الكتاب: مفهوم الحكمة في الدعوة المؤلف: د صالح بن عبد الله بن حميد الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 64 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مفهوم الحكمة في الدعوة صالح بن حميد الكتاب: مفهوم الحكمة في الدعوة المؤلف: د صالح بن عبد الله بن حميد الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 64 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] [ المقدمة ] مفهوم الحكمة في الدعوة بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد: فهذه كلمات في الحكمة والدعوة دعا إليها - في تقديري - ما يلحظ في الساحة من نشاط يقوم به رجال أفاضل يدعون إلى الله، ويلاقون في دعوتهم ما يلاقيه من يقوم بمهمتهم في الماضي والحاضر وفي كل حين، فهي سنة الله في الحاضرين والغابرين. والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين. وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود والإباء والاستكبار من لدن فئات كثيرة، وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (1) .   (1) سورة يوسف، آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وفي هذه الكلمات سوف ينحصر الكلام على الحكمة بيانا لمعناها وإيضاحا لمدلولاتها. ذلك أن الحكمة إذا اقترنت بالدعوة فإنها تقوي الأمل واليقين، وترتفع بالمدعوين إلى مستوى الشعور بالمسئولية والتكليف، وإذا ما تأكد فيها هذا الشعور فسوف تتغير طباعهم وتعتدل مسالكهم ويصح توجيههم. فحق على الداعي إلى الله أن يعمل على إيقاظ هذا الشعور. هذا وسوف أعرض إلى تعريف كل من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ثم العوامل التي تحقق مفهوم الحكمة: من ضرورة معرفة طبائع الناس، وطبقات المدعوين، والنظر في الظروف الزمانية والمكانية، والأساليب القولية والعملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [ تعريف الحكمة ] تعريف الحكمة الحكمة مأخوذ من الحكمة - بفتح الكاف والميم - وهو ما يوضع للدابة كي يذللها راكبها فيمنع جماحها. ومنه اشتقت الحكمة قالوا: لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (1) . والحكمة في حقيقتها: وضع الأشياء في مواضعها. وهذا تعريف عام يشمل الأقوال والأفعال وسائر التصرفات، ولعلك أخي الفاضل تدرك أن الحكمة التي نرمي إلى بيانها في هذه المقالة هي الحكمة التي ينبغي أن يتصف بها القائم بالدعوة إلى الله، ومن أجل هذا فهي غالبا ما تكون قولا في علم وموعظة أو تصرفا نحو الآخرين من أجل دفعهم إلى الخير أو صرفهم عن الشر.   (1) المصباح المنير 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفي هذا المفهوم. يقول ابن زيد: (كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة) . وأدق من هذا قول أبي جعفر محمد بن يعقوب: (كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة) . وفي تعريفات الجرجاني: (كل كلام وافق الحق فهو حكمة) . وفي قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (1) . ربطت الآية الكريمة بين الحكمة والخير، ووجه هذا الارتباط أن الحكمة تشمل المعاني الصائبة من السداد في القول والفعل.   (1) سورة البقرة، آية: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وبمعنى آخر: فإن الحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، ومن شاء إيتاءه هذه الحكمة - أي خلقه مستعدا لذلك قابلا له، من سلامة التفكير واعتدال القوى والطبائع - فيكون قابلا لفهم الحقائق منقادا إلى الحق إذا لاح له، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة. ثم ييسر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من المعاندين العتاة، فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا، ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير. وحينئذ يتحقق له الخير الكثير في قوله سبحانه: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فالخير الكثير منجر إليه سداد الرأي والهدى الإلهي، ومن تفاريع هذا الخير ما يتولد من قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوكل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فهمها واستحضار مهمها. لأنك إذا تتبعت ما يحل بالناس من المصائب تجد معظمها من جراء الجهالة والضلالة والرأي الآفن، وبعكس ذلك فإن ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات مجتلب من المعارف والعلم بالحقائق، ولو علم الناس الحق على وجهه لاجتنبوا مواقع البؤس والشقاء (1) . يتبين من مجموع ما سبق أن الحكمة كلمة عامة تشمل الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لأصول الآداب. . . فهي معرفة خالصة من شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وتهذيبهم وتوجيههم. إنها اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح   (1) التنوير والتحرير 3 / 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 حال الناس واعتقادهم إصلاحا مستمرا لا يتغير (1) . [ إطلاقات الحكمة ] إطلاقات الحكمة وردت كلمة الحكمة في نصوص الشرع مرادا بها ما يخدم المعنى السابق. فوردت مرادا بها: الكتب السماوية من القرآن والإنجيل وغيرها. ومرادا بها: النبوة، والهدى، والرشاد، والعدل، والعلم، والحلم والتفقه (2) .   (1) التنوير والتحرير 3 60 - 63، 41 / 35. (2) لسان العرب 12 / 140 -142. المعجم الوسيط 1 / 90. القاموس المحيط 4 / 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 [ الموعظة الحسنة ] الموعظة الحسنة يلحظ في التعريف السابق للحكمة أن الموعظة الحسنة و الجدال بالتي هي أحسن داخلان في مفهوم الحكمة. ولكن يحسن تخصيصهما بمزيد تعريف وإيضاح لأن المقام مقام بسط لمفهوم الحكمة، وقد جاءا مخصوصين بالذكر في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (1) . وإذا كانا داخلين في معنى الحكمة بالمعنى السابق فيكون عطفهما في الآية الكريمة من عطف الخاص على العام. والأصل في الموعظة أنها: القول الذي يلين نفس المخاطب ليستعد لفعل الخير والاستجابة له.   (1) سورة النحل، آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والموعظة في معناها تدل على ما يجمع الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة ولهذا قال ابن عطية: (الموعظة الحسنة: التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه وتجعله بصورة من يقبل الفضائل) (1) . ويشير الزمخشري إلى معنى لطيف في هذا حين يقول: (إن الموعظة الحسنة هي التي لا تخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم) . والخلاصة أنها: تذكير بالخير فيما يرق له القلب (2) . وهذه إشارة جميلة عرض لها أهل العلم في السر في وصف الموعظة بالحسنة ولم يرد ذلك في الحكمة فقد قالوا: قيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة   (1) التعريفات 132. (2) البحر المحيط 5 / 549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 لأن الحكمة هي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة. أما الموعظة الحسنة فلما كان المقصود منها غالبا ردع نفس الموعظ عن أعمال سيئة أو عن توقع ذلك منه، كانت مظنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ. ومن الوعظ الحسن إلانة القول وترغيب الموعوظ في الخير: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (1) . [ الجدال بالتي هي أحسن ] الجدال بالتي هي أحسن الجدل في أصله: الاحتجاج لتصويب رأي ورد ما يخالفه. فهو حوار وتبادل في الأدلة ومناقشتها. وهو حال   (1) سورة طه، الآيتان: 43، 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أوسع من الخصام والمخاصمة على أن المخاصمة نوع جدل من حيث هي تراد في الكلام والحجج. ومن أجل هذا قال الجرجاني في تعريفاته: الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة أو بقصد تصحيح كلامه، قال: وهو الخصومة في الحقيقة. غير أن الذي نعنيه هنا هو الجدال والمحاجة والحوار بما لا يرقى إلى الخصومة، إلا إذا اعتبرنا الجدال مع الظالمين خصومة؛ لأنه قد تجرد منه نعت الحسن، وإذا احتاج رجل الدعوة إلى الجدال فليكن بالتي هي أحسن. وقريب من التوجيه المذكور في الموعظة الحسنة يقال هنا. ويكون حسن الجدال في الالتزام بموضوعيته، وبعده عن الانفعال، والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى، حفظا للوقت وعزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 للنفس وكمالا للمروءة، مع الحرص على الرفق واللين، والبعد عن الفظاظة والتعنيف، ويدخل في الجدل الحسن كما يقول الطاهر بن عاشور (1) . (رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه: مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] (2) . وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ - اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68 - 69] (3) . [ إشارات في حلية الداعي من الصفات الباعثة للحكمة ] [ التقوى ] إشارات في حلية الداعي من الصفات الباعثة للحكمة قبل الخوض في الكلام على الحكمة ومفهومها، وبناء على الإشارات السابقة من معنى الحكمة،   (1) التحرير 14 / 325 - 330. (2) سورة سبأ، الآية: 24. (3) سورة الحج، الآيتان: 68، 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وما يحتاجه صاحب الدعوة من سلامة التفكير واعتدال القوى والبعد عن العصبية والمكابرة: أحب أن أشير إلى بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي، فمنها بتوفيق الله تنبعث الحكمة ويتحقق المقصود من تبليغ الحق على بصيرة. ومن ذلك: أ - التقوى ويقصد بها كل معانيها من فعل المأمورات وترك المنهيات والتحلي بصفات أهل الإيمان. فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد، فإنها تنير القلب وتفتح المدارك، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص، فالعاقبة للتقوى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] (1) . وأولياء الله   (1) سورة الطلاق، آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 هم المتقون. . [ الإخلاص ] ب - الإخلاص وهذا باب عظيم معلوم نظريا ولكن تحقيقه - والله - إنه لعزيز. ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس ولا إلى أشيائهم أو تلمس مراضيهم، ويحضرني هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه. وأعظم الناس مطالبة بهذه الخصلة وأشد الناس حاجة إليها العلم اء والدعاة. ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي - رحمه الله - في الإحياء محذرا من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: (إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره، وإذلال المدعو بإشعاره - ولو من طرف خفي - بالجهل وخسة أهل الجهل والتقصير وسوء حال المقصرين) . قال: (وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته. فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة) . ولم يقتصر الغزالي - رحمه الله - على هذا الإيضاح بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حيث قال: (وهناك محك ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له. فإن كان يود أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته. فليتق الله تعالى فيه وليدع أولا نفسه) (1) . لكن قوله: (أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته بنفسه) هذا عندي محل نظر، وبخاصة مع قوله عليه الصلاة والسلام: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (2) . فالتنافس في هذا تنافس على الخير، ومع قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] (3) . ويتلمس الإخلاص وصلاح النية في غير المنافسة المشروعة.   (1) بتصرف وحذف، الإحياء 2 / 329. وما بعدها. (2) متفق عليه من حديث سهل به سعد. (3) سورة فصلت، آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 [ العلم ] ج - العلم وهو المقصود الأعظم من البصيرة في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] (1) . بل إن من معاني الحكمة البارزة - التي نحن بصدد الحديث عنها - العلم كما سبق. فالبصيرة تجمع العلم والحكمة وهذه الخصلة لا تحتاج إلى مزيد من بسط فهي معلومة ظاهرة، ويكفي في هذا التنبيه إلى ترجمة البخاري - رحمه الله - في صحيحه حين قال: باب العلم قبل القول والعمل، مستدلا بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] (2) . قال رحمه الله: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) .   (1) سورة يوسف، آية: 108. (2) سورة محمد، آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وفي هذا يقول الحسن البصري - رحمه الله - (العامل بغير علم كالسائر على غير هدى) . وفي مأثور الحكم: (من تمسك بغير أصل ذل ومن سلك طريقا بغير دليل ضل) . ويشمل العلم الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة، وسير السلف الصالح، وفهوم أهل العلم والفقه علما وعملا. [ التواضع ] د - التواضع من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقا وصدقا. بل إن الاستعلاء سبب ظاهر في كره الحق ورفضه. ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس. يقول الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (لا يحتقرن أحد أحدا من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير) وقد خاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] (1) . ويقول ابن الحجاج: (من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول. .) . ومما يلحق بهذا الباب العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه أو يستجلب الثناء عليها أو يستدر لها المديح. فالفضل من الله، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه.   (1) سورة الكهف، آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 [ الحلم ] هـ - الحلم ما الحلم إلا ضبط النفس عند الغضب، والنزوع إلى العقل عند ثورة الانفعال. وما هذا - وربك - إلا شارات القوة وعنوان البطولة «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (1) . ومن أحوج بهذا الخلق من رجل الدعوة الذي ميدانه صدور الرجال ونفوس البشر. ومن أبرز صور الحلم. . كظم الغيظ. . ثم يعقبه في الترقي العفو عن الناس، وتلك صفات المتقين أهل الجنة التي عرضها السماوات والأرض. ومن رزق الحلم ترقى في درجاته. . فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه. ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو   (1) متفق عليه من حديث سهل بن سعد 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ضعف، وأن الإعراض عن الجاهل خوف وخور. ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم يتنافى مع الحلم كما ترى. خرج زين العابدين بن علي بن الحسين - رضي الله عنه وعن آبائه - من المسجد يوما فسبه رجل فانتدب الناس إليه. فقال: دعوه. ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر. ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل إذا رآه قال: إنك من أولاد الأنبياء. * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 [ الغلظة والفظاظة ] الغلظة والفظاظة عن سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي قال: يعجبني من القراء (1) كل سهل طلق مضحاك، فأما من تلقاه ببشر ويلقاك بضرس (2) يمن عليك بعلمه فلا كثر الله في الناس أمثال هؤلاء. أيها الدعاة: الناس في حاجة إلى كنف رحيم وبشاشة سمحة. بحاجة إلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم. بحاجة إلى من يحمل همومهم، ولا يثقل عليهم بهمومه. . يجدون في رحابه العطف والرضا. من أجل هذا جاءت الرحمة الربانية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول القدوة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159] (3) .   (1) القراء: العلماء. (2) ضرس: أي شرس لفظا ومعنى. (3) سورة آل عمران، آية: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري. وأعطاهم كل ما ملكت يداه، وما نازعهم في شيء من أعراضهم، وسعهم حلمه وبره وعطفه. حينما يوهب العبد قلبا رحيما وطبعا رقيقا مع العلم والحكمة. . فإنه لا يستكثر على الصغير والجاهل أن يصدر منهما صدود عن النصح، والدنيا مليئة بمن لا يحبون الناصحين. نعم إن الداعي الحق ذا الخبرة والمراس لا يعجب من صدود الناس ونفرتهم. . لكن رحمته بهم وشفقته عليهم لا تنفك تغريه بمعاودة الكرة تلو الكرة، كما يعاود الوالدان الحريصان على أولادهما في الإلحاح بالغذاء والدواء في حالي الصحة والمرض. بل لقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 جاء في حديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» . وهل رأيت، أعظم شفقة من الوالد على ولده. وكم قابل محمد صلى الله عليه وسلم إعراض قومه بابتهاله النبوي: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» . [ من معالم الحكمة في الدعوة ] [ المعلم الأول طبائع النفوس وطبقات المدعوين ] من معالم الحكمة في الدعوة وبعد هذه التقدمة التي أظنكم استشعرتم من خلالها بعض معالم تشير إلى مواطن الحكمة ومسالكها عن طريق معرفة حقيقة الحكمة وأبرز الصفات في رجل الدعوة. أحب أن أبسط بعض البسط في معالم أراها حقيقة بذلك: وسوف يكون هذا البسط من خلال التعرف على طبائع النفوس، وطبقات المدعوين، وتخير الأوقات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وانتهاز المناسبات. ثم النظر في طرائق الدعوة وأساليبها. . من إحسان في القول، والحرص على التلميح إذا أمكن الاستغناء به عن التصريح، والقصد إلى الستر والنصيحة، والبعد قدر الإمكان عن التشهير الذي قد ينقلب إلى فضيحة مع سلوك المداراة المشروعة، وإقالة العثرات ما أمكن، وإليك أخي الفاضل بسطا لبعض هذه المعالم: * * * * المعلم الأول: طبائع النفوس وطبقات المدعوين الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مدركاتهم، في العلم والذكاء، في الأمزجة والمشاعر، مختلفون في الميول والاتجاهات. مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل. . بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة. نعم، إن فيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، فيهم الوجيه وغير الوجيه. بل إن ثمة كلمة لعلي - رضي الله عنه - يصف فيها القلوب، كل القلوب بأنها وحشية فهو يقول: (القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه) . إنه يصورها رضي الله عنه وكأنها دواب متوحشة لا تعرف الألفة في طبعها ويبدو هذا والله أعلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ميدان النصائح والتوجيهات. فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل أو عدم معرفة أو سوء في التصرف. إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل، ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ، ويجتهد في مجاهدة الحق بعد معرفته خيفة انكشاف جهله. إنها في هذا الباب تنفر إذا قرب منها، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، ومن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح بتوفيق الله في هداية الناس. وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، وتقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم. . شيء من العناية - غير المتصنعة - باهتماماتهم وهمومهم. وسوف يصل إلى مصدر النبع الخير في نفوسهم، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إن شيئا من سعة الصدر، والإحاطة بطبائع النفوس. . كفيل بتحقيق الخير في الناس بنتيجة لا يظنها الكثيرون، ينبني على ذلك ملاحظة استيعاب المدعو وسعة مداركه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فيوقعه إما في النفرة والشرود، وإما في التخبط الفكري والدخول في غياهب الفتن. وفي ذلك يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -. (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . ويقول علي - رضي الله عنه -: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) . * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 [ المعلم الثاني تخير الأوقات وانتهاز المناسبات ] المعلم الثاني: تخير الأوقات وانتهاز المناسبات هذا معلم كبير ومؤثر من معالم الحكمة وتلمسها، يبلور ذلك كلمة جامعة لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (إن للقلوب شهوة وإقبالا وفترة