الكتاب: تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام المؤلف: عبد الله بن صالح القصير الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1421هـ عدد الصفحات: 78 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام عبد الله بن صالح القصير الكتاب: تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام المؤلف: عبد الله بن صالح القصير الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1421هـ عدد الصفحات: 78 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] [ المقدمة تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام ] بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعله موسما للمنافسة في الخيرات، والتجارة التي لن تبور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، الذي خصَّ شهر رمضان بإنزال القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد الذي لا خير إلا دلّ الأمة عليه وسبقها إليه، ولا شر إلا حذرها منه وكان أبعدها عنه. ورضي الله على آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الأئمة المهديين، والتابعين لهم لإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه تذكرة موجزة بشيء من فضائل الصيام والقيام، وما يتيسر مما يتعلق بهما من أحكام. جمعتها لنفسي من كتب مشايخي، ومَنْ سَلف من أهل العلم جزاهم الله خيرا، وضاعف مثوبتهم، وأحببت أن ينتفع بها من شاء الله من إخواني المسلمين، تبليغا للعلم وقياما بواجب النصيحة. وسميتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 تذكرة الصُّوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام". وأسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه، مقبولة لديه، وأستغفر الله من الخطأ والزلل في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. عبد الله بن صالح القصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [ الفصل الأول أحكام الصيام ] [ أولا حقيقة الصيام وحكمه ] الفصل الأول أحكام الصيام أولا: حقيقة الصيام وحكمه. ثانيا: من حكم فرضية الصيام. ثالثا: فضائل الصيام. رابعا: خصائص شهر رمضان. خامسا: أحكام تتعلق بالصيام. سادسا: أمور يفطر بها الصائم. سابعا: أمور لا يفطر بها الصائم. ثامنا: فضل قيام الليل. تاسعا: فضل قيام رمضان. عاشرا: فضل ليلة القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أولا: - حقيقة الصيام وحكمه هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح، وغيرها من المفطرات - بنية العبادة فريضة أو نافلة - من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] (1) . فأباح سبحانه التمتع بهذه الأمور في ليل الصيام إلى الفجر، ثم أمر بالإمساك عنها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقد جاء في السُنة الصحيحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكر أمور أخرى يفطر بها الصائم، غير تلك المذكورات في الآية، تأتي الإشارة إليها في موضعها - إن شاء الله - وألْحق أهل العلم بها أمورا من جنسها قياسا عليها لاتفاقها في العلة.   (1) سورة البقرة، الآية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وصيام رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام، وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، ودليل فرضيته قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] إلى قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 184 - 185] (1) . وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (2) ولمسلم: «وصوم رمضان وحج البيت» (3) . وأحاديث كثيرة بمعناه في الصحيحين، وغيرهما من دواوين الإسلام. وأجمع المسلمون على فرضيته إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام، فمن أنكر وجوبه فقد كفر. فإن العلم   (1) سورة البقرة، الآيات 183-185. (2) أخرجه البخاري برقم (8) في الإيمان، باب: "قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "بني الإسلام على خمس". ومسلم برقم (16) . في الإيمان، باب: "بيان أركان الإسلام. ." عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلم برقم (16) - 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بفرضيته من العلم العام، الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف. ويجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] (1) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما في الصحيحين وغيرهما: «صوموا لرؤيته - يعني الهلال - وأفطروا لرؤيته. . .» الحديث (2) . تذكير: يجب على المسلم أن يصوم رمضان إيمانا واحتسابا، لا رياء ولا سمعة ولا مجاملة لأحد، ولا موافقة لأهله، أو متابعة لمجتمعه. فإن الصائم لا ينال ثواب الصيام؛ ولا تجتمع له فوائده إلا إذا كان الحامل له إيمانه، بأن الله تعالى فرضه عليه رحمة منه به وإحسانا إليه، واحتسب الأجر على صيامه عند ربه، الذي وعد به الصائمين. كما في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (3) وقد قال تعالى:   (1) سورة البقرة: 185. (2) أخرجه البخاري برقم (1909) في الصوم، باب: "إذا رأيتم الهلال فصوموا". ومسلم برقم (1081) في الصيام، باب: "وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال. عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري برقم (38) في الإيمان، باب: "صوم رمضان إيمانا واحتسابا". ومسلم برقم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] (1) سواء كانت صوما أو غيره، والإحسان هو المتابعة والتأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وكذلك يتعين على الصائم - فرضا أو نافلة - أن يصون صومه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال والوسائل التي تبطل الصيام، أو تقدح فيه أو تنقص ثوابه، فإن المقصود بالصيام هو طاعة الله تعالى، وتعظيم حرماته، وجهاد النفس على مخالفة الهوى في طاعته، وتعويدها الصبر على محابه وعن محارمه ابتغاء وجهه. وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر الشهوات فقط، بل إنما شرع ترك هذه الأمور لأنها وسيلة توصل إلى ذلك، وتعين عليه، ولقطع الشواغل عنه والصوارف إلى ضده. ولذا صح في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «الصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم» (2) . لذا ينبغي للصائم أن يحفظ   (1) سورة البقرة، الآية: 112. (2) أخرجه البخاري برقم (1904) في الصوم، باب: "هل يقول: إني صائم إذا شُتم؟ "، ومسلم برقم (1151) في الصيام، باب: "فضل الصيام". . عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 صيامه، وأن يصون لسانه من جميع الكلام إلا ما ظهرت مصلحته، وترجحت فائدته. ففي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت» (1) . وقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحتفظ صومنا ولا نغتاب أحدا، وذلك لأنه صح في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (2) رواه البخاري. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والظمأ» (3) .   (1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (6018) في الأدب، باب: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يؤذ جاره". ومسلم برقم (47) في الإيمان، باب: "الحث على إكرام الجار. ." عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري برقم (6019) ومسلم برقم (48) عن أبي شُريح رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري برقم (1903) في الصوم، باب: (من يدع قول الزور والعمل به". عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه ابن ماجه برقم (1690) وأحمد في المسند (2 / 373، 441) والبيهقي (4 / 270) . وصححه السيوطي في الجامع الصغير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وفي ذلك التحذير الشديد، والزجر الأكيد عن أن يعرض الصائم نفسه إلى ما قد يفسد صيامه، أو ينقص ثوابه من قول الزور والعمل به، كالكذب، والبهتان، والغيبة، والنميمة، والشتم، وفاحش القول، بل كل ما لا مصلحة فيه من الكلام فينبغي اجتنابه والحذر منه في كل زمان ومكان. وإذا شَرُف الزمان كرمضان، أو المكان كمكة، فإن السيئات قد تعظم، كما أن الحسنات تتضاعف، وربما كسب المفرط من آثامه ما يفوق حسنات صيامه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [ ثانيا من حكم فرضية الصيام ] ثانيا: من حكم فرضية الصيام شرع الصيام لحكم عظيمة كثيرة، استوجبت أن يكون فريضة من فرائض الإسلام، وركنا من أركانه، فكم فيه من المنافع الجمة، وكم له من الآثار المباركة. فالصيام عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، بترك محبوباته ومشتهياته، طاعة لربه وإيثارا لمحبته؛ فيقدم ما يحبه خالقه ومولاه على ما تحبه نفسه وتهواه، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وكمال عبوديته لله، وخالص محبته، وعظيم طمعه ورجائه فيما وعد الله به أهل طاعته، من الرحمة والرضوان والمغفرة والإحسان والأجر العظيم والنعيم المقيم في الجنان. وفي الصيام ممارسة ضبط النفس والسيطرة عليها والتحكم فيها، والأخذ بزمامها إلى ما فيه خيرها وسعادتها وفلاحها في العاجل والآجل، حيث يُصبِّر المرء نفسه على فعل الطاعات، وترك الشهوات. وفي الصحيح قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا» (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «وما أعطي أحد عطاء خيرا   (1) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (1 / 307) وقد أطال أحمد شاكر في تحقيق المسند (2804) في الكلام حول هذا الحديث والحاصل أن إسناده صحيح وقد رواه الترمذي بلفظ مختلف (2516) وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد أيضا في المسند (1 / 293، 303) قال أحمد شاكر في تحقيقه على المسند (2669، 2763) : إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولا أوسع من الصبر» (1) . وفي التنزيل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] (2) و {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] (3) . وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (4) . وفي الصيام من كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق وتتواضع للخلق، ما لا نظير له؛ فإن الشبع والري ومباشرة النساء، يحمل كل منها جملة من