الكتاب: فصل الخطاب في شرح (مسائل الجاهلية، التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله) المؤلف: أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي (المتوفى: 1342هـ) تقديم وتعليق: علي بن مصطفى مخلوف الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 160 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية ت علي مخلوف الألوسي، محمود شكري الكتاب: فصل الخطاب في شرح (مسائل الجاهلية، التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله) المؤلف: أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي (المتوفى: 1342هـ) تقديم وتعليق: علي بن مصطفى مخلوف الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الصفحات: 160 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ مقدمة الطبعة الأولى ] مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد أيضا: فعن جابر بن عبد الله قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] » وكان من عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه رضوان الله تعالى عليهم: «وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» ، ومحدثات الأمور هي الأمور المخترعة في الدين التي يراد بها التقرب إلى الله سبحانه، وكل محدثة فهي بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فصاحبها في النار، ولو كان قد رآها حسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» . روى الأحاديث الثلاثة آنفة الذكر ابن ماجه في أوائل سننه. إن الاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في أمور الدين لهو أمر واجب، جاء التصريح به في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] فالله سبحانه وتعالى قد ذكر في هذه الآية الكريمة تحذيرا شديدا عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومشاققته، ثم عطف على ذلك فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ولا شك أن هذا السبيل هو سبيل الله الذي حذر الله سبحانه المؤمنين أن يخالفوه، وهو ما كان عليه المهاجرون والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] إن على كل مسلم أن يعلم ما هو المنهج الصحيح من ضمن المناهج الكثيرة التي تنتسب إلى الإسلام، هذا المنهج الذي طالما غفل عنه جماعات من المسلمين قديما وحديثا، ولم يتنبهوا له، أو أنهم تنبهوا له ولم يرعوه حق رعايته. هذا المنهج هو منهج الفرقة الناجية، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة: «ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» . وفي الحديث المروي في المسانيد والسنن تفسير لهذه الرواية وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم «حين سئل عن الفرقة الناجية: من هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا عليه وأصحابي» . فمن استمسك بهذا السبيل: سبيل المؤمنين الأوائل من المهاجرين والأنصار كان من الناجين يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وطالما أن الأمر كذلك فإنه لا بد للدعوة الإسلامية في هذا العصر خاصة من أمرين: أولهما: تصفية دين الإسلام مما هو غريب عنه مما هو مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم كالشرك، وجحد الصفات الإلهية وتحريفها باسم التأويل، والاجتهادات الخاطئة، والأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة وغير ذلك. أما الأمر الثاني: فهو تربية الناس - والجيل الناشئ خصوصا - على هذا الإسلام المصفى من كل شائبة تربية إسلامية صحيحة منذ نعومة أظفاره، ورأس ذلك وأساسه وأسه: توحيد الله سبحانه، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دونه، فإن حاجة الخلق إلى ذلك وإلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، فحاجتهم إليه فوق حاجتهم للطعام والشراب، بل وإلى النَّفَس الذي لا حياة إلا به. هذا الأمر المهم العظيم الذي لأجله انقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، ودخلوا به الجنة أو النار، هو أجل ما يقضى فيه الأوقات، وتصرف في سبيله الأموال، بل وتبذل النفوس الغالية رخيصة لأجل إعلاء كلمة الله، فحري بنا أن نحرص كل الحرص على تعلم توحيد الله تعالى وتعليمه، والحرص على الابتعاد عما يناقضه من الشرك واتخاذ الصالحين والأنبياء والملائكة وغيرها معبودات مع الله، كما كان عليه أهل الجاهلية، الذين جاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفتهم في هذا الأمر العظيم، وفي غيره؛ ذلك أن جميع الرسل والأنبياء بعثوا بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال عز اسمه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وقد بقي الناس بعد آدم عشرة قرون على التوحيد، ثم حدث الشرك بشبهة تعظيم الصالحين، والدليل قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أسماء رجال صالحين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدَتْ» (1) . وهذا يدل على أهمية العلم الشرعي، والخسارة العظيمة بفقدانه، فلما حصل هذا أرسل الله نبيه نوحا عليه السلام إلى قومه لما غلوا في الصالحين، ونُسي العلم، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 59 - 60] وقد ذكر الله في سورة نوح وغيرها قصته معهم، واستكبارهم عن الإيمان، وإفراد الله بالعبادة، وأنه عليه السلام نوَّع الدعوة لهم؛ ليكون أنجع فيهم، فلم يؤمن معه إلا قليل، ثم أغرقهم الله، فأدخلهم جهنم، أعاذنا الله منها. وقد أخبر سبحانه أنه أرسل إلى عاد أخاهم من القبيلة هودا، وإلى ثمود أخاهم صالحا، وشعيبا إلى مدين، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وقال عز من قائل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] فكل الأنبياء بعثوا بالتوحيد كما تقدم. ولما أرسل الله نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كسر تلك الأصنام بعينها التي عبدها قوم نوح عليه السلام، والتي توارثها المشركون، وغيرها من الأصنام، وقد أرسل إلى قوم يتعبدون   (1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير باب: (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) برقم: 4920) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ويحجون ويتصدقون، ويحبون الله ويذكرونه كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين، قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فجدد لهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، وأخبرهم أن هذا التقرب حق لله وحده، ولا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا غيرهما. قال تعالى آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ - قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 11 - 15] وقد كان هؤلاء المشركون يقرون بأن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما فيهن، كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره. والدليل على ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] وغير ذلك من الآيات. فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في الإسلام، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، بأن لا يعبد إلا الله، ويكفر بما يعبد من دونه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الأنبياء والملائكة والصالحين والمقبورين وغيرهم، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وقال سبحانه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء لا يريدون إلا شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون. وهذا التوحيد هو معنى قولك (لا إله إلا الله) فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا صالحا، أو شجرة أو قبرا أو جنيا، فإن مشركي العرب لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق، فإنهم يعلمون أن ذلك هو الله وحده كما تقدم، وإنما أرادوا بالإله: الذي يقصد بالعبادة، فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ، وأن يكفروا بما يُعبد من دون الله، فأبوا عليه ذلك، وجرى ما هو معروف من نصر الله نبيه عليهم، والتمكين لدينه في الأرض، كما بينت ذلك في كتابي " سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم " (1) . إذا علمت ذلك، وعلمت الشرك بالله الذي حرمه الله أشد من تحريم الزنى، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وعرفت دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما وقع فيه فئام (2) من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشرك، وضممت إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم   (1) هو فصول فيما صح من السيرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذكر اهتمامه بتوحيد الله، وذكر أيامه وغزواته وسراياه، وأخلاقه الرفيعة، وشمائله الفاضلة، أسأل الله العظيم أن ييسر طباعته قريبا. (2) أي: جموع كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» وذو الخلصة: طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية (2) وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» (3) . إذا علمت ذلك أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] الثانية: الخوف العظيم من الشرك، فإن سادات الأولياء خافوا منه كمثل نبي الله وخليله إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال الله عنه أنه دعا ربه بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وقال نبي الله وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» (4) وخصوصا أن الله قص علينا في القرآن الكريم عن قوم موسى عليه السلام مع صلاحهم وعلمهم، وأن الله فضلهم على أهل زمانهم، بدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] مع ذلك طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله يعبدونه، كما أن للمشركين آلهة يعبدونها، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] يعني: تجهلون عظمة الله، وما ينبغي أن ينزه عنه من الشريك. واعلم أن الله سبحانه من حكمته أنه جعل لكل نبي عدوا، والدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]   (1) صحيح: رواه أبو داود في (الفتن والملاحم ذكر الفتن ودلائلها: 4252) . (2) متفق عليه: رواه البخاري في (الفتن باب: تغير الزمان حتى تعبد الأوثان: 7116) واللفظ له، ومسلم في (الفتن: 7298) وفيه: ". . حول ذي الخلصة "، وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية، بتباله. (3) رواه في (كتاب الفتن: 7299) . (4) رواه البخاري في " الأدب المفرد " (716) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 [الأنعام: 112] ، وقال تعالى في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (1) إذا علمت ذلك كله عظم فرحك بفضل الله وبرحمته، وزاد خوفك من طرائق الشياطين في صد الناس عن سبيل الله، فقد قال إمامهم إبليس لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] فقد قعد إبليس وجنوده من الشياطين على الطريق الموصلة إلى الله، ومعهم فصاحة وتزيين وشبه، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين. ولا تخف ولا تحزن إذا أقبلت على الله، وتوكلت عليه، وأصغيت إلى حجته وبيناته {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] و {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه، والموحد الواحد يغلب ألفا من علماء المشركين، قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على المسلم الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فلا يأتي صاحب باطل بحجة أو شبهة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة. ومن ذلك أن تعلم ما كان عليه أهل الجاهلية من أمور خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك من أهم المهمات التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة، وذلك   (1) رواه مسلم في (الجنة: 7207) ، قال في " لسان العرب ": فاجتالتهم الشياطين أي: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال، وجال واجتال إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب، واجتال الشيء إذا ذهب به، وساقه، والجائل: الزائل عن مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لتحذر منها، ثم تحذر منها، وتكون معرفتها زادا لك وسلاحا في وجه المشركين. فلقد كان البشر قبل البعثة المحمدية في جاهلية وشر، ثم أتى الله سبحانه بهذا الخير العظيم (دين الإسلام) كما روى البخاري ومسلم - واللفظ له- عن حذيفة بن اليمان قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: " نعم " فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: " نعم، وفيه دَخَن " قال: قلت: وما دَخَنه؟ قال: " قوم يستنُّون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر " قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها " فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: " نعم، هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك» (1) وفي رواية أخرى لمسلم (4785) : «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» . فالجاهلية كانت قبل البعثة، وقد يتلبس الإنسان المسلم بشيء من صفات الجاهلية، فيقال فيه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» (2) وكمثل الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، ويأتي الكلام على ذلك في أبواب الكتاب بإذن الله، وهذه لا يكفر صاحبها، فهي من أبواب الكبائر، أما التي يكفر صاحبها فمثل: دعاء غير الله، وطاعة العلماء والحكام في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله. ويأتي الكلام على هذا مفصلا بمشيئة الله، ويعرف كل من النوعين المكفِّر وغير المكفِّر بالدليل الشرعي من كتاب وسنة، وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم.   (1) متفق عليه: رواه البخاري في (المناقب علامات النبوة في الإسلام: 3606) ، ومسلم في (الإمارة: 4784) . (2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لأبي ذر، وتأتي القصة في المسألة [85] من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأدلة على وجوب مخالفة أهل الجاهلية: الأدلة كثيرة، فمنها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] فنهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، ويدخل فيه (كل من خالف شريعته، وأهواؤهم هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه) (1) . وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (راعنا) : حافظنا، من راعيته إذا تأملته وتعرفت أحواله، وكانت اليهود تقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبها بالمؤمنين، وهو بلغتهم سب بالرعونة، فينوونه، فنهى الله عنه المؤمنين (2) . بيان سوء عاقبة من اتبع أهل الجاهلية: جاءت أدلة صريحة في بيان العاقبة الشنيعة التي أعدها الله تعالى لمن خالف أمره، وتشبه بأعدائه، مما يدل على قبح الفعل، وشناعته، ومن هذه الأدلة:   (1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1 / 85) . (2) " التفسير الوجيز على هامش الكتاب العزيز " لكاتب هذه السطور، ص (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] ففي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أمته (1) . وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120] ولم يقل: دينهم؛ لأن ما هم عليه مجرد أهواء نفس، ومن ترك الدين اتبع الهوى لا محالة (2) . قال أبو العباس رحمه الله: (ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك) (3) . قال الله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] قال أبو العباس: (ثم قوله: فاستمتعتم وخضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي، وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين عند مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ذم لمن حاله كحالهم إلى يوم القيامة) (4) . وصف المتشبهين بما يفيد شناعة فعلهم: كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» (5) .   (1) انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية الكريمة. (2) التفسير الوجيز ص (22) . (3) اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 85 - 86) . (4) الاقتضاء (1 / 104 - 105) . (5) رواه البخاري في (الديات من طلب دم امرئ بغير حق: 6882) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قاعدة كلية عامة: أن هذه الأمة ستتبع سَنَن من كان قبلها. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها: شبرا بشبر، وذراعا بذراع. " فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: " ومن الناسُ إلا أولئك؟» (1) وقوله: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ تبعتُموهم» (2) . وفي ذلك مسائل: الأولى: العلم بذلك. الثانية: الحذر الشديد من مشابهة المشركين في أي شيء. الثالثة: الخوف الشديد من أن يتشبه بهم من غير قصد، ففيه: الرابعة والخامسة: أهمية العلم، والخسارة العظيمة بفقدانه. السادسة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخاف على أمته اتباعهم، فلذلك قال ما قال على جهة التعيير والتوبيخ. السابعة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «شبرا بشبر، وذراعا بذراع» كناية عن شدة الموافقة لهم في الكفر والمعاصي، وهو خبر معناه النهي عن اتباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من تشَبَّه بقوم فهو منهم» (3) . والتشبه يشمل كل شبه يكون في الأعياد والأخلاق والملابس والكلام وغير ذلك. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: " إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلْبَسْها» (4) والأمر يطول في هذا، ولعل فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.   (1) رواه البخاري: في (الاعتصام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم ": 7319) . (2) متفق عليه: رواه البخاري - واللفظ له - برقم (7320) ، ومسلم في (العلم: 6781) . (3) حسن صحيح: رواه أبو داود في (اللباس في لبس الشهرة: 4031) . (4) رواه مسلم: في (اللباس: 5434) ، والعصفر: نبات يصبغ به، وقد عصفرت الثوب فتعصفر. انظر: " لسان العرب " مادة: " عصفر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 إذا علمت هذا زاد حرصك على تعلم ذلك وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، خصوصا أن علماء هذه الأمة الخاتمة حذروا من سلوك مسالك الجاهلية النكراء، بعدما رأوا ما وقع فيه فئام الناس من البدع والمحدثات، والتشبه بأهل الجاهلية الجهلاء من الأميين والكتابيين، ووقعوا فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من نتائج ذلك تأليف الكتب المحذرة من الوقوع في ذلك، فألفت في ذلك مؤلفات عديدة، منها ما يتحدث عن البدع عموما، وفي ضمنه التحذير من مشابهة الكفار، ومنها ما هو خاص بالتحذير من مشابهة الكفار. ومن هذه المؤلفات هذا المؤلف الذي بين يديك، وهو " مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الجاهلية " ألف أصله الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد رحمه الله، وتوسع فيها على هذا النحو علامة العراق: الإمام أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله الألوسي رحم الله الجميع. وقد كنت عزمت على طباعته سنة 1413 هـ لكن ما يسر الله ذلك، ثم عزمت ثانية هذا العام 1422 هـ، فكانت هذه الطبعة، ومن رأى فيها شيئا من الخطأ فليبادر إلى نصيحتي مشكورا، بأن يبينه لي، وليكن رائده في هذا المجال وغيره النصح والإرشاد، والتواصي بالحق، ورحم الله عبدا دلني على خطئي، وأهدى إلي عيوبي، وليكن النصح مقرونا بالدليل من كتاب وسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وجزاه الله خيرا. هذا وصلى الله على عبده ونبيه محمد وعلى النبيين من قبله وسلم تسليما كثيرا. كتبه علي بن مصطفى خلوف الخميس 2 / 2 / 1432هـ عنوان المراسلات: دمشق: ص. ب 2625 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 [ شيء من ترجمة العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي رحمه الله ] شيء من ترجمة العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي رحمه الله - هو أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي. - ولد رحمه الله في 19 / 9 / 1273 هـ في بغداد من بلاد العراق. - نشأ رحمه الله في بيت علم ودين، فقد كان كثير من أسرته علماء وأدباء، فأبوه عبد الله (ت 1291) كان عالما، وكذلك جده أبو الثناء محمود صاحب " روح المعاني "، وإن كان عنده شيء من البدع، فالله يسامحه، ومن هؤلاء عمه نعمان خير الدين (1) صاحب " جَلاء العينين "، فقد كان خيِّرا دَيِّنا عالما وقورا. - بدأ أبو المعالي رحمه الله في طلب العلم في سن مبكرة جدا، فأخذ عن أبيه مبادئ العربية والخط، ثم بعد وفاة أبيه كفله عمه خير الدين فأخذ عنه، كما أخذ عن مشايخ بلده، ومنهم الشيخ إسماعيل بن مصطفى. - أَلَّفَ أبو المعالي رحمه الله مؤلفات كثيرة نافعة إن شاء الله، ومن هذه المؤلفات: * فتح المنان، وهو كتاب أتم به منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجيس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. * بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب. * شرح مسائل الجاهلية، وهو كتابنا هذا. * شرح منظومة عمود النسب. - لقد كان الشيخ رحمه الله على عقيدة ومنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم،   (1) لا يجوز التسمية بـ " خير الدين " ونحوها لما فيها من تزكية النفس المنهي عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يظهر ذلك جليا في مؤلفاته، وخاصة في " شرح مسائل الجاهلية " و " فتح المنان ". - تُوُفِّيَ أبو المعالي رحمه الله في اليوم الرابع من شهر شوال عام 1342 هـ على أثر مرض ألم به في أواخر شهر رمضان من العام نفسه، نسأل الله تعالى له الرحمة والنجاة من النار، وجزاه على ما قدم للمسلمين خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 [ مقدمة العلامة الألوسي ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا للدين المبين، وأنار لنا الصراط المستقيم بأوضح البراهين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، الذي أنقذ بشريعته الغراء من جهل الجاهلين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، الذين جاهدوا في الله حتى أتاهم اليقين. أما بعد: فيقول العبد المفتقر إلى عفو الله وغفرانه: محمود شكري الألوسيُّ البغداديُّ - كان الله تعالى له، وأحسن عمله، وأناله من الخير أمله-: إني وقفت على رسالة صغيرة الحجم، كثيرة الفوائد، تشتمل على نحو مائة مسألة من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الجاهلية من الأميين والكتابيين، وهي أمور ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أُخِذَتْ عن نبي من النبيين، ألفها الإمام العالم العلامة، القدوة الفَهَّامة محيي السُّنَّة السَّنِيَّة، ومجدد الشريعة النبوية، محدث عصره، وحافظ دهره، تذكرة السلف، وعمدة الخلف (1) تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه فسيح جنته. بيد أن مسائل تلك الرسالة في غاية الإيجاز، بل كادت تعد من قبيل الألغاز، قد عبر عن كثير منها بعبارة مجملة، وأتى فيها بدلائل ليست مشروحة ولا مفصلة، حتى أن من ينظرها يظن أنها فهرس كتاب، قد عدت فيه المسائل من غير فصول ولا أبواب، ولاشتمالها على تلك المسائل المهمة، الآخذة بيد المتمسك بها إلى منازل الرحمة، أحببت أن أعلق عليها شرحا يفصل مجملها، وتكشف معضلها،   (1) سقط بمقدار سطر، ومؤلف الأصل هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 من غير إيجاز مخل، ولا إطناب ممل، مقتصرا فيه على أوضح الأقاويل، ومبينا ما أورده من برهان ودليل، عسى الله أن ينفع بذلك المسلمين، ويهدي به من يشاء من عباده المتقين، فيكون سببا للثواب، والفوز يوم العرض والحساب، والأمن من أليم العذاب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. [ الأولى التعبد بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى ] قال المصنف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غناء لمسلم عن معرفتها. وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ ... ًًًًًًوَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ وأهم ما فيها وأشده خطرا عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان دين الجاهلية والإيمان به تمت الخسارة والعياذ بالله تعالى، كما قال عز ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المسألة الأولى أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى، ويرون ذلك من تعظيم الصالحين الذي يحبه الله، ويريدون - أيضا - بذلك شفاعتهم؛ لظنهم أنهم يحبون ذلك كما قال تعالى في أوائل " الزمر " [2 - 3] : {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 2 - 3] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبرهم أنه دين الله الذي لا يُقْبَلُ من أحد سواه، وأن مَنْ فَعَلَ ما استحسنوا حرَّم الله عليه الجنة، ومأواه النار. وهذه المسألة هي الدين كله، ولأجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى في " البقرة " [193] : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 [الثانية أنهم متفرقون ويرون السمع والطاعة مهانة ورَذالة] الثانية أنهم متفرقون، ويرون السمع والطاعة مهانة ورَذالة فأمرهم الله بالاجتماع، ونهاهم عن التفرقة: فقال عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103] يقال: أراد سبحانه بما ذُكِرَ ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام، فزالت الأحقاد، قاله ابن إسحاق، وكان يوم بُعاث آخر الحروب التي جرت بينهم، وقد فصل ذلك في " الكامل " (1) . ومن الناس من يقول: أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض، ومنه حرب البسوس، كما نقل عن الحسن رضي الله عنه. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16] إلى غير ذلك من الآيات الناصَّة على النهي عن الاستبداد والتفرق وعدم الانقياد والطاعة مما كان عليه أهل الجاهلية.   (1) انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (1 / 312) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 [ الثالثة أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة ] الثالثة أن مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له - عندهم - فضيلة، وبعضهم يجعله دينا فخالفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة والسمع والطاعة والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد. وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» . وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» (1) . وروى - أيضا - «عن جُنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عُبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايَعَنا، فكان فيما أخذ علينا: " أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» (2) . والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.   (1) متفق عليه: أخرجه البخاري في (الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " سترون بعدي أمورا تنكرونها ": 53 70) واللفظ له، ومسلم في (الإمارة: 4791) . (2) متفق عليه: أخرجه البخاري في (الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " سترون بعدي أمورا تنكرونها ": 7055 و7056) وبنحوه مسلم في (الإمارة: 4771) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [ الرابعة أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد ] الرابعة أن دينهم مبني على أصول: أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23 - 24] فأمرهم الله تعالى بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . . . إلى غير ذلك مما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا في ربقة التقليد، لا يُحكِّمون لهم رأيا، ولا يُشغِلون فكرا؛ فلذلك تاهوا في أودية الجهالة، وهكذا كل من سلك مسلكهم في أي عصر كان (1) .   (1) وقد مشى على هذا المسلك الجاهلي من يفرض تقليد الأئمة والعلماء على المسلمين، ويقول إنه واجب شرعي، من المنتسبين للعلم والفتوى أصلحهم الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 [ الخامسة الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم ] الخامسة الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم فحذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . . . إلى آيات أُخَرَ تنادي ببطلان الاقتداء بالفساق وأهل الضلالة والغي، وذلك من سَنَن الجاهلية وطرائقهم المعوجة (1) .   (1) قريب من هذه المسألة: المسألة الثانية والسبعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 [ السادسة الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة ] السادسة الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة من غير تحكيم العقل، والأخذ بالدليل الصحيح وقد أبطل الله تعالى ذلك بقوله في " طه " [49 - 54] : {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى - كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 49 - 54] إلخ. وقال تعالى في " القصص " [36 - 37] : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 36 - 37] وقال عز ذكره في سورة " المؤمنين " [23 - 25] : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 23 - 25] وقال تعالى في " ص " [6 - 7] {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 6 - 7] فجعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم، ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم، وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم أعين يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تعليله، وهكذا أخلافهم وَوُرَّاثهم، قد تشابهت قلوبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [ السابعة الاعتماد على الكثرة والاحتجاج بالسواد الأعظم ] السابعة الاعتماد على الكثرة، والاحتجاج بالسواد الأعظم، والاحتجاج على بطلان الشيء بقلة أهله فأنزل الله تعالى ضد ذلك وما يُبْطِله، فقال في " الأنعام " [116 - 117] : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 116 - 117] فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب، فالحق أحق بالاتباع وإن قل أنصاره كما قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] فأخبر الله عن أهل الحق أنهم قليل، غير أن القلة لا تضرهم: تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلٌ فالمقصود أن من له بصيرة ينظر إلى الدليل، ويأخذ ما يستنتجه البرهان وإن قل العارفون به، المنقادون له، ومن أخذ ما عليه الأكثر، وما ألِفَتْهُ العامة من غير نظر الدليل فهو مخطئ، سالك سبيل الجاهلية، مقدوح عند أهل البصائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 [ الثامنة الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبا ] الثامنة الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبا فرد الله تعالى ذلك بقوله في " هود " [116] : {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] ومعنى الآية: {فَلَوْلَا كَانَ} [هود: 116] تحضيض فيه معنى التفجُّع، أي: فهلَّا كان {مِنَ الْقُرُونِ} [هود: 116] أي: الأقوام المقتربة في زمان واحد {مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] أي: ذَوُو خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذوو فضل، على أن يكون البقية اسما للفضل، والهاء للنقل، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي: من خِيارهم، ومنه قولهم: " في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا "، {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116] الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قَصَصهم، وفُسِّر الفساد بالكفر وما اقترن به من المعاصي، {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] استثناء منقطع أي: ولكن قليلا ممن أنجيناهم؛ لكونهم كانوا ينهون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 [التاسعة الاستدلال على المطلوب والاحتجاج بقوم أُعْطوا من القوة في الفهم والإدراك وفي القدرة والْمُلْك ظَنًّا أن ذلك يمنعهم من الضلال] فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله سبحانه في " الأحقاف " [24 - 26] : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 24 - 26] ومعنى الآية: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ} [الأحقاف: 26] أي: قوَّيْنا عادا وأقدرناهم، و " ما " في قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] موصولة أو موصوفة، و " إن " نافية أي: في الذي، أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] ولم يكن النفي بلفظ " ما " كراهة لتكرير اللفظ، وإن اختلف المعنى، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26] ليستعملوها فيما خلقت له، ويعرفوا بكل منها ما نِيطَتْ به معرفته من فنون النعم، ويستدل بها على شؤون منعمها عز وجل، ويداوموا على شكره جل ثناؤه، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} [الأحقاف: 26] حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل، {وَلَا أَبْصَارُهُمْ} [الأحقاف: 26] حيث لم يجتلوا بها الآيات الكونية المرسومة في صحائف الأعمال، {وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ} [الأحقاف: 26] حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى {مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] أي: شيئا من الأشياء، و" من " مزيدة للتوكيد، وقوله: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26] تعليل للنفي، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، ويقولون: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] فهذه الآية تُبْطل الاحتجاج بقوم أُعْطوا من القوة في الفهم والإدراك وفي القدرة والملك؛ ظَنًّا أن ذلك يمنعهم من الضلال، ألا ترى أن قوم عاد - لما أخبر عنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 التنزيل - كانوا من القوة والبسطة في الأموال والأبدان والإدراك وسعة الأذهان وغير ذلك ما لم يكن مثله للعرب الذين أدركوا الإسلام، ومع ذلك ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا الرسل بالأباطيل، فالتوفيق للإيمان بالله ورسله، والإذعان للحق، وسلوك سبله، إنما هو فضل من الله - تعالى - لا لكثرة مال ولا لحسن حال، ومن يرد الحق ويستدل بكون من هو أحسن حالا منه لم يقبله، ولم يحكم عقله، ويتبع ما يوصل إليه الدليل، فقد سلك سبيل الجاهلية، وحاد عن الحجة المرضية. ومثل هذه الآية: قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] كان اليهود يعلمون من كتبهم رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله سيرسل نبيا كريما من العرب، وكانوا من قبل يستفتحون على المشركين ببعثته، ويقولون: يا ربنا أرسل النبي الموعود إرساله؛ حتى ننتصر على الأعداء، فلما جاءهم ما عرفوا، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به؛ حسدا منهم أن تكون النبوة في العرب، وهم - بزعمهم - أحسن أثاثا ورِئْيا، ولم يعلموا أن النبوة والإيمان بها فضل من الله يؤتيه من يشاء. ومثلها - أيضا - قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146 - 147] الضمير في قوله: (يعرفونه) عائد على العلم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] فكتمانهم الحق، وعدم جريهم على مقتضى علمهم لما فيهم من الجاهلية، والاعتقاد أن فضل الله مقصور عليهم، لا يتعداهم إلى غيرهم. وآية " الأنعام " موافقة لهذه الآية لفظا ومعنى، وهي قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 19 - 20] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 [ العاشرة الاستدلال بعطاء الدنيا على محبة الله تعالى ] العاشرة الاستدلال بعطاء الدنيا على محبة الله تعالى قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ - وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 34 - 39] وقال في سورة " القصص " [46 - 50] : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ - قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 46 - 50] وفي آيات أخرى في سورة " القصص " [76 - 78] يقول الله سبحانه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 76 - 78] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 إلى آخر الآية. فقد كفانا الله تعالى إبطال هذه الْخَصلة الجاهلية بقوله في الآية الأولى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ: 36] وفي الآية الأخرى بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} [القصص: 78] فعلمنا من ذلك أن محبة الله ورضى الله إنما يكون بطاعته والانقياد لرسله، والإذعان للحق باتباع البرهان. وأما كثرة المال، وسعة الرزق، وعيش الرخاء، فلا دليل فيه على نجاة المنعَم عليه بمثل ذلك، ولو كانت الدنيا وما فيها تعادل عند الله جناح بعوضة ما سقى مَنْ عصاه شربة ماء. قال سبحانه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وعلى ذلك قول القائل: كَمْ عَالِمٍ عَالِمٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا ومما ينسب لبعض الأكابر: رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا ... لَنَا عِلْمٌ وَلِلْأَعْدَاءِ مَالُ فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ... وَإِنَّ الْعِلْمَ بَاقٍ لَا يَزَالُ والشواهد كثيرة. والمقصود أن ما كان عليه أهل الجاهلية من كون زخارف الدنيا من الأدلة على قرب من حازها من الله وقبوله عنده، فقول بعيد عن الحق، ومذهب باطل لا ينبغي لمن له بصيرة أن يُعَوِّلَ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 [ الحادية عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به ] الحادية عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به، وضعف فهم من أخذ به، على ما يدل عليه قول قوم نوح له كما حكاه عنهم الكتاب الكريم قال تعالى في سورة " الشعراء " [105 - 115] : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 105 - 115] فانظر إلى قوم نوح كيف استنكفوا من اتباع نبيهم لسبب اتباع الضعفاء له، وذلك لكون مطمح أنظارهم الدنيا، وإلا لو كانت الآخرة همهم لاتبعوا الحق أينما وجدوه، ولكن لجاهليتهم أعرضوا عن الحق لاتباع شهواتهم. وانظر إلى هِرَقْلَ لما كان من العقل والبصيرة على جانب عظيم اعتقد اتباع الضعفاء دليلا على الحق، «فقال في جملة ما سأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. " وسألتك عن أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل» (1) . ومثل ذلك قوله تعالى في سورة " هود " [25 - 27] : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25 - 27] الآيات.   (1) متفق عليه: رواه البخاري في (بدء الوحي: 7) واللفظ له، من غير لفظه: " عن "، وبنحوه مسلم في (الجهاد: 4607) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 [الثانية عشرة رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص وطلب الدنيا] الثانية عشرة من خصال أهل الجاهلية: رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص، وطلب الدنيا فرد الله عليهم بقول نبيهم الذي حكاه الله عن نوح في الآية الأولى المذكورة في المسألة الحادية عشرة بقوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 111 - 113] الشعراء: [111 - 113] . ومقصودهم أن أتباعك فقراء، آمنوا بك؛ لينالوا مقصدهم من العيش، لا أن إيمانهم كان لدليل يقتضي صحة ما جئت به؛ فلهذا رد عليهم بما رد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 [ الثالثة عشرة الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء تكبرا وأنفة ] الثالثة عشرة من خصال أهل الجاهلية: الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء؛ تكبرا وأنفة فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله في سورة " الأنعام " [52 - 53] : {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52 - 53] ومثل ذلك قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2] وغير ذلك. وحاصل الرد أن من آمن من هؤلاء الضعفاء إنما كان إيمانه عن برهان، لا كما زعم خصومهم، ولست أنت بمسؤول عنهم، ولا هم مسؤولون عن حسابك، فطردُهم عن باب الإيمان من الظلم بمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 [ الرابعة عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا ] الرابعة عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا قال تعالى في سورة " الأحقاف " [11] : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] بعد قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 [ الخامسة عشرة الاستدلال بالقياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح وجهلهم بالجامع والفارق ] الخامسة عشرة الاستدلال بالقياس الفاسد، وإنكار القياس الصحيح، وجهلهم بالجامع والفارق قال تعالى في سورة " المؤمنين " [24 - 25] : {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 24 - 25] ومعنى الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [المؤمنون: 23] شروع في بيان إهمال الناس، وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم قبل هذه الآية، وما حاقهم من زوالها، وفي ذلك تخويف لقريش، وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، فقال متعطفا عليهم، ومستميلا لهم إلى الحق: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المؤمنون: 23] أي: اعبدوه وحده، {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أتعرفون ذلك، أي: مضمون قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده، وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله إياه، فضلا عن استحقاق العبادة، فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه، {فَقَالَ الْمَلَأُ} [المؤمنون: 24] أي: الأشراف الذين كفروا من قومه، وُصِفَ الملأ بالكفر مع اشتراك الكل فيه: للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التميز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام، أو لم يؤمن به أحد من أشرافهم، كما يفصح عنه قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] وهذا القول صدر منهم لعوامهم، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] أي: في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه، وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية، وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام، وإغراء لهم على معاداته، والتفضل: طلب الفضل، وهو كناية عن السيادة، كأنه قيل: يريد أن يسودكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24] بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام. أي: ولو شاء الله تعالى إرسال الرسل لأرسل رسلا من الملائكة، وإنما قيل: لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل، خاصة والكلام على تقدير مضاف، أي: ما سمعنا بهذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد؛ فإن السماع بمثله كاف في القبول، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 25] أي: ما هو إلا رجل به جنون أو جن يخبلونه؛ ولذلك يقول ما يقول، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] أي: فاحتملوه، واصبروا عليه، وانتظروا لعله يفيق مما هو فيه: محمول على مرامي أحوالهم في المكابرة والعناد، وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية، وإرادة التفضل، إلى وصفه بما ترى، وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا، وأرزنهم قولا، وهو محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة - قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون -. والقياس الفاسد والصحيح، والجامع والفارق مفصل في كتب الأصوليين. فبين الرسل عليهم السلام وسائر الناس مشابهة من جهة البشرية ولوازمها الضرورية، فيصح حينئذ قياس الرسل على غيرهم فيها، وعليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] وبين الرسل والأنبياء عليهم السلام وغيرهم من البشر فروق كثيرة: منها: أن الله تعالى اصطفاهم على الناس برسالاته وبكلامه ووحيه، فلا يقاس أحد من الناس بهم حينئذ من هذه الجهة، كما لا يصح قياس غيرهم بهم في سائر خصائصهم التي فُصِّلَتْ في غير هذا الموضع، فالجاهلية لم يميزوا بين القياس الصحيح والفاسد، ولا عرفوا الجامع ولا الفارق، كما سمعت من قياسهم الرسل على غيرهم، وهكذا أتباعهم اليوم ومن هو على شاكلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [ السادسة عشرة الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء ] السادسة عشرة الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء كقوله تعالى في سورة " التوبة " [30 - 32] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ - يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 30 - 32] فاتخاذ أحبار الناس أربابا يحللون ويحرمون، ويتصرفون في الكون (1) ويُنادَون في دفع ضر أو جلب نفع من جاهلية الكتابيين، ثم سرى إلى غيرهم من جاهلية العرب، ولهم اليوم بقايا في مشارق الأرض ومغاربها؛ تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم. . .» الحديث (2) حتى نرى غالب الناس اليوم معرضين عن الله، وعن دينه الذي ارتضاه، متوغلين في البدع، تائهين في أودية الضلال، مُعَادين للكتاب والسنة ومن قام بهما، فأصبح الدين منهم في أنين، والإسلام في بلاء مبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   (1) حسب ما يزعمون. (2) رواه البخاري في (الاعتصام باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم ": 7320) واللفظ له، ومسلم في (العلم: 6781) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [ السابعة عشرة اعتذارهم عن اتباع الوحي بعدم الفهم ] السابعة عشرة اعتذارهم عن اتباع الوحي بعدم الفهم قال تعالى في سورة " البقرة " [87 - 88] : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 87 - 88] وفي سورة " النساء " [155] : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] الغُلْفُ: جمع أَغْلَفَ، كأحمر وحمر، وهو الذي لا يفقه، وأصله ذو القَلَفَة: الذي لم يختن، أو جمع غِلاف، ويجمع على غُلُف بضمتين أيضا. وأرادوا على الأول: قلوبنا مغشَّاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها. وهذا كقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] قصدوا به إقناط النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية. ومنهم من قال: معنى غُلْف: مغشَّاة بعلوم من التوراة تحفظها أن يصل إليها ما تأتي به، أو بسلامة من الفطرة كذلك. وعلى الثاني: أنها أوعية العلم، فلو كان ما تقوله حالا وصدقا لوعته. قال ابن عباس (1) وقتادة والسُّدي (2) أو مملوءة علما، فلا تسع بعدُ شيئا، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره.   (1) أخرجه - بنحوه - ابن جرير في تفسيره (1 / 407) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (1 / 272) . (2) نسب هذا التفسير إليهما الألوسي في روح المعاني (1 / 319) ، ولم يذكر من أخرجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومنهم من قال: أرادوا أنها أوعية العلم؛ فكيف يحل لنا اتباع الأمي؟ (1) ولا يخفى بُعْدُهُ (2) . وقال تعالى في سورة " هود " [89 - 91] : {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 89 - 91] وهذه الآية بمعنى الآية الأولى، وقد كذَّبهم الله تعالى في دعواهم هذه في الناس كثيرة، وذكر أن السبب في عدم الفهم إنما هو الطبع على القلوب بكفرهم، لا القصور في البيان والتفهيم. وما أحسن قول القائل: وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ صُورَتَهُ ... وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ   (1) وهو عطية العوفي كما في تفسير ابن جرير (1 / 407) ، وابن أبي حاتم (1 / 272) . (2) روح المعاني (1 / 319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [ الثامنة عشرة أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم ] الثامنة عشرة من خصال الجاهلية: أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] ومعنى: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل في تقرير حكمها، ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل - وهو الظاهر فيه - إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم، وإما أنفسهم، ومعنى الإنزال عليهم: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام. وذُمُّوا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، ودسائس اليهود مشهورة، أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام، ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم، كما هو دَيْدَنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} [البقرة: 91] أي: هم مقارنون لِحَقِّيَّتِهِ، أي: عالمون بها. {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] لأن كُتُب الله يُصَدِّق بعضها بعضا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر؛ لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها. {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ذلك تبكيتا لهم، حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة، وهي لا تُسَوِّغُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 [ التاسعة عشرة الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر ] التاسعة عشرة من خصالهم: الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر كما قال تعالى في سورة " البقرة " [101 - 102] : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101 - 102] والكلام على هذه الآية في التفاسير مشهور. وهذه الخصلة الجاهلية موجودة اليوم في كثير من الناس، لا سيما من انتسب إلى الصالحين وهو عنهم بمراحل، فيتعاطى الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، فأعرضوا ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقاه إليهم شياطينهم، وادعوا أن ذلك من الكرامات، مع أن الكرامة لا تصدر عن فاسق، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقهم ظاهر للعيان، ولذا اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وفي مثلهم قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 [ العشرون تناقضهم في الانتساب ] العشرون تناقضهم في الانتساب فينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام وإلى الإسلام مع إظهارهم ترك ذلك، والانتساب إلى غيره. [ الحادية والعشرون تحريف كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ] الحادية والعشرون تحريف كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ولكم في هذا العصر من هو على شاكلتهم، تراه يصرف النصوص ويؤولها إلى ما يشتهيه من الأهواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 [ الثانية والعشرون تحريف العلماء لكتب الدين ] الثانية والعشرون تحريف العلماء لكتب الدين قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78 - 79] ومن نظر إلى قضاة هذا الزمان وما تلاعبوا به من الأحكام، وصرف النصوص إلى ما تهواه أنفسهم، وتبديل الحق وإبطاله، بما ينالونه من الرِّشا وغير ذلك مما هم عليه اليوم، تبين لهم من ذلك بحر لا ساحل له. وهكذا بعض المبتدعة وغلاة القبور، وقد بُيِّنَ حالهم في غير هذا الموضع. [ الثالثة والعشرون معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة وموالاتهم لمذهب الكفار ] الثالثة والعشرون وهي من أعجب المسائل والخصال: معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة، وموالاتهم لمذهب الكفار الذين فارقوفم أكمل الموالاة كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاهم بدين موسى، واتبعوا كتب السحر، وهو من دين آل فرعون. ومثل هؤلاء في الأمة الإسلامية كثير، هجروا السُّنَّة، وعادوها، ونصروا أقوال الفلاسفة وأحكامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 [ الرابعة والعشرون عدم قبولهم من الحق إلا ما قالته طائفتهم والكفر بما مع غيرهم من الحق ] الرابعة والعشرون أنهم لما افترقوا - وكل طائفة لا تقبل من الحق إلا ما قالته طائفتهم - كفروا (1) بما مع غيرهم من الحق قال تعالى في " سورة البقرة " [113] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] ولا شك أن هذه من الخصال الجاهلية، وعليه اليوم كثير من الناس، لا يعتقد الحق إلا معه، لا سيما أرباب المذاهب، يرى كل أهل مذهب أن الدين معه لا يعدوه إلى غيره، و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا لِلَيْلَى ... وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا (2) والحزم أن ينظر إلى الدليل، فما قام عليه الدليل فهو الحق الحريُّ أن يُتَلَقَّى بالقبول، وما ليس عليه برهان ولا حجة يُنْبَذ وراء الظهور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويُرَد إلا من اصطفاه الله لرسالته.   (1) في الأصل: " وكفروا " ولعل الصواب ما أثبته. (2) لا أرى الاستشهاد بمثل هذه الأبيات، خصوصا في الكتب الشرعية، ففي ترتيب القاموس المحيط (ص 620) جـ 4، مادة: " وصل ": ووَصَلَهُ وَصْلًا وَصِلَةً. وَوَاصَلَهُ مُوَاصَلَةً وَوِصَالًا: كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [ الخامسة والعشرون ادعاء كل فرقة أنها هي الناجية ] الخامسة والعشرون أنهم لما سمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الافتراق: «وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» ادعى كل فرقة أنها هي الناجية كما حكى الله عن اليهود والنصارى في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بَيَّنَ في آخر الحديث المراد من الفرقة الناجية، فقال: «وهم ما كنت أنا عليه وأصحابي» أو كما قال (1) . ورد الله تعالى عليهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] والمقصود أنهم ليس لهم برهان على هذه الدعوى، بل الدليل على خلاف ذلك. وأبو العباس تقي الدين تكلم على حديث الفِرَق في كتابه " منهاج السنة " بما لا مزيد عليه، حيث استدل به الرافضي على حقية (2) مذهبه وبطلان مذهب أهل السنة، فراجعه إن أردته (3) .   (1) رواه بلفظ: " ما أنا عليه وأصحابي " الترمذي في جامعه (كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة: 2641) - وهو حديث حسن - وغيره في غيره. (2) في الأصل: حقيقة، ولعل الصواب ما أثبته. (3) منهاج السنة النبوية (3 / 443 - 506) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 [ السادسة والعشرون أنهم أنكروا ما أقروا أنه من دينهم ] السادسة والعشرون أنهم أنكروا ما أقروا أنه من دينهم كما فعلوا في حج البيت، فتعبدوا بإنكاره والبراءة منه مع ذلك الإقرار. كما قال تعالى في سورة " البقرة " [125] : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] إلى أن قال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132] يقال: إن سبب نزول قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ} [البقرة: 130] ) إلخ ما رُوِيَ أن عبد الله بن سلَام دعا ابني أخيه: سَلَمَةَ ومهاجِرا إلى الإسلام، فقال: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت (1) انتهى (2) .   (1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (1 / 147) ونسبه لمقاتل. (2) من أدلة هذه المسألة: قوله تعالى: "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب" [البقرة: 113] . قال ابن عباس: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أن يكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى عليه السلام، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه. اهـ. ذكره ابن كثير في " تفسيره "، وهذا من تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم، وهو من مسائل الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 [ السابعة والعشرون التعبد بكشف العورات ] السابعة والعشرون التعبد بكشف العورات قال تعالى في سورة " الأعراف " [28 - 29] : {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29] قال بعض المفسرين: الفاحشة هنا: الفعلة القبيحة المتناهية في القبح، والتاء إما لأنها مُجراة على الموصوف المؤنث، أي: فعلة فاحشة، وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية، والمراد بها هنا: عبادة الأصنام، وكشف العورة في الطواف، ونحو ذلك. وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية حذف، أي: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28] فنهوا عنها {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] محتجين بأمرين: بتقليد الآباء، والافتراء على الله. وكان من سُنَّة الْحُمْس (1) أنهم لا يخرجون أيام المواسم إلى عرفات، إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلأون، ولا يأقطون، ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة، ولا يغزلون صوفا ولا وبرا، ولا يدخلون بيتا من الشعر والْمَدر، وإنما يكتنُّون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يَطَّرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يتركوا ثياب الحل، ويستبدلوها بثياب الحرم، إما اشتراء، وإما عارية، وإما هبة، فإن وجدوا ذلك فيها وإلا طافوا بالبيت عَرايا.   (1) الحمس: قريش وما ولدت، ومن دان بدينها، وقد سموا كذلك من باب أنهم تحمسوا في دينهم، وهو الشدة في الدين والصلابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، غير أن المرأة كانت تطوف في درج مُفَرَّج القوائم والمواخير. قالت امرأة وهي تطوف بالبيت: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله أختم مثل القعب باد ... ظله كأن حمى خيبر تمله وكلفوا العرب أن يفيضوا من مزدلفة، وقد كانوا يفيضون من عرفة، إلى غير ذلك من الأمور التي ابتدعوها وشرعوها مما لم يأذن به الله. ومع ذلك كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وما ذلك إلا لجاهليتهم. وغالب من ينتمي إلى الإسلام اليوم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، فمنهم من اتخذ ضرب المعازف وآلات اللهو عبادة يتعبدون بها في بيوت الله ومساجده، ومنهم من اتخذ الطواف على القبور والقصد إليها والنذور أخلص عبادته وأفضل قرباته، ومنهم من ابتدع الرهبانية والحيل الشيطانية، وزعم أنه سلك سبيل الزهاد وطريق العباد، ومقصده الأعلى نيل شهواته الحيوانية، والفوز بهذه الدنيا الدنية، إلى غير ذلك مما يطول، ولا يعلم ماذا يقول. إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ (1) .   (1) هذا البيت لأبي العتاهية كما في ديوانه (ص 209) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 [ الثامنة والعشرون التعبد بتحريم الحلال ] الثامنة والعشرون التعبد بتحريم الحلال فَرَدَّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله في سورة " الأعراف " [31 - 33] : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33] ومعنى الآيات: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي: ثيابكم لمواراة عوراتكم عند طواف أو صلاة. وسبب النزول: أنه كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة، حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة، فتعلق على سُفْلها سُيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الْحُمْر من الذباب، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] مما طاب لكم (1) . قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى الآية. وفيه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا.   (1) روى مسلم في (التفسير: 7551) عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: مَنْ يُعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بتحريم الحلال، كما هو المناسب لسبب النزول. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] بل يبغضهم، ولا يرضى أفعالهم. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] من الثياب وكل ما يُتَجَمَّل به، وخلقها لنفعهم من الثياب كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف. {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] أي: المستلذَّات، وقيل: المحلَّلات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] أي: هي لهم بالأصالة لمزيد كرمهم على الله تعالى والكفرة - وإن شاركوهم فيها - فبالتبع، فلا إشكال في الاختصاص. {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] أي: لا يشاركهم فيها غيرهم. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] أي: مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لمن يعلم ما في تضامينها من المعاني الرائقة. {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] أي: ما تزايد قبحه من المعاصي، ومنه ما يتعلق بالفروج. {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] بدل من الفواحش، أي: جهرها وسرها. وعن البعض: {مَا ظَهَرَ} [الأعراف: 33] الزنى علانية، {وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] الزنى سرا (1) وكانوا يكرهون الأول، ويفعلون الثاني، فنهوا عن ذلك مطلقا. وعن مجاهد: {مَا ظَهَرَ} [الأعراف: 33] التعري في الطواف، {وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] الزنى. والبعض يقول: الأول: طواف الرجال بالنهار، والثاني: طواف النساء بالليل عاريات. {وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] أي: ما يوجب الإثم، وأصله الذم، ثم أطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب، وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش.   (1) وهذا أحد أقوال ابن عباس في الآية، وبه قال سعيد بن جبير، كما في زاد المسير (3 / 34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ومنهم من قال: إن الإثم هو الخمر، وعليه أهل اللغة (1) وأنشدوا له قول الشاعر: نهانا رسول الله أن نقرب الزنى ... وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا وقول الآخر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول [ التاسعة والعشرون الإلحاد في أسمائه وصفاته ] التاسعة والعشرون الإلحاد في أسمائه وصفاته قال سبحانه في سورة " الأعراف " [180] : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] تفسير هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى، وكيفيه المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه، وعما يليق بشأنه إثر بيان غفلتهم التامة، وضلالتهم الطامة. {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] إما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم: دعوته زيدا، أو بزيد، أي: سميته، أو الدعاء بمعنى النداء كقولهم: دعوت زيدا، أي: ناديته. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] أي: يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل، يقال: أَلْحَدَ إذا مال عن القصد والاستقامة، ومنه: لَحْد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح، فإنه في وسطه. والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بلا توقيف فيه، أو بما يُوهِم معنى فاسدا، كما في قول أهل البدو: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخي، ونحو ذلك، فالمراد بترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم، لا أسماؤه تعالى حقيقة، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن   (1) أنكر بعض أهل اللغة أن يكون الإثم من أسماء الخمر، انظر: اللسان " أثم "، وتاج العروس " أثم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 يقال: يُلْحِدون بها (1) . وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وهذه الآية في سورة " الرعد ". عن قتادة وابن جريج ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية، وقد كتب فيه علي رضي الله عنه: " بسم الله الرحمن الرحيم "، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة. ومنهم من قال: «سمع أبو جهل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا الله يا رحمن "، فقال: إن محمدا ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين، فنزلت» (2) . وعن بعضهم أنه لما قيل لكفار قريش: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60] قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] فنزلت (3) . وقيل غير ذلك مما يطول. وقال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 23] وهذه الآية إخبار أن أهل الجاهلية كانوا يلحدون في صفاته، كما كانوا يلحدون في أسمائه تعالى.   (1) ومن ذلك قول بعضهم: يا أبا غيمة زرقاء، يا ساتر، يا ستار، يا معطي، يا معين، يا مجير، يا هو، يا موجود في كل وجود - وهذا كفر أكبر نسأل الله العافية، ومثلها في الكفر: يا من لا هو إلا هو - وعلة الوجود، والعلة الأولى، والذات الإلهية. (2) ذكر هذا الأثر البغوي في تفسيره (3 / 19) ، وابن الجوزي في تفسيره (4 / 329) . (3) ذكره البغوي في تفسيره (3 / 19) ، والواحدي في أسباب النزول (ص 273) ، وابن الجوزي في زاد المسير (4 / 329) ، ونسبوه لابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود، قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر: قرشي وثقفيان، أو ثقفي وقرشيان، كثير لحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا أصواتنا يسمعه، وإذا لم نرفع لم يسمع، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] ) إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] » (1) . فهذا هو الإلحاد في الصفات. وأنت تعلم أن ما عليه أكثر المتكلمين المسلمين من الإلحاد في الأسماء والصفات فوق ما كان عليه أهل الجاهلية، فسموا الله بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ومنهم من قال: ليس لله صفات قامت به، ومنهم من قال: صفاته ليست عين ذاته ولا غيره، ومنهم من قال: إن صفاته غيره، ومنهم من قال: إن الله لم يتكلم بالكتب التي أنزلها، وأثبتوا له الكلام النفسي، وأنه لم يكلم أحدا من رسله، إلى غير ذلك من الإلحاد الذي حشوا به كتبهم، وملؤوها من الهذيان، وظنوا أن الآية مختصة بأهل الجاهلية، وما دروا أنهم الفرد الكامل لعمومها (2) على العرش استوى [طه: 5] ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. . ومن بصره الله تعالى ونور قلبه أعرض عن أخذ عقائده من كتب هؤلاء الطوائف، وتلقى معرفة إلهه من كتب السلف المشتملة على نصوص الكتاب والسنة.   (1) رواه أحمد في المسند (1 / 381 - 408 - 426 - 442 - 443) ، والبخاري بنحوه في (التفسير وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين: 4817) ، وفي (التوحيد وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم: 7521) ، ومسلم بنحوه في (صفات المنافقين وأحكامهم: 7029) ، والترمذي بنحوه برقم (3248 و 3249) ، والنسائي في السنن الكبرى (كتاب التفسير قوله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم: 11468) (6 / 451) . (2) وقد قال بعض هؤلاء الملاحدة: إن الله في الكون كالزبدة في الحليب يعني (مبعثر) تعالى الله عن ذلك، وقالوا لوالدي - حفظه الله - يوما وقد كان معهم: أترى هذا الكلب، فقال: نعم، قالوا: فيه جزء من الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأين هم من عقيدة الأنبياء والمؤمنين في علو الرحمن فوق عرشه فوق سماواته، وأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 [ الثلاثون نسبة النقائص إليه سبحانه كالولد والحاجة ] الثلاثون نسبة النقائص إليه سبحانه كالولد والحاجة فإن النصارى قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وطائفة من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقوم من الفلاسفة قالوا بتوليد العقول، وقوم من اليهود قالوا: العزير ابن الله (1) إلى غير ذلك. وقد نزه الله نفسه عن كل ذلك ونفاه بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] وقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151 - 152] وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101] وهذا يعم جميع الأنواع التي تذكر في هذا الباب عن بعض الأمم، كما أن ما نفاه من اتخاذ الولد يعم - أيضا - جميع أنواع الاتخاذات، لا اصطفاؤه. كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] قال السُّدِّيُّ: قالوا: إن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل: أن ولدك بِكْري من الولد، فأُدْخِلُهم النارَ، فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل.   (1) هذا قولهم كلهم، قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله [التوبة 30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ - وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29] وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 51 - 52] إلى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} [النحل: 56] إلى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] وقال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا - أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا - قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 39 - 42] وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ - أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ - أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ - فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ - سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ - مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ - إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 149 - 163] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 - 23] إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] قال بعض المفسرين: {جُزْءًا} [الزخرف: 15] أي: نصيبا وبعضا. وقال بعضهم: جعلوا لله نصيبا من الولد. وعن قتادة ومقاتل: عدلا. وكلا القولين صحيح، فإنهم يجعلون له ولدا، والولد يشبه أباه. ولهذا قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [الزخرف: 17] أي: البنات. كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: 58] فقد جعلوها للرحمن مثلا، وجعلوا له من عباده جزءا، فإن الولد جزء من الوالد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما فاطمة بضعة مني» (1) . وقوله في " الأنعام " [100] : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] قال الكلبي: " نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس شريكان، فالله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ". وأما قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] فقيل: هو قولهم: الملائكة بنات الله، وسمي الملائكة جنا؛ لاختفائهم عن الأبصار، وهو قول مجاهد وقتادة.   (1) رواه مسلم في (فضائل الصحابة: 6308) ، وله تتمة: " يؤذيني ما آذاها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقيل: قالوا لحي من الملائكة يقال لهم: الجن، ومنهم إبليس: هم بنات الله (1) . وقال الكلبي: قالوا - لعنهم الله -: بل بذور يخرج منها الملائكة. وقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] قال بعض المفسرين: هم كفار العرب، قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والذين كانوا يقولون من العرب: إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهَرَ الجن، فولدت له الملائكة، فقد نفاه عنه بامتناع الصاحبة، وبامتناع أن يكون منه جزء، فإنه صمد. وقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] وهذا لأن الولادة لا تكون إلا من أصلين، سواء في ذلك توالد الأعيان - وتسمى الجواهر - وتوالد الأعراض (2) والصفات، بل ولا يكون تولد الأعيان إلا بانفصال جزء من الوالد، فإذا امتنع أن تكون له صاحبة امتنع أن يكون له ولد، وقد علموا كلهم أن لا صاحبة له، لا من الملائكة، ولا من الجن، ولا من الإنس، فلم يقل أحد منهم: إن له صاحبة؛ فلهذا احتج بذلك عليهم، وما حُكِيَ عن بعض كفار العرب أنه صاهر الجن فهذا فيه نظر، وذلك إن كان قد قيل فهو مما يعلم انتفاؤه من وجوه كثيرة، وكذلك ما قالته النصارى من أن المسيح ابن الله، وما قاله طائفة من اليهود أن العزير ابن الله، فإنه قد نفاه سبحانه بهذا وهذا. وتمام الكلام في هذا المقام في كتاب " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " (3) و" تفسير سورة الإخلاص " (4) وغيرهما من كتب شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه.   (1) ذكره البغوي في تفسيره (4 / 44) ونسبه لابن عباس، لكن الحق أن إبليس لم يكن من الملائكة، بل إبليس "كان من الجن ففسق عن أمر ربه" [الكهف: 50] . (2) الجواهر والأعراض من مصطلحات وكلام المتفلسفة، فليته أعرض عنها، واستعمل بدلا منها الألفاظ الشرعية. (3) (3 / 202 - 212) . (4) مجموع الفتاوى (17/ 268 - 276) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 [ الحادية والثلاثون تنزيه المخلوق عما نسبوه للخالق ] الحادية والثلاثون تنزيه المخلوق عما نسبوه للخالق مثل: تنزيه أحبارهم عن الولد والحاجة؛ لأنهم يقولون: إن الراغبين في استحصال الكمالات كالرهبان وأضرابهم يترفعون عن أن يتدنسوا بدناءة التمتع بالنساء، اقتداء بالمسيح عليه السلام. فانظر إلى سخافة العقول، وما قادهم إليه ضلالهم حتى اعترضوا على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زواجه. ومن أحسن ما قاله الفاروقيُّ ردا على بعض أحبار النصارى: قُلْ لِلْفِرِسْنَلِ قُدْوَةِ الرُّهْبَانِ ... الْجَاثَليق (1) البتْرِكِ الرَّبَّاني (2) أنت الذي زعم الزواج نقيصة ... ممن حماه الله عن نقصان ونسيت تزويج الإله بمريمٍ ... في زعم كل مُثَلِّثٍ نصراني (3) ومن جعل من العرب الملائكة بنات الله كان يأنف منهن، وسن وأدهن وقتلهن، ونسبوا لله ما يكرهون. والمقصود أن هذه المقالات وأشباهها منشؤها الجهل بما جاءت به الرسل، وعدم تحكيم العقل، وإلا فأهل البصائر لا يتطرق إليهم هذا الخلل، والله الموفق.   (1) الجاثليق - بفتح الثاء المثلثة - رئاسة دينية للنصارى في بلاد المسلمين. (2) هذا عندهم طبعا. (3) بل يؤمنون بنبوة داود وسليمان وغيرهما عليهم السلام ويعلمون أنهما كان لديهما نساء كثيرات، لكنه الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم عنادا، وقد ذكر هذه الأبيات نعمان الألوسي في " الجواب الفسيح لما لفَّقَه عبد المسيح " (1 / 512) ونسبها للفاروقي. والفرسنل الذي ذكره الفاروقي كان من مشهوري مدرسي النصارى، ورد بغداد عام 1269هـ، وأورد على محمد الألوسي والد نعمان أسئلة كان من ضمنها سؤاله عن زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزعمه أن ذلك ينافي الكمال، فأجابه الألوسي بأجوبة مفحمة. انظر: الجواب الفسيح (1 / 511 - 512) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 [ الثانية والثلاثون القول بالتعطيل ] الثانية والثلاثون القول بالتعطيل، كما كان يقوله آل فرعون والتعطيل: إنكار أن يكون للعالم صانع (1) كما قال فرعون لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ونحو ذلك. ولم يخل العالم عن مثل هذه الجهالات في كل عصر من العصور، وأبناء هذا الزمان إلا النادر على هذه العقيدة الباطلة، ولو نظروا بعين الإنصاف والتدبر لعلموا أن كل موجود في العالم يدل على خالقه وبارئه: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ ومن أين للطبيعة إيجاد مثل هذه الدقائق التي نجدها في الآفاق والأنفس، وهي عديمة الشعور لا علم لها ولا فهم - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا -.   (1) انظر في التعطيل وأنواعه: الجواب الكافي لابن القيم (ص 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 [ الثالثة والثلاثون الشركة في الملك ] الثالثة والثلاثون الشركة في الملك، كما تقوله المجوس والمجوس أمة تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض، ويقرون بنبوة زرادِشْتَ، ولهم شرائع يصيرون إليها. وهم فرق شتى: منهم الْمَزْدَكِيَّة أصحاب مَزْدَكَ الْمُوبَذ، والموبذ - عندهم -: العالم القدوة، وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها. ومنهم الْخُرَّمية: أصحاب بابِكَ الْخُرَّمِيِّ، وهم شر طوائفهم، لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام. وعلى مذهبهم طوائف (1) يجمعهم هذا المذهب، ويتفاوتون في التفصيل. فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم، وأئمتهم وقدوتهم، وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم، وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من شرائعه.   (1) سقط بمقدار سطرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 [ الرابعة والثلاثون إنكار النبوات ] الرابعة والثلاثون إنكار النبوات وكانوا يقولون: ما حكى الله عنهم بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ - وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 90 - 91] (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون) (1) {كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الأنعام: 91] شروع في تقرير أمر النبوة، بعدما حكى الله سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك، وقرر سبحانه ذلك بأوضح الدليل وبأوضح وجه. {حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أي: حق معرفته (2) . وعن بعضهم: ما عظموا الله حق تعظيمه (3) {إِذْ قَالُوا} [الأنعام: 91] منكرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب، كافرين بنعمة الله الجليلة فيهما: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] أي: شيئا من الأشياء. واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع: فعن مجاهد أنهم مشركو قريش، والجمهور على أنهم اليهود، ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل المبالغة. فقيل لهم على سبيل الإلزام: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك، فلم لا تُجَوِّزون إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟   (1) قوله تعالى: (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون) كذا في المخطوط، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. (2) وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى كما في زاد المسير (3 / 83) . (3) وهذا قول ابن عباس كما في زاد المسير (3 / 83) ، واعتمده ابن كثير في تفسيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والكلام في إثبات النبوة مفصل في غير هذا الموضع. والمقصود أن إنكارها من سَنَن الجاهلية ومعارفهم، وفي الناس كثير ممن هو على شاكلتهم ومعوج طريقتهم. [ الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى ] الخامسة والثلاثون جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى، ومعارضة شرع الله بقدر الله وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عَسِر إلا على من وفقه الله تعالى. ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ". وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] تفسير هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 148] حكاية لفن آخر من أباطيلهم. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 148] لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح؛ إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات - {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر، وتستلزم الرضى كما زعمت المعتزلة (1) فيكون حاصل   (1) المعتزلة: فرقة ضالة ظهرت في الإسلام أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا قائما على اتباع الهوى في العقائد الإسلامية، ولهم بدع كثيرة، من أهمها التحكم بعقولهم وأفهامهم القاصرة في الوحيين الشريفين: الكتاب والسنة، بدل السمع والطاعة، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى. وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله - عز من قائل -: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وهم أسلافهم المشركون. وحاصله: أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام، وقد دلت المعجزة على صدقهم. أو نقول: حاصله: أن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، وكل ما هذا شأنه فلا تكليف به؛ لكونه مشروطا بالاستطاعة، فينتج: أن ما ارتكبه من الشرك وغيره لم يتكلف بتركه، ولم يبعث له نبي، فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل؛ لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون، وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية، ولكونه صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب. ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف؛ لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة. {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] أي: نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى؛ لأن الذوق أول إدراك الشيء. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟ وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك؛ لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم - عليهم الصلاة والسلام -، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عِقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به - عز شأنه - وهو عنهم مناط العَيُّوق (1) ؟ {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] أي: تكذبون على الله تعالى. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، والمراد بها في المشهور: الكتاب والرسول والبيان. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك. ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية، وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسَلِّمون اختيارهم وقدرهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عز وجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة. ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقعٍ واقعٌ بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين. والمقصود أن يَتَمَحَّضَ وجه الرد عليهم، وتتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم   (1) العَيُّوق: كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا من ناحية الشمال، ويطلع قبل الجوزاء: لسان العرب " عيق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 تعلقها (1) بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدوة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين. ومنهم من وجه الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعالى بوجوه عدة: منها: قوله سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] فإنه بتقدير الشرط، أي: إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] وقوله سبحانه: {فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام: 149] بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام - أيضا - بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة. وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحَل يجب أن يكون عندكم حقا؛ لأنه بمشيئة الله تعالى، فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة. وفي سورة " النحل " [35] : {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]   (1) في الأصل: نفوذ السنة وعموم تغلغلها، والتصويب من روح المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلاتهم في سورة " الأنعام " في الآية السابقة، وكذلك في سورة " الزخرف " [19 - 22] ، وهو قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 19 - 22] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها. وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول - عليه الصلاة والسلام - والطعن في الرسالة رأسا؛ فإن حاصله: أي: ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا - كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى - لكان الأمر كما شاء من التوحيد، ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم. فرد الله تعالى عليهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تَحَتَّمَ تَعَلُّقُ مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق؛ لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا - كما هو مقتضى استدلالهم - فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يُسْتَدَلَّ بعدم ظهور آثاره على عدم حَقِّيَّة الرسل عليهم السلام، أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين. والكلام على هذه الآية ونحوها مُسْتَوْفًى في تفسير " روح المعاني " (1) وغيره. فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية. والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.   (1) (8 / 51 - 53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 [ السادسة والثلاثون مسبة الدهر ] السادسة والثلاثون مسبة الدهر كقولهم في سورة " الجاثية " [24] : {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وذلك أن الله تعالى أراد بيان أحكام ضلالهم، والختم على سمعهم وقلوبهم، وجعل غشاوة على أبصارهم، فحكى عنهم ما صدر عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] التي نحن فيها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] أي: تموت طائفة، وتحيا طائفة، ولا حشر أصلا. ومنهم من قال: إن كثيرا من عُبَّاد الأصنام كان يقول بالتناسخ، وعليه فالمراد بالحياة: إعادة الروح لبدن آخر. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] أي: طول الزمان. وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لِمَلَك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله تعالى، وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه؛ لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر (1) . وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى، فهم غير الدهرية، فإنهم - مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر - لا يقولون بوجوده، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.   (1) جاء في حاشية الأصل ما نصه: " مثل قولهم: أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الْكَبِيرَ ... كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيِّ ومثل قول الآخر: منع البقاء تقلب شمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وقول الآخر: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال وكنت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال والشعر في ذلك قديما وحديثا كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير. وقد جاء النهي عن سب الدهر. أخرج مسلم: «لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر» (1) . وفي رواية لأبي داود والحاكم (2) «قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقل أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أُقَلِّبُ ليله ونهاره» (3) . وروى الحاكم (4) - أيضا -: «يقول الله عز وجل: استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه! وأنا الدهر» . وروى البيهقي (5) «لا تسبوا الدهر، قال الله عز وجل: أنا الأيام والليالي، أجددها وأُبْليها، وآتي بملوك بعد ملوك» . ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث، فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجل. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية: 24] أي: ليس لهم بما ذُكِرَ من قصر الحياة على ما في الدنيا، ونسبة الإهلاك إلى الدهر علم مستند إلى عقل أو نقل. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] أي: ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يُتَمَسَّك به في الجملة. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يتعلق بالدهريين.   (1) رواه مسلم في (الألفاظ من الأدب وغيرها: 5867) . (2) أبو داود في سننه بنحوه برقم (5274) ، وهو آخر حديث في السنن عنده، والحاكم في مستدركه (كتاب التفسير تفسير سورة حم الجاثية: 2 / 453) ، وقال: " هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه هكذا ". (3) وفي رواية لمسلم في (الألفاظ: 5864) : " قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما " فاستدراك الحاكم وهم منه أن مسلما لم يخرجه. (4) في مستدركه (كتاب التفسير باب تفسير سورة حم الجاثية: 2/ 453) ، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة ". (5) في السنن الكبرى (3 / 365) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والمقصود أن من يقول بإسناد الحوادث إلى غير الله تعالى كالدهر، فليس له مستند عقلي ولا نقلي، بل هو محض جهل، وقائله جاهل في أي عصر كان. [السابعة والثلاثون إضافة نِعَم الله إلى غيره] السابعة والثلاثون إضافة نِعَم الله إلى غيره قال الله تعالى في سورة " النحل " [83] : {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] وقد عدد الله تعالى نعمه على عباده في هذه السورة إلى أن قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ - فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 81 - 83] {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} [النحل: 83] إلخ، استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه وتعالى أصلا، فإنهم يعرفون أنها من الله تعالى، ثم ينكرونها بأفعالهم، حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة، فكأنهم لم يعبدوه سبحانه وتعالى أصلا، وذلك كفران منزل منزلة الإنكار. وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: " إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا " (1) . وأخرج هو وغيره - أيضا - عن عون بن عبد الله أنه قال: " إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أصب كذا وكذا " (2) .   (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره بنحوه (14/ 158) . (2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (14/ 158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وفي لفظ: " إنكارها: إضافتها إلى الأسباب ". وبعضهم يقول: إنكارهم: قولهم: هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى. ومنهم من قال: النعمة - هنا - محمد صلى الله عليه وآله وسلم (1) أي: يعرفون أنه - عليه الصلاة والسلام - نبي بالمعجزات، ثم ينكرون ذلك، ويجحدونه عنادا. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] أي: المنكرون بقلوبهم، غير المعترفين بما ذكر، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق؛ لنقصان عقله، وعدم اهتدائه إليه، أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب، أو لأنه لم تقم عليه الحجة؛ لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه، وإما لأنه يقام مقام الكل، فإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى في سورة " الواقعة " [81 - 82] : {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 81 - 82] أي: تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. روى مسلم وغيره عن ابن عباس، قال: «مُطِرَ الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] » . إلى غير ذلك من الآثار. وقد ذكرنا مذهب العرب في الأنواء في غير هذا الموضع، وفصلناه تفصيلا، وذكرنا شعرهم الدالَّ على مذهبهم هذا، والله الموفق.   (1) وهذا قول الفراء كما في معاني القرآن له (2 / 112) ، وقول ابن قتيبة كما في زاد المسير (4 / 479) ، وعزاه ابن جرير في تفسيره (14/ 157) إلى السدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 [ الثامنة والثلاثون الكفر بآيات الله ] الثامنة والثلاثون الكفر بآيات الله والنصوص الدالة على ذلك في القرآن كثيرة: منها قوله تعالى في " الكهف " [105 - 106] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 105 - 106] بعد قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ} [الكهف: 103 - 105] إلخ. فقوله: {أُولَئِكَ} [الكهف: 105] كلام مستأنف منه مسوق لتكميل تعريف الأخسرين، وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم، بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين، أي: أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور. {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد، الشاملة للسمعية والعقلية. {وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] هو كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، أي: لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه. {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] أي: فنزدري بهم، ونحتقرهم. ومن النصوص ما يدل على أن منهم من كان ينكر بعض الآيات، ومنهم من كان معرضا عنها، وهاجرا لها. ولا يخفاك أن من الناس اليوم من هو أدهى وأمر مما كان عليه أهل الجاهلية في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [ التاسعة والثلاثون اشتراء كتب الباطل واختيارها على الآيات ] التاسعة والثلاثون اشتراء كتب الباطل، واختيارها عليها، أي: على الآيات قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ - أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 99 - 102] إلى قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] ومعنى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] أي: استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله. {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] أي: نصيب. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] أي: والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم، أي: باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} [البقرة: 103] أي: بالرسول أو بما أنزل إليه من الآيات أو بالتوراة. {وَاتَّقَوْا} [البقرة: 103] أي: المعاصي التي حُكِيَتْ عنهم. {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] أي: أن ثواب الله تعالى خير لهم. وبمعنى هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78 - 79] البقرة: [78 - 79] . وهذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رئاستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حالها، فغيروها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [ الأربعون القدح في حكمته تعالى ] الأربعون القدح في حكمته تعالى أقول: من خصال أهل الجاهلية: القدح في حكمته تعالى، وأنه ليس بحكيم في خلقه، بمعنى أنه سبحانه يخلق ما لا حكمة له فيه، ويأمر وينهى بما لا حكمة فيه. وقد حكى الله تعالى ذلك بقوله في سورة " ص " [27] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] وقال سبحانه في سورة " المؤمنين " [115 - 116] : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116] وفي سورة " الدخان " [38 - 39] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 - 39] وفي سورة " الأنبياء " [16 - 17] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16 - 17] وفي سورة " الحجر " [85] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الله تعالى لم يخلق شيئا من غير حكمة ولا علة، على خلاف ما يعتقده أهل الباطل من الجاهليين، ومن نحا نحوهم من هذه الأمة ممن نفى الحكمة عن أفعاله سبحانه وتعالى. وهذه مسألة طويلة الذيل، قد كثر فيها الخصام بين فِرَق المسلمين، والحق ما كان عليه السلف من إثبات الحكمة والتعليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد أطنب الكلام عليهما الحافظ ابن القيم في كتابه " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل "، وعقد بابا مفصلا في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره، وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها. ومن جملة ما قال في هذا الباب: " إنه سبحانه وتعالى أنكر على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا بحكمة كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39] والحق: هو الحِكَم والغايات المحمودة، التي لأجلها خَلَقَ ذلك كله، وهو أنواع كثيرة: منها: أن يُعْرَف الله بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وآياته. ومنها: أن يحب، ويعبد، ويشكر، ويطاع. ومنها: أن يأمر، وينهى، ويشرع الشرائع. ومنها: أن يدبر الأمر، ويبرم القضاء، ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات. ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيكون أثر عدله وفضله موجودا مشاهَدا، فيحمد على ذلك ويشكر. ومنها: أن يُعْلِم خلقه أنه لا إله غيره، ولا رب سواه. ومنها: أن يَصْدُق الصادق فيكرمه، ويكذب الكاذب فيهينه. ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع. ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها. ومنها: ظهور آثار كماله المقدس، فإن الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قدير، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا. ومنها: أن يُظْهِر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به، ومجيئه على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهد حكمته الباهرة. ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر ويسامح، ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا. ومنها: أنه يحب أن يُثْنَى عليه، ويمدح ويمجد، ويسبح ويعظم. ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته. إلى غير ذلك من الحِكَم التي تضمنها الخَلْق، فخَلَقَ مخلوقاته بسبب الحق، ولأجل الحق، وخلقها ملتبس بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو يتضمن الحق. وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق، لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190 - 191] وأخبر أن هذا ظن أعدائه، لا ظن أوليائه، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق الخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة، لا لحكمة ولا لغاية مقصودة؟! وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات، فهما مظهران لحمده وحكمته. فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره، فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنَزَّه عنه الرب، ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم - أو يقع - أن يأمر بما لا مصلحة للمكلَّف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء. ويجوز - عندهم - أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا بمجرد الأمر والنهي. ويجوز - عندهم - أن يعذب من لم يعصه طرفة عين، [بل أفنى عمره في طاعته وشكره] (1) ويثيب من عصاه، بل أفنى عُمُره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه. وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه. والعجب العجاب أن كثيرا من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد - عندهم - لا يتم إلا به، كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه، وعلوه فوق سماواته، وتكلمه وتكليمه، وصفات كماله! فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات، والله ولي التوفيق " (2) . انتهى المقصود من نقله، وتمام الكلام في هذا الباب من ذلك الكتاب، وإليه سبحانه المآب.   (1) ما بين المعكوفتين زيادة من شفاء العليل. (2) انظر: شفاء العليل (198 - 199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 [ الحادية والأربعون الكفر بالملائكة والرسل والتفريق بينهم ] الحادية والأربعون الكفر بالملائكة والرسل والتفريق بينهم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ - وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ - بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 87 - 91] إلى أن قال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 97 - 99] فقد تبين من هذه الآيات أن بعض الكتابيين كانوا يكفرون بالملائكة والرسل، يفرقون بينهم، أي: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وهم طائفة من جاهلية اليهود، ولهذا أمرنا الله تعالى بالإيمان بهم وعدم التفرقة بينهم، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [ الثانية والأربعون الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام ] الثانية والأربعون الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام قال تعالى في سورة " النساء " [171] : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ويغوث ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام. ومثل ذلك القول على الله بغير الحق. [ الثالثة والأربعون الجدال بغير علم ] الثالثة والأربعون الجدال بغير علم كما ترى كثيرا من أهل الجهل يجادلون أهل العلم عند نهيهم عما ألفوه من البدع والضلالات، وهي صفة جاهلية، نهانا الله تعالى عن التخلق بها. قال تعالى في سورة " آل عمران " [65 - 66] : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 65 - 66] أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله فيهم هذه الآية» المنادية على جهلهم وعنادهم، كما لا يخفى على من راجع التفسير. قال الشيخ: [ الرابعة والأربعون الكلام في الدين بلا علم ] الرابعة والأربعون الكلام في الدين بلا علم أقول: أجمل الشيخ رحمه الله تعالى الكلام في هذه المسألة كل الإجمال، كما فعل مثل ذلك في كثير من المسائل، وما أحقها بالتفصيل. وذلك أن أهل الجاهلية من العرب وغيرهم من الكتابيين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله: أما العرب فقد كان الكثير منهم على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى أن ظهر فيهم الخزاعي فغير وبدل، وابتدع بدعا كثيرة، وأغرى العرب على عبادة الأصنام، وبحر البحيرة، وحمى الحام، واستقسم بالأزلام، إلى غير ذلك مما فصلناه في غير هذا الموضع (1) . وإن شئت أن تعرف جهل العرب، وما ابتدعوه فاقرأ سورة " الأنعام " فإن فيها كثيرا من ضلالاتهم ومبتدعاتهم.   (1) انظر في ذلك صحيح البخاري: (المناقب قصة خزاعة: 3520 و 3521) و (التفسير المائدة: 4623) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأما الجاهليون من اليهود والنصارى، فقد {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] وذلك أن أحبارهم ورهبانهم ابتدعوا لهم في الدين بدعا، وحللوا وحرموا ما اشتهته أنفسهم، فقبلوا ذلك منهم وأطاعوهم عليه، مع أن الدين إنما يكون بتشريع الله ووحيه إلى أنبيائه ورسله، ولا يكون بآراء الرجال وبحسب أهوائهم، فكل ما لا دليل عليه من كتاب ولا سنة مردود على صاحبه (1) . وقد ذم الله تعالى اليهود على مثل ذلك، فقال - عز اسمه - في سورة " آل عمران " [78] : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] فمن أول نصوص الكتاب والسنة على حسب شهواته وبمقتضى هواه فهو - أيضا - من قبيل الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب. وأنت تعلم ما اشتمل عليه - اليوم - كثير من كتب الشريعة من الآراء التي ليس لها مستند من دلائل الشريعة (2) فإلى الله المشتكى من صولة الباطل، وخمول الحق.   (1) عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذه الآية: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ "، فقلت: بلى. قال: " فتلك عبادتهم " رواه أحمد والترمذي بنحوه - وحسنه - في سننه: (تفسير القرآن ومن سورة التوبة: 3095) . فمن أطاع العلماء أو الأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله. (2) بل بعضها مضاد تماما للشرع الشريف، بل بعضها يقول فيها من ألفها من الملاحدة: الكتاب والسنة من أصول الكفر، وبعضهم تنازل قليلا فقال: ظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 [ الخامسة والأربعون الكفر باليوم الآخر والتكذيب بلقاء الله وبعث الأرواح ] الخامسة والأربعون الكفر باليوم الآخر، والتكذيب بلقاء الله، وبعث الأرواح، وببعض ما ذكرته الرسل من صفات الجنة والنار قال تعالى في سورة " الكهف " [103 - 105] : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 103 - 105] الآية، وقد مر الكلام عليها قريبا. وقال تعالى في سورة " النحل " [38 - 39] : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 38 - 39] إلى غير ذلك من النصوص الواردة في ذلك كله. ولقوم عصرنا من هذا الاعتقاد الجاهلي حظ وافر، ونصيب كامل، و {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] نسأله تعالى التوفيق للهداية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 [ السادسة والأربعون التكذيب بقوله تعالى مالك يوم الدين ] السادسة والأربعون التكذيب بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وهو اليوم الذي يدين الله تعالى العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات. والتكذيب بهذا اليوم متفرع على إنكار البعث والحساب والجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 [ السابعة والأربعون التكذيب بقوله تعالى لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ] السابعة والأربعون التكذيب بقوله تعالى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] من قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] والخلة: المودة والصداقة. ومعنى {وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] أي: لا أحد يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى. وأراد بذلك يوم القيامة. والمراد من وصفه بما ذُكِر: الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما يُنْتَفَع به بوجه من الوجوه؛ لأن من في ذمته حق - مثلا - إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به، وإما أن يعينه أصدقاؤه، وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه (1) والكل منتف، ولا مستعان إلا بالله عز وجل.   (1) في الأصل: حظه، ولعل الصواب: ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 [ الثامنة والأربعون التكذيب بقوله تعالى ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ] الثامنة والأربعون التكذيب بقوله تعالى في سورة " الزخرف " [86] : {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الزخرف: 86] أي: ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم من دونه الشفاعة، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عز وجل. {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] الذي هو التوحيد. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] أي: يعلمونه، والمراد بهم: الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم. وأنت ترى الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم يدعونهم من دون الله، وعذرهم عند توبيخهم أن هؤلاء شفعاؤهم - تعالى الله عما يشركون -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 [ التاسعة والأربعون قتل أولياء الله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ] التاسعة والأربعون قتل أولياء الله، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس. قال تعالى في سورة " البقرة " [61] : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وقال في سورة " آل عمران " [183] : {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183] إلى آيات أخر في هذا المعنى صرحت بما لاقاه الأنبياء والرسل عليهم السلام وأتباعهم المخلصون ودعاة الحق، وبما كابدوه من أعداء الله والجهلة الطغاة، مما تَنْهَدُّ له الصياصي، وتبيض منه النواصي. هؤلاء أكابر الأمة المحمدية وعلماؤها الأعلام، قد صادفوا عند دعوتهم إلى الحق والمحافظة عليه ما يسود منه وجه القرطاس، وتَشِيب منه لمم المداد. والأنبياء - صلوات الله عليهم - وأتباعهم المؤمنون - وإن كانوا يبتلون في أول الأمر - فالعاقبة لهم، كما قال تعالى لما قص قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] وفي الحديث المتفق على صحته «لما أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولا إلى ملك الروم، فطلب من يخبره بسيرته - وكان المشركون أعداءه، لم يكونوا آمنوا به - فقال: " كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: الحرب بيننا وبينه سجال، يُدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى. فقال: كذلك الرسل تُبْتلى، وتكون لها العاقبة» (1) .   (1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله: 2941) ، ورواه مسلم في (الجهاد: 4607) كلاهما بألفاظ قريبة من هاهنا، ولفظ البخاري أقرب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فإنه كان يوم بدر نصر الله المؤمنين، ثم يوم أحد ابتلي المؤمنون، ثم لم يُنْصَر الكفار بعدها، حتى أظهر الله تعالى الإسلام. فإن قيل: ففي الأنبياء من قد قُتِل، كما أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير الحق، وفي أهل الفجور من يؤتيه الله ملكا وسلطانا، ويسلطه على المتدينين كما سلط بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيل، وكما سلط كفار المشركين وأهل الكتاب - أحيانا - على المسلمين. قيل: أما من قتل من الأنبياء فهم كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد شهيدا. قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] ومعلوم أن من قتل من المؤمنين شهيدا في القتال كان حاله أكمل من حال من يموت حتف أنفه. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ولهذا قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] أي: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة. ثم إن الدين الذي قاتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر، فيكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة، من قتل منهم كان شهيدا، ومن عاش منهم كان منصورا سعيدا، وهذا غاية ما يكون من النصر، إذ كان الموت لا بد منه، فالموت على الوجه الذي تحصل به سعادة الدنيا والآخرة أكمل، بخلاف من يهلك هو وطائفته، فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والشهداء من المؤمنين قاتلوا باختيارهم، وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهم اختاروا هذا الموت، إما أنهم قصدوا الشهادة، وإما أنهم قصدوا به ما يصيرون شهداء، عالمين بأن لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الدنيا بانتصار طائفتهم، وببقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء، بخلاف من هلك من الكفار، فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة، ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا، بل أُتْبِعوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] وقيل فيهم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أي: ألوف كثيرة، وأنهم ما ضعفوا ولا استكانوا لذلك، بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سببا لظهور (1) العدوِّ، وأن الله تعالى آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإذا كان هذا قَتْلَ المؤمنين فما الظن بقتل الأنبياء؟ ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح. وظهور الكفار على المؤمنين - أحيانا - هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد، فإن تابوا انتصروا على الكفار، وكانت العاقبة لهم، كما قد جرى مِثْل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار. وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله، وأظهرهم على المخالفين له، فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم. فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك، ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر يوجب   (1) في الأصل: بسبب ظهور، ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 العلم بأن المدار علة للدائر، وقولنا: " من غير وصف آخر": يزيل النقوض الواردة. فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه، وأن يجعل لهم السعادة، ولمن خالفهم الشقاء، وهذا يوجب العلم بنبوته، وأن من اتبعه كان سعيدا، ومن خالفه كان شقيا. ومن هذا ظهور بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيل، فإنه من دلائل نبوة موسى؛ إذ كان ظهور بُخْتَ نَصَّرَ إنما كان لما غيروا عهود موسى، وتركوا اتباعه، فعوقبوا بذلك، وكانوا - إذ كانوا مُتَّبعِين لعهود موسى - منصورين مؤيدين، كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما. قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا - عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 4 - 8] فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة، وظهور عدوهم عليهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وآياته، وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عدوهم تارة، وظهور عدوهم عليهم تارة هو من دلائل رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلام نبوته. وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته، كما جرى لهم من يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى، وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها. وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا، فإن أولئك لا يكون مُطاعُهم إلى نبي، ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين، ولا يطلبون من أولئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أن يتبعوهم على دينهم، بل قد يصرحون بأنا نصرنا عليكم بذنوبكم، وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم. وأيضا فلا عاقبة لهم، بل الله يهلك الظالم بالظالم، ثم يهلك الظالمين جميعا، ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت، ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت. فهذا وأمثاله مما يظهر الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم، وبين ظهور بعض الكفار على المؤمنين، أو ظهور بعضهم على بعض، ويبين أن ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته على أهل الكتاب: اليهود والنصارى، هو من جنس ظهورهم على المشركين: عبدة الأوثان، وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته، ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل، وظهور الكفار على المسلمين. وهذه الآية مما أخبر به موسى، وبين أن الكذاب المدعي للنبوة لا يتم أمره، وإنما يتم أمر الصادق. فإن من أهل الكتاب من يقول: محمد وأمته سُلِّطوا علينا بذنوبنا مع صحة ديننا الذي نحن عليه، كما سُلِّط بخت نصر وغيره من الملوك. وهذا قياس فاسد، فإن بخت نصر لم يَدَّع نبوة، ولا قاتل على دين، ولا طلب من بني إسرائيل أن ينتقلوا عن شريعة موسى إلى شريعته، فلم يكن في ظهوره إتمام لما ادعاه من النبوة ودعا إليه من الدين، بل كان بمنزلة المحاربين قطاع الطريق إذا ظهروا على القوافل، بخلاف من ادعى نبوة ودينا، ودعا إليه، ووعد أهله بسعادة الدنيا والآخرة، وتوعد مخالفيه بشقاوة الدنيا والآخرة، ثم نصره الله، وأظهره، وأتم دينه، وأعلى كلمته، وجعل له العاقبة، وأذل مخالفيه. فإن هذا من جنس خرق العادات المقترن بدعوى النبوة، فإنه دليل عليها. وقد تغرق في البحر أمم كثيرة، فلا يكون ذلك دليلا على نبوة نبي، بخلاف غرق فرعون وقومه فإنه كان آية بينة لموسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهذا موافق لما أخبر به موسى - عليه الصلاة والسلام - من أن الكذاب لا يتم أمره، وذلك بأن الله حكيم لا يليق به تأييد الكذاب على كذبه من غير أن يبين كذبه. ولهذا أعظم الفتن: فتنة الدجال الكذاب، لما اقترن بدعواه الألوهية بعض الخوارق، كان معه ما يدل على كذبه من وجوه: منها: دعواه الألوهية، وهو: «أعور، والله ليس بأعور» ، «مكتوب بين عينيه: كافر» ، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة (1) . فأما تأييد الكذاب، ونصره، وإظهار دعوته دائما، فهذا لم يقع قط، فمن يستدل على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع على ذلك - أيضا - بالحكمة، فحكمته تناقض أن يفعل ذلك، إذ الحكيم لا يفعل هذا. وقد قال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 22 - 23] فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها: نصر المؤمنين على الكافرين. والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله، فإذا نقص الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه، كما جرى يوم أحد. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا - اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر: 42 - 43]   (1) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر " رواه البخاري في (التوحيد قول الله تعالى ولتصنع على عيني [طه: 39] ، واللفظ له، ورواه مسلم في (الفتن: 7363) . وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب ". وقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت " رواهما مسلم في (الفتن: 7367 و 7356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فأخبر أن الكفار لا ينظرون إلا سنة الأولين، ولا يوجد لسنة الله تبديل، لا تُبَدَّل بغيرها، ولا تتحول، فكيف النصر للكفار على المؤمنين الذين يستحقون هذا الاسم؟ وكذلك قال في المنافقين - وهم الكفار في الباطن دون الظاهر - ومن فيه شعبة نفاق: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا - مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا - سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 60 - 62] والسنة هي العادة، فهذه عادة الله المعلومة، فإذا نصر من ادعى النبوة وأتباعه على من خالفه، إما ظاهرا وإما باطنا نصرا مستقرا، فإن ذلك دليل على أنه نبي صادق، إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين، كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات، وهذه منها. ومن ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار وأظلم الظالمين: قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32] وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ومن كان كذلك كان الله يمقته، ويبغضه، ويعاقبه، ولا يدوم أمره، بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: «إن الله يُملي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِته "، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] » (1) [هود: 102] ، وقال - أيضا - في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تُفَيِّؤُهَا الرياح، تقيمها تارة وتميلها أخرى، ومَثَل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة» (2) . فالكاذب الفاجر وإن عظمت دولته فلا بد من زوالها بالكلية، وبقاء ذمه ولسان السوء له في العالم، وهو يظهر سريعا، ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، والحارث الدمشقي، وبابك الخرمي ونحوهم. وأما الأنبياء فإنهم يُبْتَلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء، فإن الله تعالى يُمَكِّن للعبد إذا ابتلاه، ويُظْهِر أمره شيئا فشيئا كالزرع، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] أي: فراخه {فَآزَرَهُ} [الفتح: 29] أي: قَوَّاهُ {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] ولهذا كان أول من يتبعهم ضعفاء الناس باعتبار هذه الأمور. وسنة الله في أنبياء الله وأوليائه الصادقين وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين مما يوجب الفرق بين النوعين، وبين دلائل النبي الصادق ودلائل المتنبي الكذاب. وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ثم كون العاقبة لهم في غير موضع:   (1) أخرجه البخاري في (التفسير سورة هود: 4686) ، ومسلم في (البر: 6581) واللفظ له، عن أبي موسى الأشعري. (2) رواه مسلم في (صفات المنافقين: 7095) بلفظ قريب مما ذكر هاهنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ - حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ - لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 109 - 111] والمقصود أن إيذاء القائمين بالحق، والناصرين له من سَنَن أهل الجاهلية، وكثير من أهل عصرنا على ذلك، والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [ الخمسون الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المسلمين ] الخمسون الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيل المشركين على المسلمين قال تعالى في سورة " النساء " [51] : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] هذه الآية نزلت في حُيَيِّ بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد؛ ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: أنتم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب كتاب، فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق: أنحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نخن ننحر للحجيج الكوماء (1) ونسقيهم اللبن، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد، فأنزل الله في ذلك الآيات (2) . والجبت في الأصل: اسم صنم، فاستعمل في كل معبود غير الله.   (1) الكوماء: الناقة عظيمة السنام. انظر: لسان العرب " كوم ". (2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (5 / 123) ، وابن شبة في أخبار المدينة (2 / 59) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3 / 193) ، والطبراني في المعجم الكبير (11 / 251) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. ومعنى الإيمان بهما: إما التصديق بأنهما آلهة، وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا. والمتبادر المعنى الأول، أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين، ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق، ويسجدون لهما (1) .   (1) قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. ذكره البخاري في صحيحه تعليقا في (كتاب التفسير باب: قوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط [النساء: 43] : قبل رقم 4583) فكل من عبد غير الله فالداعي هو الشيطان، فيكون الشيطان هو المعبود؛ لأنهم عبدوا غير الله بأمر الشيطان وتزيينه، والعياذ بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 [ الحادية والخمسون لبس الحق بالباطل وكتمانه ] الحادية والخمسون لبس الحق بالباطل، وكتمانه قال تعالى في سورة " آل عمران " [71] : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] وفي المراد أقوال: أحدها: أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل. ثانيها: أن المراد إظهارهم الإسلام، وإبطانهم النفاق. ثالثها: أن المراد الإيمان بموسى وعيسى، والكفر بمحمد عليه السلام. ورابعها: أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقيقة رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وما يظهرونه من تكذيبه (1) .   (1) انظر الأقوال الأربعة في " روح المعاني " (3 / 199) . قال ابن كثير في " تفسيره " أي: تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تعرفون ذلك، وتتحققونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [ الثانية والخمسون التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه ] الثانية والخمسون التعصب للمذهب، والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه قال تعالى في سورة " آل عمران " [72 - 74] : {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 72 - 74] قال الحسن والسُّدِّيُّ: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقرى عرين، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمدا ليس بذاك، وظهر لنا كذبه، وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: إنهم أهل كتاب، وهم أعلم به، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم (1) .   (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 [ الثالثة والخمسون تسميه اتباع الإسلام شركا ] الثالثة والخمسون تسميه اتباع الإسلام شركا قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] أخرج ابن إسحاق بسنده: «حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى الإسلام، قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أَوَذَاكَ تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره، وما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني "، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (1) .   (1) قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع: حين اجتمعت. . . الحديث. ذكره ابن كثير في " تفسيره ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 [الرابعة والخمسون تحريف الكلم عن مواضعه وَلَيُّ الألسنة بالكتاب] الرابعة والخمسون تحريف الكلم عن مواضعه، وَلَيُّ الألسنة بالكتاب قال تعالى في سورة " آل عمران " [78] : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] رُوِيَ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا، وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه. واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى، وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة، وتأويلا باطلا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا. واحتجوا لذلك بما رُوِيَ أن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يُغَيَّرْ منهما حرف، ولكنهم يُضِلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ويقولون: إن ذلك من عند الله، وما هو من عند الله، فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تُحَوَّلُ. وبأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «كان يقول لليهود إلزاما لهم: " ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» ، وهم يمتنعون عن ذلك، فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا، بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال. وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا، وكتموا ذلك في نفس كتابهم، واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ؛ لاحتمال التواطؤ، أو فُعِل ذلك في البعض دون البعض، وكذلك لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك؛ لاحتمال علمه ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير، إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره. وتمام الكلام في تفسير الجد عند الكلام على هذه الآية، وكذا في " الجواب الصحيح " (1) لشيخ الإسلام. وكثير من الأمة المحمدية سلكوا مسلك الكتابيين في التحريف، والتأويل، واتباع شهواتهم. وقال تعالى في سورة " النساء " [46] : {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] والكلام على هذه الآية - أيضا - مستوفًى في التفسير.   (1) (2 / 18 - 28) ، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2 / 351 - 354) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [ الخامسة والخمسون تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية ] الخامسة والخمسون تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية فقد كان أهل الجاهلية يلقبون من خرج عن دينهم بالصابئ، كما كانوا يسمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، كما ورد في عدة أحاديث من " صحيح البخاري " و" مسلم " (1) وغيرهما (2) ؛ تنفيرا للناس عن اتباع غير سبيلهم. وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء مكروهة للناس. والصابئة أمة قديمة على مذاهب مختلفة، قد تكلم عليها أهل المقالات بما لا مزيد عليه. وأما الحشوية فهم قوم كانوا يقولون بجواز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة كالحروف في أوائل السور، وكذا قال بعضهم، وهم الذين قال فيهم الحسن البصري لما وجد قولهم ساقطا، وكانوا يجلسون في حلقته أمامه: " رُدُّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة "، أي: جانبها. وخصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم؛ تنفيرا للناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم، حيث يقولون في المتشابه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وقد أخطأت اسْتُهم الحفرةَ، فالسلف لا يقولون بورود ما لا معنى له لا في الكتاب ولا في السنة، بل يقولون في الاستواء مثلا: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ".   (1) رواه البخاري في (المناقب قصة زمزم: 3522 م) ومسلم في (فضائل الصحابة: 6359) وعندهما أنهم قالوا ذلك عن أبي ذر أيضا رضي الله عنه، وقالوا ذلك عن عمر أيضا فيما رواه البخاري في (مناقب الأنصار إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 3864 و 3865) . (2) مثل أحمد في " المسند " (3 / 492، و 4 / 341) والطبراني في " الكبير " (4582) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقد أطال الكلام في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه (1) ولخص ذلك في كتابه " جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن ". ومن الناس من فرق بين مذهب السلف ومذهب الحشوية، بأن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه المراد مطلقا، فالاستواء - مثلا - عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه كل من يعرف الموضوعات اللغوية، إلا أنه غير مراد؛ لأنه خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به - تعالى - لا يعلمه إلا هو عز وجل. وكيف يكون مذهب السلف هو مذهب الحشوية وقد رأى الحسن البصري الذي هو من أكابر السلف سقوط قول الحشوية، ولم يرض أن يقعد قائله تجاهه؟! والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث. قال أبو محمد عبد الله بن قتيبة في " تأويل مختلف الأحاديث ": " إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والنابتة، والمتجبرة، والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أتى: في القدرية (2) «أنهم " مجوس هذه الأمة، إن (3) مَرِضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم» (4) . وفي الرافضة: «يكون قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام،   (1) ومنها رسالة " الإكليل في المتشابه والتأويل "، و" الفرقان بين الحق والباطل " ضمن مجموع الفتاوى (13 / 143 - 147) ، و" الرسالة التدمرية ". (2) القدرية ليست طائفة مستقلة، وإنما تطلق على كل من نفى القدر. (3) في الأصل: (فإن) ، وفي سنن أبي داود (إن) . (4) حسن بمجموع طرقه: رواه أبو داود في (السنة باب في القدر: 4691) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ويلفظونه، فاقتلوهم، فإنهم مشركون» (1) . وفي المرجئة: «صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي، لعنوا على لسان سبعين نبيا: المرجئة والقدرية» (2) . وفي الخوارج (3) «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» (4) و «كلاب أهل النار» (5) . هذه أسماء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك أسماء مصنوعة " (6) انتهى. وفي " الغُنْيَة " أن الباطنية تسمي أهل الحديث " حشوية " لقولهم بالأخبار وتعلقهم بالآثار (7) . وفي كتاب " حجة الله البالغة ": " واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل   (1) ضعيف: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2 / 475) ح 981 وغيره. (2) لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاله ابن الجوزي رحمه الله، وأخرجه في " العلل المتناهية " (1 / 156) برقم (249) من حديث أنس، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2 / 461) ح 649، من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: " صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: المرجئة والقدرية". (3) الخوارج: إحدى الفرق الضالة، نشأت قديما، وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتنتها، وحث على قتلهم، خرجوا على حين فرقة من المسلمين، ومنشؤهم التشدد والهوى، وصرف النصوص وتحريفها حسب هواهم، وهم طوائف كثيرون، يجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي، وتكفير صاحب الكبيرة، والخروج على الإمام إذا فعل كبيرة. انظر في شأنها: مقالات الإسلاميين (1 / 167) ، وخبيئة الأكوان (ص 57) . (4) متفق عليه: أخرجه البخاري في (استتابة المرتدين من ترك قتال الخوارج للتألف: 6934) عن يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الخوارج شيئا؟ قال: سمعته يقول: وأهوى بيده قِبَل العراق: " يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيَهُم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية "، وبرقم (6933 و 3610 و 4351 و 5058) بلفظ: " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ". ورواه مسلم بهذا اللفظ في (الزكاة: 2462) . (5) صحيح: أخرجه ابن ماجه في (السنة في ذكر الخوارج: 173) ولفظه عنده: " الخوارج كلاب النار "، وأحمد في مسنده (4 / 355) ، وابن أبي عاصم في السنة (2 / 438) رقم (904) ، وغيرهم. (6) تأويل مختلف الحديث (ص 55) . (7) " الغنية " لعبد القادر الجيلاني (1 / 85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الحديث، وسموهم مجَسِّمة، ومشَبِّهة، وقالوا: هم المتسترون بالبَلْكَفة (1) وقد وضح لديَّ (2) وضوحا بَيِّنًا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم (3) رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى " (4) انتهى. وقد قال العلامة ابن القيم في " كافيته الشافية ": " فصل في تلقيبهم أهل السنة بالحشوية، وبيان من أَوْلى بالوصف المذموم في هذا اللقب من الطائفتين، وذكر أول من لَقَّب به أهل السنة من أهل البدع: ومن العجائب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي من أَثَر ومن قرآن حشوية يعنون حشوا في الوجو ... د وفضلة في أمة الإنسان ويظن جاهلهم بأنهم حشوا ... رب العباد بداخل الأكوان إذ قولهم فوق العباد وفي السما ... ء الرب ذو الملكوت والسلطان ظن الحمير بأن في للظرف والرحـ ... ـمن مَحْوِيٌّ بظرف مكان والله لم يسمع بذا من فرقة ... قالته في زمن من الأزمان لا تبهتوا أهل الحديث به فما ... ذا قولهم تَبًّا لذي البهتان بل قولهم: إن السماوات العلى ... في كف خالق هذه الأكوان حقا كخردلة ترى في كف ممـ ... ـسكها تعالى الله ذو السلطان أترونه المحصور بعد أم السما ... يا قومنا ارتدعوا عن العدوان كم ذا مشبهة وكم حشوية ... فالبهت لا يخفى على الرحمن تدرون من سَمَّتْ شيوخكم بهـ ... ـذا الاسم في الماضي من الأزمان   (1) البلكفة: يعنون بها عبارة " بلا كيف "، وذلك أن المتبعين صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والسلف رضوان الله عليهم يقولون مثلا: نثبت استواء الله على العرش بمعنى أنه علا وارتفع، لكن بلا كيف، فأتت عبارة بكلفة من عبارة " بلا كيف ". (2) في حجة الله البالغة: " علي ". (3) في الأصل: " روايتهم "، وما أثبته من حجة الله البالغة. (4) حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي (1 / 64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 سمى به ابنُ عبيدٍ عبدَ الله ذا ... ك ابنَ الخليفة طارد الشيطان (1) فورثتم عَمْرًا كما ورثوا لعبـ ... ــــد الله أَنَّى يستوي الإرثان تدرون من أولى بهذا الاسم وهـ ...   