الكتاب: سلسلة أهل الذكر المؤلف: شريفة سلامة أبو مريفة الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2001م عدد الصفحات: 152 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- سلسلة أهل الذكر شريفة سلامة أبو مريفة الكتاب: سلسلة أهل الذكر المؤلف: شريفة سلامة أبو مريفة الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2001م عدد الصفحات: 152 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] [ مقدمة ] سلسلة أهل الذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وبعد: إن القصة هي المفتاح إلى عقل الطفل وإدراكه، فباحتوائها على عناصر التشويق والقدوة الحسنة تغرس في نفس الطفل القيم والفضائل المراد غرسها، خاصة وأن الطفل عجينة طرية قابلة للتشكيل، ولا يخفى علينا ما تزخر به المكتبات من القصص الغربية الوافدة التي تحمل عادات وقيما وتقاليد تشكل معالم مهتزة لشخصية مهترئة بعيدة كل البعد عن معالم الشخصية المسلمة؛ لتكون بذلك معولا يهدم شخصية طفلنا، هذه الشخصية التي لا بد وأن يكون لها استقلالها وتفردها وحدودها الواضحة الآمنة البعيدة عن الزعزعة، فلا تقع نهبا للازدواجية عقائديا وفكريا واجتماعيا وثقافيا. لذا وجب علينا نحن الذين أنعم الله عليهم بنعمة العلم أن نسهم في حمل الأمانة المتمثلة في تربية النشء تربية إسلامية صحيحة خالية من التشويش والتغريب والتحريف. ويمكن القول: إن القصة قد تسهم إلى حد كبير في رعاية هذه النبتة الغضة لتقف غدا بعقلها وقلبها ووجدانها وإسلاميتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 المتميزة في وجه الريح والتيارات الفكرية العاتية التي تحاول أن تعصف بنا في كل اتجاه، وانطلاقا من كل ما سبق جاءت الرغبة في تقديم عمل أدبي للطفل المسلم بحيث ينبع هذا العمل من عقيدته وقيمه وحضارته الإسلامية الأصيلة، فكانت هذه السلسلة القصصية التي تحمل عنوان أهل الذكر للأطفال الذين هم بين التاسعة والثانية عشرة من العمر، وقد استقت موضوعاتها من كتاب الله الكريم وأخذت عناوينها نصا من الآيات الكريمة للدلالة على موضوع القصة، وقد جاءت في خمسة عشر كتابا يحمل كل كتاب قصة قصيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [ المنهج ] أولا: الموضوع: هو المحور الأساسي للقصة، وستكون الموضوعات قرآنية مستمدة من كتاب الله عز وجل، هذا الكتاب الذي تربى عليه أجيال وأجيال ليكونوا خير أمة أخرجت للناس. ونحن نهدف بهذا الاختيار إلى ربط الطفل المسلم بمصدر التشريع ومنبع الهدى مما يؤدي إلى رسوخ الإيمان في قلبه وتهذيب روحه ووجدانه وإيقاظ إحساسه بقدرة الله عز وجل وبأنه هو خالق الكون ومدبر الأمر، وذلك بلفت نظر الطفل إلى بعض الظواهر الكونية التي يشاهدها في محيطه كالمطر. . الرعد. . البرق. . تعاقب الليل والنهار. . الشمس. . القمر. . الأرض. . الجبال الرواسي، وغير ذلك من الظواهر التي قد نمر بها غافلين. كما تهدف هذه السلسلة المقدمة إلى الطفل المسلم إلى تعميق إيمانه بعقيدته ودعائمها الأساسية ليظل في منأى عن الانحرافات الفكرية والزيغ والضلال، ولتحميه من القلق والتوتر في لجة الحيرة التي يضيع فيها أولئك الذين يبتعدون عن الله وعن منهج الفطرة. أيضا نهدف في هذا العمل إلى تقويم لسان الطفل، فاللغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 العربية الفصحى في أرقى مدارجها وأروع كنوزها بين دفتي كتاب اللِّه عز وجل، ومن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها هذه السلسلة أيضا في بعض الموضوعات المنتقاة غرس الفضائل التي دعا إليها الدين الإسلامي: كبر الوالدين والتعاون والتراحم والإحساس إلى الناس وصلة الرحم والصبر والتواضع، أيضا توجيه سلوكيات الطفل في الحياة وفي تعامله مع الآخرين، والبعد عن بعض آفات اللسان كالغيبة والنميمة والكذب وربط ذلك كله بالثواب أو العقاب من الله عز وجل. هذا وقد حملت القصص في السلسلة عناوين مستقاة نصا من الآيات القرآنية وهي كالتالي: 1 - " أقم الصلاة ": من قوله تعالى: بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (1) . 2 - " وهنا على وهن ": وهذا عنوان القصة الثانية مأخوذ من قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] (2) .   (1) لقمان، الآية: 17. (2) سورة لقمان، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 3 - " وإيتاء ذي القربى ": مأخوذ من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (1) . 4 - " وكونوا مع الصادقين ": من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (2) . في الحث على فضيلة الصدق. 5 - " قرضا حسنا ": من قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] (3) . 6 - " وكان بين ذلك قواما ": من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (4) . في الحث على الاقتصاد في المعيشة والإنفاق. 7 - " حتى تستأنسوا وتسلموا ":   (1) سورة النحل، الآية: 90. (2) سورة التوبة، الآية: 119. (3) سورة البقرة، الآية: 245. (4) سورة الفرقان، الآية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 من قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] (1) . في الحث على بعض الآداب الشرعية التي أدب الله بها عباده كالاستئذان والسلام. 8 - " ويدرؤون بالحسنة ": من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] (2) . في الحث على دفع القبيح بالحسن صبرا واحتمالا. 9 - " أيحب أحدكم ": من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] (3) . في النهي عن آفة من آفات اللسان وهي الغيبة. 10 - " السحاب الثقال ": من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] (4) .   (1) سورة النور، الآية: 27. (2) سورة الرعد، الآية: 22. (3) سورة الحجرات، الآية: 12. (4) سورة الرعد، الآية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 في الحث على التفكر في خلق الله وأنه مبدع الكون من خلال لفت النظر إلى بعض الظواهر الكونية وأهميتها في حياتنا. 11 - " واخفض جناحك ": من قول الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] (1) . في الحث على فضيلة التواضع وخفض الجناح للمؤمنين. 12 - " والجار الجنب ": من قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (2) . في الحث على أداء حق الجار والوصية به. 13 - " ولئن صبرتم ": من قوله تعالى:   (1) سورة الشعراء، الآية: 215. (2) سورة النساء، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] (1) . في الحث على فضيلة الصبر. 14 - " والعافين عن الناس ": من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] (2) . في الحث على العفو واحتمال الأذى من الناس. 15 - " ورتل القرآن ": من قوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] (3) . في الحث على مداومة قراءة القرآن الكريم. ثانيا: بناء القصة: تعتمد القصة في بنائها على السرد غير الممل والحوار الشيق الذي يجذب انتباه الطفل حيث ستصاغ الأحداث والشخصيات بما يحقق الهدف المرجو من القصة، ويخدم الموضوع المراد إيضاحه بحيث تترابط هذه الأحداث والشخصيات ترابطا منطقيا أقرب إلى الواقع والتلقائية، الأمر الذي يقنع الطفل ويضفي على القصة صفة الوحدة والتكامل وتماسك الأجزاء.   (1) سورة النحل، الآية: 126. (2) سورة آل عمران، الآية: 134. (3) سورة المزمل، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ثالثا: اللغة والأسلوب: ستتم الصياغة باللغة العربية الفصحى المبسطة بحيث تتلاءم مع حصيلة الطفل اللغوية، ولكن مع مراعاة الإثراء اللغوي والإضافة إلى تلك الحصيلة مع إيراد شرح لمعاني الكلمات الصعبة، وبذلك يمكن للطفل أن يكتسب خبرات ومعارف ومفاهيم ومفردات لغوية جديدة تضاف إلى حصيلته السابقة. هذا وسيتم الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة حسبما يقتضيه موضوع القصة علما بأن القصص ستخلو من الرسومات التوضيحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 [ أقم الصلاة ] 1 - نشأ أحمد في جو أسري عبق بأريج الإسلام، يحرص جميع أفراده على التقيد بتعاليم الدين في كل شأن من شؤون حياتهم، متخذين من القرآن الكريم والسنة المطهرة نبراسهم (1) وحاديهم إلى طريق الحق بعيدا عن ظلمات الزيغ (2) والضلال. . لقد كان لأحمد في والديه خير قدوة وخير معين للمضي على الطريق القويم، متلمسا خطاهم، حاذيا حذوهم في شتى أموره. . وكان والد أحمد يعلم كم هي قوية ذاكرة الطفل الصغير، ويعلم أن الطفل صفحة بيضاء ناصعة لا تشوبها شائبة، وما يخطه على هذه الصفحة النقية يقرؤه غدا بكل وضوح، لذا حرص الأب والأم على أن يكونا خير قدوة لولدهم، وألا تقع عيناه على ما يعكر صفو أمنه، وألا يرى منهما إلا كل جميل، وقد كانا حقا أبوين صالحين فكانا لولدهما خير قدوة وخير معين، فشب الولد غضا طريا في دوحة العلم والدين ينهل من منهله (3) العذب النقي.   (1) مصباحهم. (2) الميل عن الحق. (3) المورد أو موضع الشرب على الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 استيقظ أحمد من نومه على صوت والده وهو يدعو قائلا: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور (1) 00 اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا. ردد أحمد هذا الدعاء كما علمه إياه والده وخرج للصلاة في المسجد مع والده، وحين عادا من أداء الصلاة جلس أحمد إلى والده يحادثه بعضا من الوقت فبادر قائلا: يا والدي، لقد تعرفت إلى صديق جديد انتقل إلى مدرستنا منذ يومين، وقد راقت لي صحبته غير أن هناك ما أزعجني منه؟ ! - وكيف يا بني، ألم تقل إن صحبته راقت لك؟ ! - نعم يا والدي، فهو شخص دمث (2) الأخلاق بشوش متعاون ولكننا حين ذهبنا لأداء الصلاة لم يرافقنا. - هذا أمر جلل يا بني، ولماذا لم تدعه للذهاب معكم؟ - لم أدعه في المرة الأولى ظنا مني بأنه سيلحق بنا ولكنه لم يفعل، وحين تكرر منه هذا الفعل في اليوم الثاني دعوته فبادرني قائلا: أنا مازلت صغيرا وسأقوم بأداء فريضة الصلاة حين أكبر. - لعلك يا بني أغلظت له في القول فلم تدعه باللين والقول الحسن؟   (1) رواه البخاري في صحيحه الجزء الثامن ص 85، ومسلم في صحيحه الجزء الثامن ص 78. (2) سهل ولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أجاب أحمد: - على العكس يا والدي لقد كنت رفيقا به ولم أحدثه أمام أصدقائنا الآخرين، بل أسررت له بعيدا عن أسماعهم. . - أحسنت يا بني، فهذه بعض صفات الداعية الذي لا يبغي بدعوته غير وجه الله. . وعلى أية حال لا شك أن صديقك هذا جاهل أمر دينه، وإن كنت أعلم أنكم قد درستم في المدرسة كل ما يتعلق بأمور الصلاة. - نعم يا أبي، ولكنني أرغب أن تزودني ببعض النصائح لعلي أنقلها إليه، فربما وعى واستجاب لنصحي. . أجاب الأب فرحا بابنه الذي أرقه أمر صديقه. - بارك الله فيك يا بني، وأحمد الله على أن أراني فيك ما أقر عيني وأثلج صدري، ومضى يحدث ابنه قائلا: اعلم يا بني أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حين يكون العبد فيها معظما ربه خائفا منه راجيا رحمته، فحظ كل واحد من صلاته إنما هو بقدر خوفه من الله؛ لأن الله إنما ينظر إلى قلوب عباده لا إلى صورهم الظاهرة، ولذا قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] (1) . كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للمرء   (1) سورة طه، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من صلاته إلا ما عقل منها» (1) . رد أحمد: أجل يا أبي وإني لأحفظ وصية لقمان لابنه وهو يعظه في قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (2) . أجاب الأب مسرورا من ابنه: أحسنت يا بني فالصلاة لها أحسن الأثر في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق، ففي كل جزء من أجزائها تمرين على فضيلة من الفضائل الخلقية وتعويد على صفة من الصفات الحميدة. وتابع الأب قائلا: أما قول صديقك وتعلله بأنه صغير السن فيمكنك القول له: إن التكاليف الشرعية لا يؤمر بها الإنسان إلا عندما يبلغ الحلم حين يصبح مسؤولا عن أداء الفرائض ومحاسبًا عن التقصير فيما كلف به، إلا أن الإسلام قد تجلت رعايته للأطفال الذين لم يبلغوا سن الحلم حين جاء في الحديث الشريف: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» (3) .   (1) قال العراقي في تخريج الأحياء: لم أجده مرفوعا دائما، هو من كلام عمار بن ياسر رضي الله عنه. (2) سورة لقمان، الآية: 17. (3) حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن، صحيح سنن أبي داود، محمد الألباني رقم 509، وصحيح الجامع الصغير له في رقم 5744. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثم أليس يا بني صديقك هذا الذي حدثتني عنه في مثل سنك؟ - نعم يا والدي. - إذًا لقد تخطى العاشرة، وقد أمر الله والده أن يأمره بالصلاة، وعليك يا بني أن تنبهه لذلك، وأن تحاول تعليمه الصلاة وكيفية التهيؤ (1) لها، وما يقوله في صلاته، وذَكِّرْهُ يا بني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل أي الأعمال أفضل فقال: «الصلاة لمواقيتها» (2) . فالصلاة هي أفضل أعمال الإسلام وأجلها قدرا وأعظمها شأنا. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (3) . سأل أحمد والده بأدب: فإذا سألني: وما الغرض من الصلاة؟ فبماذا أجيب؟ رد الأب قائلا: تعلم يا بني أن الصلاة ركن من أركان   (1) الاستعداد. (2) متفق عليه، رياض الصالحين للنووي، تحقيق محمد الألباني، ط أولى 1399، بيروت، ص 151، رقم 317، باب بر الوالدين وصلة الأرحام - الباب 40. (3) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 9. ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الإسلام، فمن تركها فقد هدم ركنا من أقوى أركانه، وهي تطهر النفوس من الذنوب والآثام، والغرض الحقيقي من الصلاة هو إشعار القلب بعظمة الإله الخالق حتى يكون على وجلٍ فيأتمر بأمره وينتهي عما نهاه عنه، ومن يقف بين يدي خالقه، وقلبه ذليل خاشع خائف وجل من جلال الخالق ذي السطوة التي لا تحد، والمشيئة التي لا ترد فإنه يكون بذلك تائبا من ذنبه منيبا إلى ربه. وتصلح أعماله الظاهرة والباطنة وتقوى علاقته بربه. فهل وعيت ما قلته لك يا بني؟ أجاب أحمد: نعم يا والدي، كم أنا سعيد بما زودتني به هذا اليوم، وإني لأجد فيه فائدة لي ولصديقي إن شاء الله. . - ليكن عملك يا بني خالصا لوجه الله، وخذ صديقك بالصبر والحلم والأناة والرفق، «فما وضع الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» (1) . أردف أحمد قائلا: اطمئن يا والدي ستسمع من الأخبار ما يريح قلبك ويسعدك. رد الأب وقد علت وجهه ابتسامة خفيفة. هيا يا بني تناول إفطارك ثم اتجه إلى مدرستك واستعن بالله   (1) رواه مسلم في صحيحه، الجزء الثامن ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 في كل أمورك. غادر أحمد المنزل وهو يدعو الله أن يوفقه في ذلك اليوم لهداية زميله إلى الصلاة، فكم سيكون سعيدا لو استجاب صديقه وخشع قلبه وصلى معهم ظهر هذا اليوم. انقضى اليوم الدراسي وعاد أحمد من المدرسة وقد امتلأ سعادة وبهجة، وحين سأله والده عن صديقه عبد الله أجاب بتواضع جم: الحمد لله يا أبي لقد نصحت صديقي بما زودتني به وبما كنت أعرفه من قبل فاستمع لقولي خير استماع، وذكر لي أن تركه للصلاة لم يكن إنكارا أو إهمالا لشأنها بل ذاك لأنه لم يكن يعرف كل ما سمعه مني. وإني أستأذنك يا والدي في دعوته لزيارتنا كل أسبوع لكي يشاركنا اجتماعنا، فقد أخبرته أنك قد حددت لنا يوم الخميس من كل أسبوع لمناقشة أمر من أمور ديننا فرغب في أن يشاركنا اجتماعنا هذا آملا أن يستفيد مما نطرحه من أمور. رد الأب وقد سعد بما حققه ابنه اليوم فها هو يرى هذا الداعية الصغير يحاول أن ينهض ببعض مهامّه التي يعده لها منذ اليوم. - بارك الله فيك يا بني وأجزل لك المثوبة (1) لا بأس يا بني أهلا ومرحبا بصديقك معنا فنحن لا نكتم علما ولا نبخل به.   (1) الثواب أو الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 - شكرا يا والدي فذاك ما توقعته وسأخبر عبد الله غدا بموافقتك. وتابع الأب حديثه مع ابنه قائلا: اعلم يا بني أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وأنت اليوم كنت في عون أخيك ومساعدته على أداء عبادة من أجلِّ (1) العبادات، فكان الله في عونك، وما تم معك اليوم من هداية صديقك إنما هو بعون وفضل من الله، والآن اذهب يا بني راشدا وانظر ماذا وراءك. غادر أحمد والده وهو يتمتم شكرا لله على نعمائه وعونه فيما سعى إليه من خير.   (1) أعظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 [ وهنا على وهن ] 2 - أخذت أسماء تتقلب في فراشها يمينا وشمالا متمتمة بكلمات تعكس مقدار تذمرها من عدم استطاعتها النوم في دعة وهدوء. . مظهرة التأفف من والدتها المريضة التي قطعت عليها لذيذ نومها بالسعال الذي لازمها طويلا، لم تنهض أسماء من نومها لمساعدة والدتها وسؤالها عما ألمَّ بها أو حتى إحضار كوب من الماء لها يريحها من هذا السعال. . بل ظلت تتقلب في الفراش وكأن أمر هذه المرأة الراقدة لا يعنيها في شيء. كانت الأم تعاني من داء في صدرها أوهن جسدها وتركها طريحة الفراش تلازمه أياما وتغادره أياما أخرى، بعد أن كانت مضرب المثل بين جاراتها في الحيوية والنشاط والإقبال على العمل، فقد توفي زوجها منذ عشر سنوات ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل بلا كلل (1) أو ملل، لم تركن إلى الكسل ولم تقبع في دارها منتظرة هبات (2) المحسنين وأعطياتهم. . ورضيت بقضاء الله وقدره، فلم تسخط ولم تتذمر، وهذا هو شأن المؤمنين في كل   (1) تعب. (2) هدايا وأعطيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أحوالهم، الرضا بما قسم الله لهم من خير ومن شر، مؤمنين حق الإيمان بقول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] (1) . فشمرت هذه المرأة الصابرة عن ساعديها وعملت مستخدمة في مدرسة بالقرب من منزلها. . فلم تدّخر جهدا ولم تتوان عن تلبية احتياجات صغيرتها وتوفير سبيل العيش الكريم لها. وظل هم هذه الوالدة الطيبة هو أن تعيش ابنتها في جو من الأمن والأمان بعيدا عن الخوف من النائبات وما قد تأتي به الأيام من معضلات. انقطع صوت السعال ولم ينقطع تفكير أم أسماء في حالها وحال صغيرتها بعد أن أقعدها المرض وازدادت حاجات ابنتها حتى أرهقتها مطالبها. . وأخذت تضيق عليها غير آبهة بظروف والدتها. لم تنم الأم في تلك الليلة بل لعلها لم تغف لحظة واحدة، وكيف لقلبها المؤرق أن يغفو ولعينها الباكية أن تنام، ومر الليل عليها ثقيلا حتى ارتفع صوت المؤذن في جلال وخشوع ينبه الغافلين ويوقظ النائمين لأداء صلاة الفجر، فنهضت الأم متحاملة على نفسها متكئة بإحدى يديها على الجدار وباليد الأخرى تحاول بعث القوة في ظهرها الذي أضعفه المرض.   (1) سورة التوبة، الآية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أدت أم أسماء الصلاة وأخذت تناجي ربها بذلة وخضوع ودمع يبلل خديها، سائلة إياه أن يعينها على تربية ابنتها وأن يهبها الصحة وأن يهدي قلب هذه الفتاة الصغيرة العاقة إلى طريق الحق؛ لتعرف عظم مسؤوليتها تجاه والدتها التي تعبت من أجلها كثيرا وأن يزيل الغشاوة (1) عن عينيها لترى ما خفي عليها من واجبات تجاه أمها. اتجهت أم أسماء لإيقاظ ابنتها التي كانت تغط في نوم عميق، ناسية أن لها والدة مريضة يتعين عليها النهوض باكرا لمساعدتها وإعداد طعام الإفطار بدلا عنها، وترك الاعتماد على والدتها في كل شأن من شؤون حياتها. أحضرت الأم الطعام وقدمته أمام ابنتها ولكنها عجبت حين رأتها لا تمد يدها إليه فسألتها بحنان الأم ولهفتها. - ما بالك يا ابنتي؟ لم لا تأكلين؟ أظهرت أسماء عدم الرضا وردت بغلظة: ما هذا يا أماه ألا يوجد لدينا غير هذا الطعام الذي تقدمينه لنا كل يوم؟ . ردت الأم وقد آلمها ما تفوهت به ابنتها من حديث يسخط الله: احمدي الله يا ابنتي على هذا النعيم الذي أمامك فغيرك قد لا يجد ما تجدين الآن.   (1) الغطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أجابت أسماء وكأنها لم تسمع ما قالته والدتها. . وما شأني بغيري. . ألا تكسبين مالا. . ألا تملكين نقودا. . فلماذا التقتير (1) والتضييق علينا؟ فما كان من الأم إلا أن تجاهلت حديث ابنتها الذي لا طائل (2) منه وحثتها على الإسراع حتى لا تتأخر عن المدرسة. . وحين رأت أسماء أن والدتها سترافقها إلى المدرسة شأنها قبل أن تأخذ إجازة بسبب المرض. . سألتها وقد قطبت حاجبيها: ما هذا يا أماه هل ستذهبين معي اليوم أيضا. . ألم تقولي بأنك ستغيرين مكان عملك وتبحثين عن عمل في مكان آخر بعيدا عن المدرسة التي أنا فيها؟ . لم تجب الأم على سؤال ابنتها بل تمتمت وهي تدفعها برفق إلى الباب: - هيا يا ابنتي هداك الله وأنار بصيرتك. ظلت الأم تفكر طوال الطريق في طلب ابنتها الذي لا يخلو من القسوة، وتمنت لو أنه كان باستطاعتها العمل بعيدا عن ابنتها، ولكن لا يوجد في الحي الذي تقطنه غير هذه المدرسة وليس لديها القدرة على تأمين أجرة حافلة تقلها إن هي انتقلت للعمل بعيدا عن   (1) البخل. (2) لا نفع منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المنزل. . كانت الأم في قرارة نفسها تشعر بأسى (1) بالغ لهذه القسوة التي تتجلى (2) في طلب ابنتها. . ولكنها كانت تتمنى لو استطاعت البعد عن المدرسة وإسعاد فتاتها وتجنيبها الخجل الذي تحسه حين ترى والدتها وهي تعمل كخادمة في المدرسة. وفي هذا اليوم قامت المعلمة بإعطاء الطالبات بطاقات الدعوة لأمهاتهن لحضور الحفل الذي سيقام تكريما للأمهات بعد أسبوع. . ووجدت المعلمة أنها فرصة سانحة لحث الطالبات على بر أمهاتهن والعمل على توفير الراحة لهن، والتنبيه على عظم فضل الأم وحقها عليهن، وذكرتهن بقول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] (3) . وأوضحت لهن أن معنى وهنا على وهن أي ضعفا على ضعف، ولفتت أنظارهن إلى أن توصية الولد بالوالدين قد تكررت كثيرا في القرآن الكريم وفي وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن توصية الوالد بولده لم تتكرر كثيرا؛ لأن الفطرة تقتضي أن يكون الأب مشفقا على ولده فهو لا يحتاج إلى تلك التوصية في حين أن الولد لا يكون في مشاعره وعواطفه   (1) بحزن. (2) تتضح وتظهر. (3) سورة لقمان، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وسلوكه نحو والديه كما هما معه لذلك فهو في حاجة إلى الوصية المكررة. . كما بينت لهن المعلمة عظم المسؤولية الملقاة على عاتق الأم من حمل وإرضاع وتربية، وما تقدمه من بذل وما تحتمله من نصيب أوفر في العطاء والتضحية، وكيف أن الله قد قرن رضاه برضا الوالدين في الآية السابقة. كانت أم أسماء امرأة يحبها الجميع لدماثة خلقها وطيب معشرها وإخلاصها في عملها، وكانت مديرة المدرسة تعلم مقدار التفاني (1) الذي تظهره هذه المرأة لخدمة الجميع بنفس راضية، وما تقدمه في سبيل تربية ابنتها تربية صالحة قويمة. . وما أشد دهشة أم أسماء حين استدعتها المديرة في ذلك اليوم وسلمتها بطاقة دعوة خاصة تقديرا من إدارة المدرسة لجهودها ونشاطها وشددت عليها في الحضور وأعفتها من العمل في ذلك اليوم، فما كان من أم أسماء إلا أن شكرت المديرة على هذه البادرة الطيبة ووعدت بالمجيء. توالت فقرات الحفل من أناشيد وخطب وأحاديث تحث على بر الأم وتبرز دورها العظيم وحقها الكبير من البر والصلة (2) . . ندمت أسماء على فعلتها المشينة حين أقدمت على   (1) التفاني في العمل: بذل الجهد والإخلاص فيه. (2) العطية والإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تمزيق بطاقة الدعوة الخاصة بوالدتها، وانهمرت الدموع من عينيها حين رأت الطالبات وهن يتقاطرن للسلام على أمهاتهن، وازداد نحيبها وهي تتذكر سوء سلوكها مع والدتها مع ما هي عليه من ضعف ومرض، وأخذت العزم على أن تعوض والدتها ما فرطت معها في أمرها وأن تكون الابنة البارة التي لم تكنها يوما. بقيت أسماء غارقة في لجة أفكارها ولم ينتزعها منها إلا صوت مقدمة الحفل وهي تعلن اسم الأم المثالية التي اختارتها المدرسة لتكريمها هذا العام، ولَشَدِّ ما كانت عليه دهشتها وفرحتها حين سمعت اسم والدتها يجلجل في أنحاء القاعة وما أكبر اعتزازها حين رأتها وهي تقطع خطواتها بكل ثقة وهدوء وآثار المرض بادية عليها، وقد ارتدت ثوبا بدا عليها جميلا في تلك اللحظة رغم أنها قد ارتدته كثيرا قبل اليوم لكنها لم تره عليها بمثل هذه الروعة وهذا البهاء (1) . هرعت أسماء حيث والدتها وأخذت تقبلها والدموع تفر من عينيها وقد فارقها إحساسها بالخجل والضعة وحل محلهما شعور الفخر والاعتزاز بهذه الأم الرءوم، ولم تكن سعادة الأم بأقل من سعادة ابنتها بهذا التغير الذي من الله عليها به مستجيبا لدعائها راحما لحالها. . ومنذ ذلك اليوم وصديقتنا أسماء تحاول جاهدة   (1) الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 إرضاء والدتها والسهر على راحتها والعمل بقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24] (1) .   (1) سورة الإسراء، الآيتان: 23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 [ وإيتاء ذي القربى ] 3 - أخذت الشمس تلوذ بأحضان الأفق شيئا فشيئا مودعة أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك ونسيمات رقيقة تداعب الأشجار هنا وهناك فتضفي الكثير من الجمال على هذا الأصيل الأخّاذ الذي ألقى بظلال السكينة على مدينة الرياض الهادئة، شأنها شأن كل البقاع الإسلامية في ذلك الوقت من أيام رمضان، حيث خلت الشوارع من المارة إلا القليل منهم، وأخذ العاملون في الأسواق والدكاكين يستعدون لإغلاق أبوابها تأهبا لمغادرتها لتناول الإفطار وأداء صلاة المغرب. وفي منزل الشيخ عبد الله كان الأبناء في حركة دائبة يساعدون والدتهم في إعداد الطعام وتجهيز المائدة، في حين اتخذ الأب ركنا قصيا من أركان حجرته مختليا بنفسه مع كتاب الله يتلو بكل خشوع متدبرا فيها بقلب حاضر وذهن صاف حتى إذا وصل في تلاوته قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (1) . صمت هنيهة (2) ثم أعاد قراءة الآية ثانية وثالثة   (1) سورة النحل، الآية: 90. (2) تصغير هنه أي صمت ساعة يسيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فطفرت الدموع من عينيه وبللت لحيته، فقد هزت تلك الآية وجدانه بما تحمله من أمر ونهي عظيمين، وحركت معانيها كوامن الشجن فيه، وزلزلت أعماقه الراكدة الآسنة (1) كل هذه السنين فكأنه يقرأ هذه الآية لأول مرة في حياته، آه لقد تذكر في تلك اللحظة أخاه الأصغر عبد الرحمن الذي لم يره منذ خمسة أعوام حين وقع بينهما ذلك الخلاف الذي أدى إلى هذه القطيعة التي طال أمدها، وخيم الحزن على عبد الله وسربله الأسى وهو يتذكر ذلك، وندم على ما فرط في حق أخيه، فكيف لم يزره كل هذه السنين الطوال وقد علم بمرضه مرضا شديدا، وكيف لم يسأل عنه ويتفقد أحواله وهو يعلم رقة حال أخيه وكثرة عياله. . مضى عبد الله يعاتب نفسه ويسأل بمرارة كيف يصل القريب والغريب، والقاصي (2) والداني (3) وينسى أخاه أحق الناس ببره وصلته وإحسانه، هذه الصلة التي هي من المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام للتكافل بين أفراد المجتمع عامة وأفراد الأسرة خاصة. . كيف له أن ينسى أخاه من بره وقد حفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل   (1) أسن الماء أي تغير لونه وريحه. (2) البعيد. (3) القريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رحمه» (1) . يا إلهي لعل كساد تجارتي كل هذه الأعوام هو عقاب من الله تعالى على ما فرطت في أمر أخي. هكذا مضى عبد الله يحادث نفسه وتابع حديثه متأملا فيما وصل إليه حاله مع أخيه: لعلها تذكرة لي لأفيق من غفلتي التي طال ليلها. . لقد حفظت كتاب الله تعالى ووعيت أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وعملت جاهدا أن امتثل بهما. . فكيف أقطع أخي وقد وعيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك. قالت: بلى. قال: فذلك لك» (2) . سرت رعدة في جسد الشيخ عبد الله حين تذكر هذا الحديث خوفا من عقاب الله على هذا الذنب، وأي عقاب أشد من أن يقطعه الله، لقد ظل سادرا في غفلته كل هذه السنين لم يوقظه منها إلا رحمة الله تعالى حين كان يتدبر قرآنه. . فانتهى به التأمل ومحاسبة النفس إلى العزم على زيارة أخيه بعد صلاة العشاء، فشهر رمضان هو شهر الخير والبر والصلة، وسيبدأ إن شاء الله هذه الليلة وصل ما كان مقطوعا بينه وبين أخيه. . وظل هذا الشيخ غارقا في تأملاته وأفاق   (1) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، الجزء الثامن ص 6. ومسلم في كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 7. (2) رواه البخاري، الجزء الثامن ص 6. ومسلم، الجزء الثامن ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 من حديثه مع النفس على صوت زوجته تدعوه للانضمام إليهم على المائدة. رفع المؤذن صوته مؤذنا بدخول وقت صلاة المغرب، ودوّى مدفع الإفطار، وشرع أفراد الأسرة في تناول حبات الرطب بأناة غير أن محمد بادر في تناول الطعام على عجل، فهذا اليوم هو أول عهده بالصيام وقد أمضّه الجوع، فتبسم والده شفقة عليه حين رأى منه ذلك وخاطبه برفق قائلا: سم الله أولا يا بني ثم ابدأ إفطارك بتناول حبات من الرطب اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وعملا بسنته، فقد أخبر أنس - رضي الله عنه -: «أن رسول الله كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا (1) حسوات (2) من ماء» (3) . وتابع الأب حديثه قائلا: ولا تنس يا بني أن تدعو بعد إفطارك بعض الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن تقول: " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك   (1) شرب بتمهل. (2) جمع حسوة بفتح الحاء، المرة الواحدة من الشراب. (3) رواه أبو داود في الصيام، والترمذي في الصيام: باب ما يستحب عليه الإفطار رقم 696، وقال: حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أفطرت وعليك توكلت وبك آمنت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله " (1) . استمع محمد إلى حديث والده بأدب جم ووعده بأن يحفظ هذا الدعاء وأن يدعو به كل ليلة بعد الإفطار وأن يكون إفطاره تأسيا برسول الله، واعتذر لوالده عن هذه العجلة التي التهم بها طعامه قائلا: لقد أهلكني الجوع يا والدي لذا لم أستطع صبرا. وهنا عاتبته والدته بتفضيله النوم حين أيقظته لتناول طعام السحور ونبهته إلى أهمية هذه الوجبة وبركتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» (2) . أعلم يا أمي ذلك وسأحاول التغلب على النعاس ومشاركتكم طعام السحور إن شاء الله. اتجه الأب وأبناؤه إلى المسجد لأداء فريضة المغرب، وحين عادوا كانت الأم قد أعدت لهم الحلوى والشاي وجلسوا يتسامرون   (1) فقه السنة لسيد سابق، مجلد 1 ص 458، روي مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت. (2) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الصوم، الجزء الثالث ص 37، ومسلم في صحيحه: كتاب الصيام، الجزء الثالث ص 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 في جو عائلي مفعم بأريج الحب والتفاهم والود الصادق. . وحين انقضى بعض الوقت طلب الأب من زوجته وأبنائه التهيؤ لأنه سيصحبهم في زيارة، وحين سمع الصغار ما ذكره والدهم قفزوا فرحا والتفوا حوله متسائلين بلهفة وسعادة. إلى أين يا أبي؟ رد الأب وقد كسا الحزن وجهه: لزيارة عمكم يا أبنائي. . تساءل أصغر أبنائه: أي عم يا أبي؟ أجاب الأب بصوت كساه الانكسار وبعض الخجل: عمك عبد الرحمن يا بني فأنت لا تعرفه. ولماذا يا أبي لم نره أبدا؟ . حاول الأب أن يشرح لابنه بكلمات بسيطة سهلة كيف أنه أخطأ في حق أخيه حين بادر بالقطيعة والهجر كل هذه المدة. . وواصل حديثه مبينا لأبنائه الأجر الذي أعده الله لمن يصل رحمه، حيث يزيد في عمره ويبارك له في رزقه، وأن من قطع هذه الرحم وهجر أهله وقرابته وذوي رحمه فجزاؤه قطيعة من الله. فرحت الأم فرحا شديدا وحمدت الله على أن هدى قلب زوجها إلى الحق وأنار بصيرته ليعرف حق ربه عليه، وأخذت تتهيأ هي وصغارها للذهاب مع زوجها لزيارة أخيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وفيما كانت الأسرة في شغل شاغل من أمر الإعداد لهذه الزيارة التي أضفت جوا عامرا بالسعادة على جميع أفرادها قرع جرس المنزل، ولم يصدق الشيخ عبد الله نفسه حين رأى أخاه عبد الرحمن أمامه وقد جاء لزيارته وتعانقا طويلا وتصافحا بحرارة، ولم يتعاتبا على ما بدر منهما من تفريط في حق الإخوة وقطع الرحم التي بينهما، فقد كان هذا اللقاء كفيلا بأن يمسح كل ما كان من أثر لتلك القطيعة والبغضاء. هرع الصغار للسلام على عمهم والتفوا حوله بكل حب وذكروا له كيف أنهم كانوا يستعدون لزيارته بناءً على طلب والدهم لولا أنه سبقهم، نظر عبد الله إلى أخيه بإشفاق وقال: دائما أنت سباق للخير يا أخي رغم أنك تصغرني سنا بارك الله فيك. رد عبد الرحمن وقد استكثر على نفسه هذا السبق: لقد كنت أنت أيضا يا أخي عازما على زيارتي فكلانا كان سباقا للخير وما يعنينا الآن هو أن نبدأ عهدا جديدا بعيدا عن القطيعة والشحناء (1) والتدابر (2) فذاك أمر يحبه الله ورسوله الكريم.   (1) العداوة امتلأت منها النفس. (2) التقاطع والتعادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أمضى الشيخ عبد الله وأبناؤه مع أخيه هزيعا من الليل في سمر حتى دخل وقت صلاة العشاء فاتجهوا إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 [ وكونوا مع الصادقين ] 4 - الله أكبر الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، هاهو النداء الخالد ينساب عبر المآذن يعلن دخول وقت صلاة الفجر فيلقي في النفوس الأمن والطمأنينة ويغسل القلوب من أدران (1) الهموم ويزرع السكينة في الأرواح المتعبة، وهاهي خيوط الفجر الندية تعانق المدينة الهادئة وتدعوها بحنان لنفض غبار الكسل عن جفونها واستقبال بشائر يوم جديد، وهاهم المؤمنون يسارعون إلى المساجد ملبين ذلك النداء وهم يعلمون روعة هذه التلبية ليؤدوا صلاة الفجر جماعة. . حتى الطيور هجرت أعشاشها لتشارك بقية الكائنات في موكب التسبيح (2) والتهليل (3) لعظمة الخالق فأخذت تغرد بصوت شجي (4) يأسر (5) الألباب (6) .   (1) جمع درن وهو الوسخ. (2) قول سبحان الله. (3) قول لا إله إلا الله. (4) الشجو: الهم أو الحزن أو الشوط من البكاء، يقال: بكت الحمامة شجوها. (5) من أسر أسرا أي شده بالآسار، قبض عليه وأخذه أو قيده. (6) العقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ولم تبخل الأزهار التي بللها الندى فعطرت الأرجاء بشذاها الندي. . ورغم روعة هذا الاحتفال إلا أن أحمد لم يعتد أن يحضر هذا المشهد الرائع لميلاد يوم جديد؛ إذ لم يكن تلميذا نشيطا، فاستيقظ من نومه كعادته متثاقلا حين غمرته أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة تدعوه للنهوض، فاتجه إلى الحمام وغسل وجهه ويديه وعاد إلى غرفته وارتدى ثيابه على عجل، وأخذ في رحلة البحث عن حذائه الذي لم يجده في مكانه، فخرج من غرفته مسرعا حيث والدته تعد طعام الإفطار وبادرها قائلا: أمي لم أجد حذائي في غرفتي. نظرت الأم إلى ابنها نظرة ملؤها العتاب وأجابت برفق: يا بني إن أول شيء كان يجب عليك بدء حديثك به هو إفشاء (1) السلام، ألم تتعلم في المدرسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يروى فيه عنه أنه قال: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (2) . آسف يا أماه. . السلام عليكم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.   (1) أفشى: نشر وأذاع. يقال: أفشى سره وخبره أي أذاعه. (2) رواه مسلم في الجزء الأول ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وتابعت الأم حديثها قائلة. . ألم أعلمك أن ترتيب الأشياء والمحافظة عليها في مكانها يوفر عليك الكثير من العناء (1) والوقت الذي سيسألك الله عنه يوم القيامة، فإلى متى تظل هكذا لا تدرك قيمة الوقت، ومتى تبتعد عن الفوضى والإهمال؟ . سأفعل إن شاء الله في المرة القادمة، ولكن أين حذائي الآن لقد تأخرت عن المدرسة؟ . ابحث عنه في الحديقة فلعلك نسيته ليلة البارحة حين كنت تلعب مع أخيك. خرج أحمد إلى الحديقة يبحث عن حذائه فوجده وقد اتسخ فعاد مسرعا إلى غرفته يحاول تنظيفه، ثم قام بترتيب كتبه في حقيبته التي لم يعدها بالأمس، فقد اعتاد أن يؤجل عمل اليوم إلى الغد. . وأخذ يفكر في عذر يقدمه لمعلمه هذا اليوم حين يسأله عن الواجب المدرسي الذي أهمله ولم يكتبه بالأمس، فهو يكره مادة التعبير فما عساه يقول للمعلم. . ما عساه يقول؟ ! . ظل أحمد يردد هذا السؤال بينه وبين نفسه وأسرع لتناول طعام الإفطار مع أسرته، وشرع في تناول الأكل دون أن يسمي الله فوبخه (2) والده بلهجة قاسية على هذا التصرف وذكره بقول رسول   (1) التعب والجهد. (2) لامه وعذله، والتوبيخ: التأنيب واللوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الله صلى الله عليه وسلم حين نصح غلاما: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» (1) . ودع أحمد والديه وانطلق مسرعا حين سمع صوت حافلة المدرسة وهي تقف أمام الباب. قرع جرس المدرسة معلنا بدء اليوم الدراسي، ومضت الحصة الأولى فالثانية فالثالثة. . تدافع التلاميذ بعدها إلى الساحة الخارجية لتناول إفطارهم، ولكن أحمد لم يخرج مع أصدقائه إلى الخارج بل بقي قابعا في مقعده يفكر فعاد إليه صديقه علي ودنا (2) منه وسأله باهتمام وود صادق: - ما بك يا أحمد ألا تخرج معنا لتناول إفطارك؟ - لا، إني متعب وأريد البقاء في حجرة الدراسة. - أترغب في مساعدة أقدمها لك؟ أجاب أحمد وقد بدا عليه الضجر (3) . - لا أريد شيئا، يمكنك الانصراف فأنا أستطيع تدبر أمري. . - لا بأس عليك أستودعك الله.   (1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأطعمة، الجزء السابع ص 77. ومسلم في صحيحه: كتاب الأشربة، السادس ص 107. (2) اقترب. (3) التبرم والضيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وانطلق علي إلى الخارج وبقي أحمد وحيدا في قاعة الدرس. دخل المعلم الفصل وألقى السلام على التلاميذ وسألهم عن الواجب المنزلي، وذهل علي حين فتح كراسته ولم يجد ما كتبه بالأمس فسأله المعلم: - أين واجبك يا علي؟ - لقد كتبته ليلة البارحة ولكني لا أجده الآن. - فأين هو إذا. . رد علي بأدب وقد استبدت به الحيرة والانزعاج: - إني في حيرة من أمري يا معلمي ولكني متأكد أنني كتبته. - أتكذب يا علي وأنت من التلاميذ المجدين؟ ! . . سأسامحك هذه المرة لأنها المرة الأولى التي تهمل فيها أداء واجبك وأرجو ألا يتكرر منك ذلك. وبدأ المعلم في سماع التلاميذ وهم يقرؤون موضوعاتهم واحدا واحدا حتى جاء دور أحمد وحين انتهى من قراءة موضوعه استأذن علي معلمه في الحديث، وذكر أن ما قرأه أحمد عليهم هو موضوعه الذي لم يجده في كراسته وأن أحمد سرقه بلا شك. . فالتفت المعلم إلى أحمد يسأله إن كان ما ذكره صديقه علي حقا. فأجاب أحمد وقد خشي أن يفتضح أمره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 - لا، ليس حقا ما يقوله علي، فقد سهرت ليلة البارحة من أجل إعداده فكيف له أن يدعي أنه صاحب الحق في هذا الموضوع. وأمام إصرار أحمد وتمسكه بقوله توجه المعلم بحديثه لعلي يعنفه على كذبه ثانية وإهماله ومحاولته سرقة تعب غيره، ثم أثنى على براعة أحمد في طرح الموضوع وطلب منه الاستمرار على هذا المستوى فهو يرى أنه قد تحسن كثيرا. عاد علي إلى المنزل حزينا متألما، وحين سأله والده عن سبب حزنه ذكر له ما حدث معه في المدرسة. . وكان والد علي رجلا عاقلا رزينا لا يترك الغضب يستولي عليه ويفقده القدرة على التفكير السليم والتروي (1) في حل المعضلات (2) وقد أدرك صدق ما رواه ابنه؛ فقد رباه فأحسن تربيته، وبكلمات ملؤها الرضا والثقة بالله طمأن الأب ابنه بقوله: - لقد ظلمت يا بني وإن الله على نصرك لقادر، فاجعل توكلك عليه وكن على ثقة به، فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] (3) .   (1) التمهل والتأني. (2) المشكلات. (3) سورة الطلاق، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 - هل تعني يا والدي أن أحمد سيقر (1) غدا بما فعل؟ - قد يكون هذا يا بني وقد يحدث أمر آخر يظهر به صدقك، فأنت صدقت المعلم القول وصديقك أحمد كان كاذبا، والصدق طمأنينة والكذب ريبة كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «دع ما يريبك (2) إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة (3) والكذب ريبة» (4) . فكن مطمئنا؛ لأن كذبه سينقلب عليه ويظهر الله الحق الذي لك فلا تعجل. - آه يا والدي لقد أثلجت صدري بهذه الكلمات المضيئة، وإني لعلى يقين بأن الله معي. . وفيما هما يتحادثان لمع في ذهن الأب خاطر (5) ذكي فسأل ابنه على الفور: - هل قمت بكتابة الموضوع في الكراس من المرة الأولى أم أنك كتبته في ورقة خارجية أولا؟ رد علي بحماس ظاهر وقد قفز إلى ذهنه ما يفكر فيه والده:   (1) يعترف. (2) بفتح الياء، من راب وهو ما تيقن فيه الريبة. (3) اطمأن القلب أي سكن ولم يقلق، والاسم الطمأنينة. (4) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، في أبواب صفة القيامة، الجزء الرابع ص 77، رقم الحديث 2637. (5) الخاطر ما يخطر في القلب من تدابير أو الهاجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 - تذكرت يا أبي لقد استعنت بورقة خارجية قبل كتابته في الكراس. - أطلع معلمك غدا على هذه الورقة ودعه يقارن بين ما كتبته فيها أنت وما قرأه زميلك. وسترى يا بني كيف أن الله مع عباده الصادقين لا يخذلهم (1) . فرد علي ولكن الفرح لم ينسه شكر الله وحمده على هذه النعمة بإظهار الحق واستشعر عظمته وقدرته فهو يعلم خائنة (2) الأعين وما تخفي الصدور (3) . وفي اليوم التالي قدم علي لمعلمه الورقة، وحين قرأها وجد أن الموضوع مطابق لما ادعى أحمد أنه كتبه، وحين أعاد المعلم الكراسات للتلاميذ خاطبهم قائلا: لقد كان صديقنا علي صادقا فيما رواه بالأمس عن موضوعه الذي كتبه واختفى من الكراس. . وطلب منه أن يقرأه أمام التلاميذ، وحين بدأ بالقراءة أحس أحمد بالخوف والخجل وأدرك أن أمره قد افتضح وأنه سيعاقب على فعلته الشنيعة. وحين أنهى علي القراءة   (1) خذل فلان فلانا، أي ترك نصرته وعونه. (2) العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى المحرمات. (3) أي القلوب التي في الصدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سأل المعلم أحمد بشيء من القسوة: - أنت تزعم أن هذا الموضوع بفضل جهدك وسهرك، فهل تفسر لنا كيف حصل صديقك على هذا الموضوع الذي قرأه الآن والذي يتطابق تماما مع موضوعك؟ ! . أدرك أحمد أنه لا فائدة من الإنكار بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد، فاعترف لمعلمه بما اقترفته يداه وكيف قام بسرقة ما خطه صديقه علي في غفلة منه. فسأله المعلم بتعجب: - أتبحث عن النجاة من عقاب المعلم ولا تخاف عقاب الله الذي لا مفر منه؟ ألم تقرأ قول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] سورة الحديد، الآية: 4. أي أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة تقوم بها، أنت كذبت وخالفت أمر الله حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (1) . . ألم تعلم أن الكذب خصلة من النفاق؟ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» (2) .   (1) سورة التوبة، الآية: 119. (2) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 15. ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 اعلم يا بني أن الصدق فضيلة امتدحها القرآن الكريم وذم أهل الكذب، ولقد كان رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا صدقا ولا يقول إلا حقا، فما أحرانا ونحن خير أمة أخرجت للناس أن نتلمس دربه وأن يكون هو مثلنا الأعلى وقدوتنا في كل أمورنا وألا نستمع لوساوس الشيطان، فهل تعدني يا بني أن تترك الكذب وتتخذ من الصدق شعارك؟ . . أجاب أحمد وهو منكس رأسه خجلا مما اقترف: - أعدك يا معلمي، فقد كان هذا درسا قاسيا. - والآن بقي عليك أمر آخر وهو الاعتذار لصديقك عما بدر منك في حقه. - آسف يا علي لقد كنت مخطئا فيما فعلت فسامحني. فرد علي بلطف وقد نسي إساءة أحمد له: - لا بأس عليك يا صديقي إني أسامحك فنحن أخوة بيننا كل الود الذي يسمح لنا بالتسامح. سعد المعلم بهذه الخاتمة وشكر عليا على نبله وتحدث للتلاميذ قائلا: - هاهو صديقنا علي يذكرنا بفضيلة أخرى وهي التسامح بين الإخوة ونسيان الإساءة. . آمل أن نكون جميعا مثله. وأصبح أحمد بعد ذلك يتحرى الصدق في كل ما يقول ويعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [ قرضا حسنا ] 5 - اعتاد الأب أن يصحب ابنه عبد الله في نزهة إلى إحدى الحدائق عصر يوم الجمعة بعد أن يكون قد أنهى واجباته المدرسية وأدى ما عليه من مهام تتعلق بالأسبوع الدراسي المقبل. . ولم يكن الأب يقوم بهذه النزهة مع ابنه إن قصر في بعض واجباته أو أهمل شأنا من شؤونه أو ارتكب ذنبا كأن يغضب أحد والديه أو يعصي أوامرهما، فكانت هذه النزهة بمثابة مكافأة لعبد الله على حسن سلوكه في شتى أموره. . فإن قصر في شيء أو أظهر سلوكا لا يرضي والديه كان الحرمان من تلك المكافأة هو خير عقاب له. خرج عبد الله عصر ذلك اليوم كالمعتاد مع والده وقد سمعه يتمتم بكلمات بصوت خافت حين غادرا المنزل، وكان كثيرا ما يسمع والده يتمتم بها ولكنه لم يسأله عنها قبل اليوم، فالتفت تجاه والده يسأله بفضول ظاهر: ما الذي تقوله يا والدي كلما خرجنا من المنزل؟ انفرجت أسارير (1) والد عبد الله عندما سمع سؤال ابنه الذي بدأ يتشوق إلى المعرفة، وقد كان الأب حريصا كل الحرص على أن   (1) محاسن الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ينشأ ابنه على حب الله ورسوله واتباع سنة نبيه والاقتداء بهداه في كل شأن من شؤون حياته. . ولكن عبد الله مازال صغيرا ولم يكن الأب يرغب أن يثقل عليه بكثرة الأوامر والنواهي حتى لا يمل قلبه الغض الصغير، وإنما كان يلقنه ما يراه مناسبا لسنه ومداركه شيئا فشيئا كنبتة صغيرة تروى بالماء قطرة قطرة. . ولكن الفتى الصغير هو الذي يسأل الآن، يحدوه الشوق إلى المعرفة، ولعل ما سيقوله الوالد الآن سيكون أجمل وقعا وأقوى أثرا في نفس هذه الطفولة الصافية التي تتشوق لمعرفة كل ما تقع عليه عيناها وما تسمعه أذناها وما يعيه عقلها. رد الأب بفرح ظاهر. إنه دعاء الخروج يا بني، وهو دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم. . رد عبد الله. . هل لي أن أسمعه منك يا والدي؟ سأل الأب ابنه برفق: وهل تحب أن تحفظه يا بني؟ رد الفتى: نعم يا والدي، وإن كان دعاءً مطولا فسأقسمه إلى أجزاء حتى يتسنى لي حفظه كاملا. . - بارك الله فيك يا بني. . إن من يهم بالخروج من منزله عليه أن يقول: «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أجهل أو يجهل علي» (1) . هذا هو الدعاء الذي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاء به عند الخروج من المنزل. رد عبد الله مبتهجا: سأبدأ بحفظه - إن شاء الله - يا والدي، ولكن لماذا نقول هذا الدعاء قبل أن نخرج من المنزل؟ يا بني حين يخرج المرء من منزله يقابل الكثير من الناس ومن هؤلاء من يتغلب الشر في داخله على الخير، فقد يتعرض للظلم والإساءة منهم، وقد يكون هو بنفسه ظالما لغيره إن تغلب الشر في داخله، فالإنسان في هذا الدعاء يطلب من الله أن يعصمه من الزلل (2) والوقوع في الخطأ. . كما يطلب من الله الحماية من ظلم الآخرين له أو جهلهم عليه. . وهكذا قطعا الطريق إلى الحديقة وهما يتحادثان. . حتى إذا وصلا انطلق عبد الله يلهو هنا وهناك، تارة يلعب الكرة وتارة أخرى يعتلي الأرجوحة وقد امتلأ سعادة وحبورا، وبينما كان الأب يرقب ابنه بحنان الأب ولهفته مر به رجل مسن رث الثياب غائر العينين يمشي بخطى متثاقلة وشيئا فشيئا اقترب من والد عبد الله ومد يده على خجل وأخذ يشكو له ضعف   (1) حديث صحيح، رواه النسائي في سننه، الجزء الثامن ص 268. (2) عند ارتكاب الذنوب يقال: " أستغفر الله من زللي " أي من ارتكابي الذنوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حاله وقلة حيلته في الحصول على مال يعول به نفسه وقد أسلمه المرض للضعف وعدم القدرة على السعي في مناكب الأرض يأكل من رزقها. . فما كان من والد عبد الله حين سمع شكوى الرجل إلا أن أدخل يده إلى جيبه بدافع الشفقة والرحمة وأخرج بعض المال وقدمه للرجل معتذرا عن عدم استطاعته تقديم المزيد طالبا من الدعاء له بالخير والبركة. . سر الشيخ بهذا العطاء ورفع يديه إلى السماء يدعو لهذا المحسن الذي لم يبخل عليه بل أعطاه الكثير ويرى أنه شيء قليل، ومضى هذا الشيخ يغذ السير بخطى بدت لوالد عبد الله وكأنها أشد ثباتا من خطواته الأولى، وكأن هذه الصدقة البسيطة ألقت عليه رداء الأمن والأمان. . حمد الأب وشكر الله على هذه النعمة حيث جعله قادرا على الإحسان للفقراء والمساكين. كان عبد الله يرقب ذلك المشهد بصمت وقد توقف عن اللعب حين رأى والده يتحدث مع ذلك الشيخ ويمد يده إليه بشيء ما لم تبيُّنه من بعيد، وحين مضى الشيخ أسرع إلى والده وسأله بدهشة. من هذا الذي كنت تتحدث معه يا والدي؟ إنه رجل مسكين يا بني. لقد رأيتك تعطيه شيئا فما هو يا أبي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يا بني لعلك لاحظت كيف كانت هيئة الرجل وما كانت عليه حاله من ضعف ومرض وفقر. . لقد كان محتاجا لما يسد به رمقه، فلقد داهمه المرض نتيجة الجوع، وأحمد الله على أن ساعدني على أن أعطيه بعض المال يحسن به شيئا من أحواله. أردف عبد الله متسائلا بقلق: وهل أعطيته كل ما معنا يا أبي؟ ولماذا تسأل يا بني؟ لأنني أخشى أن تكون قد أعطيته كل ما معنا من النقود فلا نجد ما نشتري به الحلوى والسكاكر والعصير. - يا بني إن ما قدمته للشيخ هو صدقة والصدقة لا تنقص مال المرء، بل تعمل على زيادته من حيث لا يحتسب وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل» (1) . أي أن الصدقة لا تنقص المال، فلا يخاف أحدنا حين ينفق ابتغاء وجه الله، فالله يخلف للمرء ما أنفقه، فالمال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده يضاعفه أضعافا كثيرة، يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة، ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ورضا وقربى من الله، استمع يا بني إلى قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] (2) .   (1) رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 21. (2) سورة البقرة، الآية: 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إن الله يا بني يضاعف للمرء أضعاف ما ينفقه ولم يقل ضعفا أو ضعفين، بل هي أضعاف كثيرة. فالمال مال الله استخلف فيه الإنسان فلا أقل على هذا الإنسان أن يضحي بجزء يسير من هذا المال دون أن يكون له منّ ولا فضل ولا مفخرة يتيه (1) بها، فالله يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] (2) ويقول تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (3) ومع هذا فقد كرم الله الإنسان حتى سمى ما ينفقه المسلم في سبيل الله ويساعد به عباد الله قرضا حسنا. سأل عبد الله وقد اطمأن بعض الشيء عند سماع حديث والده: - أيعني هذا يا والدي أن ما لدينا من المال لن ينفد إن نحن تصدقنا منه؟ - يا بني إن الصدقة لا تنقص المال كما ذكرت لك في بداية   (1) يفخر. (2) سورة الحديد، الآية: 7. (3) سورة النور، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 حديثي معك وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» (1) . - وما معنى ذلك يا والدي؟ رد الأب: أي أن الله يخلف للمرء ما أنفقه، فحين ينفق المرء من ماله يوسع الله عليه في رزقه ويخلفه عوض ما أنفقه. رد عبد الله وقد عاوده القلق: ما يهمني ألا ينفد مالنا. أجاب الأب: ما لي أراك يا بني قلقا تخاف أن ينفد ما معنا من مال؟ وتابع قائلا: اعلم يا بني أن أرفع درجات الإنفاق والسخاء (2) هو الإيثار. - وما الإيثار يا أبي؟ أجاب والد عبد الله: إن الإيثار يا بني هو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، وقد أثنى الله على الصحابة - رضي الله عنهم - فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (3)   (1) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الزكاة، الجزء الثاني ص 142، ومسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، الجزء الثالث ص 83. (2) الجود. (3) سورة الحشر، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فقد روي: «أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل، ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله من صنيعكم الليلة مع ضيفكم» (1) . ونزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] أردف عبد الله بشيء من الزهو: لولا النفقة التي قدمتها يا والدي لهذا الرجل ما استطاع أن يتدبر أمره. أجاب الأب وقد استاء من الصورة التي جاء عليها حديث ولده: - لا يا بني، لا يحق لنا أن نمن بما أعطينا للرجل، فالمن عنصر كريه لئيم، وهو نوع من الاستعلاء الكاذب، ونحن توجهنا بعطائنا لله لا للناس. . فالمن مشاعر بغيضة لا يجيش بها قلب المؤمن. أجاب عبد الله وقد اعتراه بعض الخجل:   (1) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: مناقب الأنصار، الجزء الخامس ص 42. ومسلم في صحيحه: كتاب الأشربة، الجزء السادس ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 - لم أقصد يا أبي المنّ بقولي. - تذكر يا بني أن الصدقة والإنفاق تهذيب وتطهير لنفسر المعطي وتذكير له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا خيلاء وأن ينفق منها في سبيله في غير منع ولا منِّ، وهي توثيق لصلة الإنسان بأخيه في الله لتقوم الجماعة المسلمة كلها على أساس من التكافل والتعاون الذي يذكرها بوحدة اتجاهها، وأذكرك أن الله نهانا عن أن نبطل صدقاتنا بالمن والأذى. . فهل وعيت الآن يا بني؟ - نعم يا أبي وإني إن شاء الله لمقتد بك وجاعل من السخاء شيمتي (1) ولن أمن أبدا بما أعطي. - بوركت يا بني. وقضى عبد الله ووالده وقتا ممتعا في الحديقة ثم عادا أدراجهما.   (1) طبعي وخلقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 [ وكان بين ذلك قواما ] 6 - عاد الأب من عمله والأبناء من مدارسهم، اكتمل شمل الأسرة حول المائدة التي كانت عامرة بما لذ وطاب من أصناف الطعام، حيث تعددت الأطباق واختلفت الأنواع حتى ليخيل للرائي أن هذه المائدة قد أعدت لعشرين شخصا لا لأربعة أشخاص، فما كان من عبد الرحمن حين رأى ذلك إلا أن هتف ببراءة الأطفال: سلمت يداك يا أماه على كل هذا الطعام. . آه كم أنا جائع. ردت الأم بحنو ظاهر: لقد قضيت اليوم كله وأنا أعد هذه المائدة التي ترونها الآن وآمل أن تحوز على رضاكم وألا يضيع جهدي هباء (1) . أجاب الأب وقد بدا الوجوم على وجهه: سلمت يداك يا أم عبد الرحمن، حقا إنها مائدة شهية عامرة بأصناف الطعام اللذيذ، ولكنني لا أتذكر أنني أخبرتك بأنني دعوت أحدا للغداء. أجابت الأم وقد اعتراها الزهو لهذا الإطراء:   (1) الهباء: دقائق التراب ساقطة ومنثورة على وجه الأرض، ومنه يقال ذهب هباء منثورا أي ذهب ضياعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أعلم ذلك يا أبا عبد الرحمن ولكنني أحببت أن أسعدكم اليوم بهذه المفاجأة بعد عناء (1) يوم طويل من العمل والدراسة. لم يجب الأب ولكنه وجه حديثه إلى أفراد أسرته قائلا: سموا الله واشرعوا في تناول طعامكم. قضت الأسرة وقتا ممتعا على الغداء تتخلله الأحاديث الشيقة، ثم اتجه كل إلى حجرته لأخذ قسط من الراحة بعد الغداء. . وحين جن (2) المساء اجتمعت الأسرة في حجرة الجلوس، دأبها (3) كل ليلة بعد أن يفرغ الأبناء من أداء واجباتهم؛ ليتناقشوا في أمور دينهم ودنياهم، وليتزودوا بما ينفعهم، حيث يقرأ عليهم والدهم أحيانا شيئا من أحد الكتب القيمة. . قامت الأم بإعداد الشاي لهم واتجهت به حيث يجلس أفراد أسرتها وبادرت الأب قائلة: ماذا أعددت لنا من حديث في هذا المساء يا أبا عبد الرحمن؟ أجاب الأب: سيكون حديثنا حول حدث دار في هذا المنزل لمسناه بأيدينا ولاحظناه بأعيننا سنستخلص منه العظة والعبرة. تساءلت فاطمة بفضول ظاهر:   (1) تعب. (2) أظلم أو اختلطت ظلمته. (3) شأنها أو عادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 لقد شوقتني يا أبي لهذا الحديث فما الموضوع يا ترى؟ مضى والد عبد الرحمن مخاطبا أفراد أسرته: فعلَّكم لاحظتم اليوم على مائدة الغداء التي أعدتها والدتكم أن بعض الأطعمة التي تعبت في إعدادها لم تمسها أيدينا، كما تبقى الكثير من الطعام الذي تناولنا منه، ونحن نشكر لوالدتكم اجتهادها ومحاولتها إسعادنا ولكن هذا لا يمنع أن نقول لها بأنها أخطأت من حيث لا تدري؛ فأنتم تعلمون أن مثل هذا الأمر يعد إسرافا (1) فمن منكم يا أبنائي يذكر لنا موقف الدين الإسلامي من الإسراف. أجاب عبد الله: إن ديننا القويم ينهانا عن الإسراف، وقد تعلمنا ذلك فيما تعلمناه في المدرسة، وإني لأذكر قول الحق جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (2) . أردفت عائشة متسائلة بحماس ظاهر. . لم أفهم ما تعنيه الآية الكريمة التي ذكرها أخي، فهل لك يا والدي أن توضح لنا ما تعنيه؟ أجاب الأب وقد سعد لحماس ابنته وذكائها: يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة إن من صفات عباده   (1) تبذيرا. (2) سورة الفرقان، الآية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 حين ينفقون في شتى مناحي حياتهم أنهم لم يسرفوا أي لم يبالغوا في هذا الإنفاق ولم يبذروا، حيث إنهم لا ينفقون أكثر من حاجتهم ولكنهم في ذات الوقت عباد لا يقترون، أي: لا يبخلون على أنفسهم أو على غيرهم، فهم يلتمسون طريقا وسطا بين هذا وذاك، أي: لا تبذير ولا بخل، لا إسراف ولا تقتير، وهذا ما يحبه الله في عباده الذين أسماهم عباد الرحمن في محكم تنزيله. فالمسلم يا أبنائي مأمور بالتوسط؛ لأن الإسراف مفسدة للمال والنفس والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله. . فالمال كما تعلمون أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، والإسلام يريد أن يقيم بناءه على التوازن والاعتدال، ويبدأ بهذا البناء من نفس الفرد الذي هو أساس المجتمع، فيجعل الاعتدال سمة (1) من سمات الإيمان بقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وتابع الأب حديثه وهو ينظر إلى أفراد أسرته فردا فردا ما أحرانا (2) أن نتلمّس طريق الحق وننتهجه منهاجا مستمدين النور من القرآن والسنة. تابعت فاطمة حديث والدها ثم أردفت قائلة: إني لأحفظ   (1) علامة. (2) أجدرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 من القرآن يا والدي آية عن التبذير، وذلك من سورة الإسراء التي حفظتها كاملة هذا العام، وهي قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26 - 27] (1) . - أحسنت يا فاطمة، بارك الله فيك، فهل لك أن تفسري لنا هاتين الآيتين الكريمتين. . هزت فاطمة رأسها بالإيجاب ومضت تقول: لقد وردت هاتان الآيتان في سورة الإسراء حيث أمر سبحانه وتعالى بالإنفاق على ذي القربى والمساكين وابن السبيل، وهذا حق فرضه الله تعالى وليس تفضلا من أحد على أحد، كما ينهى في هذه الآية عن التبذير وهو الإنفاق في غير حق، ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين؛ وذلك لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر وينفقون في المعصية، لا ينالون خيرا بهذا الإنفاق، فهم رفقاء الشياطين وصحبهم. . ثم يوضح الله سبحانه وتعالى حال الشيطان فيصفه بأنه كان لربه كفورا أي: كافرا بالنعمة، فهم مثله لا يؤدون حق النعمة التي أنعمها الله بها عليهم، وحقها أن ينفقوها فيما شرعه الله من الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين. كان الأب يسمع لفتاته في إعجاب ظاهر بما سمعه منها   (1) سورة الإسراء، الآيتان: 26، 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فأثنى عليها حين انتهت من حديثها وسألها بانشراح كيف استطعت تفسير هذه الآيات يا فاطمة؟ ردت فاطمة وهي سعيدة لسعادة والدها قائلة: لقد درسنا هذا في المدرسة حين حفظنا سورة الإسراء وكذلك تفسير آياتها، وقد وعيتها (1) جيدا، وقد اشتملت على العديد من صفات عباد الرحمن، وحرصت أن أظل محافظة على ما وعيته منها وبقيت أتعهدها دائما بالقراءة. أحسنت يا ابنتي، فعلينا أن نتعهد ما حفظناه من القرآن بالمداومة عليه حتى لا يتفلت منا تفلت الإبل من عقالها، كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولعلي أوضح لكم شيئا قبل أن نختم حديثنا حول الإسراف. سأل عبد الرحمن: وما هو يا أبي؟ أجاب الأب قائلا: إن النهي عن الإسراف لا يعني الشح والتقّتير، فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وبينهما وسط وهو المحمود، وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] (2) فللمنفق حالتان:   (1) فهمتها. (2) سورة الإسراء، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد. كانت الأم تستمع بكل اهتمام للحديث الدائر بين زوجها وأبنائها وقد امتلأت نفسها حبورا وزهوا لما من الله به عليها من أسرة تسعى جاهدة لتلمس دروب الحق والانضمام تحت لواء (1) عباد الرحمن، فسألت زوجها وقد بدا التأثر ظاهرا في قسمات (2) وجهها: يا أبا عبد الرحمن، هل يعد ما فعلته اليوم من التبذير الذي نهانا منه الله عز وجل؟ - نعم يا أم عبد الرحمن، وإني لأرجو أن تكوني قد خرجت من حديثنا هذه الليلة بعظة وعبرة وفائدة تعود عليك بالخير في الدين والدنيا. - أجل يا أبا عبد الرحمن، لقد وعيت ذلك جيدا، فبارك الله فيك وغفر لي ولن تجدني بعد اليوم - إن شاء الله - مقصرة أو مبذرة.   (1) راية. (2) محاسن الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 [ حتى تستأنسوا وتسلموا ] 7 - اعتاد جابر أن يسأل والده عن كل صغيرة وكبيرة تعرض له في شؤون حياته الدينية والدنيوية، فكان لا يترك شيئا إلا يحاول فهمه في أمور دينه ودنياه، فهو يسأل ويسأل حتى يصل إلى نور المعرفة ويحتضن ضياء الحقيقة فينير قلبه الغض الصغير بكل المعاني السامية النبيلة، شب (1) جابر على هذا النهج الذي أعانه عليه والده كثيرا؛ إذ لم يكن الأب ليضيق ذرعا بالأسئلة التي يلقيها ابنه عليه مهما كثرت وتنوعت هذه الأسئلة، ومهما تشعبت دروب معرفته لئلا يتركه نهبا للقلق والحيرة ولئلا يزيغ عن الطريق ويضل في متاهات الأسئلة فتزل قدم بعد ثبوتها؛ لذا فقد كان يعطي من وقته الكثير لفلذة كبده الذي رعاه منذ الصغر خير رعاية، وحاول تنشئته تنشئة سليمة قوية تشرب فيها حب الله وحب رسوله، فكان هذا الحب محور حياته ومنبع سلوكه وتعامله مع نفسه ومع الآخرين. جاء جابر يوما إلى والده محاولا فهم آية قرأها في كتاب الله، فهم معناها ولكنه لم يصل إلى مغزاها ولم يدرك الحكمة من وراء النهي الذي اشتملت عليه الآية الكريمة، وبعد أن ألقى تحية   (1) شب الغلام: صار فتيا أو كبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الإسلام على والده ورد والده التحية بأحسن منها بادر جابر أباه قائلا: - لقد كنت أتلو الحزب الذي قررته لنفسي كل يوم من كتاب الله فاستوقفتني آية في سورة النور أود أن أسألك عنها يا أبي. - فما هي هذه الآية يا بني؟ - إنها الآية التي نهى الله فيها عباده المؤمنين عن دخول بيوت الغير حتى يسلّموا. - ألا تحفظ الآية يا بني؟ - لا يا والدي، لم أحفظها بعد. فرد الأب قائلا: تقول الآية الكريمة يا بني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] (1) . - نعم يا والدي، هذه هي الآية التي ذكرت. - اعلم يا بني أن سورة النور قد اشتملت على الكثير من الآداب والأخلاق النفسية والعائلية والجماعية، إنها آداب تنير القلب وتنير الحياة ويربطها بذلك النور الكوني الشامل، إنها نور في الأرواح وإشراق في القلوب وشفافية في الضمائر. - ولماذا سميت سورة النور بهذا الاسم؟   (1) سورة النور، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 - لقد ذكر في هذه السورة النور بلفظه متصلا بذات الله في قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] (1) . كما ذكر في السورة النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. - نعم يا والدي، إني لأذكر بعض الآداب التي وردت في السورة وإن كنت لا أحفظ هذه الآيات ولكنني خرجت منها بفائدة عظيمة وهي أن القرآن الكريم يهتم بأخلاق الناس وآدابهم وسلوكياتهم. - أحسنت يا بني، ولعلك لو تذكرت كيف بدأت السورة بقول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1] (2) . - ما العلاقة إذًا يا والدي بين صيغة البدء الذي افتتحت به السورة وما اشتملت عليه من آداب؟ - أجاب الأب قائلا وقد سر لفهم ولده وسعة مداركه. - إن السورة يا بني تبدأ بإعلان قوي حاسم (3) بفرض هذه السورة بكل ما فيها من آداب وحدود وتكاليف وأخلاق، فيدل هذا   (1) سورة النور، الآية: 35. (2) سورة النور، الآية: 1. (3) قاطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية. - ما أجمل هذا القول! ! ولكن أيعني هذا أن سورة النور فرضت علينا بأكملها؟ - يا بني، إن المطلع الذي افتتحت به السورة مطلع فريد في القرآن كله، الجديد فيه كلمة فرضناها والمقصود بها توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء. . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات. . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة الإنسانية. . والتي ينساها الإنسان تحت تأثير المغريات (1) والانحرافات فتذكرهم بها تلك الآيات البينات وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين. - لَكَم أودُّ يا والدي لو تشرح لي السورة بأكملها لأفوز بما زخرت به من آداب وأخلاق وأعلم ما نصت عليه من حدود وتشريعات. - حبا وكرامة يا بني، ولكن الوقت قّد لا يسعفنا الآن فيما نبغي فدعنا نكتفي هذه الليلة بالآية التي شغلت خاطرك وأثارت استفهامك ثم نعرج في ليلة أخرى على بقية السورة، والآن افتح   (1) المغري: الجاذب والفاتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كتاب الله واقرأ الآية. قرأ جابر الآية، بعد أن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فأحسن قراءتها وترتيلها، ثم وضع القرآن في مكان يليق بقدسية كتاب الله. وشرع الأب في تفسير الآية لابنه وشرح الحكمة من تنزيلها بادئا بالقول: - يا بني، إن الإسلام لا يعتمد أول ما يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف بل يسبقها بوسيلة أنجع منها. - وما تلك الوسيلة يا أبي؟ - إن هذه الوسيلة الناجعة هي الوقاية، فالإسلام لا يحارب الدوافع الفطرية ولا يكبتها، ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة. - وكيف يكون ذلك؟ - إنه يا بنى يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها، فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول؛ وذلك خشية أن تطَّلع الأعين على خفايا البيوت وعلى عورات أهلها وهم غافلون، فهذه بعض الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام. - ولماذا خص البيوت بالذكر في الآية الكريمة؟ - لقد جعل الله البيوت سكنا يفيء إليها الناس فتسكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أرواحهم وتطمئن نفوسهم، فيأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص، ولا تكون البيوت كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس. - وهل كان الاستئذان يا أبي من آداب العرب في الجاهلية؟ - لا يا بني، لم يكن الاستئذان من آداب العرب في الجاهلية، لقد كان الزائر منهم يدخل البيت ثم يقول: لقد دخلت، وكان يحدث ألا يرضى أهل الدار عن حالهم التي رآهم عليها هذا الزائر؛ من أجل هذا أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي، أدبُ الاستئذان على البيوت والسلام على أهلها؛ لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم قبل الدخول. سأل جابر والده وهو متلهف لسماع المزيد من الشرح حول هذه الآية: - ألهذا ذكر الله كلمة تستأنسوا قبل كلمة وتسلّموا؟ - نعم يا بني، إن الإيناس في هذه الآية يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به واستعدادا لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم وما يلابسها من ضرورات، لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 - إذا يدخل المرء يا أبي إن أذن له أهل المنزل؟ سر الأب لسؤال ابنه لأنه سأل عن شيء كان لا بد من توضيحه فأجابه قائلا: قد يستأذن المرء ولا يكون في البيوت أحد من أهلها، وهنا لا يجوز اقتحام هذه البيوت بعد الاستئذان، وهذا مأخوذ يا بني من قول الله تعالى بعد الآية السابقة: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28] (1) فإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول إنما هو طلب للإذن، فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. . ويجب الانصراف دون تلكؤ أو انتظار؛ ائتمارا بأمر الله إذ يقول جل وعلا: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] سأل جابر بشيء من الدهشة قائلا: - ألا يحس المرء بالحرج يا والدي إن لم يؤذن له بالدخول؟ رد الأب وقد استحسن سؤال ابنه قائلا: - ولماذا الحرج يا بني! فالامتثال لأمر الله فوق كل أمر، ثم إن الله تعالى يقول: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] إذا فارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم   (1) سورة النور، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أو النفرة منكم، فللناس أسرارهم وأعذارهم، ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين، ثم أجبني يا بني أليس لنا في رسول الله قدوة حسنة؟ ! - بلى يا أبي، وليتك تحدثني في هذا الأمر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أجاب الأب: عن قيس بن سعد بن عبادة قال: «زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد ردا خفيا، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: دعه حتى يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد ردا خفيا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام، فقال: فانصرف معه رسول الله وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» (1) . - الله يا للروعة. . هكذا رد جابر وهو يستشعر عظمة خلق   (1) رواه النسائي في سننه ص 511 - 512 برقم 1111/ 5185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تابع قائلا: وكيف يكون الاستئذان يا والدي؟ - سأرد على سؤالك هذا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو معلمنا وهادينا: «فقد أتى رجل من بني عامر فاستأذن على الرسول وهو في بيته فقال: أألج (1) ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: السلام عليكم. . أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم. . أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل» (2) . فانظر يا بني إلى هذا الحد من اللطف والدقة، بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور الله. - ولكننا لا نرى اليوم يا أبي من يستأذن فلا يؤذن له منعا للحرج أو خجلا من هذا الطارق. - نعم يا بني، فنحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت، وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار يطرقه ويطرقه ولا ينصرف   (1) أأدخل. (2) رواه أبو داود بإسناد صحيح في صحيح سنن أبي داود مجلد 3 ص 972 - 973 رقم 4312 5177. قال الألباني في حديث صحيح في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 818. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له، وقد يجيء هذا الطارق في موعد الطعام فإن لم يقدم له الطعام وجد في نفسه من ذلك شيئا. . وربما يطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعوه إلى المبيت عندهم وجد أيضا في نفسه من ذلك شيئا دون أن يقدر أعذارهم من هذا وذاك. - ولكن يوجد اليوم يا أبي ما يسمى بالهاتف فلم لا يكون وسيلة استئذان بين الناس؟ - نعم يا بني، قد يكون في البيت هاتف يمكن أن يستأذن الزائر عن طريقه قبل أن يجيء ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب أهل البيت، ولكنه يهمل هذا الطريق ليباغتهم في غير أوان وعلى غير موعد، ثم لا يقبل العرف والعادات أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار. - ولماذا يا أبي لا نحاول أن نتمسك بما أمرنا به الله تعالى في كل أمر من أمور حياتنا؟ - أحسنت يا بني. . إننا لا نتأدب بأدب الإسلام في كل شيء ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما، إنما نحن نتبع في بعض الأحوال عرفا خاطئا أو عادة ذميمة ما أنزل الله بها من سلطان، ومما يؤسف له يا بني أن غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام يحافظون على تقاليد في بعض سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أدبا لنا في النفس وتقليدا من تقاليدنا في السلوك، فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين. . فهل فهمت الآن يا بني الحكمة في النهي الذي اشتملت عليه الآية التي جئت تسألني عنها؟ . أجاب جابر في امتنان (1) وقد سر للفوائد التي جناها قائلا: - شكرا يا أبي لقد أثريتني هذه الليلة بالعظيم من الفوائد وإني إن شاء الله عاقد العزم على أن أبثها بين أصدقائي ما استطعت إلى ذلك سبيلا. - بارك الله فيك يا بني وأعانك على الخير دائما. - أستأذنك الآن يا والدي فقد حان موعد النوم. - اذهب يا بني على بركة الله، واحرص على الأذكار (2) التي تقولها قبل النوم. ومضى جابر إلى حجرته بعد أن ألقى السلام على والده.   (1) شكر واعتراف بما قدمه له والده من خير. (2) الأدعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 [ ويدرؤون بالحسنة السيئة ] 8 - عاد معاذ من المدرسة على غير عادته مكفهر (1) الوجه، مقطب الجبين، وقد فارقته بشاشته وابتسامته المعهودة التي كانت تلازمه حين كان يدخل المنزل، فهو اليوم منقبض الصدر، بادي الحزن، يمشي نحو حجرته بخطى مثقلة، لا يسأل والدته عما أعدته. من غداء كما هي عادته كل يوم عند عودته من المدرسة، حيث كان يسارع أول ما يسارع باتجاه المطبخ قبل أن يبدل ثيابه يتلذذ برائحة الطعام، ويدفعه الجوع إلى السؤال عن الأطباق التي أعدت للغداء. رأت والدة معاذ كل هذا منه فأنكرته في نفسها، ولكنها لم تشأ أن تزيد ابنها ضيقا على ضيق بسؤاله عما به وتركته يمضي إلى حال سبيله، وعزمت على ألا تسأله عن سر تغيره حتى ينهي غداءه. عاد والد معاذ من العمل واجتمع أفراد الأسرة على مائدة الغداء، فلاحظ الأب على ابنه ما لاحظته والدته من قبل ولكنه لم يفعل كما فعلت بترك سؤاله بل سأل ابنه بحنان أبوي وشفقة ظاهرة قائلا: ما بك يا بني؟ أنت اليوم على غير عادتك من المرح والبشر.   (1) منقبض كالح لا يرى فيه أثر بشر أو فرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رد معاذ قائلا، وهو يأمل في قرارة نفسه أن يصدقه والده: - لا شيء يا والدي، كل ما في الأمر أنني جائع فقط. أجاب الأب بدهشة غير مقتنع بما ذكره ابنه: - جائع يا بني؟ ! وهل الجائع يأكل لقمة ويفكر مليا ثم يتناول اللقمة الأخرى يعقبها بالتفكير ثانية؟ ! إن الجائع يا بني حين يرى الطعام يهش (1) ويبش لرؤيته إذا كان ما به هو الجوع فقط. وأصر معاذ على ما ذكره قائلا: - بل هو الجوع يا والدي، ولعلك تراني في المساء أفضل حالا من الآن. وهنا تدخلت الأم في الحديث موجهة كلماتها لزوجها قائلة: - دعه يا أبا معاذ، فلا شك أن ابنك لن يجد صديقا أفضل منك يحدثه ويستشيره إن ألم به أمر أو اعترضت طريقه مشكلة ما، والتفتت إلى ابنها معاذ متسائلة بكل شفقة ومؤكدة قولها: - أليس كذلك يا بني؟ سر معاذ لتدخل والدته على هذا النحو ورد قائلا: - نعم نعم، بلا شك يا أماه، فلقد تعودت أن أرمي بثقل همومي بين يدي والدي أبحث عنده عن النصح والمشورة، وكنت   (1) يبتسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أجد منه خير معين ومعلم وموجه لي في هذه الحياة. - بارك الله فيك يا بني لقد أرحتني بهذا القول. . هكذا رد والد معاذ وهو يعلم حق العلم أن ابنه يواجه مشكلة ما تعكر عليه صفوه وتشغل خاطره البريء، ولكنه صمت نزولا عند رغبة ابنه في عدم البوح بما ألم به، ذلك أنه لم يراوده القلق على ابنه فهو كما قالت زوجته خير صديق لابنه وخير أخ بلا شك، إن ابنه لن يخفي عنه شيئا من معاناته، ولعله الآن لثقل ما ينوء (1) به قلبه لا يود البوح فليصبر عليه قليلا وسيجيء بنفسه طالبا المشورة والعون والتوجيه، ولن يبخل عليه بشيء كما عوده. وفي المساء جلس الأب إلى أفراد أسرته وراحوا يتجاذبون أطراف الحديث في أمور شتى، وفجأة وجه معاذ حديثه إلى والده قائلا: يا أبي، لقد أخطأت اليوم في الإجابة على سؤال وجهه لي معلمي. . وصمت معاذ بعد أن ألقى كلماته هذه، فاستحثه والده على المضي في الحديث قائلا: حسنا يا بني وماذا بعد؟ رد معاذ وقد اكتسى وجهه بالحزن:   (1) من ناء أي: نهض بجهد ومشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لا شيء يا أبي، فقط أخطأت في الإجابة، وهذا كل ما في الأمر. - وهل عرفت بعد ذلك ما خطؤك يا بني؟ - نعم يا أبي، لقد قام المعلم بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه وفهمت جيدا ما ذكره لي. - الحمد لله يا بني فهذا شيء يبعث على الارتياح فليس عيبا أن تخطيء في تلقي العلم، بل العيب كل العيب أن تسكت على هذا الخطأ أو أن تخجل منه وألا تحاول معرفة الحقيقة، فالتماس الحقيقة والبحث عن المعرفة هي مسئولية كل مسلم واع يعرف لماذا وكيف يتعلم. . فلماذا أراك منزعجا مما حدث طالما أن الأمر مضى على خير حال؟ - ومن قال يا أبي إن الأمر مضى على خير حال، ثم إني غير منزعج من خطئي بل. . وتوقف معاذ عن الحديث وقد تهدج صوته. . سأله والده وقد بدا منزعجا: - ما بك يا بني. . قل ما الأمر. . لعلي أساعدك وأعالج معك الأمر إن كان هناك مشكلة ما. أجاب معاذ وقد استعاد شيئا من هدوئه: - حين خرجنا من المدرسة في نهاية اليوم أخذ أحد أصدقائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يتندر بخطئي بصوت عال ويهزأ بي ويتفوه بألفاظ تدل على السخرية مني مما أثار ضحك بعض الأصدقاء. فسأله والده وقد أحس بثقل ما يحمله ابنه: - وماذا فعلت أنْت يا بني حين رأيت ذلك منه؟ - لم أفعل شيئا يا أبي بل مضيت في طريقي إلى حال سبيلي. - أحسنت يا معاذ، فهذا ما كنت أتوقعه منك، فأنا أعلم أنك لا تأبه بمثل هذه الحماقات الصغيرة لأنك أكبر منها. رد معاذ وقد خالط صوته بعض الغضب: - لا يا أبي، لن أتركه بعد أن وجه لي هذه الإهانة، بل سأتحين الفرصة وأنتظر حتى يقع في الخطأ وأرد عليه بالمثل وأسخر منه كما سخر مني، وبذلك أكون قد انتقمت منه لنفسي. وهنا بادرت الأم قائلة وقد آلمها أشد الألم ذلك الشعور البغيض الذي راود ابنها: - لا يا بني، إن الانتقام فعل قبيح وتصرف مشين، وهو شأن الضعفاء المتخاذلين لا شأن الأقوياء القادرين. أجاب الأب قائلا وقد شاطَرَ (1) الأم شعورها بالألم تجاه ابنهما لما تركته الحادثة في نفسه من شعور: - نعم يا بني، ما تقوله والدتك حق، ما هكذا شأن المؤمنين   (1) قاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الأقوياء في تعاملهم، فعباد الله هم عباد مطمئنون لا تجيش صدورهم بغير المشاعر النبيلة، ولا تخفق قلوبهم بغير الحب والمودة، ولا يشحنون صدورهم بمشاعر الغل (1) والحقد، يبيتون وصدورهم نظيفة نقية طاهرة، يردون على السيئة بالحسنة بكل قوة وشموخ (2) طمعا في المثوبة، فانظر إلى قول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] (3) . وحين استمع معاذ إلى قول والده وما جاءت به الآية الكريمة سكن عنه الغضب وأحس بشيء من السكينة يغلف روحه ويسري بين جوانحه (4) بكل عذوبة على الرغم من أنه لم يفقه معنى قول الله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22] فبادر قائلا: - إني أحس يا أبي بالأمن لسماع هذه الكلمات وأشعر بالطمأنينة تنساب في فؤادي لما تحمله هذه الآية الكريمة، ولكن هل لك يا أبي أن توضح لي معنى ويدرؤون بالحسنة السيئة؟   (1) الغش والحقد. (2) من شمخ بأنفه أي: رفعه اعتزازا، وشموخ أي: اعتزاز. (3) سورة الرعد، الآية: 22. (4) الجوانح: الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر، سميت بذلك لانحنائها وميلها، يقال: بين جوانحي أي بين ضلوعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 رد الأب قائلا: قبل أن أجيبك يا معاذ على سؤالك دعني أسألك هل تعلم من هم هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة؟ رد معاذ: لا يا أبي فمن هم هؤلاء؟ - إنهم يا بني أولو الألباب، فقد ذكر الله تعالى قبل الآية السابقة ثلاث آيات تصفهم وتصف الخلق الذي هم عليه، وسأقرأ عليك الآيات الثلاث: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ - وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21] (1) أما معنى يدرؤون بالحسنة السيئة أي: يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية. . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شر النفوس وتقضي على الضغينة وتوجه هذه النفوس إلى الخير وتطفئ جذوة (2) الشر وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة أي: تدفعها في النهاية. فهل فهمت معنى ما سألت عنه؟ - نعم يا أبي. وهنا تابعت الأم حديث زوجها قائلة:   (1) سورة الرعد، الآيات: 19 - 21. (2) الجمرة الملتهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 - نعم يا أبا معاذ، ولكنني أود أن أشير إلى شيء مهم وهو أن مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في درء السيئة دفعها، فأما حين تحتاج السيئة إلى قمع أو تهذيب وتأديب ويحتاج الشر إلى الدفع فلا مكان لمقابلته بالحسنة لئلا يتجرأ صاحب الشر ويستعلي. وسأل معاذ والديه قائلا: وهل في درء سيئة صديقي بالحسنة ما يهذب نفسه ويطفئ الشر في داخله؟ - نعم يا بني، فدرء السيئة بالحسنة غالبا يكون في المعاملة الشخصية بين المتماثلين، فأما في دين الله فلا وألف لا. . إن المستعلي الغاشم (1) لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، وفهم التوجيهات القرآنية متوقّف على تدبر المواقف واستشارة الألباب والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب. وتابعت الأم قول زوجها: نعم يا بني، إن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة. . وإن الصبر والتسامح والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ومن الجماح إلى اللين مصداقا لقول الله   (1) الظالم أو الغاصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 جل وعلا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35] (1) . فهنا يا بني ينقلب الهياج إلى وداعة والغضب إلى سكينة. رد معاذ: نعم يا أمي، ولكن قد لا يستطيع المرء أحيانا أن يقابل السيئة بالحسنة لعدم قدرته على كبح (2) جماح (3) نفسه وسيطرة الغضب عليه. أجاب الأب مؤكدا صحة قول ابنه: أنا لا أنكر ذلك يا معاذ، ولكن هذه الدرجة من السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسامح، وإلى التوازن الذي يُعرف به متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنة، كل هذا درجة عظيمة لا يلَقَّاها كل إنسان فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل الله به على عباده الذين ينسون حيث يقول تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]   (1) سورة فصلت، الآيتان: 34، 35. (2) أي رد. (3) جمعها جماميح: المنهزمون من الحرب فلا يمكن ردهم، وهي هنا كناية عن قوة الغضب ومعنى كبح جماح نفسه أي: أخضعها وردها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 - إذا علي أن أقابل السيئة بالحسنة حتى أكون من هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية الكريمة. - ليس دائما يا بني تقابل السيئة بالحسنة، فالسماحة قاصرة فقط على حالات الإساءة الشخصية لا العدوان على العقيدة كما ذكرت أنفا وفتنة المؤمنين عنها، فالمطلوب هنا الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها. أجاب معاذ: سأحاول يا أبي أن أكون كما ذكرت. ردت أم معاذ: دائما تذكر يا بني أن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد قال «أنس - رضي الله عنه -: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردته جبذة شديدة، فنظرت إلى عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء» (1) . أجاب معاذ حين سمع قول والدته:   (1) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب اللباس، الجزء السابع ص 188، ومسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، الجزء الثالث ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يا لسمو هذا الخلق! أيسيء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسن إليه الرسول! ! أعقب والد معاذ قائلا: - نعم يا بني، فمن حسن خلقه أنه عفا عمن أساء إليه وزاد على العفو بالبشر والإحسان الذي بادر به الأعرابي. أعقب معاذ: - سيكون لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة. بارك الله فيك يا بني، ودائما استعذ بالله من الشيطان الرجيم حتى لا يستولي عليك الغضب الذي قد يلقي في روعك قلة الصبر على الإساءة أو ضيق الصدر عن السماحة، فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية تدفع محاولاته لاستغلال الغضب والنفاذ من ثغرته (1) وتذكر دائما قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] (2) . - ولكن دعنا يا أبا معاذ نتحدث عن ثواب من يدرأ السيئة بالحسنة. أجاب أبو معاذ قائلا: إن هذا الثواب ذكر في ختام الآية الكريمة التي افتتحنا بها   (1) الثغرة: الطريق السهلة. (2) سورة الأعراف، الآية: 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 حديثنا ألا وهو قول الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] فبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة صفات أولي الألباب (1) أوضح بعدها جزاء هؤلاء ألا وهو عقبى (2) الدار الذي أوضحته الآية التي جاءت بعدها حين قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24] (3) . ردت أم معاذ وقد استحسنت قول زوجها: نعم يا بني، جنات عدن للإقامة والقرار، وفي هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وهؤلاء يدخلون بصلاحهم واستحقاقهم ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم وتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان. وهنا تابع الأب شرح الآية قائلا: وفي هذا التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم في حركة رائحة غادية حيث يقول سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] فهل أدركت يا بني   (1) العقول. (2) آخر كل شيء وجزاء الأمر أو آخره. (3) سورة الرعد، الآيتان: 23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عظم ثواب هؤلاء الذين يدرؤون بالحسنة السيئة؟ - نعم يا أبي، كم هو ثواب عظيم وأجر كبير ذلك الذي يناله من يستطيع الصبر على دفع السيئة بالحسنة. - أحسنت يا معاذ، فماذا أنت فاعل غدا؟ سأحاول أن أحسن إلى هذا الصديق الذي سخر مني، وسأكون معه أحسن مما كنت سابقا ولن أشعره بأن إساءته قد آلمتني ولن أذكر له عنها شيئا. . فشكرا لكما يا والدي على هذا الحديث القيم (1) الذي خرجت منه بالكثير من الفوائد، وخرجت منه بسلامة الصدر ونقاء الروح بعد أن كنت مليئا بالغضب. وأستأذنكما الآن لقضاء بعض شؤوني الدراسية. رد الأب قائلا وقد سعد كما سعدت والدة معاذ بما تحقق لولدهما من سلامة الصدر من الغل والحقد: اذهب يا بني رافقتك عناية الله.   (1) أي: ذو قيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 [ أيحب أحدكم ] 9 - دخل الأب منزله مساء بعد عناء (1) يوم طويل من العمل الشاق، واتجه صوب حجرته حتى إذا مر بحجرة ولديه طارق وخالد تناهى إلى مسمعه صوت ضحكاتهما من الأعماق، ورغم شدة تعبه وحاجته الماسة إلى الراحة والاسترخاء إلا أن ضحكات ولديه أوقفته عن المسير ليدخل حجرتهما، وبعد أن ألقى عليهما تحية الإسلام رد طارق وخالد التحية لوالدهما بأحسن منها وهما يغالبان بقايا ابتسامة. بادر الأب ولديه قائلا: ما أسعدني يا أبنائي لسعادتكما، لقد شدني صوت ضحكاتكما ودفعني الفضول إلى معرفة سر هذه الضحكات الصادرة من الأعماق، رد طارق وقد عاودته ابتسامة: لقد ذكر لي يا والدي أخي خالد أمرا جعلني أستغرق في الضحك على النحو الذي سمعته. رد الأب وهو يجذب مقعدا للجلوس عليه: ألا أستطيع يا أحبائي معرفة هذا الشيء حتى أشارككما   (1) تعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سعادتكما؟ رد خالد بحماس وقد تشوق لإخبار والده: نعم نعم يا أبي بلا شك، ومضى قائلا: لقد رأيت اليوم يا أبي منظرا أضحكني كثيرا، فبينما أنا خارج من باب المدرسة بعد انتهاء اليوم المدرسي رأيت رجلا ذا أنف كبير يكاد يأخذ مساحة وجهه كلها وقد نظرت إليه ولم أمنع نفسي من الضحك، وكلما تذكرته عاودني الضحك ثانية وكأنني أراه لأول مرة. رد طارق: نعم يا أبي، ورغم أنني لم أر هذا الرجل الذي يتحدث عنه أخي، ولكن لشدة ما صوره لي بأسلوب ساخر ضحكت وكأنني أراه أمامي. . وتوقف طارق قليلا عن الحديث ثم سأل بدهشة: ما لي أراك يا والدي لا تشاركنا الضحك؟ سأل طارق والده هذا السؤال ولم يلحظ أن والده قد غالب امتعاضا بدا على قسمات (1) وجهه، ولكن لم يلحظه ولداه، لانشغالهما بالحديث عن ذلك الأنف وصاحبه، فكان جواب الأب على سؤال ابنه أن طلب منهما بصوت غاضب التزام الصمت والكف عن الحديث الذي تقززت نفسه منه.   (1) محاسن الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 عجب خالد وطارق لردة فعل والدهما التي لم يتوقعاها في هذا الجو البهيج كما كانا يظنان. واستمر الأب ينظر إليهما بحزم، ثم نظر إلى ابنه خالد وتوجه بحديثه إليه قائلا: ألا تعرف يا بني أنك أخطأت بحديثك عن الرجل بتلك الطريقة؟ . عجب خالد من قول والده وسأل والده: ولماذا يا أبي؟ أنا لم أقل غير ما رأيته فيه من عيب، فهل كنت مخطئا فيما قلته؟ رد الأب قائلا: نعم يا بني، حتى إن كان فيه ذلك العيب الذي تقول فلا يحق لك أن تتناول هذا العيب بالتعريض والسخرية أو حتى الحديث عنه. سأل طارق والده وقد بدا عليه الجد والحزم: ولماذا يا أبي؟ ! أجاب والده: لأن ما ذكره خالد لك يا طارق يدخل تحت باب الغيبة التي نهانا الله عنها نهيا صريحا في محكم تنزيله، ولا شك أنكما تحفظان الآية الكريمة التي تنص على تحريم الغيبة. فمن يذكرها لي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 رد خالد: نعم يا أبي، إني أحفظها، ومضى يتلو بعد أن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] (1) . رد الأب وقد فارقه بعض غضبه: أحسنت يا بني، ولكنك تحفظ قول الله تعالى ولا تعمل به، أنت تقيم حروفه وتنسى حدوده، فكيف ذلك يا خالد؟ ! . أجاب خالد وقد خجل من نفسه حين سمع تأنيب (2) والده: أعلم يا أبي أن الغيبة محرمة ولكني لم أكن أعلم أن ما ذكرته عن ذلك الرجل يدخل ضمن حدود الغيبة. رد الأب قائلا موجها حديثه لولديه: لعلكما لاحظتما يا أبنائي أن الآية الكريمة قد بدأت بالنداء الحبيب الذي يستجيش القلوب، وهو نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب، واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم له ويسلم ويستسلم، فهل أدركتما هذا النداء في أول الآية يا أبنائي؟   (1) سورة الحجرات، الآية: 12. (2) الملامة بعنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 رد طارق وقد جذبه حديث والده: - نعم يا أبي، وبالإضافة إلى ذلك النداء الحبيب فإن الآية صورت الغيبة بصورة تشمئز منها النفوس وهي صورة الأخ يأكل لحم أخيه ميتا، ثم بينت الآية أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز. أردف والده قائلا بتعجب: أحسنت يا بني، ولكنك اشتركت مع أخيك في الإثم الذي وقع فيه حين استمعت إليه وشاطرته (1) الضحك. رد طارق وقد أحس بالخجل الشديد: لم أكن أعلم أن حديث أخي إثما وإلا لما كنت أصغيت إليه. سأل خالد وقد علم مقدار ما اقترفه من ذنب: ومتى يكون الكلام عن الناس يا أبي غيبة؟ رد الأب وقد أظهر استحسانه لسؤال فتاه: يا بني، لقد سألت سؤالا جيدا، ولعل إجابته تبدأ بتعريف الغيبة انطلاقا من قول المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم فيما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن   (1) قاسمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فيه فقد بهته» (1) . وتابع الأب قائلا: فإذا يا بني ذكرك لهذا الرجل على تلك الصورة كان غيبة، بدليل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. أجاب خالد: الله يا والدي ما أروع التصوير القرآني! وما أدق تعبيره في تلك الآية الكريمة! وما أشمل ما جاء به القرآن والسنة من آداب تحفظ كرامة الإنسان! . وهنا سأل طارق والده: وهل الحديث عن الناس بما فيهم في كل الأحوال يسمى غيبة؟ رد الأب وكأنه كان ينتظر من أبنائه هذا السؤال: لا يا بني، فأحيانا تباح الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها. وسأل طارق والده ثانية: وكيف ذلك يا أبي؟ أجاب الأب وقد اعتدل في جلسته: اعلموا يا أبنائي أن الغيبة تباح في حال التظلم، كأن يرفع مظلوم ظلامته إلى ولي الأمر أو القاضي ليستوفي له حقه؛ إذ لا   (1) رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب، الجزء الثاني ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 يمكنه استيفاء حقه إلا بنسبته إلى الظلم. أجاب خالد: ما أحلى سماحة الإسلام! وما أروع رفقه بالمظلومين! . أجاب الأب متابعا ما بدأه: وليس هذا فقط يا أبنائي، بل إن الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب من الأحوال التي تباح فيها الغيبة أيضا. سأل طارق: وكيف يكون ذلك يا والدي. أجاب الأب: كأن يقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره (1) عنه ونحو ذلك. . فيكون مقصوده في التوصل إلى إزالة المنكر، أي أنه لا يبغي بذلك سوى وجه الله تعالى. وأردف خالد: وهل هناك أحوال أخرى يا أبي تباح فيها الغيبة؟ أجاب الأب: نعم يا بني، وكنت سأذكرها حتى ولو لم تسأل عنها، فهناك الاستفتاء كأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي فكيف أحصل حقي منه ونحو ذلك. . ويمكنه ألا يصرح بالشخص الذي ظلمه بل يعرض به.   (1) الزجر: المنع والنهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 سأل خالد: وما معنى يعرض به؟ أجاب الأب: التعريض كأن يقول ما تقول في رجل أو شخص كان من أمره كذا وكذا وكذا، فإذا لم يفد التعريض يلجأ إلى التصريح، وكلاهما جائز. سأل طارق متلهفا إلى معرفة المزيد في هذا الموضوع: وماذا بعد يا أبي؟ أجاب الأب: بقي ثلاثة أحوال أوجزها لكم يا أبنائي فيما يلي: تحذير المسلم من الشر، كالمشاورة في مصاهرة للمستشير لا على قصد الوقيعة (1) أو التفريق بين الناس، أما الأمر الثاني الذي تباح فيه الغيبة فهو التعريف إذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمى والأصم والأعرج جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاق هذا التعريف على وجه التنقيص من الشخص المعرف، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى، وتابع الأب حديثه: أيضا من الأمور التي لا تعتبر غيبة أن يكون الشخص مجاهرا بالفسق متظاهرا به ولا يكره أن يذكر به فلا غيبة له بما يتظاهر به. . والآن يا أبنائي ما رأيكما فيما عملتما وفيما سمعتما؟ أجاب خالد:   (1) الإفساد بين الناس أو اغتيابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بعد هذا الذي سمعته منك يا والدي لن أذكر إنسانا بسوء، ولن أتحدث عن أحد بعيب كان فيه، وغفر الله لي ما كان مني وإني عازم على التوبة. أجاب الأب: أحسنت يا خالد، أما أنت يا طارق فلو سمعت أحدا يغتاب أحدا فعليك بعدم مشاركته في الاستماع إلى حديثه وتنبيهه إلى الإثم الذي وقع فيه ونهيه عن المنكر. رد طارق: إن شاء الله يا أبي، وسآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ما استطعت إلى ذلك سبيلا. رد الأب وهو يتأهب (1) للذهاب وقد بدا عليه التعب: والآن يا أبنائي استأذنكم في الراحة بعض الوقت، فلولا عظم ما سمعت من حديثكم ما استطعت التحامل (2) على نفسي والجلوس معكم. رد خالد وطارق بصوت واحد: تفضل يا والدي، وجزاك الله عنا خير الجزاء. السلام عليكم.   (1) يستعد ويتهيأ. (2) تكلف الشيء على مشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 هكذا ودع الأب ولديه وهو مطمئن في قرارة نفسه إلى أن ولديه لن يعاودا هذا السلوك المشين ثانية، فقد كان التأثر باديا جليا (1) على وجهيهما البريئين.   (1) واضحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [ السحاب الثقال ] 10 - محمد فتى يافع غض (1) الإهاب (2) نشأ في كنف (3) أب وعى مسئولية التربية فأحسن غرسه وتعهده بالسهر والعناية وهذب خلقه ونشأه على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكان محمد كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. استيقظ محمد من نومه في يوم من أيام الشتاء القارس على صوت المطر المنهمر في الخارج، فكان أول ما تفوه به لسانه هو دعاء الاستيقاظ الذي سمعه من والده واعتاد أن يلهج قلبه ولسانه به قبل مغادرة الفراش: " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور (4) " (5) . نظر محمد إلى الساعة بجواره، فإذا بوقت صلاة الفجر قد أزف (6) فتوضأ وتهيأ للصلاة وأيقظ والديه ليجتمعوا على تلاوة القرآن قبل الذهاب إلى المسجد.   (1) طري. (2) الجلد. وغض الإهاب كناية عن صغر سنه. (3) الكنف أي الجانب أو الظل، وكنف الإنسان أي حضنه أو العضدان والصدر، يقال: أنت في كنف الله أي في حرزه ورحمته. (4) يوم القيامة. (5) رواه البخاري. (6) اقترب: نقول: أزفت الساعة أي دنت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 هدأ المطر في الخارج إلا بضع قطرات هنا وهناك ظلت تداعب الأرض وتستثير هدوءها، خرج محمد برفقة والده إلى الصلاة سيرا على الأقدام، واتخذ كل منهما مظلة صغيرة تقيه البلل، ورأى محمد والده وهو يرجع البصر إلى السماء متأملا صفاء مجالها هامسا وقد استغرق في النظر إليها " سبحانك اللهم "، ثم رآه يخفض بصره إلى الأرض خاشعا متمتما " الحمد لله "، فسأل محمد والده عن سر هذه اللحظات التي تأمل وسبح وحمد الله فيها، فسعد الأب بسؤال فتاه ووجدها فرصة سانحة يقوي فيها من صلة ابنه بخالقه حين يستشعر وجوده في كل آية من آياته الدالة عليه فيدرك عظمته المتجلية في كل الظواهر الكونية التي نراها ولا نتفكر فيها، فسأل الأب ابنه على الفور: - أتراك تعرف أي نعمة تنزل مع هذا الماء المنهمر من السماء؟ - نعم يا أبي، إني لأعرف ذلك ولأجد إجابته فيما حفظته من كتاب الله، حيث ذكر الله تعالى هذا الدور العظيم والنعمة الجليلة في سورة البقرة؛ إذ يقول سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] (1) .   (1) سورة البقرة، الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أجاب الأب وقد انبسطت أساريره من هذا الرد الذي سمعه: - نعم يا بني، هذا دور من أدوار الماء ووظائفه الذي هو نعمة من نعم الله التي لا تحصى على عباده، غير أن هناك وظائف أخرى ونعما جليلة (1) للماء الذي ينزل من السماء، ذكرها الله في كتابه العزيز، منها أن هذا الماء قد جعله الله عذبا زلالا يسوغ لنا شرابه ولم يجعله ملحا أجاجا (2) تعافه (3) النفوس، كما أن هذا الماء ينبت المراعي التي تربى فيها السوائم، وهي الإبل السائمة، ثم إن هذا الماء رغم أنه ماء واحد يخرج لنا من الأرض ثمرات مختلفا ألوانها وأصنافها وطعومها وروائحها، والدليل على ما ذكرت لك هو قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ - يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 - 11] (4) .   (1) عظيمة ومهمة. (2) مالحا مرا. (3) تكرهه. (4) سورة النحل، الآيتان: 10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 - أرأيت يا بني ما الذي يدعونا الله إليه في آخر الآية، إنه يدعونا للتفكر في خلقه وآلائه وأنها دلالة وحجة قوية على أنه لا إله غيره ولا معبود سواه، وأنه القادر على كل شيء فسبحان الله. - ما أجمل ما ذكرت يا أبي! وما أروع تدبير الخالق وما أبدع صنعه! . - وهناك فوائد كثيرة للماء قد لا يسعفني الوقت لذكرها لك، ولكني سأخبرك بدور خفي ونعمة قد لا يدركها الكثيرون، وهي كيف أن هذا الماء جعل الأرض صالحة للإنبات، فدور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور تعلمه أنت كما يعلمه الجميع، وللماء أثر خفي أبعد من ذلك. وهنا سأل محمد والده: وما هذا الأثر يا أبي؟ أجاب الأب قائلا: إن سطح الأرض - كما ذكرت نظريات العلماء المتخصصين - كان في فترة ملتهبا ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع، ومن ثم لم تكن توجد فيه حياة، وبتعاقب العصور وبفعل الماء والعوامل الجوية - بتقدير الله - تم تحويل هذا السطح الصلب إلى تربة لينة صالحة للزراعة، واستمر دور الماء في الحفاظ على خصوبة التربة، وذلك بتزويد الأرض بالنيتروجين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 - وما مصدر هذا النيتروجين يا أبي؟ - يقوم البرق - وهو شرارة كهربائية - باستخلاصه من الهواء الجوي حيث يذوب في مياه الأمطار ويسقط معها إلى الأرض ليعيد الخصوبة إليها، وهذا النيتروجين هو السماد الذي قلد الإنسان صنعه لما له من أهمية في الحياة النباتية. سعد محمد بالمعرفة التي استزادها من والده وقال: - إذا هذا هو دور البرق ووظيفته التي لم أسأل نفسي عنها قبل الآن. ولكن ما علاقة سقوط المطر بالبرق؟ رد الأب قائلا: - استمع إلى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] (1) . انظر إلى هذه الآية وإلى هذه الظاهرة الكونية التي تشير إليها، إنه البرق الذي تخافه الناس وتطمع فيه فقد يكون نذيرا بسيل مدمر، ولكن مع هذا الخوف هناك طمع في الخير من وراء هذا البرق، فقد يعقبه المطر المدرار الذي يحيي الأرض بعد موتها ويجري الأنهار، وانظر يا بني إلى بديع قوله: {السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] أي مثقلة بالماء، فظاهرة البرق ناشئة من النظام الكوني الذي أبدعته يد   (1) سورة الرعد، الآية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الخالق ويعللها العلماء بأنها تنشأ كما ذكرت لك سابقا من انتقال شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا، وينشأ عن هذا الانتقال دوي هائل هو الرعد. - ولكننا نرى البرق أولا ثم نسمع الرعد بالرغم من أنهما يحدثان في نفس اللحظة كما أشرت يا والدي فما السبب؟ - هذا لأن الضوء أسرع من الصوت لذلك نرى البرق ثم نسمع الرعد. وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن نعمة المطر والسحاب المسخر بين السماء والأرض، انظر إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] (1) . - هل لك أن تفسر لي هذه الآية الكريمة يا أبي؟ - توضح لنا هذه الآية أن الله هو الذي يسير السحب ويزجيها أي: يسوقها من مكان إلى مكان، ثم يؤلف بين هذه السحب ويجمعها فتتراكم فوق بعضها البعض ثم يهطل المطر بعد هذا التراكم، والودق المشار إليه في الآية الكريمة هو المطر.   (1) سورة النور، الآية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 - ولكن لماذا ذُكِرَت الجبال هنا؟ - ذكر الجبال هنا كناية عن السحب المثقلة بالماء وكأنها جبال ضخمة كثيفة فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة. وهنا وصل محمد ووالده إلى المسجد فشكر محمد والده على هذه الفوائد العظيمة، ودخل محمد المسجد بقدمه اليمنى وهو يردد دعاء دخول المسجد كما علمه والده حيث سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا " اللهم افتح لي أبواب رحمتك "، واتجه مع والده حيث الصف الأول من المصلين لما يعلمان من فضل الصف الأول، وأديا تحية المسجد، ثم شرعا في أداء صلاة الفجر جماعة خلف الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [ واخفض جناحك ] 11 - قرع جرس الباب فهرعت (1) حفصة لترى من الطارق، وإذا بجارتهم أم حسان قد جاءت لزيارتهم وقد اصطحبت معها ابنتها ميمونة، فرحبت بهما على مضض (2) وقادتهما إلى حيث حجرة الضيوف، وأسرعت تنادي والدتها، ثم اتجهت إلى حجرتها وأغلقت عليها بابها ولم تكلف نفسها عناء مجالسة ميمونة ابنة جارتهم أو حتى دعوتها للجلوس معها في حجرتها بل بقيت قابعة (3) هناك حتى خرجت جارتهم وابنتها عائدتين إلى منزلهما. لم يرق (4) لأم حفصة ما فعلته ابنتها مع الزائرتين وشق عليها امتعاض (5) والدة ميمونة من هذا التصرف، ولم تشأ الأم أن تسأل ابنتها أول مرة عن سر عدم رغبتها في مخالطة تلك الفتاة ظنا منها أن هذا أمر طارئ، ولكن حين تكرر سلوك ابنتها وحين رأت استياء (6) جارتهم طرحت الصمت جانبا وقررت أن تعرف الباعث على هذا   (1) أسرعت. (2) كرها ورغما. (3) منزوية. (4) لم يعجبها. (5) امتعاضا (معض) من الأمر أي: غضب منه. (6) عدم الرضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 التصرف، فحين انصرفت الزائرتان نادت الأم ابنتها بصوت يشوبه (1) الغضب والضيق، فأتت حفصة على عجل وقد دهشت لغضب والدتها دون سبب وبادرت أمها قائلة: - خيرا يا أماه ما لي أراك غاضبة؟ أجابت الأم وقد حاولت التخفيف من ثورة غضبها قائلة: - ألا تدرين يا حفصة ما فعلت حتى أغضبتيني؟ ردت حفصة قائلة وقد عجبت لقول والدتها: - أنا لم أفعل شيئا يا أماه. أجابت والدتها: أخبريني لماذا لا ترغبين في مجالسة ابنة جيراننا ميمونة حين تأتي لزيارتنا مع والدتها، فهي فتاة لطيفة مؤدبة حسنة الحديث، فما الذي يجعلك تنفرين من صحبتها؟ ردت حفصة قائلة: - إني أعرفها يا أماه وأنت تعرفين أنها معي في المدرسة، بل وفي نفس الفصل، وأنا أرى أنها فتاة مملة وغير ذكية وينقصها الكثير من الصفات حتى تكون مثلي، فكيف أجالس من هي أقل مني حظا في كل شيء فأنا أبزُّها (2) كثيرا فكيف أرتضي صحبتها؟ !   (1) يخالطه. (2) من بز أي: غلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أجابت الأم وقد أحزنها ما قالته ابنتها: - لا يا ابنتي، إن تربيتي لك لم تكن على هذا الخلق ولم أرض يوما أن توصفي بالكبر (1) والتعالي. سألت حفصة مندهشة: - وهل أكون متكبرة ومتعالية حين أرفض صحبة من هم أقل مني منزلة؟ ! - نعم يا ابنتي، وإن في تصرفك وتبريرك لهذا التصرف ما يدل على كبر في النفس وتفاخر لا يحبه الله ورسوله الكريم. ثم أخبريني كيف عرفت بأنها أقل منك منزلة؟ أجابت حفصة: - إنني أعرف أنها من عائلة فقيرة، ثم كما قلت لك هي غير ذكية كما أن حظها من الجمال قليل. - يا ابنتي، تلك أمور دنيوية لا تفاضل فيها، فالتفاضل الحقيقي بالتقوى، فالله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (2) ثم كيف عرفت بأنها أقل منك منزلة! ! ليس لك أن تزكي نفسك ولا أن تصفيها بما تحبين من الصفات الحميدة، فقد نهانا الله عز وجل أن نزكي أنفسنا حين قال في محكم تنزيله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] (3) .   (1) التكبر. (2) سورة الحجرات، الآية: 13. (3) سورة النجم، الآية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تساءلت حفصة قائلة: - ما معنى ما تقولين يا أماه؟ أجابت والدتها قائلة: - أي لا يذكر المرء حسناته ويعدها فالله يعلم من الذي يتقيه. أجابت حفصة: - حسنا يا أماه، وإذا كنت أكره مخالطتها فهل هذا كبر مني؟ أجابت الأم: - نعم يا ابنتي؛ لأنك تبتعدين عنها وأنت ترين نفسك في منزلة أعلى من منزلتها، فهذا ينافي صفة التواضع التي حث الله عز وجل رسوله عليها ورغب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الصفة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ (1) لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] (2) وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عامة. سألت حفصة قائلة وقد شد انتباهها ما تقول والدتها: - ما معنى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشعراء: 215] ؟ أجابت الأم قائلة وقد سرت لسؤال ابنتها: - لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتواضع واللين والرفق وصور هذه   (1) ألن جانبك وتواضع. (2) سورة الشعراء، الآية: 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الصفات في كتابه العزيز بصورة حسية مجسمة هي صورة خفض الجناح أي: كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك مع المؤمنين طوال حياته، وكيف لا وقد كان خلقه القرآن، وكان هو الترجمة الحية الصادقة الكاملة للقرآن الكريم. سألت حفصة قائلة: - هل يعني هذا أن الأمر في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؟ - نعم يا ابنتي، إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في كل أمور حياتنا وحين يأمره الله بأمر وينهاه عن أمر ففي هذا أمر ونهي للمؤمنين جميعا. سألت حفصة قائلة وقد اعتدلت في جلستها وبدا الاهتمام عليها أكثر فأكثر. - وهل هناك آيات أخرى تدل على وجوب التواضع يا أماه؟ أجابت الأم قائلة: - نعم يا ابنتي، ففي آية أخرى يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ (1) وَيُحِبُّونَهُ (2) أَذِلَّةٍ (3) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ (4) عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]   (1) يهديهم ويثيبهم. (2) يطيعونه. (3) عاطفين متواضعين. (4) أقوياء متغلبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 (1) وتابعت الأم حديثها قائلة: - انظري يا ابنتي وتأملي في قول الله تعالى. سألت حفصة والدتها قائلة: - كيف يكونون أذلة وأعزة في نفس الوقت يا أماه؟ ردت الأم قائلة: - إن الله في هذه الآية الكريمة يهدد من يرتد عن دينه، فإنه ليس عند الله بشيء وليس بمعجز ولا ضار بدينه، وإن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الغيب إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء ويصور ملامح هذه الجماعة المختارة المدخرة في علم الله لنصرة دينه وهي ملامح جميلة ومحببة. - وما هذه الملامح يا أماه؟ - إن أول هذه الملامح المشرقة الجذابة الحبيبة للقلوب هي الحب والرضا المتبادل بينهم وبين ربهم، الحب هذا الروح الساري اللطيف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القلوب بربهم الودود. سألت حفصة والدتها قائلة وهي متشوقة لمعرفة المزيد:   (1) سورة المائدة، الآية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 - وكيف يكون الحب بين الله وعباده المؤمنين؟ - إن حب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من عرف من هو صانع هذا الكون الهائل وعرف الله سبحانه وتعالى بصفاته كما وصف نفسه، وخالق الإنسان الذي يعرف أنه الله الجليل العظيم الحي الدائم الأول والآخر والظاهر والباطن. ردت حفصة قائلة وقد استشعرت روحها حلاوة ما ذكرته والدتها من قول: - الله يا أماه، ما أعظم هذا الحب! ! . أجابت الأم قائلة: - نعم يا ابنتي، إن حب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا (1) فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي لا نظير (2) له هو إنعام هائل عظيم، فانظري إلى قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (3) وغيرها الكثير من الآيات، ولكن علينا أن ندرك يا ابنتي أنها   (1) عظيما. (2) النظير: المثيل المساوي. (3) سورة آل عمران، الآية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 علاقة ود وحب كما أنها علاقة تنزيه (1) . - إذا أفهم من كل ما قلته سابقا وجوب التواضع، وأن الحب بين من ذكرتهم في الآية وبين ربهم هو أول الملامح التي يتصفون بها. أجابت الأم قائلة وهي تربت على كتف ابنتها: - أحسنت يا حفصة، أما الملامح الأخرى فهي صفة الذل، وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين وهذا الذل للمؤمنين، فالمؤمن لأخيه المؤمن غير عصي عليه ولا صعب بل هو هين لي مستجيب سمح ودود، وهذا معنى الذلة للمؤمنين. أجابت حفصة: - إذا فهي ذلة مع المؤمنين فقط. ردت الأم قائلة: - نعم يا حفصة، إنه التواضع الواجب المحمود الذي يقصد به وجه الله تعالى. . ومن كان كذلك أعلى الله قدره وطيب ذكره، أما التواضع لأهل الظلم فذلك الذل الذي لا عز فيه. ردت حفصة متسائلة: - وما معنى أعزة على الكافرين؟ أجابت والدتها قائلة:   (1) تعظيم وتقديس لله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 - أي أن فيهم إباء واستعلاء على الكافرين ولكنها ليست العزة للذات ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة والاستعلاء لراية الإسلام التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين. . إنها الثقة بغلبة دين الله على الأهواء، وبغلبة قوة الله على كل القوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك في أثناء الطريق الطويل. - إذا يا أماه علينا أن نكون متواضعين مع المؤمنين مستعلين على الكافرين؟ . - أحسنت يا ابنتي، ولعلك فهمت معنى الاستعلاء على الكافرين والتواضع للمؤمنين، وفي سيرة رسولنا العطرة ما يجعله خير قدوة لنا. - هل لك يا أماه أن تخبريني عن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أجابت الأم قائلة: - اسمعي يا ابنتي، فلقد قال رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل علَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتى بكرسي فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (1) .   (1) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة، الجزء الثالث ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والآن بعد أن سمعت الحديث يا ابنتي هل تستطيعين أن تذكري لي شيئا مما يفيده الحديث بعد كل ما دار بيننا آنفا (1) . أجابت حفصة قائلة بحماس ظاهر: - نعم يا أماه، فالحديث يفيد كمال تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وكمال شفقته عليهم وخفض جناحه لهم، كما يفيد الحديث حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعليم الناس أمور دينهم. أجابت الأم بسرور قائلة: - أحسنت يا ابنتي، كما أن هناك فائدة لا تقل أهمية وقيمة عصا ذكرت ألا وهي المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها، أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الغريب اعتبر من الخطبة فلم يقطعها، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجبت إجابته وتعليمه على الفور. أجابت حفصة قائلة: - الله يا أماه! لم أعلم أن التواضع صفة مهمة من صفات المؤمنين، ولم أكن أعلم أن الله حث على هذه الصفة وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. أجابت الأم قائلة: - آخر ما أقوله لك يا ابنتي في هذا الموضوع هو حديث   (1) سابقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «ما نقصت (1) صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (2) فالتواضع يا ابنتي يزيد الإنسان رفعة عند الله وعند الناس. - كم أنا شاكرة لك يا أماه أن أنرت بصيرتي بهذا القول، وإن شاء الله ستجدينني من الغد كما تحبين، وسأحاول جاهدة أن أكون كما ذكرت ولن أسيء ثانية لميمونة أو غيرها بالكبر أو التعالي وغيرهما من الصفات المذمومة.   (1) أي ما قللت منه وأذهبت. (2) رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [ والجار الجنب ] 12 - كانت أم أنس امرأة تقية صالحة جعلت من بيتها هي وزوجها جنة وارفة (1) الظلال يفيئون (2) إليها حين يشتد الهجير (3) . . وكان عماد هذه الجنة هو: طاعة الله، ومعرفة حدوده والوقوف عندها، واتباع هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل على التمسك بسنته. وقد اتفقا منذ بداية حياتهما على أن يعين كل منهما الآخر في هذا الطريق، وألا يرى أحدهما اعوجاجا من قرينه (4) إلا وقوَّمه بالموعظة الحسنة والقول اللين ابتغاء وجه الله، كما أخذا عهدا على نفسيهما بتنشئة أبنائهما على حب الله ورسوله، وأن يزرعا فيهم بذرة الخير منذ الصغر، وأن يهيئا لهذه البذرة التربة الخصبة تسقى بالحب والود والرحمة، مقترنة بالتوجيه السليم حتى إذا كبروا كانت هذه البذرة شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. اجتمع شمل الأسرة في جو بهيج فهذا أنس يروي لهم في   (1) نضرة شديدة الخضرة. (2) يرجعون. (3) الهاجرة: أي نصف النهار في القيظ أو شدة الحر. (4) زوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 انشراح ما حدث معه اليوم في المدرسة، وتلك أخته سلمى تتابع حديثه بتعليقات بريئة ضاحكة، أما خالد فقد أخذ ينصت إلى حديثهما متتبعا كل ما يقولانه بحس متوقد وقلب ذكي، فقد كان يبدو الاهتمام في عينيه بكل ما يقولانه فهما يكبرانه سنا ولديهما بعض الخبرات البسيطة التي لم تتوفر له، ثم هو لم يزل بعد في السنة الأولى من دراسته في حين أن أنس وسلمى قد تخطياه بمراحل كثيرة، وهو الآن في طور التعلم منهما والتزود من معارفهما. . أما زيد فقد أخذ مقعده دون أن ينم مظهره عن شيء. دق جرس الباب وأسرع خالد ليرى من الطارق، وعاد وهو يحمل إناء به بعض الطعام وقدمه إلى والدته وهو يقول: - انظري يا أماه لقد أحضره حذيفة ابن جيراننا. ردت الأم قائلة وقد أظهرت سرورها بما أهدتها إياه جارتها: - بارك الله فيهم، اذهب يا بني وضعه في الثلاجة. نظرت سلمى نظرة عاجلة إلى ما يحمله الإناء وقطبت حاجبيها وهي تقول: - ما هذا يا أماه، إن كمية هذا الطعام لا تكاد تكفي لشخص واحد، وتابعت بشيء من التأفّف (1) .   (1) تأفَّف أي: قال (أف) من الضجر والضيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 - إن هؤلاء الجيران لا يكفون عن مثل هذه الأمور التي تثير السخط، فتارة يبعثون لنا بشيء لا قيمة له وأخرى بطعام قليل و. . . ولم تكمل حديثها إذ قاطعها والدها بهدوء وحزم قائلا: - اصمتي يا سلمى، وأنت يا خالد اذهب بالإناء إلى المطبخ وضعه في الثلاجة كما أمرتك والدتك وعد هنا على عجل. . هيا. . عاد خالد وأخذ مكانه وبدأ الأب حديثه وهو ينظر إلى ابنته سلمى قائلا بشيء من التأنيب (1) . - تعلمون يا أبنائي كيف هي الطريقة التي ربيتكم عليها والنهج الذي ارتضيته نبراسا (2) لكم. . وتعلمون كيف كنت رفيقًا بكم غير زاجر ولا معنف، وإنما كنت آخذكم بالموعظة (3) الحسنة، ولم أكن فظا (4) غليظ القلب معكم، وما قصرت في أمر من أموركم، وزرعت فيكم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الناس والتودد إليهم، والآن أخبروني هل كان لأختكم سلمى الحق فيما قالته؟ أجاب أنس قائلا:   (1) الملامة بعنف. (2) مصباحا، ويقال: اتخذ منه نبراسا أي: اتخذه قدوة ومثالا. (3) من الوعظ أي: الإرشاد والنصح. (4) غليظا سيئ الخلق خشن الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 - لم يكن يا والدي في حديث سلمى أي شيء يبعث على الغضب، فهي رأت أن الطعام كان قليلا وقالت ما رأته وهو كذلك، فما الذي أغضبك من قولها يا والدي؟ أجاب الأب بصوت أشد حزما مما بدأ به قائلا: - وأنت أيضا يا أنس لا ترى بأسا فيما قالته أختك! ! . . وتابع قائلا موجها حديثه لجميع أبنائه: - إن هذا الطعام هدية من جيراننا لا بد من شكرهم عليها وما كان ينبغي لنا أن نقلل من شأن هذه الهدية أو أن نسخر منها، وإلا لكان في هذا استهانة بحقوق الجار ولذلك فإن استخفاف (1) أختكم سلمى بهدية جيراننا هو نوع من التقصير في حق الجوار. والتقطت أم أنس دفة الحديث وتابعت حديث زوجها قائلة: - يا أبنائي، إن للجار علينا حقوقا كثيرة، ومن هذه الحقوق كما ذكر والدكم عدم التقليل من شأنه أو من شأن ما يقدمه لنا، بل نشكر حرصه على تبادل الهدية معنا مهما صغرت هذه الهدية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» (2) . وهنا تساءلت سلمى قائلة وقد اعتراها الخجل مما   (1) استهانة. (2) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه أول كتاب الهبة، ص 201، الجزء الثالث من كتاب الأدب، الجزء الثامن ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فعلت: - وما معنى الحديث يا أماه؟ فأجابت الأم قائلة: - إن ما يفيده هذا الحديث يا ابنتي هو استحباب تبادل الهدايا بين الجيران مهما قلت ولو فرسنا، والفرسن هو عظم فيه قليل من اللحم. وبعد أن سمعت سلمى من والدتها هذا القول اعتذرت عما تفوهت (1) به معللة ما قالته بأنها كانت تجهل أن مثل هذا القول يمس ويخل بحقوق الجار وتابعت حديثها قائلة: - لم أقصد الإساءة أو السخرية يا والدي، ولم أعلم أن قولي فيه استخفاف بحقوق الجار، فأنا أعلم حق الجار في نواح أخرى كأن: نحسن إليه، ونتودد له، ونكرمه، وندفع عنه الضر، ونعوده (2) عند المرض، ونهنئه عند المسرة ونعزيه (3) عند المصيبة، وإني لأحفظ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مازال جبريل يوصيني بالجار   (1) نطقت. (2) نزوره. (3) نواسيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 حتى ظننت أنه سيورثه» (1) " (2) . أجاب الأب قائلا وقد فارقه غضبه بعد أن سمع من ابنته ما ذكرته: - أحسنت يا ابنتي، وإني لأغفر لك جهلك وأذكرك بقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (3) وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى (4) وَالْجَارِ الْجُنُبِ (5) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (6) وَابْنِ السَّبِيلِ (7) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (8) إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (9) . - والآن من يخبرنا بماذا بدأت الآية؟   (1) أي ترقبت أن يأتيني بجعل الجوار سببا للإرث. (2) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه، الجزء الثامن ص 12، ومسلم في صحيحه، الجزء الثامن ص 36. (3) برا وتكريما بالقول والفعل. (4) الجار الملاصق في المسكن. (5) البعيد مسكنه. (6) الرفيق الصالح في حضر أو سفر. (7) المسافر الذي انقطع عن بلده وأهله وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به. (8) المملوكون من الإماء والعبيد. (9) سورة النساء، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أجاب أنس قائلا: - لقد بدأت بذكر الإحسان إلى الوالدين. ردت الأم قائلة: - لقد أوصى الله جل وعلا في الآية الكريمة بالإحسان إلى الوالدين، وكثيرا ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، ثم قال تعالى " اليتامى " وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم وينفق عليهم، فأمر بالإحسان إليهم والحنو عليهم، ثم قال تعالى " والمساكين " وهم من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم، أما قوله تعالى " والجار ذي القربى والجار الجُنُب " فالجار ذي القربى أي: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجُنُب أي: الذي ليس بينك وبينهم قرابة، وقيل: الجار ذي القربى أي المسلم، والجار الجنب يعني اليهودي والنصراني، وقيل: إن الجار الجنب هو الرفيق في السفر، أما الصاحب بالجنب فقيل: هو الضيف أو الرفيق في السفر أو الجليس في الحضر، وهنا سأل خالد: وما معنى ما ملكت أيمانكم؟ أجابت أم أنس قائلة: هم المملوكون من العبيد والإماء، فرغم أنهم ملك اليمين إلا أنهم يتصلون معنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بآصرة (1) الإسلام الكبرى. وهنا سأل الأب قائلا: - والآن يا أبنائي من يذكر لنا بعض حقوق الجار غير الذي ذكرت لنا أختكم سلمى؟ أجاب خالد قائلا: - علينا يا والدي ألا نؤذي جيراننا بالقول أو الفعل، وأن نكفَّ الشر عنهم، فذلك من كمال الإيمان وكرم الأخلاق. رد الأب قائلا بإعجاب: - أحسنت يا خالد، وأذكركم هنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» (2) (3) . وتابعت الأم حديث زوجها قائلة: - ولعلي أضيف إلى ما ذكرتموه بعض الحقوق التي تجب علينا للجار مثل: التسامح بين الجيران، والتنازل عن بعض الحقوق   (1) رابطة. (2) غوائله وشروره. (3) أخرجه البخاري في صحيحه، الجزء الثامن، ص 12، ومسلم في صحيحه، الجزء الأول ص 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بما ينفع الجار ولا يضر الشخص الذي تنازل، فليس للجار أن يمنع جاره شيئا ينفعه ولا يضره سواء كان في البناء أو في غيره من مرافق الحياة، فتعاونُ الجيران يا أبنائي مظهر من مظاهر الإخوة الإسلامية وتكافل المجتمع. وهنا سألت سلمى والديها قائلة: - ولكن إنْ كَثر الجيران فهل نحسن إليهم جميعا ونتبادل معهم الهدايا؟ أجاب الأب قائلا: - إن إجابة هذا السؤال يا ابنتي نستمدها من الهدي النبوي الكريم حين سألته عائشة - رضي الله عنها - قالت: «قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: " إلى أقربهما منك بابا» (1) ففي هذا دليل على استحباب تقديم الجار الأقرب فالأقرب إذا لم يقدر الإنسان على الإحسان إلى جيرانه جميعا، وإن كان كف الأذى واجبا علينا عن جيراننا جميعهم مهما كثروا. وهنا تابعت الأم حديث زوجها قائلة: - لعل عظم حق الجار نلخصه ونوضحه فيما أُورِده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم   (1) رواه البخاري في صحيحه: الجزء الثالث ص 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» (1) ففي هذا الحديث تحريم إيذاء الجار، وأن إيذاء الجار مناف لكمال الإيمان، علاوة على الحث على إكرام الضيف التحذير من الخوض في الكلام الباطل كالغيبة (2) والنميمة (3) والترغيب بالسكوت عند عدم فائدة الكلام. أجاب الأب بعد أن سمع حديث زوجته قائلا: - بارك الله فيك يا أم أنس، والتفت إلى أبنائه قائلا: لعل فيما قالته والدتكم يا أبنائي خير ما نختم به حديثنا حول حقوق الجار، وآمل أن تكونوا جميعا قد وعيتم حق الجار عليكم، وأن يحاول كل منكم تطبيق ما علمه من هذه الحقوق، والآن انصرفوا راشدين إلى دراستكم بارك الله فيكم ورعاكم.   (1) رواه مسلم في صحيحه، الجزء الأول ص 49، والبخاري في صحيحه، الجزء الثامن ص 13. (2) ذكرك أخاك بما يكره. (3) النم هو رفع الحديث إشاعة له وفسادا وتزيين الكلام بالكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 [ ولئن صبرتم ] 13 - حرص الشيخ إبراهيم على رعاية أبنائه منذ الصغر وتربيتهم التربية الصالحة على الفضائل الإسلامية في دوحة الدين، وجعل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هديهم في الحياة، وكان يرجو في قرارة نفسه أن ينشأ أبناؤه الثلاثة دعاة مخلصين لله، يجاهدون في سبيل الحق ورفعة راية الدين، ولقد جاهد وبذل ما استطاع من الوقت ليكونوا كما أراد لهم، فكان يقتطع ساعات من يومه يجمع فيها أفراد أسرته ليفقههم في أمر من أمور دينهم تارة بتلاوة القرآن وتفسيره وأخرى بحفظه وحفظ الأحاديث وشرحها وغيرها من علوم وأمور الدين التي لا بد للداعية أن يلمَّ بها، كما كان يروض (1) أخلاق أبنائه محمد وعلي وعمر على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة. وفي ذات يوم جاء محمد - وهو أكبر إخوته - إلى أبيه وقد ارتسمت علامات الألم والضيق على وجهه، وقد ظهر لوالده أن هناك أمرا ما يزعج ابنه ويقلقه ويود أن يفضي (2) به إليه فأشار لابنه   (1) يمرن. (2) من أفضى إفضاء بالأمر أي: بينه بصورة واضحة وأعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 حين رآه أن يأخذ مكانه من المقعد المجاور له، وحين استوى محمد في جلسته سأله والده بلطف قائلا: - ما بالك يا بني، أراك اليوم على غير عادتك فما الذي ألم بك؟ أجاب محمد قائلا - والضجر (1) مما أصابه يبدو من خلال حديثه -: - لقد مللت يا والدي من رفيقي الذي يجلس بجواري في حجرة الدرس. سأل الأب ابنه بتعجب قائلا: - ولماذا يا بني هذا الضجر؟ رد محمد قائلا بصوت يخالطه بعض الألم: - إنه دائم الإيذاء لي يا أبي مرة بالسخرية مني، ومرة بعدم التعاون معي إذا اعترضتني مشكلة، وأساليب أخرى قد لا يسعني الوقت لذكرها. هدأ الأب الحكيم من روع (2) ابنه قائلا: - لا عليك يا بني، لكل معضلة حل فلا تبتئس ولكن أخبرني   (1) الضيق. (2) الروع سواد القلب، وقيل: موضع الفزع منه، وهدأ روعه أي طمأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كيف تصرفت معه؟ أجاب محمد قائلا: - لم أحاول إيذاءه أو أن أرد الإساءة بمثلها، ولكني أحس بالملل من سوء سلوكه وعدم القدرة على الصبر، فلقد ضقت ذرعا لوجوده بجواري. فكر الأب قليلا بعد أن سمع حديث ابنه ثم بادره قائلا: - لا عليك يا بني، اذهب الآن إلى شأنك وسنلتقي إن شاء الله في المساء وستكون معضلتك (1) مع رفيقك هي مدار حديثنا، وسنجد الحل الذي يثلج صدرك بإذن الله. غادر محمد والده وهو مطمئن النفس وقد ملأه شعور بالارتياح. وحين اختلى الأب بنفسه قرر أن يكون حديث الليلة لأفراد أسرته حول فضيلة الصبر الذي هو من الفضائل الجليلة (2) والتي ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها، فكيف بأبنائه وهو يأمل أن يراهم دعاة لله. اكتمل شمل الأسرة في عقد جميل يجمع الأب والأم وأبناءهما الثلاثة محمدا وعليا وعمر وقد اكتست وجوههم بحلاوة   (1) مشكلتك. (2) العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الإيمان ورقة الشعور، وأشرقت وجوههم بفيض (1) من نور غامر، فكانوا كأنما تحفهم الملائكة بالسكينة والأمن. ابتدأ الأب حديثه بالصلاة والسلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وردد أفراد أسرته الصلاة على النبي، ثم بادر الأب بسؤالهم قائلا: - لو أن أحدكم ألم به داء (2) عضال (3) لازمه طويلا، هل كان يشكو ويتذمر شاكيا لكل من رأى ألمه وبلواه؟ أجاب عمر قائلا وقد كان أصغر الأبناء: - نعم يا أبي، فالمرض مؤلم فكيف وإن كان لفترة طويلة، فأنا لا أستطيع الصبر عليه لذلك لا بد وأن أشكو وأتألم. أجاب الأب قائلا: - حسنا يا أبنائي، لقد سمعتم قول أخيكم فهل أنتم موافقون على هذا القول؟ أجاب علي قائلا وقد كان يكبر أخاه عمر بثلاث سنوات: - لا يا والدي، لا يحق لنا إظهار الشكوى والتذمر، فالمرض ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يختبر عباده به؛ لذا علينا أن نصبر ونحتسب ابتغاء وجه الله.   (1) كثير. (2) مرض. (3) شديد غالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أجاب الأب قائلا وقد سر لإجابة ابنه علي: - أحسنت يا علي فيما ذكرت، ونحن اليوم سنجعل حصتنا من الوقت للحديث عن فضيلة من أجلِّ الفضائل وأعظمها ألا وهي فضيلة الصبر. . ولقد أخبرني أخوكم محمد بالمعاناة التي يجدها في المدرسة من أحد رفاقه. . وبعد أن شرح لهم مشكلة أخيهم سألهم من منكم يعرف معنى الصبر؟ فلما لم يجد إجابة من أحدهم تابع قائلا: - الصبر، يا أبنائي، هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو البعد عما يقتضيان حبسها عنه. . ثم عقب بسؤال آخر. - بماذا يمكن أن يقابل أخوكم محمد إساءة رفيقه؟ في هذه اللحظة تدخل محمد ورد بأدب جم قائلا: - أعرف يا أبي أن علي أن أصبر، ولكني مللت لكثرة ما تكررت منه الإساءة. أجاب الأب قائلا: - لا يا بني، يجب أن تروض نفسك على الصبر، وأن تحاول التحلي بهذه الصفة ما استطعت. . ولكن ما هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يصبر فيها؟ أجابت أم محمد قائلة: - على الإنسان أن يصبر على المصائب التي يبتليه بها الله كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عليه أن يصبر على أداء الطاعات كأداء الصلاة والصوم وغيرها من العبادات، والصبر عن المعاصي كالغيبة والنميمة والكذب وغيرها. أجاب أبو محمد قائلا: - أحسنت يا أم محمد، وهناك مجالات أخرى يجب على المؤمن أن يصبر فيها كالصبر على مواجهة الكفار أعداء الدعوة الإسلامية، والصبر على الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام. . كل هذه أمور يحمد الصبر فيها، ولقد أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بالصبر وبين لنا أجر الصابرين، فهل منكم من يتذكر آية تحث على الصبر؟ أجاب محمد قائلا: - إني لأحفظ يا أبي قول الحق تبارك وتعالى مما حفظت في المدرسة من الآية الكريمة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (1) . رد الأب قائلا: - أحسنت يا محمد، ها أنت تحفظ من كتاب الله ما يحث على الصبر، أفلا تمنحك هذه الآية قوة هائلة للصبر، وتابع حديثه قائلا: وهناك يا بني الكثير من الآيات الدالة على فضيلة الصبر، ولعلي أذكر لك هنا قول الحق تبارك وتعالى في محكم تنزيله:   (1) سورة الزمر، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 125 - 126] (1) . وبعد أن تلا الأب هاتين الآيتين الكريمتين سأل أبناءه قائلا: - إلى أي نوع من أنواع الصبر تشير هاتان الآيتان الكريمتان؟ رد علي قائلا: - إنه الصبر في مجال الدعوة لله سبحانه وتعالى. أجاب الأب قائلا وقد استحسن إجابة ولده: - أحسنت يا علي وبارك الله فيك، ولكن هل يوضح أحدكم أكثر؟ . فلما لم يجد إجابة من أحدهم تابع قوله: - إن القرآن يا أبنائي يرسي (2) دعائم الدعوة ومبادئها ويعين وسائلها ويرسم المنهج الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتابع قائلا: ومن الآيتين الكريمتين هل تستطيعين يا أم محمد أن تذكري لنا بعض قواعد الدعوة إلى الله؟ أجابت أم محمد قائلة:   (1) سورة النحل، الآيتان: 125، 126. (2) يضع ويثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 - إنها الحكمة، فالدعوة بالحكمة مطلب ضروري لنجاح الدعوة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، فلا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف بل يهيئ النفوس لها أولا بالطريقة التي تليق بأحوالهم. أجاب أبو محمد قائلا: - لقد أجدت في الحديث يا أم محمد وسأعيد تلاوة الآيتين حتى يتذكر الأبناء بقية تلك القواعد. . وبعد أن تلا الآيتين الكريمتين ثانية نظر في وجوه أبنائه يستحثهم على الإجابة. وهنا أجاب محمد قائلا: - إنه مبدأ أو قاعدة الموعظة الحسنة أي التي تدخل القلوب برفق لا بالزجر والتأنيب. وهنا تابع الأب حديث ابنه محمد قائلا: - نعم يا أبنائي، فالرفق يهدي القلوب الشاردة ويؤلفها، ولقد خاطب الله سبحانه رسوله محمدا بقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (1) والجدل بالتي هي أحسن أي بلا تحامل (2) على المخالف ولا تقبيح ولا شتم، وهذا منهج الدعوة مادام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة.   (1) سورة آل عمران، الآية: 159. (2) تحامل على فلان أي: جار عليه ولم يعدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 سأل محمد قائلا: - وهل هناك منهج آخر يا أبي؟ أجاب الأب قائلا: - لقد أحسنت السؤال يا محمد، وهنا أقول لك: إنه إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء لا بد أن يقابل بمثله اعتزازا لكرامة الحق ودفعا لغلبة الباطل على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده، فالإسلام دين العدل والاعتدال ودين السلم والمسالمة، ويدفع عن نفسه وعن أهله البغي ولا يبغي، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وهنا سأل علي والده قائلا: - أي أن المرء يا أبي إما أن يصبر أو أن يعاقب بمثل ما عوقب به؟ أجاب الأب قائلا: - نعم يا بني، فالقرآن يدعو إلى العفو والصبر مع إقرار قاعدة القصاص ووقف العدوان في الحالات التي يكون فيها الصبر أعمق أثرا وأكثر فائدة للدعوة. ردت أم محمد: - ما أجمل ما ذكرت يا أبا محمد! وأضيف هنا أن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال وضبط للعواطف وكبت للفطرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 والقرآن يصل الصبر بالله ويزين عقباه {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] (1) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] (2) . أجاب أبو محمد قائلا: - نعم يا أبنائي، فالله سبحانه وتعالى يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يحد من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله. فعقبت أم محمد قائلة: - نعم، هذا هو الصبر يا أبنائي، والصبر لا يقتصر على الداعية وطرق الدعوة فقط بل الصبر على كل ابتلاء، وقد حث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الصبر في أحاديث كثيرة أذكر لكم منها حديث أبي يحيى صهيب بن سنان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (3) . فيا أبنائي حياة المسلم بما فيها من مسرة ومضرة كلها خير وأجر له عند الله. أجاب الأب قائلا وقد ظهر الارتياح على وجهه عند سماع   (1) سورة النحل، الآية: 126. (2) سورة البقرة، الآية: 153. (3) رواه مسلم في صحيحه: الجزء الثامن ص 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 حديث زوجته: - نعم يا أبنائي، فالمؤمن الكامل الإيمان يشكر الله تعالى في السراء ويصبر في الضراء فينال خير الدارين، أما ناقص الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجمع الله عليه نصيبه منها ووزر (1) سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكر الله فتنقلب النعمة في حقه نقمة. رد محمد بعد أن سمع حديث أبويه قائلا بنفس مطمئنة: - سمعا وطاعة، وسآخذ في ترويض نفسي أنا وإخوتي إن شاء الله على فضيلة الصبر بعد أن سمعنا عنه ما سمعنا منكما وعرفنا عاقبة الصابرين، فشكرا لكما على هذه الكلمات المضيئة.   (1) ذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 [ والعافين عن الناس ] 14 - استيقظت الأم من نومها فزعة على صراخ ابنتها فاطمة وهو يتعالى بغضب، فهرعت إليها تستطلع ما الخبر، وإذا بها تجدها قد انهالت سبّا وشتما على الخادم (1) وقد همت بضربها، والخادم تقف مذعورة وهي ترتجف من الخوف، فما كان من والدتها إلا أن وقفت حائلا بين ابنتها والخادم ومنعتها من الإقدام على تلك الفعلة الشنيعة، والتفتت إلى الخادم وحدثتها بكلمات طيبة وهدأت من روعها وطلبت منها أن تتابع عملها، واتجهت الأم بابنتها حيث حجرة الجلوس وحين اتخذتا مكانهما سألت الأم ابنتها بغضب قائلة: - ما الذي كنت تنوين الإقدام عليه يا فاطمة. . تريدين ضرب الخادم. . هل رأيتني يوما أفعل ذلك؟ ! أجابت فاطمة قائلة بغيظ شديد: - لا يا أمي، لم أرك يوما تفعلين ذلك، ولكنك لا تعلمين ما الذي فعلته معي ولو علمته لعذرتني. عاودت الأم السؤال بصوت حاولت أن يكون أكثر هدوءا قائلة:   (1) من يعمل لفلان ويقال للمؤنث أيضا خادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 - وما الذي فعلته حتى تستحق منك كل هذا؟ ! أجابت فاطمة قائلة بصوت لم تفارقه نبرة الغيظ: - لقد أمرتها بكي ثوبي الأزرق الذي سأحضر به عرس صديقتي خديجة فأحرقته بإهمالها واستخفافها بما تقوم به من عمل. سألت الأم ابنتها قائلة وهي تعجب من أمرها: - ألا تملكين ثوبا غيره يا فاطمة؟ أجابت فاطمة قائلة وهي تظهر الحزن على فساد ثوبها الأزرق: - بلى يا أمي، تعلمين أنه لدي الكثير من الثياب الجميلة ولكني أحب هذا الثوب وأفضله على غيره من الثياب. أجابت الأم قائلة وهي تظهر لابنتها عدم الرضا بما فعلته: - حتى ولو لم يكن لديك غير ثوب واحد أحرقته الخادم فهذا لا يعطيك الحق في الإقدام على ما أقدمت عليه من عمل. أجابت فاطمة وهي تصر على ما فعلت: - ولكنها تستحق العقاب يا أماه. ردت الأم قائلة بشيء من الضيق: - لقد كان فعلك سيئا حين رفعت صوتك على هذه المسكينة، ثم إنك هممت بضربها لولا أن ساقتني عناية الله ومنعتك عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أردفت فاطمة قائلة: - آه يا أماه ليتك تركتني أفعل! ! . حزنت الأم في قرارة نفسها لقسوة ابنتها، وأشارت إليها بيدها أن اهدئي وهي تقول: - لا يا ابنتي، كان الأجدر بك العفو عنها والسماح عن زلتها (1) لتنالي بذلك الثواب من الله عز وجل، فالله تعالى يقول: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] (2) فتأملي يا ابنتي وفكري في قول الله. أجابت فاطمة قائلة وقد استعادت شيئا من هدوئها: - لم أستطع يا أماه أن أمسك بزمام نفسي وأمنعها من الغضب حين رأيت ثوبي وهو على تلك الحالة. أجابت أمها قائلة: - يا ابنتي، لقد تملكك الغضب وأفقدك السيطرة على نفسك ومنعك من تحكيم العقل، فأين أنت من قول الله تعالى حيث يقول في محكم تنزيله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (3)   (1) الزلة: الخطيئة. (2) سورة الشورى، الآية: 40. (3) سورة آل عمران، الآيتان: 133، 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فانظري يا ابنتي بماذا وصف الله عباده العافين عن الناس، لقد وصفهم بالمتقين، وتابعت الأم حديثها قائلة: - لقد وصفهم بالمتقين في الآية الأولى ثم ذكرتهم الآية الثانية وهم يتحلون بصفات أخرى غير العفو، وسأعيد عليك الآية الثانية حتى تذكري لي تلك الصفات. . وبعد أن قرأت الأم الآية ثانية أجابت فاطمة قائلة بحماس وقد نسيت غضبها: - الآية تصفهم بأنهم ينفقون في السراء والضراء، وتوقفت قليلا ثم سألت قائلة: ولكن ما معنى ينفقون في السراء والضراء؟ ردت الأم قائلة: - إنه سؤال جيد يا فاطمة، وتابعت التوضيح لابنتها قائلة: أي أنهم ثابتون على البذل لا تبطرهم السراء، أي المسرة ورغد العيش والرخاء، ولا تلهيهم عن الإنفاق، كما أن الضراء، وهي الشدة وضيق العيش، لا تنسيهم البذل والعطاء، إنما هم يملكون الشعور بالواجب في كل حال، ويتحررون من الشح والبخل والحرص على المال، وإن ما يدفع النفس يا ابنتي إلى الإنفاق في كل حال هو دافع أقوى من شهوة المال إنه دافع التقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أردفت فاطمة قائلة: - إذا الإنفاق في السراء والضراء هو أول صفات هؤلاء المتقين؟ أجابت الأم وهي سعيدة بقول ابنتها: - نعم يا ابنتي، أما الصفة الثانية التي لها علاقة وطيدة بحادثة اليوم فهي صفة العفو والحلم وكظم الغيظ، والتي كنت أود لو أنك تحليت بهما. سألت فاطمة والدتها قائلة باهتمام واضح: - فما معنى الكاظمين الغيظ يا أماه؟ أجابت الأم قائلة: - الكاظمين مأخوذة من الكظم أي الحبس، أما الغيظ فهو الغضب أو شدة الغضب، وقيل سورته وأوله فيكون بذلك معنى الآية أي الحابسين غضبهم المتحكمين في سورته، فكان الأجدر بك كظم غيظك والعفو عن هذه المسكينة. سألت فاطمة أمها وقد استبدت بها الحيرة قائلة: - ولكن يا أماه ألا يكفي أن أكظم غيظي وأحبسه عنها ولا أعفو عنها في قرارة نفسي؟ أجابت الأم قائلة: - لا يا ابنتي، فالغيظ انفعال بشري تصاحبه فورة الدم، وكظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الغيظ هو المرحلة الأولى وهذه المرحلة وحدها لا تكفي. تساءلت فاطمة قائلة: ما معنى قولك يا أماه إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى وهي وحدها لا تكفي؟ أجابت الأم وقد كانت تود توضيح ذلك لابنتها لولا أن شغف ابنتها بالمعرفة جعلها تسبق بالسؤال: - قد يكظم الإنسان يا ابنتي غيظه فقط ولا يعفو فيتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين، والغيظ الفائر إلى حقد غائر وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن. سألت فاطمة والدتها قائلة: - ولماذا لا بد من العفو ألا يكفي أن يكظم المرء غضبه؟ ردت الأم بهدوء قائلة: - يبدو يا فاطمة أنك لم تفهمي بعض ما قلته، إن الغضب يا ابنتي نار على النفس إذا كظمته ولهيب يلفح القلب، أما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من تلك النار وبرد وسلام في القلب والضمير. أجابت فاطمة قائلة: - ولكن أود أن أسألك يا أماه لماذا قال الله تعالى في نهاية الآية الخاصة بذكر صفات المتقين {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أجابت الأم قائلة: - إن معنى ذلك يا فاطمة أن من يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون، والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون، والله يحب المحسنين، ومن حب الله للإحسان والمحسنين ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه وتنبثق الرغبة الدانقة في هذه القلوب، والجماعة التي يحبها الله وتحب الله والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان هي جماعة متضامنة، جماعة متآخية، جماعة قوية. أجابت فاطمة قائلة وقد أظهرت الندم لسوء فعلها: - الله يا أماه، ما أجمل حديثك! وما أبشع ما فعلته اليوم! ! . ردت الأم قائلة: - لا عليك يا ابنتي وسأزيدك فائدة حين أذكرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا في كل أمر من أمور حياتنا، تروي عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى» (1) . أجابت فاطمة قائلة: - لقد أحسست بحجم خطئي يا أماه، وإني ذاهبة إلى الخادم   (1) رواه مسلم في صحيحه: الجزء السابع ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أحادثها وأهدئ من روعها، ولن تلقى مني بعد اليوم غير المعاملة الحسنة إن شاء الله. أجابت الأم قائلة: - بارك الله فيك يا ابنتي، فهذا ما أرجو منك. . والآن اذهبي إليها فلعلها الآن في حالة ذعر وحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 [ ورتل القرآن ترتيلا ] 15 - كانت أم صفية دائمة الحث لابنتها على تلاوة القرآن، وقد كانت تلك هي الناحية التي يظهر فيها التقصير من ابنتها، وبالرغم من إلحاح الأم على ابنتها بتعهد القرآن إلا أن صفية لم تكن لتعي (1) أو تستجيب؛ معللة تقصيرها هذا بضيق الوقت وما هي عليه من انشغال في أداء واجباتها المدرسية. ولم تكن الأم تحث ابنتها بلسانها فقط بل كانت تتمنى أن تتخذ منها ابنتها قدوة لها، فهي تتلو كتاب الله كلما سمح لها وقتها بذلك، وكانت أحرص ما تكون على تلاوة الحزب المخصص لها بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، ولكن صفية لم تتخذ قدوة لها من هذه الأم الصالحة بل كانت تبدد جل (2) وقتها في اللهو واللعب. وظل هذا شأن صفية حتى ضاقت الأم ذرعا بها فقررت أن تشرح لابنتها وأن تبين لها فضل التلاوة لكتاب الله وما يؤتيه الله من أجر لصاحب القرآن.   (1) تفهم. (2) معظمه وأكثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وفي ذات يوم نادت الأم ابنتها وقد عزمت على وضع حد لإهمال ابنتها في هذا الأمر، لعل قلبها يستجيب. جاءت صفية لوالدتها وقد بدا (1) عليها التعب جراء لعبها في الحديقة، فطلبت منها والدتها أن تذهب وتتوضأ ثم تعود إليها، فتساءلت صفية قائلة: - ولماذا أتوضأ الآن يا أماه ووقت الصلاة لم يحن بعد؟ ردت والدتها قائلة: - اذهبي يا ابنتي الآن وسأوضح لك حين تعودين. عادت صفية إلى والدتها بعد أن توضأت وأخذت مجلسها ثم سألت والدتها بفضول قائلة: - حسنا يا أماه ها أنا قد توضأت فما الأمر الذي دعاك إلى طلب ذلك مني؟ أجابت الأم بهدوئها الذي اعتادته أمام تصرفات ابنتها: - انتظري قليلا وأجيبيني أولا هل تلوت اليوم شيئا من كتاب الله؟ ردت صفية قائلة وقد شعرت بالخجل: - لا يا أماه. فسألت الأم ثانية قائلة:   (1) ظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 - لعلك قد تلوت شيئا منه بالأمس؟ . ردت صفية وقد ازداد شعورها بالخجل: - لا يا أماه ولا بالأمس. سألتها والدتها قائلة وهي في كل ما تسأل تعرف إجابة ابنتها: - إذا منذ متى أنت لم تفتحي كتاب الله؟ ردت صفية وقد أحست بعظم ذنبها: - منذ شهر رمضان يا أماه. ردت الأم قائلة: - أي منذ سبعة أشهر، ألا ترين أن طول ابتعادك عن كتاب الله فيه الكثير من التقصير؟ أجابت صفية قائلة: - إنني أعاهد نفسي كل يوم يا أماه على الالتزام بالتلاوة ولكني لا أجد الوقت. ولم تدع الأم ابنتها تكمل حديثها فقد سئمت (1) هذه الأقاويل والحجج الواهية فخاطبتها قائلة بشيء من العنف: - الوقت حجة عليك لا حجة لك، فأنا أراك تجدين الوقت الكافي للعب كل يوم وكان الأجدر بك اقتطاع جزء من هذا الوقت للتلاوة والتدبر في كتاب الله.   (1) ملت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ردت صفية بشيء من التأكيد قائلة: - سأحاول سأحاول. إن شاء الله يا أماه. . ردت الأم قائلة: - لا أريد منك وعدا باللسان فقط بل أريد التنفيذ منذ اليوم، فلقد امتن الله علينا نحن عباده بنبيه المرسل محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الضياء والنور، وبه النجاة من الغرور، وفيه شفاء لما في الصدور، من تمسك به يا ابنتي فقد هدي، ومن عمل به فقد فاز. . فكيف تكونين كذلك وأنت لا تأبهين (1) بتعهد تلاوته؟ . أجابت صفية قائلة: - إني أعرف ذلك ولا أجهله يا أماه. تابعت الأم حديثها عازمة على التوضيح أكثر مما ذكرت لابنتها، فهي لم تقتنع بعد بوعود هذه الابنة: - وإذا كنت تعرفين فلماذا التسويف في عمل الخير وأداء عبادة من أجل العبادات؟ ! ألم تسمعي ما أمر الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في محكم تنزيله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] (2) {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 92] (3) .   (1) تهتمين. (2) سورة المزمل، الآية: 4. (3) سورة النمل، الآية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ردت صفية قائلة: - إني أعرف الآية الأولى فقد حفظتها في المدرسة وهي من سورة المزمل. أجابت والدتها قائلة: - تعلمين ولا تعملين بذلك العلم؟ ! ! . . وتابعت: - وهناك أيضا الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي يحثنا فيها على تلاوة القرآن وأجر من يداوم على قراءة كتاب الله، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» (1) . سألت صفية والدتها وقد استغرقها وعظ والدتها: - ما معنى شفيعا يا أماه؟ أجابت الأم قائلة: - أي شافعا طالبا المغفرة لأصحابه، أي القارئين له والعاملين بأحكامه وهديه. وهنا سألت صفية والدتها على عجل خشية أن تنسى ما تود السؤال عنه:   (1) رواه مسلم في صحيحه، الجزء الثاني ص 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 - ولماذا أمرتني بالوضوء يا أماه؟ أجابت والدتها وقد تبسمت لفضول ابنتها البريء: - لأننا نريد أن نتلو القرآن في جلستنا هذه إن شاء الله، وإن من آداب التلاوة أن يكون المرء على وضوء، لذلك أمرتك به قبل أن نعقد جلستنا. ردت صفية قائلة: - تقولين يا أماه من آداب التلاوة. . فهل هناك آداب أخرى للتلاوة؟ ردت الأم قائلة: - نعم يا ابنتي، ينبغي للقارئ استقبال القبلة في غير تربع ولا اتكاء. وهنا سألت صفية والدتها: - وهل لا بد من الترتيل عند قراءة القرآن؟ ردت أمها قائلة وقد استحسنت السؤال: - المستحب الترتيل؛ لأن الترتيل يعين على التفكر في آيات الله والتدبر أثناء التلاوة. سألت صفية قائلة: - إذا هذه مجموعة الآداب التي يجب أن يتأدب بها من يقرأ القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أجابت الأم قائلة: - ليست تلك جميعها فهناك الحرص على مراعاة حق الآيات، فإذا مر بآية سجدة سجد، وأن يقول في مبتدأ قراءته (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) . أجابت صفية: - الله يا أماه! لكم كنت أجهل الكثير من هذا الشأن! والآن أنا سعيدة بما عرفت. ردت الأم قائلة وقد سرتها سعادة ابنتها: - المعرفة وحدها لا تكفي يا ابنتي، بل عليك العمل بهذه المعرفة، وأضيف أيضا يا ابنتي من تلك الآداب تحسين القراءة من غير تمطيط مفرط، فهذه سنة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» (1) كما أنه يجب على القارئ أن يكون حاضر القلب وأن يتدبر فيما يتلوه من الآيات الكريمة. كانت صفية تستمع لوالدتها وقد استحسنت ما سمعته، وحين أنهت والدتها حديثها علقت على ما سمعته قائلة: - لكم أحس التقصير يا أمي كما أحس بالندم على ما فرطت في أمري، وسأحاول التمسك بحزب أتلوه كل يوم وسأحرص على المداومة إن شاء الله.   (1) رواه النسائي في سننه: الجزء الثاني ص 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 سرت والدة صفية بما سمعته من ابنتها بعد أن لمست موعظتها (1) قلب هذه الفتاة، ولكنها لم تمهلها حتى الغد بل بدأت معها التلاوة في ذلك الاجتماع حيث طلبت منها أن تفتح كتاب الله وأن تتلو ما تيسر من الآيات البينات. شرعت صفية في التلاوة وقد اعتدلت في جلستها بعد أن استعاذت بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقد رتلت بصوت حسن وبكل خشوع، ومنذ ذلك اليوم لم تترك صديقتنا صفية يوما يمضي دون أن تقرأ القرآن.   (1) نصحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 [ خاتمة ] هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الذي أعاننا ويسر لنا سبيل إتمام هذا العمل الذي نرجو أن يكون خالصا لوجهه جل وعلا. والله نسأل أن يتقبله منا وأن يحقق ما نصبو إليه من أهداف في تربية النشء على أسس إسلامية تعمق في نفسه علاقته بالقرآن الكريم قولا وفعلا. والذي لا جدال فيه أن كتاب الله زاخر بكنوز التربية الشاملة والمتكاملة روحيا وفكريا وعقائديا واجتماعيا واقتصاديا بحيث ينظم حياة الإنسان أحسن تنظيم، فالدين ليس مناسك وشعائر فقط بل هو نظام وتشريع وتربية. هو وجدان وعمل؛ لأنه ينبع من أعماق الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالعمل الذي تقدمت به ما هو إلا غيض من فيض، وهو جهد المقل الذي يأمل أن يكون فاتحة لأعمال أخرى مماثلة. وفي الختام لا يفوتنا أن نشكر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على هذه الفرصة التي أتاحتها لنا بتقديم هذا العمل. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151