وإدبارا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها) وقد كان - رضي الله عنه - يذكرهم كل خميس، فقال رجل: لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافة السآمة علينا» (1) . ولأمر ما، كان نزول كتاب ربنا منجما ومفرقا على المناسبات والأحداث والأزمنة والأمكنة. وأنت خبير أن إقبال الناس في رمضان يختلف عنه   (1) متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 غيره، وقل مثل ذلك في المناسبات المختلفة، والأحداث المتجددة من وقائع الأفراح أو حلول المصائب، فأخذ الناس بهذا ومراعاة تقلبات الدهر من حولهم يدرك به سرا عظيما في التأثير والاستجابة، وإن شئت مزيدا في هذا فانظر في الأوقات والأحوال التي يتأكد فيها استحباب الدعاء. . كأوقات السحر، ونزول الغيث، والتقاء الجيوش. وإن رغبت في واقعة فانظر في حكمة يوسف عليه السلام حين استغل الفرصة مع الفتيين عند تعبير رؤياهما وظروف سجنهما فدعاهما إلى الله الواحد الأحد. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40] (1) .   (1) سورة يوسف، الآيتان: 39، 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يلتحق بذلك مراعاة الأعراف والتقاليد المرعية والطبائع في الحرف والصناعات. وقد يكون فيما أشار إليه أهل العلم رحمهم الله من تنوع معجزات أنبياء الله ومناسباتها مع ما يسود البيئات من علوم ومعارف كعصا موسى عليه السلام في بيئات السحرة، وإبراء عيسى عليه السلام في بيئات الطب، وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم في بلاغة العرب ما يشير إلى ما قصدناه. * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 [ المعلم الثالث مراعاة التدرج وترتيب الأولويات ] المعلم الثالث: مراعاة التدرج وترتيب الأولويات ما قيل في طبقات المدعوين، وطبائع النفوس، وملاحظة المناسبات. . يقابله نظر آخر في المدعو إليه فلا شك أن الحكمة تقتضي النظر في متدرجات أمور الدعوة، لأخذ الناس بالأول فالأول. فقضايا العقيدة وأصول الملة والديانة تأتي في المقام الأول. فهي إن لم تصح في العبد، فلن يجدي فيه الصنيع الحسن والعمل الطيب: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105] (1) . ففي الدعوة كليات وجزئيات، وواجبات   (1) سورة الكهف، الآيات: 103 - 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومستحبات ومحرمات ومكروهات، وقضايا كبرى وصغرى. . كل يجب أن تعرف مواقعها وتوضع في مواضعها. وأظن الأمر أوضح من أن يبسط القول فيه، وخذوا دليلا: منهاج مندوب الدعوة ومبعوثها إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد رسم له الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج حين قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوا لك بذلك. . فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك. . فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» . . " (1) .   (1) متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 [ معالم الحكمة في أساليب الدعوة ] [ المعلم الأول القول الحسن ] معالم الحكمة في أساليب الدعوة يقصد بالأساليب هنا ما يتعاطاه رجل الدعوة من طرق وصيغ يتوصل من خلالها إلى إبلاغ الحق إلى الناس، وتبصيرهم بما ينفعهم ودفع ما يضرهم. وهذه الأساليب في جملتها قولية كلامية، أو تعامل مباشر مع المدعوين في ترفق ولين، وغض عن الهفوات، وسلوك نهجي الترغيب والترهيب، والشدة واللين. وهذا شيء من بسط لهذه الأساليب: * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المعلم الأول: القول الحسن إذا أحكم صاحب الدعوة قوله وسدد لفظه فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما. يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] (1) . ويقول طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ؟ فقال: لا تفعل. يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] يقول عطاء: فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي!! وأورد القرطبي في تفسيره على هذه الآية حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عائشة لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا   (1) سورة البقرة، آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لكان رجل سوء» (1) . ويعلق القرطبي رحمه الله فيقول: وهذا حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والقريب والغريب من غير مداهنة. ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه. . إلخ (2) . والقول يكون حسنا وحكمة بقدر ما يعتني بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله. . يتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة. ويحسن الكلام حين يكون قصدا عدلا ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصدا كما في الحديث الصحيح   (1) القرطبي 2 / 16. (2) القرطبي 2 / 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه. وتأملوا في هذا الحوار الهادئ، والقول الحسن في الجدال الحسن: «فهذا حصين الخزاعي والد عمران كانت قريش تعظمه وتجله فطلبت منه أن يكلم محمدا صلى الله عليه وسلم في آلهتها فقد كان محمد يذكرها ويسبها. فجاء حصين ومعه قريش حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوسعوا للشيخ، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا. فقال: يا حصين كم تعبد من آله؟ قال سبعا في الأرض، وواحدا في السماء. فقال: فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء. قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال: الذي في السماء. قال: يستجيب لك وحده وتشرك معه؟ يا حصين أسلم تسلم، فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه. فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 شيعوه إلى منزله» (1) . عجبا! دخل كافرا ناقما منتقما. . فخرج مسلما صادقا. ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها!! ويدخل في ذلك: القول اللين الذي يستثير النوازع البشرية ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام ينادي أباه بكلمات شفوقة. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا - يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا - قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 43 - 47] (2) .   (1) أهل العلم مختلفون في إسلام حصين، والأرجح القول بإسلامه كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره. (2) سورة مريم، الآيات: 42 - 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وكل نبي يقول لقومه: يا قوم تذكيرا بأواصر القربى ومواطن الحب والشفقة. ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لقومه في كلمة رقيقة في دعوة رفيقة: «إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غششت الناس جميعا ما غششتكم» . [ المعلم الثاني التصريح والتعريض ] المعلم الثاني: التصريح والتعريض ومن القول الحسن الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح. فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة. قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه، أيقوله له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن تعرض. وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها. كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه: «ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا» . [ المعلم الثالث النصيحة لا الفضيحة ] المعلم الثالث: النصيحة لا الفضيحة أردت تخصيص النصيحة بالذكر هنا وإن كانت داخلة في كل ما سبق. . بل النصيحة مقصود أعظم في الدعوة. إن لم تكن هي الدعوة كلها. ولكن المراد هنا الإشارة إلى آداب النصيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 كمظهر من مظاهر الحكمة في الدعوة، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون تشهيرا وفضيحة. يوضح ذلك في ما رمناه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حين يقول: (والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة والشفقة عليه والغيرة له، وعليه فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه. . .) . فهي دعوة إصلاح يجب أن يتمخض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح على نحو ما سبق في المعالم السابقة لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالا وشرا ونزاعا. يؤكد جانب الدقة في هذا الأمر أن ذكر الإنسان بما يذكره هو على أصل التحريم. وقد قيل لبعض السلف: (أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته - أي يلومها على ذنبها - فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب» . . . " الحديث (1) . يقول الفضيل: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير) وكانوا يقولون: (من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره) . ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة، وإخراج أخيه من غوائلها. وشتان بين من قصده النصيحة، ومن قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى.   (1) متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وكما قالت أم الدرداء: (من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه) . [ المعلم الربع أدب التعامل ] المعلم الرابع: أدب التعامل كان الكلام فيما سبق تنبيها على مواطن الحكمة في القول والمخاطبة وحسن المجادلة. وفي هذه الفقرات إشارات إلى بعض ما ينبغي من أدب التعامل مع المدعوين، وبخاصة حينما يرى عليهم ما يستحق التنبيه، ويستوجب الملاحظة والتغيير. وسوف ينتظم هذا الحديث صورا من اللين في التعامل، ثم المداراة وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب. * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 صورة من اللين في التعامل النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها ويتلقاها باللين ويبسط لها في المحيا. والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار، فتأخذ النفس العزة بالإثم. على نحو ما سبق بسطه، فالتعامل المؤثر ما كان دمثا يفتح القلوب