجل خطبته، ولم يعد أفكارها ومعانيها لجاءت قليلة الزاد، عاجزة عن معالجة الموضوع بصورة محكمة في كافة جوانبه، مما يؤدي إلى انتزاع ثقة الجمهور به (1) . [ تقسيم الخطبة ] تقسيم الخطبة: الخطبة الجيدة تبدأ بمقدمة مناسبة تضع الموضوع في إطاره الصحيح، وتساعد المستمع على الفهم والاستيعاب. ثم تتناول نقاط الموضوع الرئيسة بدقة، مع عرض لخلاصة أخيرة تنتهي في الزمن المحدد (2) . وللجمعة خطبتان كما هو معلوم، لذا فإن الخطيب يستطيع أن يوزع الأفكار الرئيسة للموضوع على الخطبتين دون أن يحاصره الوقت، أو يمل السامعين، وليس من السنة ما يفعله بعض الخطباء من قصر الخطبة الثانية على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء فقط، فالخطبة الثانية ينبغي أن يكون لها صلة بالخطبة الأولى، أو فيها استكمال للنقاط التي طرحت فيها، أو استكمال للموضوع بنقاط وأفكار جديدة. المقدمة: ومما له أثر في شد انتباه المخاطبين، أن يقدم للخطبة بمقدمة تسترعي انتباههم   (1) خصائص الخطبة والخطيب (ص 152- 153) . (2) انظر دليل التدريب القيادي، هشام الطالب (ص154) ، فن الخطابة (ص118- 120) ، خصائص الخطبة والخطيب (ص25- 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وتوقظ مشاعرهم، ويستحسن في هذه المقدمة أن تكون: 1 - قصيرة موجزة. 2 - قوية واضحة. 3 - متعلقة بموضوع الخطبة. 4 - مشوقة. وقد تكون هذه المقدمة على شكل سؤال يوجهه إلى المخاطبين، ثم يكون جوابه في أثناء الخطبة، فإن السؤال يثير الرغبة لمعرفة الجواب، ويوقظ انتباه السامع، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ حديثه أحيانا بالسؤال، ومن ذلك: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ تقوى الله، وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ الأجوفان: الفم والفرج» (1) . 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. . .» الحديث (2) . 3 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال قائل: الصلاة والزكاة، وقال قائل: الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الحب في الله، والبغض في الله» (3) . 4 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. . .» الحديث (4) .   (1) أخرجه أحمد (2 / 442) بإسناد صحيح، وابن ماجه (الزهد- 4246) . (2) رواه مسلم (البر والصلة- 2589) . (3) رواه أحمد (5 / 146) من طريق مجاهد عن رجل عن أبي ذر، وروى أبو داود الجزء الأخير منه. (4) رواه مسلم (البر والصلة- 2581) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقد تكرر هذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه من أساليب القرآن العظيم، وقد يبدأ الخطيب هذه المقدمة بخبر موجز مثير، وقد يبدؤها في كلمات موجزة، إما بقصة من التاريخ، أو من الواقع، أو يبدؤها بآية، أو حديث أو حكمة، أو ما شابه ذلك مما يكون فاتحة لموضوعه، ومنبها لأذهان السامعين إليه، وينبغي أن يحذر الرتابة في هذا المجال حيث تكون خطبه ذات مقدمة واحدة معروفة لدى سامعيه، بل عليه أن يلون ويجدد ويغير في طريقة تناوله للموضوع، وفي أسلوب استهلاله للخطبة. وليعلم أن شدة إصغاء السامعين إليه، وانجذابهم، وتفاعلهم معه ليس لحسن تقدمته وحسب، بل لا بد من توفر مجموعة أمور تتعلق بإخلاصه، وحسن سيرته، وعلمه، وأدبه، وفصاحته. . . وغير ذلك. ومما ينبغي أن يتنبه له أيضا أن خطبة الجمعة تختلف عن خطبة النكاح، أو عن خطبة الصلح، أو المحاضرة، أو نحو ذلك من الدروس والندوات، وغيرها. قال ابن المقفع: "وليكن صدر كلامك دليلا على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته " كأنه يقول: " فرق بين صدر خطبة النكاح، وخطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة التواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه " فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي قصدت، والغرض الذي إليه نزعت. فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها أحق بذلك الموضع، قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة الكلام، وأرضيت من يعرف حقوق ذلك، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنهما لا يرضيان بشيء، فأما الجاهل فلست منه، وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا ينال (1) .   (1) البيان والتبيين للجاحظ (1 / 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وخلاصة القول في هذا الباب أن " المقدمة أول ما يطرق الأسماع من الخطبة، فإن كانت جيدة أصغى السامعون، وتأهبوا لما بعدها، وتفتحت نفوسهم للخطيب، وإلا كانت نذيرا بفشله وتفاهة أثره " (1) . فليجتهد الخطيب في تحضير المقدمة، والتمهيد للموضوع جهده، أما التزام بعض الخطباء بخطبة الحاجة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بداية كل خطبة فليس بلازم، وليست السنة كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتزم به في كل خطبة، فهذه خطبة الوداع أشهر خطبه صلى الله عليه وسلم وأكثرها مستمعين لم ينقل أنه بدأها بخطبة الحاجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروه. . .» الحديث " (2) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه: «كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه» وفي لفظ: «يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله» . وكان يقول في خطبته بعد التحميد والثناء والتشهد: " أما بعد " (3) . إذا فالسنة أن يبدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأحيانا يبدأ بخطبة الحاجة، ويبدأ بغيرها من الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا أخرى.   (1) فن الخطابة (ص 117) . (2) رواه البخاري (الفتن - 8 / 91) ، ومسلم (الإيمان- 66) ، وكذلك رواه جابر رضي الله عنه في روايته المشهورة لحجة النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو بكرة كذلك رضي الله عنه. (3) خصائص الخطبة والخطيب (ص 95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وبعض الخطباء يستهل خطبته دائما بألفاظ معينة يلتزم بها في كل خطبة، حتى أصبحت محفوظة مكرورة لدى المصلين، تدعو إلى الملل والسأم من حين يبدأ في الخطبة. وبعضهم يلتزم بذلك في الخطبة الثانية، فأصبحت الخطبة الثانية لديه كلمات معدودة تتكرر كل جمعة، وأصبح يحفظها الصغير والكبير ممن يؤم مسجده. [ فقرات الموضوع ] فقرات الموضوع: المقدمة بالأوصاف التي ذكرت هي المدخل إلى الموضوع الأساسي الذي يريد الخطيب أن يطرحه على المصلين بوضوح واستيفاء. هذا الموضوع ينبغي أن تتوافر فيه صفات متعددة، حتى يكون الخطيب موفقا في اختياره، وفي مناقشته، وحتى يعطي الأثر المطلوب في نفوس المصلين، ومن هذه الصفات: 1 - مناسبة الموضوع لظرف الواقع الذي يعيشه الحاضرون. وهذه المناسبة لا شك أنها متغيرة، لكنها ينبغي أن تكون نابعة من صميم واقع الناس، متجددة بتجدد مشكلاتهم وحاجاتهم، وليس من الحكمة ما يفعله بعض الخطباء، من الجمود على مناسبات محددة طول العام بأن يضع لكل شهر خطبته أو خطبه المعدة مسبقا، أو يعتمد على كتاب في خطب العام لا يكاد يخرج عنه، وكأنه يخاطب الناس من خارج عصره بلغة غير لغتهم، وبهم غير همومهم، وهذا يفقد الخطبة أثرها، ويفصل الخطيب عن جمهوره ومخاطبيه. " فقد نلمس هذا المسلك العاجز عند فريق من الخطباء، حيث نجد أحدهم يلزم ضربا من المواضيع، لا يبرحه خلال سائر خطبه في مختلف المناسبات حيث يقيد نفسه بعدد من المواضيع يعيدها، ويكررها في كل عام غير عابئ بالمتجددات الفكرية والاجتماعية، والعلمية التي يتمخض عنها استمرار الحياة البشرية (1) .   (1) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 2 - أهمية الموضوع: مما يجدر بالخطيب أن يراعي الأهم فالمهم من الأمور والموضوعات، صحيح أن بعض الأمراض الاجتماعية مشتركة في كل العصور، وفي كل الأجيال، لكن يبقى لكل بيئة خصائصها، ولكل زمان معطياته، وكلما جمع الخطيب بين الأصالة والمعاصرة، وبين فقه الواقع وسعة الاطلاع كان أعظم بصيرة وأوسع تأثيرا في النفوس. إن الخطيب الموفق يبرع في انتزاع موضوعات خطبه من المناسبات الاجتماعية في مجتمعه، أو من الأحداث والوقائع التي تمر بأمته، والخطيب البارع يستطيع أن يوجد علاقة بين موضوعه- مهما كان- وبين واقعه، ويستطيع أن يستخرج من هذا الواقع من الصور والأمثال، والقصص، ما يحقق غرضه من تبصير الناس، وتعليمهم وتثقيفهم، إن قدرة الخطيب تبرز في ربطه بين موضوع الخطبة سواء أكان موضوعا فقهيا أو وعظيا أو غيره، وبين واقع أمته وما حل بها، وعوامل نهضتها ورفعتها، وبهذا الربط يمكنه أن يضع يده على الداء، وأن يمس مشكلات مجتمعه مس الطبيب للعضو المصاب. ولأضرب مثلا لذلك تتضح به صورة الربط، فلنفرض أن موضوع الخطبة هو الصدقة، أو فضل المتصدقين، فإن الخطيب لا يحسن به أن يعرض الآيات والأحاديث الصحيحة، وأقوال السلف في فضل الصدقة، وينهي خطبته في حين أن حيه مثلا يعاني من مشكلة فساد ذات البين، أو مشكلة التخلف عن صلاة الجماعة في صلاة الفجر والعشاء، أو انتشار بدعة معينة في حيه، أو غير ذلك من مشكلات محلية، أو على مستوى الأمة كلها، دون أن يشير إليها من قريب أو بعيد، فالخطيب يستطيع بحكمة وذكاء أن يبين عظمة الإسلام وشموله لجوانب الحياة، وأن مشكلاتنا الاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية إنما هي لسبب بعدنا أو تقصيرنا في فهم ديننا، وعدم التحاكم إليه في شؤون حياتنا، ثم يتطرق إلى المشكلة بعينها، فيعرض لعلاجها على ضوء الإسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وكل ذلك مع الالتزام بالوقت المناسب للخطبة، فإن أهمية الموضوع لا تسوغ له الإطالة المملة التي تؤدي بالمخاطبين إلى السآمة، وإلى مخالفته في أسلوب علاجه للمشكلة، وهكذا فإن الخطيب المؤثر لا يعدم أن يجد مداخل كثيرة في لمس الواقع، ومعالجة مشكلاته من خلال موضوع خطبته مهما كان طابعه، قال ابن القيم رحمه الله: " وكان يأمر بمقتضى الحال في خطبته " (1) . [أهمية الموضوع] أهمية الموضوع: إن الخطيب داعية، ولذا ينبغي أن يتمتع بقوة الملاحظة، والفقه، وسعة الأفق، وتعدد المعارف، كما أنه ينبغي أن يكون ذا بصيرة بما يناسب جمهوره من الموضوعات الأهم فالأهم، وهذه الموضوعات يجب أن تصنف حسب الأهمية، وحاجة المخاطبين وظرف المناسبة، وغير ذلك من العوامل التي تقدم بعض الموضوعات على بعض. وأولى الموضوعات بالتقديم، وأحراها بالتبصير والتنبيه، توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، والتحذير من الشرك، بجميع أقسامه وصوره، في العبادة والطاعة، والحكم والتشريع، شركا أكبر وأصغر، فإنه لا أحوج إلى الناس من هذا، ولا أولى منه بالتقديم، وكيف يقدم على هذا الموضوع وهو المهمة الأولى لجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ولكن على الخطيب أن يكون جذابا في عرضه حكيما في طرحه، يلون من حين لآخر بين الموضوعات، ويجيد قراءة وجوه المخاطبين واستشفاف آرائهم وانطباعاتهم. قال علي رضي الله عنه: " أف لحامل حق لا بصيرة له، إن قال أخطأ وإن أخطأ لا يدري، شغوف بما لا يدري حقيقته " فهو فتنة لمن فتن به، وكون الخطيب حاملا للحق مؤمنا به يدعو الناس إليه، لا يسوغ له أن يخاطبهم بأي لهجة، وعلى أي حال، وفي كل مناسبة، فقد أمر الله تعالى موسى وهارون أن   (1) زاد المعاد (1 / 428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يقولا لفرعون قولا لينا لعله يذكر أو يخشى، فرعون الذي ادعى الربوبية، والألوهية، وبطش وظلم، وطغى طغيانا كبيرا، وقال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] فأمره تعالى بثلاثة أمور: 1 - العفو عنهم والتجاوز عن إساءتهم. 2 - الاستغفار والدعاء لهم. 3 - مشاورتهم في الأمر. وهذا يمثل هديا عظيما وأساسا جليلا في إقامة العلاقة مع الناس، وكسب قلوبهم، وينبغي أن لا يغيب عن الخطيب بل عن كل داعية في دعوة الناس، واختلاطه بهم. ثم إن أي موضوع يطرحه الخطيب يمكنه ببراعة أن يقيم صلة بينه وبين واقع المخاطبين، بحيث لا يكون عرضه عرضا علميا محضا، فليس كل الحاضرين في مستواهم الثقافي وفي ارتقائهم الإيماني سواء في تقبل العلم، وتفهم الحكم الشرعي. استشارة: ومن المفيد في هذا الجانب أن يتم اختيار الموضوع في بعض الأحيان بناء على استشارة عدد من المصلين الذين يحضرون خطبه غالبا ممن يأنس منهم الغيرة والوعي والفقه، وممن لهم نظرة صائبة، وخبرة في متابعة القضايا الاجتماعية، ومعالجتها، فالخطيب بهذا الاختيار يضمن أهمية الموضوع، وقربه من الناس، واستحسان عدد كبير من الحضور لاختياره مع إشراكهم في التخطيط، وتلمس المشكلات الاجتماعية، ووسائل الإصلاح والمعالجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وهذا لا يأتي إلا بمخالطة الخطيب للناس، وحضور مجالسهم وسماع وجهات نظرهم، ومقترحاتهم، ومناقشتهم في موضوعات مختلفة، وإيجاد قدر من الثقة والتعاون بينه وبينهم. إن كثيرا من الخطباء يشعر بالحرج والخجل من مناقشته موضوعات الخطبة، مع عدد من المصلين، ظنا منه أن هذا نوع من تزكية النفس، أو التطلع للثناء والمدح، وهذا غير صحيح إذا كانت نية الخطيب هي الوصول إلى الأكمل، والارتقاء بأسلوبه، وموضوعات خطبه لتكون أعظم أثرا، وإنما لكل امرئ ما نوى. إن حسن الاختيار دليل على حسن التخطيط من الخطيب ومؤذن بحسن التأثير بخطبته، ومن الخطأ أن يعتمد الخطيب في هذا على قوة ذاكرته، أو سعة اطلاعه، وحسن أسلوبه، فلا يقوم بإعداد خطبته، والتحضير لها، وربما ترشح لديه الموضوع وهو في طريقه إلى المسجد، أو قبيل الخطبة بدقائق. [ الكلمة أمانة ] الكلمة أمانة: ألم يعلم أن الخطبة أمانة، والكلمة أمانة، وصعود المنبر أمانة، ووقت المصلين أمانة، والمخاطبين أمانة، فعلى الخطيب أن يستشعر عظم هذه الأمانة والمسؤولية قبل أن يصعد المنبر، وعند صعوده. لقد أوجب الإسلام على المسلمين حضور صلاة الجمعة، والاستماع والإنصات للخطيب، وعدم التشاغل عنه بأي عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال. وهذا يحتم على الخطيب أن يكون على مستوى هذه المسؤولية التي أهل لها، والتي هيئ له الناس فيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أمر تعالى في هذه الآية بالسعي إلى ذكر الله، وأمر بترك البيع، ومثله سائر الأعمال التي تشغل عن صلاة الجمعة، وهذا دليل على أن صلاة الجمعة بما يسبقها من استعداد، وترك للأعمال، وما يرافقها من خطبة، واستماع وإنصات تمثل شعيرة من شعائر الإسلام. ووردت أحاديث كثيرة في منع الكلام والإمام يخطب، وفي الأمر بالإنصات والاستماع للخطبة. منها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت» (1) . وما رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا» (2) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر، فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه منها، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله تعالى يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » [الأنعام - 160] (3) . قال ابن القيم في تعداد خصائص الجمعة:   (1) البخاري (343 / 2) ومسلم (رقم 851) . (2) أبو داود (رقم 347) وسكت عليه، وسكت عليه عبد الحق (الوسطى 2 / 97) ، ورواه ابن خزيمة (1810) واسناده حسن. (3) رواه أحمد (2 / 214) وأبو داود (1113) وإسناده حسن، وانظر: تخريج المشكاة (1 / 440) تخريج الزاد (1 / 413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الخاصة التاسعة: الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبا في أصح القولين، فإن تركه كان لاغيا، ومن لغا فلا جمعة له (1) . هذه النصوص وغيرها تضمن للخطيب جمهورا متفرغا مستمعا منصتا، يعطيه أذنه ووعيه، فعليه أن يتقي الله تعالى، فيحفظ أمانة الكلمة، وأمانة النصيحة التي يوصلها إليه، وليكن جادا في موضوعاته ساميا في اهتماماته، وعليه أن يكون أكثر الناس إحساسا بأهمية الموضوع، والحاجة إليه بحيث يدرك فيه من يسمعه صدق اللهجة، وقوة العاطفة، وشدة التحرق لحال أمته، ويلمس فيه سعة الاطلاع والإلمام بأحوال المسلمين في العالم الإسلامي، وما ينوء به واقعهم من مشكلات، ومدى الكيد والعداوة المتربصة بهم، مع الإلمام بحال البلد الذي يعيش فيه، والحي الذي يقطنه. وذلك دون أن يخل بالغرض الأساسي من الخطبة، وهو العظة والتوجيه، وتقوية الإيمان في القلوب، وزرع الثقة في النفوس، والتذكير بسنن الله تعالى في عباده، ومنته عليهم، والتحذير من بطشه وأخذه. إن من الخطأ الواضح أن يظن بعض الخطباء، وخاصة المتطوعون منهم أن الخطابة كلمات تقال في دقائق معدودة ثم ينتهي الأمر، أو أنهم يتصدقون على الناس بتلاوة آية قرآنية، أو حديث نبوي، فيفسرون الآية، ويشرحون الحديث بلغة ركيكة، أو أسلوب ضعيف، ثم على الناس أن يسمعوا ويطيعوا، وعليهم أن ينصرفوا من الخطبة وقد تغيرت حياتهم وأحوالهم. ومما ينبغي أن يعد له الخطيب العدة ما قد يطرأ من طارئ مفاجئ، كأن تحدث جلبة أو صراخ في المسجد أثناء الخطبة، أو يصرخ أحد الحضور إعجابا أو انتقادا للخطبة، أو غير ذلك. فليكن دقيق الملاحظة، سريع المعالجة، حاضر البديهة، فليس هناك طريقة محددة لعلاج مثل هذا الموقف، ولكن تدارك الأمر يفرضه ظرف الحدث، وملابساته.   (1) ابن القيم، زاد المعاد (1 / 377) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الخاتمة: ليس كل كلام يصلح أن يكون خاتمة للخطبة، ولا كل عبارة تصلح أن تكون نهاية للكلام، بل ينبغي أن تكون الخاتمة بأقوى العبارات وأجزلها، وأعظمها أثرا فهي آخر ما يطرق آذان المخاطبين، ويعلق بأذهانهم، فيحسن في الخاتمة أن تجمع الصفات التالية (1) . 1 - قوة العبارة وقصرها. 2 - الاختلاف في ألفاظها عما سبق في الخطبة، فلا تكون تكرارا لما تقدم. 3 - خلوها من أي خطأ علمي، أو لغوي، فإنها تعطي الانطباع الأخير عن الخطبة. 4 - وقوعها في قمة حماسة الناس وتأثرهم.   (1) وانظر: فن الخطابة (ص 137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 [ المبحث الخامس اشتمال الخطبة على الأسلوب الحسن ] [ تجنب التخصيص في الخطبة ] المبحث الخامس اشتمال الخطبة على الأسلوب الحسن (أ) تجنب التخصيص في الخطبة: عندما يواجه الخطيب الناس ينبغي أن يوجد لديهم شعورا بأنه واحد منهم، غير متميز عنهم بفضل، وإن تميز عنهم بعلم أو ثقافة، ومن هنا عليه ألا يخصهم باللوم والنقد، وكأنه منزه عن ذلك. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الخطباء أسلوب التخصيص في خطبته، وأكثر ما يكون هذا مؤلما عندما يخص الخطيب إنسانا بعينه باللوم، أو بتحمل المسؤولية في مشكله معينة، وهذا من شأنه أن يكسر نفس الخصوص باللوم، أو يجعله يتخذ موقفا عدائيا من الخطيب، وربما حذا حذوه أقاربه، ومعارفه، وأنصاره، فليس من حق الخطيب أن ينصب نفسه قاضيا في قضية لم ترفع إليه، ولم يستكمل حق النظر فيها من حيث البينات والقرائن والملابسات المختلفة، ولا يكفي أن يكون قد أخبره بذلك بعض الثقات، فإن الثقة ربما وهم أو أخطأ، وربما تلقى الخبر عن غير متثبت. والخطيب يجب أن يكون حريصا على تآلف القلوب، ووحدة الأمة، واجتماع الكلمة، وعليه أن يتجافى عن كل ما من شأنه أن يفرق وحدة المسلمين، حتى ولو كان ما يقوله حقا، فقد «قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ، وكان يصلي بالناس إماما ويتلو عليهم كلام الله تعالى: " أفتان أنت يا معاذ؟» وتدبر كلمة "فتان " المشتقة من الفتنة، والتي جاءت بصيغة المبالغة، فالأخوة بين المؤمنين ليست خيار مصلحة، أو مطلبا اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو سياسيا أو جغرافيا، بل هي واجب شرعي، وفريضة إسلامية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو. . .» الحديث " (2) . وكل إخلال بهذه الحقيقة إنما هو إخلال، وتقصير في فريضة، فكيف يأتي هذا التقصير من قبل الخطيب، وهو يعلم أن هذا من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، والنصوص فيها أكثر من أن تحيط بها هذه الورقات. لذا فإن على الخطيب أن يحذر من كل سبب يؤدي إلى اهتزاز هذه الحقيقة في النفوس، وأن يجتنب كل عبارة أو فكرة تؤدي إلى زعزعتها، ومن ذلك: 1 - تخصيص شخص معين بالنقد. 2 - تخصيص جماعة معينة بذلك. 3 - تخصيص بلد أو جنسية معينة بالفساد وسوء الأحوال. وهذا لا يقلل من شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقصد به مداراة الفساد والمفسدين أيا كانوا، فمما لا يخفى أن هذه المحاذير لا تحول بين الخطيب وبين الصدع بالحق، وهتك أستار الباطل، وتعرية المفسدين دون الحاجة إلى التعيين والتخصيص. فهدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، وأكمله، وأنفعه، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم عدم التخصيص إلا عندما تدعو مصلحة شرعية راجحة لذلك، ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأحاديث الصحيحة: 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: «صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب   (1) رواه مسلم (البر والصلة- 2580) . (2) رواه البخاري (الأدب- 6101) ، ومسلم (البر والصلة - 2586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فحمد الله ثم قال: " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» (1) . 2 - عن عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة قالت: «ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، إنما الولاء لمن أعتق» (2) . 3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول، ولكن يقول: " ما بال أقوام يقولون كذا وكذا» (3) . 4 - «عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزوت معه، فأصبت ظهر أفضل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، وقال مرة: الذرية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال قوم جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية» . . . الحديث " (4) . 5 - عن أنس «أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: " لو أمرتم هذا أن يغسل ذراعيه» (5) . 6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» (6) .   (1) رواه البخاري (الأدب- 6101) . (2) رواه البخاري (العتق 5 / 167) ومسلم (العتق رقم 1504) . (3) رواه أبو داود (الأدب- 4788) بإسناد لا بأس به. (4) رواه أحمد (3 / 435) والدارمي (2 / 223) والحاكم (2 / 123) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر: (سلسلة الأحاديث الصحيحة 402) . (5) رواه أبو داود (الترجل- 4182) والبخاري في الأدب المفرد (ص155 رقم 437) . (6) رواه مسلم (الصلاة- 117، 118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 7 - عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» (1) . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ليس هنا مجال ذكرها، وهي داله على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الحفاظ على مشاعر المسلمين، وعدم مواجهتهم باللوم، وعدم مجابهتهم بالتعنيف. فتوسع بعض الخطباء في هذا المجال من منطلق الصدع بالحق، وعدم المداهنة فيه، لا يخلو من مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في النصح، وعدم إحكام لفقه الموازنات، وترجيح المصلحة الشرعية، ودرء المفاسد. [ تجنب التجريح سواء للهيئات أم الجماعات والأحزاب أم الأشخاص ] (ب) تجنب التجريح سواء للهيئات أم الجماعات والأحزاب أم الأشخاص: ينفذ الخطيب بحسن أدبه، وقوة بيانه، وجزالة أسلوبه، ورقة عاطفته إلى قلوب الناس وأرواحهم، فيملؤها تأثرا، ومما يعين الخطيب على تحقيق مراده من التأثير إلى جانب ما ينبغي أن يتحلى به من صفات المسلم الكريمة، وخصاله النبيلة، أن يتجنب التجريح في خطبه، فإن تجريح المعينين فضح لأمرهم على رؤوس الأشهاد، ونقل لأخطائهم وعيوبهم من حال السر والستر إلى حال الفضح والعلن. والمسلم مأمور بأن يستر على أخيه المسلم، والمطلوب هنا ستر المسلم العاصي لا ستر المعصية أو التستر على الفساد، ثم الستر عليه من أجل انتشاله من معصيته، وإنقاذه من خطيئته. فالمنكر لا ينكر بأي أسلوب كان، ولا على أي حال، ومهما كانت نتيجته، بل لإنكار المنكر آداب، وضوابط قد بينها العلماء في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.   (1) رواه مسلم (2 / 591) ، وودعهم أي: تركهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إن الستر على العاصي يعني توسيع الفرصة له للأوبة إلى الحق، والرجعة إلى الله تعالى، والتوبة الصادقة من الذنب، ويعني الفسح له في المجلس حتى يجد مكانا بين الصالحين، والستر عليه يعني الصلة بينه وبين أهل الإيمان حتى لا ينفرد به الشيطان فيمعن في إضلاله. ولئن كان الجرح مشروعا في مواطن مثل جرح الرواة لصيانة الدين، وجرح الشهود، وفي الاستشارة، ونحو ذلك مما بينه العلماء بدليله، فإن مجال الخطبة ليس من هذه المجالات، لأن الجرح في الخطبة تشهير، وإبراز لعيوب الشخص، ونشرها على الملأ، في حين أن الخطيب ينبغي أن يكون حريصا على التقويم لا على التأثيم، وعلى التغيير لا على التعيير، كما أنه ينبغي أن يلتزم بأدب الإسلام في النصح، وأن يراعي ضوابط النصيحة، ولا يجدر به أن يكون أداة لأي اتجاه سياسي، أو حزبي، أو مذهبي لا يستند إلى أصل شرعي، فيندفع إلى الطعن والتجريح بدافع التعصب دون مراعاة لآداب الإسلام وهديه. ومن المعلوم أن من عرف بالفساد والمجاهرة بالمعاصي، والتمادي في الطغيان، فإنه لا يستحب أن يستر عليه، لكن لا يكون ردعه عن طريق التشهير به، وفضح أمره في الخطب العامة، بل ينصح، ويخوف، فإذا لم يرتدع رفع أمره إلى من له الولاية وحق الردع بالقوة. قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: " واعتبر الشيخ تقي الدين المصلحة- أي في هجر المبتدع- وذكر أيضا أن المستتر بالمنكر، ينكر عليه ويستر عليه، فإن لم ينته فعل ما ينكف به إذا كان أنفع في الدين، وأن المظهر للمنكر يجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك، وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتا إذا كان فيه كف لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته " أهـ. قال: " وهذا لا ينافيه وجوب الإغضاء، فإنه لا يمنع وجوب الإنكار سرا جمعا بين المصالح " (1) .   (1) الآداب الشرعية (1 / 234) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال النووي في شرح صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله عز وجل يوم القيامة» وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم. ممن ليس معروفا بالأذى والفساد، وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات، ويؤدي إلى جسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها، وهو يعد متلبسا فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيره، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة (1) . إن على الخطيب أن يفرق بين الستر الواجب الذي يكون فيه مصلحة شرعية، وبين ما لا يكون فيه مصلحة شرعية، بل تكون فيه مفسدة، بل ربما فتح باب فتنة وشقاق، أما إذا كان الإنكار للخلاف في الرأي والاجتهاد فإنه لا يسوغ للخطيب أن يذكر اسم شخص أو جماعة معينة، فيصمها بالفساد، أو سوء النية، أو الابتداع في الدين، فإن المنابر ما شيدت للانتصار للرأي، والرد على المخالفين وتقريعهم وتجريحهم، مما يؤدي إلى نشر المنازعات والاختلافات، وتعميق النفرة، وبلبلة العامة، كما أن للآخرين منابرهم التي يقفون عليها، ويردون من فوقها، ويجرحون ويطعنون، إن بني عمك فيهم رماح. قال العلماء: ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه، أو قلد مجتهدا فيه (2) . وكلما استغنى الخطيب في ألفاظ الجرح عن التعيين كان أولى، إلا أن تكون المصلحة الشرعية بضوابطها تقتضي هذا التعيين، كأن يكون المعين إماما في البدعة، رأسا في الضلالة يخشى على الأمة من ضلاله وبدعته، أو يكون قد   (1) شرح مسلم (16 / 135) . (2) الآداب الشرعية (1 / 166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حصل لبدعته رواج واغتر بها بعض العامة. قيل للإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي، ويعتكف، أحب إليك؟ أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، وهذا أفضل (1) . ولا ينبغي أن يفهم أن جواز التجريح في بعض الأحوال يعني أن للخطيب أن يطلق لسانه بألفاظ السباب والشتائم، واللعنات، والكلمات النابية التي تجرح المسامع فإن المسلم يترفع عن مثل هذه الألفاظ، فليس هو بالسباب، ولا اللعان، والطعان، فإذا كان الخطيب قويا في رده، واضحا في عرضه، دامغا بحجته، أوصل الحجة إلى الناس، وأوضح الحق، وهذا هو الذي يؤثر في قلوب الناس ويملؤها قناعة وثقة، وليس السباب والشتائم. [ تجنب المبالغة والتهويل في الخطبة ] (ج) تجنب المبالغة والتهويل في الخطبة: النفوس بطبائعها تنفر من المبالغة الزائدة عن الحق، وتفر من التهويل في الكلام، فاتباع الخطيب لهذا الأسلوب من شأنه أن يهز ثقة المخاطبين به، ويفقدهم المصداقية المطلوبة للإقناع والتأثير. إن المسلم يتمتع بثبوت قياساته للأحداث والوقائع، ودقة موازينه للأمور، ومنهجه في هذا هو الوسطية، التي تعد من خصائص هذه الشريعة، ومن خصائص هذه الأمة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وإنما استحقت الأمة هذه المكرمة، وهي الشهادة على الناس بهذا المنهج الذي تتبعه، وبهذه الشريعة التي تدين بها.   (1) مجموع الفتاوى (28 / 231) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا في الترهيب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله تعالى أوسطها. أهـ (1) . فهذا الثبوت في ميزان المسلم للأمور، وهذا الوضوح في رؤيته للواقع، جعله أهلا لأن يزن أخبار الناس، وتصوراتهم، وأنماط حياتهم المختلفة، بميزان دقيق، لا يحيف ولا يطيش، فلا يضخم الواقع فيجعله أكبر من حجمه مرات، ولا يصغره ويحقره فيجعله دون ذلك بدرجات. (وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها، لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، ولتستعد له استعدادا لائقا. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال. . . في التفكير والشعور، في التنظيم والتنسيق، في الارتباط والعلاقات 000) (2) . [ المبالغة في المدح ] ومن صور المبالغة والتهويل التي على الخطيب أن يتجنبها: 1 - المبالغة في المدح: وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإطراء، والإطراء هو المبالغة في المدح، والمبالغة في هذا تجاوز بالإنسان عن القدر الذي هو له، والمكانة التي يستحقها، وهي في مخالفة الحق لا تختلف عن ذم الإنسان، وأن ينسب إليه من النقص والعيب ما ليس فيه، ومن مساوئ المبالغة في المدح أن الشيطان يستجري المادح، ويستدرجه إلى تقديس   (1) تفسير ابن جرير (2 / 8-9) . (2) في ظلال القرآن (1 / 130- 131) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الممدوح، وربما إلى تأليهه وعبادته، كما وقع للنصارى مع عيسى عليه السلام، وكما وقع لطوائف من غلاة الرافضة، والمتصوفة، مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع آل بيته. روى أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن مطرف قال: قال لي أبي: «انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى "، قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرنكم الشيطان» (1) . وعن أنس رضي الله عنه «أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: " أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (2) . وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله» (3) . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح، فقال: " أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» (4) . وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: «أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ويلك قطعت عنق صاحبك. . . ثلاثا " ثم قال: "من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحدا، أحسب كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه» (5) . وعن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والتمادح فإنه الذبح» (6) .   (1) المسند (4 / 25) ، سنن أبي داود (الأدب- 4806) ولفظه لا يستجرينكم. (2) رواه البيهقي بإسناد جيد. (3) رواه البخاري (الأنبياء- 3445) . (4) رواه البخاري (الشهادات- 2663) ومسلم (الزهد- 3001) . (5) رواه البخاري (الشهادات- 2662) ومسلم (الزهد - 3000) . (6) ابن ماجه بإسناد حسن (الأدب- 3743) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقد تأدب بهذا الأدب الكريم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من العلماء، والصالحين، المهتدين بهديه، عن أيوب أن رجلا قال لابن عمر: يا خير الناس، وابن خيرهم، فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خيرهم، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه (1) . وقال أبو عثمان الشافعي لأحمد بن حنبل: لا يزال الناس بخير ما من الله عليهم بلقائك، فقال له: لا تقل هذا يا أبا عثمان ومن أنا في الناس؟! (2) . وقال الخلال: أخبرني أحمد بن الحسين قال: دخلنا على أبي عبد الله فقال له شيخ من أهل خراسان: يا أبا عبد الله، الله الله، فإن الناس يحتاجون إليك وقد ذهب الناس، فإن كان الحديث لا يمكن، فمسائل، فإن الناس مضطرون إليك، فقال أبو عبد الله: إلي أنا؟ واغتم من قوله، وتنفس الصعداء، ورأيت في وجهه أثر الغم. وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فقال: قيل لعمر بن عبد العزيز: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا (3) . فعلى الخطيب أن يكون مقتصدا في المدح، وأن لا يجاوز الأدب المشروع فيه سواء أكان الممدوح زعيما، أو قائدا، أو عالما، فليس أجمل ولا أكمل من أدب الإسلام في إنزال الناس منازلهم، وأشد ما يكون المدح إذا جاوز الحد، وكان في الوجه، فإنه لا يؤمن على الحي الفتنة، والله المستعان. [ المبالغة في الذم ] 2 - المبالغة في الذم: قال مطرف لابنه: يا بني الحسنة بين السيئتين يعني بين الإفراط والتقصير، وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة (4) .   (1) الآداب الشرعية (3 / 456) . (2) الآداب الشرعية (3 / 454) . (3) الآداب الشرعية (3 / 455) . (4) الحقحقة: أسرع السير وأتعبه. وانظر: عيون الأخبار لابن قتيبة (1 / 447- 448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وكما أن على الخطيب أن لا يتجاوز الحد في المدح، فإنه لا ينبغي له أن يتجاوز الحد في الذم فيكون عيابا، أو أن يدخل في دائرة الفجور في الخصومة، والمنبر لا يصلح أن يكون منصة للقذائف والتهم والسباب والشتائم، فينبغي على الخطيب أن يتجنب التجريح بالذم للمعين كما تقدم، وليكن ذمه منصبا على ذم المعصية، والهوى، وعلى غير المعينين من أهل البدع، والفساد. [ المبالغة في ذم الدنيا ] 3 - المبالغة في ذم الدنيا: من الأساليب التي يلجأ إليها بعض الخطباء المبالغة والإفراط في ذم الدنيا مما يصور الإسلام بأنه يحارب العمل، والتجديد في الوسائل، ويحذر من الغنى، ويكره للمسلم الاتساع في المكاسب، وهذا فهم خاطئ للإسلام، وإلا فكيف يحث الإسلام المسلم على الإنفاق، والبذل ويجعل يد الباذل هي العليا، ويحثه على تفريج الكربات، وعلى العمل الشريف إذا كان يذم هذا الأمر ويمقته. إن الإسلام لا يذم الدنيا، بل يذم التكالب عليها، والغفلة بها عن الآخرة، ولا يذم المال بل يذم كسبه من الحرام، وتبذيره في الحرام، وإضاعته فيما لا يحل، ويذم الشح به، والحرص الشديد عليه، حتى يصبح المرء عبدا له، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم والقطيفة» الحديث " (1) . قال ابن مفلح: يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه، قاله في الرعاية، وقال أيضا: يباح كسب الحلال لزيادة المال والجاه، والترفه والتنعم، والتوسعة على العيال، مع سلامة الدين والعرض والمروءة، وبراءة الذمة، وقال ابن حزم: اتفقوا على أن الاتساع في المكاسب والمباني من حل إذا أدى جميع حقوق الله تعالى قبله مباح، ثم اختلفوا فمن كاره وغير كاره.   (1) أخرجه البخاري (الجهاد- 2886) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ويجب على من لا قوت له، ولمن تلزمه نفقته، ويقدم الكسب لعياله على كل نفل، وقد يتعين عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» ، وهذا الخبر رواه أبو داود، وفي مسلم معناه (1) . ويكره ترك التكسب مع الاتكال على الناس. . . ويجب التكسب ولو بإيجار نفسه لوفاء ما عليه من دين ونذر وطاعة، وكفارة، ومؤونة تلزمه (2) . فعلى الخطيب حين يعرض للكلام على الدنيا، والغنى، والمال، أن يعرض موقف الإسلام من ذلك عرضا كاملا، مبينا متى تذم الدنيا، ومتى لا تذم، ثم لا تكون كل خطبة مركزة على ذم الدنيا، والمال، وعلى الترغيب في الزهد، والحث عليه، بل يعطي كل ذي حق حقه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل له: «ذهب أهل الدثور بالأجور. .» {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] (3) . وأنقل هنا كلاما نفيسا لابن الجوزي رحمه الله في كتابه القيم (تلبيس إبليس) حيث قال بعد أن ذكر جملة من الأحاديث في كسب المال وحفظه: فهذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة (4) . وليوازن بين المصالح بذكر الترغيب في مقامه، والترهيب في مقامه. [ التهويل في تصوير الواقع ] 4 - التهويل في تصوير الواقع، والإخبار عن الأحوال والأحداث المتعلقة بالأمة فيكبرها أحيانا مئات المرات، ويصغرها أحيانا أخرى مئات المرات، وتبرز مظاهر هذا التهويل في أمور منها: 1 - التهويل في وصف حال المسلمين ومدى ضعفهم، فيصل إلى حكم   (1) رواه أبو داود (الزكاة- باب في صلة الرحم 1692) ومسلم بلفظ: أن يحبس عمن يملك قوته (996) . (2) الآداب الشرعية (3 / 265) . (3) رواه البخاري (الأذان- 843) ومسلم هذا لفظه (المساجد- 595) . (4) تلبيس إبليس (ص 179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قاطع بأن الأمة لا شفاء لها من أمراضها، ولا يقظة لها من رقدتها، أو يحكم على المجتمعات عامة بالكفر أو الضلال ومحاربة الإسلام، وليستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» (1) . 2 - التهويل في وصف حال غير المسلمين، وتصوير تلك المجتمعات بأنها تخلو من أي خير، وأنها مجتمعات غاب، وأنها في غضون بضعة سنوات ستسقط وتدمر، والعدل يقتضي أن يذكر مفاسد هذه المجتمعات، وما آلت إليه دون أن يتجاوز الحقيقة في ذلك. قال الله تعالى: {يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] 3 - التهويل في جعل بعض الأمور عليها مدار عزة الأمة، وتركها هو السبب في ذل الأمة، ولا يعني هذا إهمال هذه الأمور، وعدم الاهتمام بها، لكن يجب أن نضع الأشياء حيث وضعها الشرع، ونحكم عليها بحكمه، فللإسلام أركان، وهناك واجبات، وسنن، وآداب، ومروءات، فالجهاد ليس كقص الشارب، والصلاة ليست كإعفاء اللحية، مع أن الكل من الدين. لكن بعض الخطباء يجعل موضوع خطبته سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون موضوع خطبته حول خلق من الأخلاق الإسلامية، فيسوق كل ما يستطيع من الأدلة، والقصص والأشعار وغير ذلك، ثم يربطه ربطا غير موزون بحال الأمة، وأسباب هزائمها، وتأخرها عن ركب الأمم مما يرسخ في ذهن السامعين أن أسباب ذلك كله تنحصر في هذا الأمر بعينه، بل ربما قال ذلك صراحة. 4 - التهويل في الربط بين الأحداث، بحيث يجعل كل مؤتمر وراءه مؤامرة، وكل خبر وراءه مكيدة، وكل جديد قصد به المكر والإفساد، وهكذا يتم الربط عشوائيا، ودون مستند بين الأحداث صغيرها وكبيرها.   (1) رواه مسلم (البر والصلة - 139) ، والبخاري في الأدب المفرد (760) ، وأهلكهم: ضبط بضم الكاف وفتحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 نعم لا ينكر أن يكون المسلمون دائمي الحذر واليقظة، وأن لا يحسنوا الظن بعدوهم، وأن يكونوا على قدر كبير من الوعي بالعالم من حولهم، والنظرة الثاقبة للأساليب الخفية التي تحاك لتدمير الأخلاق، وشيوع الفساد، لكن تهويل الأمور والوسوسة بكل شيء حوله ليس من الوعي في شيء، ولا من اليقظة في شيء. 5 - التهويل في الحكم على الأشخاص كالحكم على ظالم معين بأنه من أهل النار، أو أنه ملعون، أو أكفر من فرعون وهامان، أو الحكم لشخص معين بأنه شهيد قطعا، أو أنه يتقلب في الجنة، ونحو ذلك من الأحكام القاطعة التي تتنافى مع عقيدة المسلم وثوابته، وتتعارض مع منهج الإسلام الذي يوجب العدل في الرضا والغضب، والقصد في الحب والبغض، وأن لا يجزم لأحد بجنة أو نار إلا من ثبت فيه نص. عن علي رضي الله عنه أنه قال: هل تدري ما قال الأول؟ أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما (1) . وعن عمر رضي الله عنه قال: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا، فقلت: كيف ذاك؟ قال: إذا أحببت كلفت كلف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف (2) . ومن هذا التهويل المبادرة إلى التكفير، والتفسيق، والتسرع في التبديع والتأثيم، والقول: والله لا يغفر الله لفلان، وفلان لا يشم رائحة الجنة، ونحو ذلك من الألفاظ والأحكام التي فيها تأل على الله تعالى، وقول عليه بغير علم، ومنه كذلك اعتماد أسلوب التهييج، والتحميس الزائد عن الحد لقضية لا تستحق مثل هذا.   (1) رواهما البخاري في الأدب المفرد (1328- 1329) . (2) رواهما البخاري في الأدب المفرد (1328- 1329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر يقول: مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه، فيقول: خلني وربي، حتى وجده يوما على ذنب يستعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدا، ولا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار» (1) . هذه نماذج من المبالغات والتهويلات التي لها آثار سيئة تنعكس على الأمة، فعلى الخطيب أن يتجنبها، ومن هذا القبيل التهويل من دور الأعداء، كالتهويل من شأن اليهود، وأنهم يملكون القدرة على كل شيء، ويملكون من الطاقات والقدرات المادية والعقلية ما ليس له حدود، وأنهم يديرون العالم كله صغيره وكبيره، ومثل هذا التهويل قد يكون لليهود أنفسهم دور في صناعته ونشره بين الناس لما يحصدون من جراء ذلك من مكاسب ومصالح. ويحسن بنا هنا أن نذكر قصة يهود بني النضير مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يملكون من الحصون والقلاع، والأموال ما جعل كثيرا من معاصريهم يبهر بقوتهم وحصونهم، ولا يتصور أن يغادروا هذه الحصون في يوم من الأيام. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]   (1) حديث صحيح رواه أحمد (2 / 222) وأبو داود (الأدب - النهي عن البغي 4901) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 [ تجنب التيئيس وما يولد الإحباط عند المخاطبين ] (د) تجنب التيئيس وما يولد الإحباط عند المخاطبين: الخطابة من المهام القيادية في الناس، والخطيب قائد بهذا المعنى لفصيل من فصائل المجتمع يعده ويوجهه، ولا يصح أن يفت في عضده، فيملأ نفوس أفراده بالوهن واليأس، ويقتل فيهم الثقة والطموح، والتطلع إلى التغيير والإصلاح. ولا يصح أن يخاطبهم بروح المهزوم المحبط، فإن الخطيب إذا سرت إلى نفسه روح اليأس سرت إلى مستمعيه، وإلى مجتمعه، فكان خاذلا متخاذلا، وما زال للخطباء البارعين دور كبير في إيقاظ الأمة، وفي رفع الهمم، ودرء الفتن، وكم من خطبة حولت الهزيمة إلى نصر، والضعف إلى قوة، والقلة إلى كثرة، وإنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان. واليأس إذا استولى على فرد أحاله إلى عضو مشلول في مجتمعه لا يصنع خيرا، ولا يدفع ضرا، وإذا استولى على أمة من الأمم أحالها إلى أمة واهنة خائرة تستسهل الهوان، وتألف الذل، وتستمرئ التقليد، وتكون نهبا لأعدائها، وقصعة مباحة لآكليها. ومن هنا فقد حذر الإسلام من اليأس، وجعله على النقيض من الإيمان فلا يلتقيان في قلب، إيمان كامل ويأس مطبق. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] قال الطبري في تأويلها: لا يقنط من فرجه ورحمته، ويقطع رجاءه منه {إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] يعني القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه (1) . فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية، فإنهم لا ييئسون من روح الله، ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق، وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب (2) .   (1) جامع البيان في تأويل القرآن (7 / 284) . (2) في ظلال القرآن (4 / 2026) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومما يمنع المسلم من اليأس مهما حاصرته الخطوب، وأحدقت به وبأمته المحن الأمور التالية: 1 - الإيمان القوي بقضاء الله تعالى، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، وأصول العقيدة. 2 - الثقة بوعد الله سبحانه، وبنصره لمن أطاعه، وبدفاعه عن الذين آمنوا، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، ولكنه يبتلي العباد. قال جل وعلا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وقال جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] 3 - الوعيد الشديد على اليأس، لكونه قنوطا من رحمة الله، وسوء ظن بالله جل وعلا، واستبعادا لوعد الله تعالى ونصره، وهذا إنما يتصف به الضالون لا المؤمنون، قال جل ذكره: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] وقال ابن عباس: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله (1) . قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد العاصي في حاشيته على كتاب التوحيد: " القنوط استبعاد الفرج، واليأس منه- والفرق بينهما لطيف- وسوء الظن بالله، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم منافيان لكمال التوحيد. . " وقال الشيخ: " القنوط بأن الله لا يغفر له، إما بكونه إذا تاب لا يقبل توبته، وأما أن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، فهو ييئس من توبة نفسه ".   (1) أخرجه عبد الرزاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقال في معنى اليأس من روح الله: وذلك إساءة ظن بالله، وجهل بسعة رحمته، وجوده ومغفرته (1) . 4 - ثمرة اليأس المرة، ونتائجه الوخيمة على الفرد خاصة، وعلى الأمة عامة، فاليأس بالنسبة للفرد قطع لأسباب الأمل، وإغلاق لأبواب التوبة في وجهه، أما بالنسبة للأمة فهو هدم لعزتها، وقطع لاتصالها بأسباب التقدم والإبداع، فعلى الخطيب أن يحذر من أسلوب التيئيس الذي يبث الوهن والخذلان في الأمة، ويقذف اليأس والإحباط في نفوس أبنائها، بل عليه أن يبث فيها روح العزة، والاستعلاء الإيماني، وعظيم الثقة بالله تعالى، والثقة بوعده وبنصره وحفظه لدينه، فإن الأمم تجري عليها سنن الله، وهذه بعض النصوص التي تبين حتمية الظهور لهذا الدين، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، والله غالب على أمره، وله الأمر من قبل ومن بعد. (أ) قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] وقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] (ب) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» (2) . (ج) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر- أي: طين وشعر- إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل» (3) . (د) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مدينة   (1) حاشية كتاب التوحيد (ص 256) . (2) رواه مسلم (الفتن- 3889) . (3) رواه ابن حبان في صحيحه (6699، 6701) بإسناد صحيح من حديث المقداد بن الأسود ورواه ابن منده في الإيمان (1084) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هرقل تفتح أولا، يعني القسطنطينية» (1) . (هـ) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (2) . (و) عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا أراد أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» (3) . ومما يجنب المسلم الشعور باليأس، ويملأ نفسه ثقة وأملا بالله تعالى، ويجعله مغتنما لفرص الحياة حتى اللحظة الأخيرة منها ما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (4) . وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: " إن سمعت بالدجال قد خرج، وأنت على ودية تغرسها، فلا تعجل أن تصلحها، فإن للناس بعد ذلك عيشا " (5) .   (1) أخرجه أحمد (2 / 176) ، والدارمي (1 / 126) والحاكم وصححه (3 / 422) . (2) رواه مسلم (الإمارة- 1920- 1923) . (3) رواه أحمد (4 / 273) بإسناد حسن من طريق حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير عن حذيفة به، وانظر هذه الأحاديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الأرقام (2- 5) . (4) رواه أحمد (3 / 173) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 168) . (5) رواه البخاري في الأدب المفرد (ص 168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إن من مهام الخطيب أن يعمل على بعث روح العزة في الأمة، وأن المستقبل لديها، وأن الرفعة لها، والكرامة والتمكين في الأرض ما استمسكت بهذا الدين، واعتصمت بحبل الله المتين، وهذا ليس ادعاء يدعيه، ولا وهما يخدر به عقول الناس وأفكارهم بل هو الحق الذي لا ريب فيه، وهو ما شهد به كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم، ونطقت به حوادث التاريخ، وشاهد السنن الإلهية. أما الكبوة الحاضرة، والعلة القائمة فمرض طارئ، واعتلال عارض ما يلبث أن تبل الأمة منه إن شاء الله تعالى، بالعودة الصادقة إلى دينها الحق. [ المبحث السادس اشتمال الخطبة على الموعظة والحث على التقوى وما يرقق ] القلوب ويزيد الإيمان في النفوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 المبحث السادس اشتمال الخطبة على الموعظة والحث على التقوى وما يرقق القلوب ويزيد الإيمان في النفوس القصد الأول من الخطبة هو الموعظة، والتذكير بآيات الله تعالى، وآلائه، والحث على تقوى الله، والاستقامة على دينه، ومهما تعددت أساليب الخطبة ترغيبا وترهيبا، فإنها ينبغي أن لا تبتعد عن هذا الهدف العظيم، وقد اختلف العلماء في فروض الخطبة، فقال ابن قدامة رحمه الله: وفروض الخطبة أربعه أشياء: الأول: حمد الله تعالى لأن جابرا قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. » الثاني: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم كالأذان. الثالث: الموعظة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ، وهي القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها. الرابع: قراءة آية، لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا، وخطبته قصدا، يقرأ آيات من القرآن يذكر الناس» ، رواه أبو داود والترمذي (1) . ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة، وعن أحمد ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر، ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ (2) .   (1) الكافي في فقه الإمام أحمد (1 / 328) . والحديث رواه مسلم (الجمعة- تخفيف الصلاة والخطبة 866) والترمذي (الجمعة- ما جاء فقصر الخطبة 507) والنسائي (الجمعة - القراءة في الخطبة الثانية 1418) وابن ماجه (الجمعة- ما جاء في الخطبة 1106) . (2) الكافي في فقه الإمام أحمد (1 / 328) . والحديث رواه مسلم (الجمعة- تخفيف الصلاة والخطبة 866) والترمذي (الجمعة - ما جاء فقصر الخطبة 507) والنسائي (الجمعة- القراءة في الخطبة الثانية 1418) وابن ماجه (الجمعة- ما جاء في الخطبة 1106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال ابن القيم في ذكر خصائص يوم الجمعة: فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتحميده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه، وإلى جنابه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها (1) . ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت، وأما اشتراط الحمد لله، والصلاة على رسول الله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم، وشرط لازم، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ. . . إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع، إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه بالقوارع القرآنية كان أتم وأحسن (2) . السياسة والفكر: يغلب على بعض الخطب وبعض الخطباء الطابع السياسي أو الفكري، أو الموضوعات الاقتصادية أو الاجتماعية المحضة، ولا شك أن هذه الأمور مهمة، وهي موضوعات تمس الواقع الإسلامي، وتهم المسلم، ولكن التزام هذه الموضوعات في خطبة الجمعة، أو جعلها هي مدار الخطبة، هو تجريد للخطبة من أهم مقاصدها، وأجل أهدافها، وبالمقابل فإن قصر الخطبة على تعليم بعض المسائل أو الأحكام الفقهية وعرضها عرضا علميا مجردا ليس هو المقصود الأهم من خطبة الجمعة التي تضم حشدا من الناس كل أسبوع. فمنبر الجمعة ليس كرسيا جامعيا لتعليم الدراسات الفقهية، أو الاقتصادية، أو السياسية أو غيرها من الدراسات الأكاديمية، وهو في الوقت نفسه يجب أن لا   (1) زاد المعاد (1 / 398) . (2) انظر: الدراري المضية شرح الدرر البهية (ص 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يكون منفصلا عن هموم الأمة، ولا مبتوتا عن نبضها، وما يصلحها في عقيدتها، وأخلاقها، وما يرفع من همتها، ويعيدها للاعتزاز بدينها قولا وعملا، حكما وتحاكما. وعلى ذلك فإن الخطبة الجامعة المستوفية لخصال النجاح هي الخطبة التي تجمع بين التعليم والوعظ، بين الإجابة عن أسئلة الحاضر والواقع، وما يطرح على الساحة العلمية والإسلامية، وتلبية الواجبات الشرعية في ترسيخ العقيدة، وأساسيات الفقه الإسلامي، والفهم الواعي السلفي النهج للكتاب والسنة، والتحذير من الانحرافات العقدية، والسلوكية إلى جانب التحذير من مكايد العدو، وأساليب الدس والمكر التي يسلكها في تدمير الأخلاق والأسرة، والوحدة الإسلامية. ومع كل ما يقوم به الخطيب من تنبيه وتحذير وتبصير، فإنه ينبغي أن لا يهمل دور خطبة الجمعة الأساسي من الوعظ والتذكير. [ أهمية الوعظ وأدلته من الكتاب والسنة ] وحتى يتبين لك مدى أهمية الوعظ فإنني أسوق هذه الأدلة من الكتاب والسنة: (أ) وصف الله تعالى القرآن بأنه موعظة: 1 - قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] 2 - وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] 3 - وقال جل ذكره: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] 4 - وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور: 34] قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] يعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ذكرى تذكركم عقاب الله تعالى، وتخوفكم وعيده، {مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] يقول: من عند ربكم لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفتعلها أحد فتقولوا لا نأمن أن تكون لا صحة لها، إنما يعني بذلك جل ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله (1) . (ب) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعظ: 1 - قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] قال الطبري: يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم (2) . 2 - وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه فوعظ وذكر، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظ موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب» (3) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (4) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال عطاء: أشهد على ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال، فظن   (1) تفسر الطبري (6 / 567- 568) . (2) المصدر نفسه (4 / 159) . (3) رواه أحمد (4 / 126) ، وأبو داود (السنة- 4607) والترمذي (العلم- 2676) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (المقدمة- 42) . (4) رواه البخاري (العلم رقم 68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أنه لم يسمع فوعظهن (أي: النساء) وأمرهن بالصدقة. . .» الحديث (1) . (ج) أمر الله تعالى بالدعوة إليه بالحكمة " والموعظة الحسنة " والجدال بالتي هي أحسن: قال جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] فالدعوة المكتملة في أسلوبها ووسائلها لا تستغني عن الموعظة الحسنة، لما للموعظة من تأثير على النفوس، وتحريك للقلوب والمشاعر، فلا يكفي إخبار الناس بالحق مجرد إخبار وإعلام، بل لا بد من دفعهم إلى التزامه واتباعه، والاقتناع به، وأجدى سبيل إلى ذلك أن تكون الدعوة إليه بهذه الأمور الأساسية الثلاثة: 1 - الحكمة: وهي مراعاة الحق والاعتدال في الخطاب. 2 - الموعظة الحسنة: وهي التي تنفذ إلى شغاف القلوب ترغيبا وترهيبا. 3 - المجادلة بالتي هي أحسن: أي دون تعسف ولا عنف أو تحامل. وقال ابن جرير: {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام {بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] يقول: بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي نزله عليك {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه وذكرهم بها في تنزيله. {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أي تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك (2) . وقال صاحب الظلال: إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أن يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.   (1) رواه البخاري (العلم- باب عظة الإمام النساء98) . (2) تفسير ابن جرير (7 / 663) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي بينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها. والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة، فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه. والموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. وبالجدال بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق، والنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة (1) . إذا مهما كان موضوع خطبة الجمعة الذي يختاره الخطيب فإنه لن يستغني أبدا عن تضمينها الوعظ والتذكير، فبذلك ينفذ الخطيب بإذن الله تعالى إلى قلوب المخاطبين، فيوقظ مشاعرهم ويبصرهم بخطورة ما هم عليه من غفلة أو انحراف. [ الوعظ بالقرآن ] الوعظ بالقرآن: لما كان القرآن موعظة من ربنا جل وعلا، فهو خير ما يعظ به، ويذكر به الخطيب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جعل معظم خطبته قراءة آيات من القرآن، أو قراءة سورة، أو بعض سورة. وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة " ق " على المنبر إذا خطب الناس. قال النووي: قال العلماء: سبب اختيار " ق " أنها مشتملة على البعث والموت والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة (2) .   (1) في ظلال القرآن (4 / 2202) . (2) شرح صحيح مسلم (6 / 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قلت: هذه السورة العظيمة اشتملت على أمور كثيرة، فابتدأت بذكر القرآن {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ثم ذكر البعث، ومصائر المكذبين، وما استحقوا من وعيد الله جل وعلا، ثم خلق الإنسان، وعدم خفاء شيء من وساوسه، وأقواله وأفعاله على الله تعالى، ثم ذكر مشاهد من القيامة والجنة والنار، واختتمت السورة بالأمر بالتذكير بهذا القرآن {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وأي وعظ أعظم نفاذا إلى القلب من الوعظ بالقرآن. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» (1) . قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] يقول تعالى ذكره: فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليك من خاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخاف أمري. وساق بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: «يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] » ، وعن عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه قال: قالوا: «يا رسول الله لو ذكرتنا، فذكر مثله» (2) . ومما تقدم يتبين لنا أهمية اشتمال خطبة الجمعة على الموعظة والتذكير، واشتمالها على آيات من القرآن العظيم، خاصة الآيات التي تتضمن التذكير بلقاء الله جل وعلا، والتخويف من عقابه، والترغيب فيما عنده. وإن لتلاوة الآيات أثرها في لمس القلوب، وجلاء الصدأ أو الرين الذي تراكم عليها، وفي هتك حجب الغفلة، وإقاظ الفطرة النقية لدى الإنسان. ثم إن ما يورده الخطيب من آيات في خطبته ينبغي أن يكون في موضوع الخطبة، لتكون مدعمة لخطبته، مؤيدة لفكرته، إلى جانب ما تشتمل عليه من مواعظ وزواجر.   (1) رواه مسلم (6 / 149، 160) . (2) (1 / 1 440) وفي الإسنادين أيوب بن سيار أبو عبد الرحمن، وهو متروك الحديث، والثاني: مرسل أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال في توضيح الأحكام من بلوغ المرام: ينبغي أن تكون الآيات التي يقرؤها الخطيب آيات تناسب موضوع الخطبة، وتكون دليلا على ما قال، وتأييدا لخطبته، ولتكون خطبته تفسيرا لها، ومشيرة إلى معانيها، ولئلا يشتت على السامعين أذهانهم باختلاف مواضيع الخطبة (1) . ومما يؤسف له أن بعض الناس يصنف الخطب إلى خطبة فكرية، وخطبة وعظية، مقللا من قيمة الوعظ، كما يصنف الخطباء إلى خطيب مفكر، وخطيب واعظ، مشيرا إلى أن الأول هو الذي يجدر البحث عنه، والاستماع إليه، وهذا تقسيم عقيم، فإن كل خطبة مهما كان الطابع العام الذي يميزها، سواء في ذلك الفكرية، والفقهية، والسياسية. والاجتماعية إذا خلت من الموعظة، والتذكير بأيام الله وآلائه، والتخويف من جزائه وعقابه، فإنها لا تعدو أن تكون معلومات، وقد تكون معلومات قيمة، لكنها ميتة لا تدفع إلى العمل، ولا تخطو بحماسة نحو التغيير والتجديد. وتأمل أسلوب القرآن العظيم، والسنة المطهرة في الترغيب والترهيب، والتبشير، والتحذير، يتبين لك وجه الحق واضحا جليا. [ البدع الميتة ] البدع الميتة: البدعة تشوه جمال الإسلام، وتطمس معالمه، وتذهب بضيائه، ولذا فإن موقف الإسلام حاسم واضح صريح من البدع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) . أي: مردود على صاحبه. والخطيب ينبغي أن يكون له دور في إماتة البدعة، وفي هتك سترها ومحاربة المنكر، ولو أطبق على ذلك الناس، أو معظمهم في حيه وفي غير حيه، لكن مما   (1) توضيح الأحكام، الشيخ عبد الله البسام (2 / 359) . (2) رواه البخاري (الصلح- 2697) ، ومسلم (الأقضية - 1718) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ينبغي أن يتنبه له الحذر من أن يحيي بدعة ميتة دون أن يشعر، وذلك بأن تكون البدعة لا أتباع لها، أو لا تكاد تعرف بين الناس، فيكرر الخطب بالتحذير منها، أو يركز الخطبة بالكلام عليها، وقد كانت نائمة فأيقظها، مغمورة فشهرها، ميتة فأحياها، وجعل الناس يسأل بعضهم بعضا عنها، وبعضهم يسعى للتعرف عليها، وبعضهم يدفعهم الفضول لأن يقرأ حولها، ويجادل عن فكرتها، وهكذا تصبح حديث المجالس، ويغدو الناس بين مؤيد لها، ومنظر لفكرتها، ومعارض لأصلها. إن المنهج الصحيح في التعامل مع مثل هذه البدع والمحدثات، والمنكرات هو دفنها بتركها، وعدم التحدث عنها. وليس المقصود بهذا أن نتركها ونهملها حتى تحيا وتنتشر، بل لا بد من الإنكار على صاحبها في السر لمن علم به، وزجره، وردعه، وتخويفه، فإن ارتدع وإلا فيرفع أمره إلى ولاة الأمر ليأخذوا على يده، ويميتوا فتنته في مهدها. وليس في دفن البدعة، وعدم التحدث عنها ستر على المبتدع، بل طمس على البدعة، وتضييق عليها لئلا تنتشر، ومن التضييق على البدعة أيضا أن نقوم بنشر السنة، وبيان الحق، والأدلة على الاتباع وفضله، والتحذير من مخالفة السنة. أما إذا كانت البدعة قد انتشرت، أو اغتر بها فئات من الناس، وضل بها آخرون، فلا تهاون أبدا في إنكارها وإبطالها، وحشد أهل العلم للرد عليها ومحاربتها، ولا يصلح السكوت عنها. قال في نهاية المبتدئين: ويجب إنكار البدع المتصلة، وإقامة الحجة على إبطالها، سواء قبلها قائلها أو ردها، ومن قدر على إنهاء المنكر إلى السلطان أنهاه، وإن خاف موته قبل إنهائه أنكره هو. . . وقال المروزي: قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لأبي عبد الله: ترى للرجل يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع. فكلح في وجهه، وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس أليس هو إنما لنفسه؟ قلت: بلى، قال: فإذا تكلم كان له ولغيره. . . يتكلم أفضل (1) . وقال ابن عقيل رحمه الله: إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، وضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر في مواطأتهم أعداء الشريعة (2) . ومما يحذر منه في هذا المجال الإخبار عن كتاب مغمور محدود النشر يحتوي على آراء ضالة وأفكار هدامة، بقصد الرد عليه فيحصل بذلك إشهاره وتوجيه الأنظار إليه دون قصد من الخطيب، ومن هذا القبيل أيضا ذكر رأي أو فتوى شاذة لعالم مشهور من أجل الرد عليها، فتكون النتيجة عكس ما قصد إليه الخطيب، وكأنه يقول للناس: إن هذا العالم الكبير يقول بمثل هذا الرأي فلا حرج على من ذهب إلى مثل ما ذهب إليه. فعلى الخطيب أن يكون ذا بصيرة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتقويم النتائج المترتبة على كلامه، فرب خطبة أيقظت فتنه.   (1) الآداب الشرعية (1 / 210) . (2) المصدر نفسه (1 / 237) . ومعنى مواطأتهم: موالاتهم ومعاشرتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 [ الفصل الثاني مقومات الخطيب المؤثر ] الفصل الثاني مقومات الخطيب المؤثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الخطيب قدوة لأهل مسجده، وأهل حيه، فعليه أن يزن كلامه، وسلوكه وطريقة تعامله مع الناس، كما أن عليه أن يقدر الظروف والمناسبات التي تلابس الخطبة، فلكل مقام مقال، والبلاء موكل بالمنطق، وما يقال في مقام النصر والإنعام لا يقال في مناسبة الهزيمة، وما يخطب به في حال الخصومات والمنازعات لا يخطب به في حال الصلح، وما يقال في زمن الأمن غير ما يقال في زمن الفتنة، حيث يكون للسان فيها مثل وقع السيف أو أشد، وما كل ما يعلم يقال، وقد ذكر العلماء أن للكلام شروطا متى أخل بها أوهن فضيلة كلامه، وأذهب جمال نصحه، ومنها: 1 - أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته. 2 - أن يقتصر منه على قدر حاجته، ولا يكن مهذارا في غير حاجة. 3 - أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به. 4 - أن يتوخى به الفائدة من جلب نفع أو دفع ضر. وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق (1) وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: وكلت الفتنة بثلاث: بالجاد النحرير الذي لا يريد أن يرتفع له منها شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليه الأمور، وبالشريف المذكور، فأما الجاد النحرير فتصرعه، وأما هذان: الخطيب والشريف فتحثهما حتى تبلو ما عندهما (2) . ولذا ينبغي أن يكون هناك مقياس دقيق لاختيار الخطباء، وأن يكون بعد فحص وتمحيص، وتقويم لأدائهم فإن الخطباء أئمة الناس إلى الحق أو إلى الباطل، ولا يكفي أن يكون الخطيب حامل شهادة شرعية، أو في اللغة العربية، بل ينبغي أن يعقد لهم دورات للارتقاء بمستواهم، وتحسين أدائهم وعطائهم في هذا المجال.   (1) انظر: أدب الدنيا والدين (ص 266- 268) . (2) رواه نعيم بن حماد في الفتن (1 / 142) بإسناد صحيح عن حذيفة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله في إصلاح المساجد من البدع والعوائد: يشترط في الخطيب أن يكون: 1 - عالما بالعقيدة الصحيحة، متمسكا بها لكيلا يضل الناس. 2 - عالما بالفقه ليصحح عبادته، ويجيب السائلين على علم. 3 - عالما باللغة العربية، وخصوصا الإنشاء ليأخذ بقلوب سامعيه. 4 - نبيها ليستخرج درر الشريعة. 5 - لسنا ليعبر عما يجيش في صدره. 6 - وجيها ليهابه الناس، ويتقبلوا توجيهاته. 7 - صالحا لا يرتكب المعاصي (1) . إذا فليس كل من صعد المنبر خطيبا، وما كل دام جبينه عابد. الخطيب المؤثر: حتى يكون الخطيب مؤثرا ينفذ إلى قلوب السامعين لا بد أن يتصف بصفات كريمة، ويتحلى بخصال من الخير حميدة، ليسمع كلامه، ويقبل قوله، ومن هذه الصفات ما يوضح في المباحث الآتية.   (1) إصلاح المساجد، اختصار محمد الطرهوني (ص 41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 [ المبحث الأول الإخلاص والصدق ] المبحث الأول الإخلاص والصدق المقصود به أن يكون الخطيب لا دافع له إلى الخطبة إلا ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، فلا يحسن الخطبة لأن فلانا سيصلي معه، أو أن فلانا يحب أن يسمعه، أو لكثرة الحضور ونحو ذلك، وإنما يجرد نيته من أي غرض، وأية غاية إلا طمعه فيما عند الله سبحانه وحده. والإخلاص ليس أمرا هينا، بل يتطلب منه مجاهدة ومجالدة لنفسه حتى يستخلص النية الخالصة من بين الأغراض والحظوظ الأخرى، فتصفو صفاء اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. وللإخلاص ثمرته وبركاته الكثيرة على الخطيب وعلى سامعيه. ومن ثمرات الإخلاص: 1 - تحقيق طاعة الله تعالى، وامتثال أمره جل وعلا بأن تكون العبادات والطاعات والتقرب له وحده، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] 2 - تحقيق القبول، فإن شروط قبول العمل ثلاثة، وهي: الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والإخلاص لله وحده، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. 3 - صدق اللهجة، والصدع بالحق وعدم المداهنة فيه، ومراقبة الله تعالى في كلامه، ولا يتأتى هذا إلا بأن يكون المرء مخلصا لله تعالى. 4 - ثقته بنفسه، فالخطيب الذي يخلص لله تعالى يكون عظيم الثقة بنفسه لأنه لا يرهب سخط الناس، ولا يرغب فيما عندهم. 5 - اكتساب ثقة الناس واحترامهم له، ووقوع كلامه في قلوبهم. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهذه الكلمات، أي: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله ما بينه وبين الناس (1) . فالإخلاص عظيم البركة والنفع للإنسان، وعلى الخطيب أن يجاهد نفسه عليه، فإن موقعه مخوف، ومنزلته محفوفة بخطر الرياء والسمعة، حيث إنه يخطب على مرأى ومسمع من الناس، ومن مجاهدته لتحصيل الإخلاص في هذا: (أ) أن يراقب نيته قبل العمل، أي عند إعداد الخطبة وتحضيرها ينظر إلى نيته، فإذا رأى اعوجاجا في القصد قومه وأصلحه، وألزم نفسه الصدق مع الله تعالى والإخلاص في طاعته، فإن أحس أنه يضيف بعض العبارات، أو يحذف بعض الجمل من أجل إرضاء فلان، أو من أجل إسخاط فلان، أو أنه يتكلم في موضوع معين لحظ من حظوظ نفسه، أو لمطمع من مطامع الدنيا، فليقبل على نفسه فيذكرها الله تعالى، ويخوفها من الرياء والعجب، وليكن صادقا حازما في محاسبتها ولا يداهنها ولا يلاينها في هذا الأمر. (ب) أن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه في أثناء العمل، حتى يضمن أنه على الطريق المستقيم، فإن لمس في نفسه تطلعا إلى غير ثواب الله تعالى، والتفاتا إلى غير مولاه، تذكر فاستغفر وأبصر {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] وإذا شعر أنه إنما يرفع من صوته، أو يغير من نبرته، أو يكرر العبارة، أو غير ذلك من أجل إرضاء الحضور أو بعضهم بادر إلى تصحيح نيته، وتقويم قصده. (ج) محاسبة نفسه وتقويمها بعد الخطبة، فإن وجد خيرا حمد الله تعالى على توفيقه، وإن وجد غير ذلك عزم على تدارك أمره، وإصلاح خطئه. "وورود الرياء بعد الفراغ من العمل لا يحبطه، لأنه قد تم على نعت الإخلاص فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به، فأما إن تحدث به بعد فراغه وأظهره فهذا مخوف، والغالب عليه   (1) الآداب الشرعية (1 / 136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإن لم يسلم من الرياء نقص أجره، فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة، ووجود الرياء قبل الفراغ من العبادة إن كان مجرد سرور لم يؤثر في العمل، وإن كان باعثا على العمل. . . فهذا يحبط الأجر (1) . عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (2) . لكن ينبغي أن يكون فرحه بتوفيق الله تعالى له، وبإظهار الجميل من أحواله لا بحمد الناس له، فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير، ويكرموه عليه فهذا رياء (3) . الخطيب من أولى الناس مطالبة بالإخلاص لله تعالى، لأنه ربما رأى مقامه وهو يخطب المئات، ويعلمهم ويذكرهم فيرى أن له فضلا عليهم، وتقدما دونهم، فتحمله نفسه على العجب، والتعالي، والغض من قدر غيره ونسبتهم إلى الجهل، فالإخلاص لله تعالى يعرفه قدر نفسه، ويقيه شرها، ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة أنه كان يبتدئ الخطبة بقوله: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» . . . الحديث " (4) . وهي كلمات عظيمة، وافتتاحية جليلة، يبتدئ بها الخطبة، فليتدبر الخطيب هذه الكلمات، ولا يجريها على لسانه دون وعي لمضمونها، فإن فيها نسبة الحمد   (1) الآداب الشرعية (1 / 32) . (2) رواه مسلم (البر والصلة- 2642) . (3) انظر: المصدر السابق. (4) أخرجه الترمذي وحسنه (النكاح - 1105) ، والنسائي (الجمعة -3 / 105) ، وابن ماجه (1892) ، وأبو داود (النكاح - 2118) وإسناده جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 لله تعالى استحقاقا وأنه يستعين به جل وعلا في شأنه ويستغفره لذنبه وتقصيره، ويستعيذ به سبحانه من شر نفسه، فهو لا يزكيها في هذا المقام، بل يحذرها ويستعين بالله تعالى عليها، ويحتمي به من غدراتها ووساوسها، وما تزينه له. ومن قبح الرياء أن علاماته تلوح على صاحبه، فتنفر الناس منه، وتفقدهم الثقة فيه، وقل ما أخفي فساد السريرة ولم تفضحه لوائح الظاهر والعلانية. قال عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه، وفلتات لسانه (1) . وقال ابن عقيل: للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع كلف بالتلمح متفرس، وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا ظهر مع الزمان على فلتات لسانه، وصفحات وجهه. اهـ (2) . قال زهير: ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فويل للكاتم من الفاضح (3) . فصلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساده، فإذا رئي ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أن القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن (4) ومن هنا فإنه يحسن بالخطيب قبل أن يصعد المنبر أن يتذكر الأمور التالية: 1 - فضل الله تعالى عليه ونعمته، وعظيم إحسانه إليه، وأنه لولا الله تعالى ما وقف هذا الموقف. 2 - الأجر الجزيل، والثواب الجميل على الإخلاص، وصدق النية لله تعالى. 3 - الوعيد الشديد للمرائين، ومن سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به.   (1) انظر: الآداب الشرعية (/ 1136) . (2) انظر: الآداب الشرعية (/ 1136) . (3) انظر: الآداب الشرعية (/ 1136) . (4) انظر: الآداب الشرعية (/ 1136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 4 - أن أعمال المرائين محبطة، لا يقبلها الله تعالى، وليتذكر خبر الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، نعوذ بالله من الخذلان. 5 - أن الناس كلهم لا يملكون له من الله تعالى شيئا، وأن رضاهم أو سخطهم لا يقدم ولا يؤخر، ومن أرضى الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخطهم في رضا الله تعالى رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. قال ابن الجوزي رحمه الله: من لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار: أحدهما من لطف ينالونه به، والثاني: من رضاهم عنه وثنائهم عليه، وقال: من راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم (1) .   (1) صيد الخاطر (ص 253) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [ المبحث الثاني سيرة الخطيب وحسن أخلاقه ] المبحث الثاني سيرة الخطيب وحسن أخلاقه سيرة الخطيب وما يتحلى به من مكارم الأخلاق لها دور كبير في قبول كلامه، واحترام توجيهاته، سواء أكانت هذه السيرة مع أصحابه، وجيرانه، ومن يعاملهم في موقع عمله، أم كانت في بيته، ومع أهله وأسرته، فإن ذلك هو مقياس صدق الخطيب، ومدى احترامه لآرائه ونصائحه. وليس في مخالفة الخطيب لما يأمر به وينهى عنه مسوغ للآخرين بارتكاب ما حرم الله تعالى، أو تعدي حدوده، لكن ضعاف الإيمان يتخذون ذلك أسوة لهم، ويجعلونه حجة يحتجون بها على من ينصح لهم، فيكون بذلك إثمه مضاعفا، حيث إنه خالف إلى ما نهى عنه، وترك ما كان يأمر به، ثم إنه سهل فعل الحرام وارتكاب المنهيات على ذوي النفوس المريضة، فافتتنوا به حين جعلوه قدوة لهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] وقال جل وعلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] ومن المقت الذي يصيب من يقول ما لا يفعل، ويأتي ما ينهى عنه، ما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم من جزائه في الآخرة. عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وآتيه» (1) وفي رواية: وسمعته يقول: «مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون» ، وفي رواية أخرى، قال: «خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» (2) . ولما كانت الخطابة من المهام القيادية في الأمة، وجب أن تكون مضبوطة بضوابط الشرع حتى لا يكون إفسادها أكثر من إصلاحها. وكذلك لما كان الخطيب آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر فإنه ينبغي أن تتوفر فيه شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومن أهم هذه الشروط أن يكون: 1 - متواضعا. 2 - رفيقا فيما يدعو إليه شفيقا رحيما، غير فظ ولا غليظ القلب ولا متعنت. 3 - عدلا صائنا نفسه عن أسباب الفسق، وما يجرح عدالته. 4 - فقيها عالما بالمأمورات والمنهيات شرعا. 5 - دينا نزيها عفيفا. 6 - ذا رأي، وصرامة، وشدة في الدين. 7 - قاصدا بذلك وجه الله عز وجل وإقامة دينه، ونصرة شرعه، وامتثال أمره، وإحياء سننه، بلا رياء، ولا منافقة، ولا مداهنة. 8 - غير متنافس في الدنيا ولا متفاخر. 9 - ممن لا يخالف قوله فعله. 10 - حسن الخلق (3) .   (1) رواه البخاري بدء الخلق 3267، ومسلم الزهد 2989 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. (2) أخرجه أحمد (3 / 120، 231) من حديث أنس رضي الله عنه، وفي الإسناد علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. (3) انظر: الآداب الشرعية (1 / 191) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وسيرة الخطيب سرعان ما تنتشر بين الناس، والشائعات قد لا تقف عند حد، والناس ينظرون إلى العلماء والخطباء والآمرين بالمعروف بعيون بصيرة، والناقد بصير، وأعمال هؤلاء موضوعة تحت المجهر المكبر، فصغيرتهم تضخم إلى كبيرة، وكسرهم ليس له جبيرة، ومن الأمثال السائرة: زلة الجاهل يغطيها الجهل، وزلة العالم يضرب بها الطبل (1) . ومن الأبيات السائرة: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (2) وعلى الخطيب أن يحذر مراقبة الله تعالى له قبل أن يحذر رقابة الناس عليه. عن مسروق رحمه الله قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقالت: تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم، قالت: فعله بعض نسائك؟ فقال: ما حفظت وصية العبد الصالح إذا: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] (3) . فانظر كيف احتجت هذه المرأة بفعل بعض نساء ابن مسعود رضي الله عنه وحاججته في ذلك. وهكذا فالناس شديدو الرقابة للعلماء والخطباء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ورقابتهم لا تنحصر في العالم والخطيب نفسه، بل يرقبون نساءه، وأولاده، وأحفاده، ويتعلقون بأفعالهم، ويستدلون بسيرتهم وسلوكهم، والناس- إلا من رحم الله- يغلب عليهم الميل إلى التسويغ والترخص بأدنى الشبهات. ولا يكفي أن يكون الخطيب واقفا عند حد الكف عن المنكر الذي ينهى عنه، أو فعل الواجب الذي يأمر به، أو الالتزام به، أو الالتزام بالخلق الحميد الذي يحض عليه، بل ينبغي أن يكون متميزا عن غيره ممن يقتدي به: بفعل النوافل، والمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الطاعات، والتشمير والمبادرة إلى   (1) الأمثال السائر. (2) البيت من قصيدة مشهورة لأبي الأسود الدؤلي رحمه الله. (3) تفسير ابن كثير (2 / 458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كل خصلة كريمة، مع زيادة الورع، وقوة الشخصية، وصلابة الإيمان، فهو قبل أن يأمر الناس بخير ينبغي أن يكون أسبقهم إلى فعله. وليعلم الخطيب أنه مهما بلغت فصاحته، وتجلى بيانه، ومهما بلغ من قوة الإلقاء، ونصاعة الأسلوب فإنه لن يستطيع أن يقنع أحدا بفكره، أو أن يستميل القلوب لدعوته ما لم يكن مخلصا في دعوته، نقيا في سيرته. بل إنه مع ذلك لا يستطيع أن يسلم من غمز الناس به في سلوكه، فليوطن نفسه على ذلك، وكم رأينا وسمعنا من خطيب مصقع، لكن الناس يجلسون في خطبته جلوس المحكومين ظلما وكأنهم يستمعون إلى قاض ظالم يتلو عليهم قرار الحكم، وكم رأينا كذلك من خطباء يتمنى الحضور لو أن خطبة أحدهم تمتد ساعات، وهذا شيء مشاهد معلوم، فليس الأسلوب وحده أو البلاغة والفصاحة وحدها هي التي تجذب قلوب الناس وتحببهم في الخطيب أو الداعية. ولن يستطيع الخطيب أن يقف صادعا بالحق، واثقا مما يقول، وهو يعلم أن العيون تغمزه، والقلوب تمقته، وأنه ملوث السيرة، غير نقي الذيل. فكأن الناس وهم ينغضون إليه رؤوسهم، ويرمون إليه بأبصارهم يقولون بلسان حالهم: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدا وأنت من الرشاد عقيم (1) قال السبكي رحمه الله: وعليه- أي: الواعظ- نحو ما على الخطيب، فليذكر بأيام الله، وليخف القوم في الله تعالى، وينبئهم بأخبار السلف الصالحين، وما كانوا عليه، وأهم ما ينبغي له وللخطيب أن يتلو على نفسه قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]   (1) الأبيات من القصيدة المشار إليه قبل قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ويتذكر قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم واعلم أن الكلام إذا لم يخرج من القلب لم يصل إلى القلب، فكل خطيب وواعظ لا يكون عليه سيما الصلاح قل أن ينفع الله به (1) . القدوة الصالحة: قد جعل الله تعالى الأنبياء هم القدوة للبشر في الخير، فهم الكمل في سيرتهم، المصطفون في أخلاقهم، ولو أن المشركين باختلاف عصورهم وأممهم وجدوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأخذا في سلوكهم لطاروا به، ولأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ولجعلوه من أقوى حججهم في رد دعوتهم، ولكن أنى لهم ذلك. وها هم مشركو العرب يطأطئون رؤوسهم أمام عظمة خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكريم صفاته وخلاله، ولطالما كانوا يتمنون لو وجدوا مغمزا عليه صلى الله عليه وسلم في سيرته في شبابه أو في كهولته ليرموه به في كل مجلس، أو يطعنوا به كلما دعاهم إلى الله جل وعلا، لكنهم لم يجدوا بدا من أن يقروا له بالفضل، ويصفوه بأنه الصادق الأمين، وكفى بهاتين الصفتين برهانا في إقامة الحجة عليهم. ولقد حاولوا الطعن فيه، والتشكيك في دعوته، من خلال بشريته، وأنه كسائر البشر، ينكح، ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وما علموا أن مكمن العظمة، وسر الكمال هو في كونه بشرا، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] وقال تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24] وما فطن هؤلاء إلى عظيم غبائهم، وعمى قلوبهم حيث يجلون الرسول المرسل من الله تعالى للبشر أن يكون بشرا، ولا يجلون الإله أن يكون حجرا. إن التربية بالقدوة من أهم وسائل التربية لاكتساب مكارم الأخلاق، وذلك لأن الناس يتأثرون بالأفعال أكثر من تأثرهم   (1) معيد النعم ومبيد النقم، عبد الوهاب السبكي (ص89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالأقوال، وتبرز خصوصية القدوة العملية في عدة مزايا: الأولى: أن الفعل لا يرد عليه شبهة التطبيق، أما القول فممكن ورودها عليه، فمهما كان علم المدرس، أو الخطيب، أو العالم، ومهما بلغ في وعظه فإنه قد يعتمل في أذهان الكثير ممن يسمعه، هل يعمل هذا بما يعلم؟ وهل يطبق ما يقول؟ بينما لا يرد مثل هذا على العالم العامل إذا رأوا عمله، وأبصروا سيرته. الثانية: أن القدوة العملية تترجم القول إلى فعل، والعلم إلى عمل، والعمل ظاهر للجميع، مفهوم للجميع، في حين أن القول قد يخفى على بعض الناس مراميه ومقاصده. الثالثة: أن القدوة العملية تقطع عن العمل شبهه المثالية، أو الخيالية، وأنه يستحيل تحقيقه، أو يصعب جدا، وهذه شبهة يتعلق بها كثير من الناس في زماننا، فإنهم إذا دعوا إلى مكارم الأخلاق ومعاليها، قالوا: هذه مثاليات وأمور خيالية تعيش في الذهن ولا تحيا في الواقع، وهي شبهة ليست بجديدة، ونعوذ بالله تعالى من الخذلان. إذا فليحرص الخطيب على أن يكون قدوة صالحة لحيه، وأهل مسجده ومن يعرفه، فيدعوهم بفعله قبل قوله، وبعمله قبل علمه، ولا يبعد المسافة بين القول والعمل، فكم فيهم من عدو شامت. قال الطغرائي في لاميته: غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل (1) . وقال أبو الفتح البستي: يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء ريان (2) وهذه بعض الآثار والحكم والأشعار الواعظة في هذا الباب: عن الشعبي قال: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ قالوا:   (1) الطغرائي: هو العميد أبو إسماعيل الحسين بن علي ت 513 هـ وهذا البيت من لاميته المشهورة، انظر: جواهر الأدب (ص686) . (2) المصدر نفسه (ص 672) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله. * وقال ابن عمر ابن عبد البر: قدم ذم الله عز وجل في كتابه قوما كانوا يأمرون الناس بأعمال البر، ولا يعملون بها ذما، ووبخهم الله توبيخا يتلى في طول الدهر إلى يوم القيامة , فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] (1) . * ويروى عن أبي جعفر محمد بن علي (2) في قول الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره. * قال أبو العتاهية (3) . وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع * وقال سلم بن عمرو المعروف بالخاسر (4) . ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد * وقال أبو العتاهية أيضا: يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيهما كملبس الثوب من عري وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها وأعظم الذنب بعد الشرك نعمله ... في كل نفس عماها عن مساويها عرفانها بعيوب الناس تبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الذي فيها * وقال: قد بين الرحمن مقت الذي ... يأمر بالحق ولا يفعل من كان لا تشبه أفعاله ... أقواله فصمته أجمل   (1) صحيح جامع بيان العلم لابن عبد البر (ص 234- 235) . (2) هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما كان من فقهاء المدينة توفي سنة 119 هـ (شذرات الذهب / 1149) . (3) هو أبو إسحاق إسماعيل بن قاسم شاعر مشهور أكثر شعره حكم وأمثال (ت 211 هـ) معجم المؤلفين (2 / 285) . (4) مجمع الحكم والأمثال (199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 [ المبحث الثالث ثقافة الخطيب وعلمه ] المبحث الثالث ثقافة الخطيب وعلمه الخطيب داعية، فيلزمه ما يلزم الداعية إلى الله تعالى من العلم والثقافة، ومن المعلوم بالمشاهدة أن الخطيب أو الداعية إلى الله كلما كان أوسع علما، وأشمل ثقافة كان أكثر تأثيرا، وأشد جذبا للسامعين. وثقافة الخطيب عنصر مهم من عناصر نجاحه في مهمته، فالخطيب ذو الثقافة يعرف كيف يطرح موضوعه، وأي الموضوعات يطرح، وكيف يناقشه، ويعرف من يخاطب من الناس، وكيف يخاطبهم، ويعرف واقعه، وكيف يتعامل مع هذا الواقع، ويصوره للناس أدق تصوير ليبين مدى انسجامه مع الإسلام أو عدم انسجامه، ويجيد الربط بين ماضي أمته وحاضرها، وانطلاقتها إلى مستقبل واعد عزيز. فعلى الخطيب أن لا يهمل هذا الجانب أو يتهاون فيه، فيكتفي بأن يعمد يوم الجمعة وقبل الخطبة ببضع ساعات إلى كتاب في الوعظ، أو في الحديث، أو إلى تفسير آية فيجمل الكلام في شرح حديث أو تفسير آية، في دقائق معدودة، حتى يصبح ذلك متكررا منه إلى درجة الرتابة المملة، وهيهات أن تكون الطريق إلى القلوب عبر ثقافة ركيكة، أو معلومات ضحلة، أو أسلوب متكرر معاد. والخطيب الناجح لا يخرج عن كونه أحد الرجلين: الأول: واع حافظ يقوم بتبليغ ما وعى وما حفظ بأسلوب حكيم، وموعظة حسنة، فينطبق عليه حديث رسول الله بمدحه المشهور: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (1)   (1) حديث صحيح مشهور أخرجه أحمد (1 / 437) ، والدارمي (24 المقدمة) ، وأبو داود (3660) ، والترمذي (5 / 34) ، وابن ماجه (1 / 84) ، وابن حبان (66، 69) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 17- 18) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (ص 41- 43) من أحاديث عدد من الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فهو وعاء للعلم حافظ له، ثم مبلغ مؤد له بأمانة. الثاني: واع فقيه لهذا العلم يقوم بتبليغه ونشره وهو أعظم درجة من الأول، فهو في هذه الحال ليس وعاء للعلم فقط، بل هو يفقه ما يحفظ، ثم يدعو إلى الله تعالى على بصيرة ونور، قال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] والبصيرة كلمة عامة واسعة تتناول معاني عديدة، ومن معانيها: عقيدة القلب، والفطنة والفراسة، والحجة واليقين والاستبصار في الأمور (1) . قال ابن كثير في تفسير الآية: أي طريقته، ومسلكه، وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها، على بصيرة وبرهان عقلي وشرعي (2) . ولذلك فإن أنواعا متعددة من الثقافة التي تلزم الخطيب لإنجاح مهمته، وتحقيق الهدف المقصود منها لا يبعد أن تنضوي تحت مفهوم البصيرة، ومن هذه الثقافات اللازمة للخطيب: [ الثقافة اللغوية ] الثقافة اللغوية، وأدنى الكمال فيها أن يكون كلام الخطيب سليما من الخطأ، صحيحا فصيحا، فلا يقبل من الخطيب أن يرفع المفعول به، وينصب الفاعل، ويقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم في خطبته، فإن اللغة وعاء الفكرة، فإذا كانت لغة الخطيب ركيكة، وأسلوبه غير صحيح ولا فصيح فربما لا يلتفت إلى فكرته، ولو كانت في غاية الأهمية، وقد غلب على كثير من الخطباء هذا الضعف اللغوي- مع الأسف- حتى أصبح ظاهرة مؤلمة، وحتى أصبح المرء يسمع من على المنبر " إن المسلمون اليوم " ويسمع " كان المسلمون عزيزون بهذا الدين " بل غدا المرء يسمع ما هو أفحش وأقبح، مما ينبغي أن تنزه عنه المنابر، ومما لا يعد من أخطاء الخاصة، بل من أخطاء العامة التي لا يليق بحال من الأحوال وقوع الخطيب فيها.   (1) انظر: لسان العرب، بصر (4 / 64- 66) ، مختار الصحاح (ص54) . (2) تفسير ابن كثير (2 / 496- 497) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قال ابن حبان: الفصاحة أحسن لباس يلبسه الرجل، وأحسن إزار يتزر به العاقل. . . ولا يكون سيان عند ذوي الحجا رجلان: أحدهما يلحن والآخر لا يلحن. وقال ابن هبيرة (1) في الذي لا يلحن: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزل، والذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه. وقال عبد الرحمن بن مهدي (2) ما ندمت على شيء ندامتي أني لم أنظر في العربية. قال ابن حبان: وأحوج الناس إلى لزوم الأدب، وتعلم الفصاحة أهل العلم (3) ومن الثقافة اللغوية المطلوبة من الخطيب أن يكون أسلوبه رصينا يتمتع بقدر من البلاغة التي تعني قدرته على أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه (4) بفصاحة، وجلاء عبارة، مع الاقتباس والتمثيل من القرآن الكريم، ومن الحديث والشعر، والمثل، وغير ذلك، ولن يحصل للخطيب هذا الرصيد اللغوي والأدبي إلا أن يكون له صلة وثيقة بكتب الأدب واللغة، وما تضم من أساليب البيان، والحوارات الأدبية، وما تشتمل عليه من رجاحة الأحلام، وصحة العقول، وبلاغة الألسنة، وآداب الخطباء، وآداب الخطب، ومدح الفصاحة وشدة العارضة، وظهور الحجة، وثبات الجنان، وجودة القريحة، وما تذكره من نماذج رائعة للخطب القصار، والطوال، وخطب المناسبات، ومواعظ النساك، وتأدب العلماء، وغير ذلك مما يعظم أثره، ويطول ذكره. وكذلك ما تشتمل عليه هذه الكتب من ذم للتشدق المتكلف، والتقعر، والعي، وكثرة الحركة، والنحنحة، وعيوب اللسان والأساليب، وغير ذلك.   (1) هو يحيى بن محمد بن هبيرة أديب فقيه من الكتاب الوزراء ت 560هـ معجم المؤلفين (13 / 228) . (2) أحد أئمة الحديث وحفاظه الأعلام ت سنة 198هـ. انظر: (التقريب 4018) . (3) روضة العقلاء (ص 219- 223) . (4) وانظر: لسان العرب (10 / 302 بلغ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فلا يستغني الخطيب عن النظر في أمهات كتب الأدب، وعلى رأسها أربعة، وهي كما قال ابن خلدون: " سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها، وفروع عنها " (1) . وهناك كتب أخرى لا تقل عن هذه الأربعة يحسن بالخطيب أن يكرر النظر إليها بين الحين والآخر، منها: عيون الأخبار لابن قتيبة، وروضة العقلاء لابن حبان، وأدب الدنيا والدين للماوردي، وغير ذلك من أشعار الحكمة، والأخلاق، كأشعار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وشعر الإمام الشافعي، وديوان الحماسة، ومختارات البارودي، وأشعار العلماء المبثوثة في تراجمهم وسيرهم، فإن كتب التراجم من أعظم مصادر الإمداد الثقافي والخلقي التي لا ينبغي إغفالها. ومن المؤلفات المعاصرة سلسلة: صور من حياة الصحابة، وصور من حياة التابعين للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله، وسلسلة شعراء الدعوة الإسلامية، وغير ذلك. وينبغي الحذر عند مطالعة كتب الأدب ونحوها من الأمور التالية: (أ) ما تشتمل عليه من الأحاديث الواهية، والموضوعة، فمثل هذه الكتب لا تصلح أن تكون مصدرا للأحاديث النبوية لما تتسم به من تساهل في إيرادها، وذلك لعدم علم مؤلفيها بالحديث وعلومه، وعدم تحرزهم من ذكر الأخبار المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن اهتمامهم ينصب على الناحية البيانية البلاغية، فليحذر الخطيب من الاستشهاد بحديث يكون عمدته فيه كتابا من كتب الأدب، إلا أن يكون حديثا صحيحا قد بين أهل العلم صحته، وكذلك الحال بالنسبة لآثار الصحابة والتابعين، فإن كتب الأدب واللغة ليست من مظان مثل هذه الآثار.   (1) انظر: مقدمة البيان والتبيين (الصفحة الأولى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (ب) ما فيها من سقطات تتنافى مع أدب الإسلام، مثل مدح الخمرة، ووصف المردان، والنساء، وآلات اللهو والغناء، والقيان، وغير ذلك. (ج) عدم اعتماد الوقائع التاريخية، والأحداث الكبيرة التي مرت بالأمة الإسلامية، وسير الخلفاء، والسلاطين، فإن إثبات مثل هذه الوقائع ينبغي أن يرجع فيه إلى كتب الحديث المعتمدة، وكتب التاريخ والطبقات، وليس كتب الأدب. (د) ما فيها من هجاء مقذع، وألفاظ بذيئة فاحشة، ومن تعرض للأعراض والحرم، وهتك ما أمر الله تعالى بستره من ذلك. (هـ) الإكثار من قراءتها، فإن المقصود من قراءة هذه الكتب والنظر فيها إصلاح المنطق، وتقويم اللسان، وتجويد اللغة، ونحو ذلك مما يعد من الوسائل، لا من المقاصد، فلا تعطى أكثر مما تستحق من الوقت والجهد. قال ابن الجوزي رحمه الله: معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان، وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب، وهو أمر لازم، وما عدا ذلك فضلة لا يحتاج إليها، وإنفاق الزمان في تحصيل هذه الفضلة مع كونها ليست بمهمة، ومع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل لكان حسنا، ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل (1) . [ الثقافة الشرعية ] الثقافة الشرعية: وتتنوع إلى أنواع، فمنها ما هو ألزم كفقه العقيدة، وأصول الإيمان، والتوحيد بأنواعه الثلاثة، ومنها ما هو لازم للخطب وهو الأنواع التالية: 1 - فقه ما يتعلق بصلاة الجمعة، وأحكام الجمعة، والخطبة. 2 - فقه ما يرتبط بالمناسبة، فإذا خطب عن الحج لمناسبته، أو عن الصوم بمناسبة حلول شهر رمضان، فينبغي أن يكون فقيها بأهم أحكام الحج، وأهم أحكام الصيام، وإذا تكلم عن الربا، أو الرشوة، أو تكلم عن المخدرات، وغير ذلك فينبغي أن يكون ملما بأطراف موضوعه، فقيها بأهم أحكامه، فإنه ربما سئل عن بعض مسائله.   (1) تلبيس إبليس (ص 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 3 - فقه عام، وهدا يعتمد على دراسة الخطيب الشرعية وعلمه، واطلاعه في هذا الجانب. وأنبه هنا إلى ناحيتين: الأولى: تتعلق بالخطيب، فعليه أن يتقي الله تعالى، ولا يفتي فيما لا يفقه ولا يدخل فيما لا يعلم، وما لا يحسن، ولا تحملنه إجادة القول على الإعجاب بنفسه، والإسراع إلى الفتوى، ولا سيما إذا لم يكن من طلبة العلم، أو دارسي العلم الشرعي، والتقوى تقتضي أن يكون شجاعا فيرد الأمر إلى عالمه، أو يقول لا أدري فتسلم مقالته. الثانية: تتعلق بالمصلين والمخاطبين، عليهم أن يعلموا بأنه ليس كل من يحسن الخطابة يحسن الفتوى، ولا يفترض في الخطيب أن يكون فقيها مفتيا، وليس نقصا في الخطيب أن لا يكودن مفتيا أو مجتهدا، فلكل علم رجال، وقد يجيد المرء جانبا من جوانب العلم، ولا يجيد آخر، فعلى المصلين أن لا يحرجوا الخطيب، ولا ينزلوه فوق منزلته. 4 - ومن ذلك فقه ما يرقق القلوب، وينعش النفوس من الزهد والرقائق، ولطائف السير، وأخبار الصالحين، فإنها منشطة للنفوس، باعثة للعمل والتأسي. قال ابن الجوزي: "رأيت الاشتغال بالفقه، وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين، فأما مجرد العلم بالحلال فليس له كبير عمل في رقة القلب، وإنما يرق القلب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين. . . وما أخبرتك بهذه إلا بعد معالجة وذوق فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف الزهاد في الدنيا ليكون سببا في رقة قلبك (1) . وقال في ذكر تلبيس إبليس على الفقهاء: "ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم، ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن، وسماع الحديث، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة، والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة. . . ومن   (1) صيد الخاطر (ص 197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنه سلوك طريق!! (1) . إن من المفيد للخطيب في هذا أن يقتني بعض الكتب في الرقائق، والوعظ، والزهد، ومنها: كتاب الزهد والرقائق لا بن المبارك، كتاب الزهد للإمام أحمد، والزهد لوكيع، والزهد للبيهقي، كتب ابن الجوزي الوعظية مثل صيد الخاطر، والمقلق، والمدهش، وغيرها، مدارج السالكين لا بن القيم، منهاج القاصدين، موعظة المؤمنين، وكلاهما مختصر لإحياء علوم الدين، أبواب الزهد والرقائق في كتب الحديث. [ الثقافة العامة ] الثقافة العامة: تعتمد الثقافة العامة للخطيب على شخصيته العلمية، وسعة اطلاعه، وحبه للقراءة، وكذلك على مخالطته للناس، وانخراطه في الحياة الاجتماعية، وعلي أسفاره وتجاربه الخاصة. والثقافة العامة المقصودة هنا تتناول جوانب عديدة: 1 - الاطلاع على وقائع الأمة، وحاضر العالم الإسلامي، من النواحي العامة، والاقتصادية، والأخلاقية، والسياسية، وما يحاك له من مؤامرات، وأبعاد الكيد والعداوة للإسلام والمسلمين، وجوانب الغزو الفكري، والثقافي والعلمي، وما يدبر للمرأة المسلمة، وللشاب المسلم، وللطفل المسلم، من مكايد ودسائس، وليس مطلوبا من الخطيب الإحاطة الكلية بما يجري في العالم الإسلامي، ولكن أن يكون على اطلاع بأهم أمراضه، وهمومه، وعلاج أدوائه. 2 - الاطلاع على واقع المخاطبين في مسجده، وحيه، وفي مجتمعه، فإذا تكلم محذرا من بدعه من البدع مثلا فينبغي أن يكون عالما بتعريف البدعة،   (1) تلبيس إبليس (ص 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وأقسامها ومخاطرها على الأمة، مستشهدا بالأدلة من الكتاب والسنة، وبأقوال السلف الصالحين، مع الالتزام بأدب النصح، " فإن المؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعير ويفشي ويفضح " (1) . 3 - الاطلاع على واقع الدعوة، والدعاة في العالم الإسلامي، وواقع الحركات الإسلامية ودورها في إيقاف المد الثقافي الغربي، وما ينقصها من وعي وتخطيط وتآزر وتعاون وتناصح، مع الالتزام بالأدب واللطف، وسعة الصدر، والحرص الشديد على اتفاق القلوب على الحق، وعدم اختلافها وتنازعها، فإنه لا يسع الخطيب جهل ساحة العمل الإسلامي، وجهل العاملين في هذه الساحة. 4 - فقه الحدث، أي ما يطرأ من أحداث، وكيفية التعامل معها وفق الضوابط الشرعية، فعلى الخطيب أن يحسن التعامل مع هذا الحدث لئلا يكون مزلقا من المزالق التي تسقط الثقة به، وحتى لا يكون لطريقة معالجته الخاطئة آثار نفسية أو عقدية تنعكس على العامة، وعلى الخطيب أن لا ينساق وراء التحليلات الصحفية، أو الشائعات الشعبية في الحكم على هذا الحدث، والأحداث منها ما يكون من الكوارث الطبيعية، من زلازل وبراكين، أو أمراض فتاكة، ونحو ذلك. فلا يغفل الخطيب عن ربط ذلك بالسنن الإلهية، وعن التذكير بانتقام الله تعالى، وبآثار الذنوب والمعاصي على تغير الأحوال، ومن الأحداث ما يكون حدثا علميا تدوي أصداؤه في أرجاء العالم، مثل حدث الصعود على القمر، أو حدث الاستنساخ الجيني, أو التلاعب في الخصائص الوراثية، فعلى الخطيب أن يكون حذرا في طرح مثل هذه الموضوعات إذ لا يحسن به أن يتغافلها كليا، ولا يحسن به المسارعة إلى طرحها دون الإلمام بجوانبها، ولا المسارعة إلى الفتوى بشأنها قبل صدور فتوى شرعية من مصدر معتمد من مصادر الفتوى، مثل المجامع الفقهية ونحوها من الهيئات العلمية التي تصدر الفتاوى في النوازل بعد دراسة وتمحيص من عدد من العلماء والفقهاء.   (1) هذه العبارة من كلام الفضيل بن عياض رحمه الله، الحلية (/ 190) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومن الأحداث ما يكون من قبيل الفتن التي يجب أن يكون الخطيب شديد الحذر والاحتراس في الكلام بشأنها، فإن الفتنة تقبل بشبهة، وتدبر ببيان، وليكن فيها كما قال حذيفة رضي الله عنه: كابن اللبون لا ظهر فيركب، ولا در فيحلب (1) . والمقصود أن يحترس من الفتوى فيها، أو التحريض، أو الكلام إلا في الدعوة إلى خير أو إصلاح بين الناس، في فرب قول أنفذ من صول، بل رب حرف قاد إلى حتف، وجر إلى بلاء، وليحذر كل الحذر أن يكون من خطباء الفتنة، وليقل خيرا أو ليصمت.   (1) أخرجه نعيم في الفتن (1 / 140) من كلام حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [ المبحث الرابع لغة الخطيب وفصاحته ] المبحث الرابع لغة الخطيب وفصاحته تقدم الكلام على ما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من ثقافة لغوية، وأنبه هنا على بعض الأمور التي تجعل لغة الخطبة أكثر جلاء، وأشد قبولا لدى المستمعين، وهي: 1 - تجنب الألفاظ العامية الساقطة، والكلمات المرذوله، فإن مقام المنبر ينبغي أن ينزه عن كلام السوقة، والأسواق. 2 - إعادة الكلام إذا رأى الحاجة لذلك، كأن يكودن معظم الحضور من العامة، أو بعض الأفكار تحتاج إلى إعادة لعدم وضوحها، أو لأهميتها. عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا» (1) . فربما احتاج الخطيب أن يعيد بعض كلامه مرتين، أو ثلاثا حيث يرى المقام يقتضي ذلك، قال الجاحظ: وجملة القول في الترداد أنه ليس فيه حد ينتهي إليه، ولا يؤتى إلى وصفه، وإنما ذلك على قدر المستمعين له، ومن يحضره من العوام والخواص، وقد رأينا الله عز وجل ذكر الجنة والنار مرات كثيرة، لأنه خاطب جميع الأم من العرب، وأصناف العجم، وأكثرهم غافل، أو معاند مشغول الفكر ساهي القلب، وأما حديث القصص والرقة، فإني لم أر أحدا يعيب ذلك، وما سمعنا بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الألفاظ وترداد المعاني عيا (2) .   (1) رواه البخاري: (العلم: 94- 95) . (2) البيان والتبيان (1، 58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 3 - أن يحضر الخطبة، ويبذل جهده في تحضيرها، ويضبطها بالشكل إذا كان يقرؤها قراءة، أو يقرؤها مسبقا بحضرة من هو أعلم منه، ليقوم بتصحيحها وضبطها، ولا عيب في هذا ولا غضاضة، بل هو من تمام النصح وكمال العمل. 4 - أن يضبط الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ضبطا دقيقا حتى لا يقع الغلط والتصحيف. 5 - أن يتجنب السجع المتكلف، فإنه إذا كثر وكان عن تكلف كان ثقيلا على الأسماع مانعا من حسن الاستماع. 6 - أن يختار الأسلوب السهل الواضح ما أمكن مع القوة والجزالة، وذلك لأن أكثر مستمعيه هم من العامة، أو من متوسطي الثقافة غالبا، لذلك قالوا: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ " (1) .   (1) زهر الآداب للحصري (1 / 148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [ المبحث الخامس نبرة الصوت والحركة ] المبحث الخامس نبرة الصوت والحركة ومما يساعد على قوة لغة الخطيب، ووضوح موضوعه، وجلاء عرضه لفكرته نبرة صوته وحركة يده، فعلى الخطيب أن يراعي لذلك الأمور التالية بالنسبة للصوت: 1 - وضوح الصوت، وعلوه في اعتدال. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين. . .» الحديث (1) . فعلى الخطيب مراعاة الاعتدال في علو صوته، ومراعاة حاجة المكان والجمع مع عدم الإسراع في إلقائه. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب: أنذركم النار، أنذركم النار. . .» الحديث، وفي رواية: «سمع أهل السوق صوته» (2) . 2 - تغيير نبرة الصوت من وقت لآخر فإن في هذا تنشيطا لنفسه ولسامعيه، وإعطاء للجمل حقها من الاهتمام، ولا شك أن إلقاء الخطبة على نبرة واحدة طوال الوقت يحمل المستمعين على الملل والكسل، فعلى الخطيب أن ينوع من نبرة صوته حسب المعاني والجمل ونوعها. 3 - أن يتهيأ قبل الخطبة فيبعد عما يؤثر على صوته، فلا يأكل طعاما أو يشرب شرابا يذهب بقوة صوته، أو يجعله يحشرج إذا تكلم. 4 - الإقلال من التنحنح في أثناء الخطبة، أو بلع الريق، أو انقطاع النفس، فإنها تشغل المتكلم والسامع معا.   (1) رواه مسلم (الجمعة 867) . (2) رواه الدارمي في سننه بإسناد صحيح (2 / 786) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 5 - حسن الوقوف في موطن الوقوف والبدء في موقع البدء، ولا يحسن بالخطيب أن يتوقف في وسط الجملة التي لم تتم، أو يجعل جزءا منها في صفحة، والجزء الآخر. في الصفحة الأخرى، فحسن الوقوف والابتداء يدل على فصاحة الخطيب وفهمه لما يلقي. 6 - تجنب عيوب اللسان ما استطاع كالفأفأة، واللثغة، والصفير، والتعتعة، ونحو ذلك مما يوجه الأسماع إلى متابعة هذه العيوب ويصرفها عن تدبر المعاني والأفكار، فإذا لمس من نفسه شيئا من ذلك فليتجنب الألفاظ، والكلمات التي توقعه فيه. 7 - ثبات الصوت بحيث لا يبدو للأسماع مرتجا متلجلجا شأن الخائف أو القلق والمضطرب، أو يبدو عليه الارتباك والخجل. 8 - التسليم على المصلين إذا صعد المنبر، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث «كان إذا صعد على المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم» (1) . أما بالنسبة لحركة الخطيب على المنبر، فيراعى فيها الأمور التالية: 1 - أن يكون وقوف الخطيب ثابتا، يظهر عليه سيما الرزانة والمهابة، والوقار، والشعور بالثقة، والجد، فلا يحسن أن يبدو بمظهر الهازل على المنبر، ويكون رابط الجأش وقور الحركة. 2 - ألا يكثر من الالتفات أو حركة اليد، أو الرأس، أو الجسم. 3 - تناسب حركة اليد، والإشارة مع الألفاظ والكلمات، قال الحجاج لأعرابي: أخطيب أنا؟ قال: نعم، لولا أنك تكثر الرد، وتشير باليد، أي: تكثر من ذلك.   (1) رواه ابن ماجه (1 / 352) والأثرم كما في تنقيح التحقيق (2 / 1212) من طريق عبد الله ابن لهيعة، وهو ضعيف، ورواه ابن عدي في الكامل (2 / 212) والضياء في المختارة من طريق الوليد بن مسلم، ثنا عيسى بن عبد الله الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديث موضوع (العلل 1 / 205) ورواه الأثرم عن الشعبي مرسلا، وفي إسناده مجالد وهو ضعيف. التلخيص (3 / 62) ، لكن له طرق أخرى تعضده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قال الجاحظ: وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان (1) . وأما القول بأن الخطيب يقف ساكنا لا يحرك يديه، ولا منكبيه، ولا يقلب عينيه، ولا يحرك رأسه، فهذا غير سديد، وإنما يناسب بين الحركة والنطق، والإشارة والعبارة، ويراعى أن لا يشعر المتحدث أنه ملزم بالجمود في بقعة محددة، أو أن أعضاء جسمه ممنوعة من الحركة، فالمهم أن لا ننفر من استخدام الإيماءات ونوظفها بنجاح (2) . 4 - إذا كان الخطيب يقرأ الخطبة فينبغي أن يحسن الانتقال ببصره بين الورقة والمستمعين، فلا يطيل النظر في الورقة بحيث لا يرفع بصره منها، ولا يطيل الابتعاد عنها، بحيث يصعب عليه وصل الكلام بعضه ببعض، أو يذهل نظره عن الوضع الذي انتهى إليه، فيرتبك أو يطيل السكوت. 5 - تجنب اشتغال يده في طرف عباءته، أو (غترته) ، أو العبث في لحيته، أو في تقليب الأوراق التي أمامه، أو في ضرب السماعة، أو تحريكها، أو في غير ذلك من الحركات التي تشغل المصلين، ولا تليق بهذا المقام. 6 - أن يخطب واقفا متوكئا على عصا أو قوس، فإن ذلك من السنة، ولعل الحكمة من ذلك إضفاء المهابة على الخطيب، والتقليل من حركة يده. عن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: «شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئا على عصا أو قوس» (3) .   (1) البيان والتبيين (1 / 45) . (2) دليل التدريب القيادي (ص / 156) . (3) رواه أبو داود (الصلاة- 1096) وابن خزيمة (الجمعة- 1778) من حديث عبد الرحمن أبن خالد العدواني عن أبيه، وفي إسناد أبي داود شهاب بن خراش، صدوق يخطئ، وحسنه الحافظ بن حجر في التخليص (2 / 65) وله شاهد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى يوم العيد قوسا فخطب عليه، ورواه أبو الشيخ كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (ص 121) من حديث ابن عباس، وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك (التقريب 1264) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة في السفر متوكئا على قوس قائما ورواه من حديث البراء بن عازب: خطبهم يوم العيد وهو معتمد على قوس أو عصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 [ المبحث السادس حسن مظهر الخطيب ] المبحث السادس حسن مظهر الخطيب ومما يضفي على الخطيب الهيبة والوقار نظافته، وحسن سمته، وحسن مظهره، ولذلك فإنه يشرع الاغتسال يوم الجمعة، وأن يمس من الطيب، ويلبس أحسن ثيابه، ويزيد في حسن هيئته. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] إن تأثير حسن الهيئة، وجمال المظهر على نفوس الحاضرين، لا ينكر، فلا يحسن بالخطيب الاستهانة بجمال ظاهره، من نظافة ثيابه، وبياض أسنانه، وترجل لحيته، وكي ملابسه، وغير ذلك. وقد «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: " إن الله جميل يحب الجمال» (1) . فالجمال وحسن المظهر يكون في الجسد بالغسل، والترجيل للحية، واستعمال السواك ونحوه للأسنان، وقص الشارب، وقص الأظافر ونحو ذلك. ويكون اللباس بالاعتدال فيه، والنظافة الظاهرة، وتجنب الحرام فيه، كالتشبه والزيادة على الكعبين، وتجنب لباس الشهرة، ولباس المذلة، لذلك قال بعض الحكماء: البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء، ولا يعيبك عليه الحكماء، وعن عمر رضي الله عنه: إياكم ولبستين: لبسة مشهورة، ولبسة محقورة. فلا يبالغ في التأنق، وشدة التكلف في اللباس، فإن الجمال الحقيقي للمرء جمال الباطن. وترى سفيه القوم يدنس عرضه ... سفها وبمسح نعله وشراكها (2)   (1) رواه مسلم (الإيمان- 147) . (2) أدب الدنيا والدين (ص 340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال عمرو بن معدي كرب: ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ... ومناقب أورثن مجدا وقال حبيب بن أبي ثابت: أن تعز في خصفة خير لك من أن تذل في مطرف (1) أي: أن تعز وأنت تلبس غليظ الثياب، خير من أن تذل وأنت تلبس مطارف الخز، وكما أنه لا يبالغ في التأنق فلا يبالغ في الرثاثة وإظهار الخشونة، وليتجمل للوفد والمناسبات، وعلى رأس هذه المناسبات الجمعة. لذلك يسن أن يكون ثوب الجمعة سوى ثوب المهنة. عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما على أحدكم إن وجد، أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (2) . وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا لبسه يوم الجمعة» (3) . وجمال المظهر هو المروءة الظاهرة للإنسان كما قيل: المروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة (4) . بل إن السمت الحسن والمظهر الحسن ربما كان أنطق عند الناس، وأهدى إلى العمل من القول المجرد. قال البخاري رحمه الله في كتاب الأدب المفرد: باب الهدي والسمت الحسن، وروى بإسناد لا بأس به عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤاله، كثير معطوه، العمل   (1) عيون الأخبار (1 / 418) . (2) رواه أبو داود (1 / 283) وابن ماجه (5 / 1091) بإسناد صحيح، ورواه مالك في الموطأ (1 / 110) عن يحيى بن سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغا. (3) رواه أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (ص93) . (4) أدب الدنيا والدين (ص 341) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أن حسن الهدي- في آخر الزمان- خير من بعض العمل (1) . فعلى الخطيب أن يكون شامة في جمال مظهره، وحسن منظره، فتأنس العيون بظاهرة، قبل أن تؤخذ النفوس بمنطقه وحجته. ومما يحسن مراعاته في هذا المجال عرف البلد الذي يعيش فيه، والناس الذين يستمعون إليه، على ألا يكون في الملبوس شيء من حرام، كلباس الكفار أو النساء، ولا يكون من الألبسة الشفافة، والسراويلات القصيرة أو الضيقة، أو يلبس حريرا، أو يتختم بالذهب، وغير ذلك من المحرمات.   (1) الأدب المفرد (790) من طريق الحارث بن حصيرة، وهو صدوق يخطئ، ورمي بالرفض (التقريب 145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 [ المبحث السابع تثبته من المعلومات والأحكام التي يلقيها على الناس ] المبحث السابع تثبته من المعلومات والأحكام التي يلقيها على الناس هذا الأمر من أهم الأمور المتعينة على الخطيب، لما له من أثر على مصداقيته عند الناس، ولما يترتب عليه من نقل للأخبار. والتثبت من الأخبار والمعلومات من الأمور المطلوبة شرعا، وإن لم يكن الخطيب متثبتا من أخباره، وما ينقله للناس، سيكون من حيث لا يدري مصدرا من مصادر الشائعات، وتعميمها على الناس، وآثار هذا خطيرة على الأمة، ولا سيما إذا كان الخطيب ثقة معروفا عندهم، أو ذائع الصيت، فإن الشائعة ستنتشر وتعم بقدر شهرته، وذيوع صيته، أما إذا تعلقت الأخبار والمعلومات التي ينقلها الخطيب بعرض شخص، أو فئة من الناس، أو بسياسة دولة، أو جماعة من الجماعات، أو عالم من العلماء، فإنها تكون- ولا ريب- أشد خطرا وأعظم ضررا على الأمة، بما تبعثه من فتنة، وما تثيره من فرقة. ولا يسامح الخطب في عدم التثبت لشدة حماسته، أو قوة تأثره وغيرته، فإن هذه الحماسة، وهذه الغيرة، إذا لم تكن مستندة إلى أصل شرعي، لا تعدو أن تكون انفعالات عصبية، أو حمية قومية. لذا فإن على الخطيب أن يراعي الأمور التالية في نقل الأخبار والتحدث بها حتى لا يقع فريسة للأوهام والإشاعات: (أ) عدم التسرع في نقل الأخبار قبل أن يتضح أمرها تماما، وتتبين حقيقتها، ومن الخطأ البين ما يقوم به بعض الخطباء من المسارعة إلى إعلان الخبر، أو الخوض في أمره، وكأنه يريد بذلك أن يحقق سبقا إخباريا، أو انتصارا صحفيا، متغافلا عما ينتج عن ذلك من آثار ومخاطر على الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (ب) تحري الصدق والدقة في مصدر المعلومة، والتثبت من ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. . .» (1) . فتحري الصدق مطلوب في نقل الخبر، وفي التحدث به، وهو من صفات الصديقين. (ج) ومن هذا التحري أن لا يأخذ الخبر إلا من مصدر معتمد موثوق، ولا يقتصر في ذلك على ما تنشره الصحف أو الإذاعات المرئية أو غير المرئية، ولا على أي شخص كان، فإن " معظم مواقف الناس- مع الأسف- لا تبنى على ما يحدث فعلا، بل على تفسيرهم لما يحدث " (2) . (د) التنبه إلى تقاعس شروط التوثيق في زماننا، وقصور صفات العدالة والضبط عند معظم الناس، وان أدق منهج عملي لتمحيص الروايات هو ما أصله المحدثون في هذا المجال، فينبغي أن يجعل منهجا عاما لقبول الأخبار أوردها [فربما كان الراوي من أهل العدالة والصلاح، فإن المحدثين لم يكتفوا في هذا بظاهر عدالة الراوي وصلاحه وورعه، بل اشترطوا أن يكون إلى جانب ذلك يقظا غير مغفل، ضابطا لما يروي صائنا لما يكتب عن الزيادة أو النقص، وقد ردوا أحاديث أناس من أهل الصلاح ممن لم يتوفر فيهم شرط الضبط والإتقان، وربما كان بعضهم قاضيا، أو مؤرخا، أو فقيها، أو مفسرا، ولكن لا يؤخذ بخبره في الرواية لعدم ضبطه] أو على ضوء هذا المنهج ينبغي أن يفهم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] الآية [الحجرات- 6] . فالأمر بالتبين في خبر الفاسق لا يعني قبول خبر العدل على إطلاقه، فإن الفاسق- وهو الساقط العدالة- لا يقبل خبره ولو كان ضابطا، وكذا العدل لا   (1) أخرجه البخاري (الأدب- 6094) ، ومسلم (البر والصلة- 2607) من حديث عبد الله بن مسعود. (2) الاتصال الجماهيري والمجتمع الحديث (ص 77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يقبل خبره إذا لم يكن ضابطا، وخبر معظم الناس في زماننا هذا هو من قبيل خبر المستور لتعذر الخبرة الباطنة في حقهم. وإذا تضمن الخبر الطعن في معلوم العدالة، كان الاحتياط أشد في رده وعدم قبوله. وإذا تأملت كثيرا من الإشاعات تجد أنها تبدأ "خبرا صحيحا تماما، فإذا تناقله الناس زادوا عليه من خيالهم حتى يغدو مشوقا مثيرا، فما إن يمشي خطوات حتى يغدو ككرة الثلج لا تزال تتزايد كلما دحرجتها (1) . وربما وقع الشك في الخبر لأسباب في المخبر غير قادحة في عدالته، لكنها مانعة من قبول خبره، كما يقع بين الأقران والمتعاصرين بسبب عداوة دنيوية، أو معاصرة، أو تأويل، أو وهم، وما شابه ذلك. ومن هنا فإنه يتعين على الخطيب ديانة التحري عن مصدر المعلومة أو الخبر، وكيف نشأت، ثم التحري عن ناقل المعلومة، أو من يوصل إليه الخبر، مدى ضبطه، عدالته، كيفية تلقيه لهذه المعلومة، إذا كان يريد أن يطرحها على الناس. ثم على الخطيب أن يحسن التعامل مع هذه المعلومة أو هذا الخبر، فإنه ربما كان الخبر صحيحا تماما لكن المصلحة الشرعية الراجحة تقتضي عدم نقله، أو إخبار الناس به، لما يترتب على ذلك من أسباب تجر إلى الفتنة، وتفتح أبوابا من الشر يصعب إغلاقها. وليعلم الخطيب أن من أهم مسئولياته التثبت من الأخبار، وتمييز سقيمها من صحيحها، وما يصلح منها أن يذاع على الناس وما لا يصلح، فإن الخطبة ليست كلاما يقال لا يعرف قبيله من دبيره. ومن التثبت المطلوب أيضا التثبت في عزو أي قول إلى قائله سواء أكان قديما أم معاصرا، وسواء أكان ما يعزوه رأيا سياسيا، أم فقهيا، أم طبيا، وليتثبت من   (1) الإشاعة، د. أحمد نوفل (ص 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 المصدر الذي أخذ منه الرأي، ليكون حجته إذا جادله في ذلك مجادل، أو اتهمه بالخطأ في نسبة قول إلى قائله. وكذلك التثبت في موضوع التحريم والتحليل، والفتوى في النوازل والقضايا المعاصرة التي يفتي فيها جهات متخصصة، بعد دراسة وترو. وكذلك التثبت في وصف الأحداث التي تقع وأسبابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 [ المبحث الثامن حسن العرض والخطاب ] المبحث الثامن حسن العرض والخطاب لا يكفي أن يكون الخطيب أو الداعية حامل حق، بل ينبغي إلى جانب ذلك أن يكون ذا بصيرة بما يحمل، ذا بصيرة في الدعوة إلى هذا الحق، وكم داعية ومعلم يحمل فكرة صائبة، أو رأيا سديدا لا يستطيع إيصاله إلى الناس، بل كان أسلوب عرضه منفرا للناس عن هذا الحق عن غير قصد منه. رام نفعا فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا (1) . وكم حامل باطل زينه للناس، وجذبهم إليه لحسن عرضه ولباقة أسلوبه، فلا يكفي أن يكون موضوع الخطبة هاما، وأفكارها ضرورية عظيمة الفائدة، كثيرة النفع للأمة، بل لا بد أن يكون للخطيب قدرة على إيصال هذه الأفكار إلى قلوب الناس وعقولهم، واستمالة قناعاتهم إليها، والتأثر بها. قال علي رضي الله عنه: أف لحامل حق لا بصيرة له. . . إن قال أخطأ، وإن أخطأ لا يدري، شغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به. لذا كان على الخطيب أن يتحرى الأسلوب الناجح، والوسيلة المشروعة المحببة إلى النفوس لعرض حقه، وإبراز فكرته، وهذا يتطلب علما بنفسيات المدعوين، ومستوياتهم، واغتنام المناسبة، وتوظيف الحدث في مخاطبتهم، مع تخير الألفاظ اللائقة، والأمثال والصور الأدبية والواقعية المؤثرة. وحسن العرض لا يعود إلى حسن الأسلوب وطريقة الإلقاء فقط، بل إن حسن العرض يشتمل على أمور أخرى منها: (أ) قوة شخصية الخطيب، ومدى قناعته بفكرته، وحماسته لها. (ب) علم الخطيب وفقهه الذي يبرز في معالجته للقضايا معالجة شرعية،   (1) ديوان الإمام الشافعي (ص 67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 تظهر قوة تمكنه من الفقه بالمصالح المرسلة، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وترتيب الأولويات، وحسن استدلاله بالكتاب والسنة. (ج) قوة الخطيب البيانية، وجزالة ألفاظه وتعابيره. (د) حسن الأدب في مخاطبة الناس، فلا يواجههم بالغلظة والجفاء، كأن يقول: أنتم أكلتم الربا، واستحللتم الزنا، وفسدتم، وفعلتم وفعلتم. أو يقول منفرا من الكذب: فأنت أيها الكذاب، وأنتم أيها المفسدون الضالون، ونحو ذلك مما يؤذي النفوس، ويجرح المشاعر. (هـ) عدم الإكثار مما ينفر الناس كثرته، ككثرة الحلف بالله على كل صغير وكبير، أو كثرة التكرار لبعض الكلمات ككلمة "يعني " ونحوها، فإن الكلام إذا تكرر كثيرا يصيب السامع بالملل والنفور. (و) تجنب الأخطاء اللغوية، والتعثر بالكلمات، وخاصة في تلاوة الآية القرآنية أو الحديث، أو قراءة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 [ المبحث التاسع تجنب التقعر والتكلف في الكلام ] المبحث التاسع تجنب التقعر والتكلف في الكلام عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون- قالها ثلاثا-» (1) . قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] قال ابن زيد: أي لا أسألكم على القرآن أجرا: تعطوني شيئا، وما أنا من المتكلفين أتخرص وأتكلف ما لم يأمرني الله به (2) . قال ابن عطية: وما أنا من المتكلفين أي: المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله (3) لقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي في الدعوة والخطابة، والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمور كلها. من هديه في الكلام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من يسمعه» ، وقالت: «كان يحدثنا حديثا لو عده العاد لأحصاه» ، وقالت: «إنه لم يكن يسرد الحديث كسردكم» (4) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها» إسناده صحيح (5) .   (1) رواه مسلم (العم 2670) ، وانظر: تفسير ابن جرير (10 / 608) . (2) رواه مسلم (العلم 2670) ، وانظر: تفسير ابن جرير (10 / 608) . (3) تفسير البحر المحيط (7 / 411) . (4) رواه البخاري (المناقب- 3567) ومسلم (فضائل الصحابة- 2493) واللفظ للبخاري. (5) رواه أحمد (2 / 165) ، وأبو داود (الأدب - 5005) ، والترمذي (الأدب - 2852) ، بإسناد حسن، وقال الترمذي: حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قال في النهاية: " هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفا (1) . وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. . .» الحديث" (2) . قال ابن الأثير: الثرثار الذي يكثر الكلام تكلفا وخروجا عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده، والمتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز، ومثل المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم. . . والمتفيهق الذي يتوسع في الكلام ويفتح فاه به، مأخوذ من الفهق، وهو الامتلاء والاتساع (3) . وقال في معنى صرف الكلام: ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة، وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنع، ولما يخالطه من الكذب والتزيد (4) . وعن معاوية رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم الذين يشققون الكلام تشقيق الشعر» (5) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا-» (6) .   (1) النهاية (2 / 73) . (2) رواه أحمد (4 / 193) من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الحشني، ورواه الترمذي (البر - 2018) من طريق مبارك بن فضالة حدثني عبد ربه بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر به، ومبارك بن فضالة صدوق يدلس، لكن هذا صرح بالسماع، وقال الترمذي: حسن غريب. (3) النهاية (3 / 482) . (4) النهاية (3 / 24) . (5) رواه أحمد- (4 / 98) من طريق جابر بن عمرو بن يحيى- ولم أجده- عن معاوية رضي الله عنه به، وانظر: الآداب الكبرى (2 / 89 - 91) . (6) رواه مسلم، وقد تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد العاصمي في حاشيته على كتاب التوحيد: أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصي حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا، أو الغالون في عباداتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق، لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق، وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة (1) . إن مما تمجه الأسماع، وتنفر منه القلوب في الخطب التكلف في الكلام، والتنطع فيه، فعلى الخطيب أن يترفع عن هذه الطريقة الكريهة في الخطابة، ومن ذلك قلقلة الحروف إلى حد التكلف والتصنع، وتجويد بعض العبارات وترتيلها كأنه يرتل القرآن العظيم، ومن ذلك التكلف في تقليده لبعض الخطباء المعروفين، وانتحال طريقتهم في الخطاب، وأسلوبهم في تفخيم الكلام أو ترقيقه، أو مد آخر الجمل. وليترك الكلام يخرج على سجيته، والألفاظ تخرج على السليقة، ولا يستكره الألفاظ ويحشرها في غير مواضعها. قال الجاحظ: ومتى كان اللفظ كريما في نفسه، متخيرا في جنسه، وكان سليما من الفضول بريئا من التعقيد، حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب. . . ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة، ولا طبعا رديا، ولا قولا مستكرها (2) . ومن التشدق في الخطبة أن تكون الخطبة عبارات منمقة، وجملا إنشائية فارغة من المحتوى، فليس وراء تلك الكلمات الرنانة موضوع أو طائل يخرج به المستمعون، لا موضوعا تربويا، ولا اجتماعيا، ولا فقهيا يخرج منه المصلون بفائدة.   (1) حاشية كتاب التوحيد (ص 152) . (2) البيان والتبيين (2 / 3- 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 [ المبحث العاشر إعداد الخطبة ] المبحث العاشر إعداد الخطبة الارتجال أم القراءة؟ من المعلوم أن الخطيب ينبغي أن يعد موضوعه إعداد جيدا متكاملا، لكن قد يقوم الخطيب بالإعداد الجيد، ثم لا يحسن في طريقة إيصاله للناس، حيث يقوم بالارتجال على المنبر، دون النظر في ورقة، مما يجعله يتجاوز بعض الأفكار، والفقرات المهمة في الخطبة، ولا يتذكرها. وقد يكون الارتجال مع التحضير واستحضار الأفكار الأساسية للخطبة أفضل من القراءة، غير أن القراءة أفضل منه إذا لم يكن الخطيب قد أعد موضوعه إعدادا كاملا في ذهنه، وأشربه ووعاه بدقة. فإن الارتجال في هذه الحال يؤدي بالخطيب إلى تفتيت الأفكار، والخروج عن الموضوع، وقد يدخل موضوعا في آخر، فيبدو للسامعين في حالة من الاضطراب والارتباك، وعدم التركيز، وهذا يترك عندهم انطباعا سيئا عن الخطيب، وعن الخطبة، ولهذا قيل: " إن الارتجال آفة الخطابة، لأنه يلقي المعنى دون أن ينضج بالتفكير (1) . ومن هنا فإن الخطيب إذا لم يكن مؤهلا للارتجال بما يملكه من قدرة لغوية، وقوة شخصية، وسعة الإطلاع، وحضور ذهن، ورباطة جأش، فالخير له أن لا يرتجل الخطبة لأنه ربما حول السامعين إلى متفرجين أو منتقدين. وحتى يرتقي الخطيب إلى المستوى الأمثل في الخطبة ينبغي أن يراعي في هذا الأمور التالية: 1 - أن يعد الخطبة بكتابة رؤوس الأفكار، والخطوط الأساسية للخطبة. 2 - إذا أراد الاستغناء عن الورقة فعليه أن يحفظ هذه الأفكار الأساسية   (1) فن الخطابة، د. أحمد الحوفي (ص 185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لخطبته، وينظر فيها بين الحين والآخر حتى يعيها تماما، وتكون آخر نظرة منه إليها قبيل صعوده إلى المنبر، فقد كان الكثير من البلغاء يعدون خطبهم ويهذبونها ويتمرنون على إلقائها (1) . 3 - إذا أعد رؤوس أقلام للخطبة فمن الأفضل أن لا يخرج عنها أثناء الحديث مهما كانت المغريات، وإلا حاد عن الموضوع، وارتبك لعدم التأكد من بعض المعلومات أو بسبب الانزلاق نحو المبالغة في استخدام العبارات المجازية والاستعارات (2) . 4 - لا يقرأ من أوراقه بصفة مستمرة- إذا كان يعتمد على الكتابة- لكن ينبغي أن يحاول إخفاء أوراقه بصورة كاملة (3) . 5 - أن يكون المكتوب بخط واضح، مرتب ترتيبا جيدا، مرقم الصفحات بحيث لا يحتاج إلى تقليب الصفحات، ومعاودة النظر، والبحث عن تتمة الكلام، فإن أي توقف أو ارتباك له انعكاساته السيئة على المخاطبين. 6 - أن يكتب على وجه واحد من الورقة حتى لا ينعكس ظلال الكلمات على المكتوب فتطمس بعض الألفاظ فتحدث خللا في العبارة، مع أن الأصل أن يكون سريع البديهة حاضر الذهن لا توقفه كلمة أو عبارة. 7 - أن تكون الأوراق مثبتة، أو تكون في دفتر، ولا تكون متناثرة، فربما أدى ذلك إلى اختلاطها مما يحتاج معه إلى توقف وصمت لإعادة ترتيبها. 8 - الجمع بين الإعداد والارتجال، فإن هذا هو أفضل الطرق، وأنجح السبل لإلقاء الخطبة، " وخير طريقة للإعداد أن الخطيب يعد خطبته إعدادا كاملا، ثم يتركها ويرتجل، أو يضعها أمامه مكتوبة، ويكتفي باللمح الخاطف بحيث يستوعب الصفحة في نظره دون أن يشعر الجمهور بأنه يلمح، لأن الموضوع ما دام   (1) المصدر نفسه (ص 186) . (2) دليل التدريب القيادي، هشام الطالب (ص 155) . (3) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 واضحا في ذهنه يكون أكثر وضوحا، وأسرع نبعا وفيضا (1) والأولى أن ينمي الخطيب قدرته على الارتجال، ويهيئ نفسه لذلك، فإن من المواضيع والمناسبات ما لا يحسن فيها إلا الارتجال، ثم ربما عرض للخطيب أمر في أثناء الخطبة، أو ربما حدث حادث طارئ في أثنائها اقتضاه أن يغير الموضوع في اللحظات الأخيرة، أو يضيف إليه الكلام عن موضوع آخر، فلا يستطيع أن ينتدب لهذه المهمة إذا لم يكن مؤهلا للارتجال، عنده التجهز والاستعداد للطوارئ.   (1) المصدر نفسه (ص192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [ المبحث الحادي عشر تقويم الخطيب لخطبه ] المبحث الحادي عشر تقويم الخطيب لخطبه إن ما وهبه الله تعالى للإنسان من جوارح، من سمع، وبصر، وغير ذلك ينبغي أن يكون شاهدا عليه، مقوما لعمله، ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: " المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه " (1) . وعنه: " لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه " (2) . وعنه أيضا: " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته " (3) . وقال ميمون بن مهران: " لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه " (4) . وقد دل على وجوب محاسبة النفس، وتقويمها، والنظر في الأعمال وتسديدها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] قال قتادة: " ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد " (5) . وقال جل وعلا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] عن قتادة في معنى الآية: إذا شئت رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه، قال: وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوبا: يا ابن آدم تبصر   (1) إغاثة اللهفان (1 / 79) ، إحياء علوم الدين (4 / 404) . (2) إغاثة اللهفان (1 / 78) . (3) إغاثة اللهفان (1 / 78) . (4) المصدر نفسه. (5) تفسير ابن جرير (12 / 5) ، وانظر: إغاثة اللهفان (1 / 84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 القذاة في عين أخيك، ولا تبصر الجذع المعترض في عينيك (1) . ولما كان المؤمن طلعة طمحا إلى الكمال والارتقاء إلى المعالي كان لا بد له من النظر إلى عمله نظر الناقد البصير الممحص. فينظر إلى نيته وقصده، وينظر إلى عمله ومسلكه، ولا يداهن نفسه، ولا يجاملها، فضلا عن أن يزكيها مستروحا إلى جليل ما قدم من نصح أو عمل صالح. والخطابة من الأمور التي لا ينبغي أن يغفل المرء محاسبة نفسه فيها، ليستقيم قصده، ويصلح علمه. فعليه أن يقوم خطبه تقويما صادقا دقيقا، لأن ذلك جزء من تقويم الذات، ولوم النفس ومحاسبتها، ليظل مرتقيا في معارج الخير والفلاح. ومن وسائل تقويم الخطبة: (أ) أن يقوم بتسجيل خطبه، أو بعضها، فيطلب من بعض خاصته أن يفعل ذلك بعيدا عن أعين الناس، ثم يسمعها خاليا مع نفسه ليتبين ما فيها مما يود أنه لم يكن، وما ليس فيها مما يود أنه كان، ليكون أكثر اهتماما، وأشد استعدادا للخطب الأخرى، فيتلافى العيوب والهدات التي وقعت من قبل، ولا يغتر في هذا بثناء العامة، ومدح بعض الخاصة فيطمئن إلى أسلوبه، وعند سماعه لذلك يجب أن يلحظ بدقة كل مخالفة مهما كانت صغيرة أو كبيرة من حيث الصوت، أو الموضوع، أو سرعة الإلقاء أو بطئه، أو طول الوقت أو قصره، وغير ذلك، ولا يستهن بأي أمر يراه خلاف الأولى بأن لا يعيره اهتماما. (ب) أن يسأل بعض إخوانه الناصحين من أهل العلم، وأهل الفضل الذين يصدقونه النصح والتوجيه، فيأخذ بنصحهم وتوجيههم في هذا الشأن.   (1) تفسير ابن جرير (12 / 336) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 (ج) أن يعد نموذجا تقويميا يشتمل على متطلبات الخطبة المختلفة، ويوزعه على عدد من خلصائه وخاصته، مستنصحا لهم، طالبا من كل واحد منهم إعطاء رأيه بصراحة وأمانة دون مجاملة، ومن آثر عدم ذكر اسمه فله ذلك حتى يكون أكثر صراحة ووضوحا في نقده. وهذا نموذج مختصر يصلح أن يكون مقياسا، ويمكن أن يزيد عليه الخطيب أمورا أخرى: 1 - الصوت ضعيف غير واضح أبدا قوي قوي جدا مناسب 2 المضطهر والحركة فيهما تكلف غير لائقين لائقان أقترح: 3 الوقت طويل طويل جدا قصير مناسب أقترح: 4 الموضوع مهم مهم جدا غير مهم غيره أولى منه أقترح: 5 المعلومات صحيحة موثقة غير موثقة مشكوك في صحتها أقترح: 6 طريقة الإلقاء ممتازة جيدة جدا جيدة مقبولة أقترح: توضع إشارة ÿ على الكلمة المناسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 [ الفصل الثالث المخاطبون ] [ المبحث الأول مراعاة مستواهم من حيث العلم والثقافة والسن والعادات ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المبحث الأول 1 - مراعاة مستواهم من حيث العلم والثقافة، والسن، والعادات معرفة أحوال المخاطبين من ألزم الأمور التي تلزم الداعية والخطيب، ليكون على علم بما يحرك عواطفهم، ويؤثر في نفوسهم. والخطيب بحكم معايشته للمصلين، ومخالطته لهم أقدر على معرفة مستوياتهم الثقافية، والاجتماعية، ومعرفة عاداتهم وتقاليدهم، وما الذي يوقظ مشاعرهم وأحاسيسهم، ويثير حماستهم وغيرتهم. فمن المعلوم أن الناس لا يخاطبون جميعا بأسلوب واحد على اختلاف عقولهم وقدراتهم، وتنوع ثقافاتهم وأحوالهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله. . .» الحديث " (1) . فقد بين له صلى الله عليه وسلم حال المدعوين، فهم أهل كتاب، وليسوا مشركين أو وثنيين، فينبغي أن يفرق في أسلوب خطابهم بينهم وبين عبدة الأوثان الذين لا يتفقون معه في شيء من أصول العقيدة، أو أساسيات الإيمان، ثم أخبره بأهم ما يبدأ به في دعوة هؤلاء. قال البخاري (رحمه الله) : باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله (2) وتأمل قول علي رضي الله عنه: أتحبون أن يكذب الله ورسوله، فإن من لا يحسن خطاب الناس بما يفهمونه ويعونه، كأنما يدفعهم بأسلوبه إلى تكذيب الله تعالى، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أنه يقيم عليهم الحجة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.   (1) متفق عليه، أخرجه البخاري، وهذا لفظه (الزكاة- 1458) ومسلم (الإيمان- 31) . (2) البخاري (كتاب العلم- / 1272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قال الحافظ ابن حجر في شرح كلام علي رضي الله عنه: " بما يعرفون " أي: يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له: "ودعوا ما ينكرون " أي: يشتبه عليهم فهمه، وكذا رواه أبو نعيم في المستخرج (1) . وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" رواه مسلم (2) . قال: وممن كره التحديث ببعض دون بعض: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي بدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. اهـ (3) . وعن عروة بن الزبير: " ما حدثت أحدا بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالا عليه "، وعن أبي قلابة: "لا تحدث بحديث من لا يعرفه، فإن من لا يعرفه يضره ولا ينفعه " (4) . وقد قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] قال ابن جرير: وما يعقل أنه أصيب بهذه الأمثال التي نضربها للناس منهم الصواب والحق فيما ضربت له مثلا إلا العالمون بالله وآياته (5) .   (1) فتح الباري (1 / 272) . (2) مسلم (المقدمة / 111) . (3) فتح الباري (1 / 272) . (4) رواهما ابن عبد البر في جامع بيان العلم (ص 167) . (5) تفسير ابن جرير (10 / 144) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ومن هنا فإنه ليس كل ما يعلم يصلح أن يقال في أي حال، فلكل مقام مقال، وما يخاطب به فئة العوام غير ما يخاطب به المثقفون، وما يخاطب به الشباب غير ما يخاطب به الكهول، وما يتكلم به في مناسبة الجهاد، غير ما يتكلم به في مناسبة العرس والزواج، فعلى الخطيب أن يكون ذا نظرة ثاقبة للأمور، يحسن تقدير الظروف، وقياس المؤثرات والطبائع. وفي الصحيح عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ . .» . الحديث إلى أن قال: «قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا» . ونحوه قد وقع لعمر (رضي الله عنه) مع أبي هريرة رضي الله عنه. إذا فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بعض خاصته، ونهى معاذا أن يخبر به عامة الأصحاب لئلا يتكلوا فيتركوا العمل، ولم يخش هذا على معاذ، وأبي هريرة. فلا بد من مراعاة نوعية الخطاب، ونوعية المخاطب، أو نوعية العلم، ونوعية المتلقي لهذا العلم. قال الشاطبي: " ومنه أن لا يذكر للمبتدي من العلم ما هو حظ المنتهي، بل يربي بصغار العلم قبل كباره، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها إن كانت صحيحة في نظر الفقه ". قال: " ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه، وحكم التشريعات، إن كان لها علل صحيحة، وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة (رضي الله عنها) على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وقالت لها: أحرورية أنت؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل، وربما أوقع خبالا وفتنة، وإن كان صحيحا. . . وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها، ولا حدث بها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقال: " وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على الحقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية (1) . وكلام الشاطبي رحمه الله وإن كان بالنسبة للكلام على الفرق فهو يصلح أن يكون قاعدة للواعظ، والخطيب، والمعلم وغيرهم. وقد قال: ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره. . . فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص " (2) . وقال أيضا في كتاب الاعتصام: " ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها، وهو الغالب، وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، والعمل بالباطل، وإما ألا يفهم منها شيئا وهو أسلم، ولكن المتحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله (3) . وينبغي أن يدرك الخطيب أن جمهور خطبة الجمعة جمهور متنوع الثقافة، متعدد العادات والطبائع، مختلف الأعمار بين الشاب المتوقد الحماس، والكهل الذي عركته الحياة، وصقلته التجارب ". فلا يجعل خطبته لفئة دون أخرى، ولا يوجه اهتمامه بفئة من فئات الحضور دون أخرى، كأن يجعل الحديث موجها في جملته لرجال الأعمال مثلا، أو لفئة الأطباء مثلا دون غيرهم، أو لفئة التجار دون غيرهم، وكما أن جمهوره متنوع الثقافة فإن خطبته ينبغي أن تكون متنوعة المستوى والخطاب.   (1) انظر: الموافقات (4 / 18- 191) . (2) المصدر نفسه. (3) الاعتصام (2 / 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [ المبحث الثاني معرفة أمراضهم ومشكلاتهم الاجتماعية ومعالجتها ] المبحث الثاني 2 - معرفة أمراضهم ومشكلاتهم الاجتماعية ومعالجتها معظم الحضور لخطبة الجمعة هم غالبا من أهل الحي، وهم الذين يترددون على المسجد لصلاة الجمعة، فينبغي أن تتوثق بهم صلة الخطيب، حيث إن دور الخطيب لا يبدأ بصعود المنبر، وينتهي بنزوله عنه، بل عليه أن يتغلغل في معرفة الوسط الذي يعيش فيه، ويتعمق في فهم مشكلاته، وأمراضه الاجتماعية وقضاياه المحلية، وذلك لا يتأتى إلا بالتواضع للمصلين الذين يؤمون مسجده، ويقطنون حيه، وبخفض الجناح لهم، والسؤال عن أحوالهم، ومتابعة مشكلاتهم الفردية، والجماعية، والمشاركة في مشاريعهم المتعلقة بتحسين البيئة، وتطوير الحي، وبناء المجتمع. إن بناء الثقة بين الخطيب وبين الناس لا يتأتى بالخطب البليغة فقط، بل لا بد أن يراه الناس سباقا في المجالات الاجتماعية، مؤديا للحقوق إلى أهلها. والحقوق التي ينبغي أن يؤديها نوعان: 1 - حقوق عامة: وهي حقوق المسلم على إخوانه المسلمين، فعليه أن يكون من أحرص الناس على أدائها، ومن أشدهم محافظة عليها. عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (1) . وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (2) .   (1) أخرجه البخاري (الجنائز - 1240) ومسلم (السلام - 2162) لفظ البخاري. (2) رواه مسلم (السلام - 2162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار القسم، ونصر المظلوم. . .» الحديث (1) . ومن الحقوق العامة: التواد والتراحم والتعاطف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله» (3) . ومن الحقوق العامة أيضا: الشفاعة وإيصال حاجة ذي الحاجة إلى من يقضيها له. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» (4) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» (5) . والحقوق العامة للمسلم على أخيه كثيرة. 2 - الحقوق الخاصة، كأن يكون رحما له، أو يكون جاره في السكن، ونحو ذلك، فيكون له حق الإسلام ثم حق الصلة، وحق الجوار، فعلى الخطيب أن   (1) رواه البخاري (الجنائز- 1239) ، ومسلم (اللباس والزينة- 2066) . (2) البخاري (الأدب- 6011) ومسلم (البر والصلة- 586 2) لفظ البخاري. (3) رواه مسلم (8 / 20) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (4) رواه البخاري (الزكاة - 1432) ومسلم (البر والصلة - 2627) . (5) رواه البخاري (المظالم- 2442) ، ومسلم (البر والصلة- 2580) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 يكون من المسارعين لأداء هذه الحقوق، فيراه الناس في أفراحهم، وفي عزائهم، وفي تشييع جنائزهم، وفي عيادة مرضاهم، وفي مناسباتهم المختلفة، فتتعمق الصلة به، وتعظم الثقة به، فيحله الناس في قلوبهم قبل أن يحلوه مجالسهم، وتتسع له الصدور قبل أن تفسح له المجالس. ومن دراسة الخطيب لمشكلات الحي تلمسه لذوي الحاجة من الأسر الفقيرة المتعففة، وذوي الكربات، وأصحاب الآفات من المعاقين والمرضى، فيسعى بواسطة أهل الخير إلى سد خلتهم، وقضاء حاجتهم، والتخفيف من معاناتهم، وإن كان الخطيب مشتغلا بأمور أخرى لا يجد من الوقت ما يكفي لمتابعتهم، فيمكن أن يعهد بذلك لأهل الثقة من معارفه الذين ينوبون عنه في مواساة المحتاجين، وتضميد جراحهم. إن دور المسجد في الحي دور عظيم، ففيه يلتقي خيرة أهل الحي خمس مرات يوميا، فيبعد أن يكون هناك مشكلة لا تنمي إلى أسماعهم، وهنا تأتي مهمة الإمام والخطيب في تفعيل دور المسجد، وإقامة الصلة ولو بصورة غير مباشرة بين الغني والفقير، وبين الموسر والمحتاج، يحثهم على الإحسان للمحتاجين، وأن هناك أسرا لا يكادون يجدون قوت يومهم، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فعون هؤلاء وإغاثتهم أولى من زخرفة المساجد، والإسراف في تنويرها بالثريات الضخمة، وتزيينها بالمنابر العالية، والرخام الثمين، بل أولى من كثرة المساجد في الحي الواحد، فإن تقليل المساجد مع تقليل الفقراء والمعوزين في الحي، أولى من تكثير المساجد مع تكثير الفقراء فيه. وقد شغف كثير من الأغنياء ببناء المساجد، وإنفاق الأموال الطائلة على زخرفتها، وتزيينها، ورفع مناراتها، وجلب الرخام والسجاد الثمين والثريات من بلدان مختلفة لفرشها وإنارتها، حتى أصبح كثير من المساجد فنادق من الدرجة الأولى، ولكن هؤلاء الأغنياء- إلا من رحم الله- لا يبذلون معشار هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 المبالغ في تجفيف دموع الأيتام، والأرامل، والمرضى، والمعاقين، وذوي العاهات، وربما كان بعضهم ليس له علم بهؤلاء المحتاجين، ولا يستطيع الوصول إلى مساكنهم، وأماكن وجودهم، فتبرز مهمة الخطيب هنا في تجلية الصورة لهؤلاء الأغنياء، وتوضيح مدى الحاجة، ليقوم كل مسجد بأغنيائه على توفير الاكتفاء الذاتي للحي الذي هو فيه، فيتحقق بهذا خير كبير للحي ثم للمجتمع، وتتجلى صورة التعاون، وسمة التكافل التي هي من خصائص هذه الشريعة العظيمة. [ أمراض القلوب وعلاجها ] أمراض القلوب وعلاجها: من مهمة الخطيب من خلال معايشته للمصلين ومخالطته لهم بالإضافة إلى التعرف على أمراضهم الاجتماعية معرفة أمراضهم النفسية، أي أمراض القلوب، فإن أمراض النفس أفتك، وأدواؤها أخطر. ولا يصعب على الخطيب أن يستقرئ نفوس من يخالطهم، بما يبدو من معاملتهم، وطريقة مخاطبتهم، ومعاشرتهم للآخرين، فيدرك من يكون منهم لين الجانب متواضعا، ممن عنده قدر من العجب، أو الإعجاب بالنفس، ومن عنده شيء من الغلظة والفظاظة، ومن عنده أريحية للبذل والعطاء، ومن يتمتع بالرفق وحسن الأدب في معاملة الغير، وهكذا فإنه يستطيع أن يصل إلى التشخيص الصحيح لنفوس المخاطبين ليسعى في إيجاد العلاج المناسب لأمراض نفوسهم. وليعلم الخطيب أن مهمته الأولى من خطبه هي علاج هذه النفوس، وشفاء تلك القلوب من أمراضها، وشحذ الهمم، والارتقاء بها عن الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى والشهوات، ولذا عليه أن يتخير من الموضوعات ما يكون علاجا ناجعا لنفوس المخاطبين، وبلسما شافيا لأدوائهم. ثم ليعلم أيضا أن خطبة الجمعة ليست مبتوتة مقطوعة الصلة عما قبلها، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بعدها، فلحسن معاملته مع الناس، وتواضعه لهم، وتجنب ما يحرجهم ويسوؤهم في الألفاظ والمواقف، أثر كبير في إقبال القلوب إليه، وتأثرهم بكلامه، وتغيير أحوالهم لمواعظه، وتوجيهاته. وهل يعقل أن يعايش الخطيب هؤلاء الناس زمنا طويلا، ولا يأبه بأمراضهم، ولا يقلق ولا يتوجع لما يرى من انحرافهم عن الجادة، وتنكب للصراط المستقيم. إذا فقد أصبح تاجر كلام بضاعته الجعجعة، وسلعته الصراخ على المنبر. لقد كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظه ودعواته ووصاياه تشتمل على علاج القلوب وشفائها من أمراضها، لأن هذا هو منطلق الصلاح والإصلاح، وكذلك كان كثير من خطب ومواعظ الخلفاء الراشدين، ومن سلك مسلكهم من خطباء التابعين ووعاظهم، ومن جاء من بعدهم من علماء هذه الأمة، وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مثالا في الرحمة والحلم، والرفق، وترك الكبر. ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لعلاج القلوب ما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» (1) . وعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار» (2) . فهو يعطي الرجل وغيره أحق منه وأولى بالعطاء وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يعطيه خوفا على قلبه أن ينتكس.   (1) رواه مسلم (الإيمان - 231) . (2) رواه البخاري (الإيمان -27) ومسلم (الإيمان - 237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك، فرأينا أنه ينزل عليه، قال: فمسح عنه الرحضاء، فقال أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر. . .» الحديث (1) . وكان الصحابة رضي الله عنهم يتعاهدون قلوبهم، ويتعاهد بعضهم بعضا بالموعظة، ويسأله عن إيمانه، وعن تغيير قلبه أو ثباته. عن أنس رضي الله عنه قال: «قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا إذا كنا عندك رأينا في أنفسنا ما نحب، وإذا رجعنا إلى أهلينا فخالطناهم، أنكرنا أنفسنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو تدومون على ما تكونون عندي في الخلاء لصافحتكم الملائكة حتى تظلكم بأجنحتها عيانا، ولكن ساعة وساعة» (2) . وعن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا   (1) رواه البخاري (الزكاة- 1465) ومسلم (الزكاة- 123) . (2) رواه أبو يعلى في مسنده (2 / 786) من طريق محمد بن مهدي الأيلي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة، عن أنس به، ومحمد هذا بيض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8 / 106) ورواه ابن حبان (البر والإحسان- 344) من طريق عبيد الله بن فضالة، ثنا عبد الرزاق بلا، وابن فضالة هذا ثقة، وأخرجه أحمد مر طريق ثابت البناني عن أنس، فتابع قتادة عليه (3 / 175) فالحديث. . . يشهد له الحديث الذي بعده، وانظر: السلسلة الصحيحة (1965) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات» (1) . وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: «لا أقول في رجل خيرا ولا شرا حتى أنظر ما يختم له- يعني- بعد شيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وما سمعت؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا اجتمعت غليانا» (2) . وأورد البخاري تعليقا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اجلس بنا نؤمن ساعة (3) . ووصله أحمد بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: أجلس بنا نؤمن ساعة، وفي رواية: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمنا، وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة،   (1) رواه مسلم (التوبة- 2750) . (2) أخرجه أحمد (4 / 4) وفي إسناده الفرج بن فضالة التنوخي وهو ضعيف (التقريب 274) وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (باب إن القلوب بين إصبعين- 226) من طريق بقية بن الوليد، ثنا عبد الله بن سالم، وبقية رجاله ثقات. (3) رواه أحمد بسند صحيح موصولا، وأثر معاذ رواه البخاري (الإيمان- / 1 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لأن معاذا إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضا، ثم يكون أبدا مجددا كلما نظر أو فكر. قال الحافظ: وما نهاه أولا أثبته آخرا، لأن تجديد الإيمان إيمان (1) . وفي الحديث أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (2) . فعلى الخطيب أن لا يغفل علاج القلوب، والتذكير الدائم به إما بالعودة إليه بين الحين والحين، أو بالتذكير به في خطبه مهما كان موضوعها، فإنه لا يصعب عليه أن يقيم علاقة بين موضوعه الأساسي وبين التذكير بما يوقظ القلوب وينبه المشاعر، ويجدد الإيمان، فإن هذا هدف في حد ذاته فإن القلوب هي التي تتلقى عنه، فإذا تهيأت وتأثرت وعمرت بالإيمان سهل عليه الإصلاح والتغيير، وإذا صلحت الأعمال صلحت الأحوال، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (3) . قال ابن حجر: وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا في ذلك. اهـ (4) . تقويم انفعالات المخاطبين: وعلى الخطيب متابعة تقويم الانفعالات عند المخاطبين، وتلمس أثر الخطب في تغيير سلوكهم، إقامة علاقاتهم، وحل مشكلاتهم، ومدى التغير الذي وقع في عاداتهم، ومعاملاتهم، ومدى الحماسة التي سرت في نفوسهم، ودرجة الإقبال على الطاعات، والغيرة على الحرمات، وتعظيم شعائر الله تعالى، ودرجة الابتعاد   (1) فتح الباري (1 / 63) . (2) رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي (المجمع- / 152) : إسناده حسن. (3) رواه البخاري (الإيمان- 52) ، ومسلم (المساقاة- 1599) . (4) الفتح (1 / 156) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عن المعاصي، والنفور عن المنهيات والمحدثات والمبتدعات، وبذا يكون الخطيب وثيق الصلة بمجتمعه متفاعلا بأحداثه، مؤثرا في مجرياته وتغيراته، فإن مما يؤخذ على كثير من الدعاة والخطباء انزواءهم عن العامة، وعدم مخالطتهم في مناسباتهم، وعدم القرب منهم فيما يهمهم من شؤون حياتهم المختلفة، بل إن بعضهم يتهمون بالكبر، والتعالي على العامة، والترفع عن مجالس الفقراء والبسطاء، وهذا من شأنه أن يوسع المسافة بين العالم والمتعلم، والداعية والمدعو، وأن يوجد فجوة مفتعلة في ذلك تكبر مع الأيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 [ الفصل الرابع أثر خطبة الجمعة ] [ المبحث الأول خصائص خطبة الجمعة ] الفصل الرابع أثر خطبة الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المبحث الأول خصائص خطبة الجمعة تعد خطبة الجمعة من أهم - إن لم تكن أهم - وسائل الاتصال بالناس، وأعظمها أثرا، فهي تتميز عن غيرها من الوسائل كالتلفاز، والإذاعة، والهاتف، وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري بعدة مزايا، منها: 1 - الجو الروحاني الذي تتم فيه الخطبة، فهي تتم في بيت من بيوت الله تعالى تعمره السكينة، وتغشاه الرحمة، ويغمره الخشوع، وتحفه الملائكة الأطهار، ففي الحديث الثابت عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (1) . وهذا ينطبق على خطبة الجمعة، فالحضور في بيت من بيوت الله، إما يتلون كتاب الله تعالى قبل الخطبة، أو يستمعون إلى الخطيب يدارسهم القرآن بتفسير بعض الآيات، أو بيان بعض الأحكام، أو توضيح بعض الهدايات، فتتنزل السكينة عليهم، وتعمهم رحمة الله تعالى، وتحيط بهم الملائكة، ويذكرهم الله تعالى في ملأ خير من ملئهم، تباهيا بهم، وتشريفا لقدرهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. . .» الحديث (2) .   (1) رواه مسلم (الذكر والدعاء- 2699) . (2) رواه مسلم (الذكر والدعاء - 2689) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) في فضل التبكير إلى الجمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة. . .» الحديث، وفيه: «فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (1) والمراد بقوله: إذا خرج الإمام، أي خرج للناس وصعد المنبر، بدليل قوله: يستمعون الذكر، وحسبك باجتماع تشارك الحضور فيه ملائكة الرحمن يستمعون الخطبة فيه مع المصلين. فمثل هذا الجو الروحاني الخاشع الذي بيت الله مكانه، وأفضل الأيام زمانه، وأكرم الحضور حضوره، لا يتأتى في وسيلة اتصال أخرى. 2 - وجوب الإنصات الذي يميز الحاضرين في خطبة الجمعة، فقد أمر الحاضر للخطبة بالإنصات للخطيب، بحيث إنه نُهي أن يتكلم مع جليسه بكلمة ولو كانت خيرا، فلا يقول له: أنصت، وعدم جواز تشميت العاطس، ورد السلام على الأرجح، ولا يمس الحصى، أي لا يأتي بأي قول أو فعل يقدح في تمام الإنصات والاستماع حتى يكون كامل الاستعداد للتلقي والإفادة مما يسمع، فإن الاستماع سلم الوعي والفهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وقال جل وعلا في شأن موسى عليه السلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] قال وهب بن منبه: أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع لما يحب الله (2) .   (1) رواه البخاري (الجمعة- 881) ومسلم (2 / 582) . (2) تفسير البحر المحيط (6 / 231) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب الجمع أمر من يستنصت له الناس. قال البخاري (رحمه الله) : (باب الإنصات للعلماء) ثم روى حديث جرير ابن عبد الله (رضي الله عنه) «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: " استنصت الناس "، فقال: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (1) . أما في خصوص الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» (2) . قال ابن القيم (رحمه الله) : الخاصة التاسعة- أي: من خصائص الجمعة- الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبا في أصح القولين، فإن تركه كان لاغيا، ومن لغا فلا جمعة له (3) . وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت، ليست له جمعة» (4) . فأين خطبة الجمعة التي يجب الإنصات فيها من غيرها من الخطب والمحاضرات، والندوات التي قد يعم اللغط والتهامس أوساط الحاضرين فيها.   (1) رواه البخاري (العلم- 121) ومسلم (الإيمان- 118) . (2) رواه البخاري (الجمعة- 394) ، ومسلم (الجمعة- 851) . (3) زاد المعاد (1 / 377) ، والحديث رواه أحمد (1 / 93) وأبو داود (أبواب الجمعة- 1051) من حديث علي رضي الله عنه: " ومن لغا فليس له في جمعته تلك شيء "، وفي إسناده مولى امرأة عطاء الخراساني، وهو مجهول، وابن ماجه من حديث أبي بن كعب (إقامة الصلاة- 1111) وإسناده صحيح كما في الزوائد. (4) رواه أحمد (5 / 143) ورواه أحمد (5 / 198) من حديث أبي الدرداء، وقال الحافظ في البلوغ كتاب الصلاة، باب صلاة الجمعة (حديث 479) إسناده لا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 3 - الاتصال المباشر بين الخطيب والمخاطبين، الأمر الذي يفتقد في كثير من الوسائل الأخرى، ولا ريب أن هذا الاتصال المباشر أعظم تأثيرا في النفوس لقراءة الإنسان من قريب الانفعالات العاطفية والوجدانية التي تحدث لدى الخطيب فيكون أكثر تأثرا بها، ولما تحدثه المباشرة من المشافهة، والسؤال، والحياء، والمخاطبة. 4 - شعور المرء وهو يستمع إلى الخطبة أنه في عبادة، وطاعة لله عز وجل، بل الشعور بأنه يقوم بأداء فريضة من الفرائض وإظهار شعيرة من الشعائر الإسلامية، مما يميزها عن أي محاضرة، أو ندوة ونحوها، وهذا الشعور يضفي على المرء قدرا من المهابة والخشوع، ويحدث في نفسه قدرا من الطمأنينة والسكينة، ومزيدا من الرضى والسعادة. 5 - وجوب حضور المسلمين إليها " فالمسلمون على اختلاف طبقاتهم، ومستوياتهم التعليمية يحضرون هذه الخطبة، ويشهدون الصلاة، فيحضرها المثقف والجاهل، والمتوسط الثقافة، والعالم، ويحضرها الكبير والصغير، ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصورا على الأخيار وحدهم، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع، وأن يتحدث إلى الكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات، ودروس المساجد، فهي تعد من المجالات القليلة جدا التي يتاح للدعاة من خلالها أن يتحدثوا مع الجميع (1) . 6 - استمرارية التواصل، فخطبة الجمعة تتكرر كل أسبوع، ففي العام الواحد يستمع المصلي لثنتين وخمسين (52) خطبة، وحين يعتني بها الخطيب، ويرتب موضوعاتها يقدم للمستمع مادة متكاملة، إنها تمثل دورة مكثفة مستمرة (2) وهذا التكرار والاستمرار في كل الظروف، وفي جميع الفصول   (1) مجلة البيان (ع / 65 ص / 20) بتصرف يسير. (2) المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والمواسم، له دور كبير في إرساء المفاهيم الإسلامية، وتقليل الشر والفساد، ورفع مستوى الخير والصلاح، والحث على الفضائل، فإن تنوع الموضوعات لخطبة الجمعة يجعلها تستوعب متطلبات الوعي لدى المسلم المواظب على حضور هذه الخطبة، فهناك الموضوعات السياسية التي تبصر المسلم بواقع أمته، وهموم مجتمعه، وحقوق إخوانه المسلمين، وواقع الأقليات المسلمة في البلاد الأخرى، وهناك الموضوعات الاجتماعية التي تتناول حياة المسلم في جوانبها الاجتماعية المتنوعة، وعلاقات المسلم المختلفة، وهناك الموضوعات الأخلاقية التي تسمو بخلق المسلم وتزكي سلوكه، وهناك الموضوعات المتعلقة بتصحيح العقيدة، وتجنب الشرك بأنواعه وألوانه، وما يصون إيمانه، ويحمي جناب التوحيد عنده، وهناك الموضوعات التي تبصر المسلم بفقه دينه، ومعرفة الأحكام الشرعية في شؤون حياته المختلفة، وما يجنبه من الوقوع في الحرام، وما يسخط الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [ المبحث الثاني بروز آثار الخطبة في الواقع ] المبحث الثاني بروز آثار الخطبة في الواقع وهكذا فإن خطبة الجمعة باستمرارها وتكرارها، وبتنوع موضوعاتها ذات آثار عظيمة في تربية الأمة، وتصحيح عقيدتها، وتقويم مسلكها، وتجنيد طاقاتها لخدمة عقيدة الإسلام، ونصرة دين الله عز وجل. وقد أجري بحث توصيفي في مصر عن أثر خطبة الجمعة، فكانت نتائجه على النحو التالي (1) . أفاد 78% من المصلين أنهم يتأثرون تأثرا دائما بما يقوله الخطيب، وذكر 71% أنهم يلتزمون دائما بما يقوله الخطيب. واتفق مع أحد خطباء المساجد على أن يخطب عن الربا، فأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها كانت نتيجته كما يلي: (أ) 85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97%. (ب) 33% كانوا يعرفون عقوبة المرابي، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 59%. (ج) 71% كانوا يعلمون أن البنوك المصرية تتعامل بالربا، وبعدها ارتفعت النسبة إلى 94%. (د) 55% كان يفضل الاستثمار في البنوك الإسلامية، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 64%. (هـ) نتيجة الخطبة: 34% سينصحون الآخرين بترك الربا، 31% سيقاومون أي عمل ربوي. (1)   (1) خطبة الجمعة والاتصال الجماهيري، محي الدين عبد الحليم (160) وما بعدها، عن مجلة البيان الإسلامية، مصدر سابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 إن نتيجة هذا البحث قد لا تختلف اختلافا يذكر، لو أجري في بلاد إسلامية أو مدن إسلامية، أو أحياء إسلامية أخرى، وهذا يؤكد الأثر الكبير الملموس لخطبة الجمعة قي المجتمعات الإسلامية، ودورها في تبصير المسلمين بعظمة دينهم، وسماحة شريعتهم. ولا ريب أن النسبة تتأثر ارتفاعا أو انخفاضا من بلد لآخر، ومن حي لآخر تبعا لأهمية الموضوع، والأفكار المطروحة فيه، ثم قدرة الخطيب وبراعته في تحريك القلوب واستمالتها، وإخلاصه وصدقه فيما يقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [ الخاتمة ] الخاتمة لقد بدا لنا من خلال هذا الكتاب أهمية خطبة الجمعة، وآثارها العظيمة التي تبرز في الوسط الإسلامي، وسواء أكان المسلمون يعيشون في البلاد الإسلامية، أم كانوا في بلاد أخرى لا تدين بالإسلام، وهم فيها أقلية، فإن المسجد في مثل هذه البيئات هو سفينة النجاة، وشاطئ السلامة، وخطبة الجمعة تبقى بإذن الله تعالى هي المنارة للمسجد، وهي الجامعة والمدرسة التي يجتمع إليها أفواج المسلمين، يتعاضدون على الحق، ويتناصرون عليه، يذكر بعضهم بعضا، ويقوي بعضهم بعضا، ويعلم بعضهم بعضا، وتتقوى بينهم الأواصر وتتوثق العلاقات، وتتوطد أسس التعارف بهذا اللقاء الأسبوعي المتكرر، وكلما جمعت الخطبة مقومات النجاح كانت أعظم أثرا، وأكبر وقعا على نفوس المصلين بمختلف فئاتهم ومستوياتهم. وأهم مقومات النجاح وعناصر التأثير التي ينبغي أن تشتمل عليها خطبة الجمعة ما يلي: 1 - أن تشتمل على الآيات القرآنية، فالتذكير بالقرآن ركن أساسي في الدعوة إلى الله تعالى، وعلى الخطيب أن يحرص على قراءة الآيات التي يستشهد بها قراءة صحيحة، وأن يختار الآيات المناسبة للحال، والتي ترقق القلوب وتقرع العقول بوعدها ووعيدها، وعليه أن يحذر من إقحام الآيات في غير ما يحتمله تأويلها، وتتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. 2 - أن تشتمل على الأحاديث النبوية الصحيحة، وعلى الخطيب أن يتحرى الصحة، لئلا يقول على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وليعلم أنه في موطن القدوة، يتلقف الناس أقواله ويستدلون بأفعاله، وإن في الصحيح غنية عن الضعيف فضلا عن الواهي والموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 3 - أن تشتمل على ضرب المثل من التاريخ الإسلامي، وتاريخ الأمم الأخرى، ومن واقع المخاطبين، فإن ضرب المثل له أثره على النفوس، ولضرب المثل ضوابط وقواعد. 4 - أن تشتمل على الأسلوب الحسن، والأدب الإسلامي الرفيع، بتجنب التخصيص، والتجريح لهم. 5 - أن تشتمل على العظة، والحث على التقوى، والتذكير بالآخرة، ومشاهد القيامة، وما يرقق القلوب، ويحيي النفوس. أما بالنسبة لمقومات الخطيب الناجح، فأبرزها الإخلاص وصدق اللهجة، وحسن السيرة والسمعة وحسن الخلق، بالإضافة إلى ما يتمتع به من علم وثقافة، وفصاحته وحسن مظهره، ثم تثبته من المعلومات، والأخبار، والأحكام التي يلقيها على الناس، وتجنبه للتقعر والتكلف وتقليد غيره في الكلام والحركات، وأن يقوم بإعداد الخطبة إعدادا جيدا، ويقوم بتقويمها تقويما دقيقا حتى يتسنى له تجنب الأخطاء والعثرات، ويرتقي إلى المستوى المطلوب. أما المخاطبون فيراعى فيهم اختلاف مستواهم من حيث السن والعلم والأعراف، فالخطبة في الوسط الشبابي المثقف غير الخطبة في وسط الكبار في السن الذين يغلب عليهم قلة العلم، وتتمكن منهم العادات والتقاليد. ويراعى فيهم الأمراض الاجتماعية المختلفة، وكيفية معالجتها بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك بأن يحرص الخطيب على القرب منهم، ومشاركتهم مناسباتهم المختلفة، ومخالطتهم، وتحسس مشكلاتهم، والعمل معهم على حلها، والتعاون معهم على تذليل العقبات التي تعترض حياتهم، وبذلك تتعزز ثقتهم به، وتتقوى الأواصر معه فيصبح فردا منهم، يستشيرونه في أمورهم، ولا يقطعون أمرا دونه، ثم عليه أن يتابع انفعالاتهم بالخطبة، وما تحدثه من تغيير في حياتهم ليتسنى له تقويمها تقويما صحيحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وبهذا يتضح أنه لا ينبغي التهاون بشأن خطبة الجمعة، والتقليل من أهميتها وخطورتها وآثارها الجليلة على الأمة، ومما ينبغي للمسؤولين عن شؤون المساجد التعاون على الارتقاء بالخطبة، وتفعيل دورها في المجتمع، والخروج بها عن دائرة الرتابة، والنمطية الواحدة التي تخلو عن التجديد والتطوير. ومشاركة مني في هذا الجانب المهم فإنني أقترح على القائمين على شؤون المساجد والخطابة - وفقهم الله تعالى - المقترحات التالية: 1 - العمل على تدوير الخطباء، أي: تنقلهم بين المساجد، وتبادلهم وتناوبهم المنابر، فيخطب أحدهم هذه الجمعة في مسجده، والجمعة التي تليها في مسجد آخر، ويخلفه خطيب ذلك المسجد الجامع على الخطابة في مسجده، وهكذا بحيث يعمل على كسر طوق الرتابة والتكرار الممل. 2 - القيام بعمل دورات للخطباء للارتقاء بمستوى الخطيب، وتبصيره بأهمية الخطبة، وكيفية إعدادها، والأسلوب الخطابي المؤثر على أن لا تقل مدة هذه الدورة عن شهرين على الأقل، ويوضع لها مساق مكثف منتقى يقوم بإعداده أهل الخبرة والاختصاص من أهل العلم، وعلماء اللغة والبيان والأدب. 3 - إجراء مسابقات دورية سنوية، أو كل سنتين، أو نحو ذلك لاختيار أحسن الخطباء عمليا، وأحسن الخطب المكتوبة، ورصد جوائز ومكافآت قيمة لهذا الغرض، والعمل على تدريب الخطباء وتشجيعهم على ذلك. 4 - توزيع استبانات معدة إعدادا جيدا على المصلين في أحياء ومناطق متعددة تتناول الأمور التالية: 1 - استبانة عن موضوع الخطبة. 2 - استبانة عن الخطيب الناجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 5 - إجراء استفتاءات وبحوث توصيفية عن أثر خطبة الجمعة في الأحياء والمناطق المختلفة، والعمل على رفع النسبة الإيجابية لهذا الأثر بتغيير الخطيب، وتغيير موضوع الخطبة، وغير ذلك. 6 - تعاون المؤسسات والمراكز الإسلامية المتخصصة مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف على وضع المناهج والبرامج المتنوعة الكفيلة بالارتقاء بمستوى الخطيب والخطبة، وعمل دورات متقدمة لهذه الغاية. 7 - عمل لقاءات واجتماعات دورية للخطباء، إما في المدينة الواحدة، وإما خطباء شرق المدينة على حدة، وخطباء غرب المدينة على حدة. . . إلخ، وذلك لتدارس موضوعات الخطب، والمشكلات التي تواجه الخطباء، والتداول حول أهم القضايا على الساحة الإسلامية والعالمية، وكيفية تناولها وطرحها، والمقترحات، والتوصيات التي تقترح لمعالجة المشكلات. 8 - العمل على توفير " مكتبة الخطيب " في كل مسجد جامع، وتحتوي هذه المكتبة على عدد من المصادر والمراجع القديمة والحديثة المنتقاة التي تصلح للتحضير منها، بالإضافة إلى اقتناء الخطيب لعدد من المجلات والجرائد الأسبوعية واليومية التي تطلعه على أخبار العالم الإسلامي، وأخبار العالم المتجددة. هذا وأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لطاعته وهداه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 [ المصادر والمراجع ] المصادر والمراجع 1 - ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (606هـ) . النهاية في غريب الحديث والأثر، المكتبة الإسلامية. 2 - الإشبيلي عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي (ابن الخراط) (582 هـ) . الأحكام الوسطى، مكتبة الرشد، الرياض، 1416 هـ. 3 - الألباني محمد ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الصحيحة، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405هـ سلسلة الأحاديث الضعيفة، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الخامسة 1408هـ. تخريج أحاديث المشكاة، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1405هـ. 4 - البخاري محمد بن إسماعيل (256 هـ) . الصحيح الجامع، الطبعة السلفية ومكتبتها. الأدب المفرد، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 5 - البسام عبد الله بن عبد الرحمن. توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الثانية 1414 هـ. 6 - البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين (458 هـ) . السنن الكبرى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى 1356 هـ. 7 - الترمذي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (279 هـ) . السنن، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 8 - ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم. مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، تصوير الطبعة الأولى 1398 هـ. 9 - الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (255 هـ) . البيان والتبيين، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 10 - ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن (597 هـ) . تلبيس إبليس، بدون. 11 - ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي (327 هـ) . الجرح والتعديل، دار الكتب العلمية، بيروت. 12 - الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله (405 هـ) . المستدرك على الصحيحين، دار الفكر، بيروت. 13 - ابن حبان أبو حاتم محمد بن حبان (354 هـ) . الصحيح، ترتيب علاء الدين الفارسي (739 هـ) ، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408هـ. 14 - ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (852 هـ) . تقريب التهذيب، دار نشر الكتب الإسلامية، كوجرا نواله، باكستان، فتح الباري، المطبعة السلفية ومكتبتها. التخليص الحبير، الكتب العلمية، المدينة المنورة، 1384هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 15 - الحصري أبو إسحاق إبراهيم بن علي القيرواني (453 هـ) . زهر الآداب وثمر الألباب، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة. 16 - ابن حنبل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (241 هـ) . المسند، دار صادر، بيروت. 17 - الحوفي أحمد محمد الحوفي. فن الخطابة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع. 18 - أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي (754 هـ) . تفسير البحر المحيط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ. 19 - ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق (311 هـ) . الصحيح، المكتب الإسلامي، بيروت. 25 - الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (463 هـ) . شرف أصحاب الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 21 - الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (255 هـ) . السنن، دار إحياء السنة النبوية. 22 - أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ) . السنن، إحياء السنة النبوية. 23 - الرازي محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (691 هـ) . مختار الصحاح، مكتبه ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1361هـ. 24 - سامية محمد جابر الاتصال الجماهيري والمجتمع الحديث، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1990 م. 25 - السبكي تاج الدين عبد الوهاب (771 هـ) . معيد النعم ومبيد النقم، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1407 هـ. 26 - سيد قطب في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، الطبعة الثامنة 1399 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 27 - السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911 هـ) . تدريب الراوي شرح تقريب النواوي. 28 - الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي (790 هـ) . الموافقات في أصول الشريعة، دار المعرفة، بيروت. 29 - الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس (204 هـ) . ديوان شعر، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة 1392 هـ. 30 - الشوكاني محمد بن علي (1250هـ) . الدراري المضية شرح الدرر البهية، دار الجيل، بيروت 1407 هـ. 31 - أبو الشيخ جعفر بن حيان الأصفهاني (369 هـ) . أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ. 32 - الطالب هشام دليل التدريب القيادي، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1414هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 33 - الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد (360 هـ) . المعجم الكبير، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 34 - الطبري أبو جعفر محمد بن جرير (310 هـ) . جامع البيان في تأويل القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ. 35 - ابن أبي عاصم عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (287 هـ) . السنة، المكتب الإسلامي، بيروت. 36 - العاصمي عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. حاشية على كتاب التوحيد، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ. 37 - ابن عبد البر أبو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي. صحيح جامع بيان العلم وفضله، إعداد وتهذيب أبي الأشبال الزهيري، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 38 - عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211هـ) . المصنف، طبعة مصورة، بيروت. 39 - أبو عبيد شرح كتاب الأمثال. 40 - الغزالي أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد (505 هـ) . إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، بيروت. 41 - القاسمي جمال الدين. إصلاح المساجد من البدع والعوائد، اختصار محمد بن رزق الطرهوني، دار ابن القيم للنشر، الطبعة الأولى 1407هـ. 42 - أبو قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (276 هـ) . عيون الأخبار، دار الكتب العلمية، بيروت. 43 - ابن قدامة موفق الدين عبد الله المقدسي (620 هـ) . الكافي في فقه الإمام أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 44 - ابن القيم شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (751 هـ) . الروح، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى. زاد المعاد من هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السادسة والعشرون 1412 هـ. 45 - ابن كثير عماد الدين إسماعيل (774 هـ) . تفسير القرآن العظيم، دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1400هـ. 46 - ابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (275 هـ) . السنن، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1395هـ. 47 - الماوردي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب (450 هـ) . أدب الدنيا والدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة. 48 - مجلة البيان العدد 65، 66. مقال: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، للأستاذ / محمد بن عبد الله الدويش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 49 - مسلم أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (261 هـ) . الصحيح، نشر إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1400هـ. 55 - ابن مفلح شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي (763 هـ) . الآداب الشرعية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 51 - مكتبي نذير محمد مكتبي خصائص الخطبة والخطيب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ. 52 - ابن منظور أبو الفضل محمد بن مكرم الأفريقي (711 هـ) . لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى 1374 هـ. 53 - النسائي أحمد بن شعيب. السنن، دار الفكر، بيروت. 54 - نعيم بن حماد المروزي (288 هـ) . الفتن، مكتبة التوحيد، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 55 - أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430 هـ) . حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183