و مناسب أحواله بوزان من قد حشا الأوراق والأذهان من ... بدع تخالف مقتضى القرآن هذا هو الحشوي لا أهل الحديـ ... ـــــث أئمة الإسلام والإيمان وَرَدُوا عِذاب مناهل السنن التي ... ليست زبالة هذه الأذهان وَوَرَدْتُمُ الْقَلُّوطَ (2) مجرى كل ذي الْـ ... أوساخ والأقذار والأنتان وَكَسِلْتُمُ أن تصعدوا للوِرد من ... رأس الشريحة خيبة الكسلان (3) . وحاصل هذه الأبيات أن أعداء الحق وخصوم السنة وأضداد الكتاب والسنة يلقبون سلف الأمة المتمسكين بالكتاب والسنة بلقب " الحشوية ": فالخواص منهم يقصدون بهذا الاسم أن المسمى به حشو في الوجود، وفضلة في الناس، لا يُعْبَأ بهم، ولا يقام لهم وزن؛ إذ لم يتبعوا آراءهم الكاسدة، وأفكارهم الفاسدة. وأما العوام منهم فيظنون أن تسمية السلف بالحشوية لقولهم بالفوقية، وكون الإله في السماء، بمعنى أنهم اعتقدوا - وحاشاهم - أن الله تعالى حَشْوُ هذا الوجود، وأنه داخلَ الكون - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا -، وهذا بهتان عظيم على أهل الحديث. على أن هذا القول لم يقل به أحد (4) .   (1) انظر: منهاج السنة النبوية (2 / 520) ، حيث ذكر أن عمرو بن عبيد سمى عبد الله بن عمر حشويا. (2) قال ابن عيسى في شرح الكافية الشافية (2 / 86) : " القلوط - بفتح القاف وتشديد اللام وبالطاء المهملة - هو نهر بدمشق الشام يحمل أقذار البلد وأوساخه وأنتانه، ويسمى في هذا الوقت: قليطا بالتصغير ". قلت: وقد أصبح الآن اسمه قليط من غير تصغير. (3) الكافية الشافية (ص 108) ، وبشرح العلامة ابن عيسى (2 / 79) ، وبشرح د. محمد خليل هراس (1 / 333 - 335) . (4) أما كونه تعالى في السماء فمما لا شك فيه، لأدلة كثيرة وكثيرة جدا، منها أنه " على العرش استوى " [طه: 5] ، ومعلوم أن العرش فوق السماء، فهو سقف الجنة، ومنها سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجارية: " أين الله؟ " قالت: " في السماء " كما في مسلم في (الصلاة: 1199) ، بل قد ألف الحافظ الذهبي كتابا كاملا في إثبات العلو لله تعالى، وهو كتاب " العلو للعلي الغفار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأعداء الحق في عصرنا هذا على هذا المسلك الجاهلي، فتراهم يرمون كل من تمسك بالكتاب والسنة بكل لقب مذموم بين المسلمين، والله المستعان على ما يصفون. [ السادسة والخمسون افتراء الكذب على الله والتكذيب بالحق ] السادسة والخمسون افتراء الكذب على الله، والتكذيب بالحق وشواهد هذه المسألة من الكتاب والسنة كثير، وهذا دأب المخالفين للدين المبين كاليهود والنصارى، يدعون أن ما هم عليه هو الحق، وأن الله أمرهم بالتمسك به، وأن الدين المبين ليس بحق، وأن الله تعالى أمرهم بتكذيبه، كل ذلك لاتباع أسلافهم، لا ينظرون إلى الدليل، وهكذا أهل البدع والضلالات يعتقدون بدعهم الحق، وأن الله أمرهم بها، وأن ما عليه أهل الحق مُفْتَرًى، لا يصدقون به (1) .   (1) وهذا دليل على هذه المسألة وهو ما رواه البخاري في (المناقب باب قول الله تعالى: "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" [البقرة: 146] : 3635) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرُجما، وعند مسلم في (الحدود: 4437) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا: نسوِّد وجوههما ونحمِّلهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: " فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين " فجاؤوا بها، فقرؤوها حتى إذا ما مرُّوا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مُرْهُ فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. فأين هم من قولهم: "نؤمن بما أنزل علينا" [البقرة: 91] ؟! ويأتي الكلام على هذه الآية في المسألة الثانية والستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَكُلٌّ يدَّعي وصلا لِلَيْلَى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا [ السابعة والخمسون رمي المؤمنين بطلب الغلو في الأرض ] السابعة والخمسون رمي المؤمنين بطلب الغلو في الأرض قال تعالى في سورة " يونس " [78] : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] هذا الكلام مسوق لبيان أن موسى عليه السلام ألقمهم الحجر، فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح، واضْطُرُّوا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دَأَب كل عاجز محجوج، ودَيْدَن كل معالج لجوج. على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه عليه السلام على طريقة: قال موسى، كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجَّة: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 78] أي: الْمُلْك. كما رُوِيَ عن مجاهد (1) وعن الزَّجَّاج أنه سُمِّيَ الْمُلْكُ كبرياءَ، لأنه أكبر ما يُطلَب من أمر الدنيا (2) . فكل من دعا إلى الحق رماه من كان على المسلك الجاهلي أن قصده من الدعوة طلب الرئاسة والجاه، من غير أن ينظروا إلى ما دعا إليه، وما قام عليه من البراهين.   (1) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (3 / 314) . (2) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (3 / 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 [ الثامنة والخمسون رمي المؤمنين بالفساد في الأرض ] الثامنة والخمسون رمي المؤمنين بالفساد في الأرض شاهد هذه المسألة آيات كثيرة، حاصلها أن المخالفين لهم من المؤمنين مفسدون في الأرض. انظر إلى قولهم في أوائل سورة " البقرة " [الآية: 11] ، كيف ادَّعَوْا أنهم هم مصلحون، وقد رد الله عليهم بقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وهكذا من هو على شاكلة أولئك من الذين استحلوا غيهم، وتمكنت بدعهم من قلوبهم. ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ ... يَجِدْ مرا به الماء الزُّلَالَا نسأله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه القويم، وأقدامنا على الصراط المستقيم (1) .   (1) قال الله تعالى: "وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون" [الأعراف: 127] . يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه، وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى والبغضة، (وقال الملأ من قوم فرعون) أي: لفرعون (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) ، أي: يفسدوا أهل رعيتك، ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يا لله العجب! صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! إلا إن فرعون وقومه هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، ولهذا قالوا: (ويذرك وآلهتك) قاله ابن كثير في " تفسيره ". وقال تعالى: "قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا" [الأعراف: 128] ، فالمطلوب إذا عند شدة الأذى من الحكام: الاستعانة بالله والصبر؛ حتى يجعل الله للمؤمنين المتقين مخرجا، ويمكِّن للمؤمنين في الأرض. انتهى نقلا من " التفسير الوجيز على هامش الكتاب العزيز " (ص 165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [ التاسعة والخمسون رمي المؤمنين بتبديل الدين ] التاسعة والخمسون رمي المؤمنين بتبديل الدين قال تعالى في سورة " غافر " [26] : {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] اعتقدوا أن ما هم عليه من الضلال هو الدين الحق، ومن أراد تحويلهم عن اعتقادهم الكاسد، وصرفهم عما هم عليه من الغي، فقد أراد إخراجهم من الدين، وإفسادا في الأرض. وهكذا ديدن أعداء الحق في كل عصر. [الستون كونهم إذا غُلِبوا بالحجة فزعوا إلى السيف والشكوى إلى الملوك] الستون كونهم إذا غُلِبوا بالحجة فزعوا إلى السيف والشكوى إلى الملوك، ودعوى احتقار السلطان، وتحويل الرعية عن دينه قال تعالى في سورة " الأعراف " [127] : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127] فانظر إلى شكوى آل فرعون وقومه إليه، وتحريشهم إياه على مقاتلة موسى عليه السلام وتهييجه، وما ذُكِرَ في آخر الآية من احتقار ما كانوا عليه (1) .   (1) قال تعالى: "وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [ الحادية والستون تناقض مذهبهم لما تركوا الحق ] الحادية والستون تناقض مذهبهم لما تركوا الحق قال تعالى في سورة " ق " [4 - 5] : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ - بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 4 - 5] فقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] إلخ إضراب أُتْبِعَ الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق، الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] مضطرب، وذلك بسبب نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة، وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبئ عنه قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] تارة أخرى، وزعمهم أن النبوة سحر مرة أخرى، وأنها كهانة أخرى، حيث قالوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة: ساحر، ومرة: كاهن، أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له، وتكذيب وتردد فيه، أو قولهم في القرآن: هو شعر تارة، وهو سحر أخرى (1) . وقال تعالى في سورة " الذاريات " [7 - 11] : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ - إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ - يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ - قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات: 7 - 11] (الحبك) : جمع حبيكة كطريقة، أو حِباك كمِثال ومُثُل، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة، وهي ما يدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته إذا تأملها الناظر. وقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] أي: متخالف، متناقض في أمر الله عز وجل، حيث تقولون: إنه جل شأنه خلق السماوات والأرض، وتقولون بصحة عبادة الأصنام   (1) وهكذا فكل من ترك الهدى وقع في الهوى لا محالة، وكان أمره متناقضا مضطربا مختلطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 معه سبحانه، وفي أمر الرسول، فتقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه ساحر، ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر، فتقولون تارة: لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كُلِّفوا بالإيمان به. وقوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] أي: يُصْرَف عن الإيمان بما كُلِّفوا الإيمان به. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] أي: الكذابون من أصحاب القول المختلف. {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات: 11] الغمرة: الجهل العظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه، والسهو: الغفلة. وقال تعالى في أواخر سورة " الأنعام " [159] : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] هذه الآية استئناف لبيان أحوال أهل الكتابَيْن إثر بيان حال المشركين، بناء على ما رُوِيَ عن ابن عباس وقتادة: أن الآية نزلت في اليهود والنصارى. أي: بَدَّدوا دينهم، وبَعَّضوه، فتمسك بكل بعضٍ منه فرقةٌ منهم. {وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] أي: فرقا تُشايع كل فرقة إماما، وتتبعه، أي: تقويه، وتظهر أمره. أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلهم في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلهم في الهاوية إلا واحدة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في الهاوية إلا واحدة» . واستثناء الواحدة من فِرَق كل من أهل الكتابَيْن إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ، وأما بعده فالكل في الهاوية، وإن اختلفت أسباب دخولهم. {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] أي: من السؤال عنهم، والبحث عن تفرقهم، أو من عقابهم، أو أنت بريء منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] تعليل للنفي المذكور، أي: هو يتولى وحده أمرهم: أُولاهم وأُخراهم، ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة. ومن الناس من قال: المفرِّقون: أهل البدع من هذه الأمة: فقد أخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا} [الأنعام: 159] إلخ: " هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة» (1) . فيكون الكلام - حينئذ - استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين، إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد. والمقصود أن أهل الجاهلية سواء كانوا أميين أو كتابيين قد فرقوا دينهم، وتغايروا في الاعتقاد، فكان عُبَّاد الأصنام كل قوم لهم صنم يدينون له، ولهم شرائع مختلفة في عبادتها، ومنهم من كان يعبد كوكبا، ومنهم من كان يعبد الشمس، ومنهم، ومنهم، وكذلك الكتابيون على ما بَيَّنَّا. فالافتراق ناشئ عن الجهل، وإلا فالشريعة الحقة في كل زمان لا تعدد فيها ولا اختلاف، ولذلك ترى القرآن يوحد الحق ويعدد الباطل:   (1) قال ابن كثير رحمه الله في " تفسيره ": لكن هذا إسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه، اهـ. ثم قال بعد ذلك: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله " بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" [التوبة: 33] وشرعه واحد لا اختلاف فيه، ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي: فرقا كأهل الملل والنحل، وهي الأهواء والضلالات، فالله قد برَّأ رسوله مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك" الآية [الشورى: 13] اهـ. قلت: معنى (فرقوا دينهم) أي: بمخالفتهم له، واختلافهم فيه، (وكانوا شيعا) : فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، وكل الفرق إلا الفرقة الناجية، وهي الملتزمة بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (لست منهم في شيء) أي: أنت والرسل برآء منها. . انتهى نقلا عن " التفسير الوجيز على هامش الكتاب العزيز " (ص 150) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] فانظر كيف أفرد النور الذي هو الحق، وجمع الظلمات التي هي الباطل والزيغ، فتفرقة الآراء، والاختلاف في الاعتقاد من خصال الجاهلية وما كان عليه أهل الباطل، والاتفاق على العقيدة الحقة هو من دأب أتباع الرسل والمتمسكين بما شرعه الله تعالى. [ الثانية والستون دعواهم العمل بالحق الذي عندهم ] الثانية والستون دعواهم العمل بالحق الذي عندهم كما قال تعالى في سورة " البقرة " [91] : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أُنْزِل لتقرير حكمها، ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل - وهو الظاهر، وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم - وإما أنفسهم، ومعنى الإنزال عليهم: تكليفهم بما في الْمُنَزَّل من الأحكام. وذُمُّوا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، ودسائس اليهود مشهورة، وتمام الكلام في التفسير (1) .   (1) يكذب دعواهم العمل بالحق الذي عندهم، تركهم رجم الزاني مع اعترافهم أنه في كتابهم، كما يأتي في هامش ص (129) . وقد تقدم أيضا في هامش المسألة السادسة والعشرين أنهم كفروا بعيسى وفي كتابهم التصديق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 [ الثالثة والستون الزيادة في العبادة ] الثالثة والستون الزيادة في العبادة كفعلهم يوم عاشوراء (1) .   (1) وهذه الخصلة الجاهلية لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، فأنت ترى البدع الكثيرة المنتشرة في شرق العالم الإسلامي وغربه، والبدع في تكاثر مستمر، حتى أصبح بعض المنتسبين للعلم والمشيخة يخترعون ويبتدعون ما لم يأذن به الله، وصار هذا عائقا كبيرا أمام من يريد معرفة الإسلام على وجهه الصحيح، كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاللهم يا ولي الإسلام وأهله اهدهم وأصلح قلوبهم. أما بالنسبة لبدع يوم عاشوراء فهي لا تزال مثل ضرب الرؤوس بالسيوف وجرحها، وإسالة الدماء، وضرب الظهور بالسلاسل ضربا مبرحا. كما يوجد كثير من البدع في ذلك اليوم، بعضها مستند إلى أحاديث واهية، وأكثرها "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" [الزخرف: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [ الرابعة والستون النقص من العبادة ] الرابعة والستون النقص منها كتركهم الوقوف قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] أي: من عرفة، لا من مزدلفة (1) . والخطاب عامٌّ، والمقصود إبطال ما كان عليه الْحُمْس من الوقوف بِجَمْعٍ. فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكانت سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] » (2) . ومعناها: ثم أفيضوا أيها الْحُجَّاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة، لا من مزدلفة. [الخامسة والستون تَعَبُّدُهم بترك أكل الطيبات من الرزق وترك زينة الله التي أخرج لعباده] الخامسة والستون تَعَبُّدُهم بترك أكل الطيبات من الرزق، وترك زينة الله التي أخرج لعباده قال تعالى في سورة " الأعراف " [31 - 32] :   (1) فكانوا يتركون الوقوف بعرفة مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، لكن ابتدعوا من عندهم الوقوف بمزدلفة، وقالت عائشة رضي الله عنها: " كان الناس يُفيضون من عرفات، وكانت الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) رجعوا إلى عرفات " رواه مسلم في (الحج: 2955) . وكان من توفيق الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة أنه كان يقف بعرفة مع الناس كما رواه مسلم برقم (2956) . (2) رواه البخاري في (التفسير سورة البقرة: 4520) ، ومسلم في (الحج: 2954) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 32] وسبب النزول - على ما رُوِيَ عن ابن عباس - أنه كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة، حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سُفْلها سُيُورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذناب، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] إلخ. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] مما طاب لكم. قال الكلبي: " كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى الآية ". ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا. {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بتحريم الحلال، كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] من الثياب وكل ما يُتَجَمَّل به. {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] أي: من المستَلَذَّات، وقيل: المحَلَّلَات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] أي: هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى، والكفرة - إن شاركوهم فيها - فبالتبع. {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] لا يشاركهم فيها غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [السادسة والستون تعبدهم بالْمُكاء والتصدية] السادسة والستون تعبدهم بالْمُكاء والتصدية قال تعالى في سورة " الأنفال " [35] : {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] تفسير هذه الآية: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} [الأنفال: 35] أي: المسجد الحرام، الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله، فينبغي أن يعظم بالعبادة، وهم لم يفعلوا. (إلا مكاء) أي: صفيرا. (وتصدية) أي: تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت. والمراد بالصلاة: إما الدعاء، أو أفعال أخر كانوا يفعلونها، ويسمونها صلاة، وحُمِلَ المكاء والتصدية عليها بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها، ولا معنى لها كصفير الطيور، وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي يليق أن تقع عند البيت. يُروى أنهم كانوا إذا أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق (1) . ويُروى أنهم يصلون - أيضا -. ويُروى أنهم كانوا يطوفون عراة: الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم،   (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (9 / 241) عن ابن عمر، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد كما في الدر المنثور (3 / 183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يصفرون فيها، ويصفقون (1) . وباقي الآية معلوم. والمقصود أن مثل هذه الأفعال لا تكون عبادة، بل من شعائر الجاهلية. فما يفعله اليوم بعض جهلة المسلمين في المساجد من المكاء والتصدية يزعمون أنهم يذكرون الله، فهو من قبيل فعل الجاهلية، وما أحسن ما يقول القائل فيهم: أقال الله صفِّقْ لي وغَنِّ ... وقل كفرا وسم الكفر ذكرا وقد جعل الشارع صوت الملاهي صوت الشيطان، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64] [ السابعة والستون دعواهم الإيمان عند المؤمنين فإذا خرجوا خرجوا بالكفر الذي دخلوا به ] السابعة والستون دعواهم الإيمان عند المؤمنين، فإذا خرجوا خرجوا بالكفر الذي دخلوا به (2) .   (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (9 / 241) عن سعيد بن جبير. (2) كما قال تعالى: "وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون" [المائدة: 61] ، وقال تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون" [البقرة: 14] ، وقال تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" [المنافقون: 1 - 3] . وهذه حال كثير من الدعاة إلى الباطل، حيث تجده يخرب في الإسلام مع ادعائه الحرص عليه وعلى أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 [ الثامنة والستون دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم ] الثامنة والستون دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم (1) . [ التاسعة والستون دعاؤهم الناس إلى الكفر مع العلم ] التاسعة والستون دعاؤهم الناس إلى الكفر مع العلم (2) .   (1) كفعل النصارى، فإنهم لا علم عندهم، ومع ذلك يدعون إلى باطلهم، ويتعصبون له، وكأنه هو الحق، ولئن جاءهم كتاب من الله على لسان نبيهم عيسى عليه السلام، فإنه لم يلبث أن حُرِّف وغُيِّر وبُدِّل، ولأهل الضلال من الفرق الإسلامية في عصرنا من هذه الخصلة الجاهلية حظ وافر، ونصيب كامل، و "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون" [الأعراف: 186] ، فتراهم - مع انحرافهم عن الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم - ينشطون في بث باطلهم ودعاتهم شرقا وغربا، وينفقون على ذلك الأموال الطائلة. وتجدهم مع ذلك متحمسين لباطلهم، مدافعين عنه، داعين الناس إليه، مع جهلهم بمنهج الفرقة الناجية، ألا وهي التي تكون كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. والله الموفق. (2) هذا كفعل يهود ومشركي قريش وفرعون، أما اليهود فإنهم يعلمون من كتبهم صدق نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك يدعون الناس إلى مخالفته والكفر به، وتكذيبه، كما قال تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" [البقرة: 109] ، وقال تعالى: "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون" [آل عمران: 71] ، وقال تعالى: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون" [آل عمران: 99] . أما مشركي قريش فقد كفروا عنادا ومكابرة، وتجرؤوا إلى أن دعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفر بالله، وذلك بأن يعبد ما يعبدون، ويعبدون ما يعبد. فعن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطوه مالا؛ فيكون أغنى رجل بـ (مكة) ، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: " ما هي؟ " قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة. قال: " حتى أنظر ما يأتي من عند ربي ". فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: "قل يا أيها الكافرون" السورة، وأنزل الله: "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" إلى قوله: "بل الله فاعبد وكن من الشاكرين" [الزمر: 64 - 66] أخرجه ابن جرير (30 / 1 33) ، وابن أبي حاتم، والطبراني كما في " الدر المنثور " (6 / 404) ، وإسناده حسن. كذا في صحيح السيرة النبوية (ص 207) . وكذلك فعل فرعون، فإنه دعا قومه إلي الكفر بالله وبرسوله مع علمه بصدق موسى عليه السلام، قال تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" [النمل: 14] ، وقال له موسى عليه السلام: "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا" [الإسراء: 102] ، لكنه استمر على كفره وإضلاله غيره مع يقينه بصدق موسى عليه السلام "وأضل فرعون قومه وما هدى" [طه: 79] ، وكذب على قومه في قوله: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" [غافر: 29] . ومشابهوهم في هذا العصر كثير، وذلك أن أغلب دعاة الضلالة يعلمون أن الحق هو ما عليه المتمسكون بمنهاج الفرقة الناجية، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ويستيقنون ذلك، ومع ذلك يدعون الناس إلى خلافه، ويشككونهم فيه؛ حسدا من عند أنفسهم، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 [السبعون المكر الكُبَّار] السبعون المكر الكُبَّار: كفعل قوم نوح قال تعالى في سورة " نوح " عليه السلام [22 - 24] : {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا - وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 22 - 24] ومعنى الكبار: الكبير. والمكر الكبار: احتيالهم في الدين، وصدهم للناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام. وهكذا فعل أخلاف هؤلاء من مَرَدَة الدين، وأتباع الهوى، وعبدة الدنيا، يفعلون مع دعاة الحق كما فعل قوم نوح عليه السلام معه، قد تشابهت قلوبهم، نسأله تعالى أن يعيذ رجال الحق من كيد مثل هؤلاء الفجرة، ويصونهم من مكرهم. وَقَدْ جَرَّبْتُهُمْ فَرَأَيْتُ مِنْهُمْ ... خَبَائِثَ بِالْمُهَيْمِنِ نَسْتَجِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 [ الحادية والسبعون أئمتهم إما عالم فاجر وإما عابد جاهل ] الحادية والسبعون أئمتهم: إما عالم فاجر، وإما عابد جاهل قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ - وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79] فذكر في الآية أن فريقا من أسلاف اليهود - وهم الأحبار - كانوا يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم، بل كانوا يحرفونها بتبديل كلام من تلقائهم، كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه رويَ أنه من صفاته فيها أنه أبيض رَبْعَة، فغيروه بأسمر طويل، وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه كما في البخاري. (ومنهم) فريق {أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 78] إلا بالدعاوى الكاذبة، والمراد بهم جهلة مقَلِّدة، لا إدراك لهم. وتمام الكلام في هذا المقام يُطلب من التفسير. والمقصود أن تحريف الكلم، واتباع الهوى، والقول على الله من غير علم من خصال الجاهلية. وأنت تعلم حال أحبار السوء اليوم والرهبان الذين يقولون على الله ما لا يُعْلَم قد تجاوزوا الحد في اتباع الهوى، وتأويل النصوص، وما أشبه ذلك مما يستحيي منه الإسلام، والأمر لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 [ الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس ] الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس دليل هذه المسألة قوله تعالى في سورة " الجمعة " [6] : {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] أي: تهودوا، أي: صاروا يهودا. {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] أي: أحباء له سبحانه، ولم يضف (أولياء) إليه تعالى كما في قوله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} [يونس: 62] ليُؤْذِن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه بها. {مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة: 94] أي: متجاوزين عن الناس. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94] أي: فتمنوا من الله أن يميتكم، وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] في زعمكم، واثقين بأنه حق، فتمنوا الموت؛ فإنه من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار. وأُمِرَ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم، فإنهم كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ويدعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة، ويقولون: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] كما أخبر تعالى عن الكتابيين في كتابه، فقال جل شأنه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] ورويَ «أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 محمدا أطعناه، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير ابن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب؟! نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] » الآية (1) . {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] إخبار بحالهم المستقبل، وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص بأولئك المخاطَبين. ورويَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» (2) فلم يَتَمَنَّهُ أحد منهم، وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه صلى الله عليه وآله وسلم، فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم، ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات.   (1) ذكر ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: " قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " [البقرة: 94 - 95] ، عن ابن عباس رضي الله عنه: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: " قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: (فتمنوا الموت) فسلوا الموت. وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قوله: "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا، اهـ. ثم ذكر أثرا عن ابن عباس: قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس اهـ. فالمسألة على سبيل المباهلة، وليست كما ذكره الشيخ رحمه الله، قال ابن كثير رحمه الله: ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزمونا بما لا يلزمكم اهـ. ثم قال بعد: وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محقٍّ يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، لا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عظيمة عزيزة؛ لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت. اهـ. (2) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6 / 274) ، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس بلفظ: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي: بسببه، كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قَدَّمَتْ، والمراد بما قدمته أيديهم: الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95] أي: بهم، وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم، والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، أي: والله عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي، وبما سيكون منهم، فيجازيهم على ذلك. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة: 8] ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم. {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] البتة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الجمعة: 8] الذي لا تخفى عليه خافية. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها. وهذا ديدن الزائغين، وشأن الملحدين، كما قال تعالى عن اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] وقد ورث هذه الخصلة كثير ممن ينتمي إلى الملة الإسلامية، بل كل من الفِرَق يقول: نحن أولياء الله، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث الفِرَق في بيان الفرقة الناجية: «وهم ما أنا عليه وأصحابي» (1) .   (1) حسن: رواه الترمذي بلفظ: " ما أنا عليه وأصحابي " برقم (2641) . وقد تقدم ص (46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [ الثالثة والسبعون دعواهم محبة الله مع ترك شرعه ] الثالثة والسبعون دعواهم محبة الله مع ترك شرعه فطالبهم سبحانه بقوله في سورة " آل عمران " [31] : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] قال الحسن وابن جريج: «زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (1) . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: «وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشُّنوف (2) وهم يسجدون لها، فقال: " يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام "، فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله؛ لتقربنا إلى الله زلفى، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] إلخ» (3) . وفي رواية أبي صالح «أن اليهود لما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أنزل الله هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها» (4) . وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: " نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح، نعبده حبا لله، وتعظيما له، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم" (5) . وبالجملة: من تَلَبَّس بالمعاصي لا ينبغي له أن يدعي محبة الله، وما أحسن قول القائل:   (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 232) . (2) جاء في حاشية المطبوع ما نصه: " الشنف: القرط الأعلى، أو معلاق في قوف الأذن، أو ما علق في أعلاها، جمعه شنوف، وما علق في أسفل الأذن: قرط ". (3) ذكره البغوي في تفسيره (1 / 293) ، وابن الجوزي في زاد المسير (1 / 373) . (4) ذكر هذا الأثر الجوزي في زاد المسير (1 / 373) . (5) أخرجه ابن جرير في تفسيره (3 / 233) بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري (1) في القياس بديعُ لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع [الرابعة والسبعون تمنيهم على الله تعالى الأمانِيَّ الكاذبة] الرابعة والسبعون تمنيهم على الله تعالى الأمانِيَّ الكاذبة قال تعالى في سورة " آل عمران " [23 - 24] : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 - 24] أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت الْمِدْراسِ على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله تعالى، فقال النعمان بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: " على ملة إبراهيم ودينه "، قالا: " فإن إبراهيم كان يهوديا "، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " فَهَلُمَّا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأينا عليه "، فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وفي البحر: «زنى رجل من اليهود بامرأة، ولم يكن بعد في ديننا الرجم، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما أحكم بكتابكم "، فأنكروا الرجم، فَجِيءَ بالتوراة، فوضع حَبْرهم ابن صُورْيا يده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله، فأظهرها، فرُجِمَا، فغضبت اليهود، فنزلت» (2) .   (1) هذا قسم بغير الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي في (النذور والأيمان ما جاء في أن من حلف بغير الله فقد أشرك 1535) ، أما حلف الله بحياة نبيه في قوله: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" فالله يفعل ما يريد، ويقسم بما شاء، وفي الآية شرف عظيم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (2) روى القصة البخاري في صحيحه بالأرقام (1329 - 3635 - 4556 - 6819 - 6841 - 7332 - 7543) ، ومسلم برقم (4427 و 4440) وقد تقدمت ص (108) . وفي هذه القصة العجب العجاب من فعل أهل الجاهلية، وفيها عدة مسائل من مسائلهم: 1 - جحود ما يعلمون أنه من دينهم وفي كتابهم: وقد تقدم الكلام على مثل هذا في المسألة السادسة والعشرين من هذا الكتاب، وهذا دليل عليها وهو رواية البخاري في (التفسير سورة آل عمران: 4556) : فقد سألهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تجدون في التوراة الرجم؟ " قالوا: ما نجد فيها شيئا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم "فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فوضع مدراسُها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فترع يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم. 2 - الكذب على الله: وقد تقدم الكلام على مثل هذا في المسألة السادسة والخمسين. 3 - إلغاء أحكام الله، واستبدالها بأحكام وضعية وضعها بعضهم: في رواية للحديث السابق عند البخاري في (الحدود الرجم في البَلاط: 6819) قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية، وفي رواية لمسلم في (الحدود: 4440) : نجده الرجم، لكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله: "إن أوتيتم هذا فخذوه" [المائدة: 141] . يقول: ائتوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة: 44] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة: 45] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة: 47] في الكفار كلها. ولم أجد في الروايات المذكورة اسم من وضع يده على الآية، لكن في رواية البخاري (7543) قالوا: يا أعور: اقرأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ومعنى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] أي: المذكور من التولي والإعراض حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقاهم به، وهونوا به الخطوب، ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب. والمراد بالأيام المعدودات: أيام عبادتهم العجل. {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] أي: غرهم افتراؤهم وكذبهم، أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [آل عمران: 24] أو من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ، أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا، وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تَحِلَّةَ القسم. فرد عليهم سبحانه بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] إلخ. رُوِيَ أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار. وهكذا رأينا كثيرا من أهل زماننا يفعلون ما يفعلون من المنكرات، اعتمادا على الشفاعة، أو على علو الحسب وشرف النسب، والله المستعان. وفي سورة " البقرة " [80 - 82] : {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 82] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 [ الخامسة والسبعون اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ] الخامسة والسبعون اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد هذه المسألة من خصال الكتابيين أيام جاهليتهم. وفي ذلك ورد الحديث الصحيح: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) ثم قال: «فلا تتخذوها مساجد» (2) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3) . وفي لفظ لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (4) . وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا (5) «لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طَفِقَ يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، يحذر ما صنعوا " (6) . وفي الصحيحين - أيضا - عن عائشة «أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: " مارية "، وذكرتا من حسنها وتصاوير   (1) رواه البخاري في (الجنائز ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: 1390) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة: 1184) . (2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك " رواه مسلم في (المساجد: 1188) . (3) رواه البخاري في (الصلاة: 437) ، ومسلم برقم (1185) من غير لفظة: " والنصارى ". (4) مسلم برقم (1184) . (5) في الأصل: " قال " والتصويب من البخاري برقم (435، 436) . (6) رواه البخاري برقم (435، 436 - 3453، 3454 - 4443، 4444 - 5815، 5816) بلفظ " لعنة الله على اليهود والنصارى. . . "، ومسلم بنحوه برقم (1187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» (1) . وعن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، رواه أهل السنن الأربعة (2) .   (1) رواه البخاري في صحيحه في (الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ : 427، وباب الصلاة في البيعة: 434) ، وفي (الجنائز بناء المسجد على القبر: 1341) وهو أقرب لفظ إلى ما ذكره المصنف رحمه الله، ومسلم في (المساجد: 1181، 1182، 1183) . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود برقم (3236) ، والنسائي في " الصغرى " برقم (2045) ، والترمذي برقم (320) ، والطيالسي في مسنده (ص 357) برقم (2733) وغيرهم. وفي سنده: أبو صالح وهو باذان، وهو ضعيف عند جمهور النقاد، ولم يوثقه أحد إلا العجلي وحده كما قال الحافظ في " التهذيب "، بل كذبه إسماعيل بن أبي خالد والأزدي، ووصمه بعضهم بالتدليس، وقال الحافظ في " التقريب ": " ضعيف مدلس ". وقد صح بلفظ " لعن رسول الله زوارات القبور " عند ابن ماجه في (الجنائز ما جاء في النهي عن زيارة القبور للنساء: 1574) واللفظ له، وهو حديث حسن، ورواه الترمذي أيضا في (الجنائز ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء: 1056) قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن. اهـ. قلت: إنما اللعن على " زوارات القبور " وهي من تكثر من زيارتها، أما من زارت من غير كثرة؛ للاعتبار والاتعاظ مع الصبر والاحتساب، فلا لعن عليها، بل تؤجر إن شاء الله. وقد تقدمت الأحاديث الصحيحة التي فيها لعن المتخذين المساجد على القبور، وأما السرج على القبور فيستدل عليه بحديث: " شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " رواه ابن ماجه في (المقدمة باب اجتناب البدع والجدل: 45) ، وقد نهى الله سبحانه عن إضاعة المال، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ونهى عن ثلاث: قيل وقالٍ، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " رواه مسلم في (الأقضية: 4486) ، وكذلك عموم المنع عن مشابهة المشركين، وقد تقدم شيء من الأدلة على ذلك في المقدمة ص (12 - 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فهذا التحذير منه، واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة. وفي هذا دليل على الحذر عن جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن يكون من هذا الجنس. ثم من المعلوم ما قد ابْتُلِيَ به كثير من هذه الأمة من بناء القبور مساجد، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم، معلون فاعله بالمستفيض من السنة، وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار، ولهذا كان السلف يبالغون في المنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 [ السادسة والسبعون اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد ] السادسة والسبعون اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد كما ورد عن عمر رضي الله عنه فإن هذه المسألة من بدع جاهلية الكتابيين، كانوا يتخذون آثار أنبيائهم مساجد، فورثهم الجاهلون من هذه الأمة، فتراهم يبنون على موضع اختفى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو وصل قدمه المبارك، أو تعبد فيه، فهذا ليس يحمد في الشريعة؛ لجره إلى الغلو. وفي العراق مواضع كثيرة بنوا عليها مبانِيَ كالمقام الذي زعموا أن الشيخ الكيلاني تعبد فيه، وكأثر الكف الذي زعم الشيعة أنه أثر كف الإمام علي لما وضعه على الصخرة فأَثَّر فيها، فبنوا عليها مسجدا، وكعدة أماكن زعموا أن الخضر رُئِيَ فيها، ولا أصل له، إلى غير ذلك مما لا يستوعبه المقام. فينبغي لمن يدعي الإسلام أن يتجنبها، وينهى عن حضورها، وإن رُمِيَ بالإنكار، وعداوة الأشرار، وكيد المارقين الفجار. وفي المسألة تفصيل لا بأس بذكره: قال شيخ الإسلام: " أما مقامات الأنبياء والصالحين - وهي الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه - لكنهم لم يتخذوها مساجد - فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء مشهورين: أحدهما: النهي عن ذلك، وكراهته، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة، وكما تُقْصَد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول، ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 القول الثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلكها اتفاقا لا قصدا. وسئل الإمام أحمد عن الرجل يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي في بيته حتى يَتَّخِذَ ذلك مُصَلّى (1) وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأثره، فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا، وأكثروا فيه. وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيه، فيصلي في بيته، حتى يتخذه مسجدا، وعلى ما كان يفعل ابن عمر، «كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه رُئِيَ يصب في موضعٍ ماءً، فسئل عن ذلك، فقال: " رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصب هاهنا ماء» (2) قال: أما على هذا فلا بأس به. قال: ورخص فيه، ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جدا، وأكثروا في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواهما الخلَّال في كتاب الأدب. فقد فَصَّل أبو عبد الله في المشاهد - وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة - بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا، أو الكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم. وهذا التفصيل جَمَعَ فيه بين الآثار وأقوال الصحابة: فإنه قد روى البخاري في صحيحه «عن موسى بن عقبة قال: " رأيت سالم بن   (1) لم أجده من حديث ابن أم مكتوم، وإنما وجدته من حديث عتبان بن مالك عند البخاري في صحيحه في (الصلاة المساجد في البيوت: 425) وفي مواضع أخرى، وهي بالأرقام (667 و840 و 1186 و5401) ، ومسلم في (الإيمان: 149) وبرقم (1496) . (2) ذكر الأثر ابن الأثير في أسد الغابة (3 / 237) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (3 / 213) وفي الأصل " هنا " وما أثبته من الاقتضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في تلك الأمكنة» (1) . فهذا كما رخص الإمام أحمد. وأما كراهته، فقد روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا أبو معاوية قال: «حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فقال: " هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، من عرضت له منكم الصلاة فيه فَلْيُصَلِّ، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض» (2) . فقد كره عمر اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيدا، وبَيَّنَ أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبِيَعًا. وروى محمد بن وضاح وغيره: " أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الناس كانوا يذهبون تحتها، فخاف عمر الفتنة عليه " (3) . وما ذكره عمر هو الحري بالقبول، وهو مذهب جمهور الصحابة، غير ابنه (4) وهو الذي يجب العمل به، ويُعَوَّل عليه.   (1) رواه البخاري في (الصلاة / المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم (483) ، وفيه: " فيصلي " بدل " ويصلي ". (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (كتاب الصلاة / باب ما يقرأ في الصبح في السفر: 1 / 118 - 119 برقم 2734) ، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 41 - 42) . (3) لعل الصواب " عليهم ": رواه ابن وضاح في " البدع والنهي عنها " ص (42 - 43) . اقتضاء الصراط المستقيم (2 / 742 - 744) مع اختلاف بكلمات يسيرة. (4) إنما أراد ابن عمر رضي الله عنهما بفعله الاقتداء لا التبرك؛ لأن من تبرك بشجرة أو حجر أو غيرهما فقد أشرك، وهي من صفات أهل الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 [السابعة والسبعون اتخاذ السُّرُج على القبور] السابعة والسبعون اتخاذ السُّرُج على القبور دليل حرمة ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث الذي سبق ذكره من لعن من يفعل ذلك (1) . وليتك رأيت ما يُوقَد في ترب أئمة أهل البيت ونحوها من الشموع، ولا سيما في ليالي رمضان والليالي المباركة، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] [ الثامنة والسبعون اتخاذ القبور أعيادا ] الثامنة والسبعون اتخاذها أعيادا اعلم أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائدا ما تعود السنة أو يعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أمورا. منها: يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة. ومنها: اجتماع فيه. ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا. هؤلاء مسلمو أهل العراق، لكل تربة ولي يوم مخصوص يجتمعون فيه للزيارة كزيارة الغدير، ومَرَدِّ الرأس. ومنهم من خُصَّ له يوم من أيام الأسبوع، فالجمعة لفلان، والسبت لفلان، والثلاثاء لفلان، وهكذا.   (1) الحديث ضعيف، وتقدم الكلام على ذلك في المسألة الخامسة والسبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ومن ذلك بعض الأيام والليالي المباركة كليلة القدر، وأيام الأعياد، وليلة النصف من شعبان (1) وغير ذلك، كل ذلك مما لم ينزل الله به من سلطان، ومن مكايد الشيطان. [ التاسعة والسبعون الذبح عند القبور ] التاسعة والسبعون الذبح عند القبور قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] الأنعام: [162 - 163] . أمره الله تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون له، أي: أنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والانقياد بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى، فمن تقرب لغير الله تعالى ليدفع عنه ضيرا، أو يجلب له خيرا، تعظيما له، من الكفر الاعتقادي والشرك الذي كان عليه الأولون. وسبب مشروعية التسمية تخصيص مثل هذه الأمور العظام بالإله الحق المعبود العلَّام، فإذا قصد بالذبح غيره كان أولى بالمنع. «وصح نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عمن استأذنه بالذبح بِبُوَانَةَ، وأنه قد نذر ذلك، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: " أكان فيها صنم؟ "، قال: " لا "، قال: " فهل كان فيها عيد من أعياد المشركين؟ "، قال: " لا "، قال: " فأوف بنذرك» . أخرج ذلك أبو داود في سننه (2) .   (1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يطَّلِع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه " حديث حسن، رواه الطبراني في " الكبير "؛ وهو في " صحيح الجامع " برقم 1898. (2) في كتاب (الأيمان والنذور ما يؤمر به من الوفاء والنذر: 3313) ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا، قال: " هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، قال النبي صلى الله عليه: وآله وسلم: " أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وهذا السائل مُوَحِّد مُقَرِّب لله سبحانه وتعالى وحده، لكن المكان الذي فيه معبود غير الله، وقد عُدِم، أو محل لاجتماعهم يصلح مانعا، فلما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ليس هناك شيء من ذلك أجازه، ولو علم شيئا مما سأل عنه لمنعه؛ صيانة لحمى التوحيد، وقطعا لذريعة الشرك. وصح - أيضا - عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب "، قالوا: " كيف ذلك يا رسول الله؟! " قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرِّب له شيئا، قالوا له: قَرِّبْ ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت أقرب شيئا لأحد دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة» . ففي هذا الحديث من الفوائد: كون المقرِّب دخل النار بالسبب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم، وأنه كان مسلما، وإلا لم يقل: دخل النار. وفيه ما ينبغي الاهتمام به من أعمال القلوب، التي هي المقصود الأعظم والركن الأكبر. فتأمل في ذلك، وانظر إلى فؤادك في جميع ما قالوه، وَأَلْقِ سمعك لما ذكروه، وانظر الحق، فإن الحق أبلج، والباطل لَجْلَج، فبالنظر التام إلى ما كان عليه المشركون من تقربهم لأوثانهم؛ لتقربهم إلى الله؛ لكونهم شفعاء لهم عند الله، وشفاعتهم بسبب أنهم رسل الله أو ملائكة الله أو أولياء الله، يتبين لك ما عليه الناس الآن، والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 [الثمانون التَّبَرُّك بآثار المعظَّمين كدار الندوة] الثمانون التَّبَرُّك بآثار المعظَّمين كدار الندوة (1) وافتخار من كانت تحت يده بذلك كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش؟! فقال: «ذهبت المكارم إلا التقوى» (2) . هذه الخصلة قد امتدت عروق ضلالها في أودية قلوب جهلة المسلمين، وزادوا في الغلو بها على ما كان عليه جاهلية العرب والكتابيين. ولا بدع من حكيم بن حزام القريشي الأسدي إذا ما رد على من قال له: بعت مكرمة قريش؟ وقد باعها من معاوية بمائة ألف درهم: " ذهبت المكارم إلا التقوى ". كيف لا وقد كان عاقلا سريا، فاضلا تقيا، سيدا بماله غنيا، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحَمَلَ على مائة بعير، وحج في الإسلام ومعه مائة بدنة قد جللها بالحَبِرة، وكفها عن أعجازها، وأهداها، ووقف بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها: " عتقاء الله عن حكيم بن حزام "، وأهدى ألف شاة، وهو الذي عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ووُلِد في الكعبة.   (1) دار الندوة: دار بناها قصي بن كلاب، وكانت قريش تأتمر فيها، حيث كانوا يتيامنون بأمره " فما تنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقد لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها من درعها، ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته، ومن بعد موته، كالدين المتبع " مختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام (1 / 125) . (2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3 / 186) برقم (3073) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 384) : " رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 [ الفخز بالأحساب والاستسقاء بالأنواء والطعن في الأنساب والنياحة ] الحادية والثمانون الفخز بالأحساب الثانية والثمانون الاستسقاء بالأنواء الثالثة والثمانون الطعن في الأنساب الرابعة والثمانون النياحة أقول: هذه المسائل الأربع دليل بطلانها حديث واحد، وهو ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، بسنده إلى أبي مالك الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (1) «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، [والنياحة] "، و [قال: "] النابحة - أو قال: النائحة - إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» (2) . الفخر في الأحساب: افتخارهم بمفاخر الآباء. والطعن في الأنساب: إدخالهم العيب في أنساب الناس؛ تحقيرا لآبائهم، وتفضيلا لآباء أنفسهم على آباء غيرهم.   (1) في الأصل: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثه قال) والتصويب من صحيح مسلم. (2) مسلم في (كتاب الجنائز: 2160) وما بين معكوفتين منه، وقوله: (والنابحة أو قال: النائحة) ليست في مسلم على الشك، وإنما: وقال: " النائحة إذا لم تتب. . . " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والاستسقاء بالنجوم: اعتقادهم نزول المطر بسقوط نجم في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من المشرق، فقد كانوا يقولون: مُطِرْنا بِنَوْء كذا، وقال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وهذا مفصل في كتب الأنواء بما لا مزيد عليه. ومعنى قوله في النائحة: " وعليها سربال من قطران ": أن الله تعالى يجازيها بلباس من قطران؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود. وقوله: " درع من جرب " يعني: يُسَلَّط على أعضائها الجربُ والحكةُ، حيث يغطي بدنها تغطية الدرع - وهو القميص -؛ لأنها كانت تجرح بكلماتها المحرقة قلوب ذوي المصيبات. فهذا الحديث دل على بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من هذه الخصال الرديئة. وورَّاثُهم (1) اليوم من هذه الأمة تجاوزوا فيها أسلافهم، وزادوا في الطنبور نغمات، فتراهم يفتخرون بمزايا آبائهم وهم بمراحل عنهم، فهذا يقول: كان جدي الشيخ الفلاني، وهذا يقول: جدي العالم الرباني، إلى غير ذلك. وكذلك الطعن في الأنساب، فهذا يقول: إن آباء فلان لم يكونوا من العترة الطاهرة. وكذلك الاستسقاء بالأنواء، ولم يعتقد كثير من الناس أن ما كان من فعل رب الأرض والسماء. وهكذا النوح على الأموات، فقد اتخذه كثير من الناس من أفضل الأعمال، وسبب الوصول إلى مرضاة ذي الجلال، لا سيما من اتخذ المآتم الحسينية في كل عام، فهناك من البدع ما تكل عن نقله ألسنة الأقلام، والويل كل الويل لمن أنكر شيئا من ذلك، فإنهم يوردونه موارد العطب والمهالك، والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.   (1) في الأصل: " وورثهم " ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 [ الخامسة والثمانون تعيير الرجل بفعل غيره لا سيما أبوه وأمه ] الخامسة والثمانون تعيير الرجل بفعل غيره، لا سيما أبوه وأمه فخالفهم صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: «أَعَيَّرْتَهُ بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية» . والحديث في صحيح الإمام البخاري في باب " المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية» ، وقول الله تعالى في سورة " النساء " [48] : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وهذا الباب في كتاب الإيمان من صحيحه، ثم قال: «حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة عن واصل عن المعرور، قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذة (1) وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: " إني ساببت رجلا، فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكُم، جعلهم الله [تعالى] تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» (2) . وقد أطنب شراح الحديث في شرحه، وليس هذا موضع استقصائه، والمقصود منه أن تعيير الرجل بفعل غيره ليس من شأن كامل الإيمان والمعرفة، «فإن أبا ذر رضي الله تعالى عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تَسَابَّ هو وبلال الحبشي المؤذن، فقال له: " يا ابن السوداء "، فلما شكا بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " شتمت بلالا، وعيرته بسواد أمه؟! "، قال: " نعم "، قال: " حسبت أنه بقي فيك شيء من كِبْر الجاهلية "، فألقى أبو ذر خده على التراب، ثم قال: " لا أرفع خدي حتى يطأ بلال خدي بقدمه» . والناس اليوم - والأمر لله - قد كثرت فيهم خصال الجاهلية، فتراهم يعيرون أهل البلد كلهم بما صدر عن واحد منهم، فأين ذلك من خصال الجاهلية؟!   (1) الربذة: قرية من قرى المدينة النبوية. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (3 / 43) . (2) صحيح البخاري برقم (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 [ السادسة والثمانون الافتخار بولاية البيت ] السادسة والثمانون الافتخار بولاية البيت فذمهم الله تعالى بقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] وهذه الآية في سورة المؤمنين، وهي بتمامها قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66 - 67] ومعنى الآية على ما في التفسير: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 66] تعليل لقوله قبل: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65] أي: دعوا الصراخ، فإنه لا يمنعكم منا، ولا ينفعكم عندنا، فقد ارتكبتم أمرا عظيما، وإثما كبيرا، وهو التكذيب بالآيات، فلا يدفعه الصراخ، فكنتم عند تلاوتها: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] أي: معرضون عن سماعها أشد الإعراض، فضلا عن تصديقها والعمل بها، والنكوص: الرجوع، والأعقاب: جمع عقب وهو مؤخر الرجل، ورجوع الشخص على عقبه: رجوعه في طريق الأول كما يقال: رجع عوده على بدئه. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} [المؤمنون: 67] أي: بالبيت الحرام، والباء للسببية وسُوِّغَ بهذا الإضمارُ، مع أنه لم يجر ذكر اشتهار استبكارهم، وافتخارهم بأنهم خُدَّام البيت وقُوَّامه. {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] أي: تسرون بذكر القرآن، والطعن فيه، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن، وتسميته سحرا أو شعرا. و {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] من الهجر - فتح فسكون - بمعنى القطع والترك، والجملة في موضع الحال، أي: تاركين الحق والقرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تقدير عود الضمير (به) له، وجاء الهجر بمعنى الهذيان، وجُوِّزَ أن يكون المعنى عليه، أي: تهذون في شأن القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه، أو ما يعم جميع ذلك، ويجوز أن يكون من الهجر - بضم فسكون - وهو الكلام القبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فأنكر الله تعالى عليهم بقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] ليعلموا - بما فيه من وجوه الإعجاز - أنه الحق من ربهم، فيؤمنوا به {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] أي: بل جاءهم. . إلخ. والمقصود أن من خصال الجاهلية التكبر بسبب الرئاسة على المواضع المقدسة، كما هو - اليوم - حال كثير ممن يدعي الشرف بسبب ذلك، فمنهم من ادعى الشرف على المسلمين بسبب رئاسته على مكة والمدينة، ومنهم من ادعاه بسبب الرئاسة في المشاهد أو مقامات الصالحين، وهؤلاء الذين يدعون انتسابهم إلى عبد القادر الْجِيلي في بغداد يدعون الشرف بسبب رئاستهم على قبر عبد القادر، واستيلائهم على النذور والصدقات والذبائح والقرابين الشركية، التي يتعبدها جهلة المسلمين من الهنود والأكراد ونحوهم، وهم أفسق خلق الله، وأدنؤهم نفسا، وأرذل خلق الله مسلكا، فما يفيدهم ذلك عند الله شيئا، وما ينجيهم من مقت الله وعذابه، وإن ظن بهم العوام ما ظنوا، فهم عند الله وعند عباده الصالحين أحقر من الذر، وأبعد عن رحمته يوم القيامة. [ السابعة والثمانون الافتخار بكونهم من ذرية الأنبياء عليهم السلام ] السابعة والثمانون الافتخار بكونهم من ذرية الأنبياء عليهم السلام فرد الله عليهم بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141] هذه الآية في آخر الجزء الأول من سورة " البقرة " وتفسيرها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 141] الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام وأولاده في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] إلخ. والأمة أتت لمعان، والمراد بها - هنا - الجماعة، من " أَمَّ " بمعنى قصد، وَسُمِّيَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك؛ لأنهم يؤم بعضهم بعضا، ويقصده. والخلو: المضي، وأصله الانفراد. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 141] والمعنى: أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي: المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا، فأصد عنكم بوجهي» . وهذا الحديث بمعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ومعنى قوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141] لا تؤاخَذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم. وهذه الخصلة موجودة اليوم في كثير من المسلمين، ورأس مالهم الافتخار بالآباء، فمنهم من يقول: أنا من ذرية عبد القادر الكيلاني، ومنهم من يقول: أنا من ذرية أحمد الرفاعي، ومنهم من يقول: أنا بكري، ومنهم من يقول: أنا عمري، ومنهم من يقول: أنا علوي أو حسني أو حسيني، ولا فضيلة لهم ولا تقوى، وكل ذلك لا ينفعهم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] ورسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول لفاطمة: «يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا» (1) . وما قَصْدُ أولئك المفتخرين بآبائهم - وهم عارون عن كل فضيلة - إلا أكل أموال الناس بالباطل، وفي المثل: " كن عصاميا، ولا تكن عظاميا ".   (1) رواه البخاري في (الوصايا هل يدخل النساء والولد في الأقارب؟ 2753) وبرقم (4771) بلفظ: " يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم سليني من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا "، ومسلم في (الإيمان: 504) بلفظ: " يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي ولله دَرُّ من قال يرد على المفتخر بذلك: أقول لمن غدا في كل يوم ... يباهينا بأسلاف عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري ... بأن الكلب يقنع بالعظام وقال آخر: وما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه [ الثامنة والثمانون الافتخار بالصنائع ] الثامنة والثمانون الافتخار بالصنائع كما افتخر أهل الرحلتين على أهل الحَرْث يريد بالرحلتين: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وهي عادة كانت لقريش، كما ذكر في سورة الإيلاف. والمقصود أنه لا ينبغي للتاجر أن يفتخر بتجارته على أهل الحرث، ولا أهل كل حرفة على المحترفين بحرفة أخرى، فإن كل ذلك من المكاسب الدنيوية التي يُتَوَصَّل بها إلى عبادة الله، وطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ليتوصل بذلك إلى النجاة الأبدية، وهي مدار الفخر. وأما ما سوى ذلك فكله ظل زائل ونعيم غير مقيم، فلا ينبغي للعاقل أن يفخر بزخارف الدنيا الدنيئة، ولا يعلم متى يفارقها. نسأله تعالى التوفيق، والعمل الصالح الذي يرضيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [ التاسعة والثمانون عظمة الدنيا في قلوبهم ] التاسعة والثمانون عظمة الدنيا في قلوبهم كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي: من خصال الجاهلية مراعاة الدنيا، وعظمتها في قلوبهم، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 30 - 32] هذه الآية في سورة " الزخرف "، وموضع الاستشهاد فيها قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] المراد من القريتين: مكة والطائف. قال ابن عباس: " الذي من مكة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والذي من الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وكل منهما كان عظيما، ذا جاه ومال، وكان الوليد بن المغيرة يسمى " ريحانة قريش "، وكان يقول: لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود، يعني عروة بن مسعود، وكان يكنى بذلك " (1) . وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة، وذلك أنهم أنكروا أولا أن يكون النبي بشرا، ثم لما بُكِّتُوا بتكرير الحجج، ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك، جاؤوا بالإنكار من وجه آخر، فحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين. وقولهم: {نُزِّلَ هَذَا} [الزخرف: 31] ذكر له على وجه الاستهانة؛ لأنهم لم يقولوا هذه المقالة   (1) ذكر ابن إسحاق الوليد بن المغيرة حيث قال: أيُنْزَل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف؟! فنحن عظيما القريتين. " السيرة " (1 / 487) معلقا، وقد وصله أبو نعيم في " الدلائل " (ص 169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 تسليما، بل إنكارا، كأنه قيل: هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم. وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية، والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية. فأنكر سبحانه عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] وفيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح، ولم نفوض أمرها إليهم، علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} [الزخرف: 32] في الرزق وسائر مبادئ العيش. {دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف وقوي، وغني وفقير، وخادم ومخدوم، وحاكم ومحكوم. {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى مرافقهم، لا لكمال في الْمُوَسَّع عليه، ولا لنقص في الْمُقَتَّر عليه، ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير خُوَيْصَّة أمرهم، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية وهو على طرف الثُّمام (1) بهذه الحالة، فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أنفسهم، وفي تدبير أمر الدين، وهو أبعد من مناط العَيُّوق، ومن أين لهم البحث في أمر النبوة، والتخير لها من يصلح لها، ويقوم بأمرها. وفي قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: 32] إلخ ما يُزَهِّد في الانكباب على طلب الدنيا، ويعين على التوكل على الله عز وجل، والانقطاع إليه جل جلاله.   (1) الثمام: جمع ثمامة وثُمَّة، وهي شجرة ضعيفة، فإذا كانوا - مع سهولة هذا الأمر الذي يشابه في ضعفه هذه الشجرة - فإنهم لا يستطيعونه، فكيف بما هو أشد منه، وهو أمر النبوة؟! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فَاعْتَبِرْ " نحن قسمنا بينهم " ... تلقه حقًّا وبالحق نزل {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] أي: النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين خير مما يجمعونه من حطام الدنيا الدنية، فالعظيم من رُزِق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني. وأنت تعلم أن كثيرا من الناس اليوم على ما كان عليه أهل الجاهلية في هذه الْخَصلة، فتراهم لا يعتبرون العلم إذا كان صاحبه فقير الحال، وينظرون إلى الغني، ويعتبرون أقواله. ولله در من قال: رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم [ التسعون ازدراء الفقراء ] التسعون ازدراء الفقراء فأنزل سبحانه قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أقول: هذه الآية في أوائل سورة " الأنعام "، وبيان معناها يتعلق بما قبلها، وهو قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 51 - 52] فلما أُمِرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نُهِيَ عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم. ويُفْهَم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا، ولا يفهم ذلك من البعض الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فقد أخرج الإمام أحمد والطبراني (1) وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده صُهَيْب وعمَّار وبلال وخَبَّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، رضيت هؤلاء من قومك! {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟! اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله تعالى فيهم القرآن: {وَأَنْذِرْ بِهِ} [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] » . وأخرج ابن جرير (2) وأبو الشيخ والبيهقي في " الدلائل " وغيرهم عن خباب قال: «جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حَقَروهم، فأتوه، فخَلَوا به، فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الْأَعْبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة، ودعا عليا ليكتب - ونحن قعود في ناحية - إذ نزل جبريل بهذه الآية: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ} [الأنعام: 52] إلخ، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد معنا، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم» . وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: " مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وقُرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعْبُد   (1) أحمد في مسنده (1 / 420) ، والطبراني في المعجم الكبير (10 / 268) . (2) في تفسيره (7 / 201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والحلفاء كان أعظم له في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصيرون إليه من أمرهم، فأنزل الله سبحانه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى حذيفة وصَبيحا مولى أسيد، والحلفاء: ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم، ونزل في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] جملة معترضة بين النهي وجوابه، تقريرا له، ودفعا لما عسى أن يُتَوَهَّم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم، كدأْب قوم نوح حيث قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] والمعنى: ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة، كما يقوله المشركون، حتى تتصدى له، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك - حسبما هو شأن منصب الرسالة - النظر إلى ظواهر الأمور، وإجراء الأحكام على موجَبها، وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي. ورُوِيَ عن ابن زيد أن المعنى ما عليك من شيء من حساب رزقهم (1) أي: من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم. وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] عطف على ما قبله، وجيء به - مع أن الجواب قد تم بذلك - مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه ينظِمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا، وهو كون انتفاء حسابه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، فهو على طريقة قوله سبحانه:   (1) روح المعاني (7 / 160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] في رأي. وقال الزمخشري: " إن الجملتين في معنى جملة واحدة يؤدي مؤدى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين (1) وتُعُقِّبَ بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل " (2) . وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] جواب للنهي. [ الحادية والتسعون عدم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر ] الحادية والتسعون عدم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والكلام على ذلك مفصل في التفسير وكتب الحديث والعقائد. والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ومن الشعر الجاهلي في إنكار البعث والنشور: وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشِّيزى تزين بالسنام وماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام تحيينا السلامة أم بكر ... فهل لي بعد قومي من سلام يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام (3) وقال آخر: حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو   (1) الكشاف للزمخشري المعتزلي (2 / 17) . (2) انظر: البحر المحيط (4 / 137 - 138) . (3) عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه تزوج امرأة من كلب يقال لها: أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر الذي قال هذه القصيدة رثى كفار قريش: " وماذا بالقليب. . . " الأبيات، رواه البخاري في (مناقب الأنصار هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة: 3921) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات: 16 - 17] وقد تكلمنا على معتقدات الجاهلية وأديانهم في غير هذا الموضع (1) . [الثانية والتسعون الإيمان بالْجِبْت والطاغوت وتفضيل دين المشركين على دين المسلمين] الثانية والتسعون الإيمان بالْجِبْت والطاغوت، وتفضيل دين المشركين على دين المسلمين قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] وقد تقدم الكلام على ذلك مفصلا (2) . والمقصود - هنا - أن جَهَلَةَ الكتابيين كانوا يقولون للمشركين: أنتم أهدى من المسلمين، وما عندكم خير مما عليه محمد وأصحابه. وترى المتصوفة والغلاة اليوم على هذا المنهج، يقولون: إن دعاة أهل القبور والغلاة خير ممن يمنع عن ذلك من أهل التوحيد وحُفَّاظ السنة. [ الثالثة والتسعون كتمان الحق مع العلم به ] الثالثة والتسعون كتمان الحق مع العلم به كما حكى الله ذلك عن أحبار بني إسرائيل من اليهود والنصارى، فقد كتموا ما ورد في كتبهم من البشائر المحمدية، وهم يعلمون بورودها وذكرها في كتبهم.   (1) وذلك في كتابه " بلوغ الأرب في أحوال العرب ". (2) (ص 96 - 97) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والكلام على هذا الباب مفصل في " الجواب الصحيح " (1) لشيخ الإسلام، فعليك به، فإنه كتاب لم يؤلف مثله. [ الرابعة والتسعون القول على الله بلا علم ] الرابعة والتسعون القول على الله بلا علم وهو أساس كل فساد وأصل الضلال. وأكثر الناس حظا من هذه الخصلة الجاهلية مبتدعة المتكلمين، فقد تكلموا في الصفات الإلهية بما لم يُنْزِل الله به من سلطان، وأوَّلوا نصوص الشريعة بما تهواه أنفسهم، كما فعله الرازي في كتابه: " أساس التقديس ". وجزى الله شيخ الإسلام خيرا، فقد رد عليه، ونقض أساسه، وسجل ضلاله وجهله، وضيق أنفاسه (2) {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] [ الخامسة والتسعون التناقض الواضح ] الخامسة والتسعون التناقض الواضح قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] وهكذا أهل البدع من الغلاة وغيرهم، يدعون الإسلام، ويعملون أعمالا تناقض ما هم عليه من الدين.   (1) (3 / 263 - 322) . (2) وذلك في كتابه: " بيان تلبيس الجهمية " أو " نقض تأسيس الجهمية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [العِيافة والطَّرْق والطِّيَرَة والكِهانة والتحاكم إلى الطاغوت] السادسة والتسعون، والسابعة والتسعون والثامنة والتسعون، والتاسعة والتسعون، والمائة العِيافة، والطَّرْق، والطِّيَرَة، والكِهانة، والتحاكم إلى الطاغوت، ونحو ذلك: وقد تكلمنا على هذه الأمور في كتابنا " بلوغ الأرب في أحوال العرب " (1) بما لا مزيد عليه، وذكرنا هناك أوابدهم وخرافاتهم وسائر ضلالاتهم، وكل ذلك من أعمال جهلة المسلمين اليوم، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] (2) .   (1) (3 / 269 - 326) وهذا الكتاب من أنفع الكتب في هذا الباب. (2) العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها، وأصواتها، وممرها، والطرق: الخط يخط بالأرض، ويسمونه خط الرمل وعلمه، ويزعم من يفعله أنهم يطلعون على المغيبات، ومثله قراءة الفنجان والكف، وغير ذلك، والطيرة: التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ وغيرها، فنهى الشرع عن التطير وذَمَّ المتطيرين، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة، وقد روى أحمد: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك "، والكاهن: كل من يدعي علم الغيب بأي طريق من الطرق، قال تعالى: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" [النمل: 65] ، فمن زعم خلاف ذلك فهو كافر، وأما التحاكم إلى الطاغوت: فكل من حاكم إلى غير الكتاب والسنة فقد حاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" [النساء: 60] . هذا آخر ما علقته على هذا الكتاب القيم " مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الجاهلية " أسأل الله العظيم أن يتقبله مني، وأن يجزي كل من قرأه وعمل به، وحرص على نشره وتوزيعه خير الجزاء. هذا وقد تجمع لدي أكثر من ستين مسألة من مسائل الجاهلية غير ما ذكره الشيخان رحمهما الله، أسأل الله العظيم أن ييسر طباعتها قريبا بفضله وجوده، وعليه التكلان، وبه الثقة، "وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" [هود: 88] . "رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا" [نوح: 28] . علي بن مصطفى خلوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وغالب مسائل الأصل رؤوس مسائل في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " ومن أراد التفصيل فليرجع إليه. وهذا آخر ما أردنا شرحه من المسائل التي أبطلها الإسلام، والحمد لله ولي الإنعام، والصلاة والسلام على خير الأنام، ومصباح الظلام، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى قيام الساعة وساعة القيام. وكان ذلك في اليوم الخامس من ذي الحجة الحرام، وهو يوم الخميس بعد الظهر من سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة النبي عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام. 5 - ذي الحجة سنة 1325 هـ. وقد فرغت من كتابته صباح الجمعة في اليوم السابع والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف من هجرة خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - في بغداد دار السلام، في جامع الحيدرخانة، وأنا الفقير إليه - عز شأنه - عبد الكريم بن السيد عباس الشيخلي غفر الله لهما ولجميع المسلمين. 27 - شعبان سنة 1344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157