ويشرح الصدور فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم. يروي معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي ما ضربني ولا سبني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وفي رواية: «فما رأيت معلما قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: " إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» . وفي مدلولها قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد فقام الصحابة لينهروه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما فرغ دعاه عليه الصلاة والسلام قائلا له: «إن المساجد لا تصلح لهذا إنما هي لذكر الله والصلاة ". فولى الأعرابي وهو يقول: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك: " لقد حجرت واسعا» . قال الحافظ معلقا على أمثال هذه الوقائع: والمراد من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد بخلاف ضده، والله أعلم. وفي هذا يقول الإمام أحمد: (كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلا رحمكم الله) . ودعي الحسن البصري - رحمه الله - إلى عرس فجيء بجام من فضة (أي قدح أو إناء) عليه خبيص أو طعام (والخبيص طعام من التمر والسمن) فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه فقال رجل: هذا نهي في سكون. ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له في القول فقال: يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق. فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (1) .   (1) سورة طه، الآيتان: 43 - 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [ المعلم الخامس المداراة ] المعلم الخامس: المداراة المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة. وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه فقال: المداراة مع الناس، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها أنه «استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: " ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. تقول عائشة: فقلت يا رسول الله: قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلام وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان: وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من كير إنكار عليه. والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. اهـ. إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي كل العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومن الطريف قول أبي يوسف - رحمه الله - في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم: القاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه. وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره. وقد جاء في حكم لقمان: يا بني كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار. وسلوك المداراة مأذون فيه لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا للانفرادية. والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض والرضى والغضب والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وعلى أي حال لاختل الاجتماع ولم يثبت التعارف ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا أو يدعو إلى تخاذل، وهذه هي المداراة التي نعني. إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار. . إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح. ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد: (. . . وسلم على عدوك وداره فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس) ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي. قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال: أخبي نارا وأقدح ودا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد. وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا يقطع العضو المركب في الجسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر. فالمداراة يقصد بها جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون. وهي لا تمنع قضاء بالعدل ولا تحجب نصيحة بالرفق، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلا عريضا في فقه المداراة وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها. وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم، فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته. ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 من شب متماديا في الانحراف ولؤم الطبع حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره. ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم يتقنه الحكماء والأذكياء ولا يتعدى حدوده الفضلاء. إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة إظهار الرضا عن الغلط من الظلم والفسق. . ومن قول باطل أو عمل ممنوع. والمداهنة مسلك ذميم ينطوي تحت جناحيه الكذب، وخلف الوعد. أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه، ومن دخل الكذب من باب، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة. وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه. قال الماوردي - رحمه الله -: إن الإنسان وإن كان مأمورا بتآلف الأعداء، ومندوبا إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكنا وبهم واثقا بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعا لا يستحيل، وجبلة لا تزول وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، ويستدفع به أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفاد به إنضاجها، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول وجوهر لا يتغير وقد قال الشاعر: وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزح له إن المزاح وفاق فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ومن كل ما تقدم يتبين واجب المصلحين من الدعاة والعلماء والمربين في هذا الباب. فواجب العناية بمحاربة المداهنة حتى تنفى من الأرض وتكون الأوطان ودور التربية منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق الكاذب، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لحديث المصارحة. [ المعلم السادس إقالة العثرات والغض عن الأخطاء ] المعلم السادس: إقالة العثرات والغض عن الأخطاء وأسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين ما دام طريقا لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين إذا كانوا كراما ذوي هيئات أو كان ذلك سبيلا إلى دفنها وتقليلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وإن شئتم برهانا قريبا فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة. . تلك الواقعة الصحيحة فهي صورة حية من صور الضعف البشري في لحظة من لحظات الزمن مع أنه الصحابي البدري، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل حاطبا وأجابه. فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد صدق ولا تقولوا إلا خيرا. أما علمت يا عمر أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . إن إقالة العثرة ليست إقرارا للباطل ولكنها إنقاذ للواقع فيه. حكي أن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعودة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ما كان عليه. حق لمن غلط أو ذل أن يسمع كلمة حانية، وأن يستضيء بشمعة أمل من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب. يمر أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبونه، فأنكر عليهم صنيعهم. فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي. [ المعلم السابع الترغيب والترهيب ومواقف الشدة ] المعلم السابع: الترغيب والترهيب ومواقف الشدة كل ما تقدم من التأكيد على مسالك اللين والرفق والمداراة، والغض عن الهفوات، وإقالة العثرات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ليس معارضا لما هو معروف ومتقرر في مسالك الشرع من ضرورة سير الدعاة والمربين بين حالي الرغبة والرهبة، والرخاء والشدة. لكن المقدم في التعامل هو الترغيب والرفق كما قال الإمام أحمد: (والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق بلا غلظة، إلا رجلا مباينا معلنا بالفسق والردى، فيجب نهيه. لأنه يقال. ليس لفاسق حرمة، فالمعلن المصر لا حرمة له) . وطريق أنبياء الله - عليهم السلام - المذكورين في القرآن مسلوك فيه النجدين: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] إلى قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] (1) . وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن: 8 - 10] (2) .   (1) سورة نوح، الآيات: 1 - 4. (2) سورة التغابن، الآيات: 8 - 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ترغيب فيما وعد الله من حسن الجزاء في الدنيا، وحسن العافية في الآخرة: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] (1) . وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته، والخوف من أليم عقابه عاجلا وآجلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (2) . وبعد أيها القارئ الكريم: فلعله بملاحظة هذه المعالم وأمثالها يتحقق الخير وترشد المسالك وتؤتي الحكمة خيرها:   (1) سورة الصف، آية: 13. (2) سورة هود، آية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] (1) . والنفوس تملك قدرا كبيرا من التأهيل في قبول ما عند الدعاة، وهي تحب سماع كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستفيد من المواعظ، وهي قريبة من الخير مستعدة له فليفقه هذه السنن الدعاة إلى الله، وليحملوا الناس على توجيهات الشرع لا على جلبة الشارع وغوغاء العامة، وليتجنبوا المزالق والمنعطفات الخطيرة التي يتعمد أعداء الملة من الكفار والمنافقين وضعها في الطريق. وفق الله الجميع إلى سبيل الهدى، وأصلح الأعمال والمقاصد. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. تمت   (1) سورة البقرة، آية: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61