الناس - غالبا - على الأشر، والعلو، وبطر الحق، وغمط الناس في كثير من الأحوال. وفي الجوع والظمأ وهجر الشهوات - خصوصا على وجه العبودية لله - ما يكسر من حدتها ويكبح من جماحها، ويكون عونا للمرء عليها ويجعلها تستعد لطلب وتحصيل ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به في حياتها الأبدية. قال تعالى:   (1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (1469) في الزكاة، باب: "الاستعفاف عن المسألة. ومسلم برقم (1053) في الزكاة، باب: "فضل التعفف والصبر" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) سورة آل عمران الآية: 146. (3) سورة الأنفال، الآية: 46. (4) سورة الزمر، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] (1) وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] (2) . والصيام يذكر العبد بعظيم نعم الله عليه وجزيل إحسانه إليه؛ فإنه إذا جاع وعطش وهجر شهوته ذكر الأكباد الجائعة والأنفس المحرومة، فكان ذلك من دواعي حمده لربه على نعمته وشكره له على جوده وكرمه، وكان ذلك من أسباب رقة قلبه مما يجعله يعطف على المساكين ويغيث الملهوفين فيواسيهم ويجود عليهم. وذلك من أسباب حفظ النعم وزيادتها، واندفاع النقم والسلامة من آفاتها. فالصيام من أعظم أسباب تطهير النفوس من أدرانها، وتزكيتها بتهذيب أخلاقها، وتنقيتها من عيوبها، مع ما فيه من إصلاح القلوب وترقيقها، وزرع التقوى فيها وتقوية خشيتها من خالقها وباريها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] (3) . فبين سبحانه أن الحكمة من فرض الصيام هي تحقيق التقوى.   (1) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10. (2) سورة النازعات، الآيتان: 40، 41. (3) سورة البقرة، الآية 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والتقوى كلمة جامعة لكل خصال الخير من فعل الطاعات، وترك المعاصي والسيئات، والحذر من مزالق الشهوات، واتقاء الشبهات. وللصوم أثر واضح في الإعانة على ذلك، فإنه يلين القلب ويذكره بالله، ويقطع عنه الشواغل التي تصده عن الخير أو تجره إلى الشر، ويحبب إلى الصائم الإحسان وبذل المعروف. ولذا يشاهد تسابق معظم الصائمين إلى الخيرات، وتجافيهم عن المحرمات، وبعدهم عن الشبهات، وتنافسهم في جليل القربات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 [ ثالثا فضائل الصيام ] ثالثا: فضائل الصيام الصوم عبادة من أجل العبادات، وقربة من أشرف القربات، وطاعة مباركة لها آثارها العظيمة الكثيرة العاجلة والآجلة، من تزكية النفوس، وإصلاح القلوب وحفظ الجوارح والحواس من الفتن والشرور، وتهذيب الأخلاق. وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة، وتكفير السيئات المهلكة، والفوز بأعالي الدرجات ما لا يوصف. وناهيك بعمل اختصه الله من بين سائر الأعمال فقال كما في الحديث القدسي الصحيح: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» (1) رواه البخاري. فكفى بذلك تنبيها على شرفه، وعظم موقعه عند الله، مما يؤذن بعظم الأجر عليه. فإضافة الله تعالى الجزاء على الصيام إلى نفسه الكريمة تنبيه على عظم أجر الصيام، وأنه يضاعف عليه الثواب، أعظم من سائر الأعمال، ولذلك أضيف إلى الله تعالى من غير اعتبار عدد؛ فدل على أنه عظيم كثير بلا حساب.   (1) أخرجه البخاري برقم (1904) في الصوم، باب: "هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ ". ومسلم برقم (2700) - 163 في الصيام، باب: "فضل الصيام". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (1) . فما ظنك بثواب عمل يجزي عليه الكريم الجواد بلا حساب: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (2) . والإخلاص في الصيام أكثر من غيره؛ فإنه سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه غيره إذ بإمكان الصائم أن يأكل متخفيا عن الناس، فإذا حفظ صيامه عن المفطرات ومنقصات الأجر، دل ذلك على كمال إخلاصه لربه، وإحسانه العمل ابتغاء وجهه. ولذا يقول سبحانه في الحديث القدسي السابق: «يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» (3) . فنبه سبحانه على وجهة اختصاصه به وبالجزاء عليه وهو الإخلاص. والصيام جنة، يقي الصائم ما يضره من الشهوات، ويجنبه الآثام التي تجعل صاحبها عرضة لعذاب النار، وتورثه الشقاء في   (1) سبق تخريجه صفحة (17) . (2) سورة يونس، الآية: 58. (3) أخرجه البخاري برقم (1984) في الصوم، باب: "فضل الصوم". ومسلم برقم (1151) - 164. في الصيام، باب: "فضل الصوم". عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الدنيا والآخرة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (1) . ومعناه أن الصوم قامع لشهوة النكاح فيقي صاحبه عنت العزوبة ومخاطرها. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم» (2) رواه البخاري. وفي المسند عن جابر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «الصيام جنة؛ يستجن بها العبد من النار» (3) . ومن فضائل الصوم، أنه من أسباب استجابة الدعاء، ولعل في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (4) ما ينبه على الصلة الوثيقة بين الصيام وإجابة الدعاء.   (1) أخرجه البخاري برقم (5065) في النكاح، باب: "قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من استطاع. . . ". ومسلم برقم (1400) . في النكاح، باب: "استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. . . ". من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) سبق تخريجه ص (10) . (3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3 / 396) قال المنذري في الترغيب (2 / 83) : رواه أحمد بإسناد حسن والبيهقي. (4) سورة البقرة، الآية: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومن فضائل الصوم، أنه من أسباب تكفير الذنوب، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (1) . وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن صوم يوم عرفة؛ قال: " يكفر السنة الماضية والباقية ". وسئل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: " يكفر السنة الماضية» (2) . ومن فضائل الصوم، أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، لما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي ربِّ؛ منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفعان» (3) . ومن فضائل الصوم، فرح الصائم بما يسره في العاجل   (1) أخرجه مسلم برقم (233) - 16) في الطهارة، باب: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة. . . . . ". (2) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1162) - 197 في الصيام، باب: "استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. . . ". (3) أخرجه أحمد في المسند (2 / 174) والحاكم في المستدرك (1 / 554) والبيهقي في مجمع الزوائد (3 / 181) . قال أحمد شاكر في تحقيق المسند (6627) : إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والآجل، كما في الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (1) . وهذا من الفرح المحمود لأنه فرح بفضل الله ورحمته، ولعل فرحه بفطره لأن الله منَّ عليه بالهداية إلى الصيام والإعانة عليه حتى أكمله، وبما أحله الله له من الطيبات التي يكسبها الصيام لذة وحلاوة لا توجد في غيره. ويفرح عند لقاء ربه حين يلقى الله راضيا عنه ويجد جزاءه عنده كاملا موفرا. ومما ينبه على فضل الصيام، وطيب عاقبته في الآخرة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (2) . وإنما كانت هذه الريح طيبة عند الله تعالى - مع أنها كريهة في الدنيا - لأنها ناشئة عن طاعته فهي محبوبة لديه. ولعل في الحديث ما يشير إلى أن هذا الخلوف يفوح يوم القيامة من فم صاحبه أطيب من ريح المسك، حين يقف بين يدي ربه، مثله مثل الشهيد حين يأتي يوم القيامة، ففي الصحيح عن   (1) أخرجه البخاري برقم (1904) في الصوم، باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم؟ ". ومسلم برقم (1511) - 164. في الصيام، باب: "فضل الصيام". عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري برقم (1894) في الصوم، باب: "فضل الصوم". ومسلم برقم (1151) - 162) . في الصيام، باب: "فضل الصوم". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون دم والريح ريح مسك» (1) متفق عليه. ومن فضائل الصيام، أن الله اختص أهله بابا من أبواب الجنة لا يدخل منه سواهم، فينادون منه يوم القيامة إكراما لهم، وإظهارا لشرفهم، كما في الصحيحين عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؛ فيقومون فيدخلون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (2) . وانظر كيف يقابل عطش الصُّوام في الدنيا باب الريان، في يوم يكثر فيه العطشى؟ جعلنا الله ممن يشرب يوم القيامة شربة لا يظمأ بعدها أبدا بمنِّه وكرمه وجوده وفضله ورحمته، فإنه لطيف بعباده وهو أرحم الراحمين.   (1) أخرجه البخاري برقم (237) في الوضوء، باب: "ما يقع من النجاسات في السمن والماء"، ومسلم برقم (1876) في الإمارة، باب: "فضل الجهاد والخروج في سبيل الله". وهذا لفظ البخاري. (2) أخرجه البخاري برقم (1896) في الصوم، باب: "الريان للصائمين". ومسلم برقم (1152) في الصيام، باب: "فضل الصيام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [ رابعا خصائص شهر رمضان ] رابعا: خصائص شهر رمضان لما كان للصوم تلك الفضائل العظيمة والعواقب الكريمة؛ التي سبقت الإشارة إلى طرف منها، فرضه الله على عباده شهرا في السنة، وكتبه عليهم كما كتبه على الذين من قبلهم، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] (1) . فجعل سبحانه صيام رمضان فريضة على كل مسلم ومسلمة، بشروطه المعتبرة، التي جاء بها الكتاب والسنة، فدل على أنه عبادة لا غنى للخلق عن التعبد بها، لما يترتب على أدائها من جليل المنافع وطيب العواقب، وما يحدثه من خير في النفوس، وقوة في الحق، وهجر للمنكر، وإعراض عن الباطل. ومما اختص الله به شهر رمضان، ما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة» (2) . رواه   (1) سورة البقرة الآية: 183. (2) أخرجه البخاري برقم (1898) في الصوم. باب: "هل يقال رمضان أو شهر رمضان. . . . . ". واللفظ له. عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم (1080) في الصيام، باب: "فضل رمضان" بلفظ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 البخاري. وفيه أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (1) . ولا يخفى ما في ذلك من تبشير المؤمنين بكثرة الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وما يتيسر لهم من أسباب الإعانة عليها والمضاعفة لها، وما جعله الله في رمضان من دواعي الزهد في المعاصي والإعراض عنها، وضعف كيد الشياطين وعدم تمكنهم مما يريدون. ومن فضائل صوم رمضان، ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (2) . فمن صام الشهر مؤمنا بفرضيته محتسبا لثوابه وأجره عند ربه، مجتهدا في تحري سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه فليبشر بالمغفرة. وإذا كان ثواب الصيام يضاعف بلا اعتياد عدد معين، بل يؤتى الصائم أجره بغير حساب، فإن نفس عمل الصائم يضاعف في   (1) أخرجه البخاري برقم (1899) في الصوم، باب: "هل يقال: رمضان أو شهر رمضان. . .؟ ". ومسلم برقم (760) في صلاة المسافرين، باب: "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح". (2) سبق تخريجه ص (9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 رمضان، كما في حديث سلمان المرفوع وفيه: «من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه» (1) . فيجتمع للعبد في رمضان مضاعفة العمل ومضاعفة الجزاء عليه. {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 57] (2) . ومن فضائل رمضان، أن الملائكة تطلب من الله للصائمين ستر الذنوب ومحوها، كما في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال في الصوام: " وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا " (3) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة. والملائكة خلق أطهار كرام؛ جديرون بأن يقبل الله دعاءهم، ويغفر لمن استغفروا له، والعباد خطاؤون محتاجون إلى التوبة والمغفرة كما في الحديث القدسي الصحيح، يقول الله تعالى:   (1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1887) وانظر الدر المنثور للسيوطي (1 / 184) . وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. قال أحمد بن حنبل ليس بالقوي، وقال ابن معين ضعيف. (2) سورة الدخان، الآية: 57. (3) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2 / 292) . قال أحمد شاكر (7904) : إسناده ضعيف. لأن فيه هشام بن أبي هشام وهو ضعيف؛ بل متفق على ضعفه. قال البخاري في الصغير (194) : يتكلمون فيه، وصرح بضعفه في الكبير (4 / 2 / 199) ، وترجم له ابن سعد (7 / 2 / 37) وضعفه. وقال أبو زرعة. ضعيف الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» (1) . فإذا اجتمع للمؤمن استغفاره لنفسه واستغفار الملائكة له، فما أحراه بالفوز بأعلى المطالب وأكرم الغايات. وهو شهر المواساة والإحسان، والله يحب المحسنين؛ وقد وعدهم بالمغفرة والجنة والفلاح. والإحسان أعلى مراتب الإيمان، فلا تسأل عن منزلة من اتصف به في الجنة وما يلقاه من النعيم وألوان التكريم، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] (2) . ويتيسر في هذا الشهر المبارك إطعام الطعام وتفطير الصوام، وذلك من أسباب مغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار، ومضاعفة الأجور، وورود حوض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. نسأل الله بمنه وجوده أن يوردنا إياه. وإطعام الطعام من أسباب دخول الجنة دار السلام، ورمضان شهر تتوفر فيه للمسلمين أسباب الرحمة وموجبات المغفرة، ومقتضيات العتق من النار، فما أجزل العطايا من المولى الكريم   (1) أخرجه مسلم برقم (2577) في البر والصلة، باب: "تحريم الظلم" عن أبي ذر رضي الله عنه. (2) سورة الذاريات، الآية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الغفار. وهو شهر الذكر والدعاء وقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] (1) وقال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] (2) وقال سبحانه: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] (3) وقد قال تعالى في ثنايا آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (4) مما يدل على الارتباط بين الصيام والدعاء. وفي شهر رمضان ليلة القدر التي قال الله في شأنها: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (5) قال أهل العلم معنى ذلك: أن العمل فيها خير وأفضل من العمل في ألف شهر وهي ما يقارب ثلاثا وثمانين سنة خالية منها، وكفى بذلك تنويها بفضلها وشرفها، وعظم شأن العمل فيها لمن وفق لقيامها نسأل الله تعالى أن يوفقنا على الدوام لذلك بمنِّه وجوده. وجاء في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا   (1) سورة الجمعة، الآية: 10. (2) سورة الأحزاب، الآية: 35. (3) سورة الأعراف، الآية: 56. (4) سورة البقرة، الآية: 186. (5) سورة القدر، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) . وهذا من فضائل قيامها، وكفى به ربحا وفوزا. ومن خصائصه، فضل الصدقة فيه عنها في غيره، ففي الترمذي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: " صدقة في رمضان» (2) . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن. وكان جبرائيل يلقاه كل ليلة من شهر رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة» . ورواه أحمد، وزاد: «ولا يسأل شيئا إلا أعطاه» (3) . والجود: سعة العطاء بالصدقة وغيرها. وفي زيادة جوده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في رمضان اغتنام لشرف الزمان، ومضاعفة العمل فيه والأجر عليه، فقد روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما في   (1) أخرجه البخاري برقم (37) في الإيمان، باب: "تطوع قيام رمضان من الإيمان". ومسلم برقم (759) في صلاة المسافرين، باب: "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه الترمذي برقم (663) والبيهقي (4 / 306) وانظر: إرواء الغليل للألباني (3 / 353) . (3) أخرجه البخاري برقم (6) في بدء الوحي، باب: "5". ومسلم برقم (2308) في الفضائل، باب: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أجود الناس بالخير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حديث سلمان أنه قال في رمضان: «من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه» (1) . ولأن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والوقاية من النار، ففي الحديث الصحيح: «الصوم جنة» (2) . أي: وقاية من النار. وفي الصحيح أيضا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (3) . ومن خصائص رمضان، أن العمرة فيه تعدل حجة، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (4) . وفي رواية: «حجة معي» .   (1) سبق تخريجه ص (25) . (2) سبق تخريجه ص (10) . (3) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (1417) . في الزكاة، باب: "اتقوا النار ولو بشق تمرة. . . . ". ومسلم برقم (1016) - 68. في الزكاة، باب: "الحث على الصدقة". (4) أخرجه البخاري برقم (1782) في الحج، باب: "عمرة في رمضان". ومسلم برقم (1256) في الحج، باب: "فضل العمرة في رمضان". من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقوله "حجة معي". أخرجها البخاري برقم (1863) ومسلم. برقم (1256) - 222. وقد روي الحديث أيضا عن جابر رضي الله عنه أخرجه البخاري معلقا (1863) . ووصله الإمام أحمد (3 / 353، 361، 397) وابن ماجه برقم (2995) ورجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومن خصائصه، أنه شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] (1) فللقرآن فيه شأن في إصلاح القلوب والهداية للتي هي أقوم لمن تلاه وتدبره وسأل الله به، وكم جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من بيان لفضل تلاوة القرآن لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» (2) . وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأهله يوم القيامة» (3) . وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما» (4) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «خيركم من تعلم القران وعلّمه» (5) . وكلها أحاديث صحيحة،   (1) سورة البقرة، الآية: 185. (2) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (798) - 244 في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "فضل الماهر بالقرآن والذي ينتفع به". من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) أخرجه مسلم برقم (804) - 252. في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "فضل قراءة القرآن وسورة البقرة". عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم برقم (817) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه". عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (5) أخرجه البخاري برقم (5027) في فضائل القرآن، باب: "خيركم من تعلم القرآن". قال الحافظ في الفتح (8 / 693) : ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره. جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، [فصلت: 33] . والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها: تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام، كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام: 157] . فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه؟ . قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس، لأنهم كانوا أهل اللسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرَؤهُ أو يقرئه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 متضمنة لأعظم البشارات لتالي القرآن عن تفكر وتدبر، فكيف إذا كان في رمضان؟ جعلنا الله من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 [ خامسا أحكام تتعلق بالصيام ] [ صوم المسافر ] خامسا أحكام تتعلق بالصيام صوم المسافر: المسافر في رمضان يجوز له أن يفطر، ويقضي عدد الأيام التي أفطرها، سواء دخل عليه الشهر وهو في سفره أو سافر في أثنائه، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (1) . وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: «كنا نسافر مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» (2) . وثبت في السنن، أن من الصحابة من كان يفطر إذا فارق عامر قريته، ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. فللمسافر أن يفطر ما دام في سفره ما لم يقصد بسفره التحايل على الفطر، فإن قصد ذلك فالفطر عليه حرام معاملة له بنقيض قصده، والجمهور على أن الشخص إذا قرر الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لانقطاع أحكام السفر في حقه.   (1) سورة البقرة، الآية: 185. (2) أخرجه البخاري برقم (1947) في الصوم، باب: "لم يعب أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار". ومسلم برقم (1118) في الصيام، باب: "الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال بعض أهل العلم: الأفضل للمسافر فعل الأسهل عليه من الصيام أو الفطر لما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كانوا - يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن» (1) . ولما في سنن أبي داود عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: «يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة، وأنا شاب فأجد بأن الصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا علي، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أفطر؟ قال: "أي ذلك شئت يا حمزة» (2) . فإن شق عليه الصوم حَرُم عليه ولزمه الفطر لما في الصحيح «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لما أفطر في سفره حين شق الصوم على الناس، قيل له: إن بعض الناس قد صام فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " أولئك العصاة، أولئك   (1) أخرجه مسلم برقم (1116) - 96 في الصيام، باب: "جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. . . ". (2) أخرجه أبو داود برقم (2403) . واللفظ له. وأخرجه النسائي برقم (2293، 2294) . وأخرجه مسلم برقم (1121) بلفظ مختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 العصاة» (1) . ولما في الصحيحين عن جابر «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا؟ " فقالوا: صائم. فقال: "ليس من البر الصيام في السفر» (2) . وأما إذا تساوى الصوم والفطر بالنسبة له من حيث المشقة وعدمها، فالصوم أفضل اغتناما لشرف الزمن، ولأن صيامه مع الناس أنشط له وأسرع في براءة ذمته، ولأنه فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بعض أسفاره. وذهب الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم رحمهم الله إلى أن الفطر للمسافر أفضل، وإن لم يجهده الصوم أخذا بالرخصة. {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (3) وفي الحديث: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه " (4) ولأنه آخر   (1) أخرجه مسلم برقم (1114) - 90، 91. في الصيام، باب: "الصوم والفطر للمسافر" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وأخرجه البخاري بنحوه (1948) في الصوم باب: "من أفطر في السفر ليراه الناس". عن ابن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاري برقم (1946) في الصوم، باب: "قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لمن ضلل عليه واشتد عليه الحر: "ليس من البر. . . " ومسلم برقم (1115) في الصيام، باب: (الصوم والفطر في رمضان للمسافر". (3) سورة البقرة، الآية: 185. (4) أخرجه أحمد في المسند (2 / 108) عن ابن عمر رضي الله عنه. قال أحمد شاكر (5866) : إسناده صحيح. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الأمرين من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولما ثبت أن من الصحابة من يفطر إذا فارق عامر قريته، ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. [ صوم المريض ] ب- صوم المريض: المريض الذي دخل عليه شهر رمضان، وهو مريض، أو مرض في أثنائه له حالتان: إحداهما: أن يرجى زوال مرضه، فهذا إذا خاف مع الصيام زيادة مرضه، أو طول مدته، جاز له الفطر إجماعا. وجعله بعض أهل العلم مستحبا، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (1) ولما رواه الإمام أحمد وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» (2) . فيكره له الصوم مع المشقة لأنه خروج عن رخصة الله، وتعذيب من المرء لنفسه. أما إن ثبت أن الصوم يضره، فإنه يجب عليه الفطر، ويحرم عليه الصيام، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] (3) ولما ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: " إن   (1) سورة البقرة، الآية: 185. (2) سبق تخريجه ص (34) . (3) سورة النساء، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لنفسك عليك حقا " (1) . فمن حقها أن لا تضرها، مع وجود رخصة الله تعالى، وإذا أفطر لمرضه الذي يرجى زواله، قضى بعدد الأيام التي أفطرها ولا كفارة عليه. الثانية: أن يكون المرض لا يرجى زواله، كالسل والسرطان والسكر وغيرها من الأمراض - نعوذ بالله من عضال الداء وشر الأسقام - فإذا كان الصوم يشق عليه فإنه لا يجب عليه؛ لأنه لا يستطيعه، وقد قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (2) بل يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه؛ لأنه ليس له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، وفي هذا وأمثاله يقول تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (3) قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم (4) رواه البخاري. والمريض الذي لا يُرجى برؤه في حكم الكبير. وهذا مذهب الجمهور. قال ابن القيم رحمه الله: ولا يُصار إلى الفدية إلا عند اليأس من القضاء.   (1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (1974، 1975) في الصوم، باب: "حق الضيف في الصوم"، وباب: "حق الجسم في الصوم". ومسلم برقم (1159) في الصيام، باب: "النهي عن صوم الدهر لمن نضر به أو فوت به حقا. . . . " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. (2) سورة البقرة، الآية: 286. (3) سورة البقرة، الآية: 184. (4) انظر: البخاري برقم (4505) في تفسير القرآن، باب: "25". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 [ صوم الكبير ] ج- صوم الكبير: الكبير الذي لا يستطيع الصوم، أو لا يستطيع إتمام كل يوم لهرمه وضعفه، ولكن معه عقله وتمييزه، ولكن يشق عليه الصيام، فهذا أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: أنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، إقامة للإطعام مقام الصيام رحمة من الله وتخفيفا. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (1) "نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا" (2) . أي ولا قضاء عليهما. وثبت في الصحيح «أن أنس بن مالك رضي الله عنه لما كبر وضعف عن الصيام أفطر وأطعم ثلاثين مسكينا» (3) .   (1) سورة البقرة، الآية: 184. (2) أخرجه البخاري برقم (4505) في التفسير، باب "25". بلفظ: "ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكينا " وأخرجه أبو داود برقم (2318) بلفظ: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا قال أبو داود: يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا". صححه الألباني في الإرواء (4 / 18، 25) . (3) أخرجه البخاري تعليقا في التفسير، باب: "25"، عند تفسير قوله تعالى: "أياما معدودات. . . ". قال الحافظ في الفتح (8 / 65) : وروى عبد بن حميد من طريق النضر بن أنس عن أنس أنه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكينا كل يوم، ورويناه في فوائد محمد بن هشام بن هلاس عن مروان عن معاوية عن حميد قال: ضعف أنس عن الصوم عام توفي فسألت ابنه عمر بن أنس أطاق الصوم؟ قال: لا، فلما عرف أنه لا يطيق القضاء، أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أما إذا كان الكبير قد فقد التمييز، وحصل منه التخريف والهذيان، فهذا لا يجب عليه صيام ولا إطعام، لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه وتخريفه، فأشبه الصبي قبل التمييز. فإن التكليف مرتبط بالعقل، فإذا أخذ ما وهب سقط ما وجب. وأما إذا كان يميز أحيانا، ويخرف أحيانا، فإنه يجب عليه الصوم، أو الإطعام في حالة تمييزه، دون حال تخريفه، والصلاة أيضا كذلك. [ صوم المرأة ] د- صوم المرأة: الحيض من علامات البلوغ للنساء، فمتى ما رأت الفتاة الدم على وجه معتاد ولو كانت سنها دون الخامسة عشرة بل ولو كانت دون عشر سنين فهو حيض تصبح به الفتاة بالغة، فهي امرأة مكلفة يجب عليها الصيام، كما تجب عليها الصلاة وغيرها من الأحكام، التي يشترط لها البلوغ، قالت عائشة رضي الله عنها: "إذا حاضت الجارية فهي امرأة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لكن يحرم على المرأة الصيام مدة الحيض، ولا يصح منها حتى تطهر كالصلاة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في النساء: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم. . .» (1) . الحديث. فيجب على المرأة أن تفطر مدة الحيض، فإذا طهرت قضت بعدد الأيام التي أفطرتها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (2) وسئلت عائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك - تعني الحيض - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (3) . وإذا حدث للمرأة الحيض أثناء النهار، ولو قبل غروب الشمس بوقت يسير، وهي صائمة صوما واجبا بطل صيامها، ذلك اليوم - أي لا تعتد به وأجرها على الله - ولزمها قضاؤه بعد طهرها.   (1) أخرجه البخاري برقم (304) في الحيض، باب: "ترك الحائض الصوم" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم (79) في الإيمان، باب: "بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات. . . ". بلفظ: "وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر رمضان، فهذا نقصان الدين". عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) سورة البقرة، الآية: 185. (3) أخرجه البخاري برقم (321) في الحيض، باب: "لا تقضي الحائض الصلاة". بلفظ مختلف. ومسلم برقم (335) - 69 في الحيض، باب: "وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة". واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وإذا طهرت المرأة من الحيض، قبل طلوع الفجر ولو بيسير، من أيام رمضان وجب عليها الصيام، ولا بأس بتأخير الاغتسال إلى ما بعد طلوع الفجر، حتى تتمكن من السحور. والنفساء كالحائض في جميع ما تقدم من أحكام. وإذا كانت المرأة حاملا أو مرضعا، وخافت على نفسها الضرر من الصيام، فإنها تفطر وتقضي ما أفطرته من أيام أخر. أما إذا كان فطر المرأة الحامل أو المرضع، خوفا على ولدها، لا على نفسها، فالجمهور على أنها تطعم مع القضاء، عن كل يوم مسكينا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحامل والمرضع تخاف على ولدها الضرر مع الصيام: تفطر وتقضي عن كل يوم يوما، وتطعم عن كل يوم مسكينا. وذهب جماعة من أهل العلم أن عليها الصيام، - أي القضاء فقط - دون الكفارة، كالمسافر، والمريض الذي يُرجى برؤه، ولعل هذا هو الراجح، ولا يتسع المقام لبسط أدلة ذلك، وهو رأي سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [ سادسا أمور يفطر بها الصائم ] [ الأكل والشرب ] سادسا: أمور يفطر بها الصائم 1 - الأكل والشرب: وما كان بمعناهما، من مقوٍّ، أو مغذٍّ، إذا وصل إلى الجوف، من أي طريق كان، سواء الفم والأنف، أو الوريد، أو غير ذلك. وكان عن قصد واختيار فإنه يفطر به الصائم، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (1) ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مخبرا عن ربه أنه قال في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» (2) . فالصيام ترك هذه الأمور، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فمن تناول شيئا منها أثناء النهار قاصدا مختارا لم يكن صائما. [ الجماع ومقدماته ] 2 - الجماع ومقدماته: فإنه مفسد للصيام بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (3) فدلت الآية على حل التمتع بهذه   (1) سورة البقرة، الآية: 187. (2) سبق تخريجه صفحة (17) . (3) سورة البقرة، الآية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأمور، حتى طلوع الفجر، ثم يصام عنها إلى الليل. فإذا جامع في نهار الصيام، فسد صومه وصار مفطرا بذلك، فعليه القضاء لذلك اليوم والكفارة، لانتهاكه حرمة الصوم في شهر الصوم. فقد اتفق العلماء على أن من جامع في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة في الجملة، والكفارة مرتبة وهي: أ) عتق رقبة مؤمنة. ب) فإن لم يجدها فصيام شهرين متتابعين. بر) فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، لكل مسكين مدٌّ من طعام، وهو ربع الصاع مما يجزئ في الفطر، لما في الصحيح من قصة «الرجل الذي جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: هلكت وأهلكت. فقال: "ما لك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ " قال: لا. . .» (1) . وفي الحديث، أن الوطء في نهار رمضان من الصائم كبيرة من كبائر الذنوب، وفاحشة من الفواحش المهلكات؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم   (1) الحديث أخرجه البخاري برقم (1937) في الصوم، باب: "المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة". ومسلم برقم (1111) في الصيام"، باب: (تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أقر الرجل على قوله: "هلكت" ولو لم يكن كذلك لهون عليه الأمر. [ إنزال المني في اليقظة ] 3 - إنزال المني في اليقظة: بمباشرة، أو تقبيل، أو بالاستمناء - وهي التي يسمونها العادة السرية أو جلد عميرة - ونحو ذلك، يفطر به الصائم وعليه القضاء؛ لأنه عن عمد واختيار. [ إخراج الدم من الجسد ] 4 - إخراج الدم من الجسد: بالحجامة ونحوها فإنه يفطر به الصائم، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أفطر الحاجم والمحجوم» (1) . قال الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن هذا الحديث: إنه أصح شيء في الباب. فالحديث نص في الفطر بالحجامة، وهو مذهب أكثر فقهاء أهل الحديث، كأحمد وإسحاق وابن خزيمة وغيرهم من فقهاء الأمة، وكان فقهاء   (1) عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أتى على رجل وهو بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال له: "أفطر الحاجم والمحجوم". أخرجه أبو داود برقم (2368) وابن ماجه برقم (1681) والدارمي (2 / 14) . والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (4818) وأحمد في المسند (4 / 22) . والطيالسي (891) وابن حبان (900- موارد) والحاكم (1 / 428) . والبيهقي (4 / 265) والطحاوي في الشرح (2 / 99) . قال عبد الله بن أحمد في مسائله (682) : سمعت أبي يقول: هذا أصح حديث يروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في إفطار الحاجم والمحجوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 البصرة يغلقون حوانيت الحجامين (1) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأحاديث الواردة فيه - يعني الفطر بالحجامة - كثيرة، قد بينها الأئمة الحفّاظ. وفي معنى إخراج الدم بالحجامة - وأنه يفطر به الصائم - إخراجه بالفصد للتحليل، أو لغير ذلك إذا كان الخارج من الدم نحو ما يخرج بالحجامة، وكذلك سحب الدم من الوريد، للتبرع أو لغير ذلك، فمن أراد فعل شيء من ذلك فليجعله ليلا، ومن اضطر إليه لمرض أو إسعاف مصاب، فليفطر ذلك اليوم - وهو معذور في ذلك شرعا - وليقض يوما مكانه. [ القيء ] 5 - القيء: وهو إخراج ما في المعدة من الطعام والشراب، عمدا فعليه القضاء ويفطر بذلك، لحديث: «من استقاء فعليه القضاء» (2) .   (1) وإفطار الحاجم والمحجوم رواه جمع من الصحابة منهم: رافع بن خديج، وثوبان، وأبو هريرة، وعائشة، وأسامة بن زيد، ومعقل بن يسار، وبلال، وصفية، وسعد بن أبي وقاص، وأبو موسى، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. (2) أخرجه أبو داود برقم (2380) والترمذي (716) وابن ماجه (1676) والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (14542) والدارمي (2 / 14) . وأحمد في المسند (2 / 498) . وابن خزيمة (1960) . وابن حبان (907 - موارد) . والحاكم (1 / 427) والدارقطني (2 / 184) وابن الجارود (385) والطحاوي في الشرح (2 / 97) وفي المشكل (2 / 276) والبيهقي (4 / 219) والبغوي في شرح السنة (6 / 293) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد: لا أراه محفوظا. ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا يصح إسناده. وقد روي عن أبي الدرداء وثوبان وفضالة بن عبيد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قاء فأفطر، وإنما معنى هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان صائما متطوعا، فقاء فضعف فأفطر بذلك، هكذا روي في بعض الحديث مفسرا. والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، أن الصائم إذا ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وإذا استقاء عمدا فليقض. وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق أ. هـ. ونقل الزيلعي في نصب الراية (2 / 448) عن أبي داود قال: سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 [ سابعا أمور لا يفطر بها الصائم ] سابعا: أمور لا يفطر بها الصائم 1 - الاحتلام أثناء الصيام لا يفطر به الصائم، لعدم القصد والعمد باتفاق أهل العلم. 2 - من حصل منه القيء - التطريش - دون اختيار منه وهو صائم لم يفطر بذلك بل صومه صحيح لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «من ذرعه القيء - أي غلبه وقهره وسبقه في الخروج - فلا قضاء عليه» (1) . 3 - ما يدخل في الحلق بغير اختيار من غبار أو ذباب، ونحو ذلك مما لا يمكن التحرز منه، فإنه لا يفسد الصوم، لعدم القصد. فإن الذي لم يقصد غافل، والغافل غير مكلف لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] (2) ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3) . 4 - خروج الدم من غير قصد: كالرعاف والنزيف والجرح،   (1) سبق تخريجه ص (45) . (2) سورة البقرة، الآية: 286. (3) أخرجه ابن ماجه برقم (2043) عن أبي ذر الغفاري بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". قال الهيثمي في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي. وأخرجه ابن ماجه أيضا برقم (2044) عن ابن عباس بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي. . . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ونحو ذلك، لا يفطر به الصائم، ولا يفسد به الصيام، لعدم الاختيار. 5 - من أكل أو شرب ناسيا فصيامه صحيح ولا قضاء عليه؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) . ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (2) . 6 - من أكل شاكا في طلوع الفجر صح صومه فلا قضاء عليه لأن الأصل بقاء الليل. 7 - من أصبح جنبا من احتلام أو جماع، وضاق عليه الوقت، فإنه يصوم وله أن يؤخر الغسل إلى ما بعد السحور، وطلوع الفجر، وصومه صحيح ليس عليه قضاؤه. لما في الصحيحين: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يصبح جنبا من جماع ثم يغتسل ويصوم» (3) . وفي صحيح مسلم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» (4) . والنصوص في ذلك   (1) انظر الهامش السابق ص (45) . (2) أخرجه مسلم برقم (1155) في الصيام، باب: "أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري برقم (1930) في الصوم، باب: "اغتسال الصائم". ومسلم برقم (1109) في الصيام، باب: "صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب". عن عائشة رضي الله عنها. (4) أخرجه مسلم برقم (1110) في الصيام، باب: "صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب". عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 متوافرة، وَذَكَرَ غير واحد الإجماع عليه. 8 - من غلب على ظنه غروب الشمس: لغيم ونحوه، فأفطر ثم تبين له أنها لم تغرب، فليمسك ولا قضاء عليه، كما هو اختيار جماعة من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله، قال: إذا أكل عند غروبها، على غلبة الظن، فظهرت، ثم أمسك فكالناسي. لأنه ثبت في الصحيح: «أنهم أفطروا على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ثم طلعت الشمس. .» (1) . الحديث. ولم يذكر في الحديث، أنهم أمروا بالقضاء، ولو أمرهم لشاع ذلك، كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل دل على أنه لم يأمرهم. أ. هـ. وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: "لا نقضي فإنا لم نتجانف لإثم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا القول أقوى أثرا ونظرا، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس.   (1) أخرجه البخاري برقم (1959) في الصوم، باب: "إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس". عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [ ثامنا فضل قيام الليل ] ثامنا: فضل قيام الليل قيام الليل سنة مؤكدة، وقربة معظمة في سائر العام، فقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة بالحث عليه، والتوجيه إليه، والترغيب فيه، ببيان عظيم شأنه وجزيل الثواب عليه، وأنه شأن أولياء الله، وخاصة من عباده الذين قال الله في مدحهم والثناء عليهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64] (1) . فقد مدح الله أهل الإيمان والتقوى، بجميل الخصال وجليل الأعمال، ومن أخص ذلك قيام الليل، قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ - تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 - 17] (2) ووصفهم في موضع آخر بقوله:   (1) سورة يونس، الآيات: 62 -64. (2) سورة السجدة، الآيات: 15 -17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 64 - 65] إلى أن قال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا - خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75 - 76] (1) . وفي ذلك من التنبيه على فضل قيام الليل، وكريم عائدته ما لا يخفى، وأنه من أسباب صرف عذاب جهنم، والفوز بالجنة وما فيها من النعيم المقيم، وجوار الرب الكريم، جعلنا الله ممن فاز بذلك. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ - فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] (2) . وقد وصف المتقين في سورة الذاريات، بجملة صفات - منها قيام الليل - فازوا بها بفسيح الجنات، فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ - كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 15 - 17] (3) . فصلاة الليل لها شأن عظيم في تثبيت الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، وما فيه صلاح الأحوال والمال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2] إلى قوله:   (1) سورة الفرقان، الآيات: 64 -76. (2) سورة القمر، الآيات: 54 -55. (3) سورة الذاريات، الآيات: 15 -17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا - إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 5 - 6] (1) . وثبت في صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة - يعني الفريضة - صلاة الليل» (2) وفي حديث عمرو بن عبسة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (3) . ولأبي داود عنه رضي الله عنه قال: أيُّ الليل أسمع؟ - يعني أحرى بإجابة الدعاء - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «جوف الليل الآخر فصَلِّ ما شئت، فإن الصلاة فيه مشهودة مكتوبة» (4) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين   (1) سورة المزمل، الآيات: 1-6. (2) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1163) في الصيام، باب: "فضل صوم المحرم، عن أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه الترمذي برقم (3579) . واللفظ له. وأخرجه النسائي مطولا (1 / 279، 280) رقم (571) . وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 434) . وأخرجه أبو داود مطولا بلفظ مختلف (1277) ، وأخرجه مسلم أيضا مطولا بلفظ مختلف (832) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1 / 257) رقم (624) . وصححه الأرناؤوط في جامع الأصول (5 / 258) رقم (3338) . (4) أخرجه أبو داود (1277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (1) . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه، وهي كل ليلة» (2) . وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من تعار من الليل - يعني استيقظ يلهج بذكر الله - فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته» (3) . وأخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن في الجنة غرفا، يرى ظاهرها من   (1) أخرجه البخاري برقم (7494) في التوحيد، باب: "قول الله تعالى:} يريدون أن يبدلوا كلام الله {". ومسلم برقم (758) 6، 24، في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "الترغيب في الدعاء والذكر في أخر الليل والإجابة فيه". (2) أخرجه مسلم برقم (757) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء". (3) أخرجه البخاري برقم (1154) في التهجد، باب: "فضل من تعار من الليل فصلى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (1) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (2) . قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (3) . وجاء في السنة الصحيحة، ما يفيد أن قيام الليل من أسباب النجاة من الفتن، والسلامة من دخول النار. ففي البخاري وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم استيقظ ليلة فقال: «سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟» (4) . وفي ذلك تنبيه   (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5 / 343) وصححه ابن حبان (641) . وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم (1 / 321) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه المنذري، وشاهد آخر من حديث علي عند الترمذي (1985) و (2529) . (2) أخرجه البخاري برقم (2344) في بدء الخلق باب: (ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة". ومسلم برقم (2824) أول كتاب الجنة. (3) سورة السجدة، الآية: 17. (4) أخرجه البخاري برقم (7069) في الفتن، باب: إلا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 على أثر الصلاة بالليل في الوقاية من الفتن. وفي قصة رؤيا ابن عمر قال: "فرأيت كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية، كطي البئر، وإذا لها قرنان يعني كقرني البئر وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر. فقال: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا» (1) . وأخرج الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم» (2) . فتلخص مما سبق أن قيام الليل: أ) من أسباب ولاية الله ومحبته. ب) ومن أسباب ذهاب الخوف والحزن، وتوالي البشارات   (1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (1121، 1122) في التهجد، باب: "فضل قيام الليل". ومسلم برقم (2479) في فضائل الصحابة، باب "من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما". (2) أخرجه الحاكم (1 / 308) وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وحسنه العراقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بألوان التكريم والأجر العظيم. ج) وأنه من سمات الصالحين، في كل زمان ومكان. د) وهو من أعظم الأمور المعينة على مصالح الدنيا والآخرة، ومن أسباب تحصيلها والفوز بأعلى مطالبها. هـ) وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة وقربة إلى الرب ومكفرة للسيئات. و) وأنه من أسباب إجابة الدعاء، والفوز بالمطلوب المحبوب، والسلام من المكروه والمرهوب، ومغفرة سائر الذنوب. ز) وأنه نجاة من الفتن، وعصمة من الهلكة، ومنهاة عن الإثم. ح) وأنه من موجبات النجاة من النار، والفوز بأعالي الجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 [ تاسعا فضل قيام رمضان ] تاسعا: فضل قيام رمضان فإذا تبين أن القيام من خصال الخير، وعظيم الأجر، وجزيل الأجر وأنه من خصال التقوى، التي فرض الله سبحانه الصيام لتحقيقها وتكميلها وتحصيل عواقبها الطيبة وآثارها المباركة، ظهر لك أن الصيام والقيام في رمضان متلازمان عند أهل الإيمان، فإن القيام في رمضان من الشعائر العظيمة التي سنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بقوله وفعله، ورغب فيها. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) . وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صلى في المسجد - من جوف الليل - فصلى بصلاته ناس من أصحابه ثلاث ليال. فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله - أي امتلأ من الناس - فلم يخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» (2) . وذلك في رمضان.   (1) أخرجه البخاري برقم (37) في الإيمان، باب: "قيام ليلة القدر من الإيمان". ومسلم برقم (759) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح". (2) أخرجه البخاري برقم (924) و (2012) في الجمعة، باب: "من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعدا. ومسلم برقم (761) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح" عن عائشة رضي الله عنها. وفي الباب عن أبي حميد الساعدي والمسور بن مخرمة وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وفي هذا الحديث شفقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم على أمته. وفيه حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على السنة، ورغبتهم في قيام الليل. وفي الصحيحين أيضا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) . وهذا من أدلة فضل قيام رمضان، وخاصة العشر الأواخر منه - فإحياؤها من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - تحريا لليلة القدر، طلبا لما فيها من عظيم الأجر. وقيام رمضان شامل للصلاة، في أوله وآخره، والتراويح من قيام رمضان، ففي السنن وغيرها عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» (2) . فينبغي الحرص عليها، والاعتناء بها، رغبة في الخير وطلبا للأجر، فيصلي المرء مع الإمام حتى ينصرف، ليحصل له أجر قيام ليلة. وإن أحب أن يصلي من آخر الليل، ما كتب له - فله ذلك - ليفوز   (1) سبق تخريجه ص (28) . (2) أخرجه أبو داود برقم (1375) . والترمذي برقم (806) والنسائي (3 / 83، 84) رقم (1363) والنسائي (3 / 202، 203) رقم (1604) . وابن ماجه برقم (1327) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول (6 / 120) رقم (4220) : إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 بفضائل صلاة جوف الليل، فإنها - كما سبق - مشهودة مكتوبة يسمع فيها الدعاء ويستجاب، وتُقضى المسألة ويغفر الذنب، إلى غير ذلك مما جاء في فضل القيام. فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «صلاة الليل مثنى مثنى» (1) . فلم يقيد الصلاة بعدد، فيصلي ما شاء الله، غير أنه لا يوتر إن كان أوتر مع الإمام أول الليل، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لا وتران في ليلة» (2) . والمقصود أن أوقات شهر رمضان أوقات شريفة مباركة، ينبغي للموفق أن يغتنمها في جليل القرب، والإلحاح على الله بالطلب لخيري الدنيا والآخرة، والتوفيق من الله، فإنه هو الرحمن المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو حسبنا ونعم الوكيل.   (1) أخرجه البخاري برقم (990) في الوتر، باب: "ما جاء في الوتر". ومسلم برقم (749) و (753) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: "صلاة الليل مثنى مثنى". عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (2) أخرجه أبو داود برقم (1439) والترمذي برقم (470) والشافعي (3 / 229، 230) رقم (1678) : عن طلق بن علي رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقد حسنه الحافظ في الفتح (2 / 399) . وقال الأرناؤوط في جامع الأصول (6 / 62) رقم (4665) : حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 [ عاشرا فضل ليلة القدر ] عاشرا: فضل ليلة القدر ليلة القدر ليلة شريفة، خصها الله بخصائص عظيمة، تنبئ عن فضلها ورفعة شأنها، منها: 1 - أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] (1) ففي تخصيصها بذلك تنبيه على شرفها وتنويه بفضلها، حيث أنزل الله تعالى فيها أعظم الذكر وأشرف الكتب، ففي قراءته فيها أخذ بسبب من أعظم أسباب الهدى ودواعي التقى. 2 - وصف الله تعالى بأنها مباركة، بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] (2) الآية. فهي مباركة لكثرة خيرها وعظم فضلها، وجليل ما يعطي الله من قامها إيمانا واحتسابا (3) من الخير الكثير والأجر الوفير. 3 - إخباره تعالى عنها، بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] (4) أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى صحف الكتبة   (1) سورة القدر، الآية: 1. (2) سورة الدخان، الآية: 3. (3) لحديث: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" سبق تخريجه صفحة (28) . (4) سورة الدخان، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من الملائكة من الأمور المحكمة مما يتعلق بالعباد، من أمر المعاش والمعاد إلى مثلها من العام القابل، من الأرزاق والأعمال والحوادث والآجال، ونحو ذلك من الأمور المحكمة المتقنة بمقتضى علم الله تعالى وحكمته ومشيئته وقدرته، وذلك كله مما يبين شرف تلك الليلة وعظم شأنها. 4 - ما يفيده قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] (1) من التنبيه على فضل قيامها وكثرة الثواب على العمل فيها، مع مضاعفة العمل، فإن عبادة الله تعالى وما يناله العبد من الثواب عليها خير من العبادة في ألف شهر خالية منها. وذلك ينيف عن ثمانين سنة، وإذا كان العمل الصالح يضاعف في رمضان ويضاعف ثوابه، فكيف إذا وقع في ليلة القدر؟ فلا يعلم إلا الله تعالى ما يفوز به من قامها إيمانا واحتسابا من الأجر العظيم والثواب الكريم. 5 - تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 - 5] (2) ولذا فهي ليلة مطمئنة تكثر فيها السلامة من العذاب والإعانة على طاعة الغفور   (1) سورة القدر، الآية: 3. (2) سورة القدر، الآيتان: 4، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 التواب. 6 - ما ثبت في الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) . فهي ليلة تغفر فيها الذنوب، وتفتح فيها أبواب الخير، وتعظم الأجور، وتيسر الأمور. فلهذه الفضائل العظيمة وغيرها تواترت الأحاديث الصحيحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الحث على تحري هذه الليلة في ليالي العشر الأخير من رمضان، وبيان فضلها، وفي سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في قيامها، وهدي أصحابه رضي الله عنهم من الاجتهاد في التماسها ما يبعث همم طلاب الآخرة والراغبين في العتق والمغفرة مع وافر الأجر وكريم المثوبة، إلى اتباعهم على ذلك بإحسان، التماسا لرضا الرحمن، والفوز بفسيح الجنان. ولم يرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نص صريح أنها في ليلة معينة لا تتعداها في كل سنة، وما ورد من النصوص في تحديدها بليلة معينة فالمراد - والله أعلم - في تلك السنة التي أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عنها فيها وحث على قيامها بعينها، وبهذا تجتمع الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وتفيد تلك الأحاديث أنها تنتقل من سنة إلى أخرى، فقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين، وفي أخرى ليلة ثلاث   (1) سبق تخريجه صفحة: (28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وعشرين، وفي ثالثة أربع وعشرين، وهكذا. قال الحافظ في الفتح: أرجح الأقوال أنها في الوتر من العشر الأخير وأنها تنتقل (1) . قلت: ومما قرره أهل العلم بشأنها أنها تتحرى وتطلب في ليالي الشفع كما تطلب في ليالي الوتر، ولهذا جاء في بعض الأحاديث ونقل عن بعض السلف تحديدها في بعض الأعوام في ليالي الشفع من العشر. وقد وجّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك بقوله: "إن كان الشهر تاما فكل ليلة من العشر وتر، إما باعتبار الماضي كإحدى وعشرين، وإما باعتبار الباقي كالثانية والعشرين، وإن كان ناقصا فالأوتار باعتبار الباقي موافقة لها باعتبار الماضي". ولهذا ينبغي أن يتحراها المؤمن في كل ليالي العشر، عملا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (2) متفق عليه. وإنما أخفى الله علمها عن العباد رحمة بهم ليكثر اجتهادهم في طلبها، وتظهر رغبتهم فيها، وتكثر العبادة فيها، ليحصلوا   (1) فتح الباري لابن حجر (4 / 313) . (2) أخرجه البخاري برقم (2020) في فضل ليلة القدر، باب: "تحري ليلة القدر في الوتر. . " ومسلم برقم (1169) في الصيام، باب: "فضل ليلة القدر والحث على طلبها. . . ". عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 على جليل العمل وجزيل الأجر بقيامهم لتلك الليالي المباركة، كل ليلة يظنون أنها ليلة القدر، فإنهم بقيامهم لتلك الليالي يثابون على قيام كل ليلة - لا سيما وأنهم يحتسبون أنها ليلة القدر، والأعمال بالنيات - مع أنهم يدركون ليلة القدر قطعا إذا قاموا كل ليالي العشر. ولهذا كان من سُنةّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الاعتكاف تلك العشر، وهذا فيه الاجتهاد في العبادة، وبذل الوسع في تحري تلك الليلة، فينقطع في المسجد - تلك المدة - عن كل الخلائق، مشتغلا بطاعة الخالق، قد حبس نفسه على طاعته، وشغل لسانه بدعائه وذكره، وتخلى عن جميع ما يشغله، وعكف بقلبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له سوى الله وما شغل نفسه إلا بما فيه رضاه. وحقيقة أن الاعتكاف سُنّة مأثورة وشعيرة مبرورة، وقد أوشكت أن تكون بين الناس مهجورة، فينبغي - لمن تيسّر له أمره - إحياؤها والترغيب فيها، فإن: «من سَنّ في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (1) رواه مسلم، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «من دل على خير فله   (1) أخرجه مسلم برقم (1017) في الزكاة، باب: "الحث على الصدقة. . . . . . " وأخرجه مسلم أيضا في العلم، باب: "من سن سنة حسنة أو سيئة. . . . . " عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مثل أجر فاعله» (1) رواه مسلم. ومما ينبغي التفطن له تربية الأهل على العناية بهذه الليالي الشريفة، وإظهار تعظيمها، والأخذ بسُنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيها، فقد كان يوقظ أهله (2) . وكل من يطيق القيام للصلاة والذكر، والتنافس فيما ينال به عظيم الأجر من خصال البر، حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة، فيما يقرب إلى الله تعالى، فإنها من فرص العمر وغنائم الدهر. ومما يدعو إلى القلق وعظيم الحزن تساهل بعض الناس - هدانا الله وإياهم - فيها، وزهدهم في خيرها، حيث يظهر منهم الكسل فيها أكثر مما سبقها من الشهر، حتى يتخلّفون عن الفرائض ويهجرون المساجد، ويزدحمون في الأسواق، ويرتكبون بعض خصال النفاق، نسأل الله تعالى لنا ولهم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من المسارعين إلى المغفرة والجنات، المتنافسين في الخيرات، الفائزين بعظيم الأجور وأعالي الجنات، إنه سبحانه سميع مجيب الدعوات.   (1) أخرجه مسلم برقم (1893) في الإمارة، باب: (فضل إعانة الغازي في سبيل الله. . . . . . " عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. (2) لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" أخرجه البخاري برقم 2024. ومسلم برقم 1174. وفي الباب أحاديث أخرى كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [ الفصل الثاني في مهمات من أحكام زكاة الفطر ] [ معنى زكاة الفطر ] الفصل الثاني في مهمات من أحكام زكاة الفطر 1 - معنى زكاة الفطر. 2 - تاريخ مشروعيتها والدليل عليها . 3 - حكمها. 4 - حكمة مشروعيتها. 5 - على من تجب الفطرة. 6 - أنواع الأطعمة التي تخرج منها زكاة الفطر. 7 - المقدار الواجب في الفطرة. 8 - وقت إخراج الزكاة. 9 - لمن تعطى صدقة الفطر. 10 - إخراج قيمة زكاة الفطر. 11 - نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 1 - معنى زكاة الفطر أْي الزكاة التي سببُها الفطر من رمضان، وتسمى أيضا صدقة الفطر، وبكلا الاسمين وردت النصوص. وسُمِّيت صدقة الفطر بذلك لأنها عند الفطر عطية يُراد بها المثوبة من الله، فإعطاؤها لمستحقيها في وقتها عن طيب نفس يُظهر صدق الرغبة في تلك المثوبة. وسميت زكاة لما في بذلها - خالصة لله - من تزكية النفس وتطهيرها من أدرانها، وتنميتها للعمل، وجبرها لنقصه. [ تاريخ مشروعيتها والدليل عليها ] 2 - تاريخ مشروعيتها والدليل عليها وكانت فرضيتها في السنة الثانية من الهجرة - أي مع رمضان - وقد دلّ على مشروعيتها عموم القرآن، وصريح السُّنة الصحيحة، وإجماع المسلمين؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] (1) أي فاز كل الفوز، وظفر كل الظفر، مَن زكى نفسه   (1) سورة الأعلى، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بالصدقة فنماها وطهرها. وقال عكرمة رحمه الله في الآية: "هو الرجل يقدم زكاته بين يدي - يعني قبل - صلاته - أي العيد. وهكذا قال غير واحد من السلف رحمهم الله في الآية: هي زكاة الفطر. وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عند ابن خزيمة وغيره. وقال مالك رحمه الله: هي- يعني زكاة الفطر - داخلة في عموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (1) . وثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر» (2) . وأجمع عليها المسلمون قديما وحديثا، وكان أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها. [ حكمها ] 3 - حكمها حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على وجوبها، وقال إسحاق رحمه الله: "هو كالإجماع". قلت: ويكفي في الدلالة على وجوبها - مع القدرة في وقتها - تعبير الصحابة رضي الله عنهم بالفرض كما صرَّح بذلك ابن عمر وابن عباس، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم   (1) سورة البقرة، الآية: 43. (2) أخرجه البخاري (1504) ومسلم (984) . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 زكاة الفطر. . . الحديث" (1) . وبنحوه عبر غيره رضي الله عنهم. [ حكمة مشروعيتها ] 4 - حكمة مشروعيتها شرعت زكاة الفطر تطهيرا للنفس من أدرانها، من الشح وغيره من الأخلاق الرديئة، وتكميلا للأجر وتنمية للعمل الصالح، وتطهيرا للصيام مما قد يؤثر فيه ويُنقِص ثوابه من اللغو والرفث ونحوهما، ومواساة للفقراء والمساكين، وإغناءً لهم عن ذلّ الحاجة والسؤال يوم العيد. فعن ابن عباس مرفوعا: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين» (2) . رواه أبو داود والحاكم وغيرهما. وفيها: إظهارُ شكر نعمة الله تعالى على العبد إتمام صيام شهر رمضان وما يسَّر من قيامه، وفعل ما تيسر من الأعمال الصالحة فيه. وفيها: إشاعة المحبة والمودة بين فئات المجتمع المسلم.   (1) سبق تخريجه صفحة (68) . (2) أخرجه أبو داود (1609) وابن ماجه (1827) . والدارقطني (2 / 138) والحاكم (1 / 409) . والبيهقي (4 / 163) قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقال الدارقطني: ليس فيهم مجروح. وقال الألباني في الإرواء (3 / 332) : حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [ على من تجب الفطرة ] 5 - على من تجب الفطرة؟ زكاة الفطر زكاة بدن، فتجب على كل مسلم ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا، وسواء كان من أهل المدن أو القرى أو البوادي، لإجماع من يُعتدّ بقوله من المسلمين. ومن أدلة وجوبها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (1) . متفق عليه. ونحو هذا الحديث، مما فيه التصريح بالفرض والأمر، وإنما تجب على الغني، وليس المقصود بالغني في هذا الباب الغني في باب زكاة الأموال، بل المقصود به في زكاة الفطر؛ مَن فضل عنده صاع أو أكثر يومَ العيد وليلته من قوته وقوت عياله، ومن تجب عليه نفقته. [ أنواع الأطعمة التي تخرج منها زكاة الفطر ] 6 - أنواع الأطعمة التي تخرج منها زكاة الفطر ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها - يعني صدقة الفطر - في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من الزبيب» .   (1) سبق تخريجه ص (68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 متفق عليه (1) . وفي رواية عنه في الصحيح، قال: «وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر» (2) . فالأفضل الاقتصار على هذه الأصناف المذكورة في الحديث ما دامت موجودة، ويوجد من يقبلها ليقتات بها، فيخرج أطيبها وأنفعها للفقراء، لما في البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُعطي التمر (3) وفي الموطأ عن نافع: كان ابن عمر لا يُخرج إلا التمر في زكاة الفطر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا لمّا أعوز أهل المدينة من التمر، - يعني لم يوجد في المدينة - فأعطى شعيرا" (4) . وفي هذا تنبيه على أنه ينبغي أن يُخرج أطيب هذه الأصناف وأنفعها للفقراء والمساكين، ومذهب مالك والشافعي، وأحمد والجمهور أن البُرَّ أفضل ثم التمر، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (5) فإخراجها من أحد هذه الأصناف إذا وجد من يقبله ليقتات به أفضل؛ لأن فيه موافقة للسُّنة، واحتياط للدين. فإن لم توجد فبقية أقوات البلد سواها.   (1) أخرجه البخاري (1510) . (2) أخرجه البخاري (1510) . (3) أخرجه البخاري (1511) . (4) أخرجه البخاري (1511) ومالك في الموطأ (1 / 284) . (5) سورة آل عمران، الآية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وذهب بعض أهل العلم - وهو قول مالك والشافعي وأحمد وغيرهم - إلى أنه يجزئ كل حبّ وثمر يقتات، ولو لم تعدم الخمسة المذكورة في الحديث، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واحتج له بقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] (1) وبقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «صاعا من طعام» (2) . والطعام قد يكون برّا أو شعيرا. وقال: "هو قول كثير العلماء، وأصح الأقوال، فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء ". وقال ابن القيم رحمه الله: "وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصود سدّ خُلَّة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتات أهل بلدهم، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أغنوهم في هذا اليوم عن الطواف» (3) . [ المقدار الواجب في الفطرة ] 7 - المقدار الواجب في الفطرة ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فرض زكاة الفطر صاعا. . .» (4) . والمراد به صاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو أربعة أمداد. والمدّ: ملء كفَّيِ الرجل المتوسط اليدين من البر الجيد ونحوه من الحب.   (1) سورة المائدة، الآية: 89. (2) جزء من حديث أبي سعيد الخدري سبق تخريجه صفحة (75) . (3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه والدارقطني (2 / 153) والبيهقي (4 / 175) . وضعفه الألباني في الإرواء رقم (844) . عن ابن عمر رضي الله عنه. (4) سبق تخريجه صفحة (68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وهو كيلوان ونصف على وجه التقريب، وما زاد على القدر الواجب فهو من الصدقة العامة، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] (1) . [ وقت إخراج الزكاة ] 8 - وقت إخراج الزكاة لإخراج زكاة الفطر وقتان: الأول: وقتُ فضيلة، ويبدأ من غروب الشمس ليلة العيد إلى العيد، وأفضله ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد. لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر. . .» الحديث. وفيه قال: وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" (2) . وتقدَّم تفسير - بعض السلف - قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] (3) أنه الرجل يقدّم زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته. الثاني: وقتُ إجزاء، وهو قبل العيد بيوم أو يومين لما في صحيح البخاري رحمه الله قال: «وكانوا - يعني الصحابة - يعطون - أي المساكين - قبل الفطر بيوم أو يومين» (4) . فكان إجماعا   (1) سورة الزلزلة، الآية: 7. (2) سبق تخريجه صفحة (68) . (3) سورة الأعلى، الآيتان: 14، 15. (4) أخرجه البخاري (1511) . قال مالك: وذلك واسع إن شاء الله أن تؤدى قبل الغدو من يوم الفطر وبعده. الموطأ (1 / 285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 منهم. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فمن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» رواه أبو داود وغيره (1) . قال ابن القيم رحمه الله: "مقتضاه أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد". قلت: يعني من غير عذر وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة. وقال شيخ الإسلام: "إن أخَّرها بعد صلاة العيد فهي قضاء، ولا تسقط بخروج الوقت". وقال غيره: اتفق الفقهاء على أنها لا تسقط عن من وجبت عليه بتأخيرها، وهي دين عليه حتى يؤديها، وأن تأخيرها عن يوم العيد حرام، ويقضيها آثما إجماعا إذا أخَّرها عمدا. [ لمن تعطى صدقة الفطر ] 9 - لمن تعطى صدقة الفطر؟ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين» (2) . ففي هذا الحديث أنها تُصرف للمساكين دون غيرهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يجوز دفعها إلا لمن يستحق الكفارة، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم".   (1) سبق تخريجه صفحة (68) . (2) سبق تخريجه صفحة (68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويجوز أن يعطي الجماعة أو أهل بيت زكاتهم لمسكين واحد، وأن تقسم صدقة الواحد على أكثر من مسكين للحاجة الشديدة. ولكن ينبغي أن تسلم لنفس المسكين أْو لوكيله المفوض في استلامها من قبله. [ إخراج قيمة زكاة الفطر ] 10 - إخراج قيمة زكاة الفطر لا يجوز إخراج قيمة زكاة الفطر بدلا عنها، لنص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم على أنواع الأطعمة مع وجود قيمتها. فلو كانت القيمة مُجزئة لبين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وكذلك فإنه لا يُعلَم أن أحدا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أخرج زكاة الفطر نقودا مع إمكان ذلك في زمانهم - وهم أعرف بسنته وأحرص على اتباع طريقته. وأيضا فإن إخراج القيمة يفضي إلى خفاء هذه الشعيرة العظيمة، وجهل الناس بأحكامها، واستهانتهم بها. قال الإمام أحمد: "لا يعطي القيمة". قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؛ قال: يَدَعُونَ قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ويقولون: قال فلان. وقد قال ابن عمر: «فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم زكاة الفطر» (1) .   (1) سبق تخريجه صفحة (68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 [ نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر ] 11 - نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر الأصل أن الشخص يدفع زكاة فطره لفقراء البلد الذي يدركه عيد الفطر وهو فيه، وهي إنما تجب بغروب الشمس ليلة العيد، ونقلها إلى بلد آخر يفضي إلى تأخير تسليمها في وقتها المشروع، وربما أفضى إلى إخراج القيمة وإلى خفاء تلك الشعيرة، وجهل الناس بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيها، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا عن أحد من خلفائه الراشدين ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم - فيما أعلم - أنهم نقلوها من المدينة إلى غيرها. وبناءً عليه فنقلُها في هذا الزمان من مجتمع إلى آخر، والذي يدعو إليه بعض الناس ويرغب فيه، معدود من الأعمال المحدَثة التي يجب الحذر منها والبعد عنها، وتنبيه الناس على ما فيه من المخالفة. والله المستعان. أما كون الإنسان يوكل أهله أن يخرجوا الزكاة في بلدهم وهو في بلد آخر فليس من هذا الباب، فإن الكلام في نقل زكوات بعض أهل بلد إلى بلد آخر، فإنه هو الذي قد تترتب عليه المحاذير السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76