الكتاب: المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية المؤلف: أبو البقاء هبة الله محمد بن نما الحلي (المتوفى: ق 6هـ) المحقق: (محمد عبد القادر خريسات، صالح موسى درادكة) (كلية الآداب - الجامعة الأردنية) الناشر: مكتبة الرسالة الحديثة، عمان الطبعة: الأولى، 1984م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية أبو البقاء الحلي الكتاب: المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية المؤلف: أبو البقاء هبة الله محمد بن نما الحلي (المتوفى: ق 6هـ) المحقق: (محمد عبد القادر خريسات، صالح موسى درادكة) (كلية الآداب - الجامعة الأردنية) الناشر: مكتبة الرسالة الحديثة، عمان الطبعة: الأولى، 1984م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم ....... للأزدهاق، والأزدهاق فيما روي: هو بيرواسب، وهو الذي كان يقال له الضحّاك، وكان جبّاراً عاتياً ساحراً، وهو الذي إنه كان على كتفه لحمتاك زائدتان كالحيتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 تؤلمانه فلا تسكنان حتى يطليهما بمخ أبن آدم، وكان يقتل في كل يوم رجلين ويطليهما بمخهما، وهو الذي قتل جمَّ الشيّذ الملك، وملك بعده فيما روي الف سنة. ملوك الفرس عهد يوسف عليه السلام وجمَّ الشيذ هو جم بن يونجان بن أنجهد بن أوشهنج بن واوك بن سامك بن مرشي بن جيومرت بن يافث بن نوح عليه السلام. وقيل إنه سمي جَمّ الشيذ لجماله، وإن الشيذ الشعاع، والضحاك منسوب إلى الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وبعض نزار فيما روي تقول هو الضحاك بن عدنان أخو معد بن عدنان، واليمن تدّعي وتزعم أنه قحطاني من ولد الهبوب بن الأزد، قال أبو نؤاس في أفتخاره: وكأن منا الضحاك تعبده ال ... جامل والوحش في مساربها والتقدير في درجات النسب لا يقتضي ما ذكرته نزار واليمن في ذلك، ولا يدل على صحته الا أننا ذكرناه على ما روي. ووثب أفريدون بن أثفيان بن جم الشيذ على الضحاك فقتله بجدّة، فأستراح أهل عصره منه، قال أبو تمام يمدح الأفشين ويذكر أيقاعه ببابك الخرمي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أبن كان كالضحاك في سطوته ... بالعالمين وأنت أفريدون يوسف عليه السلام وروي أن عزيز مصر الذي يوسف عليه السلام، لم يكن ملكاً برأسه. وأن ملك مصر وفرعون كان في ذلك الوقت الرّيان بن الوليد بن مروان بن راشية بن قاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وكان عزيز على خزائنه بمصر، فأسم العزيز فيهما روي قطفير وقيل أطفير بن روجيب، وكان فيهما روي لا يأتي النساء. وكان الذي باع يوسف عليه السلام بمصر مالك بن ذعر فروي في نسبه وجهان، فقيل هو مالك بن ذعر بن تويب بن عقفان بن مديان 00000 عليه السلام. نسب آخرون فقالوا: هو مالك بن ذعر حجر بن جزيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بن لخم. وقيل إنه أشتراه ثم باعه في مصر، وقيل بل هو أحد السيّارة، وقيل هو: واردهم الذي أخرجهم من الجب، وإن يوسف عليه السلام دعا له فولد له فولد له أربعة وعشرون ذكراً فسبحان العليم الخبير فالحقائق ذلك وغيره. فلما أشتراه أطفير أتى به منزله وقال لامرأته وأسمها راعيل " أكرمي سنواه عسى أن ينفعنا " ويكفينا ذا فهم الأمور ونتخذه ولدا فجرى له منها ما قصه الله تعالى في كتابه. وسجن، ثم إن الملك الريان أتهم حبازة إنه يريد أن يسمه، وأتهم صاحب شرابه أنه مالأه على ذلك فحبسهما. فقال أحدهما لصاحبه همّ فلنجرب هذا العبد العبراني، نسألاه من غير أن يكون رأيا شيئاً، فأجابهما بما قصه الله سبحانه، وقال الذي ضنّ إنه نوح منهما وهو الساقي " اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ". فمكث يوسف عليه السلام في السجن بضع سنين، إلى أن رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الملك الرؤيا في البقر والسنابل، فجمع السحرة والكهنة والحزارة والقافة ليعبروا رؤياه فقالوا: أضغاث أحلام. فقال الناجي من الفتيين وهو الساقي، وقيل والله أعلم أنه كان أسمه نبووا، أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني، وقيل إن السجن لم يكن بالمدينة، فانطلق إلى يوسف عليه السلام فاستفتاه فأخبره بالتأويل فرجع إلى الملك وأخبره فعلم أن الذي قاله يوسف عليه السلام حق فقال: " ائتوني به " فلما أتاه الرسول يدعوه إلى الخروج، قال: " ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن "، فلما رجع إليه، جمع الملك النسوة فقال لهن وقلن له، وقالت أمرأة العزيز ما قصه الله تعالى في كتابه، فتبين للملك عذر يوسف عليه السلام وأمانته، وثبت في نفسه صدقه وعلمه فقال: " ائتوني به أستخلصه لنفسي ". فلما جاءه وكلمه وقال له ما قال. قال له يوسف عليه السلام " اجعلني على خزائن الأرض " وقيل كانت له خزائن كثيرة غير الطعام. فسلم سلطانه كله إليه وجعل القضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 اليه، وقيل إنه أطفير وولاه عمله، فدل القرآن على إن يوسف عليه السلام خوطب بالعزيز أيضاً، فانه لما أعتاق أخاه بسبب الصواع، قال له أخوته: يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً. وقالوا له لما رجعوا اليه " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضٌّر ". ولعل كل من كان يلي ذلك العمل كان يخاطب بالعزيز والله سبحانه أعلم. وقيل إن أطفير هلك في يلك الليالي، فتزوج الملك يوسف عليه السلام بامرأته راعيل. فروي إنها لما دخلت عليه قال لها اليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فيزعمون أنها قالت له: أيها الصديق! لا تلمني فإني كنت أمرأة حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكانت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على ما رأيت. فيزعمون إنه وجدها عذراء فولدت له رجلين أفرايم ومنشّا. وجاء في رواية أخرى أن بعض الصالحين عليهم السلام سئل هل أعطى أحد من الصالحين مائة الف؟ فقال: نعم يوسف عليه السلام. فسئل كيف كان ذاك؟ فقال: أن أمرأة العزيز كبرت وأفتقرت، فقيل لها لو تعرضت ليوسف، فقد كان غلامك مرة، فوقفت له على طريق فسلمت عليه، فقال من أنت؟ فقالت: أنا تيكم فعرفها، فقال: مالك؟ فقالت: أقول لك ما قال لك أخوتك. فبعث اليها بمائة الف ولم يذكر في الحديث دينار ولا درهم فسبحان العالم بما كان وما يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وروي أن الملك الريان أمن وأتبع يوسف عليه السلام. ومات في حياته وإن آسية المؤمنة من ولده. وقيل من آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الرّيان. ثم ملك بعد الرّيان قابوس بن مصعب بن نُمير البيلوسي بن قاران بن عَمرو بن عِمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وكان كافرا، فدعاه يوسف عليه السلام الى الايمان فأبى، وتزوج آسية بنت مزاحم رضي الله عنها وطال عمره ومات يوسف عليه السلام في زمانه. موسى عليه السلام فلما هلك قابوس ملك بعده أخوه الوليد بن مصعب. وخلف على 15 آسيا رضي الله عنها وطال عمره وطغى وعتا وتجبر وهو العريق. فرعون موسى عليه السلام. روى إنه كان في مقدمته يوم تبع موسى صلى الله عليه، وبنى أسرائيل فأغرقه الله تعالى الف الف وستمائة الف سوى كان في المجنبتين والملقب، وأنه لما أشرف على البحر، فرآه طرقا يابسة، وبينها مياه كالأطواد قائمة هاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 النزول فيه، فسأل عن طيق في عبر البحر يلحق بني أسرائيل منها، فَدُلَّ على طريق فانصرف يريدها، وكان تحته حصان فيما روى والله سبحانه أعلم، فارسل الله سبحانه ملكناً على فرس أنثى فسارت أمام الحصان حتى أنتسى ريحها فطلبها في أبحر. فجمح الحصان بفرعون على أثر الفرس فنزل به فضن أصحابه إنه نزل طوعاً فنزل منهم من نزل وبعث الله سبحانه ثلاثين ملكاً على خيل يضربون وجوه الجنود، ويقولون الحقوا بالملك. فنزلوا حتى لم يبق منهم أحد الا في البحر، فأذاب الله سبحانه من البحر ما شاء حتى بلغ أرساغ خيلهم، فلم يزدهم ذلك الا جرأة فأذابه حتى بلغ وظف الخيل وركبها، فازدادوا جرأة، فأذابهحتى بلغ الركب فلم يكفوا وتموا على أمرهم فأذابه حتى بلغ السروج، فتذامروا فأذابه عليهم فأغرقهم، فقيل إن فرعون غاص ثم طفا، فاستغاث بالله عز وجل ثم غاص ثم طفا، فاستغاث به سبحانه ثانية، ثم غاص ثم طفا فأخذ جبريل عليه السلام حماة فسدَّ بها فاه، فأوحى الله سبحانه اليه لم فعلت؟ فقال: الهي وسيدي. إني ذكرت تجبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وطغيانه وقوله أنا ربكم الأعلى، وأنا أعلم رأفتك ورحمتك فخفت أن يدعوك ثالثة فتجيبه، فأوحى الله سبحانه لو دعاني لأجبته كذا روي فسبحان من لا يقنط من رحمته ولا يوئس من عفوه ومغفرته ومن عنده علم حقائق ذلك وغيره. التسمية بالملك وروي أنه كان في عصر بني أسرائيل كل من ملك داراً وضيعة وخادماً وفرساً سمي ملكاً. وذكر بعض أصحاب السيرة، أن الحارث بن عمرو الملك الكندي هرب من أنوشروان، فأتيعه بالمنذر بن ماء السماء في تغلب وأياد وبَهراء وخلق كثير فأرسلت تغلب من بني آكل المرار ثمانية وأربعين رجلاً، كلهم يسمى بالملك، فضرب المنذر أعناقهم جميعاً بالحيرة ففيهم يقول أمرؤ القيس بن حجر: ألا يا عين جودي لي شنينا ... وبكي للملوك الذاهبينا ملوكاً من بني حُجر بن عمرو ... يُساقون العشيّة يُقتلونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وما في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مَرّينا وبنو مَرّينا: أهل بيت من أهل الحيرة. وهذه أدلة واضحة على إن التسمية بالملك في سالف الزمان كانت مطلقة للناس يتسمون بها على تباين ما بينهم في الرتب، وتباعدهم في درجات الشرف، وكون بعضهم لبعضهم عمالا وخدماً وأتباعاً، كما تسمى في عصرنا هذا بالأمارة قوم بينهم في المنزلة تباين بعيد وفرق كبير. وقد قيل إن التسمية بالأمارة لم تكن في الاسلام، ومن المعلوم أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " كان أذا بعث جيشاً لقتال الكفار، بعث عليهم أميراً. وقد دلّ كتاب الله تعالى على أن الملأ من بني أسرائيل " قالوا لنبي لهم أبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ". وليس وراء هذا دليل. ولم يكن يقال في الجاهلية الا ملك القوم وسيدهم ورئيسهم للعرب، فأما غيره من الأمم فكان يقال لمن هو في منزلة الأمير من الفرس المرزبان، وفوقه الملك، ولمن هو في منزلة الأمير من البطارقة البطريق، فان علت درجته قيل الدمستق، وفوقه الملك وكان يقال لعظيم ملوك الفرس كسرى، ولعظيم ملوك الروم قيصر، ولعظيم ملوك الترك خاقان وطرخان، ولملك الحبشة الذي تجتمع طاعاتهم له النجاشي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ولكل ملك من ملوك الهند والصين وغيرهم أسم يعرف بلسان قومه كقلايون، وفارسب في الهند وجوعونة في الصين، وأرتبيل ونقفهور والمهراج في غيرهم من ملوك، ولا يعلم حقيقة معاني ذلك. وكذلك ملوك النبط واليونانية16 والنوبة وأجناس السودان وأعاظم العرب العاربة كانوا يسمونهم أسماء. وقد روي أن أول عربي سمي بالملك قحطان. وقيل إن كل جبار كان يملك مصر يسمى فرعون، وكل جبار كان بالشام وتهامة كان يسمى العمليق، والفراعنة والعمالقة وأعرب العاربة كلها وهي عاد وثمود وصحار ووبار وأميم وطسم وجديس وغيرهم من تلك الامم، يرجعون بأنسابهم إلى أرمو لاوذ أبني سام بن نوح عليه السلام. وروي أن أول من تسمى بالعمليق: معاوية بن بكر عمليق بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لاوذ بن سام بن نوح وكان جبار بمكة، وهو صاحب القينتين المعروفتين بالجرادتين يضرب بهما المثل يقال: تغنت به الجرادتان. وعليه قدم وفد عاد، يستسقون وفيهم لقمان والله سبحانه أعلم. وقيل إن نمرود بن كنعان كان أسمه زرهي ونمرود كان يجري له في التسمية كما يجري لغيره من تلك الاسماء، ولعله وكل من كان يملك مملكته يسمون النماردة. كما تسمى من تقدم ذكره الأكاسرة والقياصرة والطرخنة والفراعنة والعمالقة، وكما تسمى عظماء ملوك اليمن تبع والتبابعة وإن كانت أسمائهم جميعاً الحقيقية غير هذه، وكانت هذه تقوم لهم مقام التسمية بالملك الا الأكاسرة ملوك الفرس فان التجبر حداهم على التسمية بملك الملوك. وذكر الطبري أن أول من تسمى منهم بذلك أردشير بن بابك، فانه لما قهر ملوك زمانه من ملوك الطوائف وغيرهم وجاءته كتب ملوك الامم من الترك والروم والهند والصين وغيرهم بالطاعة، تسمى بشاهنشاه وتسمى به ولده من بعده وكتبوا به عن أنفسهم، وكتب به اليهم لطول مدة ملكهم وسعة ممالكهم، وأنبساط أيديهم، وأذعان ملوك الأمم بالطاعة لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الى أن قتل آخرهم يَزدجرد بن شهريار أبعده الله تمَّ قتله في سنة أحدى وثلاثين من الهجرة، مقيماً على كفره. وروي إن مدة ملكهم كانت من عهد جُيوموت بن يافث بن نوح علية السلام، الى أن قتل يزدجرد هذا أربعة آلاف سنة، لم يتخللها الا زمان ملوك الطوائف، وكانت مدة ملكهم على ما تقدم ذكره، خمس مائة وأحدى عشرة سنة. فان صحت هذه الرواية فقد ملكوا ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة أو نحوها والله سبحانه أعلم. فما روي في سعة ملكهم، أن أنوشروان قدم عليه في يوم واحد نيف وعشرون ملكاً من الملوك الصغار طائعين له، وجاءه رسل الملوك الكبار، قيصر ملك الروم، وفارسب ملك الهند، وخاقان الكبير ملك الترك، وصاحب سرنديب، وصاحب قلايون الهند بالطاعة أيضاً، ومعهم الحمول والهدايا، وصالحه كبير ملك الهند على تسع ما يخرجه غواصوه من الدر، وعشرة ومائتي الف ساجة وإن ينقل اليه كتاب كلية ودمنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والشطرنج والخضاب الاسود. ودانت له بلاد دَقلة وقشمير، وكل من بينه وبين المشرق والمغرب ومهب الشمال والجنوب ووضع بيوت النيران بالقسطنطينية، وغزا الهياطلة طالباً ثأر جده فيروز. فقتل ملكهم أشيوان وسائر أهل بيته، وصار له ما وراء النهر، وأنزل فرغانه جيوشه، وبنى الباب والابواب وعدة من المدن، ووضع على العراق الوضائع، فألزم كل جريب من الحنطة والشعير درهماً، وكل جريب من الأرز نصف درهم وثلث درهم، وكل جريب من الكرم ثمانية دراهم، وكل جريب من الرطب سبعة دراهم، وكل أربعة نخلات فارسيات درهماً، وكل ست دقلات درهماً، وكل ثمانية أصول من الزيتون درهماً، ويتنوع ما سوى ذلك. وكان لكل ملك من كبار ملوك الأمم كقيصر وخاقان وملك الهند وملك الصين، ومن مجراهم كرسي موضوع باسم ذلك الملك في موضع معروف من مجلسه على قدر رتبة ذلك الملك، 17 وفرس مسرج واقف ببابه ما دام راضياً عنه، فان نقم عليه كانت علامة نقمته أن يأمر برفع الكرسي من المجلس، ومنع الفرس أن يقف بالباب، فاذا بلغ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الملك رفع كرسيه من المجلس، ومنع فرسه من الوقوف بالباب، حمل الحمول وأذعن بما يراد منه حتى يرضى عنه. فاذا رضي عنه، كانت علامة الرضا. أن يأمر باعادة الكرسي والفرس الى حيث كانا. فحداهم ما فتنوا به من الدنيا على التسمي بهذا الاسم. وقيل إن عمالهم من الملوك الصغار، كآل نصر وغيرهم كان أحدهم أذا ذكر عند أحدهم قيل له عبدك فلان، وأذا دخل عليه سجد، وأذا خرج من عنده مشى القهقري الى أن يغيب عن عينيه. وكان فيمن بعد عنهم ونأى عن أبوابهم من عمالهم ومرازبتهم من العجم، من يسمى ملكاً أيضاً، فممن سمي بذلك باذان عاملهم على اليمن، ويقال - بالنون والميم - وإنما كان مرزباناً من مرازبتهم. *رسالة الرسول (الى كسرى روى أبن أسحاق أن رسول الله (وآله، كتب الى الملوك. وأخرج رساله اليهم فكان رسوله الى كسرى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وكان كتابه اليه: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله النبي، الى كسرى عظيم فارس، سلام على من أتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا اله لا الله وحده لا شريك له، وإن محمداً عبده ورسوله، فأدعوك بداعية الله، فإني أنا رسول الله الى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الناس كافة، لأنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، فاسلم تسلم، فان أبيت فان أثم المجوس عليك ". فلما قرأ كسرى كتاب رسول الله (غضب وقال: يكتب الّي هذا الكتاب. وروي إنه شق الكتاب. فروى أبن أسحق قال: بلغني إن رسول الله (لما بلغه إنه شق كتابه قال: مزّق ملكه. وفي رواية إن كسرى شق الكتاب وإن قيصر كتب جواب ما كتب به اليه فقال رسول الله (" سيكون لهؤلاء بقية " يعني: قيصر وقومه، " ولا يكون لهؤلاء بقية " يعني كسرى وقومه فالله سبحانه أعلم. ثم كتب كسرى الى باذان. وهو على اليمن، أن أبعث الى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به. فبعث باذان قهرمانه وهو أبانويه وكان كاتباً حاسباً بكتاب فارس، وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخسرو، وكتب معهما الى رسول الله (يأمره إن ينصرف معهما الى كسرى، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لأبانويه: أنظر ما الرجل! وكلمه وأئتني بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرص الطائف، فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، وأستبشروا وفرحوا بهما وقال بعضهم: لبعض أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل. فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله (، فكلمه أبانوية وقال له: إن شاهنشاه ملك ملوك كسرى، كتب الى الملك باذان يأمره أن يبعث اليك من يأتية بك وقد بعثني اليك لتنطلق معي، فان فعلت كتب معك الى ملك ملوك بكتاب ينفعك ويكف به عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت! هو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك، ودخلا على رسول الله (وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر اليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا. فقلا: أمرنا به، ربنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يعنان كسرى فقال رسول الله (: " لكن ربي أمرني باعفاء لحيتي وقص شاربي " ثم قال لهما تأتياني غدا، وأتى رسول الله (الخبر من السماء، إن الله سبحانه قد سلّط على كسرى شيرويه فقتله في شهر كذا، من ليلة كذا ولم يسلم أبن أسحق الليلة ولا الشهر. وجاء برواية أخرى: أن قتل شيرويه لأبيه أبرويز كان لسبع ساعات مضت من ليلة الثلاثاء العاشر من جمادي الاخرة سنة سبع من الهجرة. وقال أبن أسحق: فلما أتيا الرسول (من الغد قال لهما: إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا من شهر كذا وكذا لعدة ما مضى من ساعات اليل، سلّط عليه أبن شيرويه فقتله، فقلا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أفنكتب بهذا عنك، ونخبر الملك؟، قال نعم أخبراه 18 بذلك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ مللك كسرى وينتهي الى منتهى الخف والحافر، وقولا له: أنك أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء. ثم أعطي خرخسرو منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها بعض الملوك اليه. فخرجا من عنده حتى قدما الى باذان فاخبراه الخبر فقال والله ما هذا بكلام ملك، وأني لأرى الرجل نبيا كما يقول ولننظرن ما قد قال فلئن كان حقا فسنرى رأينا. وروي إن أبانويه قال لباذان ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه فقال: هل معه شُرَط؟ قال لا، فلم يلبث باذان أن جاءه كتاب شيرويه أما بعد: " فاني قد قتلت كسرى ولم الا غضبا لفارس أستحل من قتل أشرافهم، وتحقيرهم في بعوثهم، فاذا جاءك كتابي هذا، فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وأنظر الى الرجل الذي كان كتب اليك كسرى فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري ". فلما أنتهى كتاب شيرويه الى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلم معه من كان باليمن من الأبناء من فارس. وكانت حمير تقول لخرخسرو ذو المعجز للمنطق التي أعطاه رسول الله (، والمنطقة بلسان حمير المعجرة، فبنوه باليمن يعرفون ببني ذي المعجرة. وقد تقدم ذكر العذر عن طول هذا الحديث وأمثاله، والغرض الاستشهاد به على إن في عمالهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 العجم أيضاً من كان تسمى بالملك. وكسرى نفسه تسمى ملك الملوك وشاهنشاه، قال: وكسرى شهنهاه الذي سار ملكه له ما أشتهى " راع عثق وديسق ". فهذه الأحاديث وأمثالها دالة على أن التسمية بالملك في العصر الخالي كانت كالتسمية بالامير في عصرنا هذا، لا في صدر الاسلام فان التسمية بالأمير في صدر الاسلام أيضاً لم يكن يسمى بها الا من كان أميراً على الحقيقة، لا على التأدب وعادة التملق والتقرب، ثم صار ولد الخلفاء من بني أمية وأخوانهم وأقاربهم الأدنون يسمون بها، ثم شاعت في الناس وأطلقت فاستعملها الاشراف والاماثل وأهل بي وتاتهم. *سيف الدولة ملك الحلة حدثني الرئيس أبو نصر محمد بن علي بن جيّاء رحمه الله عمن حدثه عن الأمير معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب، أنه أحصى عدة من أجتمع في عسكر ملك العرب سيف الدولة نصره الله في منزله بدار السيب في سنة أربع وتسعين وأربعمائة لما ترك قوام الدولة لدونقا التركي بغداد، ممن يخاطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بالأمير الفاً ومائتين من أهل بيته آل مزيد، وعشيرته بني أسد وغيرهم فغدا الأمير المرويّ عنه هذا الحديث يومئذ في جملة، جنده وأحد من وقع عليه هذا الأسم، ودخل في هذه العدة هو وجماعة أهل بيته المسيبون وأمراء عشيرته العباديونو غيرهم من خفاجة وغيرهم من قبائل عقيل وكلاب ونمير وسائر قبائل معد واليمن، ومن الأكراد كآل ورام وآل موسك، والترك وغيرهم من الأعاجم ومن لعل ذكره أغفل يظلهم ذراه، ويغمرهم ندا، تضمهم أنديته وتخفق على رؤوسهم الويته، أذا رأوه غضوا الأبصار هيبة وإعضاما، إن نطق أرمّوأ، إجلالاً وأكراماً كما وصفت من هذه الحال في أبيات من قصيدة نظمتها في مدحه فقالت: يّرُمُّ أحفل حين يقول عنه ... وقد خَفقتْ لهيبتهِ القلوبُ كما زأر الهزبرُ فلاذَ منه ... ثعالبُ جُلَ صولتها الغضيبُ فليسوا بادئي قولٍ ولولا ... تَهلله لهابوا إن يُجيبوا يترادفون حوله رجاء فواضله، ويزدحمون على أستلام أنامله ويسارعون الى أمره ويقفون عند نهيه وزجر، لهم فيهم وعليهم حقيقة المل، أمجاز أو توسعاً وبسطة العز والانعام والبذل طبعاً لا تطبعاً. وكذلك لبس التاج كان أيضاً عادة لهم مستعملة في عصره، طلقة غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 محصور، هي متروكة في عصرنا هذ، ي النادر عند ولاية ملك عظيم الشأ، وحدث أمر جليل، وإن كان ذلك فلعلّه يكون مقدار ساعة أو نحو ذلك، بحسب مستمر العادة ومتروكه، إن للعادة سلطان19 تقهر به ما كان بخلافها كنا قال بعض الحكماء كادت العادة إن تكون طبعاً. وقال بعضهم: العدة طبع ثان لها على كل شيء سلطان. فلذلك لا يتتوج في عصرنا هذ، ن قد تتوج في الزمان الخال، وم من أتباعه وأجناده من هو أكبر منهم وأمثل، وكانت الأكاسرة يتوجون ومرازبتهم وغيرهم من وفود الناس، ويلبسونهم التيجان مع الحلل التي كانوا يكسونهم. هوذ الحنفي فما روي في مثل ذلك أن هوذة بن علي بن ثمامة بن عمر بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مرّة بن الدول، ال أبن دريد: هو الدول بالضم بن حنيفة أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائ، كان ذا شرف ومكانة في قومه مر به رسل لكسرى بلطائم له فكتب لهم على سهم هوذة وجاء رسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الملك فاخذوا ذلك السهم فجاوزا به في العرب. وسئل أبو عبيدة عن ذلك كيف كان؟ فقال: كانوا بين رجل قد أتخذ هوذة عنده يدا، ورجل آخر يرجوه أو رجل من عشيرت، ذكر الرسل ذلك لكسر، أستقدم هوذة وكان ذا جمال وعقل وفصاحة، فلما قدم عليه أعجبه شخصه وحادثه فاعجبه محاورته فقال له: كم لك من الولد؟ قال: عشرة، قال: أيهم أحب اليك؟ قال: أصغرهم حتى يكبر وغائبهم حتى يعود ومريضهم حتى يبرأ. فأحسن قوله، وقال له: ما قوتك في أرضك؟ قال: الخبز، قال: صدقت هذا عقل الخبز. وقيل إنه قال لجليائه بالفارسية هذا فضل الحنطة على غيره، م شرفه وكساه ووصله ووهب له قباء كان عليه مخوصاً بالذهب منظوماً باللؤلؤ وتوج، في مدح هوذة يقول الأعشى: من ير هوذة يسجد غير مُتئب ... اذا تعمم فوق التاج أو وضعاً وفيه يقول أيضاً من كلمة له أخرى بل عدا هذا في قريض غيره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وأذكر فتى سهل الخليقة أروعاً ذا التاجِ هوذة أنه من يلقه ... يسجد وإنْ كان الأعزّ الأمنعا وأنما كان هوذة رجلاً من أشراف قومه لم يبلغ من الأمور ما يستحق لأجله أن يلبس تاجاً ولا يجوز له ذلك ولا لمثله لولا العادة. ثم في مسألة كسى له عن قوته في أرضه ما هو دليل على أنه شك في أمره هل يقدر على أكل الخبز أم يجتزئ بغيره ما يجتزئه الأعراب عند عدم الخبز من الأقوات كاللبن واللحم والتمر والنبات فلما أعلمه إن قوته الخبز صدقه وقال لجلسائه ما قا، من كان مشكوكاً في أمره هل يقدر على أكل الخبز أم لا؟ فليس للبس التاج باهلٍ وإنه عن ذلك لفي شغلٍ لولا عادة الوقت. فهذا مما روى إنه " ممن " تتوج ومدح بذل، أذا سمع بذكر تاجه وأنشد مديحه من لا يعلم حقيقة حاله وصورتها، ظنّ إن كان ملكاً، على إن بعض الرواة دفع ذلك وقال: أنما كانت خرزات له تَعمّم علها فمدح بذلك على مذهب الشعراء في التوسع في القول، وتجاوزهم الحد في المدح والصفات والهجاء والتشبيه وغير ذلك من كل معنى. قوس حاجب بن زرارة ويوم بئر معونه ووفد حاجب بن زارة بن عُدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مالك بن زيد مَناة بن تميم على كسر، قد قحطت مضر بما كان من دعوة رسول الله (عليهم حين تواترت أذيّتهم له وقتلوا المسلمين رضي الله عنهم ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم كلا البلدين منها قري، هي الى حرة بني سليم أقرب، لأن ملاعب الأسنة أبابراء عامر بن مالك الجعفري قدم على رسول الله (وروي إنه أهدى اليه فردّ عليه هديته وقال: " اتي لا أقبل هدية مشرك "، ودعاه الى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد. وقال: لو بعثت رجالاً من أصحابك الى أهل نجد يدعونهم الى أمرك رجوت إن يستجيبوا. فقال: " اني أخشى عليهم أهل نجد ". قال: فانا جار له، بعث معهم جماعة من أصحابه فيهم المنذر بن عمرو - المُعنق للموت - والحارث بن الصمّة وحزام بن ملحان أخو بني عدي بن النجّا، عروة بن أسماء بن الصّلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فُهيرة مولى أبي بك، ي أربعين رجلاً من خيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المسلمين فاستنفر عليهم أبن أخيه عامر بن الطفيل قومه من بني عامر فابوا عليه وقالوا لا نخفر أبا20 فاستنفر عليهم سليماً، وذكر لهم قتل بن أخيهم طُعيمة الأعرج بن عديّ بن نوفل بن عبد منا، هو أحد من قتل من مشركي قريش يوم بدر. فكانت أمه فاخته بنت عباس بن عامر السلمي ثم الرعلي أخت أنس بن عباس، فروى قوم إن علياً عليه السلام قتله وسموه فيمن سمو من قتلى المشركين الذين قتلهم علي عليه السلام يومئذ. وذكر الزبير بن بكار في بعض رواياته: إن علياً عليه السلام سئل فقيل له يا أمير المؤمنين، هل فررت قط؟ قال: لا الا أنني رأيت طعيمة يوم بدر قد على كثيباً وقد سواه سعد بن خيثم، لم أته حتى قتل سعداً رضي الله عن، أني لمبارز أصمد له فلما رآني أصعد الكثيب اليه أنحط ال، كان رجلاً جسيم فخشيت إن يعلو علَي، فانحططت الي السهل فظن أني فررت، نادى باعلى صوته فرّ علي بن أبي طالب، فقلت: قريباً مفر أبن الشتراء، وهو مثل تضربه العرب، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أستوت قدماي في الأرض وقفت له فانحدر علَي وأهويت له فسمعت قائلاً يقول من خلفي: طأطئ رأس، أطئ رأس، جعل، أسي في صدر طعيم، أذا برقة سيف فاخذت قحف رأسه فسقط ميتاً فالتفت فاذا عمي حمزة عله السلام. فنفرت مع عامر بن الطفيل من قبائل سُليم: رعلٌ وذكوان وعصيةً ومعهم القارة فقتلوهم ببئر معون، لا كعب بن زيد أخو بني دينار بن النجا، ترك وبه رم، قيل الا عشرة منهم. وأطلق عامر بن الطفيل عمرو بن أمية الضمر، جز ناصيت، أعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم، لما دفنوا لم يوجد جسد عامر بن فُهيرة رحمه الله فكانوا يرون إن الملائكة دفنته. وروي إن رسول الله (قال لعامر بن الطفيل لما قدم عليه: " من الرجل الذي رأيته لنا قتل رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه ثم وضع؟ " قال: هو عامر بن فهيرة. وروي إن قاتله هو سُلمى بن مالك الأحرم بن جعفر بن كلاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قال لما طعنه قال: فزت ورب الكعبة. وقال أنس بن عباس السُلمي خال طعيمة بن عدي وقتل يومئذ نافع بن بُدَيل بن ورقاء الخزاعي، وكان طعيمة يكنى أبا الريان. تركت أبن ورقاء الخزاعي ثاوياً ... بمعترك تسفي عليه الأعاصرُ ذكرت أبا الريان لما رأيته ... وأيقنت أنيَّ يوم ذلك ثائرُ وقال حسان بن ثابت الأنصاري، يغري ربيعة بن ملاعب الأسنة وأعمامه بعامر بن الطفيل: بني أمّ البنين الم يَرُعكمْ ... وأنتم من ذوائبِ أهلِ نجدِ تهكم عامرٍ بابي بُراءِ ... ليغفره وما خطأ كَعْمدِ الا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بَعْدي ابوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجدٌ حكم بن سَعْدِ وأم البنين التي ذكرها: هي أبنة عمرو فارس الضحيا العامر، حدى المنجبات. ولدت أبا براء عامراً ملاعب الأسنة هذا المذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وطفيلاً أبا عامر بن الطفيل، ومعاوية معود الحكام بن مالك بن جعفر بن كلاب. فلما قتلوا المسلمين دعا رسول الله (فقال فيما روي والله أعلم " الهم أشدد وطأتك على مضر وأبعث عليهم سنين كسني يوسف " وقنت عيهم أربعين يوم في كل صلاة يدعو عليهم فتوالى عليهم الجدب سبع سنين حتى هلكوا وأكلوا الوبر بالدم فسموه العلهز. ثم جاءته وفودهم فقالوا: يا محمد هلك قومك فأدع الله لهم، وروي والله سبحانه أعلم إن في ذلك الجدب نزلت: " يوم تأتي السماء بدخانٍ مُبين " فجمع حاجب قومه في تلك المجاعة فقال لهم: أني قد أزمعت إن أتي الملك يعني كسرى فاطلب اليه إن ياذن لقومنا إن يكونوا تحت هذا البحر يعني الريف حتى يحيوا. فروي إنه رحل الى كسرى فلما كان ببابه أستأذن عليه فقال21للآذن: قل له أمن سادت العرب أنت أم من أوساطها أم من أدونها؟، فقال للآذن: من أوساطها فقال أئذن له فهذا رجل عاقل. فلما دخل عليه أعاد كسرى عليه السؤال فقال من ساداتها أيها الملك فقال له: الم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 تقل لآذننا أنك من أوساطها، قال: أسعدك الهك بلا قد قلت ذاك له وكنت حينئذ من أوساطها، فلما بلغت مجلس الملك ووطئت بساطه صرت من ساداتها. فاستحسن قوله فامر فحشي فمه دراً وشرفه وكساه وأوصله وتوّجه، وأجلسه على كرسي ثم سأله عن حاجته، فقال: أسعدك الله إن مضر قومي أجدبت أرضهم فسألوني إن أصير اليك، فأسألك إن تأذن لهم بدخول السواد فيعيشوا برفه شهورا وينصرفون، قال أنهم قوم يفسدون ويؤذون الرعايا، قال أنا كفيل عنهم بأن لا يفعلوا، قال: إنهم يعصونك، قال: أني لي فيهم شرفاً أنال به السماء وهذا قوسي رهن عندك على ذلك، فضحك منه وقال: أننا لا ندخل مثل هذه العصا خزائننا. وقال بعض من حضر بين يديه هذا رهن لا تبلغ قيمته خمس دراهم، يريد هذا الاعرابي إن يرهنه على ما سقت الفرات هزئا به. قال كسرى: خذوها منه فهو علقل وفيّ. وآذن لهم بدخول السواد فدخلوه شهور ثم قال لهم الحلجب: أنصرفوا من بلاد الرجل، فانصرفوا عنها وأفتخرت بنو دارم بذلك من فعل الحاجب فكان غيرهم يدفع ذلك ويزعم إن حاجباً أنما أتا مرزبانا من مرزابة كسرى. فجرى له ذلك معه، ولم يأتي كسرى نفسه. وفي الأفتخار بتاج حاجب يقول الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 رأيت مهابةً ورأيت عزاً ... وتاج الملك يلتهب التهاباً الحارث الكندي وحاربت بكر بن وائل المنذر بن ماء السماء، فارسلوا الى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، فجاءوا به اليهم، وساروا معه الى المنذر، فهرب المنذر عن الحيرة ثم أرسل الى الحارث فصالحه وتزوج أبنته هنداً، فانصرف الحارث عن الحيرة وفارق بكر بن وائل فعقدوا لحارث بن عمرو المزدلف بن أبي ربيعة ذهل بن شيبان على أنفسهم وسموه الملك وتوجه وحيوه بتحية الملوك فكان حارث يعرف بذي التاج الى إن حاربهم المنذر فظفر بهم بأواره يوم الوصاف وأسر حارث فقتله وسيأتي حديث مقتله في موضوع من هذا الكتاب مستوفى. ودفع أكثر الرواة ذلك وقالوا: لم يتوج معدي قط أنما كانت التيجان في اليمن. ورووا إن الأكاسرة كانوا أذ ولوا ملكا من ال نصر بالحيرة توجوه بتاج قيمته عشرة الاف درهم. عبد الله بن أبي الخزرجي وروى أسحاق صاحب المغازي إن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 (كان من غزاة بني المصطلح من خزاعة، فازدحم الناس على الماء فاقتتل جهجاء بن سعد الغفاري، وكان أجيراً لعمر بن الخطاب وسنان بن زيد الأنصاري فنادى سنان: يا معشر الأنصار. ونادى جهجاة: يا معشر المهاجرين. قال وزيد بن الأرقم في نفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي الخزرجي فلما سمعها عبد الله قال: قد ثاورونا في بلادنا والله أنا وقريش كما قال القائل سمن كلبك يأكلك والله لأن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل. ثم أقبل إلى من عنده من قومه فقال: هذا ما صنعتم بانفسكم أحللتموه قاسمتموه أموالكم أما والله لو خففتم عنهم لتحولوا عنكم. فسمعها زيد بن الأرقم وهو غليم فأتى بها رسول الله (وعنده عمر بن الخطاب فقال: مرّ عباد بن بشر فليضرب عنقه. فقال رسول الله (: " كيف أذ تحدث الناس إن محمد يقتل أصحابه، ولكن ناد يا عمر بالرحيل "، وبلغ ذلك عبد الله بن أبيّ فاتى رسول الله (يحلف إنه ما قال. وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى إن يكون هذا الغلام أوهم ولم يتثبت ما قاله الرجل. وراح رسول الله (مهجراً في ساعة كان لا يروح في مثلها فلقيه أسيد بن حضير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: أما والله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها. فقال (: " ما بلغك ما قاله صاحبك أبن أبي زعم إنه أذا قدم المدينة سيخرج الاعز منها الأذل " قال: فانت والله يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال يا رسول الله أرفق به فوالله أقد جاء بك الله وإنا لننظم له الخرز لنتوجه به فأنه يرى أن قد سلبته ملكاً. عثمان بن الحويرث وأخبرنا محمد بن هبة الله بن جعفر إجازة عن محمد بن الحسن الجعفري عن علي بن الحسين بن محمد بن عمران بن موسى المزرباني عن أحمد بن سليم الطوسي عن الزبير بن بكار عن علي بن صالح عن عامر أبن صالح عن هشام أبن عروة عن الزبير أبن العوام عن أبيه عروة أبن الزبير: أن عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي رأى حاجة قريش الى بلاد قيصر ومتجرهم اليها فخرج الى قيصر فذكر له مكة ورغبه بها وقال يكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء فكتب له كتاب الى قريش بالملك. وفي بعض الروايات وختم الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بذهب وحمله على بغلة بسرج مذهب فأتى قريش فقال: يا قوم قد علمتم أمانكم ببلاد قيصر وما تصيبون بها من التجارة في كنفه وقد ملكني عليكم وإن أبن عمكم وأنما أخذ من أحدكم الجراب من القرط والعكة من السمن والاهاب فاجمع ذلك له وبعثه به اليه وأنا أخف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا فيه وينقطع مرفقكم منه. فخافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكره من متجرهم فاجمعوا إن يعقدوا على رأسه التاج عشية وفارقوه على ذلك فصاح أبن عمه أبو زمعة الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى أبن قصي وقريش على أحفل ما كانت عليه من الطواف: يا عبد الله أملك بتهامة الا إن قريشاً لقاح لا تملك. فنحاشوا أنحياش حمر الوحش وأتسقوا على قوله وقالوا واللات والعزى لقد صدق ما كان ملك قط فانتقضت قريش عن ذلك ولحق عثمان بقيصر وكان بالشام قوم من قريش تجاراً فكلموا أبن جفنه ملك غسان وسألوه أفساد أمر عثمان عند قيصر فكتب الى ترجمان قيصر بان يغير كلام عثمان عند فلما دخل عليه جعل يكلمه فيقول للترجمان ما يقول فيقول هو مجنون يشتم الملك فاراد قتله ثم أمر فدفع الى رجل من أصحابه من نصارى العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فانشد الرجل: اتتنا قريش حافلين بجمعهم ... وكان لهم في أول الدهر ناصر فقال له عثمان أني أرى لسانك فصيحاً فممن أنت؟ قال: أنا رجل من بني أسد بن خزيمة وانا أكره إن يعرفوا نسبي فقال له عثمان: يا أبن عم ما الذي دهاني عنده قال: الترجمان قال: فكيف أحيله في إن تدخلني عليه وخلاك ذم قال: أفعل فاحتال له حتى رده الى قيصر في مجلس له مشرف ينظر الى الناس فاوقفه بحيث يراه فجعل عثمان يتكلم رافعاً صوته ويشير الى قيصر فقال قيصر: إنه له شأناً فاحضره عنده فتعلق بالترجمان وتشبث به فدعا قيصر ترجمان غيره وكلمه وأفهمه قصته فعاقب الاول وكتب لعثمان الى أبن جفنه بان يحبس له من أراد حبسه من تجار قريش بالشام فوجد أبا أحيحة سعيد بن العاص الاموي وأبا ذئب هشام بن شعبة العامري أحمد بن عامر بن لؤي بن غالب فحبسهما فطال حبسهما وتلحت قريش عليهما فقال أبو أحيحة الابي ذئب: قومي وقومك يا هشامُ قد أجمعوا ... تركي وتركك أخر الاعصار ومات أبو ذئب في الحبس وسم أبن جفنة عثمان بن الحويرث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فمات أيضاً بالشام فطلب بنو عامر بن لؤي بن أسد بن عبد العزى بدية أبي ذئب وقالوا: إن صاحبكم عثمان بن الحويرث كان السبب في حبس صاحبنا حتى هلك وكانت قريش تسمي عثمان بن الحويرث البطريق هذا السبب: والمقصود بايراد هذا الحديث والذي تقدمه ذكر ما همت به قريش من تتويج عثمان بن الحويرث بمكة والاوس والخزرج من تتويج عبد الله بن أبي بالمدينة. ابو أحيحة سعد بن العاص وأبو أحيحة هذا الذي حبسه أبن جفنه وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان من أشراف قريش. وقد روي في حبسه وجه غير هذا. قيل إنه ورد الشام في جماعة من قريش في تجارة وفيهم يوم أذ عمر بن الخطاب وكان زنباع بن روح الجذامي وهو أبو روح بن زنباعه بن روح صاحب عبد الملك بن مروان عاشراً لابن جفنة بالشام وكان يأخذون شيئاً ممن يكون مع التجار 23 من الذهب فأن أخفوه عنهم ثم علموا به أخذوه مستهلكاً فعهد القريشيون الى ما كان معهم من الذهب فجمعوه والقموه ناقة من أبلهم الا أبا أحيحه فانه دفن ما كان معه وقعد في الموضع. وطلب زمباع بن روح العاشر في متاعهم ذهباُ فلم يجده فقال: ركب من قريش يأتون الشام تجاراً ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 معهم ذهب! هذا ما لا يكون ثم نظر الى ناقة ملتوية من أبلهم فقال حقي في بطن هذه الناقة وأمر بنحرها فقالوا: أتنحر ناقتنا فقال: نعم فان لم أجد في بطنها شيئاً غرمتها لكم بناقة خير منها ونحرها وأخذ ما كان في بطنها وأحتفر الموضع الذي قعد فيه أبو أحيحه فأخذ ما وجد فيه وأخذ أبو أحيحة فحبسة فارسل الى قومه أن أفدوني فجمعوا مالاً ليفتدوه فقال أبو عمرو بن أمية أو أحد ولده أنكم زوجتم بهذا المال عدةً من فتيانكم بعدة من فتياتكم لاوشك أن تروا فيكم جماعة مثل أبي أحيحة فقبلوا رأيه وتركوه وإن نفراً من قريش قدموا الشام فارس اليهم أبو أحيحة ليقوموا في أمره ففعلوا وكلموا أبن جفنة في أمره وقالوا ما تريد الى هذا الشيخ وأفتدوه منه بقلائص كانت معهم وعرف أبو أحيحة ما كان من قول أبي عمر بن أمية فقال يعاتب قومه: أأطعتم لعبدَ أبن تز ... نا أذ يقول ذروا سعيداً فلامدحن الوافدين ... مديحة تنمي صعودا خبرتها فتخالها ... حسناً على قومي برودا وهي لبيات وانما قال أبن تزنى الان أمية أبن عبد شمس بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مناف كان قد شرف في قومه الى أن سام عمه هاشماً أن ينافره فابا عليه وقال كيف أنافرك وأنت بعض ولدي فلزمه وأكله بلسانه فنافره على أن للنفار على صاحبه شروطا منها: إن ياخذ منه مائة من الابل وينفيه مدة عشرة سنين عن الحرم. فتنافروا الى كاهن غساني كان بعسفان قرابة سطيح فنفره هاشم فأخذ المائة من الابل فنحرها وأطعمها الناس في مكة وقال الشاعر في ذلك: وبرَّزَ في فضله هاشم ... ففات الكرامَ أبو نضله يكبّ العشار الاذقانها ... ويطعم في السنة المَحْله فكان بالاردن فتزوج أمرأة بها يهودية أسمها تزان يقال أنها أم أبنه أبي عمرو. هذا في رواية وفي رواية أخرى إن أم أبي عمرو أمية أمام بنت حميرى بن الحارث بن جابر بن الاسود بن عمرو ذي الطوق الملك بن عدي بن النصر اللخميني والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وروي إن حرب بن أمية أعجب بنفسه فسام عبد المطلب بن هاشم إن ينافره فابى عليه فوقع فيه فغاضة فنافره على خمسين من الابل تنحر للناس بمكة وعشر للحكم وتنافرا الى نفيل بن عبد العزى العدوي جد عمر بن الخطاب فنفره عبد المطلب فقال شاعر في حرب: يا حرب قد جاريت غير مغمّرٍ ... سبوقاً الى الغايات طلاع أنجد ومن قبل ما أردى أمية هاشم ... فاورده عمرو على شر موردِ وكان هاشم يسمى عمرو العلي وأوعد حرب نفيلاً وكاد إن يقع بين بني عبد شمس وبني عدي في ذلك شر. رجعنا الى الحديث وروي إن أمير المؤمنين عمر لقي زمباع الجذامي في أيام أمارته لمكة فوضع يده على كتفه وقال: اليس أبوك فعل بنا في الشام ما فعل. أما والله يا عدي نفسه لولا الاسلام فقال له والله يا أمير المؤمنين لولى الاسلام ما وضعت يدك مني بحيث وضعتها. وكان أبو أحيحة هذا الذي ذكرناه حديثه ُ يتعمم فسمته قريش ذا التاج. قال خالد بن زيد بن معاوية في أبنته أمامة بنت أبي أحيحة وكانت بارعة الجمال وكانت أمها من بنات عثمان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 حصان أبوها ذو العصابة وأبنه ... وعثمان ما أكفؤها بكثير فأن حزتها ثم الخلافة بعدها ... تحز خير علقي منير وسرير وكان خالد بن زيد قوي الطمع بالخلافة ولم يكن ينكح الا الى أشراف قريش ففيه يقول الشاعر مخاطباً عبد الملك بن مروان كالمغري له به: عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تريد صدود اذا ما نظرنا في مناكح خالدٍ ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد فهذا الرجل من أشراف قومه كان يتعمم فسموه ذا التاج وذا العصابة وذكروه في أشعارهم فاذا سمع ذاك من لا يعلم الحقيقة ضنه من ذوي التيجان. مالك بن عوف النصري وأدعوا لمالك بن عوف النصري أحد بني يربوع بن وائمة بن دهمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بن نصر بن معاويه بن بكر بن هوازن وكان قبل أسلامه قائد هوازن ومن معهم من المشركين يوم حنين إنه صاحب تاج فقالوا فيه: اذكر مسيرهم للناس أذ أجمعوا ... ومالكٌ فوقه الرايات تخفق ومالك مالكٌ ما فوقه أحد ... من الانام عليه التاج يتالق وأنما كان مالك رجلا من أشراف قومه قدموه يومئذ على أنفسهم تيمناً به وكان من عادة العرب إن يقدموا من يتيمنون به. وإن كان فيهم من هو أشرف منه. الشريد عمرو بن رباح السمي وروي إن سليماً توجت الشريد وهو عمرو بن رباح بن يقظ بن عصية بن خفاف بن أمرئ القيس بن بهثه بن سليم بن منصور. فكان يعرف فيهم بذي التاج. ثم أدعوا ذلك لاهل الاسلام ومدحوهم به وهم لا يرون لبس الخاتم من الذهب فكيف التاج؟ علي رضي الله عنه والأشعث روى نصر بن مزاحم التميمي ثم المنقري عن محمد بن عبيد الله الجرجاني قال: لما بويع لعلي عليه السلام وكتب الى العمال كتب الى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الاشعث بن قيس مع زياد بن كعب بن مرحب الهمداني والاشعث على أذربيجان عاملاً لعثمان وقد كان عمرو بن عثمان تزوج أبنة الاشعث قبل ذلك فكان كتابه اليه: " أما بعد فلولا هناتٍ كن منك كنت المقدم في هذا الامر من قبل الناس ولعل أمرك يحمل بعضه بعضاً إن أتقيت الله ثم إنه قد كان من بيعة الناس أياي ما قد بلغك وكان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث وأخرجا أم المؤمنين وسارا الى البصرة فسرت اليهما والتقينا فدعوتهم الى أن يرجعوا الى ما خرجوا منه فابلغت في الدعاء وأحببت البقية ولله المن. وأعلم إن عملك ليس لك بطعمة ولكنه أمانة في يديك مال من مال الله وأنت خزان الله عليه حتى تسلمه الي ولعلي أن لا أكون شر ولا تك لك إن أستقمت ولا قوى الا بالله ". فلما قرأ الكتاب قام زياد فحمد الله وأثنى عليه. وقال: أيها الناس إن من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير إن أمر عثمان لا ينفع فيه العيان والا يشفي من الخبر غير إن من سمع به ليس كمن عاينه إن الناس بايعوا علياً راضين به وإن طلحه والزبير نقضا بيعته على غير حدث ثم أذنا بحرب وأخرجنا أم المؤمنين فسار اليهما ولم يقاتلهم وفي نفسه منهم حاجة فاورثه الله الارض وجعل العاقبة للمتقين. ثم قام الاشعث بن قيس فحمد الله وأثنى عليه وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان ولاني أذربيجان فهلك وهي في يدي وقد بايع الناس علياً وطاعتنا له على ما كانت لعثمان وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما بلغكم وعلى المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك. فلما أتى منزله دعا أصحابه وأهل ثقته فقال: إن كتاب علي قد أوحشني وهو آخذي بمال أذربيجان وأنا الاحق بمعاوية. فقال له القوم: الموت خير لك من ذلك أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنباً لاهل الشام فاستحى فسار حتى قدم على علي عليه السلام وقال السكوني وقد خاف أن يلحق بمعاوية: أأعيذك الله الذي هو مالك ... بمعاذة الاباء والاجداد مما يضن بك الرجال وأنما ... ساموك خطة معشر أو غاد إن أذربيجان التي فارقتها ... ليست بحظك فاشرها ببلاد كانت بلاد خليفة ولاكها ... وقضاء ربك رائح أو غاد فدع البلاد فليس فيها رغبة ... لبلاد غيرك وأشرها ببلاد والحق بمصرك إنه لك واسع ... ضربت عليك الارض بالاسداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأدفع بمالك دون نفسك أننا ... بادوك بالاموال والاولاد انت الذي تثني الخناصر باسمه ... وبكبش كندة يستهل النادي ومعصب بالتاج مفرق رأسه ... ملك لعمرك راسخ الاوتاد25 واطع زياد إنه لك ناصحٌ ... والرشد في قول النصيح زياد وأنظر علياً إنه لك جنة ... ترشد ويهدك للسعادة هاد وكان مما كتبه الى الاشعث أيضاً: ابلغ الاشعث المعصب بالتا ... ج غلاماً حتى علاه القتير يا أبن ال المرار من قبل الا ... مي وقيس أبوك غيث مطير قد يصيب الضعيف ما أمر الله ... ويخطي المدرب النحرير قد أتى قبلك الرسول جريراً ... فتلقاه بالسرور جرير ويعني جرير بن عبد الله بن البجلي وكان على همذان عاملاً لعثمان فعزله علي منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وله الفضل في أجهد وفي الهج ... رة والدين كل ذاك كثير إن يكن حظك الذي أنت فيه ... فقليلٌ من الحظوظ حقيرُ يا أبن ذي التاج والمعصب ... من كندة ترضى بان يقال أميرُ اذربيجان أكلت فذرنها ... وأبغين الذي اليه تصيرُ وأقبل اليوم ما يقول علي ... ليس فيما يقوله تخييرُ وأرض بالبيعةِ التي ليس للنا ... س سواها من أمرهم قطميرُ عمرك اليوم قد كرهت علياً ... وهل لهذا الذي كرهت نظيرُ وفي الحديث زيادة على ما أوردناه وشعر قاله الاشعث في طاعته لعلي عليه السلام ويمدحه فيه ويذكر فضله تركنا ذكره أختصاراً وأقتصرنا على ما حصل به الاستشهاد. وفي غير رواية نصر إن الاشعث لما قدم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 علي عليه السلام وجد في نفله مائة الف فأخذها فقال الاشعث: أنها مالي قال ومن أين؟ قال: طيبه لي المسلمون وسلمه لي عثمان فقال علي عليه السلام: خذ منها ثلاثين الفاً قال لا تكفيني فقال لست بزائدك وأيم الله ما أظنها تحل لك ولو تركتها لكان خير لك ولو أستيقنت ذلك ما أنقلبت به من عندي فخذ من جذع ما أعطاك. فمدح الشاعران الاشعث بلبس التاج وذكر أحدهما إنه معصب به مذ كان غلاماً الى إن علاه القتير. والأشعث من وفود سنة عشر فيها وفد على رسول الله (ثم كان بعد ذلك فيمن أرتد من ملوك كندة فسير اليهم أبو بكر المهاجر أبن أبي أمية بن المغيرة المحزومي أخي أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ومعه زيد بن لبيد ومعهما بنو قتيرة وهم قوم من كندة أقاموا على الاسلام فلم يرتدوا فاتوهم وقد تحصنوا بالنجير وهو حصن باليمن فحصرهم فيه فبات صارخ لهم يصرخ في رأس النجير: صباح سوء لبني قتيرة ... وللامير من بني المغيرة فواطأ الاشعث المسلمين ودلهم على عورة النجير على إن يحملوه أسيراً الى أبي بكر فاستنزلوهم فقتلوهم وبعثو به في الحديد مع سبي النجير الى أبي بكر وذلك في سنة أثنتي عشرة فراجع الاسلام عفا عنه وزوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أخته أم فروة بنت أبي قحافة وكانت أم فروة من قبل عند تميم بن أوس الداري من بني عبد الدار بن هانيء بن نمارة بن لخم ثم طلقها تميم فتزوجها أبو أميمة الازدي من بني الصقب فولدت له جارية أسماها أميمة ثم تزوجها الاشعث بن قيس فولدت له محمداً وقيل إن الاشعث لما قدم به عليه قال له يا عدو الله ما الذي تامرني إن أصنع بك قال: تعف عني وتزوجني أم فروة فاني قد أسلمت ورجعت ففعل. وقيل إنه لما تزوجها خرج بسيفه فلم يجد شيئاً من الانعام الاعقره وقال للناس أنحروا وكلوا وأرضى أصحاب ذلك جميعاً بما أحبوا من الاثمان فقيل وليمة الاشعث. وكان الذين قتلوا بالنجير من ملوك كندة مشرحاً ومحوشاً وجمداً وأبضعه وبني معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية مقطع النجد بن الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث الاكبر بن معاوية بن ثور بن مرتع وأسم مرتع عمرو بن معاوية بن كندة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقال رجل من المسلمين: نحن قتلنا الملوك الاربعة ... مشرحاً ومحوشاً وجمداً وأبضعه ومحوش بن معد يكرب بن وليعة أحد هؤلاء الاربعة القتلى وهو جد علي أبن عبد الله بن العباس عليهم السلام الامه وهي زرعة بنت مشرح ولهذا منعته كندة عام الحرة بالمدينة وأجاروه على مسلم بن عقبة المرى الذي يدعى مسرفاً لما سامه إن يبايع على إنه عبد قن ليزيد بن معاوية كما بايع أهل المدينة وقالوا: لا يبايع أبن أختنا الا على ما بايع عليه أبن عمه علي بن الحسين عليهما السلام 26 على إنه أبن عم كريم وكان يزيد قد أمر مسلم بن عقبة بان يقنع من علي بن الحسين عليهما السلام بذلك وكانت كندة معظم الجيش فخاف مسلم فسادهم عليه فاجابهم الى ذلك وقال علي عليه السلام يذكر ذلك: ابي العباس قرم بني قصي ... وأخوالي الملوك بني وليعه هم حاطوا ذيماري يوم جاءت ... كتائب مسرفٍ وبنوا اللكيعة أرادوا بي التي لا عز فيها ... وحالت دونهم أيدٍ منيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وأمتدت أيام الاشعث في الاسلام وشهد مع علي عليه السلام صفين وأبلى في تلك الحرب خصوص يوم وقعة الماء فانه أبلى يومئذ بلاء حسناً. وروي إنه يومئذ كان يضع رمحه بين الصفين ويقول لاصحابه: بابي أنتم وأمي فقدموا قاب رمحي فاذا صاروا عند السنان رفعه فوضعه وقال لهم مثل ذلك فلم يزل يفعل ذاك حتى أنكشف أهل الشام وفيه يقول رجل من اليمن يمدحه لفعله: كشف الاشعث عنا ... كربة الموت عيانا بعد إن طارت حصاناً ... طيرة مست كلانا اذ حمى القوم حماهم ... حين لم يحم حمانا فدعا الاشعث رهطاً ... من معد ودعانا فنهضنا نهضة الاسد ... فلم نبغ سوانا يذرع الارض برمح ... قابه كان خطانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فمنحنا القوم في الهي ... جا ضرابا وطعانا ساعة ثم تولوا ... وحوى الاشعث مانا فله المن علينا ... وبه دارت رحانا من رآه ورآنا ... حسب المرء أيانا وكان بعد ذلك قد أتهم في أمر الحكمين فبعد الاسلام والجهاد ووقوفه مثل هذا الموقف مدحوه بأنه معصب بالتاج الى إن علاه القتير. اخبار الحجاج بن يوسف الثقفي وروي إن الحجاج بن يوسف كان يحب إن يتزوج من بيوتات العرب فكان فيمن تزوج من بنات الاشراف أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو العامري عامر قريش فما يؤثر عنه وستطرف ويتعجب منه إنه كتب الى الوليد بن عبد الملك: أني نكحت أم سلمة بنت عبد الرحمن فوجدتها كان النساء شققن شقاً وثقبت ثقبا وخفضن خفضا ورفعت رفعا فنزلت عنها لامير المؤمنين فهو أحق بها وطلقها. فلما حلت تزوجها الوليد فلما الم بها طلب منها حيث يطلب من النساء فخفض فقالت: لا تخفض يا أمير المؤمنين وأرفع عودك الخفض الاماء الرضع فقال: أني لم أذهب هناك. ثم تزوجها بعده أخوه سليمان ثم أخوه هشام وكانوا يقدمونها. وكان الناس يقتربون الى الحجاج فدله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة الدارمي على هند بنت أسماء بن خارجة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري ووصفها له وقال: تزوجها أيها الامير فانها في بيت قيس فدعا أباها وأجلسه في موضع من داره وبعث اليه يخطبها فاعتل عليه وقال: أيها الامير أنها طفلة قال قد رضيت قال: فهي خرقاء قال: قد رضيت ولم يزل به حتى زوجه فلما أهداها اليه عرف إنه أتي في ذلك من قبل محمد بن عمير فتركه مديدة ثم دخل على الحجاج فقال: أيها الامير الا تزوجت فلانه بنت محمد بن عمير وكانت أبنته هند حاضرة فقال له أتقول هذا وهند تسمع فقال: نعم أنت أكرم علي منها فقال: وهل له بنت؟ قال: نعم ووصفها له ورغبه فيها وقال: تزوجها فانها في بيت تميم. فدعا الحجاج محمد بن عمير وأرسله مع أسماء وغيره يخطب اليه فاعتل فلم يقبل عذره وضايقه حتى عقد له عقد النكاح فلما خرجا أستوقف أسماء محمد في الدهليز ودفع في صدره وقال له: جزيتك ما أسديته يا أبن حاجب ... جزاءً كنقر الديك أو قدر الشبر بقولك للحجاج إن كنت ناكحاً ... فلا تدع هنداً من بنات بني بدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فان أبها لا يرى إن واحداً ... بكفو لها إلا المتوج من فهر فزوجتها الحجاج لا متكارها ... ولا راغبا عنه ونعم أخو الصهر اتيت سروري أذ أردت مساءتي ... وقد يحسن الانسان من حيث لا يدري27 فان كان ذا عار فقد جئت مثله ... وإن كان ذا فخرا فلا تتركن شكري مذهب العرب في أبس التاج فاشار الى إن الخليفة متوج فادعوا في شعارهم لبس التاج لقوم لم يلبسوه ثم تجاوزوا الى وصف المعدوم الذي لم يكن له حقيقة بصفات الموجود المشاهد كدعوى الفرزدق إن تاج قومه يلتهب التهابا ودعوى الاخر إن تاج مالك بن عوف النصري يأتلق أئتلاقا. وكأنهم قالوا: إن غير شيء يلتهب لحسنه التهابا ويأتلق أئتلاقا ثم أدعوا ذلك للخلفاء الذين لا يستجيزون ولا يستحلونه بل يرونه في دينهم بدعة وعلى شرفهم منقصة ويرون أعاظم من كان يلبس التيجان على الحقيقة من ملوك العجم وغيرهم من سائر الامم غير مقارب لهم في شرفهم ولا لاحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بدرجتهم لما فضلهم الله تعالى به وشرفهم بمكانه من الاسلام الذي تضعضع شرف كل شريف خالفه وذل كل عزيز جانبه فلهم إن يأنفوا بان ينسب اليهم مثل ذلك ولذلك أنتهر عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن قيس الرقيات حين أنشده في مديحه له: يتألق التاج فوق مفرفه ... على جبين كأنه الذهب وقال له أتقول في مصعب. انما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء وتمدحني بما تمدح الاعاجم وهذا مشهور من مذهب الشعراء حتى إن البحتري بالامس مدح المعتز رضي الله عنه بلبس التاج فقال: كأنما التاج على رأسه ... قد حف بالياقوت والدر كواكب الفضة في أفقها ... جاءت فحفت غرة البدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومدح المهتدي رضي الله عنه ينفي ذلك عنه فقال: لسجادة السجاد أحسن منظرا ... من التاج في أحجاره وأيقادها وأمثال ذلك من أقوال الشعراء لا تحصى لانهم أنما يتبعون أهوائهم غير أنهم أعينوا على ذلك باللغة العربية التي خصت بخلال أفضل كلها من الفصاحة والبلاغة والايضاح والابانة والعذوبة في الاسماع والحلاوة في القلوب والقبول في النفس التي ليس لغيرها من سائر اللغات مثله ولا ما يدانيه ونظموا فيه الشعر الفصيح بالوزن الصحيح وكلامهم رائق عذب يغتفر له كل ذنب. وقال بعض العلماء للعرب توسع في لغاتهم وأشارة الى إرادتها وصنفوا في ذلك كتبا وأقاموا عليه أدله حسنة وأوردوا لهم فيه حججاً واضحة وأشارتهم فيما ذكروه من ذلك كله الى شرف الممدوحين وذلك مسلم اليهم ومطلق لهم ومرخص لهم فيه مع العلم بان أكثر ما ذكروه باطل ومعظمه ما حل ومذهب الشعراء معروف والكذب منهم مألوف وتجاوزهم الحد فيه المديح والهجاء والتشبيه والرثاء وغير ذلك من الصفات معلوم وقيل: أكذب من مادح أو نائح. فقد تركوا ذلك كله يقولون منه ما شاءوا أو يتصرفوا فيه على ما أحبوا وعلينا أستحسان ذلك منهم والاعتراف لهم بالفضل في فصاحتهم وبلاغتهم والاقرار بأنا لا ندانيهم فيه وليس علينا أن نجعله حجة قاطعة ولا بينة قاهرة على ما أدعوه ولا نلتزمه لهم على الحقيقة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 نقطع بصحة ما ذكروه فيه ولو التزمنا لكل ما أدعي له إنه كان ملكاً وذكر الشعراء إنه كان متوجاً لعلو المنزله وعظم الشأن بمجرد الاسم وشواهد الشعر خاصة من غير كشف لاحوالهم ولا فحص عن أمورهم ولا أستيضاح لسيرهم وأقدارهم للزمنا أن نسوي في المنزلة بين كسرى والسمؤل وقيص وأكيدر دومة الجندل وبين أمرئ القيس الشاعر وتبع وفرعون ويحيى بن أخطب رأس اليهود بخيبر لاشتراكهم جميعاً في مجرد الاسم وهذا غاية الجهل فعدلنا عن ذلك الى النظر فيما دلت عليه الاخبار ونقله الرواة. وتضمنته السير من أحاديثهم وأخبارهم وأحوالهم الدالة على أقدارهم لنستدل بذلك على حقائق منازلهم وحد ملكهم وقدر أتساع ممالكهم وما طالت اليه أيديهم من قهر أعدائهم لنطلع بالخبر المأثور على حقائق الامور. ملوك آل نصر في حيره ولم يكن من ملوك العرب بعد التبيعة، فانهم نالوا من العز مبلغاً أستحقوا به التسمية بالملك رفع قدراً وأبقى على الالسنة ذكر من آل نصر 28 ملوك الرب بالعراق خصوصاً النعمان الاصغر بن المنذر الاصغر فانه كان أخر أهل بيته زماناً وأقربهم عهداً وأنبههم ذكراً وأخفهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الالسنة أسماً حتى إنه ربما نسب ليه من الافعال ما فعله غيره من أبائه وأهل بيته لخفة أسمه وقرب عهده وسرعة الألسنة الى ذكره فحظه في ذلك كحظ أنوشروان من بين الاكاسرة تسبق الالسنة على الاكثر الى ذكره إلا لمن يتأمل ويتفهم. قال أبو عبيدة كل ملك عند العرب النعمان وقال بعض الرواة أدركت أهل الحيرة وهم يعلمون صبيانهم في الكتاتيب أسماء ملوك آل نصر وسيرهم وأخبارهم وأحاديثهم كما يعلمونهم غير ذلك من أنواع العلم. والروايات مختلفة في عدة من ملك منهم بالعراق يدل بعضها على أن عدتهم عشرون ملكا، ويدل بعضها على أن عدتهم ثمانية عشر ملكا، والاصح، والأصح أن عدتهم عشرون. وقد أختلف أيضاً في أسمائهم، وترتيب ملكهم أختلافاً كثير، ونسب الفعل الواحد إلى الواحد والاثنين منهم لبعد العهد وكثرة الاختلاف في الروايات، وأشبه ما رأيت ترتيب ملكهم بالصحيح هذا الترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فأول من ملك منهم تفرق الأزد مالك بن فَهم بن غانم وقيل غنم بن دوس الأزدى، وهو أبو جذيمة الأبرش و في نسبه خلف سيأتي ذكره من بعد. وروي في سبب ملكه أن قومه كانوا ممن خرج من أرض اليمن، لما خرجت الازد، وتفرقت في البلاد حين أرسل عليهم سيل العرم، والعرم سد كان لهم ببلاد مأرب وهي أرض سبأ بين جبلين تحصر عليهم الماء في أوان السيل، فيسقون به جنتين كانتا لهم، وقيل هو السكر وقيل كان مسناة، والمعنى في الجميع واحد، فكفروا بنعمة الله عز وجل، فأرسل عليهم جرذا فاخربه، فروي أن الجرذ كان يقلب برجليه من أحجار السد، الحجر الذي لا يطيقه خمسون رجلا، وكان ملكهم عمرو بن عامر بن حارثة بن أمرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الازد. وكان أخوه عمران كاهنا فعاش فيما قيل أربع مائة وخمسين سنة، فلما حضرته الوفاة دعا أخاه عمراً هذا الملك. وقد أتت عليه مائتان وخمس وسبعون سنة. فقال له: إني ميت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وان بلادك ستخرب ويتمزق أهلها، وأني رأيت أمرأة من قومك من حجور - وهو بطن من حضرموت - تتعرض للكهانة، وسينفذ قولها من بعدي، فتزوجها وأحذر أن تفوتك. ففعل عمرو ذلك وتزوجها وكان أسمها طريفة بنت الخير، وقيل إنها التي حنكت سطحيا الكاهن الديني، فكانت أحيانا تخرج الى الحدائق متنزهة، فخرجت ومعها وصائف لها، فرأت ثلاث مناجد، والمناجد دواب كاليرابيعلا عيون لهن، منتصبات وأيديهن على مواضع عيونهن، ثم ولّين وجعلن يشخبن بأبوالهن، ثم مرت بخليج يسقي حديقة، وقد وثبت منه سلحفاة، فوقعت على التراب على ظهرها، وهي تريد الانقلاب ولا تقدر، وكلما أضطربت حثت التراب على رأسها وبطنها، ثم رأت شجر الحديقة يضطرب ويتكفأ في ساعة لا ريح فيها، فاتت بعلها عمرا الملك، فأخبرته بخراب السد وتفرق الأزد إشارة ولحناً. فقال: بيني ما تقولين، وكان عنده قينات له، فقالت: الزهر ذو الوان، والصمت خير من البيان. فصرف القينات عنه، وقال: ما هذا يا بنت الخير؟ فقالت: أخبرتني الناجد بسنين الشدائد، يقطع فيها الولد حق الوالد، وبأمور جسيمة، ورزية عظيمة، الويل الويل من ذهاب السيل، وتفرق الاحباب والخيل والركاب، من أجل فيض منساب. قال: ومتى يكون ذلك؟ قالت: فيما بينك وبين سبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 سنين، وإن كنت لا أبيت ليلة إلا وأنا أظن أن السد هالك فيها. فارسل عمرو إلى أهل مأرب ومن حولهم: إني متخذ وليمة يوم كذا، فاحضروني وسمى لهم يوماً، فحضروه لم يتخلف عنه أحد، ونحر مائة من الابل، وأتخذ طعاماً كثيرا، وقال لابنه ثعلبة " وكان أكبر ولده " كن قريباً مني، ونازعني بعض القول، ومهما نالك اليوم مني من القول أو فعل فلينلني منك مثله، فلما أكل الناس وشربوا، نازعه قولا فزاد فيه، فشتمه، فرد عليه، فلطمه فوثب به ولطمه، فصاح واذلاه!! يوم فخري ومجدي يلطم وجهي! فوثب الناس الى ثعلبة فأخذوه 29 وقالوا أقتله أيها الملك، قال: لا، ولكني سأحرمه كل خير مني، ثم حاف لا أقام بأرض لطم فيها، وليبيعن ماله بمأرب أجمع. فقال بعض الناس إنه إن تم على قوله ظفرتم بما لا يملك أحد مثله، وإلا رددتم عليه، فكانت يدا لكم عنده، فأشتروا منه ماله عن آخره، وقبض ثمنه وخرب السد، وأصابته سنون مجدبة، يقال " والله أعلم " أنها السبع الشدائد التي كانت في عهد يوسف عليه السلام فقالت طريفة اليوم أخصكم البيان من كان ذا هم بعيد، ومراد جديد، وحمل شديد، فليلحق بقصر عُمان المشيد، فسار فيهم قوم الى عمان منهم أزد عمان. ومن كان يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فسار إليها عمرو أبن عامر الملك، فولده بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الأوس الخزرج، ومن كان ذا جمل معن وحبل فين ورأي لا يكن، فليلحق بأرض شن فلحق بها قوم منهم، فهم أزد شنوءة، ومن كان ذا فاقة وضر وصبر على أزمات الدهر، فليلحق بالأراك من بطن مر، فاحقت به خزاعة، ومن كان يريد خمراً وخميراً، وذهباً وتوفيراً، فلينزل بصرى وعويراً، فلحق بها قوم منهم آل جفنة، ومن كان معهم بالشام من الأزد. ومن كان يريد بلداً عالياً وعيشاً آنياً، وملكاً دانياً، فليلحق بالشرق معالياً، فلحق قوم منهم بالعراق. ونهم مالك بن فهم وأهل بيته في جماعة من الأزد. فضرب بتفرقهم المثل فقيل تفرقوا أيدي سبأ وأيادي، فصارت مثلاً سائراً. وقص الله قصتهم في كتابه فقال سبحانه: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آيةٌ جنتانِ عن يمينٍ وشِمال) الآيات، وذكر الأعشى قصتهم فقال: وللموت خير لمن ناله ... إذا المرء أمته لم تدم وفي ذاك للمؤنسي أسوة ... بمأرب عفى عليها العرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تفرقا في البلاد وأعترفوا ... الذل وذاقوا البأساء والندما وبدلوا السدر والأراك به ... الخمط وأضحى البنيان منهدما وقال محمد بن مناذر اليربوعي: وأذكر الجيش بعد والحاضي ... مأرب من دمن سدها المسدود عَصرَ صار أيدي سبأ سبأً ... والدهر دهر له شتاتُ العديدِ وقال معاوية لرجل منهم أفتخر عنده فأسرف: أنتم قوم ملكتكم أمرأة، وأخرجتكم من أرضكم فارة. ووافق خروج سبأ عن أرضهم خروج قبائل من ولد أسماعيل عليه السلام من تهامة، فإنهم لما كثروا بها حدثت بينهم أحداث، وأصاب بعضهم في بعض دماً، ولقحت بينهم حروب، فتفرقوا في البلاد، فأتى بعضهم اليمن، وأتى آخرون مشارق الشام، وأقبل بنو الحمق بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عمرو بن قنص بن عدنان، وبنو غطفان بن عمرو بن الطَّميان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وبنو صبح بن صبح بن الحارث بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار وبنو زهر بن الحارث بن الشلل بن زهر بن إياد، فنزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزد الخارجين من سبأ، وأنضم اليهم مالك وعمرو أبناء فهم، وأبن أخيهما مالك بن زهير بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة في قبائل من قضاعة، وأنضمت إليهم بطون من نمارة بن لخم، فاجتمعت هذه القبائل كلها بالبحرين، ووافق أجتماعها قتل الإسكندر دارا بن ملك فارس، وتفريقه كلمة فارس، وقسمته مملكتهم بين ملوك الطوائف. فأحست هذه القبائل عند أجتماعها بضعف فارس30 وأضطرب حبلهم، وأختلاف كلمتهم، فاغتنموا الفرصة فيهم، وقالوا نتعاقد ونتوازر على التنوخ في هذه الأرض، والمقام بها، فتحالفوا على ذلك وصاروا يداً واحدة فقيل لهم تنوخ وضمهم هذا الاسم، فصاروا يعرفون كالقبيلة الواحدة، وإن كانت قبائلهم شتى، ودعوا مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 إلى التنوخ معهم والمقام فيهم، وملكوه عليهم فقيل ملك تنوخ، فكان مالك بن فهم بن غانم أبن دوس الأزدي أول ملوك العرب بالعراق، وكان ينزل فيما الأنبار. ثم ملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس، فكان ينزل منزل أخيه. ثم ملك بعده جذيمة الأبرش ابن أخيه جذيمة بن مالك، بن فهم بن غانم بن دوس، وكان أعز من أبيه وعمه وأبعد صوتاً، وأذهب شرفاً، وأشهر عند العرب بالتسمية بملك العراق منهما وربما قيل جذيمة التنوخي، وجذيمة الأزدي، وكان يتكهن ويتنبأ بزعمه، وكان أبرص فسمته العرب الأبرش، وسمته الوضاح كناية عن ذلك. وكان يفخر ببرصه لأن بعض العرب كان يتيمن بالبرص، وكانوا يزعمون أنه لا يكون إلا بالرجل الكريم، وأنشد لبعضهم: اتشتمني زيدٌ بأن كُنت أبرصاً ... وكل كريمٍ لا أباً لك أبرصُ وقال الرجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يا كأس لا تستنكري حولي ... ووضحاً أوفى على خُصَيلي فإنَّ نعت الفرس الرُّجَيل ... يكمل بالغُرة والتحجيلِ وروى عن الأخفش أنه قال: رجع أبو العطاف العنزي يوماً من عند عمرو بن هداب الملزني مازن تميم، وكان سيد تميم قاطبة في زمانه، وهو يضحك - وكان عمرو بن هداب أبرص - فسئل أبو العطاف عن سبب ضحكه، فقال أتاه اليوم طريف بن سوادة، فأنشده أرجوزة يمدحه بها منها: أبرص فياض اليدين أكلف والبرص أندى باللهى وأعرف ... مجلوز في الزحفات مزحف فصاحت الجماعة به وقالوا: قطع الله لسانك. فقال عمرو: مه! البرص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 من مفاخر العرب. الم تسمعوا قول أبن حبناء: اني أمرؤ حنظلي حين تنسبني ... لا مِلعتيك ولا أخوالي الرقُ لا تحسبنَّ بياضاً فَّي منقصةً ... إن اللهاميم في أقرابها بُلق ثم أنشد الأخفش عن أبي نواس لرجل من بني نهشل: نفرت سودةُ عنّي أن رأت ... صلع الرأس وبالجلد وضح قلت يا سودة هذا والذي ... يُفرج الكُربة عنا والكَلح هو زينٌ لي وفي الوجه كما ... زيّن الضرف تحاسين القرح ولآخر يا أخت سعدٍ لا تعرِّي بالبهق ليس يغني الطرف وتوليع البلق ... اذا جرى في حلبة الخيل سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وقيل لبلعاء بن قيس لما شاع في جلده البرص ما هذا؟ فقال: سيف الله جلاه. وجذيمة هو صاحب الندمانين اللذين يضرب المثل بهما، فيقال كندماني جذيمة. وقد أختلف فيهما، فقيل إنه كان لا ينادمه أحد ذهاباً بنفسه وضناً بها، وكبراً عن الناس، ويزعم أن الفرقدين نديماه. فكان إذا شرب قدحاص صب لهما قدحين، وقيل بل هما مالك وعقيل أبنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن خسر بن سبع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأن سبب منادمتهما إياه: أن الجن كانت قد أستطارت أبن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وهو غلام، وكان جذيمة شديد الحب له فضرب له في الأفاق، فلم يظفر به، فيئس منه وحزن عليه ومكث ما شاء الله إن يمكث، ثم إن هذين الرجلين خرجا من أرض قضاعة إلى جذيمة بهدية يريدان أتحافه بها، ومعهما قينة لهما يقال لها أم عمرو، فنزلا ببعض الطرق، وأدنت إليهما طعامهما وشرابهما، فدفع إليها غلام شاحب سيء الحال متلبد الشعر، فاستطعمهما فناولته31 القينة عظماً فالقاه، وأستطعمهما غيره، فقالت يعطى العبد الكراع فيطمع في الذراع، فذهبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 مثلا ثم شربا فاستسقاهما، فقالا: من أنت يا فتى؟ فقال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإني عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وغدا تريان في نمارة غير معصي وعرفهما بنفسه، وقص عليهما قصته، فقالا لا نجد هدية نتحف الملك بها أحسن موقعاً عنده من أبن أخته، فأخذاه فحملاه اليه فسر به أعظم السرور، وأراد إكرامهما، فقال: أحتكما فلكما حكمكما، فاختار منادمته ما بقي وبقيا، فكانا نديميه، وهذا الوجه الصحيح لا ما ذكر أولا، قال أبو خراش الهذلي: لعمرك ما مَلَّت كبيشة طلعتني ... وأن مقامى عندها لقليل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل وقال متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول أجتماعٍ لم نبت ليلة معا وكان جذيمة ينزل أطراف العراق بالعمير والقطقطانة وخفيفة وما بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الحير إلى الانبار وهيت، وربما نزل أحياناً يبرين وغيرهما من منازل العرب، وروى أنه عمي في أخر عمره، وقتلته نائلة بنت عمرو بن ظرب الملكة المعروفة بالزباء وسيأتي حديث مقتله. ثم الملك بعده عمرو بن عدي ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وهو عمرو ذو الطوق، أمه رقاش بنت مالك وقيل لميس بنت مالك أخت جذيمة، وكان سبب تزويج أبيه عدي بن نصر بها فيما روي: أنها رأته فهويته، فارسلت اليه أن أخطبني اليه تعني أخاها جذيمة، فقال لا أجتريء عليه، وأخاف أن أغضبه. فقالت: لا، إن لك حسبا وموضعا، فإذا جلس على شرابه، فاسقه صرفا وأسق ندماء مزاجا، فاذا أخذت الخمرة منه، فأخطبني اليه فلن يدرك، ففعل ذلك، وخطبها اليه فظفر منه ببعض القول، وقام فدخل بها من تحت ليلته، وأصبح مضرجا بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟ فقال آثار عرس رقاش، قال ومن زوجكها؟ قال: الملك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فسأل ندماه فاخبروه فصك وجه بيده وأكب على الأرض ندماً وقيل إنه قتل عديا وقيل بل خافه فهرب منه على فوره لما رأى من ندامته فلحق بإياد وكان فيهم الى إن هلك وأشتملت رقاش من عدي على حمل فقال لها جذيمة: خبريني رقاشُ لا تكذبي ... أبحُرٍّ زنيت أم بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبدٍ ... أم بدونٍ فأنت أهل لدونِ فقالت مجيبة له: انت زوجتني على غير أذني ... وأتاني النساء للتزيين ذاك من شربك المدامة صرفاً ... وتماديت في الصرف والجنونِ ثم قالت: أنت زوجتني أمرءٍ أعرابياً حسيباً ولم تستأذني في نفسي فامسك. ثم وضعت أبناً فسمته عمراً والقي عليه محبة من جذيمة وقربه ورباه فكان له كالولد ثم أستطارته الجن وكان من حديثه وعوده اليه ما تقدم ذكره. فلما سار جذيمة الى الزباء الملكة ليتزوجها أستخلف أبن أخته عمر هذا على ملكه وضم اليه عمرو بن عبد الجن الجرمي فلما قتلت الزباء جذيمة وعاد صاحبه قيصر بن سعد وهو الذي كان نهاه عن أتيانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالخبر تنازع العمران الملك فسفر بينهما قيصر الى إن أصلح بينهما وأنقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي وتركه والملك فملك عمرو بن عدي ملك خاله جذيمة الابرش وقال في طاعة عمرو بن عبد الجن له: دعوت أبن عبد الجن للسلم بعدما ... تتابع في غرب السفاه وكسما فلما أرعوى عن صدنا باعترامه ... مرت هواه مري أم أو أبن ما فقال عمرو بن عبد الجن مجيبا له: اما ودماء مائراتٌ كأنها ... على قلة العزى أو النسر عندما وما قدس الرهبان في كل بيعةٍ ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما 32 - لقد ذاق منا عامر يوم لعلعٍ ... حسام أذا ما هز بالكف صما قال الطبري: هكذا وجد الشعر غير تام. وكان تقديره بعد القسم إن يكون لقد كان كذا أو لولا كذا الا إنه لم يظفر له بتمام على ما ذكر. فاستقام لعمرو بن عدي أمره وملك ملك خله جذيمة الأبرش وقتل زباء الملكة قاتلة وسيأتي حديث مقتلها. وهو أول من أتخذ الحيرة منزلاً وسكنها بعد إن كانت خراباً لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تسكن من عهد بخت نصر وكان في أول ملكه لا يدين لاحد من ملوك الكوائف للحال التي كانوا عليها من الضعف فلما أجتمعت كلمة فارس وطاعتها لأردشير بن بابك وأنقادوا له وظهر على ملوك زمانه وتسمى بشاهنشاه خافته العرب فخرجت قبائل من تنوخ عن أرض العراق الى أرض قضاعة وغيرها ولم يجد عمرو بن عدي بدا من طاعته أو النزوح عن أرض العراق فأطاعه ودان له فاستعمله على العرب وأمره إن يسكن الحيرة فسكنها وسكنها بعض العرب معه وأبتنوا بها المنازل وسكنوا الجدار وكره الباقون إن يسكنوه وكانوا على عادتهم يسكنون المظال وبيوت الشعر وينتزلون أطراف العراق وما بين الحيرة والأنبار. وأمد أردشير عمراً بالجنود وقواه فتجاوز حد خاله جذيمة ومن تقدمه في الملك. وقيل إنه ملك مائة وعشرون سنة منها في أيام ملوك الطوائف وأرادون الأشغاني خمسا وتسعين سنة يحكم نفسه ثم عمل لاردشير مدة ملكه وكانت مدة ملك أردشير خمس عشر سنة ثم هلك أردشير. سابور بن أردشير وملك بعده أبنه سابور بن أردشير الذي يقال له سابور الجنود فأقر عمراً على عمله عشر سنين أو نحوها وهلك عمر في أيام سابور فاستعمل سابور مكانه أمرأ القيس بن عمرو ولم يزل ولد عمرو مع ولد أردشير الأكاسره عمالا لهم الى إن قتل أبرويز بن هرمز بن أنوشروان النعمان الأصغر بن المنذر الأصغر وهو أخرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 على إنه تخلل ملكهم ملك غيرهم نادرا لمن كانت الأكاسرة تستعمله من غير بيتهم عند أمور كانت تعرض فتقتضي ذلك فعمرو بن عدي بن نصر وولده ملوك آل نصر قال الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: وما إن خلتكم من آل نصر ... ملوكاً والملوك لهم علاءُ ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو ... دماء القوم للكلبي شفاء وقال رجل من بني نهشل: الا أيهذا المؤتلي إن نهشلا ... عصوا قبل ما آليت ملك بني نصر وقال مضرس بن ربيعة الأسدي: لقد كان من نصر وغسان أسوة ... ومن قبل ذلك من ملوك ومن أمم ثم ملك بعده. أمرؤ القيس بن عمرو ابنه أمرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر وهو أمرؤ لبقيس الأول. وروي إنه يقال له البدن وقيل إنه أنما سمي بذلك لعظم خلقه وقيل بل كان لادمانه لبس الدروع والبدن من أسماء الدروع. امه ماوية بنت عمرو بنت مالك الغساني وهو أول من أقطعته ملوك الفرس منهم وشرفوه وتوجه طالت مدة ملكه أيضاً فقيل إنه ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 مائة وأربعة عشر سنة لان سابور بن أردشير أستعمله بعد هلاك أبيه عمرو فعمل لسابور بقية أيام ملكه ولستة من ملوك الفرس بعده وهو الذي صنف أهل الحيرة وجعل لهم مراتب أحتذاء بفعل الأكاسرة في ترتيب جنودهم وتصنيفهم وأسمائهم أسماء ما زالوا يعرفون بها في عصره وعصر من بعده من الملوك الى إن أنقرض الملك بالحيرة. اهل الرفادة فسمى قوم منهم أهل الرفادة وهم فيما روي أهل بيته الأقربون اليه فبهذا الاسم كانوا يعرفون أهل بيت الملك والعرش والعرافي وهم الذين كانوا يكونون على المقدمة في الحروب المغازي والارداف وهم عرفاء الجنود وزعمؤهم وقوادهم وأزمتهم. الجمار والجمار ويقال الجمرات وقيل بل هم قوم من لخم خاصة دون غيرهم سمى منهم بني أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم وقيل بل هم من قبائل شتى من لخم وغيرها وسمي منهم بنو سلسلة من جعفي وبنو ماوية من كلب وقوم من بني سلامان بن ثعل بن طي 33. والصنائع وهم قوم من شذاذ الأحياء وخلعاهم كانوا يصيبون الدماء ويجنون الجنايات على قومهم فيخلعونهم فيلجأون الى الحيرة فيصطنعهم الملك ويجيرهم ويامنون عنده ويشهدون معه حروبه ومغازيه قال زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بن الصعق: تركت أخا النعمان يوسف عاتيا ... وجدعّن أجناد الملوك الصنائعا وقال جرير: حمينا يوم ذي نجب حمانا ... وأحرزنا الصنائع والنهابا وقد قيل الذين كانوا يعرفون بالصنائع بالحيرة من بكر بن وائل ثم من اللهازم من بني عبد القيس وتيم اللات أبني ثعلبة بن عكانة كانوا يصحبون الملوك وكان الأول أشبه بالصحيح. الوضائع وهم أساورة من الفرس كان كسرى يضعهم عند الملك بالحيرة مددا له مزاحة عللهم فبهم كانت قوة ملوك الحيرة على العرب وبهم كانوا يقهرون أهل الحيرة حتى تستقيم لهم طاعتهم وكانت عدتهم الف أساور وكانت نوبتهم حولا كامل فكلما أنقضا الحول جهز كسرى غيرهم فوضعهم عند الملك بالحيرة وعاد الذين قضوا نوبتهم الى باب كسرى فلذلك سموا الوضائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الرهائن والرهائن وهم غلمان كان الملك بالحيرة ياخذهم رهان من أحياء العرب على الطاعة وعلى إن لا يفسدوا في بلاد كسرى ولا يغيروا على أطرافها وعلى ما كان يجري بينه وبينهم من صلح أو ميثاق على أمر من الامور فيكونون عنده ويصحبونه الى سراياه ومغازيه قال الأعشى في مدح النعمان: له قبة مضروبة بفنائها ... عتاق الهاري والجياد الصوافن اذا صرفت أبوابها خضعت لها ... رقاب معد دنيها والرهائن وقيل إن عدة الرهائن كانت بما بلغت خمس مائة غلام وكانت نوبتهم ستة أشهر ثم يرهن غيرهم وينصرف الذين قضوا نوبتهم الى أهليهم. العباد والعباد وهم معظم أهل الحيرة وجلّهم وأشرافهم وأهل البيوتات والعز منهم وهم أصحاب الحيرة ويقال لهم الحيرة الاولى ومن كان بها من غيرهم فإنما كان ضميمة اليهم وأسمهم هذا غلب على أسم من سواهم من أهل الحيرة من أصحاب الاسماء المذكورة وغيرها فاهل الحيرة باسرهم يعرفون بالعباد غلبي هذا الاسم عليهم حتى صار كالنسب لهم وأقتنعوا به عن الانتساب الى عشائرهم وعرفت به أعقابهم من بعدهم في الاسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأختلف في معنى هذا الاسم وسببه فقيل أنما سموا به لانهم كانوا أهل الفصاحة من النصارى الذين للغتهم فضل على غيرها من السرياني كفضل لغة العرب البادي على لغة من يسكن المدر وبهم كان يقتدي من سواهم من أهل نحلتهم. وقيل بل سموا بذلك لان شعارهم كان نحن عباد الله وأنشد لبعضهم: نحن العباد وربنا الرحمن ... وله علينا الطوع والاذعان وقيل بل نسبوا بذلك الى أب لهم وليس هذا الوجه بشيء لانهم من قبائل شتى من عدنان وقحطان. وقيل بل كانوا يعبدون صنما لهم يقال له سبد فقيل لهم عباد سبد ولزمهم هذا الاسم قال رجل من بني ربي منم نمارة من لخم جنى جناية في قومه فخلعوه فلجأ الى الحيرة: أرى سيفي نفاني من دياري ... والجأني الى سبل المخافه والحقني العباد عباد سبدٍ ... بلا نسب هناك ولا صرفه وقيل أنهم أنما سموا بهذا الاسم لنهم أول من سكن الحيرة مع عمرو بن عدي وأختطوا بها المنازل وبنوا بها الجدر ودانوا لاردشير بن بابك فسموا بذلك الباد وصارت الدار لهم وكل من جاء بعدهم فأنه أنما لجأ اليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقد ذكر الطبري هذا الوجه ويقويه أيضاً إنه روي إن عمرو بن أمرؤ القيس الملك لما ملك أدخل في العباد أهل بيوتات من ربيعة ومضر وأياد لم يكونوا منهم من قليل وهذا مما يدل على إن أسم العباد أنما وقع 34 على من كان بالحيرة أولاً. الأحلف والأحلاف وهم قوم لحقوا بالعباد بعد نزولهم الحيرة فحالفوهم وأنضموا اليهم ودخلوا معهم في أمرهم وهم من أحياء كثيرة سمي منهم بني لحيان من بن الحارث بن كعب وقوم من غسان وبنوا مرينا وهم من أشرافهم ونسبهم في جعفى منهم عدي بن أوس بن مرينا الذي كان عدي بن زيد العبادي عند النعمان الأصغر حتى قتله ومنهم قوم من عبد القيس بن أفصى ومن الأوس بن عمرو بن عامر وبنو حيّة من طيء وهم رهط أياس بن قبيصة الذي أستعمله كسرى بالحيرة بعد النعمان الأصغر. ومن حنيفة بن لخم ومن نمير بن عامر وأه بيت من أسيد بن خزيمة يقال لهم بنو شجرة وقيل إنه دخل فيهم قوم من بني قريش من ولد عبد الله الأعرج بن عبد شمس بن عبد مناف يقال لهم بني العميني وقريش تنكر ذلك ويقولون إن عبد الله الأعرج لم يعقب. وقيل إن أسم الأحلاف بالحيرة كان يجمع قوما من أربعة عشر حياً. ثم جعل أهل الحيرة كلهم ثلاث كتائب تجمع هذه الأسماء كلها وتسمى كل كتيب أسماً لم تزل تعرف به الى آخر أيام ملوك الحيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أحدها دوسر ويقال لها دوسرة وهي كتيبة كانت تجمع فرسانها وشجعانها وذوي النجدة النتخبين منهم. والشهباء وقيل هي التي كان يكون فيها أهل بيت الملك وأنما سميت بذلك لأنهم كانوا يسمون الأشاهب لجمالهم وصباحتهم وقيل بل هي كتيبة الفرس الذين كانوا يسمون الوضائع سميت بذلك لبياض الوانهم. الملحاء والملحاء وقيل إنه سميت بذلك لكثرت لبوس الحديد فيها والأملح ما أشبه لونه الرماد من بياض يشوبه سواد أو سواد يشوبه بياض قال جرير: ابا مالك مالت برأسك نشوة ... وعردت أذ كبش الكتيبة أملح وذكر الطبري إنه لم يكن الا كتيبتان: الشهباء ودوسر وقال أنهما معا من الفرس كانت الأكاسرة تقوي ملوك العرب بهما. وكانت هذه الكتائب ربما أجتمعت مع جنود الملك في غزو الحي الواحد من أحياء العرب فقهروا الحي مر وقهرهم مراراً وربما تكافؤا وأحاديثهم في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مشهورة وأخبارهم مأثورة. وهلك أمرؤ القيس هذا في زمن سابور ذي الأكتاف. ثم ملك بعده عمرو بن أمرؤ القيس ابنه عمرو بن أمرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر وهو عمرو بن عدي بن نصر وهو عمرو الثاني أمه هند بنت كعب بن عمرو بن مالك الغساني وهي بنت خال أبيه وهو الذي أدخل في العباد بيوتات من ربيعة ومضر وأياد لم يكونوا منهم من قبل على ما تقدم ذكره وكان ملكه في زمن سابور ذي الأكتاف وأبنه سابور بن أرشدير المخلوع وقيل إنه ملك ثلاثين سنة. ثم ملك بعده أوس بن قلام اوي بن قلام بن بطينا وقيل بطينان بن جمهر وقيل بن جماهر بن لحيان من بني الحارث بن كعب بن مذحج وقيل إنه من بقايا العمالقة من ولد فاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وكان ملكه في أيام أردشير المخلوع بن سابور ذي الأكتاف. وروي إن مدة ملكه كانت ثلاث سنين ثم قتله رجل من لخم يقال له جحجبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بن عتيك. وفي الرواة من زعم إنه لم يكن ملكا وانما كان مستخلفا الى إن يرتأي كسرى فيمن يوليه. ثم ملك بعده امرؤ القيس الثاني ثم ملك بعده أمرؤ القيس بن عمرو بن أمرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر وهو أمرؤ القيس الثاني وقيل أسمه المنذر أمه ماوية البرحة بنت عمرو الغساني أخت ثعلبة بن عمرو. وفي الرواة من زعم إنه هو الذي كان يقال له البدن وهو محرق الأول وقيل إنه سمي بذلك إنه أذا حارب ملكا وضفر به وسم وجهه بالنار ففيه يقول الشاعر: وسمت وجوه للملوك كريمةً ... وأورثتها ذلا من الخزي باقيا فكيف أبيت اللعنة خزيا كسوتها ... وكانت وجوه لا تقرب المخازيا وفيه يقول الأسود بن يعفر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد أياد وكان ملكه زمن أردشير المخلوع بن سابور وفي أيام زجرد الأثيم هلك. ثم ملك بعده أبنه النعمان بن أمرؤ القيس النعمان بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه الهيجمانة بنت سلول من مراد وقيل من أياد وقيل بل أمه هند بنت زيد مناة بن غسان وقيل بل أمه الشقيقة بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان فلذلك قيل له النعمان بن الشقيقة وكان ولده من بعده أيضا يقال لهم بنو الشقيقة وهو النعمان الاكبر وهو فارس يوم حليمة. كان أعور وهو الذي ساح وترك ملكه. وكان ملكه في أيام يزد جرد الاثيم وبهرام جور بن يزد جرد. وهو الذي أمره يزد جرد لاثيم ببناء الخورنق منزلاً لابنه بهرام جور فبناه له ثم سلمه ليه فتولى حضانته وتربيته وقيل إن يزد جرد الاثيم أنما أخرج ولده بهرام جور الى النعمان وكفله تربيته لانه كان لا يعيش له ولد فوصف له طيب ظهر الحيرة وصحة هوائه وقلة الاسقام والامراض فيه فامر النعمان إن يتولى حضانة بهنام جور وإن يبني له بظهر الحيرة منزلاً فبنى له الخورنق. وقيل إن بانيه كان يسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 سنمار فلما فرغ منه أعطاه عطاء جزيلاً فقال له لو علمت أيها الملك أن تعطيني هذا العطاء لبنيته لك بنياناً من صفته كذا وكذا فقال كأنك لم تناصح في بنائه وأمر به فالقي من أعلاه على أم رأسه فهلك فقيل في المثل جزاه جزاء سنمار فصارت مثلاً وقال بعضهم: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعلي عليه بالقراميد والسكب وقال آخر في رجل عق أباه: جزا أباه أبا غيلان عن كبر ... ولين عيش كما يجزى سنمار وقال الكميت بن زيد الاسدي لزيد بن خالد بن عبد الله القسري: جزاء سنمار جزانا أبن خالد ... بالأتيا من أخريات ومن أول ولم يزل بهرام جور مقيماً بظهر الحيرة الى إن هلك أبو يزد جرد الاثيم فملكت أفرس بعده رجلاً من أهل بيت الملك يقال له كسرى وعدلوا عن بهرام جور بالملك لسوء سيرة كانت من أبيه يزد جرد الاثيم فيهم فانه كان باغياً عاتياً سفاكاًقيل إنه قتل الناس في الارض حتى بانت القلة فيهم جمع النعمان لبهرام جور جماعة كثيرة من العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وسار بهم حتى نزل المدائن فخرج اليه أكابر الفرس وأعتذروا ليه من عدولهم الملك عنه الى غيره بما كان من جور أبيه عليهم وسوء سيرته فيهم فكلمهم بكلام أستدلوا به على عقله وفضله. وقال لهم: أني كنت أشد كراهية منكم لسوء صنيعه وقبح سيرته ولكم علي إن أستدرك جميع فساد كان منه في سنة واحدة فان لم أفعل فاعزلوني وولوا من شئتم. فقالوا: فكيف نصنع بكسرى وقد وليناه؟. فقال لهم فيما ذكره الطبري تجعلون التاج بين أسدين ضاريين فاينا دخل بينهما فاخذه كان الملك له فعرضوا ذلك على كسرى فاجاب اليه ظناً منه إن برهام جور يعجز عنه فلما وضعوا التاج بين الاسدين قال برهام جور لكسرى: دونك التاج فقال: بل أنت تبدأ باخذه لانك الذي أقترحت ذلك. فقام ليأخذه فثار ليه الاسدان فاخذ باذني أحدهما ثم وثب فركبه وضغط جنبيه برجليه فعجز عن الحركة وتناول أذني الاخر بيده الاخرى ودق هامتها واحدة بواحدة حتى شدخهما جميعاً فماتا وأخذ التاج فلبسه وجلس على السرير فكان كسرى أول من قام فحياه بتحية الملك وأستقر ملك فارس عليه وقد أفتخر أبو نواس بما كان مت نصر النعمان لبهرام جور وذكره في قصيدته فقال: ونحن أذ فارس تدفع به ... رام قسطنا على مرازبها بالخيل شعثاً على لواحق كالسب ... دان تعطوا الذي مذاهبها بالصيد من حمير ومن سلفي قح ... طان والفخر في مناسبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حتى دفعنا اليه مملكتاً ... ينحسر الطرف في مواكبها وأنصرف النعمان الى الحيرة بعد إن أكرمه بهرام جور وأحسن صلته وزاده على ما كان له لوجوب حقه عليه وموضع تربيته أياه وخدمته ومناصحته 36 له فاقام في ملكه وسكن الخورنق الى إن ساح. وروي إن السبب كان في سياحته إنه أشرف على الخورنق في يوم من زمان الربيع في عام مخصب غيداق فنظر فاذا الارض كأنها قد كسيت بالثياب الخضر المنقوشه بالوان الزهر ونفحته نفحات من النسيم وقد تأرجت بمرورها على تلك الرياض ونضر الى القرى متسقة والانهار مطردة والنخيل باسقة والاشجار مورقة والانعام رابعة وتأمل مجلسه وملكه فرأى كل منظر حسن أنيق. وجعل لا ينظر الى شيء فيسأل عنه فيقول لمن هذا إلا قيل لك أبيت العنه فقال لاصحابه: هل رأيتم مثل هذا الملك أو أحسن من هذا المنظر؟ وكان فيهم رجل من بقيا الصالحين فقال له: أيها الملك أنك قد سألت أفتأذن في الجواب؟ فقال نعم. قال: أرأيت ما أنت فيه من ملكك هذا الذي قد أعجبك هو شيء لم يزل لك أم أنتقل اليك من غيرك؟ قال: بل صار اليّ بعد إن كان لغيري قال: فإنه كما أنتقل إليك عمن كان قبلك ينتقل عنك الى من يكون بعدك وتبقى مرتهناً بعملك ففكر طويلاً ثم قال: صدقت فكيف المهرب وأين المطلب فقال له: إما أن تقيم في ملكك وتعمل فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بطاعة ربك صابراً على ما أمضك وأرمضك وأما أن تضع تاجك وتترك ملكك وتلبس أمساحك وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع عليّ بابي مختاراً أحد الامرين فان أخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا تعصى وإن أخترت خلوات الارض كنت رفيقاً لا تخالف. فاتى به في السحر فقرعه فخرج اليه وقد لبس أمساحه فلزما السياحة حتى أتاهما أجلهما فضرب به المثل وبتزهده وتداول الناس ذكره. وقد ذكر ذلك من أمره كثير من الشعراء وأصحاب السير وتداواه الناس أحاديثهم ومن جملة من ذكره في شعره عدي بن زيد العبادي في قصيدته الذي ذكر فيها الملوك حيث يقول: ايها الشامت المعير بالمو ... ت أأنت المبرأ الموفور ام لديك العهد الوثيق من الا ... يام بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون جاوزت أم من ... ذا عليه من إن يضام خفير اين كسرى كسرى الملوك أنو ... شروان أم أين قبله سابور؟ وبنو الاصفر الملوك ملوك ال ... الروم لم يبقى منهم مذكور وأخو الحضر أذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور وتفكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً للهدى تفكير فأرعوى قلبه فقال وما غب ... طة حي الى ممات يصير ثم أضحوا كأنهم ورق ج ... ف فالموت به الصّبا والدبور ثم بعد الفلاح والملك والا ... مة وأرتهم هناك القبور وكانت مدة ملك النعمان الى إن ساح ثلاثين سنة. وقيل إن الذي أشار عليه بالدخول في النصرانية أسقف كان بالحيرة أسمه شمعون بن حنظلة من بني لحيان من أهل الحيرة والله سبحانه أعلم. وقيل إنه رؤي بعد ذلك وقد نحل جسمه وتخدد لحمه من العبادة حتى صار كالشنة البالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ثم ملك بعده المنذر بن النعمان أبنه المنذر بن النعمان بن أمرؤ القيس بن عمرو بن أمرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه الفارسية بنت مالك بن المنذر من آل نصر وكان ملكه أربعين سنه في زمن بهرام جور وأبنه يزدجر بن بهرام وأبنه فيروز بن يزدجر جد أنوشروان وفي الناس من زعم إنه هو الذي بنى الخورنق لبهرام وتولى حضانته ولعل الاول أصح والله سبحانه أعلم. ثم ملك بعده الاسود بن المنذر أبنه الاسود بن المنذر بن النعمان بن أمرؤ القيس بن عمر بن أمرؤ القيس بن عمر بن عدي بن نصر أمه الهيجمانه بنت عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وقيل بل أمه هرة بنت النعمان من آل نصر وقيل إنه ملك عشرين37 سنة وكان ملكه في زمن فيروز بن يزد جرد وبلاش بن فيروز. ثم نقم عليه فسجنه فبقي في سجن الاكاسر عشرين سنة. ثم ملك بعده المنذر بن المنذر اخوه المنذر بن المنذر بن النعمان بن أمرؤ القيس بن عمرو بن أمرؤ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه أم أخيه الاسود وكان ملكه سبعة سنين في زمن قباذ بن فيروز أبي أنوشروان. ثم ملك بعده النعمان بن الاسود بن أخيه النعمان بن الاسود بن المنذر بن النعمان بن أمرؤ القيس بن عمرو بن أمرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه أم مالك بنت عمر بن عمر بن حجر الكندي أخي الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار فكان ملكه الربع سنين في زمن قباذ بن فيروز. ثم ملك بعده ابو يعفر بن علقمه ابو يعفر بن علقمه بن مالك بن عدي بن الذميل بن الثواب بن أشرس من بني ربى بن نمارة بن لخم وأرهطه آل الذميل من أشراف العباد في الحيرة ومنهم أبو مليل كان شريفاً في قومه وفيه يقول الشاعر: اذا جئت العباد تريد خيراً ... فلا تعدل بدار بي مليل تجده خيرهم حسباً وفضلاً ... وأمثلهم لمستسقٍ بليل وكانت مدة ملكه ثلاث سنين في زمن قباذ بن فيروز وقد قيل فيه مثل ما قيل في أوس بن قلام إنه لم يكن ملكاً وإنما كان مستخلفاً الى أن يستقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أمر الملك. ثم ملك بعده المنذر بن أمرئ القيس المنذر بن أمرئ القيس بن النعمان بن أمرئ القيس بن عمرو بن أمرئ القيس بن عدي بن نصر، وهو ذو القرنين ويكنى أبا قابوس ويعرف بالمنذر الاكبر دون من سمى منهم جميعا بالمنذر، أمه ماء السماء النمرية ثم الضحيانية وهي سبية سباها أبوه في بعض غزواته قومها، وكانت بارعة الجمال فقيل هلا ماء السماء وسيأتي ذكر حديثها في هذا الكتاب وقيل له بهذا السبب: المنذر بن ماء السماء. ولما صار الملك اليه خلعه بكر بن وائل لما كان بينهم وبين أبيه من العداوة وأبوا أن يدينوا له، ودعوا الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي فملكوه عليهم، وحاربوا المنذر، فاستمد المنذر ملك فارس الذي كان وضعه بالحيرة كما جاء في الحديث وهو قُباذ بن فيروز فلم ينجده لاضطراب أمره في تلك الحال بظهور مزدك الخزمي. وقال قوم إن الذي أستمده فلم ينجده أنوشران وذلك خطأ لان أنوشروان كان من أعز ملوك فارس، وأمنعهم جانبا، وأطولهم يدا. وقتل مزدك وصحابه في أيام أبيه ثم في أيامه حتى أفناهم وأستأصلهم. والاصح إن ذلك كان في أيام قباذ فإنه كان ضعيفاً، فلما تأخر المدد عن المنذر خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عن الحيرة فاشار عليه سفيان بن مجاشع بن دارم بأن يخطب الى الحارث أبنته ويصاهره ويستكفه، فقال: ليس بفاعل ومن لي بذاك؟ فقال سفيان: أنا فلحق بالحارث فخطب أبنته هند للمنذر فزوجه، وأنصرف عن بلاده وعاد المنذر الى الحيرة وأفتخر الفرزدق بذلك: مّنا الذي جمع الملوك وبينهم ... حربٌ يشب سعيرها بضرام فأبت الرواة أن تسمى الحارث في ملوك العراق وملوك العرب لما كان من تغلبه على الحيرة وعلى مملكة المنذر. وقالوا: أنما كان سياراً في الارض غوارا على الاحياء لم يقطن بالحيرة، ولا دانت له العرب، وولدت هند للمنذر بنيه الثلاثة: عمراً ملك بعد أبيه ولا يعرف الا بعمرو بن هند، وقابوس ملك بعد أخيه عمرو، والمنذر بن المنذر ملك بعد أخيه قابوس، وهو المنذر الاصغر أبن المنذر الاكبر، ثم إن المنذر أتى أمامه بنت فلان بن الحارث أخي هند فاعجبته فتزوجها على عمتها هند وقال في ذلك: كبرت وأدركت بنات أخٍ لها ... فأزلن أمتها بركض معجل وولدت له أمامه أبناً فسماه عمراً أيضاً، فكان يعرف بعمرو بن أمامة كما يعرف أخوه بعمرو بن هند ثم أن بكر بن وائل بعد أنصراف الحارث ملكوا عليهم حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وتوجوه وحيوه بتحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الملوك، ولم تزل بينهم وبين المنذر الى أن ظهر عليهم بأوارة، فهزمهم وأسر منهم أسرى كثيرة فاقسم ليذبحهم برأس الجبل حتى يبلغ الدم الحضيض وكان ذلك في يوم شديد البرد، فذبح منهم رجالاً فجمدت دماؤهم، فقال مالك وكان 38 بن عامر بن كعب بن سعد بن ضبيعة بن عجل، وكان رضيعه، أنك لو ذبحت الناس جميعاً في هذا اليوم لم يبلغ الدم الحضيض. قال: فما أصنع أصنع أفسد أهلي ومالي؟ قال: لا ولكن أهرق الماء على هذه الدماء ففعل فبلغ الدم الحضيض وسمي مالك بن عامر بهذا القول الوضاف، وسمي ذلك اليوم يوم الوضاف وأنهزم حارثة فدخل على هند بنت الحارث أمرأة المنذر، وكانت أمها من بكر بن وائل فكلمته فيه وقالت هو خالي فضرب عليه قبة فلما جنه الليل أمر بقتله، فسألها أن تستأحله ثلاثاً ليشتري أسرى قومه ففعل، فاشترى حارثة أسرى قومه، وأطلقهم وسباياهم فارسلهن. ثم إن المنذر دعا الكيس النمري فقال له أدخل على حارثة فاقتله، فقال: فلم سمتني أمي أنا الكيس أذاً إن حملت دماء بني شيبان، ولكن عليك بالانواك الشجاع قيس بن زهير بن عقبه بن هلال النمري، دعاه المنذر فأمره بقتل حارثة فقتله، وفي رواية أخرى إن الذي أمر بقتل حارثة عمرو بن المنذر الذي هو عمرو بن هند، وأستشهدوا على ذلك بقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الكيس النمري: دعا لخبائه عمرو بن هند ... لأضرب رأس حارث بن عمرو فقاتُ له عليك بمرتقن ... ولوغ في دماء سراة بكر فيكفينه قيس بني زهير ... ورحت ولم أبؤ منه بوترِ وزعم آخرون إن الذي قتل حارثة، عمرو بن كلثوم بن عتاب بن سعد التغلبي وأستشهدوا على ذلك بقول رجل من تغلب: واسأل بحارثة بن عمرو أذ ثوى ... بالقاع بين سنابك وحوامي وضرب أبن عتاب بن سعد رأسه ... بأفل ماضي الشفرتين حسام ثم إن المنذر غزا الحارث الاعرج بن أبي شمر الغساني ملك الشام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وهو الذي يقال له الحارث الوهاب، وكان فيمن معه شمر بن عمرو الحنفي ثم السحيمي من رهط هوذه بن علي وكانت أم شمر غسانية فلما دنا المنذر من الشام خرج في عسكره فلحق بالحارث فانذر بالمنذر وقال له: قد أتاك في جمع كثير من طمعة الاعراب فضم اليهم مائة رجل ممن يثق به من أصحابه ذوي شجاعة وأقدام وأمر بنته حليمة فالبسته الاكفان وقلانس الاضريح فسمى ذلك اليوم يوم حليمة قال الحارث لشبر بن عمرو الحنفي: أعلمه أنا معطوه كل ما يريد منا فلينصرف عنا ثم أطلب غرته فافتك به فخرج ومعه القوم حتى أتى المنذر فقال له ما قاله الحارث فسكن الى قومه ثم إنه غفل بعض الغفلة فشد عليه فضربه على دماغه فمات مكانه وثار أصحابه المائة بمن كان حول المنذر فقتلوا منهم رجلاً ونهبوا ما كان في قبته وأنهزم عسكره ففي ذلك يقوا أوس بن حجر: نبئت إن بني صحيمٍ أدخلوا ... ابياتهم تامور نفسل المنذرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ذكر أبن قتيبة في بعض كتبه إن لبيد بن ربيعه الجعفري الشاعر كان من جملة المائة الذين بعثهم الحارث الاعرج يومئذ بل زعم إنه كان أميرهم ولعمري إن لبيداً عمر عمراً طويلا الا إن هذا القول بعيد من الصحيح لان لبيد بن ربيعة رجز بالربيع بن زياد العبسي عند النعمان بن المنذر الاصغر رجزه المشهور الذي يقول فيه: " مهلاً أبيت اللعنَ لا تأكل معه " وهو غلام خماسي أو سداسي حين دخل عليه مع أعمامه فكيف يكون في أيام المنذر الاصغر غلاماً يافعاً ويكون في أيام المنذر الاكبر وهو جد النعمان بحيث يشهد مثل هذه الحرب وهذا الفتك وذلك خطأ من قائله ولبيد الذي كان في المائة المذكورين هو لبيد أبن أخي الحارث الاعرج الملك الغساني وهو الذي قبل حليمة بنت الملك حين طيبته مع الفتيان يومئذ فشكته الى أبيها فقال: أسكتي فأني أراه سيبلى غداً بلاء حسناً وإنه سيقتل فإن سلم زوجتك به فهو كفؤك فسلم فزوجه بها ولعل لمواطأ الاسميم ظنه الظان لبيد بن ربيعة الجعفري والذي كان من رجز لبيد بن ربيعه في حال صغر سنه عند النعمان بن الربيع فما لا خلف فيه وحكم أحاديث أبن قتيبة عند أهل العلم وطعنهم فيها معلوم. وقال أبو عبيدة ذلك اليوم هو الذي عناه النابغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بقوله: 39 تخيرن من أزمان يوم حليمة ... الى اليوم قد جربن كل التجارب وكانت مدة ملك المنذر الى إن قتل تسعاً وأربعين سنة في أيام قباذ بن فيروز وأنوشرون بن قباذ. ثم ملك بعده عمرو بن المنذر ابنه عمرو بن المنذر بن أمرئ القيس بن عمرو بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الكندي أكل المرار وبها كان يعرف أبداً يقال عمر بن هند كما غلب على أبيه أسم أمه فقيل المنذر بن ماء السماء وقد عيره طرفة بن العبد البكري بذلك فقال: انت أبن هند فخبر من أبوك أذا ... لا يصلح الملك الا كل بذاخ وهي أبيات هجاه بها سيأتي ذكرها من بعد في هذا الكتاب وكان يكنى بابي المنذر وله يقول طرفة أيضاً: ابا منذر جازيت بالود سخطةً ... فماذا جزاء المبغض المتبغض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ويكنا بابي هند أيضاً وله يقول عمرو بن كلثوم التغلبي: ابا هند فلا تعجل علينا ... وأنضرنا نخبرك اليقينا بانا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمراً قد روينا وأيام لنا ولكم طوال ... عصينا أملك فيها إن ندينا باي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لخلفكم فيها قطينا وفي رواية: " تطيع بنا الوشاة وتزدرينا " وقال بعض الرواة: إن هذه الابيات وأمثالها مما فيه غميزة وطعن على عمرو بن هند الحقها عمرو أبن كلثوم في القصيدة بعد قتله أياه وإنه كان أنشده القصيدة في حال حياته وملكه وهي مقتصرة على الافتخار لا غير حتى أنتهى الى قوله: فكنا الأيمنين أذا التقينا ... وكان الايسرين بنو أبينا فصالوا صولةً فيمن يليهم ... وصلنا صولهٌ في من يلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبانا بالملوك مصفدينا فقال مازلت منصفا في شعرك حتى أستأثرت على بني أبيك باليمين دون الشمال وبأسار الملوك دون السبايا والنهاب ولعل الصحيح ما قالوا في هذا الوجه. وكان عمرو بن هند شريرا حقودا وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة لهيبته وتسميه محرقا أيضا وهو محرق الثاني وأنما سمي بذلك لأن أخاه أسعد بن المنذر كان مستعرضا في بني دارم عند زرارة بن عدس أستعرضه عنده أبوه وولاه تربيته وحضانته وفي ذلك يقول أبو نواس مفتخرا ببني قحطان على بني عدنان: اذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب تفاخرنا جهلا بظئرِ بنينا ... ألا إنّما وجه التميميِّ من هضب فلما أيقع أسعد قتله سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم، وسيأتي ذكر مقتله فأقسم عمرو بن هند - هذا الملك - لقيتلين به منهم مائة ولم يزل يطلبهم حتى ظفر بهم بأوارة فقتل منهم مائة ففي ذلك يقول جرير للفرزدق: اين الذين بسيفِ عمرٍو قُتِلوا ... ام أيَنْ أسعدَ فيكمْ المُسْترضعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقيل بل حرقهم تحريقا، وسيأتي ذكر ما روي في تحريقهم مستوفِيً في موضعه من هذا الكتاب. وعنده كانت حكومة بكر وتغلب يوم قام الحارث بن حلزة اليشكري مغضبا فارتجل قصيدته التي أولها: آذنتنا ببينها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ ويقول فيها: ايها النّاطق المُرقّشُ عنا ... عند عمرو وما بذاكَ خَفاءُ ارتجالا في المجلس، وقيل إنه كان يومئذ شيخاَ كبير. فاعتمد على سيّة قوسه فنضمت كفه، وهو لا يحس بذلك لغضبه، وشدة حميته، وروي إنه كان أبرص، وكان عمرو بن هند يكره النظر الى الأبرص، فبسط دونه ملاءة الى إن فرغ من أنشاده. وقيل إن هذه الحكومة كانت يومئذ بين الحيين في غلام أسمه مريء، أدعاه رجل من بكر يقال له النعمان بن شريك، وقال إن أمه أخذت مني وهي حامل به. وأدعاه رجل من تغلب يقال له معد، وقال هو أبني ولد على فراشي. وقيل بل كنت الحكومة 40 بين الحيين في الرهائن لأن الملك كان أصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بين الحيين على أن لا يغزو بعضهم بعضاً، وأخذ من هؤلاء أربعين غلاماً، ومن هؤلاء أربعين غلاماً رهائن على ذلك، فكانوا عنده يصحبونه في أسفاره وحروبه، فأصابهم في بعض الطرقات سموم، فمات التغلبيون جميعاً، فطالبت تغلب بكراً بَعَقلِهم، وقالوا: إنما رهناّهم على صلحكم، وقيل بل نزل الملك بحيٍّ من بكر فضافهم، والغلمان معه، فقروهم فمات التغلبيون، فاتهمت تغلب بكراً أنهم سموهم، فطالبوهم بعقلهم، ففي ذلك كانت الحكومة بين الحيين عنده، ويومئذ أنشده المرقش قوله: فنحن أخوالك عمرك الله ... والخال له معاظمٌو حُرَمُ يعني أن ماء السماء أبنة عوف جدته لأبيه منهم. وخالف بعض الروات في ذلك، وذكر أن المرقشين معاً كانا قبل عصر عمرو بن هند بدهر طويل، وأنهما ممن شهد حرب الناب بين أبني وائل، وهو صاحب طرفه بن العبد البكري والمتلمس الضبعي، وأسمه جرير بن عبد المسيح، كتب أهما كتابين يأمر فيهما بقتلهما وأوهمهما إنه كتب لهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بصلة، وكان كتاب طرفه الى الربيع بن حوثرة العبدي عامله بالبحرين، وكتاب المتلمس الى المعكبر مرزبان من الفرس كان يكتف جنات العرب، فيجعل أيديهم تحت أرجلهم، ويضم أرجلهم إلى صدورهم، وكانوا يسمون ذلك العكبرة فسموه المعكبر. فروى عن المتلمس أنه قال: خرجت أنا وطرفه من الحيرة من عند الملك فلما هبطت أيدي ركابنا النَّجَف، إذا أنا بشيخ قاعد يتبرز ويقصع القمل، وبيده كسرة يأكل منها، فقلت له: ما رأيت قط شيخاً أحمق منك! أتفعل هذا؟ فقال: وما الذي أنكرت من فعلي؟ أُدخل طيباً وأخرج خبيثاً، وأقتل عدواً، وإنما الآحمق حامل حتفه بيمينه وهو لا يدري ما فيه. فكأنني كنت نائماً فأيقظني، وإذا أنا بغلام من أهل الحيرة من العباد يسقي حرثاً له فقلت له: يا فتى أتقرأ؟ فقال نعم، فناولته الكتاب فقرأه، فإذا فيه: باسمك اللهم، من عمرو بن المنذر الملك الى المكعبر إذا أتاك كتابي هذا مع المتلمس، فاقطع يديه ورجليه وأفنه حياً، فألقى المتلمس الكتاب في النهر وقال: قَذًفُت بها في الثنى من كفِّكافرٍ ... كذلك أقنو كِّل قَطٍّ مٌضَللِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 رضيت لها رأيت مدارها ... يجول به التيار في كل جدول وهي أبيات وعاد إلى طرفة فأخبره وحذره وقال له: ويحك أنظر ما في صحيفتك. فقال ما كان يجترئ على قومي. وتم إلى الربيع بن حوثرة وكان له صديقا، فلما نظر في الصحيفة قال: إن فيها قتلك فلا تصبح عندي، فانك إن أصبحت عندي لم يمكني إلا قتلك، فاتهمه وقال: إنما تريد أن تغلني صلة الملك، وأبى أن يذهب، فلما قدمه للقتل، قال له: إن كنت فاعلاً فاسقني الخمرة حتى تغلب علي، وأفصد أكحلي ففعل ذلك به فهلك وبلغ الملتمس أمره فقال: من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... خبراً فتصدقهم بذلك الانفس أودي الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته الملتمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ألتقى صحيفته ونجت كورة ... عنس مداخله الفقارة عرمس الق الصحيفة لا أبالك إنه ... يخشى عليك من الحباء النقرس ثم إن الربيع بن جوثرة ساق عقل طرفه إلى رهطه، وكانوا يعرفون ببني قلابة مع صاحب له، يقال له: معضد، فسلمها الى معبد أخي طرفة فقال الملتمس في ذلك: أبني قلابة لم تكن عاداتكم ... أخذ الدنية قبل خطة معضد لن تغسل السؤات عن أحسابكم ... نعم الخواثر إذ تساق لمعبد وبلغ الملك سلامة الملتمس فغاظه ذلك، وطلبه فهرب الى الشام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فحالف لا أكل الملتمس من حب العراق مدة حياته، فقال، الملتمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله بالقرية السوس لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق أذا ديس الكداديس حنت الى النخلة القصوى فقلت لها ... بسل عليك إلا تلك الدهاريس إن تسلكي سبل البوباة منجدة ... ما عاش عمرو وما عمرت قابوس وقيل إن نذهب الملتمس كان إليه إنه بلغته عنه أنه هجاه فلما هرب منه إلى الشام جعل يهجوه بهجاء كثير موجود في شعره منه يقول: 41 - اطردتني حذر الهجاء ولا ... واللات والانصاب لا تئل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ورهنتني هنداً وعرضُكَ في ... صُحف تلوحُ كأنها خَلَلُ شر الملوك وشرهم حسباً ... في الناس من علموا وومن جهلوا الغدر والآفات شيمته ... فاقهم فعرقوبُ له مثل بئس الفحولة حين حدثهم ... عرك الهجان وبئس ما بخلوا أعني الخؤولة والعمومة فهم ... كالطين ليس لبيته حول الطين ما جاء به السيل من حضب ضعيف أذا عمل سترة البيت لم يكن لها قوة ولا بقاء. اما طرفة فاختلف في سبب موجدته عليه. فقيل إنه كان فيمن خرج عليه مع أخيه عمرو المعروف بعمرو بن أمامه، وقيل بل كان هجاه بهجاءٍ منه قوله: ابا الجرامق ترجو أن تدين لكم ... يا أبن الشديخ ضباعاً بين أجباخِ الجبخ الموضع الذي يعمل فيه النحل العسل من الجبل. انت أبن هند فاخبر من أبوك أذا ... لا يصلح الملك الا كل بذاخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ان قلت نصر فنصر كان شرهم ... قدماص وأبيضهم سربال طباخ ما في المعالي لكم ظل ولا ورق ... وفي المخازي لكم أسناخ أسناخِ إن ذكر المجد لم يذكر قديمكم ... او ذكر اللؤم فضلتم باشياخ ومنه قوله أيضاً ابى القلب أن يهوى السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 به البَقُ والحُمى وأسدٌ خفيةٌ ... وعمرو بن هندٍ يعتدي ويجور وزعم أبن قتيبة إن هذين البيتين لسويد بن حذاق العبدي وليس ذلك بشيء، والصحيح إنهما لطرفة لان عمرو بن هند كان قد ضمه الى أخيه قابوس فكان يركب لركوبه، وينزل لنزوله، وكان قابوس يتصيد يوماً ويشرب يوماً، فكان يكد طرفة يوم صيده نهاره أجمع في الركض وطلب الصيد، فإذا كان يوم شربه أتى به، فلم يأذن له فيقف ببابه عامة نهاره لا يحضر له طعاماً، ولا شراباً، فهجاهما معاً فقال: ليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تدور من الزّمرات أسبل قادامها ... وضرتها مركنةٌ درور يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فلا تثور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لعمرك إن قابوس بن هندٍ ... يخالط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الدهر يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير فأما يومهن فيوم بؤسٍ ... تطاردهن بالجدب الصقور وأما يومنا فنظل ركباً ... وفوقاً لا نحل ولا نسير وهجاهما بغير ذلك من الشعر، فخرج عمرو بن هند يوما يتصيد في نفر من أصحابه فيهم عبد عمرو بن بشر بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة البكري، فأصابوا طريدة، فنزلوا يجمعون ليشتووا منها، فنظر الملك الى كشح عبد عمرو بن بشر من خرق كان بقميصه، فقال ما كذب عليك طرفة حيث يقول: ولا خير فيه غير أنّ له غنىً ... وإن له كشحاً إذا قام أهضما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فقال له عبد عمرو: فإن الذي قال فيك أقبح، قال وما قال فأنشده الأبيات: " ليت لنا مكان الملك عمرو " حتى أتى على آخرها، فقال هذا لعب الصبيان ولم يره أن ذلك أثر عنده ولا أنه أكترث به، وكانت خرنق بنت هفان أخت طرفة لأمه عند عبد عمرو، فكانت فاركاً له فهجته بأبيات في هذا المعنى منها قولها: ألم تر موروكاً وشى بابن عمه ... لينضجه في حمي قدرٍ وما يدري وقال طرفة في عبد عمرو: فيا عجبا من عبد عمرو وبغيهِ ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما ولم يبلغ طرفة عن عمرو بن هند ما يوحشه، فأتاه على عادته فلم ير عنده ما يكره إلى أن كتب له الصحيفة. وروي في سبب موجدته عليه وآخر، قيل إنه كان ينادمه وكان جميلا ظريفا حدث 42 السن فهويته أخته فلانة أبنة المنذر وهويها، فلما كان في بعض الأيام جلس معه على شرابه، فأشرفت على المجالس تنظر إلى طرفه، فلما كان الجام بيده لاح له وجهها وشنفاها في صفاء الخمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فطمح ببصره فرآها فقال: ألا أيها الريم الذي تلمع شنفاه ... فلولا الملك الجالس قد الثمني فاه ويكرر ذلك والملك لا يعلم معنى قوله ولا ما يريد به، وظنه شعرا يشدو به على عادة الشرب، الى أن أخذ الجام بيده فلاح له ما لاح لطرفة فطمح بنظره فرآها، فأطرق ولم ير طرفة أنه علم بمراده، ولا فطن لمعنى قوله وأنساه ذلك ثم كتب له الصحيفة الى الربيع بن حوثره وقتله. وكان ملك عمرو بن هند في زمن أنوشروان وقيل إن مدة ملكه كانت ست عشرة سنة ثم قتله عمرو بن كلثوم بن عتاب التغلبي وسياتي ذك مقتله. ثم ملك بعده قابوس بن المنذر اخوه قابوس بن المنذر بن أمرئ القيس بن النعمان بن أمرئ القيس عمرو بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه هند بنت الحارث أم أخيه عمرو وكان يقال له قينة العرس للين كان فيه ولم يكن بمخنث وكان ملكه في زمن أنشروان أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثم ملك بعده المنذر الاصغر اخوه المنذر الاصغر بن المنذر الاكبر بن أمرئ القيس بن النعمان بن أمرئ القيس عمرو بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر أمه هند بنت الحارث أم أخوته عمرو وقابوس وصاحبه النابغتان الجعدي وهو عبد الله بن قيس بن جعده بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يكنى أبا ليلى وهو القائل بذكر وصاحبته للمنذر: تذكرت والذكرى تهيج الى البكا ... ومن حاجة المحزون إن يتذكرا ندامي عند المنذر بن محرق ... ارى اليوم منهم ظاهر الارض مقفرا نسبة الى جده محرق الاول وأدرك الجعدي الاسلام فاسلم فهو من المخصرمين. روى أبن منيع عن داود أبن رشيد عن يعلى بن الاشدق قال: سمعت النابغة الجعدي يقول أنشدت النبي (شعري: اتيت رسول الله أذ جاء بالهدى ... ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فلما أنتهيت الى قولي: بلغن السماء مجدا وجدودنا ... وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال الى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت الى الجنة قال أجل إن شاء الله ثم قلت: فلا خير في حلم أذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل أذا لم يكن له ... حليمٌ أذا ما أورد القوم أصدرا فقال رسول الله (" أجدت لا يضض الله فاك ". قال: قال ذلك مرتين. فروي إنه أستكمل مائة وعشرين سنة لم يسقط له سن. والذبياني وهو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وهو القائل في مديحه للمنذر هذا ولكن ما أتاك عن أبن هند ... من الخبر المبين للتمام فداء ما تقل النعل مني ... الى أعلى الذؤابة للهمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكان نديمه وشاعره ومن أخص العرب به، ولذلك كان مع أبنه النعمان الاصغر من بعده، وكان المنذر ضعيفاً في ملكه، وقيل إنه مات حتف أنفه، وقيل بل غزا الحارث بن أبي شمر الغساني الاعرج ملك الشام طالباً له بدم أبنه، فظفر به الحارث فقتله. ومما يقوي ذلك ما روي عن غسان بالشام، قد كان لك في قومك ممنع وحصن، فتركته وصرت الى قومٍ قتلوا أبي، وبيننا وبينهم ما قد علمت. وروي إن مدة ملك المنذر كانت أربع سنين في زمن أنوشروان أيضاً. ثم ملك بعده النعمان الاصغر ابنه النعمان الاصغر بن المنذر الاكبر بن أمرئ القيس بن النعمان بن أمرئ القيس بن عمرو بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر، وهو أخر ملوك آل نصر أمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ اليهودي، سبية من أهل 43 فلك، وفد هجي بها فقيل فيه: قبح الله ثم ثنى بلعنٍ ... وارث الصائغ الجبان الجهولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وهي أبيات يدافعها الشعراء بينهم، وحملها بعضهم، على بعض، وسيأتي ذكرها في هذا الكتاب، وكان يكنى أبا قابوس وأبا قبيس أيضاً، قال النابغة الذبياني: وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... اتاني ودوني راكس فاضواجع وقال أيضاً: نبئت إن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الاسدِ وقال أيضاً لابن الصعق: فان يقبض عليك أبو قبيس ... تلط بك المعيشة في هوانِ وقال عبد المسيح بن بقيلة: وصرنا بعد ملك أبي قبيس ... كشاءٍ ظل في يوم مطير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وهو الذي أستحسن الشقائق فحماها فنسبت اليه، فقيل شقائق النعمان. قال أبو تمام رحمه الله: وكأنما أهدى شقائقه الى ... وجناتهن ضحى أبو قابوساً وقال أبن دريد كان للنعمان أعلام حمر تسمى الشقائق، فسميت تلك الزهرة بها لحسن لونها، فقيل شقائق النعمان. وقيل هو صاحب يومي النعيم والبؤس دن غيره من أهل بيته، وإن العرب لم تقل: أبيت اللعن الى له، وقيل بل كان ذلك يقال لهم جميعاً وهو الاصح. وكان أحمر أبرش قصيراً ذميماً قاسياً عاتياً سفاكاً باغياً، وكان له عشرة أخوة كلهم أجمل منه، وكانوا يسمون الاشاهب لجمالهم، ولبعض الشعراء فيهم: وبنو المنذر الاشاهب باخي؟ ... رة يمشون غدوة كالسيوف وهو قاتل عبيد بن الابرص الأسدي في بؤسه، وقاتل أبن زيد العبادي بعد إن كان سفيره الى كسرى، والساعي " له " حتى ولاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الملك دون أخوته، وصاحب الغريين، وهما طربالان قيل إنه كان يغريهما بدم من كان يقتله يوم بؤسه، وصاحب الثويه - وهي حبسه - كان أذا حبس فيها أحد. قيل ثوى فسميت الثويه. وعليه وفد حسان بن ثابت الانصاري قبل أسلامه وعنده رجز لبيد بن ربيعة الكلابي ثم الجعفري بالربيع بن زياد العبسي رجزه المشهور الذي يقول فيه: مهلاً أبيت اللعنَ لا تأكل معه ... إن أسته من برص ملمعه وهو صاحب زياد بن معاوية النابغة الذبياني الشاعر كان له بديماً، وبه وبأبيه من قبله خصيصاً، وصاحب المتجردة وهي أمرأته، وكانت أجمل نساء عصرها، وأكرم نسائه عليه المتجردة وروي أنها سميت المتجردة لفرط جمالها، وقيل أنها أبنة خالد بن جعفر بن كلاب، وقيل بل كانت أمرأة من بقايا جرهم وهو الصحيح. وكانت تحت رجل جرهمي من قومها يقال له جلم بن الضهياء أو الضحياء نزل بها على النعمان جاراً، فرآها النعمان فهويها، وغلب عليه حبها، فلم يدر كيف يحتال على زوجها في أمرها. فقال له يوماً: إنها هنا عيرا يأتي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عانه، فيفسد مجالسنا بظهر الحيرة، فلو ركبت فرسي اليحموم فطردته رجوت إن تصرعه. وكان اليحموم قل ما أستحضره أحد الا صرعه، وأنما أراد بذلك قتله، فحمله عليه وأعطاه حربة، فخرج يطرد العير، فجمع به الفرس، فاحس بما أريد به، فالقى الحربة وأمسك عنان الفرس وناصيته بيديه جميعاً، وعاد وهو يقول: نحن بفرسي الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السلف أدركني بعد ما دنا فرسي ... للصيد أنا من معشر عنف وأختلط السوط بالعنان وأمسك؟ ... ؟ ت بكلتا يدي بالعرف ثم قال للنعمان: أيها الملك أنا أصحاب زرع ونخل ولسنا باصحاب صيد فلم يجد النعمان عن المتجرد صبراً، فجعل يدعو جلما، وينادمه ويسقيه حتى يسكر، ويضع عليه من يخدعه عن المتجردة ليطلقها، فلم يزل كذلك حتى ظفر منه ببعض القول، فتزوجها وأفتتن بها. وكان المنخل بن مسعود اليشكري نديماً له، وكان جميلاً ظريفاً، وكانت المتجردة 44 ترمى به وبغير واحد من الناس فيما ذكر والله أعلم. وولدت للنعمان غلامين، فكان يقال أنهما للمنخل والله سبحانه أعلم. وذكر أبن قتيبة إن المنخل كان يرمى قبل المتجردة بامرأة عمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 هند الملك عم النعمان، وبامرأة أخرى من ال المنذر يقال لها هند، وفيها يقول أبياته التي منها: يا هند من لمتيم ... يا هند للعاني الاسير وكان النابغة أنيساً بالنعمان، فدخل عليه يوماً، فوافق المتجردة عنده متبذله قد سقط خمارها، فلما رأته سترت وجهها بيدها، فقال له النعمان: صفها في شعرك، فوصفها في قصيدته التي أولها: " من آل أميه رائح أو مغتدي " فاسرف في الوصف وتجاوز الحد ولم يقتصر على ما ذكره من جمالها وخرج الى الفحش في شعره فقال: وأذا المست لمست أخثم جاثماً ... متحيزاً بمكانه ملء اليد وأذا نظرت نظرت أقمر مشرقاً ... ومركنا ذا زرنب كالجلمدي وأذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد وأذا نزعت نزعت من مستحصف ... نزع الحزور بالرشاء المحصد ويكاد ينزع جلده من ملةٍ ... فيها لوافح كالحريق الموقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لا زاد منه يحور أذا أستقى ... صدر ولا صدرا يحور لمورد فغاظ ذلك النعمان، وأضطغنه عليه، وسمع المنخل هذا الشعر، فقال بحيث يعلم إن النعمان يسمعه: لا يستطع إن يصف هذا الا من جرب. وكان بين النابغة وبين مرة بن ربيعة بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيدة مناة بن تميم ورهطه حقد وعداوة بسبب سيف كان لمرة يقال له ذو الريقة، وشى به النبغة الى النعمان، ووصفه له فأخذه منه. وكان مرة يتطلب العثرات على النابغة، فلما سمع هذا الشعر قام فيه وقعد، ورقى هو ورهطة الى النعمان عن النابغة إنه ذكر المتجرد في شعر قاله أيضاً غير هذا. فعزم على قتله، وعرف ذلك بواب كان للنعمان يقال له عصام بن شبير الجرمي. وكان صديقاً للنابغة. فلما قدم النابغة الحيرة أتى من فوره باب النعمان يطلب الاذن فانذره عصام وقال له: أنج فانه قاتلك، فخرج الى الشام فنزل على ملوك غسان، ومدحهم بقصائد منها: " كليني همّ يا أميمة ناصب " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وغيرها. وقيل إنه هجا النعمان عندهم، وبلغ النعمان كونه عندهم فشق عليه، وأرسل اليه أنك لم تعتذر من سخطه إن كانت بلغتك عنا، وإن كنا قد تغيرك عليك أو تنكرنا لك، فقد كان لك في قومك ممنع وحصن، فتركته وأنطلقت الى قوم قتلوا أبي، وبيننا وبينهم ما قد علمت، وعرف النابغة إن المنخل كاده عند النعمان فجعل يعرض به في أشعاره وأعتذاره اليه. فقال في قصيدته التي أولها: عفا راكس من فرتني فالضواجع اتوعد عبداً لم يخنك أمانته ... وتترك عبدا ظالما وهو ظالع حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العرِّ يكوي غيره وهو راتع وذكر سعدية القريعيين به فقال فيها: لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلاً علي الأقارع اقارع عوف لا أقارع غيرها ... وجوه كلاب تبتغي من تخادع وقال معتذراً في قصيدته التي أولها: يا دار مية بالعلياء فالسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فلا لعمرو الذي مست كعبته ... وأما ريق على الأنصاب من جسد والمؤمن العائذات الطير تمسه ... ركبان مكة بين الغيل فالسند ما إن بديت بشيء أنت تكرهه ... اذاً فلا رفعت سوطي الى يدي اذاً فعاقبني ربي معاقبةً ... قرت بها عين من يأتيك بالحسد هذا لأبرأ من قول قرفت به ... طارت نوافذه حرا على كبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال في التي أولها: أمن ظلامة الدمن البوالي فان كنت أمرأ قد سؤت ظناً ... بعبدك والأمور الى تبالِ فارسل في بني ذبيان فاسأل ... ولا تعجل علي من السؤال فلا عمرو الذي أثنا عليه ... ومن دفع الحجيج الى إلال ولو كفي اليمين بغتك خوفاً ... لافردت اليمين من الشمال 45 - ثم إن النعمان عرف براءة النابغة. وقيل إن النابغة كان رجلا عفيفا فبلغه عن النعمان ما زال معه خوفه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فقدم الحيرة مستخفيا مع زيان ومنظور أبن سيار الفزاريين، وكان في رحلهما، ودخلا على النعمان وهو على شرابه في قبة له فجلسا معه، وكان بينهما وبينه خلة، فقربهما وأكرمهما، فذكرا اله النابغة، وأنشداه شيئاً من شعره في مديحه له، وأعتذاره اليه، ولم يعلماه إنه معهما، فلما رأيا منه بعض اللين أرسلا الى النابغة، فجاء فوقف ظاهر القبة يرجز. فروي عن حسان بن ثابت الأنصاري إنه قال: كنت في مجلس النعمان بن المنذر يومئذ، وهو على شرابه في قبته أذ رجز رجل من ظاهر القبة فقال: أنمت أم تسمع رب القبة يا أوهب الناس لعنسٍ صلبه ... ذات نجاء في يديها حدبة طارده بالمشفر الأذبه فقال النعمان: اليس بأبي أمامه؟! وكان النابغة يكنى بها، قيل بلى، فقال: أئذنوا له، فدخل وهو يقول: اغيرك معقلاً أبغي وحصنأ ... فخانتني المعاقل والحصون أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 يخب بي الكميت قليل وفر ... افكر في الأمور وأستعين ثم جلس فشرب معه وأنشده قصيدته التي أولها: أرسما جديدا من سعاد تجنب فأعتذر اليه بابيات وعرض بالمنخل فقال: لئن كنت قد أبلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب وكان يوم ورود الأبل السود، فوردت فوهب له مائة سوداً فيها فحلها وراعيها، فما حسدت أحدا حسدي له. وأستبانت للنعمان ريبة المنخل فقتله. فروي أبوا رياش أحمد بن أبي هاشم في سبب قتله إن النعمان كان له يوم يركب فيه فيطيل ويعود في وقت لا يتعداه، فكان أذا ركب في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 اليوم أرسلت المتجرد الى المنخل فجاءت به، فكان عندها فاذا خاف مجيء النعمان أنصرف. فركب النعمان على عادته في ذلك اليوم، وأرسلت المتجرد الى المنخل، فجاءت به ثم لاعبته بقيد جعلته في رجليه، ورجع النعمان قبل وقته المعتاد، فوجدهما على تلك الحال، فدفع المنخل الى عكب بن عكب اللخمي وقيل التغلبي، وكان صاحب سجنه، أمره بان يعذبه حتى يهلك، فكان يجره بقيوده ويعذبه، ففي ذلك يقول المنخل: الامن مبلغ الحرين عني ... بان القوم قد قتلوا أبياً يدور بي أبن عكب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا فان لم تثأروا بي من عكب ... فلا تشفون من ماء صديا ويقول أيضاً: طل بين العباد قتلي بلا ... جرم وقومي ينتجون السخالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فاما أبن قتيبة فزعم إن الملك الذي قتل المنخل، عمرو بن هند، ولعل رواية أبي رياش أصح، فان المتجرد لم تكن عند عمرو بن هند، وأنما كانت عند أبن أخيه النعمان الأصغر، ولم تزل عنده الى آخر أيامه. وروي أنها من جملة من أشار عليه بالعود الى كسرى بعد إن كان هرب منه، فلما عاد اليه قتله وسيأتي ذكر مقتله، ثم كره إن يستعمل مكانه أحداً من أهل بيته فاستعمل بالحيرة بعده أياس بن قبيصة الطائي. وكان النعمان آجر ملوك آل نصر لم يملك أحد منهم الا إن أبنه المنذر بن النعمان المعروف بالغرور ملكه من كان أرتد بالبحرين من ربيعة، وغيرهم فبعث اليهم خالد بن الوليد من اليمامة العلاء بن الحضرمي، وذلك في سنة أثنتي عشرة في أمارة أبي بكر فظهر عليهم المسلمون بمحمد الله تعالى وهزموهم. فقيل إن المنذر قتل بجواثا وقيل بل نجا وأسلم وإنه كان بعد ذلك يقول لست بالغرور ولكني المغرور. وكانت مدة ملك النعمان أثنتين وعشرين سنة، منها سبع سنين في زمن هرمز بن أنوشروان، وباقيها في زمن أبرويز بن هرمز " 000 " ثلاث سنين وسبعة أشهر " 000 " الفجار الأكبر فجار البراض بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قيس الكناني، وهو فجار " 000 " فقتل النعمان بالتقريب47 في عام الهجرة لأن قتله جر يوم ذي قار، بين جنود كسرى وبين بكر بن وائل، وكان يوم ذي قار بعد قتله بعام واحد. وروي إن يوم ذي قار كان بعد يوم بدر بشهرين، وكان يوم بدر في شهر رمضان سنة أثنتين والله سبحانه أعلم. وروي إن النعمان لما نعي الى النابغة قال: طلبه من الدهر طالب الملوك، ثم لقي بوابه عصاماَ الجرمي وكان صديقاً له فبكياه وقال النابغة: الم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام فاني لا الومك في دخول ... ولكن ما رواءك يا عصام فان يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر أحرام ونأخذ بعده بذناب عيش ... اجب الظهر ليس له سنام تمخضت المنون له بيوم ... اتى ولكل كاملة تمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وفي النعمان وأبنه وجده يقول عبد المسيح بن بقيلة، لما ظهر الإسلام وضرب خالد بن الوليد الجزية يرثيهم ويبكيهم ويذكر أيامهم: ابعد " المنذرين أرى " سواما ... تروح بالخورنق والسدير تجافاه فوارس كل فج ... مخافة ضيغم غلي الزئير وبعد فوارس النعمان أرعى ... مراعي نهر مرة والجفير وصرنا بعد ملك أبي قبس ... كشاء ظل في يوم مطير تقسمنا القبئل من معد ... علانية كأيسار الجزور نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... كخرج بني قريظة والنضير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ثم ملك بعده اياس بن قبيصة اياس بن قبيصة الطائي العبادي ورهطه ممن كان يعرف " بالأحلف " من أهل الحيرة، وهو أياس بن قبصة بن أبي عفر بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن ملك أبن منقذ بن هبي بن عمرو بن الغوث بن طي. ملكه أبرويز مكان النعمان وأستعمله على الحيرة وأستعمل معه مرزباناً من الفرس يقال " له النخيرجان " " 0000000000 ". مناقب سيف الدولة ملك الحلة نصره الله، ولا كان فيهم من يشق في الشرف غباره، ولا يقاربه في رتبة ولا يدانيه في منزلة، لان الله تعالى فضله علهم بدينه وحسبه ونيبه وعز جانبه وسعة ملكه وثروته، وشرف نفسه عن أفعال دنية أسفوا اليها وحلق عنها، وخلال ذميمة تباعد عن أمثالها ودنوا منها. وسيأتي من ذكر فضله عليهم في سائر أحواله، وجميع خلاله، بما يكون بينة واضحة على صحة ما ذكرناه، وشاهدا عدلاً على ما أوردناه، وتفصيلا لجملته ومفتاحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لرتاجه ودليلاً على منهاجه، وروضة تتنزه فيها عيون مواليه، وترتع فيها قلوب محبيه، وليعلم أنهم بالإضافة اليه كما قال التهامي: أبواعهم في المجد مثل ذراعه ... وقيامهم في المجد مثل قعوده على أننا لا ننكر شرفهم ولا نجحد ما نالوه من الملك والعز في أزمانهم، ولو لم يكونوا ذوي شرف وملك ومنعة وعز لما قلنا إنه أشرف منهم ولا أعلى قدرا، ولا أعز جانبا وأوسع ملكا، ولا قسنا بين أفعله وأفعالهم ليعلم أنها أحسن وأجمل، ولا نظرنا في سيرته وسيرتهم ليبين لنا أنها أبلغ عزا وأكمل، غير أننا نقول إن خلالهم في أنفسهم وإن شرفوا، وأقدارهم في ملكهم وعزهم وإن كانوا قد عزوا وملكوا مقصرة من خلاله الشريفة في نفسه، وما ناله من العز والبساطة في عصره كما قال زهير: فضّله فوق أقوامٍ وشرفهُ ... ما لم ينالو وإن شادوا وإن أكرموا وكما قال آخر: فضلتهم مع قديم فضلهم ... ليس على من فضلته عارُ ونعتذر عما نأتي به من كشف أحوالهم، ومعايبهم ومناقصهم ومثالبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وسوء سيرة كانت منهم، أو وهنن في ملكهم، أو غميزة عليهم نورد ذكرها، أو خلة ذميمة نكشف أمرها، بأنه لا طريق لنا الى حصول الغرض الذي نحوناه من أيضاح لرد فضله عليهم إلاّ بذلك، لكون الأفعال دالة على قدر فاعلها، والآثار دالة على قدر مؤثرها، كما 48 قال التهامي: وعلى مقادير الرجال فعالهم ... قطع المهند تابع بحديده وكما قال أبو الطيب المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وقال الرضي رضي الله عنه " وتبين بالبنيان فضل الباني " فلا طريق لنا الى حصول الغرض الذي أردناه إلا بذاك، وليعلم من تقرر في نفسه أستعظام أفعاله وأقدارهم، وجرى على لسانه تفخيم أمورهم، وظن أنّ شأوهم لا يدرك، وأنّ غايتهم لا تبلغ أنّ الأمر بخلاف ما وقع له وظنه فإننا لو قصدنا الى ذكر فضله ومناقبه، وتعديد مآثره فأقتنعنا بنشرها، وأقتصرنا على شطرها، وأضربنا عن ذكر أحاديثهم وأخبارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وكشف أحوالهم التي سندل بها على أنهم لم يفترعوا من العز مثل درجته، ولم يوفوا من الشرف على مثل مرقبته، لضن المقلدون - وإن لم يمكنهم جحود فضله ولم يقدروا على الطعن في شرفه - إن الذي نالوه من أفضل أعظم، ومن الشرف والمجد أعلى وأضخم، فاقاموا في ذلك على ظنونهم، ولم يزل من قلوبهم، فلذلك لم نجد معدلا عن الإلمام بإظهاره بعض مثالبهم وذكر طرف من معاينهم ليصغر عندهم ما يستعظمونه من شأنهم، ويستهولونه من أقدارهم، إذا لم يكن من ذلك بد، فالضد لا يظهر حسنه إلا الضد، كما قال الشريف أبو الحسن محمد بن محمد العلوي النسابة، في معنى يشبه هذا المعنى في كتابه الذي سماه: تهذيب الاعقاب، فإنه قال: لما سطر من تقدمنا، ذكر فرسان العرب في الجاهلية وبيوتاتهم ومنجباتهم، وأمثال هذا وعدوه شرفا باقيا وفخرا ناميا يسمر به عند الملوك ويستطرفه سامعوه، فيظن من لا بصيرة له ولا خبرة عنده، بما تقدم أن الذي ذكر لا نظير له وأنه معدوم المثل، وجب علينا إن نشرح ما في تضاعيف ذلك من الدخل والفساد اللائح، والقدح والعيب الفاضح، المنقول عمن نقل لهم المناقب فيكون طريقاً الى ثبوت المثالب، ثم نورد من فضلنا ما لا يغطيه الليل، ولا يكشفه النهار من الشرف الشهير والفخر الجهير. فرسان العرب ذكروا فرسان العرب الثلاثة: عامر بن الطُّفَيل فارس عامر بن صعصعه، وعُتيبه بن الحارث فارس تميم، وبُسطام بن قيس فارس بكر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وائل، فأما عامر ففر عن أخيه الحكم بن الطفيل يوم الرقم، وهو يوم ناجح، وفر عتيبه عن أبنه حزرة يوم ثبره، فقتل حزره فقال عتيبة: نجيت نفي وتركت حزره ... نعم الفتى غادرته بثبره " ولا يترك الحر الكريمُ بكره " وفر بسطام بن قيس يوم العظالي. والتقت بنو أسد بن خزيمة وبنو يربوع يوم خوّ، فطعن عتبة بن الحارث المحسن بن عمرو بن بدر الغاضري فقتله، فحمل ذؤاب بن ربيعة الاسدي على عتيبه فقتله. فإذا كانت شهادة العلم لهم وعليهم فاحسن أحوالهم أن يكونوا من فرسان العرب المتقدمين، لهم أعتداد، وعليهم أنتقاد، ولا يحكم لهم بأنه ليس في العرب مثلهم، كما روينا عن أبي عمر بن العلاء إنه قال: قد أفتخرت العرب بالبيوتات والفروسية والسخاء، وفيهم من هو أشرف ممن ذكر، وأفرس وأكثر منجبة وأعظم منقبة، وإن لم يذكروا في هذا الشرط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فاخبارهم شائعة، ومآثرهم ذائعة، أفلا ترى الى المحصل المنصف كيف جاءت شهادته، ولاح أنصافه، ولو ذهبت أورد أمثال هؤلاء القوم لطال كتابي هذا. فمن ذلك ما سطر في كتاب النوافل، وذكره أهل العلم من المثالب على طوله لئلا يبقى الجاهل المقلد مقيم على ظنه وتقليده في فضلهم، فلذلك كشفان عن بعض أحوالهم. هذا أخر لفظ الشريف المذكور رحمه الله في الفصل الذي أورده في هذا المعنى. ولعمري إن من تقدم قد ذكروا من أهل لك منقبة قوماً، وفي العرب أمثالهم وأشرف منهم، وليس ذلك مما يسقط به شرف غيرهم، ولا يضع من49 قدر من سواهم، ولا يلزمنا إن نتبع فيه أهواءهم. ولا نقبل آرائهم من وضوح الحجة عليهم فيه، فإنهم لم يتركوا من الشرف نوعاً إلا خضوا به قوماً، فلو أقتصرنا على القطع بذلك لمن ذكروه خاصة، وهم الاقل للزمنا أن نضع من الاكثر والجم الغفير، وفي هذا ما فيه من الغميزة والطعن على جمهور العرب. غير العرب على إنهم في أزمانهم وأعصارهم قد أختلفوا في ذلك، وخولفوا فيه، الا ترى أنهم قالوا: إن غير العرب أربعة: غارا عدنان: ربيعة ومضر وغارا قحطان: كهلان وحمير، قال الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومنا الذي أعطى يديه رهينةً ... لغاري معد يوم عقد الذمائم وقال يزيد بن أبي سفيان بن حرب: فما برح الغاران حتى تنزلت ... ملائكة جاسوا الروم حتى تولت الاركان وسموا هؤلاء الاربع أيضاً الاركان، والكهوف، والدعائم، ثم غيروا اللفظ، وبعض الاسماء في قول آخر، وإن لم يكونوا عدلوا عن المعنا فقالوا: أجذام العرب أربعة: وضر وربيعة واليمن وقضاعه. جمرات العرب ثم قالوا: جمرات العرب أربع: ضبّة أبن أدّ في خندف، ونمير في عامر، وعبس بن بغيض في قيس، وبنوا الحارث بن كعب في مذحج. سموهم بذلك لانفرادهم بانفسهم، وأستقلالهم بامورهم، فلما حالفت ضبة بن أدّ قبائل الرباب، وحالفت بنوا الحارث بن كعب قبائل مذحج، قالوا: طفي جمرتان، وبقي جمرتان وسموا بني الحارث بن كعب، نيران مذحج، وسموا نمير بن عامر جريحة الطعان، وقالوا في أمثالهم: طعان نمير فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال: العرب عكاظيون لا يذكرون من أهل كل منقبة إلا ثلاثة، فإن وجدوا رابعاً تركوه، وأسقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 من الجمرات عبساً، وحكا أبن دريد رحمه الله مثل ما حكاه أبو عبيدة في ذلك. جماجم العرب وقالوا: جماجم العرب ثلاث، ضبة بن آد في خندف، وعبس بن بغيض في قيس، وقيس بن ثعلبه في بكر بن وائل، فخالفهم أخرون فقالوا: الجماجم أربع، حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم في خندف، وعامر بن صعصعه في قيس، وكلب بن وبرة في قضاعة وطي بن أدد في اليمن. رضفات العرب وقالوا: الرضفات ثلاث، تغلب بن وائل وشيبان بن ثعلبه، وهما معاً في ربيعة بن نزار وإياد بن نزار بن معد وقال آخرون: الرضفات أربع، وسموا هذه القبائل الثلاث، وزادوا عليها بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. اثافي العرب وقالوا: الاثافي ثلاث، هوزان وسليم أبنا منصور معاً أثفيه، وغطفان بن سعد أثفيه، ومحارب بن خصفه وأعصر بن سعد معاً أثفيه، والجميع في قيس. فقال أخرون محارب بن حفصه وأعصر بن سعد ومعهما المهالبة، فالجميع أثفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 غلاصم العرب وقالوا: الغلاصم ثلاث: قيس بن عاصم المنقري، غلصمة خندف، وحذيفة بن بدر الفزاري، غلصمة قيس، والقلمس بن عدي الغساني غلصمة اليمن. اجواد العرب وقالوا: الاجواد ثلاثة: حاتم بن عبد الله الطائي، وكعب بن مامة الايادي، وهرم بن سنان المري مرة غطفان. اوفياء العرب وقالوا: الاوفياء ثلاثة السموءل بن عاديا اليهودي، والحارث بن ظالم المري مرة غطفان، وعمير بن سليم الحنفي. الرجليون من العرب وقالوا الرجليون ثلاثة المنتشر بن عمر البالهلي، والسليك بن عمير بن يثرب السعدي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم أمه السلكة، عرف بها، وأوفى بن مطر المازني مازن تميم، وكان هؤلاء لا يجارون سعياً أذا جاع أحدهم، شد على الظبي فاخذه، فقال آخرون، وتأبط شرا الفهمي وحاجز بن عوف الازدي، ومعدي بن براق الهمداني، وعمرو ذو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الكلب الهذلي، وكان هؤلاء مثلهم في السرعة وغيورون على أرجلهم على الاحياء، وكم كان في العرب من أمثال هؤلاء، وإلا اليوم فإني أسمع أن في الاعراب من يجاري الخيل، ويلحق الظباء. وذكر بعض المحدثين، قال: كنت نازلا بحي من العرب، فرأيت ظباء ترود، فجعلت أديم النظر اليها، فرآني فتى من أهل الحي، وأنا كذلك، فقال لي: تعطيني درهمين، وآتيك بأيهن شئت؟ فقلت نعم، لك درهمان وأئتني بتلك، وأشرت له الى أحداهن فشد عليهن، ونفن بين يديه فألح على التي أشرت له اليها، فأخذها وجاءني بها، وهو يقول: مرت تلوي في الفلات خدها ... تخاف شدي وأخاف شدها " كيف ترى عدو الغلام ردها " فلا ينقضي تعجبي منه. اغربة العرب وقالوا الأغربة عنترة بن شداد العبسي وهو عنترة الفلحاء، وأمه زبيبة سوداء، وخفاف بن ندبة السلمي، وأمه ندبة سوداء. وأبو عمير بن الحارث بن الشريد، والسليك بن عمير بن يثربي التميمي ثم السعدي، أمه سلكة سوداء، قالوا: وأنما قالوا قيل لهؤلاء أغبة العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 لسوادهم وشجاعتهم. وكفى العرب مسبة أنهم لم يكن فيهم من يذكر بالجود، إلا ثلاثة، وبالوفاء إلا ثلاثة، وعارهم فيهم أيضاً، جواد ووفي وشجاع، يكون كل واحد منهم من هؤلاء الثلاثة رابعاً، والعرب في عدد الرمل، فما الذي أذكرهم هؤلاء، وأنساهم ذكر أجواد العرب وأوفيائها؟!. وذكر حبيش بن دلف بن عسير بن ذكوان بن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر الأسود فارس العرب وشجاعها، وقد ذكروا ممن المواقف ما لم يذكروا لأحد من هؤلاء الثلاثة، ومن جملة مواقفهم إنه أسر عمرو بن الحارث بن أبي شمر الملك الجفني، فجز ناصيته ومن عليه وأشترط عليه حملا يؤديه في كل سنة اليه، فأفتخر الفرزدق بذلك لأن أمه ظبية من بني السيد بن مالك رهط حبيش هذا، وقيل أسمها قرظة، فقال: خلي الذي غصب الملوك نفوسهم ... واليه كان حباء جفنة يحمل ارحاء العرب وقالوا: أرحاء العرب ثلاثة: منها رحوان في خندف، وهما أسد بن خزيمة وتميم بن مر، والثالثة في بني عامر، خالد بن جعفر بن كلاب، وأخوه الأحوص من بعده، وعصر خالد والأحوص متأخر عن عصر أسد بن خزيمة، وتميم بن مرة بما يعلمه الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ازمنة العرب قالوا أزمنة العرب ثلاث: عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم في تميم، وشتير بن خالد بن جعفر بن كلاب في بني عامر، وضجعم بن سعد بن سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، وعصر ضجعم بن سعد قبل عصر عقال بن محمد، وعصر عقال بن محمد قبل عصر شتير بن خالد. البدور من العرب وقالوا البدور ثلاث: طريف بن زيد بن عمرو الضبي في حندف، والحوفزان بن شريك في بكر بن وائل، والسموأل بن سحيم الغساني في اليمن. حكام العرب وقالوا حكام العرب ثلاث هرم بن قطبه الفزاري، وهرم بن سنان المري مرة غطفان، ومعاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو معود الحكام سمى بذلك لقوله أعود مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع ثابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكان سبب ذلك أن النعمان الملك جهز لطيمة الى عكاظ، وجعل خفيرها قرة بن هبيرة القشري، يخفرها على من ليس في دينه من العرب، ووافق ذلك هرب النعمان من كسرى، فاحتوى قرة على اللطيمة فأكلها فقالت عقيل لقشير: إنا لا نأمن عقبي جنايتكم، فأعطونا بعض ما أخذتم فأبوا عليهم وكادوا أن يحتربوا، ثم تراضوا بحكم من بني أم البنين، فأتفقوا على الرضا بمعاوية فأصلح بين الحيين وقال: رأبت الصدع من كعب وكانت ... من الشنار قد رعيت كلابا سبقت بها قدامة أو سميرا ... ولو دعيا الى مثلي أجابا سأحملها ويعقلها عني ... واورث مجدها أبدا كلابا اعود مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الحق في الاشياع ثابا ؟؟؟ شعراء العرب وقالوا الشعراء في الجاهلية ثلاثة: أمرؤ القيس بن حجر الكندي، والنابغة الذبيان، وزهير بن أبي سلمى المزني. فقالت ربيعة وطرفة بن العبد البكري جعلوه لهم رابعاً، وفضلوا أمرأ القيس على الكل، وقالوا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 يكن الشعر شيئاً حتى شرحه، فحيا الطلل وعفى الديار، ومحاها بالرياح والامطار، ووصف المطر والسيل، وشبب النساء وشبههن بالتماثيل والدمى والبيض والظباء، وشبه ريقهن بالخمر، وشعورهن بالكرم، وأعجازهن بالرمل، ووجوههن بالمصابيح وعيونهن بعيون البقر، وأغتدى للصيد واللعب وشبه قلوب الطير ورطبها بالعناب، ويابسها بالخشف، وعيون البقر بالجزع 51 وشبه الفرس بالهراوة، والظبي والخذروف والاجدل والجلمود والناقة بالنعامة، ووصف الكلب والثور والعانة ووردها، والقوس والوتر والنبل، وشبه الليل بالجبال، ووقف في الديار، وأستوف وبكى المنازل والدمن، وذكر الرماد والاثافي، والوان الوحش وعزى صحبه وعزوه ومدح وهجا، وكان أذا قال شيئاً لا يخطيء، ففتح للشعراء أبواب الشعر، فهم عيال عليه، فجعلوا أولئك الشعراء الذين سموهم معه في طبقته ثم خصوه دونهم بفضائل الشعر كلها، فلم يتركوا لهم معه فيها نصيباً فادخلوهم معه بغير حجة، وأخرجوهم بحجج عدة، وقد كان الاولى الا يجعلوهم في طبقته لما علموا بأنه برز عليهم هذا التبريز. فدية العرب وقالوا أكثر العرب فدية ثلاث: حاجب بن زرارة الدارمي وبسطام بن قيس الشيباني الفارس، وجيش بن دلف الضبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 مفاخر العرب وقالوا مفاخر العرب ثلاث: قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري التي أولها: " اذنتنا ببينها أسماء " وقصيدة عمرو بن كلثوم التغلبي والتي أولها: " الا هبي بصحنك فاصبحينا " وقصيدة طرفة بن العبد والتي أولها: " لخولة أطلال ببرقة ثمهد " عقماء العرب وقالوا عقماء العرب ثلاثة: عبد الله بن جدعان التميمي، وكلده الثقفي الذي يزعم الناس إن الحارث أبنه وببسطام بن قيس الشيبني الفارس، وقالوا أخرون: وعامر بن الطفيل العامري الفارس. ويكنا أبا علي أيضاً، كان أعور عقيماً، وقال أخرون وجذيمة الأبرش الملك كان عقيما، وعصر جذيمة قبل هؤلاء بما يعلمه الله تعلى فبدأوا في ذكر العقماء بعبد الله بن جذعان التميمي، وقد ذكر في بعض الروايات إنه أعقب أبا ملكة بن عبد الله وذكر لجذيمة الأبرش أيضاً. اقارع العرب وقالوا أقارع العرب ثلاثة: قريع بن عوف بن كعب بن زيد بن منآة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أبن تميم، وقريع بن معاوية بن حنظلة بن جذيمة بن عوف، وقريع هو ثعلبة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف، فقال أخرون، وقريع بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعه. الرادون على المستغيث وقالوا إن الرادون على من أستغاث بهم في الجاهلية ثلاثة: مخارق بن شهاب المازني، أخذت بكر بن وائل أبن المكعبر الضبي، فاستغاث بمخارق وأستنجده، وأنزل له منازل الجيش، وقدر له مسيرهم، فالحقهم بقومه، فاستنقذ الأبل منهم، فردها عليه، فقال أبن المكعير: لولا الإله ولولا سعي طالبها ... وأبنا شهاب عفا آثارها المورا أوصى شهاب بنيه حين فارقهم ... الاّ يكونوا كمن تطوى له العير وقال أيضاً: فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفؤان في الفعال سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء كأن دنانيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء وزيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي، أغارت بنو ضبة على إبل سبيع بن أخطيم التميمي، فاستنجد سبيع زيداً، فركب في قومه فردها فقال سبيع: إن أبن آل ضرار يوم ندبه ... زيدا سعى لي سعياً غير مكفور ساءلت عليه شعاب حين دعا ... انصاره بوجوهٍ كالدنانير إيه فدى لكم أمي وما ولدت ... فالحمد يبقى وزاد القوم في حور والحارث بن ظالم المرى مرة غطفان، كان عياض بن ديهث أحد بني عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم، مجاورا في غطفان، فأغارت بنو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان على ماله، فأتى أعلاق الحارث بن ظالم - وهي الآلات التي يستقى بها الماء - فأعلق دلوه بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ونادى يا جارتاه، يا جارتاه فقال له الحارث: ويلك! ومتى كنت جاري؟ فقال هذا دلوي قد علقت معلقها " وصر الجندب "، فقال: ويلك أنهم قومي، فقل قولا أجد به طريقاً للرد عليك فقال: اصبح جارات بني يربوع ... جوثما كالحدأ الوقوع 52 " - يعدلن بين حرب وجوع " وبنو يربوع رهط الحارث بن ظالم، فقام الحارث فقال: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب ... كم قد أغثت من حريب مكروب الملعوب: الذي قد كسر وضبب. فلم يزل حتى رد عليه، وفي ذلك يقول الفرزدق: لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ... على كل جارٍ آل المهلب على الحارث المنحى عياض بن ديهث ... وهجمته كالمغنم المتنهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فقام أبو ليلى إليه بسيفه ... وكان متى ما يسلل السيف يضرب وما كان جارا غير دلوٍ تعلقت ... بأعلاق حبل محكم العقد مكرب الوافيات من العرب وقالوا الوافيات من العرب ثلاث: جماعة بنت عوف بن محلم الشيباني، وفكيهة أمرأة من بكر بن وائل أيضاً، وثم من قيس بن ثعلبه، وأم جميل الدوسية من رهط أبي هريرة صاحب النبي (. اما جماعة فأن مروان بن زمباع العبسي أغار على أبل عمر بن هند الملك مصرت الحجارة فتبعه الملك فدخل قبة جماعة فاستجارها فنادت قومها فاجتمعوا وجاء الملك وطلبه فقالوا إن جماعة قد أستجارته فقال أني قد آليت أن لا أقلع حتى يضع يده في يدي فقال أبوها عوف بن محلم تضع يده في يدك وتضع يدك في يدي فتكون أيها الملك قد أبررت قسمك بذلك وتكون قد وفينا بجوارنا ففعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فروي إنه لهذا السبب قيل في المثل السائر " لا حر بوادي عوف ". وزعمت بكر بن وائل أن الملك هو قالها يومئذ فذهبت مثلا. وما فكيهه فان سليك بن سلكة السعدي غزا بكر بن وائل فلم يجد غفلة ورأوا أثره فرصدوه حتى قام قائم الظهيرة وورد الماء فشرب حتى أرتوى فصب على وجهه فشدوا عليه وهاجوا به وهد أثقله بطنه فغدا حتى ولج قبة فكيهه فستجارها فادخلته تحت درعها وجاءوا وأستنزعوا خمارها فنادت في أخوتها وولدها فجاءوا فمنعوه فقال فيهم: لعمرو أبيك والانباء تنمي ... لنعم الجار أخت بني عوارا من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها ستارا وأما أم جميل الدوسية فان هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل أبا أزيهر الزهراني من أزد شنؤه فبلغ ذلك قومه بالسراة وعندهم ضرار بن الخطاب بن مرداس القرشي ثم الفهري فوثبوا به يقتلوه فدخل بيت أم جميل وضربه رجل منهم بالسيف فاصاب ذبابه باب البيت وقامت دونه ونادت في قومها فجاءوا فمنعوه فلما قام عمر بن الخطاب أتته بالمدينة فذكرت له أنها أجارت أخاه لمكان الاسم فغلطها الحاضرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فقال دعوها دعوها أني لاضنها التي جارت ضرار بن الخطاب ثم أستشرح منها الامر فاخبرته فقال: أني لست أخاه الا في الاسلام فهو غاز وقد عرفنا منتك وأعطاها على أنها بنت سبيل. ذكر السبب في قتل أبي أزيهر وهو أبو أزيهر بن أنيس بن الجيسق بن كعب بن الحارث بن الغطريف الازدي ثم الزهراني ثم أحد بني دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران وكان أبو سفيان بن حرب تزوج أبنته عاتكه بنت البي أزيهر فولدت له عنبساً ومحمداً وعنبسه هو الذي عاتب أخاه معاوية لما ولاه الطائف ثم عزله باخيه عتبة فصار اليه عنبسه فعاتبه فقال له: يا عنبسه إن عتبه ولدته هند فقال عنبسه: كنا كصخر لا يفرق بيننا ... فصارت أراها فرقت بيننا هند فعاتبه معاوية وارضاه وتزوج الوليد بن المغيرة المخزومي بنتا لابي أزيهر أيضاً وطلب اليه مراراً إن يهديها اليه فلواه بذلك وما طله وكان الوليد بن المغيرة أحد المستهزئين من قريش الذين روي إن جبريل عليه السلام أشار الى عضو من أعضاء كل واحد منهم فهلك به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وروي إن الاسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة كان أحدهم فحنى جبريل ظهره والنبي (يراه. وقال يا جبريل خالي فقال: دعه عنك. وأبو عبد يغوث بن وهب روي والله سبحانه 53 أعلم إنه الظالم الذي يعض على يده هكذا وجدت في رواية فسبحان من لا يعلم تأويله الا هو. وأشار جبريل عليه السلام فيما أشار الى غير الوليد بن المغيرة فمر الوليد برجل من خزاعة ثم من بني هنية بن عدي بن سلول بن كعب بن عمرو بن لحي يكنى أبا قصاف وهو يبري القداح فطارت براية من قدح كان بيده فاصابت عين الوليد فلما كان الليل أنفجر دمه منها فبرق فقالت أبنته: لقد أنحل وكاء القربه فقال: بل هو دم أبيك ودعا ولده فاوصاه اليهم فقال: أقتلوا أبي خزاعه وإن لم يكونوا أرادوا قتلي ولكن لئلا تعيركم العرب وأقتلوا أبا أزيهر فانه زوجني أبنته ثم لم يهدها الي ولو كان فعل لكانت ولدت لي غلماناً مثلكم وبلغ ذلك أبا أزيهر فخاف إن يدخل الحرم فاجاره ختنه أبو سفيان بن حرب فدخل الحرم في جيرته فقتله هشام بن الوليد فعقد يزيد بن أبي سفيان لواء وسار ببني عبد مناف يريد بني مخزوم، فرده أبوه وقال له: أتريد أن تختلف قريش فيقوى أمر محمد (! إن دوساً لن يعجزوا عن ثأرهم، وكانت العرب أذا غدر الرجل منهم أضرموا نارا بالموسم، ونادوا هذه غدرة فلان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فاضرموا ناراً على الاخشب ونادوا هذه غدرة أبي سفيان وقال حسان بن ثابت في ذلك: غدا أهل حضني ذي المجاز بسحره ... وجار أبن حرب بالمغمس لا يعدو كساك هشام بن الوليد ثيابه ... فابل وأخلق أنها جدد بعد قضا وطرا منه فاصبح ثاوياً ... وأصبحت رخواً لا تخب ولا تعدو فما منع العير الضروت ذماره ... ولا منعت مخزاة والدها هند فلو إن أشياخأ ببدر تشاهدوا ... لبل نعال القوم معتبط ورد وري إن معاوية قال يوما لعبد الله بن الزهير وأم عبد الله أسماء بنت أبي بكر الصديق أتروي قول حدتك صفة بنت عبد المطلب يعاتب أباك: عالجت أياد الدهور عليكم ... وأسماء لم تعلم بذلك أيم فلو كان بر كافراً لعذرته ... ولكنه قد يزعم الناس مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فقال أبن الزهير: نعم واروي قولها: الا أبلغ لديك بني أبينا ... ففيما الكيد فيكم والامار وسائل في جموع بني علي ... اذا كثر التناشد والفخار بانا لا نقر الضيم فينا ... ونحن لمن توسمنا نصار متى نقرع بمروتك نسؤكم ... وتظعن من أمثالكم ديار وتظعن أهل مكة وهي سكن ... هم الاخيار إن ذكر الخيار مجازيل العطاء أذا وهبنا ... وأيسر أذا خب القتار ونحن الغافرون أذا قدرنا ... وفينا عند عدوتنا أنتصار ولم نبدأ بذي رحم عقوقاً ... ولم توقد لنا بالغدر نار وأنا السوابح يوم جمع ... بايدينا وقد سطع الغبار لنصطبرن لامر الله حتى ... يبين ربنا أين القرار فقال له معاوية: مهلاً يا أبن أخي هذه بتلك. رجعنا الى حديثهم. منجبات العرب وقالوا منجبات العرب ثلاث: ماوية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم ولدت حاجب ولقيط وعلقمة بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وفاطمة بنت خرشب الانمارية من أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان ولدت الكملة من بني عبص الربيع الكامل وعمارة الوهاب وأنس الحفاظ بن زياد. وأم البنين بنت عمرو فارس الصحيا بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ولدت عامر ملاعب لاسنة وطفيل أبا عامر بن الطفيل الفارس. ومعاوية معود الحكام بن مالك بن جعفر بن كلاب. قال أبو عبيدة: وذكروا إن دغفل يعني دغفل يعني بن حنظلة البكري النسابة أحد بني عمرو إن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة قال لماوية: لو كانت تعد رابعة لكانت خبية بنت رياح الغنوي. قال: وحدثني مالك بن عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر بن ملاعب إن خبية أتاها أت في النام فقال لها: أعشرة هذرة أحب اليك أم ثلاثة كعشرة؟ ثم أتاها في الليلة الثانية فقال لها مثل ذلك. فقصت54 ذلك على بعلها فقال له: إن عاد فقولي له ثلاثة كعشرة. فعاد في الثالثة فقال لها ذلك ونهرها فقالت: ثلاثة كعشرة وقيل إنه قال لها ثلاثة كعشرة أم نكثر لك من الهذرة؟ فولدتهم بكل منهم علامة: أبتكرت بخالد الاصبغ كان في مقدم رأسه شامة بيضاء وكان يصبغها وثنت بمالك الاحزم يقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 له الطيان كان طاوي البطن فسمي بذلك وكان ربيعة الاحوص عجزتها كان صغير العينين كانهما مخيطتان فهؤلاء بنو جعفر بن كلاب وكانوا أشراف قومهم واراحهم وساداتهم. مدركوا الاوتار وقالوا مدركوا الاوتار ثلاث: سيف بن ذي يزن وبيهس الفزاري المسمى نعامة وقصير بن سعد صاحب جذيمة الابرش الملك. فاما سيف فاستنجد بكسرى فانجده بوهرز ومن ضم اليه من الفرس على الحبشة فقتلهم باليمن وحديثه معروف. وأما بيهس فان قوماً غزو أرض فزارة فاتوا على أخوته وأهل بيته قتلاً وأسروه فاظهر لهم الجنون وأدخل رجليه في كمي قميصه ليلبسه ليريهم بذلك أختلال عقله فتركوه وكان على الحقيقة مصعوقاً فعد الى قومه فقال: يا حبذا الترات لولا الذبة فذهبت مثلاً فقالت له أمه: لو كان فيك خير لقتلت كما قتل غيرك. فقال: لو خيرت لاخترت فذهب مثلاً ثم حنت عليه ورحمته فقيل إن أم بيهس لتحبه فقال: ثكل أرامها ولداً فذهبت مثلاً. ثم جمع للقوم فغزاهم ومعه خاله فوجدهم في حفيرة من الارض فرمى به خاله عليهم وكان طويلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 جسيماً لذلك سمي نعامة فقاتلهم وهو يقول: مكروه أخوك لا بطل حتى قتلهم جميعاً فأدرك ثأره وذهب قوله هذا مثلاً. وأما قصير فان حديثه في توصله الى قتل الزباء بجذيمه وجدعه أنفه معروف مشهور وسيأتي ذكره في هذا الكتاب وفي قصير وبهيس يقول المتلمس: وفي طلب الاوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس نعامة لم قتل القوم رهطة ... تبين في أثوابه كيف يلبس بيوتات العرب وقالوا بيوتات العرب ثلاث: بيت تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زرارة بن عدس وبيت قيس فزارة ومركزه بنو بدر وبيت اليمن: بنو الحارث بن كعب ومركزه بنو عبد المدان. فقال أخرون بل البيت الثالث في معد أيضا وهم بنوا شيبان بن ثعلبة بيت بكر بن وائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ومركزه بنوا قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجديم فقال في اليمن: بل فينا وهو بيت بني الحارث بن كعب ومركزه بنو عبد المدان كما ذكرنا وبيت الاشعث بن قيس في كندة أيضاً. فقال أخرون منهم وبيت الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن ضباب الكلبي في قضاعة. وقال أبو عبيدة: قال أبو عمرو: قدمت العراق فوجتهم يزيدون بيتاً في العرب وهو بيت آل ذي الجدين في ربيعة ولا أعرف في ربيعة بيتاً كبيت آل الجارود بن عبد القيس ولا رجلاً أكرم نن الحكم بن المنذر ولا داراً أنع من البحرين فاسقط بيوتات اليمن وأشار بهذا القول الى تفضيل عبد القيس بن أفصى على بني شيبان بن ثعلبة وتفضيل آل الجارود على آل ذي الجدين فزادوا ونقصوا وأختلفوا وبدلوا قوماً بقوم فتناقضت أقوالهم. رأي المنصف فيما قيل في مفاخر العرب وقالوا فرسان العرب ثلاث: عامر بن الطفيل الجعفري فارس عامر بن صعصعة وعتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي فارس تميم وسموه صياد الفوارس وسم الفرسان وبسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين الشيباني فارس بكر بن وائل يكنا أبا الصهباء وسموه المقتمر وقالوا في أمثالهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 " سقط العشاء به على بسطام " ورثاهم جميعاً ذو الغلصمة العجلي فقال: الم ترى بساط بن قيس وعامراً ... ثوى وابن آل الحكم لحارث بن شهاب عتيبة ضياد الفوارس عريت ... ظهور جياد منهم وركاب فزادوا أخرون وقالوا: بل فرسان العرب أربعة فذكروا هؤلاء الثلاثة و جعلوا رابعهم عنترة بن شداد العبسي المعروف بالفلحا. فخالف أخرون وقالوا بل الفرسان ثلاثة: عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث وعنترة بن شداد 55 فجعلوه مكان بساطم وأسقطوا بساطم حذر من أن يكون رابعاً الانهم أتخذوا خصر العدد على ثلاثة فقط عادة وجعلوا ذلك مذهباً لهم والزموه أنفسهم كما حكى عنهم أبو عبيدة وأبن دريد رحمه الله. وعلى ذلك فقد ذكرنا خلاف من خالفهم ورد أقوالهم بزيادة أو تبديل وفي ذلك طعن عليهم في أعصارهم وأزمانهم فكيف الان! ومن هذا المطاع الذي لا يمكن خلافه ولا يحسن الرد عليه منهم هل قال هذا الا قوم من العرب في الجاهلية الغالب عليهم الخطأ والخطل والميل مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الهوى والزلل ولم يقاربوا الانصاف وما سلموا الفضل لاهله الا ترى أنهم ذكروا بيوتات العرب على ما أوضحناه مما أتفقوا عليه وأختلفوا فيه ولم يذكروا قريشاً في ذلك ولا في غيره والغوا ذكرهم كأنهم لا يعلمون مكانهم وهم الحي الذي قصر كل فضل على فضله وأستظل الناس جميعاً بظله ولسنا نحتاج الى ذكر فضلهم في الاسلام برسول الله (ولا نناظرهم في ذلك لان فضلهم فيه أظهر وأشهر وشرفهم أبهر من إن يذكره ذاكر أو ينشره ناشر وكي لا يقول قائل أنما قالوا هذا في الجاهلية فاما في الاسلام فلو أدركوا زمانه سلموا الفضل لهم ولكننا نناظرهم بفضلهم في الجاهلية الم يكونوا يعظمونهم ويقرون بفضلهم ويسمونهم أسما تركنا ذكره تحرجاً والغيناه تعمداً لتجاوزهم الحد فيه وأقدامهم على التلفظ بما لا يحل لاحد إن يتلفظ ولعل من نظر في هذا الكتاب لا يخفى عنه ما أشرنا اليه فأنه لا شك قد طرق سمعه إنه كانوا يسمونهم آل الله ونستغفر الله لكل ذنب الم يكونوا يضربون بهم الامثال في المآثر وخلال المجد والمفاخر حتى إن بني عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا ذوي فصاحة وصباحة وشجاعة وسماحة وشرف ظاهر في قومه فسموهم بذلك قريش تميم وكانوا: " بنو كنانة بن تميم بن أسامة بم مالك الارقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بهذه الصفة في قومهم فكانوا يسمونهم قريش تغلب ". الم يكونوا يسمون المهالبة في الاسلام لشرفهم: هاشم الازد الم يقل الحارث بن ظالم المري مرة غطفان وكان قومه بنوا مرة بن عوف يجلحون الى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قريش: رفعت الرمح أذا قالوا قريش ... وعاينت العمائم والقباب فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعرا الرقابا وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا الناس الضرابا وقالوا أيضاً: اذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وأخوتهم رجعت الى لؤي الى نسب كريم غير راغب ... وحي هم أكارم كل حي فان تعلق بهم نسبي فمنهم ... قرابين الاله بنو قصي الم يكونوا أذا قدم أرض الحي من أحيائهم رجل من قريش عكفوا حوله كما كانوا يعكفون على أصنامهم أعظاما ولاذوا به أكراماً فما بالهم لم يبدأوا بذكرهم في البيوتات كما بدأوا بذكرهم في القرعة فأنهم لما أرادوا تجديد القرعة التي كانت بينهم في صدر زمن الجاهلية أجتمعوا بعكاظ في وسط من جاهليتهم فقالوا: هلموا نجدد القرعة فاتفقوا ... على تقديم معد بن عدنان فقدموهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وقدمت معد مضر وقدمت خندب على غيرها من مضر وتقدمت مدركة على غيرها من قبائل خندف فاخرجت قبائل مدركه قداحها ثم أقرعوا ففازوا جميعا الا لهون بم خزيمه فأنهم خابوا فقالت العرب إن بني مدركة بن خندف: قد سبقوا الناس غداة الموقف ... وخلفوا الهون بشر تخلف وأقرعت طابخة ثم قيس بن ربيعة ثم قبائل اليمن ففاز من كل قبيلة قوم و خاب قوم وحديث القرعة موجود معروف فكيف عرفوا فضلهم هناك فبدأوا بهم وقدموهم وأنكروه هاهنا فاغفلوهم وتركوهم وما بالهم لم يقولوا بيت مدركة قريش ومركزة بنو هاشم الذي أقر بفضلهم الشريف والدني وسام له العدو الولي ثم يقولون بعد ذلك وبيت تميم دارم ومركزه بنوا زرارة وبيت قيس فزارة56 ومركزه بنو بدر ثم يرمون في حديثهم فان كل مفتخر بأمر غير منكر لفضل قريش عليه فلم يذكروهم في البيوتات ولا الاثافي ولا الجمرات ولا الجماجم ولا الرضفات ولا ذكروا أحداً منهم في الارحاء ولا الغلاصم ولا الازمه ولا البدور ولا في الفرسان ولا في الاوفياء ولا الاجواد ولا في الشعراء ولا في مدركي الاوتار ولا ذكروا من نسائهم منجبه ولا نسبوا اليهم منقبة ورووا ذلك كله منهم الى غيرهم فلم يذكروا الاحد منهم فيه أسماً ولا جعلوا لهم في شيء منهم نصيباً ولا سهماً وهذا من أقوى الادلة على أنهم مروا في الهوى وخبضوا العشواء. أيام العرب وقالوا أيام العرب ثلاثة: يوم جبله وهو الاول وهو بين بني تميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وبين عامر وروي إنه كان قبل الاسلام بثلاثين عاماً أو أربعين. ويوم الكلاب الثاني يوم عبد يغوث بين النمر وتميم وكان قبل الهجرة ورسول الله (بمكة. ويوم ذي قار بين بكر بن وائل والفرس وروي إنه كان بعد يوم بدر بشهرين. وقالوا حروب العرب ثلاثة: حرب الناب وهو حرب البسوس بين بكر وتغلب أبني وائل جره قتل كليب بن ربيعه فاحتربوا فيه أربعين سنة. وحرب الرهان في مجرى داحس بين عبس وذبيان أبني بغيض أحتربوا فيه أربعين سنة. وحرب بعاث بين أبني قيلة وهما الاوس والخزرج لم يزل بينهم الى إن أسلموا فاصطلحوا فما بالهم لم يذكوا لقريش حرب الفجار الكبرى خاصة دون غيره من حروب الفجار فانه لم يكن بدون ما ذكروه من الحروب في طول المدة ولا في تردد الوقائع ولا كانت القتلى فيه أقل عدد وقد تفاقمت الامور فيه حتى أستنجدت قريش وكنانة بقبائل خندف كلها وأستنجدت هوازن بقبائل قيس كلها وأصيب فيها من الاشراف من الفريقين من هو مسمى معروف ولم يطفه الى قيام الاسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الاجربان وقالوا: الاجربان عوف وذبيان وكان من دنا اليهم بشر عروه حتى كأنه لم يكن في العرب حيان يذكران بالنجدة سواهما. الحليفان وقالوا الحليفان أسد وغطفان على كافة العرب من الفرسان هذا عتيبة بن الحارث فارس تميم فر عن أبنه حزره يوم ثبوره حتى قتل وقال: نجيت نفسي وتركت حزره ... نعم الفتى غادرته بثبره لا يترك الحر الكريم بكره وقد تقدم ذكر ذلك ثم قتل عتيبة ذؤاب بن ربيعة بن عمرو بن جذيمة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن ذودان بن أسد بن خزيمة يوم خو فينبغي إن يكون قاتله أشجع منه. وهذا بسطام بن قيس فارس بكر بن وائل فر عن قومه يوم العظالى. وفر من عتيبة بن الحارث يوم غبيط المدرة والقى درعه ليخف به فرسه فلم يزل عتيبة يلح عليه حتى أسره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وروي إنه كان تحت بسطام فرس له شقراء وكان تحت عتيبة مهر لتلك الفرس فجعل عتيبة يصيح أستأسر يا أبا الصهباء خير أسير فيقول بل شر أسير فيصيح به أستأسر فأنا خير لك من الفلاة والعطش فيقول: ما شاءت الشقراء. فلم يزل يطرده حتى أسره ثم نادى أخاه السليل أو ناداه بعض بني يربوع لا تكر على أخيك يريد إن يحرجه بذلك فيكر طمعاً في إن يأسروه أيضاً فهم بان يكر فناداه بسطام وهو في أيديهم: أنا حنف إن كررت فرجع كذا روي ولعله كان نصرانياً فان النصرانية كانت فاشية في ربيعة وعيرهم العوام بن شوذب الشيباني بذلك فقال: ان يك في يوم العظالى ملامة ... فيوم الغبيظ كان أخزى والاما وفر بنوا الصهباء إذ حمس الوغى ... والقى بابدان السلاح وسلما فلو إنها عصفورة خلت أنها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الابدان: الدروع وأزنم بن عبيد بن ثعلبه بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن أمين ثم قتل بسطام بعد ذلك عاصم بن خليفة الضبي وكان فتى مصعوقاً فيما روي وكانت له حديدة لا يزال يحميها في النار57 ويغمسها في البول ويقال له: ما تصنع بهذه الحديدة يا عاصم؟ فيقول: أقتل بها رئيس بكر بن وائل. فلما أغار بسطام على بني ضبة يوم النقا وطرد الانعام لحقه التبع فقام خليفة الضبي فاسرج فرسه ودخل بيته ليلبس درعه فسبقه أبنه عاصم الى الفرس فركبها فصاح به فلم يعرج عليه فلما رأى إنه لايعود اليه ناداه فاوصاه كيف يصنع وقيل إنه كان أوان مركان يعرض له من الجنون فتم حتى لحق القوم وبسطام يطارد أوائل الرعيل في أغقاب الابل وتحته فرس أدهم فتعلق عاصم ببعض قومه فقال له: بابي أنت أرني سيدهم. فقال: تراه بحيث هو صاحب الفرس الادهم. فشد عليه من أعلى الرمح ورماه بنفسه فطعنه بتلك الحديدة وكان قد جعلها على عارضة من عمد البيت فاصابت سماخه فسقط ميتاً وفي ذلك يقول الفرزدق: خالي الذي نزل النجيع بسيفه ... يوم النقا شرقاً على بسطام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لان أمه ضبية وقد تقدم ذكرها فينبغي إن يكون قاتله أشجع منه. وهذا عامر بن الطفيل فر عن أخيه الحكم بن الطفيل يوم الرقم وهو يوم ناجح وفر من عقبه بن مرثد الأسدي وأمكنه من ظهره فطعنه في عجاته فاعقمه فينبغي أن يكون الذي هزمه وطعنه أشجع منه. وهذا عنترة بن شداد فر وأعتذر عن فراره بقوله: وليس الفرار اليوم عار على الفتى ... وقد جربت منه الشجاعة بالامس ثم أنهم ذكروا الاسباب التي فضلوا بها هؤلاء الفرسان وقدموهم على غيرهم فقالوا: قالت ربيعة ومن فضل بسطام لبني عامر ولبني تميم عدوا لعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث مثل قتلى بسطام قتل بجيراً وعفاقاً وأبني مليل وأسر أباهما وقتل مالك بن حطان وجرح الاحيمر وهؤلاء جميعاً من بني يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن تميم ثم من بني ثعلبة بن يربوع فقال التميميون: هؤلاء كانوا يسرعون إليه فرادى فقتلهم وقد صار فخره بهم لعتيبة بن الحارث باسره أباه وقتل عتيبة يوم غول أبني هجيمة الكنديين وهما أفضل من هؤلاء الاحداث. ثم قالت تميم وربيعة لقيس فمن قتل عامر بن الطفيل ومن أسره؟ فقالوا: أذا أجمع على شرف الرجل وشجاعته وجوده لم يسأل عنه. أن عامراً كان بمنزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الخليفة لا يسأل عمن قتل ولا أسر فادعوا دعوى مطلقة بغير بينه ولم يسموا أحداً من القتلى وهذا اللفظ يدل إنهم تناظروا هذه المناظرة وتفاخروا هذه المفاخرة في الاسلام. قال أبو عبيدة: وكان بسطام وعتيبة عفيفين وكان عامر عاهراً فهذا كان غاية ما نسبوه إليهم من الفتك وأعتدوالهم به من الشجاعة وأحصوه لهم من القتلى وفضلوهم به على سائر العرب وهو أيضاً قول عشائرهم الذين أفتخروا بهم والمفاخرة كالمبارزة لا يترك المرء لنفسه فيها حجة إلى يوردها ولا غاية الى ينتهي إليها وربما أدعى أيضاً ما لم يكن إن أمكنه ذلك وإذا سلمنا إليهم كل ما أدعوه وقطعنا على صحته فليس هو مما يقتضي بعض ما يدعونه لهم فكيف كله ولولى تجنب التطويل لذكرنا لغير واحد من فرسان الجاهلية أضعاف مما أدعوه لهم من الفتك وكثرة القتلى فاما عنترة فإنهم لم يسموا له من القتلى غير قتيل واحد قالوا: قتل ضمضم بن جابر بن يربوع المري مرة غطفان وذكر قتله في شعره وأوعد أبنيه حصيناً وهرماً فقال: ولقد خشيت بان أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على أبني ضمضم الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أن يفعلاه فقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعيم ثم قالوا بعد ذلك وكانوا من فرسان عبس في حرب الرهان وليس، قتل ضمضما ً مما يوجب ولا يقضي معشار ما يدعونه له من الفروسية والتفضيل، ثم تخرقوا له بأن قالوا: كان يسمى عنترة الفوارس، فأن كانوا فضلوه58 بشدة البأس وكثرة الفتك، وقد وجب إن يسموا قتلاه ويدلوا عليهم ويستشهدوا على قتلهم كما سموا ضمضما وأستشهدوا على قتله وإن كانوا فضلوه بتسمية عنترة الفوارس، فقد وجب إن يفضلوا كعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء العامري، وزيد الفوارس بن حصين الضبي وزيد الخيل الطائي، فلا فرق بين هذه الأسماء، وكم كان في العرب من أمثال هؤلاء الفرسان وفوقهم ودونهم، وكيف ولم يذكروا من تقدم في زمانه وزمان هؤلاء الذين فضلوهم من فرسان بكر وتغلب مثل كليب وائل وهو كليب بن وائل التغلبي وقد فتك بملوك اليمن وقتلهم، وأخيه مهلهل الطالب بثأره، وجساس بن مرة قاتل كليب وجحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وأبن أخيه الحارث بن عباد، وعوف البرك وسهل الزماني المعروف بالفند، وقد طعن، وهو شيخ كبير قد ضعف، رجل خلفه رديف فنظمهما معاً بالرمح فقتلهما، وجحدر بن ضبيعة هذا الذي تقدم ذكره، هو الذي قتل عمر وعامر التغلبيين يوم قضة وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ذكرهما المهلهل في شعره. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: سمعت عامرا أظنه عنا عامراً بن عبد الملك المسمعي يقول: حدثني قتادة بن دعامة إن بعض جلفاء بني أمية كتب اليه مع راكب، من قتل عمرا وعامرا يوم قضة؟ قال: قتادة: فكتب اليه مع رسوله إن جحدرا قتلهما فكتب الي قد فهمت ما ذكرت من قتل جحدر عمرا وعامرا، فكيف كان قتله أباهما فسره لي، فكتب اليه أنهما كانا أعتوراه، فقتل أحدهما بعالية الرمح والآخر بسافلته في نقاب أي والى بينهما. فما لهم لم يذكروا هذين الفارسين المشهورين المتقدمين المبرزين في الشجاعة والزمان أيضاً، وما لهم لم يذكروا من عامر هؤلاء الذين فضلوهم أو قارب زمانه زمانهم مثل قيس بن زهير العبسي، وحمل بن بدر الفزاري وعمرو بن الكلثوم التغلبي قاتل عمرو بن هند الملك في سرادقه وسط عسكره، والحوفزان بن شريك الشيباني قاتل الملوك ومبيرها أنفسها، والحاث بن حصن الكلبي المعروف بالحرشا، وعمرو القنا السعدي، وضرار بن الرديم الضبي، والحارث بن ظالم الفاتك، وأبي ضمرة يزيد الأشعر بن سنان بن أبي حارثة المريين معاً مرة غطفان، وعمر بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود العامري، عامر قريش فارس العرب غير مدافع قتله أمير المؤمنين علي عليه السلام بين يدي رسول الله (مبارزة يوم الأحزاب وجذل الطعام علقمة بن فراس الكناني، وأبن أبن أبنه ربيعة بن أعين بن مالك بن علقمة المسمى جذل الطعان أيضاً، وأنما سموهما بذلك لصبرهما على الطعان، وأستهدافهما له قياساً بالجذل، وهو خشبة تنصب للأبل في أعطانها لتحك بها، وربيعة بن مكدم الكناني أيضاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقد رووا أنهم لا يعلمون فارسا حمى الظعائن حيا وميتاً غيره، فانه قاتل وحده دونهن بثنية غزال حتى أطالعهن الثنية وفيه يقول رجل من قومه: ومنا بالثنية من غزال ... فتى منع الظعان إن تراما يكر ويعتزي ذمار قوم ... كما ثب القطامي الحماما فلما أثخن جراحا وعلم إنه هالك قال لأمه: شدي علي العصب أم سوار ... فقد رزئت فارساً كالدينار وأمر النساء فاوثقنه بالحبال الى سرج فرسه وأوثقن الفرس رباطا برأس الثنية وأخذن أنفسهن فنجين وظنه القوم حيا فهابوه فلم يقدموا عليه عامة يومه ثم طال ذلك عليهم فهجموا عليه فوجدوه ميتا وقد يئسوا من اللحاق بالظعائن فلذلك قالوا إنه حمى الظعائن حيا وميتا. ومثل عامر بن مالك الجعفري وقد سموه ملاعب الأسنة لشجاعته وصخر بن عمرو بن الشريد السلمي وكيف لم يذكروا أحدا من المخضرمين كخالد بن الوليد المخزومي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي صاحب المواقف المشهورة في الجاهلية والإسلام وطليحة بن خويلد الأسدي والمثنى بن حارثة الشيباني قاتل مهران وأبي عبيد بن مسعود الثقفي قاتل الفيل وأبي مجحن الثقفي فارس الناس بالقادسية وكيف لم يذكروا فرسان الصحابة والتابعين غير أنهم خصوا هؤلاء النفر بالتفضيل على من تقدمهم وعاصرهم وتأخر عنهم وأي مسبة تكون على العرب أعظم من إن لا يكون فيهم من لا يعد بالفروسية الا ثلاثة أو أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فان أحتج لهم محتج وأعتذر عنهم معتذر بانهم لا يعتدون بالفروسية الا لمن كان جاهليا فقد وجدوا في الجاهلية من هو مثلهم وأشجع ثم بهذه أدحض حجة وأقبح عذرا ولا يعلم من قال ذلك إنه قد جعل الإسلام لأهله ذنبا وجعلهم عليه غضاضة ونقصان فنعوذ بالله من ذلك. فرسان الإسلام بحمد الله أولى بالتقديم في كل شرف وفضل لما جمع الله لهم من البصيرة في الدين الى النخوة العربية وأنضلف لهم من صدق اليقين الى شدة الحمية ولما عدوا به عن الصبر من الثواب وأوعدوا به وأوعدوا به على تولية الأدبار من العقاب، فصار ذلك أصح وأشد لعزائمهم وأنفذ وأثقب لبصائرهم وهان عليهم الأرخاص بالنفوس في الجهاد طلبا للفوز في المعاد فهم بالفضل أولى، وبالشرف في كل حال أجدر وأحرى، وهل ذكر لؤلئك الغوارين الفرارين مثل مواقف المسلمين الصابرين الذين كلف الواحد منهم قتال عشرة؟ ثم لما خفف عنهم كلف قتال أثنين وجعلت له الجنة على أصطباره والنار على فراره، ومن نظر في أيام العرب في الجاهلية وأطلع على سيرهم وجدها كلها أو أكثرها غارات لا غير، كان بعضهم يغير على بعض فان وأفق منهم غرة وضعفا نهب وسبى، وإن أنس منهم منعة وعزا أغار على الأنعام فطردها، فاما إن يفوت بها أو ببعضها أو يلحقه الطلب، فان وجد الذين أغروا في أنفسهم ضعفا عمن تبعهم طاروا هربا، وأم كانوا عدتهم ثبتوا لهم فاقتتلوا عندها فيقتل بينهم الواحد والنفر، أو يؤسر الواحد والنفر أو لا يقتل بينهم أحد، فهذا كان مقدار حروبهم في أيمهم كلها أو في أكثرها حتى إن الايام الثلاثة المذكورة وهي يوم جبلة ويوم الكلاب الثاني ويوم ذي قار لم تزد مباشرتهم فيها للحرب على بعض نهار، كام في أوله أبتداؤها وفي بعضه أنقضاؤها، وذلك ما روي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 من حرب الناب بين أبني وائل، وحرب الرهان بين أبني بغيض، وحرب البعاث بين أبني قبيلة الأوس والخزرج، وحرب الفجار الأكبر، وهو فجار اللطيمة دون غيره من حروب الفجار، وإن كانت أزمان هذه الحروب أمتدت والوقائع فيها تكررت فانهم كانوا أذا أحتشد بعضهم لبعض فغزوهم، أو تدانت بهم الديار على المياه والحباء فتقاربوا وتغارو أو تواعدوا موضعا يلتقون فيه، فاقتتلوا ثم تكاففوا أو تحاجزوا أو كان ذلك اليوم بعضهم على بعض، ثم نكفوا من غالب أو مغلوب. ولم تزد مباشرة لحروب بينهم على يوم واحد أو بعضه ثم يفترقون تنتأى بهم الديار وتبعد بينهم المسافة الى مدة أخرى وزمان أخر، فاما أقامة ومنازلة ومحاسبة ومطاولة كما يروي من جهاد أهل الإسلام للروم وغيرهم، وكحروبهم فيما بينهم بصفين وغيرها، فلم يذكر لهم كمثل ذلك ولا دونه. ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام إن مروان والضحاك بن قيس الفهري تنازلا بعسكريهما بمرج راهض، والضحاك يدعو الى أبن الزبير، فاقتتلوا عشرين يوم أشد قتال، ثم قتل الضحاك وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف أهل الشام كلهم يأخذ القطيفة، والقطيفة: الفان من العطاء. وذكر أيضا إن الحجاج وأبن الأشعث تنازلا بعسكريهما بدير الجماجم مائة يوم من أول يوم من شهر ربيع الأول الى عشر مضين من جماد الآخرة، وذلك في سنة ثلاث وثمانين يتغادون القتال ويتراوحونه ثم يهزم أبن الأشعث أحدى ومائتي وقعة ولم يكن في حروب الجاهلية ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يقارب معشار ذلك، وروي لأحد من العرب في أيامهم كلها مثل موقف المسلمين بمؤته 60 لما لا يحصى عدده من الروم كثرة حتى أستشهد أمراؤهم وكثير معهم رضي الله عنهم، أو مثل موقف أصحاب الحسين عليه السلام في أثنين وسبعين صبروا لعشرة الاف أو نحوها ينصرون الله سبحانه ورسوله (، وأمام الهدى عليه السلام لم يلتفت أحد منهم وراءه حتى لقوا الله صابرين محتسبين قد فازوا بالشهادة، وهي النعمة العظما والمنحة الكبرى بعد إن أصابوا من الأشقياء الظالمين أضعاف عدتهم وأمثالهم، فسلام الله وبركاتهو رضوانه وتحياته على أرواحهم وأجسادهم ونسأله إن يحشرنا معهم ويرزقنا شفاعتهم ولولا أننا نقصد نشر فضل أهل الحق لا أهل الباطل لذكرنا صبر الخوارج في حروبهم فانهم ممن يدعو بدعوة الإسلام وإن كانوا قد مرقوا. وهل ذكر لاولئك الغوارين الفرارين في حروبهم في الجاهلية أنهم أبتلوا بمثل ما أبتلى به فرسان الإسلام في الحروب العظيمة الهائلة في جهاد أهل الكفر من سائر الأمم كيوم أجنادين وهو موضع بين الرملة وبيت جبرين التقى فيه المسلمون وفيهم أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان بن حرب وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص، وقيل كان على الناس يومئذ أبو عبيدة وقيل خالد، والروم عليهم تذراق أخو هرقل، وروي إنه أخزاه الله وهو الذي كان على الروم يوم مؤتة فانهزم الروم يومئذ وقتل تذراق وذلك في جمادي الآخرة سنة ثلاث عشر في أيام الصديق أبي بكر ثم بمرج الصفر وقد جمع لهم الروم وعادوا اليهم بعد أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 في الشهر بعينه فالتقوا بمرج الصفر ويومئذ قال خالد بن سعيد بن العاص: من فارس كره الطعان يعيرني ... رمحا أذا نزلوا بمرج الصفر وأستشهد خالد بن سعيد يومئذ وهزمت الروم أيضا وبلغ ذلك هرقل وهو بحمص فرحل منها الى أنطاكية ثم باليرموكو كان برجب سنة خمس عشر في أيام عمر وأبو عبيدة على المسلمين فاستشهد الفضل بن العباس عليهما السلام وهزمت الروم أيضا حتى أنتهت هزيمتهم الى هرقل وهو بانطاكية فاشرف على الشام فقال: السلام عليك يا أرض سورية سلام مودع لا يرى إنه يرجع اليك أبدا. وخرج الى القسطنطينية وقطع مسيرة بين مسروق الدرب في آثار الروم فكان أول من قطع الدرب ودخل بلاد الروم وكم من يوم مثل هذا وأنما ذكرنا المشهور منها. وروي ليزيد بن أبي سفيان بن حرب في ذلك وأمثاله من حرونهم. لو أبصت أم الحويرث خيلنا ... عشية فحل والمنايا خوافق عشية القينا الرماح ولم يكن ... لنا ولهم الا السيوف مخارق أذا ما أثرنا النقع تنفرج لنا ... عماياه الا والنفوس زواهق تعادى بنا الموتى مرخ رواقه ... مسومة من جانبيه موارق وروي له أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ابلغ أبا سفيان أنا وقومنا ... على خير حال كان جيش يكونها قضينا أمورا باليراميك فانقضت ... ونحن على بابي دمشق ندينها نصبنا عليها كل خطارة الضحى ... شغور الأعلي لم تحنها لينها وروي له أيضاً يعاتب عمر في أمر لا يعلم ما هو: اتنسى باللائي يوم رحبة جاسم ... وقد نهلت أرماحنا ثم علت نجالد والهابي يمور عجاجة ... كتائب زافت نحونا فاحتالت اذا ما حملنا قاتلونا بفيلق ... اذا أمتريت بالمرهفات أستهلت فما برح الغاران حتى تنزلت ... ملائك جاسوا الروم حتى تولت وكايام القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند في جهاد الفرس، ولم يكن المسلمون يهابون أمة من الأمم مثل فارس فروي إن عمر كان يأخذ بخطام بعير الرجل فيصرفه نحو العراق فيصرفه نحو الشام 61 ويقول: يا أمير المؤمنين لا أكراه في الدين، فيقول بلى أكراه في الدين عليكم بالعراق فان بها جهاد ومغانم. وبعث أبا عبيد بن مسعود الثقفي الى العراق على جماعة من المسلمين أكثرهم من الأنصار، وأنضاف المثنى بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حارثة الشيباني الى أبي عبيد، فحاربا ذا الحاجب قائد الفرس وهو أربعة الاف دارع بباروسما وذلك في سنة ثلاث عشرة، وكان مع ذي الحاجب فيل كسرى الأبيض، فقال أبو عبيد أما لهذه الدبة المشؤومة من مقتل؟ فقيل: بلا خرطومه هذا إن قطع هلك، فشد عليه فضربه فقطع خرطومه، ووقع الفيل عليه فماتا جميعا وتفرق الناس، وقام بامر من بقي من المسلمين المثنى بن حارثة ونزل بهم الليس. ثم التقى جرير بن عبد الله البجلي والمسلمون بمهران والفرس عند النخيلة، والفرس يومئذ في أثني عشر الف ومعهم ثلاث فيلة فهزمهم المسلمين، وقتل مهران يومئذ ثم بعث عمر بن سعد بن أبي وقاص في سنة أربع عشرة وكانت الوقعة بالقادسية في سنة خمس عشرة، فروي إن العسكري لما تقربا قال رجل من المسلمين: الا أبلغ أمير المؤمنين باننا ... ورهط أبن كسرى بيننا عشر أذرع قذفتم بنا في نحره وقعدتهم ... بمرأى لعمري في الحياة ومسمع سلام عليكم في سرور وغبطة ... سلام أياب أو سلام مودع فروى إن هذا الشعر لما بلغ أهل المدينة بكى عمر والمسلمون وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بشر بن ربيعة الختمي لسعد بن أبي وقاص بعد ذلك في أمر عرض: تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكر عسير غداة يود القوم لو إن بعضهم ... يعار جناحي طائرٍ فيطير قوله قديس يعني القادسية، وقيل إن الذي بناها مرزبان بن مرازبة الفرس يقال له قادس فعرفت به. وقعة الجمل وذكر بعض أصحاب التأريخ إن المسلمين لما حاربوا الفرس بنهاوند في سنة أحدى وعشرين وعليهم النعمان بن مقرن، وأستشهد يومئذ رحمه الله. وكانت الفرس مائة الف، وقد جعلوا أنفسهم في سلاسل فجعلوا كل عشرة منهم في سلسلة. فهل يذكر إن فرسان الجاهلية أبتلوا بحرب مثل هذه الحرب وبمنازلة قوم هذه صفتهم؟ وهل يذكر لهم مثل حروب الإسلام في ذات بينهم كيوم الجمل بالبصرة وأيام صفين فانها طالت وتكررت فيها الحروب والوقائع؟. وكيوم الخوارج بالنهروان ومواقف فرسان الصحابة البدريين وغيرهم من المهاجرين والأنصار ومن التابعين بأحسان رضي الله عنهم وصبرهم في الجهاد في هذه الحروب؟ فروي إن علي عليه السلام لما واقف أصحاب الجمل في البصرة ونادى طلحة والزبير فخرجا اليه فناضرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والحديث في ذلك مشهور، نادى الناس يا أمير المؤمنين منا ننتظر بالقوم. فقال: يا أيها الناس إنه ستكون خصومة يوم القيامة فدعونا نزداد أخذا بالحجة عليهم، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم الى ما فيه م هو مقتول وله الجنة فاحذه فتى يقال له مسلم ودنا منهم فرفعه، ونادى: أيها الناس إن أمير المؤمنين يدعمكم الى ما في هذا المصحف فشدوا عليه فقتلوه فجاءت أمه فاحتملته وأقبلت به ورجلاه تخطان في الأرض فالقته بين يديه وهي تقول: يا رب إن مسلما دعاهم ... الى كتاب الله لا يخشلهم فخضبوا من دمه قناهم في رجز لها، ثم رموا أصحابه بالنبل من كل جانب فنادوا يا أمير المؤمنين نضحنا القوم بالنبل فقال: مهلا فقد كنت أرى رسول الله (يحب الحملة أذا قاب الأحياء. ولم يزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 واقفا حتى حملت اليه القتلى من الميمنة والميسرة فالقيت بين يديه، فحينئذ أذن لأصحابه في الحرب، فكانت ساعة هائلة. وروى بعضهم إن الرماح أشرعت بين الفريقين حتى لو إن الرجال مشوا علها لحملتهم. وروي عن أخر شهد الحرب يومئذ إنه قال: ما دخلت قط ديار الوليد بالبصرة الا ذكرت وقع السيوف على البيض في تلك الساعة وكانت 62 دار الوليد للقصارين، وكان فيها عشرة الاف قصار. وكان أصحاب علي عليه السلام عشرة الاف أو نحوها أصحاب الجمل أربعة وعشرون الفاً، فاصيب من الفريقين بعد زوال الشمس الى وقت العصر زاد على عشرة الاف منهم من أصحاب علي عليه السلام دون الالف الباقون من أصحاب الجمل ثم طفيت الحرب. وروي إنه كان لعلي عليه السلام راية يقال لها الجذل ترفع عند الشدائد وفيها يقول الأشتر: اذا ما حسسنا ضرام الوغى ... ادرنا الرحى تحت ضل الجذل بضرب يفلق هاماتهم ... وطعن لهم بعوالي الأسل ابا حسنٍ ضرب خيشومها ... فحولك كل محام بطل فالتفت المسلمون فرأوا الجذل تهفوا فقالوا: إن أمير المؤمنين لم يرضى فعالكم، فاقبل بنفسه، فتقدم مالك بن الحارث الأشتر النخعي، وكان لا يصاحب الا الصعاليك، ولا يصر على درهم، ولا يأكل طعام وحده، فدنا فيمن معه وهو يقول: حرب عوان من جناها هالك ... طلحة فيها والزبير ماحك لو قدها بالسمهري مالك ... ومالك فها الغداة دارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 اخوانه في حربة الصعاليك ... حيث يثير نقعها السنابك والموت بين الفيلقين بارك ... يا طلح يا طلح لما تماحك ان علياً للهدى لمالك ... ان علياً من عصاه هالك في دفعه عن حقه المهالك ... لا يجبه الحجة الا ماحك وتقدم عدي بن حاتم في طي وهو يقول: حرب عوان من جناها نادم ... طلحة فيها والزبير آثم اني عدي ثم شيخي حاتم ... سيان منكم قاعد وقائم وساهر لحربنا وقائم ... يا طلح يا طلح بما تخاصم ان علياً بالكتاب عالم ... ان علياً من عصاه آثم لا يجيبه الحجة الا ظالم وتقدم زهير بن قيس في بني الحرث بن كعب، وكانوا نيران مذحج الذين يفعلون الأفاعيل وهو يقول: ايه بني الحارث أيه لا شلل ... لا عيش الأضرب أصحاب الجمل بالمشرفيات والطعن بالأسل ... حطوا علياً تبلغوا كل الأمل ليس لكم بعد علي من بدل ... والقول لا ينفع الا بالعمل ثم شدوا عليهم من كل جانب فانتقضت صفوفهم، وإن فضوا وأصيب منهم من أصيب وفر منهم من فر فنادت عائشة: يا بني أمكم، أمكم، فثابوا فاحدقوا بالجمل ومعضمهم الأزد وضبة وأشواب من الناس فلم يطف به ساعتئذ شيء الا مات، وهناك كان الكثر القتلى في سنة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وثلاثين نقطة وروى إن كان يوم الخميس عاشر جمادي الاخره. وقعة صفين وأخبرنا جماعة عن محمد بن الحسن عن جماعة عن أبي المفضل عن حميد بن يونس بن علي العطار عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد في حديث ذكره في يوم وقعة الماء بصفين قال: لما أشتد بالناس العطش وتزاحفوا عند الشريعة دعا الاشتر بالحارث بن همام النخعي ثم الصهباني فاعطاه لواءه وقال له: يا حارث لولا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لم أحبك بكرامتي. فقال: والله يا مالك لاسرنك اليوم في لوائك أو لاموتن فتقدم وهو يقول: يا أشتر الخيرات يا خير النخع ... وفارس المصر أذا عم الفزع وكاشف الامر أذا الامر وقع ... ما أنت في الحرب العوان بالجذع قد جزع القوم وعموا بالجزع ... وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ان تسقنا الماء فغير مبتدع ... ان نعطش اليوم فجند منقطع ما شئت خذ مني وما شئت فدع فقال له الاشتر: ادن مني يا حارث فدنا منه فقبل رأسه وقال ما يتبع هذا الا خير يا حارث. ثم قام الاشتر فحرض أصحابه وهو يقول فدائكم نفسي شدوا شدة المجرج الراجي للفرج فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها وأذا عضتكم 63 السيوف فاليعض الرجل على ناجذه فانه أشد لشؤون الرأس ثم أستقبلوا القوم بهامكم. وبالاسناد عن نصر بن مزاحم عن عمرو بن شمر عن جابر بن عامر بن الحارث بن أدهم وعن صعصعة بن صوحان العبدي، قال: قتل الاشتر في تلك المعركة سبعة وقتل الاشعث خمسة ولكن أهل الشام لم يثبتوا فكان الذين قتلهم الاشتر صالح بن فيروز العكي ومالك بن أدهم السلاماني ورياح بن عبيدة الغساني وأبراهيم بن الوضاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الجمحي وزامل بن عتيك الجذامي والاجلح بن منصور الكندي ومحمد بن روضه الجمحي. قال: خرج الاشتر على فرس محذوف كأنه حلك الغراب وخرج اليه رجل من أهل الشام يقال له صالح بن فيروز وكان مشهور بشدة البأس فقال: يا صاحب الطرف الجواد الادهم ... اقدم أذا شئت علينا أقدم انا أبن ذي العز وذي التكرم ... سيد عك وكل عكٍ فاعلمِ فبرز اليه الاشتر وهو يقول: اليت لا أرجع حتى أضربا ... بسيفي المسلول ضرباً معجبا انا أبن خير مذحج مزكيا ... وخيرهم نفسا وأما وأبا ثم شد عليه بالرمح فقتله ثم رجع الى مكانه فخرج اليه فارس يقال له مالك بن أدهم السلاماني وكان من فرسان أهل الشام وهو يقول: اني منحت صالحا سنانيا ... اجبته في الروع أذ دعانيا لفارس أمنحه طعانيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ثم شد على الاشتر فلما رهقه التوى الاشتر على فرسه فاذا هو في بطن الفرس ومار السنان فأخطأه وأستوى الاشتر على فرسه وشد عليه وهو يقول: جاءك رمح لم يكن خوانا وكان قدما يقتل الاقرانا ... بوأته لخير ذي قحطانا لفارس يخترم الفرسانا ... اشتر لا وغلا ولا جبانا وضربه فقتله فخرج اليه فارس أخر يقال له رياح بن عبيدة وهو يقول: اني زعيم مالك بضرب ... بذي غرار من جماع القلب عبل الذراعين شديد الصلب فخرج اليه الاشتر وهو يقول: رويد لا تجزع من الجلاد ... جلاد قرم جامع الفؤاد يجيب في الروع دعا المندي ... يشد بالسيف على الاعادي ثم شد عليه فقتله فخرج اليه فارس أخر يقال أبراهيم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الوضاح وهو يقول: هل لك يا أشتر في برازي ... براز ذي غشم وذي أعتزاز مقام لقرنه لزاز فخرج اليه الاشتر وهو يقول: نعم نعم أطلبه شديداً ... معي حسام يفصم الحديدا يترك هامات العدا حصيدة فقتله فخرج اليه فارس أخر يقال له زامل بن عتيك الجذامي: وكان من أصحاب الالويه فشد عليه وهو يقول: يا صاحب السيف الخضيب المضرب ... وصاحب الجوشن هذا المذهب هل لك في طعن غلام محرب ... يحمل رمح مستقيم الثعلب ليس بحياد ولا مغلب فطعن الاشتر في موضع من الجوشن فصرعه ولم يصب مقتلاً وشد عليه الاشتر وقد كسف عن قوائم الفرس بالسيف وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بليت بالاشتر هذا المذحج ... بفارس من حلق مدجج كاليث ليث الغابه المهيج ... اذا دعاه القرن لم يعرج فقتله فخرج اليه فالرس يقال له الاجلح بن منصور وكان من أعلام العرب وفرسانها على فرس يقال لها لاحق فلما أستقبل الاشتر كره لقائه وأستحى إن يرجع فخرج اليه وهو يقول: اقدم يا لاحق بالتسلل ... كانما تقضم مر الحنضل تحت صمل طاهر التهلل ... ان سمته خسفاً أبى لم يقبل 64 - وإن دعاه القرن لم يعول ... يمشي اليه بحسام مفصل مشيا رويدا غيرما مستعجل ... يغترم الاخر بعد الاول فشد الاشتر عليه وهو يقول: لابد من قتلي أو من قتلكا ... قتلت منكم خمسة من قبلكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 كلهم كانوا حماة مثلكا ثم ضربه فقتله، فخرج اليه محمد بن روضه وهو يضرب في أهل العراق ضرباً منكراً ويقول: يا ساكني الكوفه يا أهل الفتن ... يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن ورث قلبي قتله طول الحزن ... اضربكم ولا أرى أبا الحسن فشد عليه الاشتر وهو يرتجز برجز له تركنا ذكره وقتله. فعرفونا أي يوم كان للعرب في الجاهلية وأي أثر لهم يجري مجرى هذه الآثار ومتى ذكر لهم مثل هذه المواقف وأعتد لهم بمثل هذه المشاهد ومن كان من فرسانهم يقاس بهؤلاء الفرسان وأي شجاع من شجعانهم يوزن بهؤلاء الشجعان وقد عدوا وسموا لبسطام وعتيبة جميعاً سبعة من القتلى فهذا فارس من فرسان المسلمين قتل في موقف واحد مبارزة بعدة من قتل في سائر أيام حروبها جميعاً ومدة حياتهما مبارزة والمبارزة أعظم هولاً من المطاردة أضعاف مضاعفة قال أبن نباتة: انما الناس في حذار التنازل ... طلبوا الطعن بالقنا في القتال وأستلانوا الطرد أذ كان بين الك؟ ... ر والفر راح في المجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأخبرنا جماعة بالاسناد المذكور عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد إن أمير المؤمنين علياً عليه السلام صلى الغداة في بعض أيام صفين ثم زحف الى أهل الشام فلما أبصروه وقد خرج أستقبلوه بزحوفهم فقاتلوا قتالاً شديداً ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا على أصحاب علي عليه السلام الف رجل أو أكثر فاحطوا بهم وأحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم فنادا أمير المؤمنين عليه السلام الا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بأخرته؟. فأتاه رجل من جعفى يقال له عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم كأنه غراب مقنعاً في الحديد لا ترى منه الا عيناه فقال: يا أمير المؤمنين مرني بامرك فولله لا تأمرني بشيء الا صنعته. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: شريت بامر لا يطاق حفيظة ... حياءً وأخوان الحفاظ قليل جزاك اله الناس خيراً وقد وقعت ... يداك وفضل ما هناك جزيل ثم قال أحمل أبا الحارث شد الله ركنك أحمل على الشام حتى تأتي أصحابك فتقول: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم هللوا وكبروا ونهلل من ها هنا وأحمل على أهل الشام ونحمل من ها هنا. فضرب الجعفي فرسه حتى أذا قام على السنابك حمله على أهل السام المحيطين باصحابه فطاعنهم ساعة وقاتلهم فانفجروا له حتى أتى أصحابه فلما رأوه أستبشروا به وفرحوا وقالوا ما فعل أمير المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فقال: صالح يقرأ عليكم السلام ويقول لكم هللوا وكبروا وأحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب ونكبر نحن ونهلل من ها هنا ونحمل فهللوا وكبروا وهلل وكبر هو وأصحابه وحملوا على أهل الشام من ثم وحمل بأصحابه من ها هنا فأنفرج أهل الشام عنهم فخرجوا ولم يصب منهم رجل واحد وأصيب من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبع مائة رجلز فقال أمير المؤمنين عليه السلام: من أعظم الناس غناء اليوم؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال: كلا ولكنه الجعفي. فمن أنكر فضل أهل الاسلام في الشجاعة على من تقدم فليذكر لنا موقفاً لاحد منهم مثل موقف هذا الفارس وفعلاً كفعله. وبالاسناد المذكور عن نصر بن مزاحم قال: حدثنا عمر بن الحارث بن حصيرة و غيره قال: لما تتام أهل الشام وأهل العراق وتوقفوا وأخد الناس مصافهم للقتال قال معاوية: 65 من هؤلاء في المسيرة أهل العراق فقيل ربيعة فلم يجد بالشام ربيعة فجاء بحمير فجعله بازاء ربيعة على قرعة أقرعها بين حمير وعك فقال ذو الكلاع باستك من سهم لم تبغ الضراب فبلغ ذلك الخندف الحنفي فحلف بالله لانه عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه فجاءت حمير حتى وقفت بازاء ربيعة وجعل السكون والسكاسك بازاء كندة والاشعريين وجعل بازاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 همدان الازد وبجيله وبازاء مذحج العراق عكا وبازاء تميم العراق هوزان وغطفان وسليماً فقيدت عك أرجلها بالعمائم وطروحوا بين أيديهم حجراً وقالوا النفر حتى يفر هذا الحجر وقال راجزهم: ويل الام مذحج من عك ... وأمهم قائمه تبكي نضربهم بالسيف ثم الصك ... فلا رجال كرجال عك وصف القلب خمس صفوف وفعل أهل العراق أيضاً مثل ذلك. وبالسناد عن نصر بن مزاحم عن عمرو بن شمر بن جابر قال: سمعت الشعبي يذكر عن صعصعة في ذكره قال: عبأ معاويه لمذحج ولبكر بن وائل ذا الكلاع وعبد الله بن عمر فاقتتلوا قتالاً شديداً وشدة عك ولخم والاشعريون من أهل الشام على مذحج وبكر بن وائل وقال أعكي: ويل الام مذحج من عك ... لنتركن أمهم تبكي نقتلهم بالطعن ثم الصك ... فلا رجال كرجال عك لكل قرن أسد مصك قال فحيمت مذحج ونادى مناديهم خدموا فأترضت مذحج سوق القوم وخاضت الخيل في الدماء نادى مناد: يا آل مذحج: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الله في عك وجذام الا تذكرون الاحلامافنيتم لخم الكرام والاشعريين وآل ذي حمام أين النهى والاحلام؟ وهذه النساء تبكي الحلام فقال العكي: يا آل عك أين المفر اليوم تعلم ما الخبر إنكم قوم صبر كونوا كمفترق المدر حتى يحول الى الحجر ليرى عدوكم العبر لا تشمتن بكم مضر. وفي حديث أخر بالاسناد المذكور عن نصر بن مزاحم بن عمرو بن أبي أسحق عن أب السفير قال: لما التقينا القوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم فقتلنا صفاً ثم صفاً حتى قتلنا ثلاثة صفوف وخلصنا الى الصف الرابع ما على الارض شامي ولا عراقي يولي دبره بالاسناد المذكور عن نصر بن مزاحم عن رجاله إن معاويه أرسل الى عمر بن العاص في بعض أيام صفين إن قدم عكا والاشعرين الى من بازائهم فبعث اليهم عمرو إن همذان بازائك فبعث اليه معاويه إن قدم عكا لهمدان فأتاهم عمرو فقال: يا معشر عك إن علياً قد عرف أنكم حي أهل الشام فعبأ لكم حي أهل العراق فاصبروا وهبوا لنا جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه. فقال أبن مسروق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 العكي أمهلوني حتى أتي معاويه فأتاه فقال: يا معاويه أجعل لي فريضة في الفين الفين ومن هلك فأبن عمه مكانه قال ذلك لك فرجع أبن مسرور الى مكانه فأخبرهم بذلك فقالت عك: نحن لهمدان فتقدموا نحوهم فنادى سعيد بن قيس يا آل همدان خدموا فأخذت السيوف أرجلها فنادى عكي يا آل عك بركا كبرك الكمل يعني الجمل وهي لغة عك فبركوا تحت الجحف وشجروهم بالرماح فتقدم شيخ من همذان وهو يقول: يا لبكيل يهمها وحاشد ... نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا صابروا في حربكم وجاهدوا ... تحت تخر منكم القماحد وأرجل تتبعها سواعد ... بذاك أوصى جدكم والوالد اني لقاضي عصبتي ورائد وتقدم رجل من عك وهو يقول تدعون همدان وندعو عكا ... نفسي فداكم يا لعك عكا ان خدم القوم فبركا بركاً ... لا تدخلوا نفسي عليكم شكا قد محك القوم فزيدوا محكا 66 - فالقى القوم الرماح وصاروا الى السيف وأدركهم الليل فقالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 همدان: يا معشر عك أنا والله لا ننصرف حتى تنصرفوا. وقالت عك مثل ذلك فارسل معاوية الى عك إن أبرو قسم القوم فأنصرفت عك ثم أنصرفت همدان وقال عمرو: يات معاويه لقيت أسد أسداً لم أر كاليوم قط لو إن معك حياً كعك أو مع علي حياً كهمدان لكان الفناء. وقال عمرو في ذلك: ان عكا حاشدا وبكيلا ... كاسود الشرى تلاقي أسودا اذا رما القوم بالقنا تساقطوا ... بظبات السيوف موتاً عتيداً ليس يدرون ما أفرار وأن ... كان فرار وكان ذاك شديدا فازورار المناكب الغلب بالسمر ... وضرب المسومين الخدودا ثم والله ما رأيت من القوم ... ازورارا ولا رأيت صدودا غير ضرب المسومين على الهام ... وقرع الحديد يعلوا الحديدا ولقد فضل المطيع على العا ... صي ولم يبلغوا به المجهودا ولفد قال قائل خدموا عكا ... فخرت عكٌ هناك قعودا كبراك الجمال أثقلها الحمل ... فما تستقل الا وئيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال: ولما أشترطت عكا والاشعريون على معاويه ما أشترطوا من الفريضة والعطاء وفعطاهم لم يبقي من أهل العراق أحد في قلب مرض الا طمع في معاويه وشخص بصره اليه حتى فشى ذلك في الناس وبلغ ذلك علياً عليه السلام فجاء المنذر بن أبي الجهضة الوادعي وكان فارس همدان وشاعرهم فقال: يا أمير المؤمنين إن عكا والاشعريون طلبوا الى معاويه الفرائض والعقار فاعطاهم فباعوا دين بالدنيا والضلالة بالهدى وأنا قد رضينا بالاخرة من الدنيا وبالعراق من الشام وبك من معاويه والله لاخرتنا خير من دنيانا وعراقنا خير من شامهم ولامامنا أهدى من أمامهم فامتحنا بالصبر وأحملنا على الموت ثم قال: ان عكا سألوا الفرائض والاش؟ ... ؟ عر سألوا قطاع البثينه تركوا الدين للعقار وللفر ... ؟ ض فصاروا بذاك شر البرية وسألنا حسن الثواب من الل ... هـ وصبرا على الجهاد ونيه فلكل ما سأله ونواه ... كلنا نحسب الخلاف خطيه ولأهل العراق أحسن في الحر ... ب أذا خلت الأمور بقية ولأهل العراق أحمل للثق ... ل أذا عمت البلاد بليه ليس منا من لم يكن لك في الل ... هـ ولياً يا ذا الولا والوصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فقال له علي: حسبك، رحمك الله وأثنا عليه وعلى قومه خيراً وبلغ ذلك معاوية فقال: والله لأستميلن بالأموال أهل ثقة علي حتى تغلب دنياي أخرته. فاما المارقون بالنهروان، فان الروايات أتفقت على أنهم ترجلوا وعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكسروا جفون سيوفهم ونادوا: الرواح الرواح الى الجنة، فانقطع منهم خمسمائة، فقالوا: أنا نخاف إن تكون روحتكم الى النار، وأنهزموا عنهم وصبر الباقون فقتلوا جميعا الا نفر منهم قيل أنهم دون العشرة. وكم كان بصفين من الوقائع الهائلة التي هي أعظم مما ذكرناه كليلة الهرير وغيرها، مما لو أستقصينا ذكره وأردنا شرحه تجاوز ذلك حد مقصودنا في هذا الكتاب، وضاع فيه المعنى وتبدد الغرض، وأنما قصدنا أيراد ما يستشهد به على حسن صبر أهل الإسلام، وفضلهم على غيرهم، وتوطنهم أنفسهم على الموت الذي لا يشكون في حلوله بهم في تلك الساعة، لا يطمعون بفرار منهم ولا بعد عنهم. وروي إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يحرضهم فيقول: عضوا على أضراسكم فانه أنبى للسيوف على هامكم، والتووا في أطراف الرماح فانه أمور للاسنة في ضلوعكم، وأقلوا الكلام فانه أطرد للفشل عنكم، ولا يهولن أحدكم مصرع أخيه الى جنبه، وعليكم بالأكثار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قول لا اله الا الله والله أكبر، فان حبيبي رسول الله (أخبرني أنها آية التصبر. فكم بين قومٍ يعقلون أنفسهم بعمائم ويلقون الحجارة بين صفوفهم لا تف حتى تفر هذه الحجارة، ويتحالفون67 أنهم لا يلتفت أحد منهم وراءه وبين أخرين يصنعون خيلهم ويكرمونها ويؤثرونها بالاقوات على أنفسهم وعيالهم لينجوا عند هزيمتهم وفرارهم اليس عنترة يقول: وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... وقد جربت منه الشجاعة بالامس ويقول لامرأته لما عاتبته على أيثاره فرسه باللبن دون عياله: ان العدو لهم اليك وسيله ... ان ياخذوك تكحلي وتخضبي وأنا أمروءً إن ياخذوني عنوة ... اقرن الى شر الجمال وأجنب ويقول أيضاً في شأن فرسه: اذا لحقت قب البطون عوابس ... هنالك تجزيني الذي كنت أصنع وفي مثل ذلك يقول قيس بن زهير: تخاف عليه إن تخون أبن عمها ... اذا لحقت قب اللبطون عوابس اليس بسطام لما ناداه عتيبة أستأسر يا أبا الصهباء، قال له: ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 شاءت الشقراء اليس هو الذي وضع السيف في أبل الصباحي يعقرها لما رهقه التبع يأساً منها ليطير بنفسه حتى ناداه صاحبها لا تفعل لا أبا لك فاما لنا وأما لك. فكم بين قوم يأخذون أهبة الفرار وآخرين يأخذون أهبة الاصطبار!. وأشدها فتكاً ثلاثة أيام: يوم جبلة، ويوم الكلاب الثاني، ويوم ذي قار، وقيل إن يوم جبلة كان قبل الاسلام بثلاثين عاماً، وقيل باربعين، سارت فيه بنوا تميم كلها مع لقيط بن زرارة الى بني عامر الى بني سعد بن زيد مناة بن تميم فانهم لم يتخذوا لقيطاً على بني عامر لانه يقال إن صعصعة أبا عامر بن صعصعة يجلح الى سعد بن زيد مناة فقالوا هم أخوتنا لا نعين عليهم. وأستنجد لقيط بالنعمان بن المنذر الملك فانجده بعسكره مع أبن أخيه لامه حسان بن وبرة بن رومانس الكلبي، وأستمد ببني ذبيان فساروا معه الا بني بدر، وأستمد ببني أسد بن خزيمة فأمدوه وأتى الملكين الكنديين حسان ومعاوية أبني الجون فاستنجدهما فسارا معه بجيوشهما، فحصروا بني عامر في شعب جبلة ثم كانت الكرة لبني عامر فضربت بهذا اليوم الامثال وقيلت فيه الاشعار وفيه قال السندري بن علياء الجعفري مفتخراً يوم تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة: هل لكم يوم كيوم جبلة ... يوم أتتنا أسد وحنظله والملكان والجموع أزفله ... كأنهم مهنوة مجدله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 نقريهم هندية مصقلة ... لم تعد أن أفرش عنها الصقله اخبرنا الرئيسي أبو القاسم يحيى بن محمد بن عيسى إجازة عن أبى غالب محمد بن سهل المعروف بابن بشران الواسطي عن أبى الحسين علي أبن عبد الرحيم بن دينار الكاتب الواسطي عن أبى بكر بن مقسم البصري المقري وأبى علي محمد بن عيسى الطوماري جميعا عن أبى العباس محمد بن يزيد الازدي ثم الثمالي المبرد عن حماد الرواية عن أبن أبى بكر الهذلي عن أبيه وكان قد حضر يوم جبلة وطال عمره إلى أيام الحجاج: إنه حدث إن الخيل يومئذ كانت في الفريقين مع ما كان مع بني الجون الملكين ثلاثين فرساً. يوم فيف الرياح ومن أيامهم يوم فيف الرياح ويقال فيفاً الرياح سار فيه ذو الغصة الحارثي وأنس بن مدرك الخثعمي في بني الحارث بن كعب وجعفى وزبيد وغيرها من قبائل سعد العشيرة ومراد وصداء ونهد وشهران وناهس وقبائل الجثعم كلها وأكلب وهي قبيلة تنسب إلى ربيعة بن نزار فاجتمعت هذه القبائل كلها على بني عامر فكان مما أستعد به عامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الطفيل للقائهم أربعون رمحاً أبتاعها من هلال بأربعين بكره وفرق الرماح في قومه فقهرت بنو عامر هذه القبائل كلها وفي ذلك يقول أبو دؤاد الرؤاسي: ساقوا شعوبا وعنساً من ديارهم ... ورجل خثعم من سهل ومن علم ولت رجال بني شهران تتبعهم ... خضراء ترميهم بالنبل على شهم 68 - والزغابية تكفيهم وقد جعلت ... فيهم نوافذ لا يرقعن بالدسم ظلت يحابر تدعى بين أرجلنا ... والمستميتون من حاءٍ ومن حكم حتى تولوا وقد كانت غنيمتهم ... طعناً وضرباً عريضاً غير مقتسم وفي ذلك يقول عامر بن الطفيل: أتونا بشهران العريضة كلها ... وأكلبها شذاذ بكر بن وائل وخثعم حي يعدلون بمذحج ... وما نحن إلا مثل إحدى القبائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فبتنا ومن ينزل به مثل ضيفنا ... يبت عن قرى أضيافه غير غافل وهي أبيات فهذه كانت عدة خيلهم يوم جبلة وعدة رماحهم يوم فيفا الريح، فليقس سامع سائر ما يسمع به عنهم بذلك. فأما عدة قتلاهم ومن أتصيب بينهم في أيام حروبهم فهذا حرب بكر وتغلب إحدى الحروب الثلاثة، وهو من الحروب العظيمة فأيامه من الأيام القديمة، يسمونه حرب البسوس، وحرب الناب، وحرب أبني وائل ترددت فيه الحروب بينهم أربعين عاماً، وأسماء المواضع التي كانت فيها الوقائع بينهم معروفه موجود ذكرها في أيام العرب، وكانوا يتحالفون فيه ويقسمون أيديهم في دماء الجزر، وسموا يوماً من أيامه يوم التحالق لأن بني بكر حلقوا فيه لممهم وأوردوا فيه أحاديث عجيبة وعملوا فيه وحده سيرة وفي يوم من أيامه وهو يوم عنيزة ويقول المهلهل بن ربيعة: كانا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحياً مدير فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور وضرب الشعراء وغيرهم الأمثال، وقالوا تفانا فيه الحيان وقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بعضهم بعضا حتى صبغ في دمائهم ثياباً حمراً ولبسها، ورووا فيه من كثرة القتلى ما هو متداول على السنة الناس إلى اليوم. وروي إن أحيحة بن الجلاح الاوسي أراد أن يسفر بين بغيض في الصلح، فرحل في جماعة من أشراف قومه حتى أتى بني عبس، فنزل بهم ودعاهم إلى الصلح قومهم وخوفهم من أستئصال الحرب وكان ذلك عند قتل بني بدر مالك بن زهير فقال له قيس يا أبا عمرو: إن حذيفة لا يرجع عن بغيه ولا يميل إلى البقية، وقد قتل مالكاً بغير قتيل، وإني لأرجو النصر عليه، فلما كان في الليل تسمع، قال يسمع أحيحة: يا أوحيح الجلاح إن بني بد ... ر يرون القريب منهم بعيدا لابسي العار في فزارة يهدو ... ن إلينا من السفاه الوعيدا قتلوا مالكاً بغير قتيل ... ليتني كنت قبله المفقودا فلئن باءت المنون عليه ... إن فيهم منه لثأراً عتيدا حملا أو حذيفة أبن أبيه ... وشقيقه مالكاً أو يزيدا إن تكونوا بني فزارة أثرى ... من بني عبس الغداة عديدا فلقد تعلم القبائل أنّا نستبي ... ح المتوج الصنديدا وإذا هابت القبائل ورداً ... من حياض المنون رمنا الورودا ثم لم يتعد عما دعاه أحيحة من الصلح. ورحل أحيحة إلى بني بدر فنزل بهم ودعاهم إلى الصلح، وخوفهم عواقب البغي، فأشار حمل بن بدر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أخيه حذيفة بقبول رأي أحيحة فأبا فقال حمل في ذلك: أما والذي أرسى ثبيراً مكانه ... لئن أنت لم تقبل سلام بني عبس لتصطحبن كأسا من الموت مرة ... بأيدي رجالٍ غير ميلٍ ولا نكسِ أمرتك أمرا حازماً فعصيتني ... فبت أمنا حتى يغيبني رمسي وهي أبيات ثم لم يمكنه الخروج عن رأي أخيه حذيفة فتابعه على ما أراد فقال حذيفة شعراً يوعد فيه بني عبس، ورفع به عقيرته في الليل يسمع أحيحة منه قوله: إن قيساً عن سلمنا وأخاه ... وربيعاً كالحية الصماء ولا يريدون ما نريد وودوا ... لو رمينا بالصيلم الصلعاء ولرد الحلاب في صرة الضر ... ع وخرط القتاد في الظلماء أهون اليوم أن أسالم عبساً ... بعد سفك الدماء والشحناء والحديث في ذلك والأشعار فيه موجودة معروفة فرحل أحيحة عن69 بن بدر و هو يقول: أتيت بني بدر أبن عمرو نصيحةً ... فاخلف ظني في حيفة والحمل وقالا مقال الباغيين ولا أرى ... عواقب أهل البغي إلا إلى الفشل فقلت الا لله در أبيكما ... الا تقبلان النصح وللامر مقتبل ألم تسمعا ما كان في حرب وائل ... من الشر في نابٍ وما نلتما أجل فضرب لهم المثل في حرب وائل وما كان فيه لعظمه في نفسه ونفوسهم ولم يزل الناس يضربون به الأمثال حتى أنَ الرضي رضي الله عنه يقول في الامس في مرثيته لابي الهيجاء حرب بن سعيد بن حمدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 التغلبي: خلجتم لحسام بن مرة طعنةً ... رأى المجد فيها هجرس وهو عابث وقد كان دينٌ في كليب وفى به ... غريم مطول بالديون مماغث وغادرتم أشلاء بكرٍ مقيمة ... على العار لا تحثى عليها النبائث وقائع أيامٍ كان أكامها ... بباقي دم الطعن الاماء الطوامث تدعون عنها في قناكم مباشم ... وعند قنى بكرٍ إليكم مغارث وفي العامة من يزعم أن عظام قتلى بكر وتغلب موجودة بعنيزة وما حولها إلى اليوم. فبع هذا كله وما لا يحصى من أمثاله روى العلماء أن القتلى من الحيين جميعاً لم تبلغ عدتهم في مدة الحرب كلها عشرين قتيلاً. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى سمعت عامر بن عبد الملك المسمعي يقول: لم يكن من القتلى ما يعدون وجميع من قتل من تغلب الذين ذكرهم مهلل في شعره هم ثمانية وجميع من قتل من بكر أربعة. وقد ذكره مهلهل أيضاً في شعره حيت يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فلو نبش المقابر عن كليب ... لخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين أقر عيناً ... وكيف لقاء من تحت القبور وهمام بن مرة قد تركنا ... عليه القشعمان من النسور ينوء بصدره والرمح فيه ... ويأطره خدب كالبير وأني قد تركت بوارداتٍ ... بجيراً في الدم مثل العبير هتكت به بيوت بني عباد ... وبعض القتلى أشفى للصدور وسمى قتل بني تغلب أيضاً في شعره فقال: ما أرجي بالعيش بعد ندامي ... قد أراهم سقوا من كأس حلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بعد عمرو وعامر وحيي ... وربيعي صدوق وأبن عناق وأمرئ القيس ميت ما كرم ... اودى وخلى علي ذات العراق وكليب خير الفوارس ذا عز ... رماة الكماة بالأتفاق قال عامر بن عبد الملك المسمعي، فهؤلاء جماعة القتلى من الفرقين قد كرهم لا غير فأبى ذلك عله أخوه مسمع بن عبد الملك، وقال: إن أخي مجنون كيف يحتج بالشعر وقد قتل جحدر أبى مكنف يوم قضة ولم يذكره شاعر، وقتل ناشرة ولم يذكر شاعر، وقتل أبن الفتيحة وقد ذكره سعد في شعره، فذكرت ذلك لعامر فقال: إن كنت قد غفلت الذكر ثلاثة نفر فما عسى إن يكونوا يعدون من القتلى. فهذا قدر قتلاهم في حرب بكر وتغلب مع ما يفخمون من قدره ويعظمون من أمره. وذكر بعض أصحاب السيرة والتأريخ إن المسلمين لما حاربوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الروم باليرموك وعليهم أبوا عبيدة وذلك في رجب من سنة خمس عشرة، وكان هرقل بانطاكية وقد أحتشد بكل من تابعه على دينه من الرومية وإلى القسطنطينية وأستمد بكل ما أمكنه، وقدم على الروم باهان فهزمهم المسلمون في يوم ضباب، فمروا بهروة فتساقط منهمثمانون الفاً وأحصوا بعد ذلك بيوم واحد وأصاب المسلمون منهم في المعركة أربعين الفاً. وأتصيب بالقادسية وجلولاء ونهاوند ضعف ذلك وأتصيب بيوم الجمل في البصرة من الفريقين زائد على عشرة الاف وأنما كانت ساعة نهار، وأتصيب بصفين في إحدى الروايتين مائة الف منهم من أهل العراق خمسة وعشرون الفاً والباقون من الشام. وفي رواية أخرى إن الذي أتصيب من 70 الفريقين خمسة وسبعون الفاً، وفي رواية أخرى تسعون الفا. فأما الخوارج بالنهروان فقد تقدم ذكر من أتصيب منهم في بعض نهار وإنه لم ينج منهم الا دون العشرة. فليتأمل متأمل فضل أهل الإسلام على من تقدمهم في الأحوال كلها، فلو قال قائل إنه لم يصب في حروب الجاهلية من يوم السلان إلى إن قام الإسلام بعد إن أتصيب في يوم واحد من أيام المسلمين في أحد هذه الحروب لصدق. ولم نقصد بذكر ما ذكرناه عنهم من قطعهم بالفضل لبيوتات من العرب وغيرها أشرف منها، وبالفروسية لفرسان غيرهم أفرس منهم، ومن التعظيم لأيبام الحروب غيرها أعظم منهما وأشد كناية وأكثر قتلى أضعافاً مضاعفة إلى ما لا يكاد يحصى، وأستشهدنا عليه بما أستشهدنا، وأقمنا عليه من الدلائل ما أقمنا الا توطين للمسامع، وليتقرر في نفسه إن كل ما ذكروا له في الجاهلية شرفاً ففي أهل الإسلام من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أشرف منه، وكل من سمو له في الجاهلية موقف مشهورة وأيام مذكورة ومساعي عظيمة، ففي أهل الإسلام بحمد الله من مواقفه أشهر ومساعيه وأيامه أعظم، وأنما جعلنا ذلك مثالا لما أردناه وقياس مطرد لما نحوناه من ملك العرب سيف الدولة أيده الله بنصره على كل من تقدم ممن سمي بهذا الأسم في الجاهلية، ومقدمة له وسياقه اليه وشاهدا عادلا عليه وأنما ذهب الرواة في تفضيلهم الملوك المتقدمين هذا المذهب الذي ذهبوا اليه في تفضيل غيرهم ممن لا يجري مجراهم فأعطوهم فوق حقهم من التعظيم وأعدوا لهم أضعاف ما أستحقوه من التبجيل وأعينوا بالفصاحة التي أيدوا بها والبلاغة التي فاتوا الأمم بفضلها، فنطقوا بكل طريفة عجيبة وفاه بكل مستحسة غريبة، وكثروا بها القليل وعظموا بها الصغير، وفاتوا بها من جاء بعدهم، وقدروا من جواهر الكلام وغرائبه ونظمه ونثره على ما لا يقدر عليه سواهم فجاءت أشعارهم وخطبهم وأحاديثهم ومحاورتهم وسيرهم وأمثالهم وكل ما نقل عنهم بالفاظ عليها رونق طلاوة ولها في الأسماع والقلوب عذوبة وحلاوة فانسط اليها المسامع أستغراباً، وتطلعت اليها نفسه أستطرافا وأستحسانا فقالوا من شاءوا وتبعهم الناس عليه الا ترى أنهم كانوا يسجعون السجع الغريب في أمر باطل مستحيل فيستحسن منهم وينقل عنهم ويضربون المثل السائر عن غير شيء، فيتداول ذكره السامعون ويتحدث به المتحدثون مع علمهم بانه مسند إلى باطل موضوع عن غير شيء وأنما ينقله الناقلون عن حلاوة اللفظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وما يجعل له من حسن الحفظ كقولهم قيل للقمر ما أنت لليلة؟ فقال رضاع سخيلة حل أهلها برميلة. قيل فما أنت لليلتين؟ قال حديث أمتين بكذب ومين. ووضعوا هذه الموضوعة لثلاثين ليلة فتلقاها الناس منهم ونقلوها عنهم حتى إن الأصمعي روى إن أمير المؤمنين الرشيد سأله عن هذا الحديث فحدثه به وقال: إن العرب تقول من حفظ فقد كمل عقله، فاستعاده منه مرارا ثم قال له خذه علي. الا ترى أنهم قالوا قال الثعلب للضب شعرا: قد خربوا بيتك لا أبالكا ... وأنا أمشي الدءالي حيالكا فتبعهم الناس على نقل ذلك وتحدثوا به الا ترى أنهم قالوا: جاء الثعلب و الأرنب إلى الضب يتخاصمان فنادياه: يا أبا الحسيل، فقال: سميعا دعوتما، فقالا: حييت فقال كلمة مقولة، فقالا: جئناك لنحتكم، فاخرج الينا، فقال في بيته يؤتى الحكم، فقالت الأرنب: أني فتشت عيبتي فقال: فعل الحره قالت: فلقيت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فأخذها الثعلب مني، فقال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بجرمه، قالت: فلطمني، قال: حر أنتصر، والحكاية معروفة. وقالوا: تمثل الشيطان لإبنت الخس، فقال لها: قولي كاد ثلاثا، فقالت: كاد، فقال: كاد النعام إن تطير71 فقالت: كاد، فقال: كاد العريس إن يكون ملكا فقلت: كاد، فقال: كاد المنتعل إن يكون راكبا. ثم قال لها قولي عجبت ثلاثا. فقالت: عجبت، فقال: عجبة للحجارة لا يهرم كبيرها ولا يكبر صغرها، فقالت: عجبت، فقال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت، فقال: عجبت لحرك لا ينزف ولا يدرك قعره. فهذه الموضوعات وأمثالها أنما نقلها الناس عنهم، وتحدثوا بها مع علمهم أنها أباطيل موضوعة أستحسان للفظها لا غير فكيف لا ينقل عنهم ما سواها مع حسن حظهم في هذه الحال. الا ترى أنهم قالوا: الغطريف الأكبر، والغطريف الأصغر، وتتبع الأكبر، وتتبع الأصغر، والمنذر الأكبر والمنذر الأصغر والنعمان الأكبر والنعمان الأصغر، والحارث الأكبر والحارث الأصغر، ومعنى ذلك كله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الأول والثاني أو الجد والأبن والأب والأبن. وقالوا: الأذواء ذو الجناح، وتبع الأقرن، ذو يزن وذو جدن وذو أصبح وذو كلاع وذو رعين وذو نواس وذو أهنات وذو منارة بذلك فيما زعموا لانهم بنى على طريق ببلاد اليمن منارا أعلاما للسيارة يهتدون بها، وأمثال هذه الأسماء من الأذواء في اليمن كثير وأفتخروا بها، فقال أبو نواس في أفتخاره: ودان أذوان البرية من ... معتراها ورغبة ورهابها ولعل تحتها من المعني ما لا يجوز إن يفتخر به الا إن لعذوبتها وفصاحتها وأستغرابها متداولة منقول الا ترى أنهم قالوا، المنذر ذو القرنين لذؤابتين كانتا له، وسموا الملك الهمام، وعبروا عن ذكره بذى التاج وقالوا له: أبيت اللعن ولهذه الألفاظ والأسماء روعة في القلوب وقبول في الأسماع، الا ترى أنهم سموا جذيمة الملك الأبرش لبرصه بالوضاح وهذا أسم حلو في المسمع مقبول في القلب ما لم يعلم السامع معناه، فاذا علم أنهم يريدون به الأبرص نفر منه وكره سماعه فصاغوا لهذا المعنى المكروه أسما محبوبا لقدرتهم على التصرف في البلاغة كيف شاءوا. ومن جملت ذلك أنهم سموا عامر بن سعد المري بالضحيان فعرف بذلك مدة عمره، وعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ولده بعده ببني ضحيان وقالوا: انما سمي بذلك لانه كان يجلس بفناء بيته بالضحى. فأي أي فخر في هذا الفعل ومن ذا الذي يتعذر عليه أن يفعل مثله. ومن جملة أعاجيبهم وفرط حظهم في ذلك أنهم سموا معاوية وفلانا أبني الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث الاكبر الكندي الملك، وأمهما لميس الغسانية، فهما يعرفان بابني لميس فسموا معاوية، مقطع النجد فيما زعموا لشجاعته، وسموا الاخر حجر القرد لجوده زعموا وسخائه وسرعة عطائه. وقالوا: من عادة القرد إنه متى ما رأى أنساناً بادر فرماه بحجر وكذا هذا الملك سريع العطاء لكل من قصد اليه ووفد عليه فترك أسمه الحقيقي ونسى فلا يذكر. ولزمه هذا الاسم المعروف به، وما أستحق مع ما وصفوه به من الجود والسخاء، وسرعة البذل والعطاء أن يسموه بهذا الاسم القبيح الذي أستحال به مدحهم له على مر الأيام ذماً، وثناؤهم عليه سبا، الا ترى أنهم سموا الكتائب الشهباء ودوسر والملحاء. الا ترى أنهم يدعون المرء من المناقب عند الرضا والمدح ما ليس هو له ولا لدونه بأهل قصدا منهم للتحدث بطرائف الامور وإن يوثر عنهم ويتبع أثارهم فيها، كقولهم إن الحجاج بن يوسف كان يغدي كل يوم على الف مائدة، على كل مائدة جبن وسمكة وثريدة يأكل على كل مائدة عشرة من الناس، ويعشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على مثل ذلك وكان يطاف به في محفة على الناس ويقول يا أهل الشام: كسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. ولسنا ننكر ما بلغه الحجاج في عصره من القدرة الثروة ولا نستنكر له إن يكون فعل مثل ذلك يوما أو أياماً أو في حال جامعة عرضت أو مقامه ببعض الامصار فتحفل لذلك وتكلفه وأستعد له لما هو أوفى منهم ولا ندفع ذاك ولا نقول إنه لم يكن قادراً على أمثاله، وأنما يضعن على من روى ذلك72 في أطلاقه القول بانه كان يفعل هذا في كل يوم على سبيل الاستمرار والدوام ولم يستثن في ذلك بحال ولا قيده بشرط، ولا خصه بمكان من الاماكن ولا وقت من الاوقات ومعلوم إنه كان باليمن ثم بالعراق، وكان أكثر زمانه بالكوفة ومر بالحجاز " ويسير مرة إلى حرب ويتجهز لقتال أفترى إنه كان مقامه بالحجاز " وحصاره لابن الزبير بمكة يحضر على موائده في كل يوم غدوة وعشية الف سمكة لا يذكر غير ذلك، وإن كان قد روي مثل ذلك لا إنه حصر بايام ولم يطلق القول فيه لدهره ومدة عمره. روي إنه صنع طعاماً لعشرة الاف غداء وعشاء أيام كما قيل، فاعجبته نفسه فقال لزاد فروخ الفارسي: ويحك هل أطعم أحد من ملوك فارس مثل هذا؟ فقال: لا ولا سمعنا بمثله فقال: والله لتخبرني وأنت أمن فقال: زمزمت أبنة لكسرى فجمع الناس لطعامها، ففتق في أشنان غسل أيديهم سبعين الف فارة مسك فما مسألتك عن الطعام وهو لا يحصى كثرة، فقال: أف لك، أما إنه ما تركت فارس لمن بعدها شيئاً. فقد ذكرنى له وهو الذي أدعوه الا إنه أعتده أياما، وهذا مما يجوز مثله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فأما أطلاق القول بدوامه فهو مستحيل بدليل العقل. وروي بعضهم عن الحسن بن الرجاء بن الضحاك إنه ذكر إن المأمون رضي الله عنه لما نزل فم الصلح لتهدي اليه بوران بنت الحسن بن سهل، كانت جرايات الملاحين تطلق في كل يوم لسبعين الف ملاح فكم كان لغيرهم؟ الا نهم كانوا يمخرقون للمتقدميين بالقليل وينسون لغيرهم أضعافه ومما يقاس به ذلك من مذهبهم أنهم رووا إن الخصيان كانوا في عهد أبرويز لخاصته خمسة الاف. وذكر القاضي التنوخي في بعض رواياته إن الخصيان كانوا في دار المقتدر رضي الله عنه أحد عشر الفاً. ومما يتناقض به ما أدعوه للحجاج ما رواه أبو عبيد الله المرزباني عن أبى حاتم عن أبى عبيدة، قال: كان المغيرة بن عبد الله بن أبى عقيل الثقفي بخيلاً، وكان والياً على الكوفة من قبل الحجاج وكان يؤتى على طعامه بجدي لا يمسه غيره، وكان على شرط الكوفة للحجاج عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي، فقال لرجل من الشرط من تيم الرباب إن أكلت من جدي المغيرة لم أكلفك النوبه سنة فأكل منه التميمي وعرف المغيرة ذلك فشكاه إلى الحجاج فعزله. وروي المرزباني أيضاً باسناد ذكره إن الحكم بن أيوب الثقفي عامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الحجاج بالبصرة كان بخيلا، وكان عامله على العراق جرير بن بيهس، وكان جرير يلقب العطرق فأكل معه يوما فجيئ بدراجة فتناول جرير فخذها فعزله الحكم عن عمله. فقال شقيق بن ثور المازني في ذلك شعراً منه: قد كان بالعراق صيد لو قنعت به ... فيه غنى لك عن دراجة الحكم وهي أبيات، وفي الحكم بن أيوب هذا مع ما حكوه عنه من البخل يقول جرير خرجن من ثهلان أو وادي خيم ... على قلاص مثل خيطان السلم اذ قطعن علماً بدا علم ... حتى أنخناها على باب الحكم خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضيضء المجد وبحبوح الكرم فهذا كان مذهب القوم في مقالهم وتفخيمهم لصغائر الامور. ومن جمله ذلك أنهم سموا نفرا من قريش أزواد الركب وهم: مسافر بن أبى عمر بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وزمعه بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقالوا: كان هؤلاء أذا خرجوا في أسفارهم يمنون من مسافر معهم. وروي إن ذا الخليطين عتاب بن ورقاء الرياحي غزا سجستان فمنع الناس إن يضرموا نارا واردين وصادرين فلم يسم بهذا الأسم، ولا قدر أحد على مثله لحلاوته وفصاحته، وروي إنه سمي ذا الخليطين لانه كان يخلط الدنانير والدراهم ويعطيها الناس. ومن ذلك إنه سموا ما في بيوتهم من زربية ووسادة صوف ومسح شعر وقطعه من هدم بالكفاء والنضيد وفي بيوت أوساط أهل عصرنا هذا السندس والطميم والسوسنجرد وأمثالها ليس لها 73 مثل حسن ذلك الأسم. وروي إن محمد بن عبد الله بن منمير الثقفي كان قد شبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، فطلبه الحجاج، فهرب منه، فلما ظفر به سأله عن قوله: ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من إن يلقينه حذرات فقال له: ما كان ركبك؟ فقال: كنت على حمار لي هزيل، ومعي رفيق لي على أتان مثله. والشعر معروف وحكايته معه في ذلك معروفة. وقيل إن عبد الملك سأله أيضا عن ذلك فقال له: ما كان ركبك يا نميري؟ فقال: أربعة أحمرة لي أحمل عليها القطران، وثلاثة أحمل عليها البعر. وروي عن ليلى بن عروة بن زيد الخيل أنها سألت أباها عن قول أبيه: بني عامر لو تعلمون أذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجدا للحوافر وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر فقالت له: كم كان خيلكم يا أبه؟ فقال: ثلاثة أفراس. ومما يشابه مذهبهم في ذلك ما أخبرنا به أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي المعدل بالكوفة - كان يعرف بأبيّ لحسن قيامه بقراءة القران وأتقانه - عن القاضي أبى عبد الله الحسين بن محمد النصيبي عن أسماعيل بن محمد عن محمد بن القاسم عن أبيه عن أحمد بن عبيد عن المدائني، قال: سمع أسماء بن خارجة نادبة تندب في الليل وهي تقول: من للمنابر والخافقاتو للج؟؟ ... ود بعد زمام العرب ومن للعفاة وفك العناة و ... من يفرج الكرب عند الكرب ومن للطعان غداة الهياج و ... من يمنع البيض عند الهرب فقال: أنها تندب رجلا شريفا فأنظروا من هو. فقيل جارنا فلان البقال أبن أزدان الحايك. فقال أسماء: هذه أعظم المصيبتن. ومن المعلوم إن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 حمله الجوع وأضطره الجهد والضر حتى يقطع زمانه ويستفرغ وسعه ويعمل حيلته في صيد ضب أو ثعلب أو ذئب أو أمثالها ليأكله فيعيش به لا يقدر على قوت غيره ولا يجد معاشا سواه فانه في عيشة قذرة صعبة شاقة يرثى لصاحبها منها ويعير بها، ويستقذر لملابستها ومباشرتها، وقد أفتخروا بذلك وتبجحوا به ونظموا فيه أشعار رواها عنهم الرواة وتداولها الناس جعلوا بها دنيّ الأفعال وذميمها شريفا وقبيحها مستحسنا ومستقذرها مما يتطلع اليه الناس والنفوس وترتاح إلى سماعه القلوب. روى أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل الأخفش عن ثعلب عن صخر بن بكر المازني لرجل من بني عقيل يصف صيده الضب قال وجدتها بخط أسحق بن أبراهيم الموصلي قال أملأها علي أعرابي فوهبت له أربعين درهما: أراد رفيقي إن أصيده ضبة مكونة ... ومن خير الضباب مكونها المكون: التي فيها بيض. فلما تونيت العدو وأزمعت ... لتقبض نفس قد أجد قرينها العدو: ها هنا الصيد وقرينها عزمها. اذا مسلحب فوق ظهر نبيثة ... يجد بدعثار حديث دفينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 النبثة تراب حجر الضب والدعثار المنبوش. ودفينها ما تغطى من ترابها. اطافت به البعران حتى لو أنه ... بألوانها يدعى لكاد يبينها يقول أنس بالابل فلو سئل عن الوانها لكاد يقول هذا أحمر وهذا أورق. تمر عليه لا تروع سربه ... يعلله أرزامها وحنينها فراصدته حتى أذا أمتدت الضحى ... وقال مضت حمر الشخوص وجونها تهيج يستاق الفوالي برجفة ... على بطنه والنفس جم ظنونها الفوالي: دواب كأخنافس، يستاقها يزدردها، جم ظنونها: يخاف مرة ويطمئن مرة 74 كعكة أم السكن في الحي تبتغي ... فآبية عنها وأخرى تعينها ام السكن السائلة تأبى واحدة إن تعطيها وتعينها أخرى فتعطيها فلما مضت فوت اليدين وخنقت ... إلى الملء أمتدت برفض غضونها فوت اليدين ملء، وخنقت دون الأمتلاء، أمتدت برفض غضونها يدا العكة ورجلاها وما كان منطويا منكسرا منها لما أمتلأ. أرفض أي أفترق وأنبسط. امالت بها إحدى يديها وأسندت ... بمشرفة والشمس صفر قرونها يعني جلست بها في حدة الشمس ليذوب ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قعدت له في سد نقض معود ... لذلك في صحراء جم درينها سد الشيء ظله، والنقض: الجمل الذي قد أنحله السير، الدرين: أصل الشجر اليابس. وأقبلت حتى كنت عند فقية ... من الجال والأنفاس مني أصونها الجال: جانب الحجر. فلما بدا لي المنخزان وعينه ... مغيبة عني بحال جفونها تواركت في شقي له فانتهزته ... بفتحاء في سنا من الخلق لينها وأعلقت في ذات الجنائب قبضة ... بعوج كضبات أجادت قيونها " يعني أصابعه، يعني يده " وصاعد عالباوين في مكليزة ... مركبة في كاهل لا يخونها " يعني بذلك الضب " فلما تجاذبنا تقعقع ظهره ... كما تنفض الوزغان زرقا عيونها " وزغان: جمع وزغ " وصك برأسي بجانب الحجر صكة ... وصخر صلخداة شديد شؤونها " شؤونها: جوانبها " فقلت صبر يا أبا الحسل أنها ... موافيت أيام تقضي شؤونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 " شؤونها: أحولها " فهذه صفة رجل منهم للضب وصيده قد نظم فيه شعرا ضمنه من العربية ما ترى مما تتوق النفوس إلى معرفته حتى إن إسحاق بن أبراهيم قال: وهبت للاعرابي الذي أملأها عليّ أربعين درهما لأستحسانه اللفظ لا غير، ولو إن أبراهيم مر بالضب الذي قيل فيه هذا الشعر لتفل عليه أستقذارا له وللذي صاده أيضا. وأخبرنا القاضي أبو المعلي أحمد بن قدامة أجازة عن علي بن الحسن العلوي عن أبى عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني، عن أبي بكر محمد بن يحيى بن العباس الصولي عن أبى بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه إنه أنشد لأعرابي صاد ثعلبا: لله در أبى الحصين لقد بدت ... منه مخايل حولي قُلَّبُ ورد الحبائل وهي صور نحوه ... طمعا لتعلقه ولما ينشب حتى أذا شملت معاطف طرفه ... ارجاؤها بتأمل وتأرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ويداه قاسطتان لما تقدما ... أو تنكصا لورود عزم المنكب صرخت به نفس النجيّ مخافة ... عجل نجاءك فلا تغر فتشعب فأستدبرت إحدى يديه القهقري ... وأقامت الأخرى مقام تهيُّب ونجا وهل ناج من أخطأه الردى ... في البدأ ومن عود الردى المتأوب لم يعد بعد نجائه من ساعة ... ان قام قومه مشرف مترقب وظللت منه بمرتأى من شخصه ... في كل حال أمها أو مذهب متضائلا طورا لدى أستشرافه ... فاذا توهد في مجال أرتبي حتى أطمئن وقام مني حجرة ... بمقام دانٍ للرماية مكتب فنحوته سهمي فأنشب صلبه ... شكا وأي رمية لم أنسب ثم أنثنيت إلى أهيلي ماليا ... كفى معترفا بعيش مخضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ابني أي خطة مزوودة ... صعبت على الطلاب أو لم تصعب الفيتني أثونيت دون طلابها ... فأطلب كذاك تعش كريم المطلب ام أي لجات المهاول لم أجب ... وقرا يخاف ركوبه لم أركب لا أشرئب أذا منيت بنكبة ... فاذا منيت بسبة أشرأب كم ليلة ليلاء ملبسة الدُّجى ... افق السما سريت غير مهيب بسط السحاب بها مديد ظلاله ... فمتى يقل برق له أسكب تسكب فله أبتسام من لوامع برقه ... وله بكاء من ودقة المتصبب متبادر عجل التلاحق صارخ ... بالأرض إن لا علة فأعشوشبي عم الثرى حتى لأبعد ما نأى ... مما دنا من سيله الأقرب 75 - فصبرت حتى أنشق وجه عموده ... عن ضوء صبح مثل لون الأشهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فهذا شعر فصيح اللفظ مستقيم النظم لو قيل مثله في مديح بعض الملوك لكان مستحسنا قاله رجل منهم في صيد ثعلب وأفتخر به وعده منقبة لنفسه وزعم منه لما صاد الثعلب راح إلى أهله مالئا يديه من عيش مخضب وأوصى ولده بان يطلب مثل ذلك مثل ذلك الطلب ليعيش كريم المطلب وليس المعنى المقصود بمستحق لتكلف أضافة كلمة من هذا اللفظ إلى أخر أنما رواه الناس ونقلوه وحفظوه وتداولوه لفصاحته لا لأجل الثعلب وصيده. وأخبرنا القاضي أبو الالمعالي أيضا بالاسناد المذكور عن أبن دريد عن أبى الحسن أحمد بن محمد العبدي البلاذري قال: كنت عند أبى المغيث بشر بن علي العجلي في قرية يقال لهاعم بعمق أنطاكية وكان رئيسا موسرا مثريا ذا مال قد حلب الدهر أشطره ولاقى منه صفاءه وكدره لا يرد عن مطلب ولا عن أرب يتهلل عن السؤال، ويستقل كثير النوال، قد حفه بنوه كالسيوف مضاء، والشموس ضياء والليوث صيالا، والغيوث سجالا، قد رضعوا الحلم وفروا عن العلم صمتهم عن غير عي ونطقهم يستنزل الأعصم الأبي كان أم ذفر مسالمة لمن سالموا مكالمة لمن كالموا، قد أحتوو على البيان، وأنصرفت اليهم الفصاحة يحبون قومهم ويذكرون مأثرهم ويتنادمون بحرب بكر وتغلب، ووقعة ذي قار، فاقبل علينا يوما رجل بدوي كانه ذو زول حبس لم يبق منه الا جلد وعظم وعليه أطمار قد سملت فبقي منها السدا، دون اللحمة وتحت أبطه مزود من مسك ضب، فقال: السلام عليكم ومد بها صوته فقال له العجلي، وعليكم السلام، كن ربعيا، فقال: ربعي والله فقال: وكن عجليا، قال: أو من أخواتها قال: من أي أخواتها، قال: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 حنبفة فقال: سيان عليك عجل وحنيفة. من أين أقبلت؟ قال: من تهامة قال: فعلى أي طريق جئت؟ قال: البر البر، قال: فما كان طعامك؟ قال: البسيس، قال: ما البسيس فاخرج المزود فنكته بحضرت القوم فاذا فيه دقيق شعير قد لُتّ بالسمن؟ قال: كم أكلك من هذا؟ قال: السفّه غدوة ومثلها عند الأصيل، قال: فما خفت السبع؟ قال: أما الليث فمع عدم الرجع لا يكون، قال: فالذئب، قال: قد لقيني واحد وهّم بي، وهممت به، وقتلته وأشتويته وأكلته قال: فهل قلت في ذلك شيء، قال: نعم وأنشد: وليل كان الصبح في أخرياته ... حشاشة نصل ضم أفرنده غمدُ تسربلته والذئب يقظان هاجع ... بعين أبن ليل ما لها بالكرى عهدُ اثير القطا الكدري عن جثماته ... وتالفني فيه الثعالب والربد وأطلس ملء العين يحمل زوره ... وأضلاعه من تحتهن شوى نهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 له ذنب مثل الرشاء يجره ... ومتن كمتن القوس أعوج منأد طواه الطوى حتى أستمر مريره ... فلم يبقَ الا الروح والعظم والجلد يقضقض عصلا في أسرتها الردى ... كقضقضة المقرور أرعده البرد سما لي وبي من شدة الجوع ما به ... ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد كلانا به ذئب يحدث نفسه ... بصاحبه والجد يتعسه الجد عوى ثم أقعى فارتحزت فهجته ... فاقبل منه البرق يتبعه الرعد فاوجرته خرقاء تحسب ريشها ... على كوكب ينقض والليل مسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فما أزداد الا جرأة وصرمة ... وأيقنت إن الأمر منه هو الجد فاتبعتها أخرى فاثبت نصله ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد فخر وقد أوردته منهل الردى ... على ضمأ لو إنه عذب الورد وقمت فجمعت الحصا فاشتويته ... عليه وللرمضاء من تحته وقد ونلت قليلا منه ثم تركته ... وأقلعت عنه وهو منعفر فد فمات وأحياني وقد كنت قبله ... يذل لي ضرغامه الأسد الورد لقد حكمت فينا الليالي بحكمها ... وحكم بنات الدهر ليس لها رد من الحق إن يصلى الكريم بحرها ... ويأخذ منها صفوها القعدد الوغد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ذريني من ضرب القداح على السرى ... فعزمي لا يثنيه نحس ولا سعد 76 - ليعلم من هاب السرى خشية الردى ... بان قضاء الله ليس له رد وإن عشت محمودا فمثلي حوى الغنى ... ليكسب مالا أو يثوب له مجد وإن مت لم أضفر فليس على المرىء ... غدا طالبا الا الترحل والجهد قال ثم رمانا الدهر بسرعة النوى وتشعبنا أيدي سبأ وتفرقنا صدوعاً كانا لم نجتمع جميعاً، فلم أزل في حل وترحال حليف هموم وأوجال، فلما مضى حول لقيت البحتري فنافثته حديثي، وباثثته أمري، وأخبرته الخبر، وأنشدته الشعر فقال: هذه قصيدتي وهي طويلة وعجبت من ذلك ثم دعا أبنه أبا الغوث، فقال جئني بالدفتر الفلاني، فجاءه به فلم يكن فيه شيء فجاءه بأخر فلم يكن فيه شيء، فجاءه بأخر وكانت هذه صفته، فقال: مجنون أذا كان في غدٍ أخرجتها اليك فلما كان من الغد أخرج اليّ دفتراً مكتوبا بخط رطب قد وشر بنشارة خشب مما صنعته أيديهم وأذا به قد حفظها من وقته وسرقها وأدعاها لنفسه وصنع لها أولاً فقال: سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ... اما لكم من هجر أحبابكم بُدَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أأحبابنا قد أنجز البين وعده ... وشيكاً ولم ينجز لنا منكم وعد ومر في القصيدة إلى حيث شاء ثم جاء بالابيات فيها وأثبتها في ديوانه. وروي إنه وجد بالحيرة في دير الاساقف على حائط من حيطانه هذا الشعر: نادمت في الدير بني علقما ... نازعتهم مشموله عندما كانهم المسكة في ظبيها ... اذا مزجناها بماء السما علقم ما بالك لا تأتنا ... اما أشتهيت اليوم إن تنعما من سره العيش ولذاته ... فليجعل الراح له سُلَّما فهل تحت هذا الشعر من المعنى الا إن جماعة أحتجوا على لذتهم وشرابهم وتأخر عنهم نديم لهم أو صديق أو جليس فكتب بعضهم هذا الشعر فنقل إلى اليوم ودون في الكتب. وكم جرى ويجري لاهل عصرنا مثل ذلك فلم يذكر ولم يرد ولم يرو ولم يسطر ولم يكتب على بنية ولا غيرها. وروي أيضاً إن الحيرة أصابها مطر شديد فكشف السيل عن أزج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ظن الناس إن فيه مالاً، فبعث إلى فروة بن أياس بن قبيسة الطائي، وكان على الحيرة وطساسيجها وذلك في أيام عمر فجاء فروة ومعه كاتب له من أهل الانبار من أحذق أهل زمانه ليحصى المال فلما فتح الازج وجد به " 0000 " من ساج، فرفعت فأذا رجل ملقى على ظهره أسود شعر الرأس واللحية " عليه ثياب بيض " وعلى صدره لوح من ساج قد كتب فيه حفراً هذا " 0000نذر " ملك العراق، وما العراق ذات البر؟ والو000 متسق " والجنان والماء الغدق عاش مسروراً محبوراً طعامه " 0000 " وشرابه الخمر، ولباسه في الحر سبائب الكتان، وقي القر الديباج المخوص بالذهب العقيان، ملك وهو أبن أربعين سنة ثم صار صيورة الموت. فهذا الحديث ليس فيه فائدة غير الموعظة وحسن اللفظ، وكم في عصرنا هذا من تاجر أو كاتب أو قائد أو حاجب يلبس الطميم المنسوج بالذهب والثياب الدبيقي ورفيع الرومي والعمائم التميسي المعلمة بالذهب العراقي ويأكل اللحم ويشرب إن شاء الخمر ثم يموت فلا يكتب على قبره مثل ذلك ولا يمخرق له به. وروي إن أبرويز لما نقر صورة فرسه شبداز في الجبل، نقر عنده كتابا ً تفسيره، لا يعجب من جاء بعدنا من تصويرنا هذه الصورة فما " 00000 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الا إن ندل على أننا أذا كنا نحكم الهزل هذا " 0000 " فنحن للجد أشد أحكاما، فما ظنك بقوم يقولون " 0000 " الاشعار ويقصون مثل هذه القصص ويوردون مثل هذه السيرة في صيد الضباب والثعالب والذئاب حتى صار بها المعنى المأنوف منه مأثوراً ومطلوباً، وما هو أهل للاضاعة والنسيان محفوظاً وذكورا وما هو77 أهل للاستقباح مستحسناً. وكيف ترى أشعارهم وقصصهم وأخبارهم وما يأثرونه عن الملوك ويذكرونه من سيرهم ويضمنون مدائحهم إياها من تكبيرهم الامر اليسير، وتعظيمهم الصغير، وتفخيمهم المسعى الحقير يكون. وما ظنك بقوم كانت مذاهبهم وعاداتهم الاهتمام بمثل هذه الاشعار والعناية بها حتى للموتى وقصدهم إن يذكروا بها ويؤثر عنها فيرفعون لذلك ذكرها ويقصدون نشرها ويعتمدون تخليدها وتتطاول عليها الدهور ثم تسمع بها قوم لا يقدرون " 0000 " ما في الفاظها من الفصاحة ولا لهم " 000 " عاد ولا بالاهتمام بنظائرها عناية " فيستطرف0000نها " ويظننونها مما لم يكن له في الزمان نظير ولا في " الد0000 " شبيه فلا يروعنك ما يمر بك من أمثال هذه الاشياء في سيرهم ولا يهولنك ما تسمعه من أشعارهم وأعلم أنهم سلكوا في أحاديثهم كلها هذه المحجة وجروا فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 على هذه القضية ومخرقوا لاولئك الملوك بما لم يبلغوا ودعوا لهم ما لم ينالوا وبعد العهد وعدم العين وعظم لفظة التسمية بالملك يحتل كل دعوى وأعمل على أنك تنعم النظر في حقائق أفعالهم ومساعيهم فانك تستدل بها عل قدر الشرف والفضل فيها كما قال بعضهم: وأعرف بسعي المرء مقداره ... والسعي ينبيك عن الساعي وسندل على فضل ملك العرب سيف الدولة نصره الله تعالى على من تقدم من ملوك العرب " بش0000ساعي " والافعال التي لا يمكن دفعها كما دللنا على فضل فرسان الاسلام على من ذكروه وفضلوه من أولئك الفرسان وعلى عظم أيام المسلمين وحروبهم على ما ذكروه من تلك الحروب والأيام والله الموفق بعونه إن شاء الله. وأول ما نبتدئ به من ذلك ذكر فضلهم عليه في الدين الذي هو أشرف " 000 " وأكرم الانساب وأقوى الاسباب. فضله عليهم في الدين " 000000 " أو حرموها ولو أغفلنا ذكرها لعنيينا بوضوح " 0000كرها " لمقاربه بينهم أو مماثله أو مجانسه " 0000000 " ذكر فضل أو تفضيل وحاشا لله إن نقيس " 000000 " للايمان وعلمه القرآن وأخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 في خير أمة " 00000 " عليه واله وصحبه وسلم بقوم كانوا في جاهلية وضلاله " 00000 " وأنما قصدنا بذكرها أطراف السامع بما كانوا " 00000 " أما النعمان المترهب السائح فانه فعل " فع00000 " نفسه بترك مكانه ولا ندري على أي وجه " كا0000 " ترهب بأصابة وجه الحق الذي أمر الله " نع0000له " عيسى صلى الله عليه فنا لا نقول فيه الا " خي0000 " النصارى على الله ورسوله فأن عبادته " ضايع0000 " أذا كنا لم نعلم حقيقة أمره فنحن نقف عند ذكره. روى أبو جعفر الطبري إن جذيم الابرش الملك كان له صنمان يقال لهما الضيزنين أستسقى بزعمه بهما ويحملهما معه في مغازيه ويستنصر بهما على عدوه وكان نزل ما بين الحيرة إلى هيت من أطراف البر إلى الغمير والقطقطانة وعين التمر وربما نزل أحياناً في بيرين وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ذلك يقول الشاعر: اضحى جذيمة في يبرين منزله ... قد جاء ما ملكت في دهرها عاد وكانت أياد تنزل بعين أباغ وأباغ رجل من العمالقة كان ينزل بتلك العين فكان يغازيهم وكانت طسم وجديس تنزل اليمامة واليمامة أذ ذاك أسماها جو وكان جذيمة يغزو هذه القبائل ويغزونه فغزى أياد مره ومعه صنماه فلما دنى من أرضها بعثوا رجلا منهم فسقى سدنه الصنمين الخمر وسرقوهما فاضحوا بهما 78 في أياد ثم بعثه أياد اليه: إن صنميك أصبحا فينا وزهدا فيك ورغبة فينا فأن أوثقت لنا لا تغزونا أرددناهما اليك. وقد ذكر لجذيمة غلام من لخم ذو وظرف يقال له: عدي بن نصر قال: وعدي بن نصر تدفعونه الي أيضا معهما فقالوا: نعم فانصرف عنهم وضم عدي إلى نفسه. من أي أحوال هذا الملك أعجب من عباد أصنمين وأعتقاده أنهما تنصراه على عدوه وإنه يشفى بهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أمره " 00000 " فتحولت عنه إلى أعدائه " 00000 ". وروى أبو الفرج الاصبهاني إنه كان سبب نزول آل عدي بن زيد بن محروف بن عامر بن عصية بن أمرؤ القيس بن زيد مناة وكان عند عدي بن زيد العبادي أوثاقة للحمالات000000وفسد أمر الحيرة وأبنه عدي بالشام في رسل كسرى فاراد أهل الحيرة أخذها والملك يومئذ المنذر الاخر فقال: لا واللات والعزى لا يوخذ ما كانت يد زيد عليه وأنا أسمع الصوت - وقد ذكر ذلك عدي بن زيد للنعمان بن المنذر في جمله أشعار حين حبسه فقال: وأبوك المرء لم يشنا بهيوم سيم الخسف فينا للخسار هذا من أحوال الجاهليه مما لا يحتاج إلى أقامة دليل عليه. تنصر النعمان وسياحته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقد روي إن النعمان الاصغر كان قد تنصر ونحن نذكر ما جاء في ذلك والذي روي فيه وجهان أحدهما رواه جماعة عن محمد بن الحسن عن أحمد بن عبدون عن أبى طالب الانباري باسناد إلى أبن الكلبي قال: خرج النعمان الاصغر الى00 الصيد في أصحابه ومعه عدي بن زيد العباءي وكانوت قد مروا بشجر فقال عدي للنعمان: أيها الملك أتدري ما تقول هذه الشجرة قال لا قال: تقول وهي رواية أنهم نزلوا تحت أثلة " 00000000000000 " فقال النعمان ما تقول هذه الشجرة ياعدي؟. " 0000 " تقول: رب ركبٍ قد أناخو عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال باباريق عليها قدم ... وجياد الخيل تعدو في الجلال عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذلك الدهر حالاً بعد حالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 قال: ثم مروا بمقبرة فقال له عدي: أيها الملك أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا قال: تقول: ايها الركب المغذون؟ ... على الارض يجدون كما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون فقال النعمان لعدي: إن الشجرة والمقبرة لم تتكلما وقد علمت أنك إنما أردت عظتي فما السبيل الذي ندرك به النجاة؟ فقال: تدع عبادة الاوثان وتدين بدين المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام فتنصر النعمان. والوجه الاخر إن النعمان فيما روي كان قد مرض مرضاً شديداً نحل معه جسمه وأضطرب عقله فمكث كذلك زماناً ثم جاء شمعون بن جابر وقيل سماعه بن جابر أسقف النصارى بالحيرة وكان نسطوريا وكان يصلي عنده ويطلب له الشفاء بزعمه وكان بالحيرة قوم من الهرانيق يعقوبية فأتوه فقالوا له: أيها الملك إن الله سيعافيك بدعاء اليعقوبية فلا تقبل ما يأمرك به شمعون أسقف نسطور فمكث طويلاً على حاله تلك وأستماله شمعون النسطوري وقال له إنك لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 تبرأ حتى تتنصر فمال ليه دون اليعقوبية وقبل قوله وعزم على التنصر ثم خاف كسرى فقال لشمعون إني لا أجسر على ذلك إلا بعد إذن كسرى قال: فاكتب إليه فأستأذنه فعساه أن يأذن لك. فكتب النعمان إلى كسرى يخبره بمرضه ويعلمه بما قيل له من إنه لا يبرأ حتى يتنصر وقال: فاحببت أسصلاع ما عند الملك في ذلك ورأيه فإن أذن لي في ذلك وأختار وأرتضى ما كتب به دخلت فيه وإن أباه كنت أشد إباءً له. وأرسل بالكتاب مع عمرو بن عمرو بن قيس بن الحارث من بني بقيله وكان عاقلاً أديباً وأمره أن يحسن التلطف له عند كسرى في عرضه. فعرض عمرو بن عمرو كتاب النعمان على79 كسرى وأحين التلطف له حتى كتب له الجواب بالاذن. وكتب جوابه له وصل كتابك وفهمت ما ذكرت في حال مرضك وأمراض مختلفة عرضت عليه فإنك لم تجد لمرضك دواء غير الدخول في المعمودي فاستطلعت رأيي وأحببت موافقة هواي لانك لم تحب إن تعمل شيئاً من أمرك إلا عن إذني وحسن موقع ذلك مني إذ كنت قدمت رأيي في دينك فاني أرجو أن تقدمه لذلك في دنياك وقد أذنت لك في الدخول في النصرانية وإن تختار لنفسك ما رضيت من الدين فإن دخولك في النصرانية وغيرها من الاديان المتقرب بها إلى الاله العظيم ليس مما ينقص عندي من منزلتك ولا يغيرك عن حالتك بل ذلك زائد لك عني في الكرامة إذ التمست من الدين ما لم يكن عليه أحد من العرب قبلك وقد أصبت ووفقت فأمض لما تريد فإن لك عندي المزيد. فلما وصل الجواب إلى النعمان بعث من ساعته إلى شمعون فأتاه مثاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 دخل عليه وعرفه أن كسرى قد أذن له ففرح بذلك شمعون ونصارى الحيرة وتباشروا وضرب الناقوس وإجتمع الناس ليشهدوا معموديته فاعمده شمعون وإمرأته وولده وأهل بيته وجماعة من العرب دخلوا في ذلك معه في بيعة كان شمعون بناها في الحيرة تعرف ببيعة الكرسي. وكتب شمعون إلى أيشوع بت الجاثليق يبشره بدخول النعمان في النصرانية. وكتب النعمان مع كتابه كتاباً يخبره بنتصره ويسأل أن يصلي عليه ويدعو له ويكتبه ليتبرك بكتبه فسر الجاثليق بذلك وكتب إليه جواباص نسخته: إلى أخينا حبيب المسيح الحديث النعمان بن المنذر الملك المذكور بالخبر والامانة الصحيحة بدين المسيح من أيشوع بت الجاثليق سلام المسيح يكون معك دهر الداهرين آمين وصل كتابك تذكر فيه علتك وسبب دخولك في دين المسيح على يدي شمعون أسقف الحيرة الطهر المبارك وقد وفقت وأحسنت في دخولك في حظيرة المسيح مخلصاً أنت وولدك وأهل بيتك وغيرهم من العرب وإنك تقربت من فخر المسيح ودينه ففرحت بذلك فرحاً ما فرحت مثله منذ جلست على كرسي البيعة وسألت لك المسيح طول البقاء والعافية وأن لا يريك مكروهاً ما بقيت وأنا واثق من المسيح أنه سيفعل ذلك بك فأما ما سألت من الصلاة عليك فأعلم أني أفعل ذلك ليلاً ونهاراً. فأشتد مرض النعمان فذكر له أسقف بالموصل أسمه سبريشوع وقال له النصارى: إن دعا لك شفيت فكتب إلى كسرى يسأله أن يكتب إلى سبريشوع بالقدوم عليه فكتب كسرى إلى سبريشوع يأمره بذلك فقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 سبريشوع إلى النعمان فلما دخل عليه قال له: أرحمني وأطلب لي الشفاء من المسيح فقد بلغني إنك لا تطلب منه شيئاً إلا أعطاكه. قالت النصارى بزعمهم فدخل سبر يشوع البيعة فسجد قدام المذبح وتخشع وسأل وخرج رجل آخر كان معه فحل زناره ونزع خفيه وقام على فرد رجل مستقبلاً للشمس في يوم من آب شديد الحر وحلف للمسيح إني لا أزال على حالتي هذه حتى تشفي النعمان بن المنذر ملك العرب من الشيطان الذي يعذبه. قالوا: فخرج الشيطان من النعمان بصيحة شديدة تشقق منها قصره وبرأ النعمان وكسر الاصنام. فتنكرت له العرب عند ذلك. وكان فيمن تنصر معه من أهل بيته أختاه هند وماوية إبتنا المنذر فاشتد رأيهما في النصرانيه حتى سألتا شمعون بن جابر الاسقف أن يكتب إلى الجاثليق أيشوع بنت بأن يهب لهما جسده إذا هلك فكتب إليه أيشوع بت في ذلك فشفعهما وأوصى بان جسده إذا أستباح لهما لا يحل لاحد منعهما منه وحرمه على غيرهما وكتب لهما كتاباً بذلك ولما أستباح بعث شمعون فحمله من بيعة الجاثليق إلى الحيرة فدفعه اليهما فدفنتاه عندهما في دير هند وهذا الدير معروف بالحيرة إلى اليوم تبركاً به وليدخلا بشفاعته. فلما ترك النعمان عبادة الاوثان دخل في مثل هذا فليعجب السامع من ذلك وأمثاله من هذه التخايل. فأما من كان من ملوك كندة بنجد إلى هجر وغيرها من أرض العرب فكانوا جاهلية يعبدون الاصنام أيضاً. وروي أن قيس بن معدي 80 كرب أبا الاشعث بن قيس كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يهودي فأما آل جفنه فإنهم لما عملوا لقياصرة الشام دخلوا في دينهم وعلقوا الصلبان وعظموها ورفعوها على راياتهم قال النابغة الذبياني في مدح أحدهم: ظلت أقاطيع أبالي مؤبلة ... لذي صليب على الزوراء منصوب وكانوا جميعاً كذلك إلى أن ظهر الاسلام على الكل بحمد الله تعالى. فكيف يقاس قوم كانت هذه أديانهم بملك العرب سيف الدولة والله سبحانه يقول (أم حسب الذين أجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) ويقول عز وجل: (ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) . فضله عليهم في النسب وفضله عليهم في النسب ظاهر أيضاً لأن الله سبحانه أخرجه من ذرية أبراهيم وسلالة أسماعيل صلى الله عليهما وسيأتي ذكر فضل هذا النسب مستوي الشرح وليس لهم مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ملوك الازد اما الملوك الثلاثة الازديون وهم جذيمة بن مالك الابرش وأبوه مالك وعمه عمرو أبنا فهم فإنهم نسبوا في الأزد، فقيل جذيمة بن مالك الأبرش وأبوه مالك وعمه عمرو أبنا فهم فإنهم نسبوا في الازد، فقيل جذيمة بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ بن يخشب بن يعرب بن قحطان. ونسبوا في قضاعة أيضاً، فقيل جذيمة بن مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عامر بن الحاف بن قضاعة. وذكر البطري عن أبن الكلبي أنه دفع ذلك فلم ينسبهم في هؤلاء ولا هؤلاء، وقال جذيمة الأبرش من العرب العاربة من ولد وبار بن أميم بن لاوذ بن حسام بن نوح صلى الله عليه. وأما أوس بن قلام فأن نسبه إلى بني لحيان من بني الحارث بن كعب وقيل إن بني لحيان الذين كانوا بالحيرة وهم رهطه ليسوا من بني الحارث بن كعب وأنما كانوا قوما من بقايا جرهم. وقال أخرون: أوس بن قلام من الاوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أخوه الخزرج وقيل بل هو من بقايا العمالقة من ولد فاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وجاء في نسب آل نصر من الخلف ما يجري هذا المجرى. فما روي في ذلك إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 جذيمة الملك الابرش لما دفعت اليه أياد الغلام الذي كان وصف له عندهم فطلبه منهم وهو عدي بن نصر مع صنميه لما سرقوهما منه وأوهموه أنهما سخطا عليه فتحولا عنه وقد تقدم ذكر ذلك أحب وقربه وولاه شرابه وزوجه أخته رقاش على الوجه الذي تقد ذكره وحملت منه بعمرو بن عدي وهو عمرو ذو الطوق الذي روى إن الجن أختطفته صبياً ثم ظفر به نديمها القضاعيان فحملاه اليه وصار الملك له بعد هلاك خاله جذيمه ووالده من بعده إلى النعمان الاصغر فروي في نسبه إنه عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نماره بن لجم بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقيل أسو لخم مالك وقيل عمرو وقيل في عمم إنه أسمه عدي وأنما سمي عمم لانه أول من أعتم بالعمائم. وهو أحد الوجوه المرويه عن نسب آل نصر وفي سبب أنتقال الملك اليهم وجه أخر وهو أقوى الوجوه وروي في نسبهم وسبب أنتقال الملك اليهم قيل إن جدهم نصر بن ربيعة أو ربيعة بن نصر إنه كان ملكاً باليمن وكان قد ملك بعد تبع أسعد أبى كرب بن كلكي كرب بن زيد وهو تبع الاول بن عمرو ذي الاذعار فرأى رؤيا هالته فجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 حزاته فسألهم فقالوا له: أيها الملك أقصص غلينا رؤياك نخبرك بتأويلها فقال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى أخباركم عنها لانه لايصيب بتأويلها الا الذي يخبرني بها. فقال رجل منهم إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق الكاهنين فأنهما يخبرانه وكان سطيح يطوى من بدء رجليه إلى رأسه ليس فيه عظم سوى 81 رأسه فلذلك سمي سطيحأ كذا روي والله أعلم فحمل اليه على وضمة فوضع بين يديه فتعجب من خلقه ثم سأله عن الرؤيا فقال نعم أيها الملك رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة بين روضة وأكمه فأكل كل ذي نسمة. فقال: صدقت فما تأويل ذلك؟ فقال: أحلف بما بين أبين إلى منزل فرش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك: وأبيك أنها لغائظة مموجعة فمتى ذلك؟ أكائن في زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بستين سنة أو سبعين تمضين من السنين ثم يقتلون فيها أجمعين أو يخرجون منها هاربين قال: فمن يلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قتلهم وأخراجهم قال: غلام من آل ذي يزن يخرج من أرض عدن فلا يدع أحد منهم باليمن قال: فيدوم ملك هذا اليماني أم ينقطع؟ قال بل ينقطع قال من يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتي بالوحي والنور الجلي من عند العلي قال: وممن يكون هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى أخر الدهر فقال ويحك يا سطيح وهل للدهر من أخر؟ قال نعم ذاك يوم يجمع فيه الاولون والاخرون فيسعد المحسنون ويشقى المسيئون قال: أحقاً ما تقول يا سطيح؟ فقال: أي والشفق والغسق والفلق إن الذي نبأتك به لحق. ثم حمل سطيح فأخرج من عند الملك وأدخل اليه شق بن صعب وروي والله أعلم إنه كان بفرد عين وفرد أذن وفرد يد وفرد رجل يحجل حجلاً فلذلك سمي شقاً لانه شق أنسان فسأله عن الرؤيا فقال نعم أيها الملك أحلف بما بين أبين إلى نجران ليهبطن أرضكم السودان فليملكن ما بين أبين إلى الحزان قال: يا شق أفي زماني يكون ذلك أم بعده؟ فقال: بل بعده بزمان ثم يقتلهم عظيم ذو شأن يذيقهم الذل والهوان قال: ومن هو؟ قال: غلام من عرانين باليمن من آل ذي أصبح أو ذي يزن يخرج من أرض عدن يطلب الترات والاحن قال: فيدوم ملكه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع قال: من يقطعه يا شق؟ قال: يقطعه نبي مرسل عربي مفضل مضري مبجل يأتي بالحق والعدل إلى أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وأم يوم الفصل؟ قال: يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 يدعى فيه من السماء، بدعوات فيسمع الاحياء والاموات، ويجمع الناس لميقات يكون فيه لمن أتقى الفوز والخيرات، قال: أحقا ما تقول؟ قال ورب السماء والارض وما بينهما من طول وعرض ورفع وخفض إنه لحق مقضي وأمر ممضي. فأجازهما وحملهما إلى بلادهما ووقع في قلبه إن الذي قالا سيكون فجهز ولده ولهل بيته إلى العراق وكتب لهم إلى سابور بن بهمن ملك الفرس كتاباً يسأله حفظهم فأسكنهم سابور بالحيره وكانوا بها وأستعملهم سابور ومن كان بعده من ملوك الفرس على العرب وكان أخرهم النعمان بن المنذر الاصغر فهذا ما جاء في روايه أخرى والله سبحانه أعلم. وروي في نسبهم وجه أخر قيل أنهم من ولد قنص بن معد بن عدنان أخي نزار بن معد أخبرنا محمد بن هبة الله عن جعفر عن أبى يعلى محمد بن الحسن الجعفري عن علي بن الحسن العلوي عن محمد بن عمران بن موسى المرزباني عن أحمد بن سليمان الطوسي عن الزبير بن بكر عن عمر بن أبى بكر المؤملي عن عثمان بن أبى سليمان عن عمر بن الخطاب: إنه لما أتي بسيف النعمان بن المنذر قال لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل لن عبد مناف وكان من علماء قريش بالنسب إلى من كنتم تنسبون النعمان بن المنذر؟ فقال: إلى قنص بن معد فسلمه عمر السيف وقال أخرون: جدهم نصر بن الساطرون بن أسطيرون جرمقاني من أهل الموصل من رستاق يدعى باجرمي وممن ذكر ذلك أبو عبيدة ولهذا السبب قال طرفة بن العبد البكري لعمر بم هند في الابيات التي هجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بها وقد تقدم ذكرها: ابا الجرامق ترجو إن تدين لكم ... يا أبن الشديخ ضياعاً بين أجباخ وقال أبو عبيدة: الرواة لا يقيمون لنسب الملوك فجاء في أنسابهم مثل هذا الاختلاف الظاهر المتباين والطعن الفاحش المتباعد ولو 82 سلمت أنسابهم من هذه المطاعن حتى تبلغ قحطان لاعترضها هناك من الخلف ما فيه مقنع لان قحطان نسب نسبين فقيل: قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام وهذا الوجه الذي يقوله أكثر اليمن وعليه يعملون وقال العلماء بالنسب القوم حيث نسبوا أنفسهم. والنسب الاخر قيل: هو قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن أسماعيل بن أبراهيم عليهما السلام وبعض أهل اليمن يقول ذلك. وقال بعض العلماء هذا هو الثبت. وروى أحمد بن جمهور عن أبيه عن أبراهيم بن المنذر عن رجل عن أبن أخي أبن شهاب الزهري عن عمه قال: مر رسول الله (بفتية من الانصار فقال: " أرموا يا بني أسماعيل فأن أباكم كان رامياً وإن مع بني الادرع " فالقت الفئة الاخرى قسيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وقالوا كيف نراميهم وأنت معهم يا رسول الله؟ فقال (: " ارموا وأنا معكم جميعا " فأحسنوا الرمي يومئذ وما فضل أحد منهم صاحبه. وروي أيضا عن أبيه أبراهيم بن المنذر عن عبد الله بن وهب المضري عن أبى لهيعة عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم إن رسول الله (لما قدم عليه الأشعريون من اليمن في السفينة إلى مكة وقد أوحي اليهم لا تهاجر حتى يقدموا قال لهم: " انتم مهاجرة اليمن من بني أسماعيل " وذكر تمام الحديث وهو خارج عن المقصود ها هنا فان سلمت أسانيد هذه الأحاديث عن النبي (فلا حكم لغيرها ولا تأثير لسواها وقد ثبت نسب القوم إلى أسماعيل عليه السلام والله تعالى ورسوله أعلم. وأخبرنا محمد بن هبة الله بن جعفر عن أبى يعلى محمد بن الحسن عن علي بن الحسن العلوي عن المزرباني عن أحمد بن سليمان الطوسي عن الزبير بن بكار المؤملي عن عبد الرحمن بن أبى زياد عن أبيه قال: أستب أبن صياد وأبن حزم فقال أبن حزم لإبن صياد: لستم منا فقال أبن صياد لإبن حزم: وأنتم لستم من العرب فكتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى الوليد بن عبد الملك وهو الخليفة يومئذ فكتب اليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الوليد إن سل أبن حزم فان زعم إنه من ولد أسماعيل فحد له أبن صياد وإن أنكر ذلك فلا تعرض لإبن صياد فإنا لا نعلم عربيا ال من ولد أسماعيل عليه السلام وروي لسويد بن الصامت: انا أبن مزيقا الملك عمرو ... وجدي عامر ماء السماء إلى نبت أبن أسماعيل أنمى ... وينميني إلى جد الملاء وقال حسان بن ثابت: اما سألت فانا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والجد غسان وبيت نبت أبن أسماعيل محتدنا ... مجد رفيع وأساس وأركان وأكثر أهل اليمن يقولون أبونا قحطان بن عابر ومنا جرهم بن عابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 تزوج اليهم أسماعيل فأبونا أقدم من أسماعيل بن أبراهيم عليهما السلام. ويقولون عابر هو هود النبي عليه السلام وهود معروف النسب في عاد وقيل هو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام. وقال الله عز وجل (وإلى عاد أخاهم هودا) وليس وراء هذا الدليل وكان أبو تمام رحمه الله عالما بالنسب وقد قال في مديحه لأحمد بن داود: هيهات منها روضة محمودة ... حتى تناخ بأحمد المحمود بمعرس العرب الذي وجدت به ... امن المروع ونجدة المنجود حلت عرى أثقالها وهمومها ... ابناء أسماعيل فيه وهود فجاء في نسب قحطان من الخلف ما نرى وبعد العهود وتقادم الدهور يقتضي ذلك ومثله وعلى المجهين جميعا فالفضل لولد عدنان على ولد قحطان لأن ولد قحطان إن لم يكونوا من ولد أسماعيل عليه السلام فقد فاتهم ولد عدنان بفضل أبراهيم وأسماعيل صلى الله عليهما وإن كانوا من ولد أسماعيل فلولد عدنان عليه فضل المستيقن أمره على المشكوك فيه فجاء في أنسابهم من الأختلاف أولا وأخرا ما ذكرناه من التجاذب أصلا وفرعا ما أوضحناه. على إنه صح قول من قال إن جدهم نصر بن الساطرون 83 أسطرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 جرمقاني من أهل الموصل من رستاق باجرما على ما ذكره بعض العلماء وشهد به شعر طرفة وكانوا قد أستحدثوا في أيام ملكهم هذا النسب اللخمي وهم في أستحداثهم ذلك كما قال عمرو بن الهذيل: ولا تستوي أحساب قوم توورثت ... قدما وأحساب نبتن مع البقل على لنه قد علق بهم من قبل الأمهات أيضاً ما لم يعدموا منه دنسا وذكر سيئا فمن ذلك ما تقدم ذكره من حديث رقاش بنت مالك أخت جذيمة الأبرش خوفا إن يقتله وحملها منه بعمرو بن عدي وقد تقدم ذكر ذلك. حديث ماء السماء ومن ذلك حديث ماء السماء أم المنذر بن أمرئ القيس وهو المنذر الأكبر ذو القرنين وبها يعرف على الأكثر فلا يقال عند ذكره المنذر بن ماء السماء وربما قيل ذلك لولده أيضا وهي من أعظم مفاخرهم والأسماء الرائعة المستغربة التي يستعظمها من يسمع بها عنهم ويعدها من مناقبهم ويضرب بهم المثل فيها يقال: كأنه أبن ماء السماء وكأنك أبن ماء السماء قال الحارث بن حزة اليشكري: فعبرنا دهرا كذلك حتى ... ملك المنذر بن ماء السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقال قيس بن زهير العبسي لحذيفة بن بدر الفزاري: كأن أباك أبن ماء السماء ... أو الملك المتقى تبع وهي ماوية بنت عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن نمر بن قاسط، وأنما سميت ماء السماء لفرط جمالها. وكان من حديثها إن أمرئ القيس بن النعمان بن أمرئ القيس بن عمرو بن أمرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر كان كثير الاغارة على بكر بن وائل، وكانت الحروب بينه وبينهم متواترة متصلة، وكانت النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى واللبوء بن عبد القيس بن أفصى كانوا جميعا أخوة لأم واحدة، وهي هند بنت تميم بن مر، وأنتشرت منهم قبائل يجمع بينهم الجد وهو أفصى بن دعمى بن جديله بن أسد بن ربيعة بن نزار، والاخوة من قبل الأم، وكانوا لا يزالون متجاورين الا تغلب فأن الذي حدث بينهم وبين أخوتهم بكر بن وائل في حرب الناب باعدهم عنهم، فاغار أمرؤ القيس بن النعمان مرة على بكر بن وائل، وهم والنمر بن قاسط متجاورون في الدار فاصاب غنائم وأسر أسرى، وسبى عدة من السبايا فيهن ماء السماء، وهي ماوية بنت عوف بنت جشم النمري وكانت تحت أبن عمها أبى حوط بن وهب بن زيد مناة بن عامر الضحيان، وأسم أبى حوط الحارث، فاعجب بها أمرؤ القيس فاخذها لنفسه وهويها وهويته، ووفد بعلها عليه ليسأله ردها، وقد جمع الاسرى في حظائر وجمع لهم حطباً ليحرقهم فكلمه فيها، فقال له: أمض اليها فان أختارتك فهي لك ثقةً منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بحبها أياه، وانها لا تختار بعلها عليه، فجاءها أبو حوط فاخبرها، فقالت له: إنه ليس برادي عليك، فلا تطلب منه ما لا يعطيك فاني أعرف وجده بي، وشدة حبه لي، فعد اليه فقل أنها قد أختارت أطيبنا مرقاً، وأعطرنا عرقا، وأطلب منه ما شئت، فانه معطكيه فعاد اليه، فقال له: ما قالت، فاعجبه، وقال لن تطلب اليوم مني شيئاً الا أعطيتك. قال: أسرى قومي، قال: هم لك، فجاءهم أبو حوط فاخرجهم من الحظائر وأنصرف بهم فسمي أبو حوط بذلك الحظائر، ومدح بذلك هو ورهطه، ففيهم يقول رجل من بكر بن وائل: من لا مني من بعد دهر وحقبة ... اجاورها في آل سعد فلم يصب هم رفدونا يوم نعف قرى قروهم ... انقذوا قومي من النار والحطب فهذا حديث ماء السماء التي يضرب بها المثل ولا يعلم ما هي. وأي فرق بين تسمية المرأة بماء السماء وقطر الندى، فكم قد سمعنا بأمرأة أسمها قطر الندى لم يذكر ولا يستحسن أسمها ولا يستغرب ولا له تلك النباهة ولا مثل ذلك الحظ في الاسماع من العذوبه والحلاوة. منهم قطر الندى بنت خماروية بن طولون أبوها ملك مصر وزوجها أمير المؤمنين المعتضد 84 كان في قهرماناتها وجواريها من لعلها تفوق ماء السماء حسناً وجمالاً ونعمة وحالاً لم ينشد بأسمها شاعر، ولا ذكرها ذاكر ثم أنهم لقدرتهم على التفنن في الفصاحة والتصرف في البلاغة، لم يقنعوا لهم بالتسمية ببني ماء السماء ولا أقتصروا بهم على ذلك حتى أشتقوا لهم أسماء أخر من جنسة وأستعاروا معناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فيما مدحوهم به، فقالوا: أبن ماء المزن أيضاً. اخبرنا محمد بن هبة الله بن جعفر أجازة عن محمد بن الحسن بن علي عن علي بن الحسين العلوي عن المرزباني عن الصولي عن أبن دريد عن عمه عن أبيه عن هشام بن محمد السائب الكلبي عن أبيه قال: كان عبد الجن بن أعيا بن الحارث بن معاوية الكندي جد أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل سيداً حليماً جواداً، رحالاً إلى الملوك، فكاكاً للاسرى، وكان خطيباً مصلقاً. وشاعراً مفلقاً، فاغار ميسر للمنذر بن أمرئ القيس جد النعمان بن المنذر، وهو المنذر بن ماء السماء على بني يربوع، فاستخف نعما وسبياً، وأسر رجالاً منهم رجلان من بني قادح النار من كندة كانا في بني يربوع، فطال عناء الكنديين، ولم يكن لهما إلى الملك وسيلة ولا بالحيرة فضيلة، فلما طال عليهما البلاء قال رجل منهم شعراً حمله بعض المختلفين إلى الحيرة من أهل دومة الجندل وهو: إلى الله أشكوا لا إلى الناس نكبة ... رمانا بها صرف الزمان فاوجعا عناة يعنينا الحديد ودوننا ... اشم الذرئ صعب على من تطلعا وأخضر صراف على جنباته ... صفائح أيدي القين فيهن أصبعا يقول لنا السجان أذ طال حبسنا ... ونحن من الحداد مرأى ومسمعا اما لكما فيمن يرى الله وافد ... يسوق فداء أو يقول فينفعنا فقالنا أبن أعيا لا نؤمَّل غيره ... فقال فاياه فنادوا ليسمعا فذاك أمرؤ جم العوارف ماجد ... وأحر به إن لا يخيب من دعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فادى الرجل الشعر إلى عبد الجن بن أعيا فلما وقف عليه وفد على الملك، فاستأذن فأذن له وقربه، وأدناه وسأله عن حاجته، فقال: أبيت اللعن. أمالنا لديك محطوطة وأرحامنا بك منوطة، ولا نتوسل اليك الا بك، ولا نميل عنك الا اليك، وفي أكبالك رجلان من قومي نأت دراهما، وطال أسارهما ولهما من الملك أرحام يحب بلالها، وأسباب يحق عليه وصالها، والقوم براء من الفرقة، وغيرهم أهل للفرحة، فلينظر الملك لهم بعين رأفة يحل بها أرباقهم ويفك بها أعناقهم ويمن على قومهم بهم، فقال الملك: قد أسعفناك مطلوبك وأنلناك محبوبك فاقم باكرم مثوى، وأرحل بأجزل حباء، ثم قال له: يا أبن أعيا أخبرني عن قومك، فأني لا أسائل أعلم بهم منك، فقال: سل أيها الملك، قال: ما تقول في بني معاوية؟ قال: ملوك أقيال، جحاجحة أزوال، وأنجاد أبطال، على إن فيهم بأوا على العشيرة وأعتداداً بالحقيرة، ونقضاً لمحكم المريرة، فقال: لله أبوك هدمت ما بنيت، فالسكاسك ما تقول فيهم؟ قال: دراكون للاوغام، نقاضون للابرام، ضرابون للهام، فراجون رتاج القيام، أذا كشر الحمام على إن فيهم، أنقباضاً عن أداء الحقوق وخذلاً لابن العم المرهوق. فقال الملك: لعقة أرى مقطوبة بشري، فاخبرني عن السكون؟ فقال: خواضو قحم المنون أذا أقمطرة الحرب الزبون، معانقو عقل الانوف أذا أثخنت السيوف، وتضعضعت الصفوف لولا شراسة فيهم مقشعرة، وأخلاق مسمهرة لحلوا بين القطب والمجرة. فقال الملك: أنضجت ثم رمدت وأطلق له الاسرى وأحسن حباه فانصرف وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الا هل أتى قومي على النأي أنني ... تداركت مسعوداً وعمرو أبن مالك وخضت اليهم مصلتا عزم همتي ... وما زلت خواضاً غمار المهالك وسانيت ذا التاج الهمام وقد طغت ... به حفظة مثل الهرير المبارك ورافيته حتى أرفأن وأنه ... ليغلف عن كالبارق المتدارك سانيته: ساهلته، ورافيته: خضعت له، وأرفأن: سكن. فاطلق لي الاسرى التي في صفاده ... وبوأني دعما عراض المبارك 85 - مهاريس مثل القور غلبا كانما ... تجاب اليها صافنات الدرانك فدى لإبن ماء المزن ولدي وأمرتي ... ونفسي ومالي من غريب ورامكٍ وذكر أبو عبيدة في بعض الروايات: إن المنذر بن ماء السماء هذا بعينه أبرز سريره أمام سرادقه بالحيرة، وعنده وفود العرب، وأمر بحلتين من حلل كسرى كان كساه أياهما، فوضعتا عليه ثم قال: يقم أعز العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قبيلة، وأكثرهم عددا، وأطوعهم لا في أهل بيته، وأقواهم في نفسه فليأخذ هاتين الحلتين. فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فاخذهما، فتأزر بواحدة، وأرتدى الأخرى، ثم قال: إن العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في خندف، ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدله، فمن أنكر ذلك فلينافرني. فسكت الناس، فقال له الملك: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وبدنك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعم عشر وخال عشر، وفي رواية أبو عشر واخو عشر وعم عشرة وخال عشرة، تعينني الأكابر إلى الأصاغر، والأصاغر إلى الأكابر، وما قولك كيف أنت في بدنك، فشاهد العز شاهدي، ووضع قدمه على الأرض، وقال من أزالها عن موضعها فله مائة من الأبل، وهو أحق مني بهاذين البردين، فلم يقم اليه أحد. فذهب بهما في ذلك يقو الزبرقان بن بدر السعدي: وبردا أبن ماء المزني عمي أكتساهما ... بعز معد حين عدت محاصله وإن كرام الناس أولاهم به ... ولم يجدوا في عزهم من يعادله فاذا نظر ناظر في حديث ما السماء وجده من المثالب، وأذا ما سمع هذه الأشعار وأمثالها رآها من المناقب، وليس السبب في ذلك الا فصاحتهم وحسن الفاظهم التي يخرجون الشي بها عن كيفيته، وينقلونه إلى ضد صفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فمن لنا باللحاق بهم في ذلك وأمثاله. وكانت أم النعمان الأصغر سبية من أهل فدك، وهي سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ اليهودي، سباها الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبي المعوف بالحرشا، كانت له جعالة على أهل فدك فدفعوه عنها، فاغار عليهم فاصاب وائل بن عطية اليهودي الصائغ ومعه أمرأته الشقيقة، وكانت يهمدية وأربة بنات له: ماوية ونجوه وعقاب وسلمى فكن عنده، ومر به المنذر الأصغر قافلا من بعض غزواته الشام، فنزل به فنحر له جزورا وضرب عليه قبة من أدم، وأرسل اليه سلمى، فقال: أذهبي فادهني رأسه، فلما دخلت عليه واقعها فخرجت تبكي، فقال لها الحارث: مالك قالت: فضحني ضيفك، فدخل الحارث على المنذر مصلتا، فالتمع لون المنذر، وقال له: ما شأنك قال: فضحتني في كلب، قال: فضحتك إن تزوجت قينتك! فتزوجها وأرتحل بها من عنده، فولدت له النعمان، فلما هلك المنذر رجعت إلى كلب فكانت فيهم، فتزوجها رومانس بن معقل بن مجاشن بن عمرو بن عبد ود بن عوف الكلبي من رهط أسامة بن زيد الحب رضي الله عنهما، فولدت لرومانس وبره بن رومانس فوبرة أخو النعمان بن المنذر لأمه وقد هجي النعمان وأهل بيته فذكر ذلك في هجائهم فقيل: خبروني بني الشقيقة ما يم ... نع فقعا بقرقرة إن يزولا جمع من نوافل الناس سبيا ... وحميرا موسومة وخيولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لا أرى زاجرا عن الفحش فيكم ... بل حماراً عن أهله مشغولا قبح الله من ثنى بلعن ... وارث الصانع الجبان الجهولا من يضر الأدنى ويعجز عن ض ... ر الأعادي ومن يخون الخيلا يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو قتيلا قد رأينا مكان أمك أذ تم ... نع من درة اللقوح الفصيلا وهذه الأبيات يقال أنها للنابغة الذبياني من قصيدة هجا بها النعمان لما خافه فهرب منه إلى ملوك غسان بالشام فكان عندهم زمانا، وقد نسبة إلى عبد قيس بن خفاف البرجمي، والى مرة بن ربيعة بن قريح السعدي، وحملها بعضهم على بعض. خبر الذبيحين فكيف تقام أنساب 86 هؤلاء على ما ترى فيها من العجائب بنسب يرجع إلى أبراهيم، وهو خيرة الله من خلقه، وإلى أسماعيل وهو أكبر ولده به كانت البشارة الأولى، وهو الذبيح بالدليل القاهر الذي لا يمكن دفعه، وإن كان قد قيل إن الذبيح إسحاق عليهم السلام جميعا. وجاء في ذلك روايات، فما روي في ذلك إن أبراهيم عليه السلام لما أذن للناس بالحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أجابه من يحج إلى يوم القيامة وكان أول من أجابه أهل اليمن ثم إنه حج هو وأهله وولده فمن زعم إن إسحاق هو الذبيح، فمن هاهنا كان ذبحه. فلما كان يوم التروية، قال له جبريل عليه السلام: تروه من الماء فسمية التروية ثم أتى به منى فأبانه بها، ثم غدا به إلى عرفات، فضرب خباءه بنمره دون عرفه، فبنا بها مسجد أبراهيم عليه السلام حتى أدخل في هذا المسجد الذي بنمرة حتى يصلي الأمام يوم عرفة، فصلى بها الظهر والعصر ثم غدا إلى عرفات، فقال: هذه عرفات فاعرفها فسميت عرفة، ثم أفاض إلى المزدلفة لانه أزدلف به، ثم قام إلى المشعر الحرام، فامره الله إن يذبح أبنه وقد رأى فيه شمائله وأخلاقه، وأسر ما كان اليه. فلما أصبح أفاظ من المشعر إلى منى، فقال لأمه: زوري البيت وأحتبسي الغلام. فقال: يا بني هات الحمار والسكين حتى نقرب القربان. قال صاحب الحديث: قالت للرامي ما عني بالحمار والسكين، قال: أراد إن يذبحه ثم يحمله فيجهزه ويدفنه. قال: وجاء الغلام بالحمار والسكين وقال: يا أبة أين القربان؟ قال: ربك يعلم أين هو يا بني أنت والله هو، إن الله قد أمرني بذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: (يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) قال: فلما عزم على الذبح قال له: يا أبت خمر وجهي وشد وثاقي. فقال: يا بني الوثاق مع الذبح لا والله لا أجمعهما عليك اليوم. قال: فطرح له قرطان الحمار ثم أضجعه اليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه، فاقبل شيخ فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد إن أذبحه، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 سبحانه الله غلام لم يعص الله طرفة عين تذبحه!. قال: نعم إن الله قد أمرني بذبحه، فقال بالربك ينهاك عن ذبحه، وأنما أمرك بهذا الشيطان في منامك، قال: ويلك! إن الكلام الذي سمعت هو الكلام الذي بلغ مني، لا والله لا أكلمك ثم عزم على الذبح. قال فقال الشيخ، يا أبراهيم أنك أمام إن ذبحت ذبح الناس، فمهلا، فأبى إن يكلمه، فقال: فاضجعه عند الجمرة الوسطى ثم أخذ المدية، فوضعها على حلقه، فنظر أبراهيم فإذا هي مقلوبة فقلبها أبراهيم على حدها، وقلبها جبريل على قفاها، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم نودي من ميسرة مسجد الخيف، (أن يا أبراهيم قد صدقت الرؤيا) . وأجتر الغلام من تحته، وتناول جبريل عليهم السلام الكبش من قبل ثبير فوضعه تحته فذبحه من تحته. قال صاحب الرواية: وخرج الشيخ حتى لحق العجوز حين نظرة إلى البيت والبيت في وسط الوادي، فقال: ما شيخ رأيته بمنى؟ قالت ذاك بعلي، قال: فما وصيف ما رأيته معه ونعت لها نعتة، قالت: ذاك أبني قال: فاني قد رأيته قد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه، قالت: كلا إن أبراهيم يرحم الناس، فكيف يذبح أبنه؟! قال: فورب السماء والأرض ورب هذه البنية قد رأيته وأخذ المدية ليذبحه. قالت: ولم؟ قال: زعم إن ربه أمره بذبحه قالت: فحق له إن يطيع ربه، قال: فلما قضت نسكها وفرقت إن يكن نزل في أبنها شيء، قال: فكاني أنظر اليهما مسرعة في الوادي، واضعة يداها على رأسها وهي تقول: يا رب لا تأخذني بما عملت بأم أسماعيل، قال: فلما جاءت سارة وأخبرة الخبر، قامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 إلى أبنها تنظر فاذا أثر السكين خدش في حلقه، ففزعة وأشتكت، وكان بدأ مرضها الذي هلكت به. فأما من روى إن أسماعيل عليه السلام هو الذبيح فانه قال: إن أبراهيم عليه السلام لما خرج باسماعيل وأمه مهاجرا إلى مكة، كان معه جبريل عليه السلام، فكان لا يمر بقرية الا قال: أهذه يا جبريل فيقول له جبريل: أمضه حتى قدم مكة وهي أذا ذاك سلم وسمر وحولها أناس من العماليق، والبيت يومئذ ربة حمراء مدورة فقال أبراهيم لجبريل عليهما السلام: أها هنا أمرت إن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد اليهما إلى موضع الحجر فانزلهما فيه، وأمر هاجر إن تتخذ فيه عريشا وأنصرف يريد الشام، فقالت له: إلى من تكلنا لا طعام ولا 87 شراب؟ فلم يجبها بشيء فقالت أربك أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت أنطلق فانه لا يضيعنا فلما أستوى على ثنية كدي، أقبل على الوادي، فقال: (ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) الذي قصه الله سبحانه في كتابه، ثم مضى وكان مع هاجر شنة فيها ماء فنفذ فعطشت فانقطع " 00000فعطش " أسماعيل فصعدت إلى الصفا فلم تر شيئاً، فانحدرت فسعت وما تريد السعي بل هي كالأنسان المجهود حتى أتت المروة وهي تقول: يا أسماعيل مت حيث لا أراك. ثم تسمعة فسمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 صوتا فقالت كالأنسان الذي يكذب سمعه صه حتى أستيقنت الصوت فقالت: قد أسمعتني صوتك فاغثني، فقد هلكت وهلك من معي. فروي إن جبريل عليه السلام بادأها فقال: من أنت؟ فقالت: إن هاجر أم ولد أبراهيم، فقال إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله عز وجل فقال: وكاكما إلى كاف، وجاء بها حتى أنتها إلى موضع زمزم، وأسماعيل يفحص برجليه من شدة العطش فضرب بقدمه ففارت زمزم عيناً، فجعلت تفرغ من شنتها وقيل أنها خاطتها. فروي إن رسول الله (قال: " رحم الله أم أسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا ". فمن أسماء زمزم ركضت أسماعيل وهمزة جبريل، وقال جبريل عليه السلام لهاجر لا تخافي الظمأ عن أهل هذا البلد فانها عين يشرب بها ضيفان الله تعالى، وإن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه، ومرة رفقة من جرهم فراوا الطير على الجبل فقالوا: إن هذا الطير لعاكف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟! فقالوا: لا، ثم أشرفوا فأذا هم بالأنسانه، فأتوها فطلبوا النزول معها وقالوا: إن شئت كنا معك وأنسناك، والماء ماؤك، فأذنت لهم وكانوا معها، فلما شب أسماعيل عليه السلام تزوج فيهم، وكان أبراهيم صلى الله عليه وآله ليشتاقه فيستأذن سارة في زيارتهم ويأتيه. فروي إنه كان أذا شاء خرج على حمار له من أرض الشام فيأتي مكة، فيشاهد أسماعيل عليه السلام، ثم يعود فيبيت عند أهله بالشام. وروي إن سارة شرطت عليه إن لا ينزل عند هاجر، فكان يؤتى بالمقام فيضع إحدى رجليه عليه حتى يغسل شق رأسه، ثم يحول إلى الجنب الآخر فيضع رجله الآخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 عليه فيغسل الشق الآخر، فلما أمر بذبح أسماعيل قال له: يا بني خذ الحبل والمدي وأنطلق بنا إلى هذا الشعب لنحطب أهلك منه، فلما توجه إلى الشعب أعترضه أبليس فقال له إلى أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال: أني لأرى الشيطان جاءك في منامك فامرك بذبح بنيك هذا، فانت تريد ذبحه، فعرفه أبراهيم عليه السلام، فقال له: اليك عني يا عدو الله، والله لأمضين لأمر ربي فيه فتركه وأعترض أسماعيل عليه السلام، وهو وراء أبيه يحمل الحبل فقال: يا غلام، هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحطب أهلنا من هذا الشعب قال: والله ما يريد الا إن يذبحك، قال: ولم؟! قال: زعم إن ربه أمره بذلك فقال: فليفعل ما أمره به ربه فسمعا وطاعة. فذهب إلى هاجر فقال: يا أم أسماعيل أين ذهب أبراهيم باسماعيل، قالت: ذهب به يحطبنا، قال: ما ذهب به الا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم له وأشد حبا من ذاك، قال إنه يزعم إن ربه أمره بذلك، قالت: فان كان ربه أمره بذلك فليسلما لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصب من آل أبراهيم عليه السلام شيئا مما أراد. والشعب فيما روي شعب ثبير وروي إن أسماعيل قال لأبراهيم عليهما السلام: يا أبه: إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصيبك مني شيء فينقص أجري، فان الموت شديد، وأني لا أمن إن أضطرب عنده أذا وجدت مسه، وأشحذ شفرتك حتى تجهز علي فتريحني، وأذا أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني، ولا تضجعني لشقي، فاني أخشى إن أنت نظرت في وجهي إن تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت إن ترد قميصي على أمي عسى إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 يكون ذلك أسلا لها عني فافعل. فقال له أبراهيم عليه السلام: لنعم العون أنت يا بني على أمر الله عز وجل، وربطه كما أمره وأوثقه وشحذ شفرته ثم تله للجبين، وأتقى النظر في وجهه، ثم أدخل شفرته وأحتبذها اليه كما روي في الحديث ليفرغ منه فقلبها الله لقفاها في يده 88 ونودي (ان يا أبراهيم قد صدقت الرؤيا) ، هذه ذبيحتك فداء لأبنك، فالتفت فرأى الكبش فذبحه، وفي بعض الروايات إن أبراهيم عليه السلام لما جذب المذية خلق الله سبحانه على حلقه صفيحة من نحاس قال أمية بن أبى الصلة الثقفي: قال أبراهيم الموفي بالنذ ... ر أحتسابا وحمل الأثقال وهو لا يملك التصبر عنه ... ولم رأه في معشر أقبال بني أنني نذرتك لل ... هـ فصبرا فداك عمي وخالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فاجب الغلام إن قال صبرا ... في أرضاء الأله لست أبالي ابتا أوف ما نذرت وأخر ... عن دمي إن يمسه سربالي جمل الله جيده من نحاس ... ان رأه ذا مدية وحبال بينما ينزع السرابيل عنه ... صابراً أذا أتى بكبش حلال قيل خذه وأرسل أبنك أحسا ... ناً اليه ولم يكن بالآلي ربما تجزع النفوس من الأم ... ر لها فرحةً كحل العقال وروي عن الشعبي إنه قال رأيت قرني الكبش في الكعبة وذكر بعض العلماء بالسيرة إن مسلم بن عقبة المري مرة غطفان، المسمى مسرفاً لما سار بجيش يزيد بن معاوية من المدينة بعد وقعة الحرة يريد مكة، فحضره الموت بقديد فأستخلف على الجيش الحصين بن نمير السكوني، سار الحصين بالجيش فقدم مكة لاربع بقين من المحرم سنة أربع وستين، فأحضر أبن الزبير نصب المناجيق ورمى الكعبة بالنار، فاحترقة الأستار وما في الكعبة. قال المنصور بن عبد الرحمن الحجني: فاحترق قرنا الكبش في ذلك اليوم، وكان يوم السبت لثلاث خلون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وأرسلة صاعقة فحترقت من أصحاب المنجني أحد عشر رجلاً، وهلك يزيد بعد ذلك بأحد عشر يوماً. وكان أسماعيل عليه السلام أكبر ولد أبراهيم صلى الله عليه وآله، لان الروايات أتفقت على إن سارة رضي الله عنها كانت قد منعت الولد حتى كبرت فأذنت لأبراهيم عليه السلام في هاجر رضي الله عنها فأولدها أسماعيل عليهما السلام، فهو أكبر ولده. اخبرنا جماعة عن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبدون عن أبى طالب الأنباري عن أبى بشر أحمد بن أبراهيم العميّ عن أحمد بن عمرو عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: كان أسماعيل أكبر ولد أبراهيم عليهما السلام وبه كانت البشارة الأولى حين دعا أبراهيم ربه عز وجل إن يهب له من الصالحين. وبالأسناد عن أبى بشر أحمد بن أبراهيم عن مجمد بن أحمد النحاس عن أحمد بن زهير عن سعد بن عبد الحميد عن أبى معشر عن محمد بن كعب في قوله عز وجل: (فبشرناه بغلام حليم) قال أسماعيل عليه السلام وهو الذبيح بدليل القرآن لان الله سبحانه قص قصته فقال عز من قائل: (قالوا أبنوا له بنياناً فالقوه في الجحيم، فارادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين، وقال أني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي أفعل ما تؤمر ستجدني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه إن يا أبراهيم قد صدقت الرؤيا أنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين سلام على أبراهيم كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه باسحاق نبيا من الصالحين) . فأخبر عز وجل إنه بشره بالغلام الأول، وذكر بلوغه معه السعي وما أراه في المنام من ذبيحه وتله أياه للجبين ومناداته سبحانه أياه: إن صدقت الرؤيا وفديته أياه بالذبح، فلما أتى على القصة أخبر سبحانه إنه بشره بأسحاق. وقال سبحانه في البشارة الأولى: (فبشرناه بغلام حليم) بالفاء وقال في البشارة الثانية: (وبشرناه بأسحاق) بالواو، والفاء أخص من غيرها من الحروف، وأقرب والصق وأدل على سرعة أجابة الدعاء من الواو، وذكر إسحاق باسمه في البشارة الثانية89 وليس وراء هذا الأيضاح أيضاح، ولا وراء هذا الدليل دليل، ثم إنه سبحانه لما ذكر البشارة بأسحاق خاصة، قرنها بذكر تعجب أمه رضي الله عنها لكبرها وعقمها وشيخوخة بعلها فقال تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بأسحاق من وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخ إن هذا لشيء عجيب) وقال تعالى في موضع آخر من كتابه: (فأوجس منه خيفة، وقالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) . قال أبو بشر العمي في حديثه فبلغنا إن الكنعانيين كانوا يقولون الا ترون إلى هذا الشيخ والعجوز أخذا لقيطا فأدعياه أبناً يعنون إسحاق عليه السلام، فصوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الله تعالى في صورة أبراهيم فكان لا يفرق بينهما، فوسم الله سبحانه أبراهيم بالشيب فكان يعرف من إسحاق عليهما السلام بشيبه، فهو أول من شاب وكل ذلك دالا على إن إسحاق عليه السلام هو الذي ولد بعد كبر أبويه وإن البشارة الأخير أنما كانت به. ومما يقوي ذلك قول أبراهيم عليه السلام: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر أسماعيل وإسحاق) . فبدأ بالأكبر وما من أية يأتي فيها ذكرهما الا وأسماعيل المتقدم ذكره فيها وكل هذا دليل على إنه الأكبر. وروي إن قول أبراهيم عليه السلام (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر أسماعيل وإسحاق) كان بعد قوله: (ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الحرام) بكذا كذا عام. وبالأسناد المتقدم ذكره عن أبى بشر العمي عن أحمد بن أبان عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أسماعيل بن أبان قال: حدثني عيينه بياع القصب وكان مرضيا عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: القي أبراهيم صلى الله عليه وآله في النار وهو أبن ست عشر سنة، وولدت له هاجر أسماعيل وهي أبنت عشرين سنة، وأبراهيم أبن تسعين سنة، وولدت له سارة إسحاق وهي أبنت تسعين سنة، وأبراهيم أبن مائة وعشرين سنة، وسار بأسماعيل إلى مكة وله ستة أشهر، وفجر الله بعقبه زمزم فلولا إن هاجر خاطتها كانت سبحا. وأوحى الله سبحانه إلى أبراهيم عليه السلام إنه يقضي على يده ويدي أسماعيل عليهما السلام، عمارة بيته وشرح ما يكون منه وإنه حجة الله العظمى، وإن الحجة البالغة من ظهره وأراها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 منامه إن يذبحه وهو أبن ستة عشر سنة، ثم فداه في الذبح وأنطقه بالعربة. وروي إن عمر بن عبد العزيز سؤل عن الذبيح أي أبني أبراهيم هو؟، فارسل إلى رجل كان قد أسلم من علماء اليهود بالشام، فسأله فقال: أسماعيل والله يا أمر المؤمنين وإن اليهود لتعلم ذلك لاكنهم يحسدونكم لأنه أبوكم فيزعمون إنه إسحاق لانه أبوهم. وروي عن رسول الله (إنه قال: أنا أبن الذبيحين وبالأسناد عن أبى بشر العمي عن محمد بن أحمد عن أحمد بن زهير عن أسماعيل بن عبيد بن أبى كريمة عن عمر بن عبد الرحمن الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبى سفيان عن أبه قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال حدثنا الصالحي قال: حضرنا مجلس معاوية بن أبى سفيان، فتذاكر القوم أسماعيل وإسحاق أبني أبراهيم عليهم السلام وأيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم هو أسماعيل وقال بعضهم هو إسحاق، فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله (، فاتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله حلفت البلاد بالبنين والمال وهلك العيال، فعد علي ما أفاء الله عليك يا أبن الذبيحين. فتبسم رسول الله (لم ينكر عليه قوله، فقال القوم يا أمير المؤمنين وما الذبيحان، فقال: إن عبد المطلب لما أمره بحفر زمزم نذر إن سهل له حفرها إن يذبح بعض ولده، فلما فرغ من حفره أسهم بينهم فخرج السهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 على عبد الله، فاراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم وقال أرض ربك وأفد أبنك، ففداه بمائة من الأبل، فهو الذبيح الثاني وسيأتي حديث ذبحه وفديته في هذا الكتاب تاليا لأخبار أسماعيل عليه السلام. وأسماعيل عليه السلام شريك أبيه (في بناء الكعبة. روي إن أبراهيم عليه السلام قدم عليه مرة فوجده يصلح نبلة له وراء زمزم 90، فقال له يا أسماعيل إن ربك قد أمرني إن أبني بيته، قال فاطع ربك، قال: فقد أمرك إن تعينني عليه، قال: أذا أفعل، فقام معه فجعل أبراهيم يبني وأسماعيل يناوله الحجارة وهما يدعوان الله سبحانه إن يتقبل منهما ويريهما مناسكها. قال الله عز وجل أخبارا عنهما عليهما السلام (وأذ يرفع أبراهيم القواعد من البيت وأسماعيل ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم، ربنا وأجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا أنك أنت التواب الرحيم) . فلحقت دعوتهما بذريتهما، وجعل الله سبحانه سدانة البيت لإسماعيل عليه السلام فهو أول من سدنه وكساه. روى أبو عثمان المازني عن زيد بن الخليل وعثمان بن خالد عن مشيخة قومهما عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: كان أول من رفع البيت وكساه البياض، وأول من سقى السويق وسن السقايا، وأول من سدن البيت أسماعيل بن أبراهيم عليهما السلام وهو أول من رفد الحاج، وكانت الضيافة عليه مفترضة، وكان صيام شهر رمضان عليه مفترضاً، وهو أول من ضحى وأعتم على القلانس، وتصرف في اللبوس بالحالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 كلها، فتوشح وأئتزر، وأرتدى وظاهر، وأحتبى وكره التنعم فلذلك لزمت العرب هذه الأشياء. وكان لا يقدم عليه نبي حاجاً الا أستقبله، ولا يرجع بعد حجه الا شيعه، فسن التلقي والتشيع وحمل المقلين، وأكرمهم وسن الطي والأجر والسيق والربعي، وكان يقف في المواسم على الخيل ويحمل عليها. وروي إن الخيل كانت وحوشا فسخرها الله تعالى فهو أول من ركبها. روى أبن جمهور عن أبيه عن أبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران عن أبراهيم بن أسماعيل بن أبى حبيبة عن داود بن أبى حصين عن عكرمة عن أبن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (" كانت الخيل وحوشا لا تركب، فأول من ركبها أسماعيل بن أبراهيم عليهما السلام ". وروى مجاهد عن أبن عباس رضي الله عنه في حديث ذكره عنه إنه قال: " كانت الخيل غراب وحوشا بأرض العرب " فلما رفع أبراهيم وأسماعيل القواعد من البيت قال أني أعطيتك كنزا لم أعطه كان قبلك قال: فخرج أبراهيم وأسماعيل عليهما السلام حتى صعدا جيادا فقالا: الا هلا، الا هلم فلم يبق في أرض العرب فرس الا أتاه وذلل له فأعطته بنواصيها وأنما سمي الموضع جيادا. وروي لكليب بن ربيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 التغلبي على تبع وقبائل اليمن: لنا الفخر تبعا على تبع ... ومن يجعل التبع مثل العرب اتجعل فحطان كالمصطفى ... خليل المهيمن والمنتخب ابونا الخليل أبونا السليل ... ابونا الصدوق الذي ما كذب دعا فأجابت له الصافنات ... ولو رام ذا غيره لم يجب وذكر نصر بن مزروع الكلبي النسابة: إن رجل من خثعم عير أنمر بن مدرك الخثعمي وهو رهطه يجلحون عن خثعم إلى أكلب بن ربيعة بن نزار فقال فيهم شعرا منه: وما أكلب منا ولا نحن منهم ... وما جثعم يوم الفخار وأكلب قبيلة سوء من ربيعة أصلهم ... وما لهم أم لدينا ولا أب فأجابه أنمر فقال: وأني من قوم الذين نسبتني ... اليهم كريم الخال والعم والأب اردت لتهجوني بهم فنسبتن ... اليهم ترى أني بذلك أثلب فألا يكون عمي سهر وناهس ... فإني أمرؤ عماي بكر وتغلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ابونا الذي لم تركب الخيل قبله ... ولم يدر مرء قبله كيف يركب وإلى هذا المعنى أشار الكميت بن زيد الأسدي حيث يقول: ترى الجرد العتاق مسومات ... مقاد تنالنا الأولى وفينا غرائب حين تخرج من معد ... بكل إن وهبنا أو شيرنا نعلمها هيا وهلا وأرحب ... وفي أبياتنا ولنا أفتلينا وهو أول من نطق بالعربية المبينة وهي أفصح من لغة قحطان. روى معن بن عيسى عن عبد الله بن عبد الله عن أسماعيل بن أويس عن 91 أبيه عن الربيع بن قرين عن عقبة بن بشير عن المغيرة الاشعري إنه قال: سألت بعض العلماء عن أول من تكلم العربية فقال أسماعيل بن أبراهيم عليهما السلام وهو أبن ثلاث عشر سنة. وروي إنه تزوج امرأة من جرهم، فقدم أبوه مرة وقد خرج إلى الصيد فسألها عنه فقالت بغلظة وتجهم: لا أدري أم قالت: قد خرج إلى الصيد فطلب منها القرى فلم تقره، فقال لها: أذا جاء فقولي له حول عتبة أبيك، وأنصرف وجاء أسماعيل فوجد الوادي عطراً بريح أبيه عليهما السلام فقال لها: هل قدم اليك اليوم أحد؟ فقالت: شيخ من صفته كذا وكذا وأخبرته بما قال لها، فقال: الحقي بأهلك ثم تزوج رعلت. بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وخرج إلى الصيد، فقدم أبراهيم عليه السلام فقال لها: أين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 صاحبك وأين زوجك، فقالت خرج عفاك الله يتصيد، قال: فكيف هو، قالت: صالح، قال: فكيف حالكم قالت: خالنا حسنة ونحن بخير فانزل رحمك الله حتى يأتي، فابى فلم تزل تريده على النزول يأبى فقالت له أعطني رأسك أغسله فأني أراه شعثا، فجعلت له غسولاً ثم أدنت منه الحجر فوضع قدمه عليه فغسلت جانب رأسه، ثم حول قدمه الاخرى فغسلت الشق الاخر فسلم عليها وأنصرف فقال لها: قولي لزوجك أذا جاء: جاء هاهنا وهو يأمرك إن تستوصي بعتبه بابك خيراً. ثم أقبل أسماعيل فلما أنتهى الى الثنية وجد ريح أبيه عليهما السلام فسألها هل قدم عليكها هنا أحد؟ فقالت نعم، جاءني شيخ صالح فسألني عنك وعن حالنا وعن خبرنا وسألته النزول فأبى فغسلت رأسه وهذا أثر قدمه، فاكب على أثر قدمه يقبل ويبكي وهو المقام. وفي رواية إنه طلب منها القرى فجاءته بلحم ولبن فأكل وشرب وقال: بارك الله لكم في لحمكم ولبنكم، ودعى لهما فلما جاء أسماعيل عليه السلام وجد ريحه فسألها فقال: هل قدم اليوم عليك أحد؟ فقالت نعم شيخ ما رأيت قط أحسن وجهاً، ولا أطيب ريحاً، ولا أكرم أخلاقاً، ولا أحسن سمتاً ولا أهيب منه وأخبرته بما قال لها، فلزمها فولدت له أثني عشر عظيماً منهم نابت وقيذر ومنهما نشر الله العرب. وقد روي إن أسمها الشيده بنت مضاض وفي ذلك يقول مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي في قصيدته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وصاهرنا من أكرم الناس والداً فابنائه فينا ونحن الاصهار وروي إن أسماعيل عليه السلام عاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، وقيل مائة وثلاثا وثلاثين سنة، وإنه كان آخر بني أبراهيم عليهم السلام وفاة، وإنه لم يمت حتى كاتبه يوسف بن يعقوب عليهما السلام ليكتب فيه الى فرعون مصر يعلمه مكانه منه فكتب اليه: بلغني مكان أبن أخي منك فبوركت من بين الفراعنة. وكتب الى يعقوب ووصول البشير اليه من عند يوسف فصلى الله عليهم جميعاً وسلم، وسبحان من لا يعلم حقائق ذلك وغيره سواه. ولما مات أسماعيل دفن في الحجر فقبره وقبر أمه أيضاً فيه. روى أبن جمهور عن محمد بن سنان عن الفضل بن عمر عن بعض العلماء إنه قال: الحجر بيت أسماعيل عليه السلام وفيه قبره وقبر أمه رصي الله عنها. وروي إن أبن الزبير وجد ي الحجر قبرا قد أطبق بحجارة خضر كأنها أسفاط: فقيل له هذا قبر نبي الله أسماعيل عليه السلام فكف عنه. ولاية جرهم البيت وروي إن نابت بن أسماعيل ولي سدانة البيت بعد أبيه عليه السلام، فلما هلك نابت كان ولده أطفالاً فتولى السدانة أخواله من جرهم، وكان أول من ولي ذلك منهم مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي، ثم بنوه بعده كابراً عن كابر فمن ثم صارت جرهم ولاة الحرم والله سبحانه أعلم وفي ذلك يقول مضاض بن عمرو في قصيدته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطيف بذاك البيت والخير ظاهر فوليت جرهم الحرم ما يعلمه الله تعالى، ثم بغوا وظلموا وأستحلوا حرمته وأكلوا مال الكعبة ولم يتناهوا. وقيل إن أسافاً أراد نائلة بنت عمرو بن ذئب في جوف الكعبة فمسخا حجرين فوضع أساف على الصفى 92 ونائلة على المروة ليعتبر الناس بهما. وروي إن مضاض بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض وكان سيد جرهم لما رأى ما هم عليه من البغي، قام فيهم فنهاهم ووعظهم وقال: يا قوم أحذروا البغي فأنه لا بقاء لاهله، وقد رأيتم من كان قبلكم من العماليق أستخفوا بالحرم وتنازعوا بينهم، وأختلوا حتى سلطكم الله عليهم فاخرجتموهم فتفرقوا في البلاد، فلا تستخفوا بالحرم، وحرمة بيت الله ومن حله أو جاءه معظماً لحرماته وأخر جاء بائعاً، وأخر رغب في جواركم فأنك إن فعلتم تخوفت إن تخرجوا منه خروج ذل وصغار حتى لا يقدر أحد منكم إن يصل الى الحرم، ولا زيارة البيت الذي هو لكم حرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأمن، والطير تأمن فيه. فقال رجل منهم يقال له مجدَّع ومن الذي يخرجنا منه؟ السنا أعز العرب وأكثرهم مالاً وسلاحاً؟ فقال مضاض أذا جاء الامر بكل ما تذكرون، فقد رأيتم ما صنع الله بالعماليق. فلم يثيبوا الى قوله وأقاموا على البغي والظلم فارسل الله عليهم الرعاف والنمل فافنى أكثرهم. ووافق ذلك خروج قبائل سبأ من أرض مأرب عند خراب السد وملكهم عمرو بن عامر بن ثعلبة بن أمرؤ القيس بن مازن بن الازد وعمرو هذا هو مزيقياً ليفرقوا في البلاد فاحسوا بضعف جرهم فنزلوا اليهم وحاربوهم فكانت الغلبة لقبائل سبأ، فلما أحس أبن مضاض الهزيمة أتى الكعبة يلتمس التوبة فقال: لا هم إن جرهم عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا وهم قديما عمروا بلادكا فلم تقبل توبته فعمد الى أموال الكعبة، وهي غزلان من ذهب فيما روي، وأسياف فحفر لها ليلاً في زمزم ودفنها، وخرج بمن بقي من جرهم الى أضم من أرض جهينة فجاءهم سيل فذهب بهم فبذلك يقول أمية بن أبي الصلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وجرهم أذا رموا تهامة في الده ... ر فسألت جمعهم أضم ولاية خزاعة البيت وتفرقت قبائل سبأ في البلاد، فكانت خراغة التي أقامت بمكة فاستوطنتها، ووليت الحرم فقال شاعرهم: ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنعمره من كل باغ وحاسد وقال راجزهم أيضاً: وادٍ حرام طيره ووحشه ... نحن وليناه فلا نعشه وأبن مضاض قائم يمشه ... يأكل ما يهدي له نقشه وأشتدت صبابة أبن مضاض الى مكة، فاتى خزاعه فسألهم إن يأذنوا له في النزول معهم، فابوا عليه فقال قصيدته المعروفة وقد أستشهدنا منها بالبيتين المتقدمين وفيها يقول: كان لم يكن بين الانيس الى الصفا ... انيس ولم يسمر بمكة سامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بلى نحن كنا أهلها فابادنا ... صروف الليالي والجود العواثر وأقامت خزاعة بالحرم ما يعلمه الله تعالى، هذا ما جاء في هذه الرواية وهو الاقوى والاصح. وقد جاء في رواية أخرى إن السبب كان في ولاية خزاعة الحرم وسدانة البيت عن أيادا كانت تلي ذلك، فلما هلك وكيع الايادي أجتمعت قبائل مضر وفيهم خزاعة، وخزاعة حينئذ لا تنتمي الى اليمن، وأنما ينتسبون الى قامة بن الياس بن مضر، فأجتمعوا على حرب أياد ليخرجوهم عن الحرم، فأحست أياد بالضعف فأستأجلوهم ثلاثا فاجلوهم، وشرطوا عليهم إن لا يخرجوا معهم متزوجة من مضر، وكانت امرأة من خزاغة أسمها قدامة متزوجة في أياد، فعالجت أياد الحجر ثلاث ليالي ليقدرا على نقله فلم يقدروا على ذلك فدفنوه، وعرفت قدامة الخزاعية مكانه، وخرجت أياد ودخلت مضر الحرم ففقدوا الحجر فعظم ذلك عليهم، فقالت قدامة الخزاعية لقومها خزاعة: أشترطوا على مضر إن يجعلوا ولاية البيت لكم حتى أدلكم على الحجر، فذكروا لهم ذلك فاجابوهم اليه ودلتهم قدامة على الحجر فصارت ولاية خراعة على الحرم بهذا السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والذي تقدم من الحديث يدل على إن خزاعة وليت بعد جرهم هذا الحديث يدل على أنها وليته بعد أياد وما رأيت لاياد ذكر ولاية على 93 الحرم الا في هذا الحديث، ولا رأيت لخزاعة ذكر نسب في مضر الا فيه، ولعل الحديث الاول أصح والله سبحانه أعلم. فاقامت خزاعة ولاة على الحرم وأجتمعوا على عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء بن حارثة بن الغطريف بن أمرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد، وعمرو هذا هو عمرو بن لحي لان أباه ربيعة بن حارثة كان يعرف بلحي، فعبد عمرو بن لحي أسافا ونائلة وأمر بعبادتهما وقد بالصنم المعروف بهبل من الشام من عند العماليق، فجعله على الكعبة وأمر بعبادته، ونصب الأصنام حول الكعبة وجعل السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، وأحل نكاح البغايا فنصبن الرايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وروي إن رسول الله (قال: " رايت عمرو بن لحي أبى هذا الحي من خزاعة شيخا قصيرا دحداحا ضخم البطن يجر قصبة في النار أشبه الناس به أكثم بن الجون ". فقال أكثم: أيضرني شبهي به يا رسول الله؟، قال: لا، أنت مسلم وهو كافر. وروي إنه عور عشرين فحلا وكان الرجل من الجاهلية أذا بلغت أبله الفا عور فحلا. ولاية قصي بن كلاب البيت ولم تزل خزاعة مستولية على الحرم الى إن عاد قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب من أرض قضاعة من عند أمه فاطمة بنت سعد بن سيل بفتح السين غبر المعجمة والياء، وأسم سيل جبر بن حمالة بن عوف بن غنم بن الجادر، وأسم الجادر عامر بن عمرو بن جعثمة بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. قيل وأنما سمي جبر بن حمالة سيلا لانه ولد على جبل أسمه سيل، فسمي به وفي أبن سعد بن سيل يقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ما أرى في الناس طرا رجلا ... شهد الهيجا كسعد بن سيل فارس أضبط فيه عسرة ... فاذا ما عاين القر نزل وتراه يطرد الخيل كما ... يطرد الحر القطامي الحجل وقيل أنما سمي عامر بن عمرو بن جعثمة الجادر، لانه بني جدار الكعبة من سيل كان أصابه في أيام جره، فوهى منه وقيل بل كان الحاج يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارها تبركا به فكان هو موكلا بأصلاح ما يتشعث من ذلك فسمي الجادر. وكانت فاطمة بنت سعد قد ولدت لكلاب بن مرة زهرة وقصيا ثم هلك عنها فقدم ربيعة بن حرام القضاعي حاجا فتزوجها، وكان زهرة الأكبر وقصي طفلا وأسمه فس ما روي زيد، فحملته معها وقيل أنها سمته قصيا لأنها أقصته عن قومه، فنشأ في حجر ربيعة بن حرام فصارع يوما غلاما من قضاعة فصرعه فقال له أبو الغلام: الحق بقومك يا غلام فلست منا، قال: فممن أن؟ قال: سل أمك، فسألها فقالت: أنت خير منه حسبا وأكرم نسبا أنت أبن كلاب بن مرة وقومك في حرم الله، وعند بيته فاراد الخروج، فقالت: أني أخاف عليك، فأقم حتى يخرج حاج قضاعة. ففعل وأقام حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 خرج معهم فأتى مكة وخزاعة مستولية عليها، وولاية البيت يومئذ وحجابته خليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن لحي والمفتاح بيده، فخطب اليه أبنته حبى بنت خليل، ولم يكن له ولد غيرها فعرف نسبه وشرفه فزوجه، فولدت له بنيه الأربعة، عبد مناف، وعبد الدار وعبد العزي وعبدا بن قصي. فلما حضرته الوفاة أوصى لقصي بالحجابة والولاية والمفتاح وقال له: إن ولدك ولدي ولست أخص بذلك غيرهم فأقسم بينهم مآثر مكة. فلما مات خليل أبت بنو أسلم بن قصي بن حارثة رهط خليل وقومهم من خزاعة إن يجيزوا لقصي ذلك، فهم بحبهم فنهته حبى بنت خليل زوجته، وحذرته النقمة ممن أرد الأخاد في الحرم، وذكرته بأحاديث جرهم وقولهم كيف يحل لنا إن نذبح أموالنا في الحرم ونأكلها ولا يحل لنا ذبح الصيد فالكل سواء. فقالت في ذلك أشعارا منها: ما أستبت جرهم يوما ببلدتها ... اذ مثلوا بين شاة الحل والحرم وأقسموا وهم بسيل بلدتهم ... لنجعلن شهور الحل كالحرم 94 - هل من حموم لأقوام لتزجرهم من ... قبل إن يصبحوا لحمَّا على وضم وقالت أيضا تحذره وتذكر أمرهم من شعر لها: فلما غلوا وعلاهمهم ... وقال أسامة لأبن الضرب ضعوا الخرج فاستخرجوا عنوة ... من أهل العمود وأهل القتب وعصب الملوك من أهل الشام ... وصفوا اللجين وصفوا الذهب اصابهم القرح فاستسلموا ... لريب الخطوب ودهر كلب فانكم إن تكونوا كهم ... تكن مثلا وتكون عجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقالت تذكر رجلا من مراد يقال له زيد بن الجولان أقبل معتمرا حتى أذا كان بالوادي من حرى أدركه السيبل فاناخ راحلته ينتظر أنقطاع السيل فبصر به رجل من جرهم، وهو بأعلى الجبل فأرسل عليه صخرة فقتله وأخذ سلبه: صار أرث أبن مضاض حارث ... فغدا الدهر له حتى بسل فأتاه من مراد راكب ... عرض السيل له حتى نزل بشماريخ حراء فهوت ... صخرة تنحط من رأس الجبل رضخته رضخة حتى غدا ... كهشيم العود ما فيه بلل فقال قصي يذكر أرثه وأرث قومه لولاية الحرم، وإن خزاعة وغيرهم تولوا من ذلك ما ليس لهم بحق: ما من تراث أب كانت لهم وطنا ... بيت الخليل ولا من حر أسياف هل غير إن بلادا خف عامرها ... لما أمر عليه المشرب الصافي لاقوا من الموت ما لاقت بنوا أرم ... لم يبق منتعل منهم ولا حافي اعرتموها كما قد كان أولكم ... يعيرها خلفيه من بعد أخلاف فلما رأت أجماعهم على حربهم قالت: اني نذير قصي من مجللة ... نكبا لا تبقى من حدها رأسا متى يحل قصي أو يلم به ... يقرع لها ندما سنا وأضراسا لا تلحدن كالحاد الفتى حجر ... جنب الحجون غدا يستوجر الكأسا اراد بيت بني كعب بداهية ... ولم يحاضر لها كرها ولا أسا فباهلته وقدت جيبها جزع ... اني بليت بها أخرت مقايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فضرمة ثوبه نار محرقة ... صبة عليه صبيب الشر أنفاسا فدعا قصي أناسا من قومه قريش وكنانة الى نصره على أخراج خزاعة عن الحرم فأبوا إن يجيبوه، وهابوا ذلك لما كانوا يرون من النقم بمن الحد بمكة فدعا أخاه زهرة وولده فابوا عليه أيضا فقال: دعوت زهرة لا شدوا رحالهم ... على المطي ولا زالوا بجعجاعة الى محرمة ما إن يطل بها ... قرح الحمام ولا يسعى بها الساعي وقد بذلت لهم نفسي وقد عرفوا ... يوم المعرف كري بعد أدفاعي ابوا علي وقالوا مشرب بلغ ... معقولة وصديق غير نفاع فلما رأت خزاعة قصي وما يدعوا اليه أجمعوا على إن يخرجوه من مكة فعرف ذلك فخرج هاربا من تحت ليلته فسار في مضر فقال: يا بني أسماعيل نحن أحق بهذا البيت من غيرنا، فأنصروني، فنصروه، فسار في جمع من بني النضر بن كنانة وغيرهم فنزل بالبطحاء، فلما رأتهم خزاعة أستعدوا للقتال حتى أذا كان بينهم الترامي والتناضل والأخذ بالشعور تداعوا الى الصلح وإن يحكموا بينهم رجلا، فارادت خزاعة إن يحكموا الديان بن عبد المدان ورجل من آل محرق الغسانيين، فأبى ذلك قصي، فقالوا: فمن تريد؟ قال: بحكم يعمر بن عوف الكناني، فأبت خزاعة وقالوا لا نحكم رجلا من كنانة، فابى وأبوا، ثم تراضوا بيعمر بن عوف إن يحكم بينهم بفناء الكعبة، هذا في رواية. وفي رواية أخرى إن حليلا لما أوصى بالمفتاح لأبنته حبى فقالت له: قد علمت أني لا أقدر إن أفتح البيت وأسدنه، فأذن لها في إن تولي ذلك بعلها قصيا، فصارت السدانة والمفتاح له بهذا السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وفي رواية أخرى إنه قال لها سأجعل لك من ينوب عنمك في فتح البيت، فأوصى بذلك الى أبي غبشان الخزاعي، وقيل إنه كان يحمق، وكان ينوب عنها أذا أصابها من يصيب النساء، فخرج قصي وأبو غبشان95 الى الطائف فشرب أبو غبشان فسكر فقال له قصي أتبيعني وكالتك في المفتاح؟ قال: نعم، فاشتراه منه بجمل كما قيل وزق خمر، فجاء به الى حبى فأخبرها فسرت بذلك، فصارت المفتاح لها والوكالة فيه لبعلها، وجعلت له ما كان لها أيضا فصارت الحجابة اليه. وقدم أبو غبشان فلامه قومهم فجحد البيع، وقال أنما رهنته، وأنكرت خزاعة إن يكون صاحبهم باع، فسار قصي في ولد أسماعيل فقال: هذا مفتاح أبيكم قد رده الله اليكم بغير ظلم ولا غدر، فانصروني، فنصروه، وأستنجد أخاه لأمه رزاح بن ربيعة بن حرام القضاعي ثما العذري من بني عذره بن سعد هذيم، فأنجده بنفسه وقومه، ومعه أخوته لأبيه جز ومحموده وجلهمة بنوا ربيعة بن حرام وقال في ذلك: لما أتى من قصي رسول ... فقال الرسول أجيبوا الخليلا نهضنا اليه نقود الجياد ... ونطرح عنا الملول الثقيلا نسير بها الليل حتى الصباح ... ونطوي النهار الى إن يزولا فلما مررنا على عنجر ... وأسهلن من مستناخ سبيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مررنا على النخل ما ذقنه ... وعالجن في مر ليلأ طويلا فلما أنتهينا الى مكة ... أنخنا الركاب قبيلا قبيلا وقال أيضا: ابيّ في الحياة أخو قصي ... اذا ما ضامه ضيم أبيت اذا يجني علي بذلت، نفسي ... ويفعل مثل ذلك إن جنيت اخي لقد نزلت بدار قوم ... اجرّ بها الإزار أذا أنتشيت نفينا عن منازلهم عليا ... فما لهم لذي الإحرام بيت قوله عليا يعني بني عبد مناة بن كنانة كانوا يعرفون ببني علي لان علي بن مسعود الأزدي كان أخا أبيهم لامه، وهلك أبوهم وهم أطفال فتولى حضانتهم، فعرفوا ببني علي، فكانوا حلفاء خزاعة. وقال قصي يذكر نصر أخيه رزاح بن ربيعة له: انا أبن العاصمين بني لؤي ... بمكة منبتي وبها ربيت لنا البطحاء قد علمت معدُّ ... ومروتها رضيت بها رضيت رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت فلست لغالب إن لم تأثل ... بها أبناء قيدر والنبيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قال فلما أجتمع الناس بمكة لحجهم الذي كانوا يحجونه، حارب قصي خزاعة بمن أنجده من بني أسماعيل عليه السلام، ومن أتاه مع أخيه رزاح من قضاعة فكثرت بينهم القتلى، ثم حكموا يعمربن عوف الكناني، وكان شريفا وكان هو وقومه بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة قد أعتزلوا الحرب، فاحصى القتلى ووضع قتيلا بقتيل، ففضل لخزاعة عشرة فقال: أني قد شدخت دماءهم، والحرم لقصي وقومه، وخزاعة جيران، فسمي بذلك الشداخ، وقيل بل حكم بينهم بان كل دم أصيب من خزاعة مطلول، وكل دم أصابته خزاعة فعليها عقله، والحرم لقصي وقومه، وخزاعة جيران فيه ولا يخرجون عنه، فقالت خزاعة: لا نرضى، قال: فأن رضيتم والا فأعدو على الحرب. فرضوا بذلك لضعفهم عن قصي ومن أجتمع له، وقيل أنهم كتبوا بينهم كتابا بان خزاعة جيران باسفل الوادي، فان دهم قريشا أمر كانت خزاعة عبيدا معه، وإن دهم خزاعة أمر كانت قريش بالخيار إن شاءوا نصروا وإن شاءوا خذلوا. قال نوفل بن معاوية الكناني أحد بني الديل بن بكر بن عبد مناة: فقريش لا تشكر لنا هذا الحكم، ويقولون إن صاحبكم أنما حكم لنا بأرث آبائنا، ورد علينا حقنا وخزاعة تتهمنا. وقالت العرب في بيع أبي غبشان المفتاح: أخسر من صفقة أبي غبشان، فذهبت مثلا. وفي رواية أخرى إن الذي كان خليل بن حبشية نصبه للنيابة عن أبنته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حبى في المفتاح هو أبو وهب سليمان بن عمرو أحد بني ملكان بن أفصى بن حارثة الخزاعي، فاشتراه منه قصي بزق خمر وقعود ولعله كان يكنى بأبي 96 غبشان وأبي وهب أيضا، فأن العرب كانت تكني الرجل بالواحد والجماعة من ولد وهجيت خزاعة بذلك فقال الشاعر: باعت خزاعة بيت الله أذ سكر ... بزق خمر وأثواب وأذواد باعت سدانتها للبيت وأنصرفت ... عن المقام بظل البيت والوادي وقال أخر: اذا أفتخرت خزاعة في قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور وباعت قبلة الرحمن جهلا ... بزق بئس مفتخر الفخور وقالت حبى بنت خليل زوجة قصي حينئذ في ذلك: ابو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من كنانتنا خزاعه فلا تلحوا قصيا أذ شراه ... ولوموا شيخكم أذ كان باعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 النسيء وفي رواية أخرى إن قصيا لما أجتمع له من أجتمع لنصره بمكة، وخرجوا الى حجهم الذي كانوا يحجونه، فلو يبق الا النفر وقد غلبت قبائل من العرب على أمور تفردت بها، وأبتدعت كنانة النسيء، وكانوا ينسئون الشهور يلي ذلك منهم بني ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وكانوا يسمون الذي يلي ذلك القلمّس، والقلمس السيد، وقيل إن أول من نسأ الشهور منهم سرير بن ثعلبة، ثم ولي ذلك بعده أبن أخيه عدي القلمس بن عامر بن ثعلبة، ثم ولي ذلك ولده من بعده، فكان فيهم الى إن ظهر الإسلام قال الشاعر: قلامة قد ساسوا الأمور فأحسنوا ... سياستها حتى أقرت لمردف وقيل إن أخر من نسأ منهم أبو ثمامة، جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي، وقيل إنه كان أطول النسأة عمرا فأنه نسأ أربعين سنة ثم ظهر الإسلام. وكان يقوم فيقول أنا الذي لا أعاب ولا أخاب، الا أنني قد أحللت دماء المحلين طي وخثعم الذين لا يعظمون الشهور، وأنسئت هذا الشهر فجعلته صفر يعني المحرم، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كان من قابل تركه. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى وهو أعلم وأحكم النسيء فيل كتابه فقال عز من قائل: (إنما النسيء زيادةً في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما) الأية. وكانوا يفخرون بذلك قال عمير بن قيس بن علقمة وعلقمة هو جذل الطعان بن فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة: وأي الناس لم يسبق بوتر ... وأي الناس لم يعلك لجاما السنا الناسئين على معد ... شهزر الحل نجعلها حرما وقال أخر فيهم: لهم النسيء يمشون تحته لوائه ... يحلّ الشهور تارةً ويحرّم الأجازة وكانت صفوة تلي الإجازة وصوفة بنو الغوث بن أخي تميم بن مرة بن أد طابخة بن الياس بن مضر وكان صوفة يعرف بالربيط لان أمه - وكانت جرهمية - كانت مئناثا فنذرت إن ولدت غلاما إن تعبده الكعبة فلما ولدت الغوث ربطته بفنائها فسمي الربيط ثم جاءته وقد نال منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الحر فقالت: ما صار الا كانه صوفة فسمي صوفة. ولزمه الأسمان فكانت صوفة أول من تدفع من عرفة وأول من ترمي قال أوس بن مغراء السعدي: لا يريمون بالتعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزي آل صوفانا ومن أمثالهم أجيزي صوفة. وكانت ربيعة بن نزار تقف عند المضيق عند العقبة فتجيز كندة لأنهم كانوا حلفاءهم فيقول الناس أقيموا حتى تجوز الأملاك من كنده وفي ذلك يقول أبو طالب بن عبد المطلب: وكندة أذ ترمي الجمار عشية ... تجيزهم وحجاج بكر بن وائل حليفان شد عقد ما أحتلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل وكانت أفاضة المزدلفة لبني زيد بن عدوان بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر و أسم عدوان الحارث وكان أخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة97 عميلة بن الأعزل العدواني وكان يفيض على حمار أدلالا منه بعزة وثقة إنه لا يخاف أمرا يحتاج الى الفرار منه وقيل إن حماره عاش أربعين سنة لم يصبه فيها عرض فمن أمثالهم " اصح من حمار أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 سيارة ". قال راجزهم: نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزاره حين أفاض راكبا حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره فدفعتهم قريش عن ذلك أيضاً. قال جزء بن ربيعة العدواني عدي قريش: أخذت الحج من عدوان قسرا ... ولو أدركت صوفة لاشتفيت وقيل إن صوفة لم تزل لها الأجازة الى إن أنقرضة فورث ذلك عنهم بنو تميم فوقع في بني سعد بن زيد مناة بن تميم فكانوا يجيزون وكان أخرهم الحارث بن صوفان أحمد بني شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد وعليه ظهر الأسلام. فاما المشهور من الأحاديث فهو إن قصيا وقف لصوفة بمن معه عند العقبة فمنعه الأجازة، وقال: نحن أولى بهذا منكم. فأقتتلوا قتالا شديدا ثم أنهزم صوفة، وغلبهم قصي على ما كان في أيديهم، فعلمت خزاعة حينئذ إنه سيحول بينهم وبين أمر مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 والحرم، ويغلبهم على السدانة كما غلب صوفة على الأجازة. وروى أبو بشر العمي عن محمد بن الحسن قال حدثنا علي بن الزبير عن أبراهيم بن المنذر عن محمد بن عمر الراسبي عن عمارة بن عبد الله بن عبيس الديلي عن جوبه بن عبيد بن شيبان بن أبي شيبان عن نوفل بن معاوية الديلي أحد بني الدئيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، قال: كنا وخزاعة مع قصي لنصره ونحن نظن إنه أنما يريد منع صوفة الأجازة فلما ظهر عليهم ندمت خزاعة وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وعلموا إنه سيفعل بهم كما فعل بصوفة، وإنه سيحول بين خزاعة وأمر مكة والحرم، ويدفعهم عن السدانة والحجابة كما دفع صوفة عن الأجازة فأنحازوا عنه فنابذهم، وأجمع لحربهم وثبت معه أخوه لامه رزاح بن ربيعة القضاعي، ومعه ثلاثة أخوة له من أبيه من غير أمه وأم قصي، فاقتتلوا حتى كثرت القتلا ثم تداعوا الى الصلح، وإن يحكم بينهم رجل من العرب، فحكموا يعمر بن عوف فحكم بينهم بما حكم، وقال: لقد قرّش قوما شريفة أحسابهم غالية دماؤهم فكل دم أصابته منهم خزاعة فهو معقول، وكل دم أصابوه من خزاعة مطلول، فصار الحرم وولايته وسدانة البيت وحمايته لقصي وقومه، وصارت خزاعة جيرانا بأسفل الوادي، فقيل تقرشت قريش وأنخزعت خزاعة. فلما أستولى قصي على الحرم جمع قومه فقال لهم: هل لكم إن تصبحوا بأهلكم في الحرم فلا تستحل العرب قتالكم فيه، ولا يستطيعون أخراجكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 منه وتسكنوه فتسودوا العرب، فاجابوه فاصبح بهم حول البيت وكانوا من قبل لا يبيتون من حوله، ولا يحدثون في الحرم حدثا ولا يواقعون فيه النساء، أنما يكونون حوله نهارا، ويخرجون عنه الى منازلهم بأطراف الحرم، وشعاب الوادي ليلا فلما نزل بقومه الحرم مشى اليه أشراف كنانة فقالوا له: إن هذا عند العرب عظيم ولو تركناك ما تركوك فأخرج عنه، فابى عليهم. وحضرت أيام الحج، فجمع قومه فقال لهم: قد حضر الحج وقد سمع الناس بما صنعتم ولا مكرمة عند العرب كأطعام الطعام، فليخرج كل أنسان منكم من ماله خرجا، وعليّ مثلكم جميعا، ففعلوا الا بني عامر بن لؤي خاصة فانهم أبووا إن يخوجوا في الرفادة شيء دون غيرهم من قبائل قريش، فجعل قصي على كل طريق من طرق مكة حظيرة ينحر فيها الجزر، ويطعم فيها الثريد ويسقى فيها اللبن والسويق فكل من جاء من طريق من الطرق دخل حظيرة من تلك الحظائر فأكل وشرب وصدر فقال بعضهم في ذلك: آب الحجيج طاعمين دسما ... بجر الحشا مستحقبين شحما وأوسعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزا هشما فحوى قصي مآثر مكة وبنى لنفسه دار الندوة يجتمع فيها قومه فيقضون فيها أمورهم دقيقها وجليها وحفر بئرين ساقيتين للحاج إحداهما: بالردم الأعلى بحيث كانت دار أبان بن عثمان من بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والأخرى بالجزورة بحيث صارت دار أم هانئ بنت أبي طالب من بعد وكانت تلك البئر تسمى العجول قال الراجز: نسقي على العجول ثم ننطلق ... إن قصي قد وفى وقد صدق بالري للحجاج وظام مغتبق وقسم منازل مكة بين قومه أرباعا فسمت العرب قريشا قطين البيت وولي ولده بعده ما كان يليه كابرا من أكابر وزمزم مدفونة الى أيام عبد المطلب بن هاشم. حفر زمزم فروي إنه رأى في مناه قائلا يقول له: أحفر زمزم فقال: وما زمزم؟ قال: بره قال وما بره؟ قال ما ضن به على العالمين وأعطيته أحفر زمزم لا تنزف ولا تذم تروي الحجيج الأعظم بركة من الله القاها بين فرث ودم. قال بين لي قال: عند الحجرين الأسودين المتقابلين. قال: إن حجارة مكة كثرة سودها قال: عند نقرة الغراب الأعصم، وقيل الأسحم خليل رأيت الماء فقل هلم الى الوراء، أعطيته على رغم الأعداء. وفي رواية أخرى أحفر زمزم تراث أبيك الأقدم وجدك أبراهيم عند الركن والحرم بحيث الغراب الأعصم عند الفرث والدم عند قرية النمل، فخرج الى المسجد وجلس ينظر فانفلتت بقرة من جازرها بالجزورة فلحقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فصرعها في الموضع وجزرها فجاء غراب أعصم فوقع على فرثها ودمها وقيل كان بين أساف ونائلة فشرع في حفرها فصعد عليه فنذر إن أنبطها الله على يدهو وأعانه عليها إن يذبح أحد ولده. وحفر فوجد سيوف وغزالا من ذهب مقرطا وحلية فلما رأت قريش ذلك قالوا له: أخذنا من هذا المال. فقال: إنه لبيت الله عز وجل. فأخذ المال فحلى به الكعبة وجعل السيوف صفائح على بابها. وقال فيه خويلد بن أسد بن عبد العزى يمدحه: اقول وما قولي عليهم بسبة ... اليك أبن سلمى أنت حافر زمزم سقلية أبراهيم يوم أبن هاجر ... وركضة جبريل على عهد آدم ومما روي في أسماء زمزم والله سبحانه أعلم: زمزم وهمزة جبريل عليه السلام وركضة أسماعيل عليه السلام وحفيرة عبد المطلب ويره وشراب الأبرار والسقيا وشراب من سغب وشفاء من سقم والمنسوبة. ومما روي في أسماء مكة حرسها الله والله سبحانه أعلم: مكة وبكة وطيبة الكبرى وأم القرى وأياسة وأم حرم كانوا أذا نزلوا بها رحموا والبيت العتيق وصلاح وبنية أبراهيم عليه السلام وكوثى والكعبة وحرم الله وبيت الله. فلما فرغ عبد المطلب من حفر زمزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أخذ في الوفاء بنذره فجمع ولده وكانوا عشرة وكتب أسم كل رجل منهم على قدح ثم ضرب فصارت القرعة على عبد الله فأراد ذبحه أذا أصبح. فخرجت أمه وهي فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم ليلا فأتت أباها فأستأذنت عليه فقيل له: أبنتك بالباب فقال: ما كانت أبنتي بسروب وما جاء بها الا الشر فدخلت عليه فقال: مالك يا بنية؟ فقالت الشر يا أبتاه إن أبني يذبح غدا. قال ولم؟ قالت: زعم زوجي إنه يريد إن يقي بنذره وقد أقرع بينهم فأصابت القرعة أبني الأصغر. فقال: كلا يا بنية زوجك رجل شريف حليم نطلب اليه، فلا يخرج من رأينا إن شاء الله فأرجعي الى بيتك، فقالت: يا أبتاه إن أبني يذبح، فقال: يا بنية فزوجك أحق بولده. فخرجت من عنده وقد كادت إن ينقطع ظهرها فأصابت المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فقالتك يا عم أبني يذبح، وقد أقرع بينهم فأصابت القرعة أبني الأصغر وهو ذابحه بالغداة. فقال: هل أتيت أحدا غيري؟ قالت نعم أتيت أبي، قال: فما قال لك؟ قالت: زعم إن زوجي أحق بولدي، فقال صدق أبوك، ولكن زوجك رجل حليم شريف نطلب اليه ونرجوا الا يخرج من رأينا. فخرجت من عنده وقد99 كادت إن ينقطع ظهرها فدخلت على عايذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رجل خبيثا شريرا فقالت يا عم إن أبني يذبح غدا قال: ولم؟ قالت زعم زوجي إنه يريد إن يفي بنذره لله تعالى. قال وهل أتيت أحدا غيري؟ قالت: نعم، أتيت أبي وعمي فزعما إنه أحق بولده، قال: فأرجعي قريرة العين، فلن يصل اليه والله أبدا حتى أضع السيف في مفرقه فأقده بأثنين وآخذ نصيبي وأعطيه نصيبه، أفترين عبد المطلب يرضى بذلك؟ فقالت هذا ما لا يكون أبدا، قال: فوالله ليكونن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أو ليخلين سبيله. فرجعت وقد طابت نفسها وأصبح الناس غادين الى المسجد ينظرون كيف يذبح، وأصبح عايذ غاديا في عنقه سيف حتى جلس مع الناس. ودخل الحارث بن عبد المطلب آخذا بيد عبد الله وبيده الشفرة، ودنا أبوه حتى جاء الى موضع زمزم، وحسر عن ذراعيه وأخذ الشفرة وأضجع الغلام. فقامت بنو مخزوم فأخذوا بيده وناشدوه، وقالوا: ننشدك الله يا أبا الحارث فأنك إن فعلت لم يزل الرجل منا ينذر النذر ثم يجيء بولده حتى يذبحه في هذا المكان، وقد كان في أبيك أبراهيم صلى الله عليه وآله سنّة فأقتد به، وافد أبنك بمالك حتى يرضى ربك، فان عجز مالك فأحلّ في أموالنا حتى ترضي ربك. قال أفترون هذا مجزيا قالوا: نعم فأخرج عشرا من الأبل فأقرع عليها وعلى الغلام فخرجت القرعة على الغلام فنادوا إن فاخرج خمسين وأقرع عليها فخرجت القرعة على الغلام، فأخرج مائة ثم أقرع عليها وعلى الغلام فخرجت القرعة على الابل، فصاح الناس قد رضي ربك. فقال: كلا حتى أقرع ثلاثا. فأقرع ثلاثا فخرجت على الأبل، فصاح الناس رضي ربك، ووثب الحارث فأجتره من تحت أبيه حتى خرج جبينه، ونحر عبد المطلب الأبل بجزوره، وتقسمتها قريش، وفي رواية أخرى إنه جعل يقرع على عشر عشر حتى بلغت ثمانين فأفاض وهو يقول: عهد لربي أنا موف عهده ... اخاف ربي إن تركت وعده فخرجت على الغلام. فقال إن ربي لم يقبل الفدا، فلما رأى الناس ذلك تفرقوا كراهة إن يشهدوا ذبحه فلم يبق غير خاله وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم فانه ثبت معه وهو يقول له: يا أبا الحارث زد ربك فانه سيرضى ولا تعجل فزاد عشرا، وأفاض فخرجت عليه فزاد عشرا فصارت مائة وأفاض وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 لا هُمّ ربّ البلد المحرّم ... اجعل فداه مائة تقسم ولا تر مكة الغداة بالدم فخرجت على الأبل فقال: قد رضي ربك. فقال: ما أنصفت ربي إن القداح تخطئ وتصيب ولكني مفيض ثلاثا. فافاض ثلاثا فخرجت على الأبل فنحرها وقال الأبه: الحمد لله العلي الأولي ... اجاب دعواتي وكان المبتلي حتى تدوركت ولم ترمل فهذا ما روي من حديث الذبيح الثاني عبد الله بن عبد المطلب، وهو مما يقوي إن أسماعيل عليه السلام هو الذبيح الأول لقولهم: إن رسول الله (قال: أنا أبن الذبيحين. وإن كان الغناء وقع بدليل القرآن عن الأستدلال بغيره. وكانت العرب في الجاهلية تعرف لولد أسماعيل عليه السلام شرف نسبهم ولا ينكرون فضلهم، وكان ولد أسماعيل عليه السلام يفخرون بفضلهم في النسب على غيرهم من العرب. فمن ذلك ما أخبرنا به محمد بن هبة الله بن جعفر أجازة عن أبن البّراج عن علي بن الحسين العلوي عن أبي عبد الله المرزباني عن أبي بكر بن دريد عن أبن أبي رياش عن أبيه أبي رياش أحمد بن أبي هاشم قال: لما قتل قيس بن زهير مالك بن بدر بأخيه مالك بن زهير في حرب الرهان بين أبني بغيض قال: الأن قرت عيني حين باء مالك بمالك، اليوم أنتصفنا من قومنا فان كفوا كففنا، وقال أبياتا يعرض فيها يذكر البقية والصلح منها قوله100: عسى إن نعود بأحلامنا ... ونترك ما ها هنا أجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فان البلاء يجر الفناء ... وإن البقاء لنا أوسع وما جئت الا الذي جئتم ... وكل الذي كان يستفظع قتيل لنا ولكم مثله ... ووهي لنا ولكم يرقع فبلغت الأبيات حذيفة بن بدر وكان ذا تيه وكبر لا يرى في نفسه إن أحدا من العرب مثله، فقال: كذب قيس لا يبؤ مالك بمالك ولا يكون ذاك أبدا فبلغ قوله بني زهير فقال ورقاء بن زهير: تاني حذيفة ما مثله ... يحط الرئيس ولا يرفع ايرفع عن مالك مالكا فقبح من ذينك الأوضع كان أباك أبن ماء السماء ... او الملك المتقى تبع او الأبرش في ملكه أو ... ابن الخير أو الأرع وقيصر الملك أو عامر ... وعمرو وأبرهة الأروع فبلغت الأبيات حذيفة فقال ما أحد ممن سمى الا وأنا خير منه ثم قال: اتجعل قوما أذا ما أنتموا ... فقحطان أصل ومنجمعُ وإن كان ملكهم ظاهرا ... وقد منحوا الملك وأستودعوا كقوم أبوهم خليل الإله ... وأبن الخليل الرضا الأروع وأسحق عمهم المصطفى ... ونوح سما بهم الأيفع فان يملم القوم بعض البلاد ... فقد يملك الأرفع الأوضع وعند الخواتم حمد الأمور ... ونحن الخواتم والمرجع ونحن الصميم الصريح النضا ... ر والجوهر الخالص الأرفع وكان رسول الله (أذا ذكر هاجر ترحم عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وروي إنه عليه السلام قال: " اذا أقتحمتم مصر فاستوصوا باهلها خيرا فان لهم ذمة ورحما ". فروي إن الرحم التي ذكرها لهم أنما عني بها هاجر رضي الله عنها ومن فضلها إنه روي أنها خرجت في أول أمرها غضبى على سارة رضي الله عنها، فلقيها جبريل عليه السلام فامره بالعود، وبشرها بأسماعيل عليه السلام. وري إن رسول الله (كان أذ أنشد قول الأفوه الأودي: يا بني هاجر ساءت خطة ... ان تنالوا النصف منا أو تجاروا " لعن الأفوه " وهذا البيت من قصيدة الأفوه المشهورة التي يفتخر بها على نزار وقد أجيب عنها قديما وحديثا فممن أجابه عنها في عصره الفند اليشكري، وأسمه شهل بقصيدة يفتخر بها عليه ويرد قوله منها في ذكر هاجر رضي الله عنها: نحن أبناء معد ذي العلى ... وكنا من هاجر فخر كبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ولدت أكرم من شد له ... عقد الحلم أذ شد الأزار ان أسماعيل فخر وسنا ... حل في دار بها حل الفخار عطف الناس على أعقابنا ... مثل ما حنت على البو الظؤار فأرفعوا بيتا يساوي بيتنا ... هل لكم مثل حجار البيت جار ليس بيت يرغب الناس معا ... ان يزوروه كبيت لا يزار وروي إن رسول الله (سمع قائلا يقول: اني أمروء حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال: " ذلك أتعس لجدك، وأصغر لخدك وأنبأ لحدك وأبعد لك من الله ومن رسوله ". والعلم المشهور من ولد أسماعيل عليه السلام الذي يجتمع اليه أنسابهم وتلتقي شعوبهم معد بن عدنان. فضل معد بن عدنان وكان فضل بن عدنان فيما روي، سديد الرأي، كامل العقل، كثير الشكر لله عز وجل. وهو الغني بأسمه عن التعريف بآبائه، المقتنع بشهرته ونباهته عمن تقدمه ممن بينه وبين أسماعيل عليه السلام. وروي إنه كان بينه وبين أسماعيل عليه السلام ثلاثون أبا، وقيل دون ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأكثر منه والنسب الموجود في أيدي الناس يدل على دون هذا العدد بكثير. ووروي أن101 رسول الله (كان أذا أنتسب فأنتهى الى معد بن عدنان أمسك. اخبرنا الحسن بن محمد عن أبيه عن محمد بن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بشر العمي عن محمد بن الحسين التسميني عن هشام بن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي (إذا أنتسب الى معد بن عدنان أمسك، وقال: كذب الناسبون. قال الله سبحانه وتعالى: (وقرونا بين ذلك كثيرا) . وروي إن رسول الله (قال: " لا تنسبوا معدا فانه كان على حنفية أبراهيم صلى الله عليه وآله ". وروي أن بخت نصر لما فرغ من أخراب المسجد الاقصى ومدن بني أسرائيل وأنتسفهم قتلا وسبيا أري في منامه أو - امر بعض الانبياء إن يأمره - إن يدخل بلاد العرب فلا يستحيي بها أنيساً وذلك حين كفروا، وأتخذوا الالهة من دون الله غز وجل. وقتل أهل حضور نبيهم وأهل الرس نبيهم فنظم بخت نصر ما بين أيله والأبلة خيلاً ورجالاً، ثم دخلوا على العرب فأوحى الله سبحانه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أرميا وأرخيا عليهما السلام: إن الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا فعادوا بعد الملك عبيداً، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس وقد تقدمت الى أهل عربة بمثل ذلك فابوا الا لحاجة وقد سلطت بخت نصر عليهم لانتقم به منهم فعليكما معد بن عدنان الذي من ولده محمد الذي أخرجه أخر الزمان أختم به النبوة وأرفع به من الضعة فخرجا تطوى لهما الارض حتى سبقا بخت نصر فلقيهما عدنان فطوياه الى معد، وله يومئذ أثنتا عشر سنه فحمله رخيا على البراق وردف خلفه فانتهيا الى حران من ساعتهما، وطويت الارض لاروميا فاصبح بحران والحديث طويل هذا موضع الحاجة منه. فلما قضى بخت نصر غزوته رجع، ومات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابأ مدة حياة بخت نصر. فلما هلك خرج معد بن عدنان معه أنبياء بني أسرائيل حتى أتى مكة فاقام أعلامها وحج، الانبياء معه، ثم سأل معد عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، فقيل له جوشن بن جلهمة فتزوج أبنته معانة، وولدت له نزار بن معد. وفي رواية أخرى إن الله سبحانه أوحى الى برخيا بن أخبيا بن زوبابيل بن شلشيل من ولد يهودا بن يعقوب عليه السلام إن أئت بخت نصر فمره إن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم فيقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، وأتخاذهم الآله دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي. فقد برخيا على بخت نصر فأخبره بما أوحى اليه وذلك في زمن معد بن عدنان، فوثب بخت نصر على من كان في بلاده من تجار العرب وسفارهم، وكانوا يقدمون بالتجارات ويمتارون الحب والتمر والثياب وغيرها، فجمع من ظفر به منهم وبنى لهم حيراً على النجف، وحصنه وضمهم فيه ووكل بهم حرساً ثم نادى الغزو وذكر مثل الحديث. فلما عاد بخت نصر وقد أخرب أرض العرب خلى عمن كان حبسة في الحائر فلم ينصرفوا منه، واتخذوه منزلا مدة حياة بخت نصر فهي الحيرة. وكان هذا سببها بنائها فلما هلك بخت نصر أنتقلوا الى الانبار، وخلت الحيرة فلم تزل خراباً الى أيام أردشير بن بابك، فأنه أستعمل عمرو بن عدي على العرب، وأمره إن يسكنها، ويتخذها منزلا فنزلها ونزل الناس معه فعمرت بذاك وقد تقدم ذكر ذلك. وقد ذكر الطبري هذه الخبار في أمر بن عدنان وأستوفى شرحها في تاريخه. وروى أبن جمهور عن أبيه عن أبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران عن القاسم بن أصيهب عن الحجاج بن أرطاة بن أبي رباح عن أبن عباس رضي الله عنه مثل ذلك إلا إنه قال في حديثه إن بخت نصر لما أوقع بأهل حضورا وأهل أرمينة حتى إذا أدبر الامر رداه الى موضعه من تهامة، فكان بمكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وناحيتها مع أخواله من جرهم فأختلط بهم وناكحهم. وكان معد وولده أشراف العرب لم يكن أحد إلا يرى لهم فضلهم، وكان له من الولد عشرة أكبرهم 102 قضاعة وبه كان يكنى. وروى أبن جمهور عن أبيه عن عباد بن أبراهيم عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله (: " أتدرون ما كان يكنى معد، كان يكنى بأبي قضاعة ". وقال عمرو بن جرير بن مغيث بن جرير بن عجلان البلوي: فإن معدا كان يكنى ببكره ... قضاعة ما فينا له من يجمجم وهذا مما يستدل به على إن قضاعة بن معد، أنهم نافلة في حمير والله أعلم. وذكر نضر بن مزروع النسابة الكلبي أن قضاعة لم تزل متمسكة بنسبها الى معد بن عدنان مقيمة على ذلك حتى مضى صدر الخلافة معاوية، فذكر لهم عمرو بن مرة بن عامر بن مالك بن رفاعة الجهني نسبا في اليمن. وكانت لعمرو بن مرة صحبة وسابقة في الاسلام وطاعة في قومه، ولم يكن أطيع فيما ذكره من ذلك - إن كان ذكره - ثم قال وقد رجع عما قال من ذلك. ثم إن قضاعة أحدثت بينها وبين اليمن بالشام حلفا في أيام فتنة أبن الزبير ومروان أبن الحكم، وأبنه عبد الملك وذلك في أيام إغارات عمير بن الحباب السلمي على كلب، وإغارات حميد بن حريث الكلبي على قيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عيلان، فلم تزل كلب واليمن يشددون ذلك الحلف ومالأهم عليه خالد بن يزيد بن معاويه خلافا لبني مروان، وقصدا لتوهين ملكهم، وتفريق أجماعة أهل الشام عنهم حتى كثر المنتسبون من قضاعة الى حمير، ثم لم يستحكم ذلك حتى كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية، فأظهر العصيبة والتحامل على كلب، ووقع بين كلب وقيس في فرس لكلب سبق فرساً لقيس شرَّ. فأرادت قيس إن تحول بين كلب وفرسهم، فعظم الامر بينهم حتى زحف بعضهم الى بعض، وأستبان لكلب ميل مسلمة وتحامله، وجساءتهم اليمن فاظهروا لهم الغضب، ورجعوا معهم وأرادوا بذلك أستمالتهم فأنصرفت كلب من غزوة القسطنطينية، وهي بأسرها تنتسب الى مالك بن حمير وتنتفى من معد. وقال شاعرهم عطاف بن شعفره من بطن منهم يقال لهم بنو بكر أبن أبي سود بن زيد الله بن رفيده بن ثور بن كلب: يا أيها الداعي أدعنا وأبشر ... نحن بنو الشيخ اليماني الازهر قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكر قال نصر بن مزروع: فلم تزل قضاعة بعد غزوة القسطنطينية الى اليوم مختلفين في أنسابهم، الا إن أهل العلم منهم، والتقوى والسباقة في الاسلام لم يستحسنوا قط، ولم يستحلوا إن ينتفوا من أبيهم معد بن عدنان، ثم كان خالد بن عبد الله القسري حين ولي العراق بعد ذلك يعين على فساد نسب قضاعة، وأفسد نسب بجيله أيضاً وأعطى ذلك الأموال وأطمع أهل الطمع من قضاعة وبجيله. وكان ممن أنتفى من الشعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 قضاعة من معد وأنتسب الى اليمن الآعور الكلبي وأسمه حكيم بن عياش، وهو الذي كان يهاجي الكميت بن زيد الاسدي رحمه الله هذا ما ذكره نصر بن مزروع الكلبي النسابة وأقام على ذلك أدلة واضحة وأورد عليه شواهد حسنه وأستشهد عليه بأشعار كثيرة. فأما هشام بن محمد الكلبي فروي عنه أنه روى أن معانة بنت جوشن بن جلهمة، وقيل أسمها جلهمة، وكانت عند مالك بن عمرو بن مالك بن حمير، ثم خلف عليها بعد معد بن عدنان فجاءت معها بقضاعة بن مالك، فكان يقال له قضاعة بن معد، ثم ولدت لمعد بن عدنان أبنه نزار، وبه كان يكنى أبى جيدة وقيل أبا قضاعة وقنصاً وقناصة وسناماً والغوث وقيل وشكا وجيدان، وجيده، وعبيد الرماح، وهم في بني كنانة بن خزيمة، وحشدا وهم في عك وجياده والقحم، وقيل بل كانت معانة بيدا عند معد بن عدنان، فولدت له قضاعة، ثم خلف عليها مالك بن عمرو بن مالك بن حمير، فتبنى قضاعة فنسب اليه وقيل إن أسمة عمرو، فلما تقضع عن قومه أي بعد عنهم سمي قضاعة والله أعلم. وقال بعض الرواة قضاعة عكبرة قال أبن الكلبي، ولا أدري ما هذا. و روي103 عن أبي عمرو بن علاء إنه قال لم تزل قضاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 معدية في الجاهلية، ثم تحولوا فقالوا: قضاعة بن مالك بن عمرو وذلك لأن بني مالك بن عمرو أخوتهم لأمهم. وروى أن عمر بن عبد العزيز كانت أم أبيه كليبة، قال لبعض أخوال أبيه: إن على منكم لغضاضة. عضتكم حرب قوم، فانتفيتم من أبيكم، وأنتميتم الى غيرة، وكنتم أخوة قوم لأمهم، فصيرتم أنفسكم أخوتهم لابيهم وأمهم. قال هشام وكان عمرو بن مرة الجهني، أول من الحق قضاعة باليمن فقال فيه بعضهم: أيا أخوتا لا ترغبوا عن أبيكم ... ولا تهلكوا في لجة لجها عمرو وروى أبن الأعرابي عن المفضل الضبي عن القاسم بن معن وغيره، إن أول من الحق قضاعة بحمير، عمرو بن مرة الجهني، كانت له صحبة، فاتفقت الروايات عنه في ذلك. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله قضاعة أبن من؟ قال أبن معد وأنشد أبو عمرو شاعر قديم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 قضاعة كان ينسب في معد ... فلج بها السافهة والضرار فإن تعدل قضاعة عن معد ... تكن تبعا وللتبع الصغار وزنيتم عجوزكم وكانت ... حصاناً لا يشم لها خمار وكانت لو تناولها يمانٍ ... للاقى مثل ما لاقى يسار وأكره إن يكون شعار قومي ... لذي يمن إذا ذعرت نزار وقال كميت بن زيد الاسدي في ذلك: وقد أحدثت فيهم قضاعة نسبة ... وقالوا أبونا مالك ثم حمير وقال جميل بن معمر العذاري: انا جميل في السنام من معد ... الدافعين الناس بالركن الاشد وقال بثينة: ربت في الروابي من معد ... وفضلت على المحصنات الغر وهي وليد وأمثال هذه الاشعار والشواهد على نسب قضاعة الى معد بن عدنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 من شعرائهم لا تحصى كثره. وأخبرنا الحسن بن محمد عن أبيه عن أحمد بن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أحمد بن أبراهيم العمي عن عبد العزيز بن يحيى بن زيد الباهلي عن سليمان بن رفاعة عن مكحول، قال: أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد عليهم درائع الصوف، خاطمي خيولهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى إن بني معد أغاروا علينا وأنت بيننا، فادع الله عليهم، فتوضأ موسى عليه السلام وصلى ثم قال: يا رب إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا، فسألوني إن أدعوك عليهم، فأوحى الله اليه: لا تدع عليهم فانهم عبادي، وأنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته، قال: يا رب وما بلغ من محبتك له؟ قال: أغفر أه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: يا رب فما بلغ من محبتك لامته؟ قال: موضع نبيهم مني. قال يا رب فاجعلني منهم، قال تقدمت وأستأخروا. وروى أحمد بن أبراهيم العمي بإسناد أخر أيضاً قال لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم فلم يجب، ثم أغاروا فدعا عليهم فلم يجب صلاص مرات، فقال: يا رب دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء قال يا موسى: دعوتني على قوم هم خيرتي في أخر الزمان. جاءت هذه الاخبار هكذا وفي التقدير والله أعلم إن موسى عليه السلام كان قبل معد بن عدنان وأنهما لم يتعاصرا، ومما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يدل على ذلك ما تقدم من ذكر حمل أروميا وبرخيا عليهما السلام معد بن عدنان لما غزا بخت نصر العرب، وبخت نصر كان بعد موسى عليه السلام بما شاء من الزمان، والاشبه بالصحيح إن تكون شكوى بني إسرائيل من بني معد الى بعض أنبيائهم الذين كانوا في ذلك العصر فسبحان العالم بكل شيء. فضل نزار بن معد وكان نزار بن معد وصي أبيه بوصيته دون غيره من ولده، ولما رآه من104 صلاحه وسؤدده وتفرس فيه من نجابته، وأوصى أخوته بطاعته وأمرهم بأكرامهم وتسويده. وكان القيم بأمرهم بعده، والمحافظ على شرفهم. وفي ولد نزار الشرف على ولد أعمامهم جميعا بفضل أبيهم ورئاسته. وروي إن أخوته شكوا اليه من ظلم عدوهم، وما ينالهم من جورهم، فقال: أركضوا عليهم بسم الله، فأطاعوه لما كان أبوهم أوصاهم به من طاعته ولزوم أمره وكانوا فيما روي سبعة، وقيل عشرة فركضوا على عدوهم، وظفروا فعجب الناس لذلك وحسدوهم على ظفرهم، وندم بنو معد على ما صنعوا، فقالوا لأخيهم نزار: إننا أطعناك لما كان أبونا أوصانا به من طاعتك، فركضنا على عدونا وقد جنينا مما جنينا، ونحن سبعة فمن لنا بعدونا؟ فقال: يا قوم أما كنتم تسمعون أباكم يقول في خطبته: أتقوا الله فأن في التقوى العز الاكبر، وأشكروه فان في الشكر المزيد، وأعلموا إن الله سبحانه إذا أراد بقوم خيراً وفقهم لطاعته، وإذا عصوه سلط عليهم من يذلهم، ثم يزيليهم عن معصيته. وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 عصاة، وقد تبينت أنكم تغلبون وتملكون فلا تشتغلوا بشيء غير التوكل على خالقكم، وطلب الزيادة منه بحسن الشكر له والعبادة فانصرفوا عنه، فقال لابنه مضر وهو صبي: أعرف لي ما عند القوم، فرجع فقال له كلهم حزن لما صنع شكا في قولك. قال: فكيف أنت يا بني؟ قال: لا أشك في قولك. فتفرس فيه النجابة فكان أثر ولده عنده. وكان نزار يأمر بنيه بالتقوا فيقول: يا بني أتقوا الله فلما مات دفن بذات الجيش فكان قبره يعرف يقبر التقي. وأوصى الى أبنه مضر وجعل له قبة حمراء من أدم كانت له وما أشبهها، وجعل لربيعة الفرس وما أشبهها، ولاياد خادما له شمطاء وما أشبهها، ولانمار الحمار وما أشبهها فقيل مضر الحمراء، وربيعة الفرس، وإياد الشمطاء، وأنمار الحمار. قال الحمار الشاعر: نزار كان أعلم حين ولى ... لأى بنيه أوصى بالحمار وقيل إنه أعطى أنمار جاريه له تدعى بجيله. فحضنت ولده فنسبوا اليها فقيل بجيلة. وأوصاهم إن أختلفوا في قسمة ماله إن ياتوا الأفعى الجرهمي بنجران ليحتكم بينهم، وكان حكما يحكم بين العرب، ولم يجد له نسبا في جرهم والذي وجدت في نسبه: إنه الافعى بن الحصين بن غنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بن رهم بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ولعله نسب الى جرهم بجوار أو حلف، أو سبب غير ذلك، والله سبحانه أعلم. فأختلفوا فتوجهوا اليه فرأوا في طريقهم أثر جمل، فقال مضر: إنه أعور، وقال ربيعة: هو أزور، وقال أياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود. ثم ساروا فلقيهم شيخ ينشده فوصفوه له، فقال: ردوه علي، أو دلوني عليه، فقالوا: أنا لم نره، ولا نحن لسراق، فنازعهم وسار معهم الى الافعى، فلما أتوه نادى صاحب البعير، بعيري وصفوا لي صفته، ثم قالوا: لو لم نره، فقال لهم الافعى كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانباً، ويترك جانباً فعلمت إنه أعور، وقال ربيعة: رأيت أثره مختلفاً فعلمت إنه أزور، وقال أياد: رأيت بعره مجتمعاً فعلمت إنه أبتر، وقال أنمار: يرعى بالمكان الملتف ثم يتجاوزه الى مكان أرق منه نبتاً فعلمت إنه شرود، فقال الافعى: أنصرف أيها الشيخ، فليسوا بأصحاب بعيرك، ثم أنزلهم وأكرمهم وذبح لهم شاة، وقدم اليهم شراباً، وجلس بحيث يسمع حديثهم من غير إن يعلموا مكانه، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً لولا إن كرمتها غرست على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً لولا إنه أرضع بلبن كلبه. وقال أياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى أولا إنه ليس لأبيه. قال أنمار: لا شيء أفجع في حاجتنا من كلامنا هذا. فلما سمع الافعى كلامهم نهض الى أمه بالسيف فتهددها وخوفها وسألها عن أمره، فأخبرته أن أباه كان لا يولد له. فأمكنت غيره من نفسها فحملت به، وسأل وكيله عن الخمرة، فقال. أنا اعتصرناها من كرمة غرسناها على قبر أبيك وسأل الراعي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 اللحم فقال: شاة ماتت أمها فارضعتها بلبن 105 كلبة. فأتاهم فقال قصوا علي قصتكم فاخبروه باختلافهم فيما ترك أبوهم، فقال: إن القبة الحمراء وما أشبهها من الادم لمضر، فصار له الذهب والابل، وقضى بالخيل الدهم والخباء الاسود وما أشبهها لربيعة، وقضى بالخادم والشمطاء، وما أشبهها لاياد، فصارت له الخيل والبلق والبقر والماشية، وقضى لأنمار بالحمار وما أشبهه فصارت له الارض والدراهم. ثم سألهم عن معرفتهم بشأنه وبشأن اللحم والخمر فقال مضر: أما الخمرة فوجدت في رأسي منها ما لم أكن أعهده من غيرها، فعلمت إن ذلك من أسباب الموت وإن كرمتها نبتت على قبر وقال ربيعة: وأما اللحمة فأني وجدت فيه خبث ريح لم أكن أعرفها من اللحوم فعرفت إنه مغذو بلبن كلبة، وقال: وأما أنت فإني رايتك تبدأ بالسب من لم يسبك، فعلمت إن ذلك لا يكون إلا من خبث ولادة، فانصرفوا من عنده وأقتسموا مال أبيهم على ما قضى به بينهم، وكانت الرئاسة عليهم لمضر وهو القيم فيهم مقام أبيه. فضل مضر بن نزار وكان مضر بن نزار وصي أبيه، والقائم بامر قومه بعده، والحافظ لشرفهم وله الرئاسة عليهم غير مدافع، وهو واخوه ربيعة الكريمان الصريحان من ولد أسماعيل عليه السلام، وهما سلفا معد وغارا معد قال الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ومنا الذي أعطى يديه رهينة ... لغازي معد يوم عقد الذمائم يعني عبد الله بن حكم بن زياد بن جوى بن سفيان بن مجاشع حين جعل نفسة رهينة عند ربيعة والأزد على ما كان لهم عند تميم وقبائل مضر من الديات في الحروب التي كانت بينهم بالبصرة. وأخبرنا الحسن بن محمد أجازة عن أبيه عن أحمد بن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بشر أحمد بن أبراهيم العمي عن أحمد بن عمرو الزيبقي عن عبد الله بن المكرم الضبي عن محمد بن زياد عن الميمون بن مهران عم أبن العباس رضي الله عنه. قال: قال رسول الله (:: لا تسبوا مضر وربيعة، ولا تسبوا قيساً فأنه كان مسلماً ". وفي ولد مضر النبوة والشرف والثروة، ولهم الفضل على ولد أخوته وغيرهم من الناس. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يفضل مضر الناس بخلال كثيرة منها النبوة، والخلافة، والملك، وكل شريف في الاسلام من الناس أجمعين فمضر شرفته. وأخبرنا الحسن بن محمد أيضاً بالاسناد المذكور الى أبي بشر العمي عن محمد بن الحسين عن محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام عن أبي قتادة عن الحسن عن دغفل بن حنظلة قال: قال رسول الله (: " إذا أختلفت الناس فالحق في مضر ". وبهذا الاستناد المذكور عن أبي بشر العمي عن أحمد بن عمرو الزيبقي عن يحيى بن جعفر بن مواى بني هاشم عن أبي الحسن علي بن عاصم الخزاعي عن داود بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أبي هند، قال: تنافر رجلان الى الشعبي في أي ولد نزار أشراف، فقال لهما: الم تسمعا بوصية نزار؟ قالا: بلى، قال فلمن سمعتما إنه جعل القبة؟ قالا لمضر، قال فإن القبة هي العلم المشهور الذي يلجأ اليه الخائف، ويقصده الوافد، ويشير اليه المشير، وينيخ بفنائه الضيف، وهي ملجأ أبن السبيل والمستغيث، وعندها تربط الفرس، وعنها ينبح الكلب، واليها يروح المال فصاحبها هو الرئيس. وروي إن مضر لما حضرته الوفاة قال لبنيه ومن حضرهم من أهل بيته وأخوالهم: من يزرع شراً يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم، وأصرفوها عن هواها فيما أفسدكم، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق. ثم خص بوصية أبيه الياس وأوصى اليه بوصية منها: أتق الله يا بني، فإنك أذا أتقيته بصّرك رشدك، وأذا مت فاقبرني حيت أقبض، فأني أخاف إن أقبر في موضع لا أستحقه. وتوفي بخيف منى ثاني يوم النحر فدفن حيت قبض فمسجد الخيف على قبره. فضل الياس بن مضر وكان الياس بن مضر وصي أبيه والرئيس بعده، والقائم بسؤدده، ومضر تتشعب شعبتين، وهما خندف وقيس، فخندف هم بنو الياس بن106 مضر وفيهم النبوة والثروة والشرف. وكانت العرب تعظم الياس تعظيم لقمان الحكيم، وكان حسن السياسة لقومه والحياط لهم والقيام بأمورهم والاصلاح لأحوالهم والمؤاساة لهم وفيه يقول الحارث بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار: رؤفت وكنت بنا رحيما ... كأنك بيننا أدد أبونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وأسماعيل قد أمسكت منه ... ومن نوح وكنت كما ولونا لبست ثيابهم فقدمت بها ... فعم الناس فضلك أجمعينا ونحن كذاك حولك في رفادٍ ... لديك كما لديك الصالحونا إذا ما أمة ذكرت أخاها ... بحسن سياسةٍ فليسألونا نطاع ما أضاع الدهر منا ... ويصلح جهده فينا أخونا وروى أبو بشر العمى عن موسى بن سهل عن عبد الله بن الرحيم عن بكر بن عبد الملك عن زياد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أبي عمر قال: لما أدرك الياس بن مضر أنكر على بني أسماعيل عليه السلام ما غيروا من سنن آبائهم، وبأن فضله عليهم ولان جانبه لهم حتى أجتمعوا عليه ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من بني أسماعيل عليه السلام بعد أدد، فردهم الى سنن أبائهم حتى رجعت نيتهم تامة على أولها. وروي إنه رد الى البيت الركن، وأهتدى اليه البدن، وقيل، إنه كان مصاحبا لذي الكفل عليه السلام وتزوج ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وهي خندف فولدت له بنيه الثلاثة: مركة وطابخة وقامعة، ويقال فيه قمعة وقيل أن أسم مدركة عامر وأسم طابخة عمر. وقيل بل أسم مدركة عمرو، وأسم طابخة عامر، وأسم طابخة قامعة عمير. ووري أنهم كانوا مع أبيهم وهم صبيان فسنح لهم صيد فطرده عمرو فأخذه وأعطاه عامراً فذبحه وطبخه. وقعد عمير لم يصنع شيئاً، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الناس لعمرو أنك أدركت ما طلبنا فسمي مدركة وقال لعامر وأنت قد أنضجت ما طبخنا فسمي طابخة وقال لعمير وأنت قد جزنت فانقمعنا فسمي قامعة وغلبت عليهم هذه الأسماء فعرفوا بها. وأصاب الياس السل فلذلك يقال لمن أصابه السل به داء الياس. قال الشاعر: فلو كان داء الياس بي وأغاثني ... طبيب بارواح العقيق شفانيا وقال أخر: وقول الكاشحين أذا رأوني ... بداء الياس فهو كراه مودى ومات حدث السن وخلف بنيه صغارا مع أمهم خندف فحزنت عليه حزننا شديدا وحرمت اللذات وآلت لا يظلها سقف بيت وخرجت تسيه في الأرض. وروي إن الياس مات يوم خميس والعرب أذ ذاك تسمي الخميس مؤنسا وكانت خندف أذا طلعت الشمس من يوم الخميس لم تزل تبكي الى إن تغرب الشمس فضرب بها المثل. قال الشاعر: فلو إنه أغنى لكنت كخندف ... على الياس لما كانت الدهر تندب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 اذا مؤنس لاحت عرانين شمسه ... بكت يومها حتى ترى الشمس تغرب فلم يغن شيئا حزنها والتدامها ... وما طلها دهر وعيش معذب وقالت سلما الغسانية وقد مات أخوها ثم أبوها فأكثرت البكاء عليهما حتى لامها قومها: يلحون سلما إن بكت أباها ... وقبل ما قد فقدت أخاها فحولوا العذل الى سواها ... عصتكم سلمى الى هواها كما عصت خندف من نهاها ... خلت بنيها أسفا وراها تبكي على الياس ما أتاها وتركت خندف بنيها فكان الناس أذا رأوهم قالوا: بنو خندف ورقوا لهم لموت أبيهم وأشتغال أمهم بالحزن عنهم وغلب عليهم أسم أمهم بهذا السبب قال راجزهم: اني أنا الأعور هذا نزبي ... امهتي خندف والياس أبي يقال نبز ونزب107. ونشئوا فكانت الثورة فيهم والشرف الظاهر لهم على غيرهم. و الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 كان الياس وولده يتخذون الأخبية الحمر تمسكا بسنة مضر فكانت خندف تسمى مضر الحمراء فكانت قيس تتخذ الأخبية السود فقيل لهم مضر السوداء وكان ولد الياس غير مدافعين عن الشرف والفضل في ولد أسماعيل عليه السلام ولا غيرهم. قال المرار بن منقذ العدوي من عدوية تميم وكانت أمه أسدية: انا أبن سراة فرعي آل زيد ... وفي أسد زنادي قد ورينا فضلنا الناس أنا أولهم ... وإن مكارم الأخلاق فينا ابا فابا أذا نحن أنتسبنا ... الى إن تبلغ الأنساب طينا فما من معشر ورثوا حصانا ... ولا بلغوا مساعي أولينا سوى إن النبوة في قريش ... وما يك فيهم فبنو أبينا وقال الفرزدق: وما قوم أذا العلماء عدوا ... صميم الأكرمين الى التراب بمختلفين إن هم فضلونا ... عليهم عند ذاك ولا غضاب فضل مدركة بن الياس وكان مدركة أبن الياس سيد أخوته ورئيس قومه والقائم فيهم مقام أبيه وفي ولده والثروة والشرف ولهم الفضل على ولد أخوته وغيرهم من العرب. اخبرنا القاضي أبو المعالي أحمد بن علي بن قدامة أجازة عن علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الحسين العلوي عن أبي عبيد الله المزرباني عن أبي بكر الصولي عن أبي بكر بن دريد عن أبي حاتم عبيدة عن أبي زرارة بجال بن حاجب من ولد علقمة بن زرارة قال: خرج يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة الدارمي حاجا قال: فلما شارفت البلد رأيت ركبا على أبل عتاق برحال ميس مابسة بالأدم في وسطه شيخ يحفون به فعدلت اليهم فسلمت عليهم وبدات بالشيخ ثم تأملتهم فلم أعرفهم فقلت ممن القوم؟ فأراموا هيبة للشيخ وأنتظارا لجوابه. فقال الشيخ: من مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. فقلت: حياكم الله وأنصرفت فصاح الي: قف أيها الرجل. فوقفت فقال: نسبتنا فانتسبنا لك فشاممتنا مشاممة الذئب الغنم ثم أنصرفت ولم تكلمنا فقلت ما أنكرت سوءا ولكني ظننت أنكم من عشيرتي فاناسبكم فانتسبتم نسبا لا أعرفه ولا أراكم تعرفوني. فامل الشيخ لثامه وحسر عمامته وقال: لعمري لئن كنت من جذم من أجذام العرب لاعفنك اليوم قلت: فاني من أكرم أجذامها قال: فان العرب بنيت على أربعة أركان: مضر وربيعة واليمن وقضاعة فمن أي الأركان أنت؟ قلت: من مضر قال: أمن الأرحاء أم من الفرسان؟ فعلمت إن الأرحاء خندف وإن الفرسان قيس فقلت: من الأرحاء قال: فانت أذا من خندف. فقلت: أجل قال: أفمن الأرنبة أم من الجمجمة؟ فعلمت إن الأرنبة مدركة والجمجمة طابخة فقلت: من الجمجمة قال: فانت أذا من طابخة. قلت أجل قال: أفمن الصميم أم من الوسيط فعلمت إن الصميم تميم وإن الوسيط الرباب فقلت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الصميم قال: أذا أنت من تميم قلت أجل قال أفمن الأكرمين أنت أم من الاحلمين أم من الاقلين؟ فعلمت إن الاكرمين زيد مناة بن تميم وإن الاحلمين عمرو بن تميم وإن الاقلين الحارث بن تميم فقلت من الاكرمين قال: فانت أذا من زيد بن مناة قلت أجل قال أفمن الجدود أم من البحور أم من الثماد؟ فعلمت إن الجدود مالك وإن البحور سعد وإن الثمود بنو أمرئ القيس فقلت: من الجدود قال: فانت أذا من بني مالك قات أجل أفمن الذرى أم من الارداف؟ فعلمت إن الذرى حنظلة وإن الارداف قيس ومعاوية وهما الكردوسان فقات: من الذرى قال أذا من حنظلة قات أجل قال أفمن البدور أنت أم من الفرسان أم من الجراثيم؟ فعلمت إن البدور مالك وإن الفرسان يربوع وإن الجراثيم البراجم قلت من البدور قال فانت أذا من بني مالك بن حنظلة قلت أجل قال أفمن الارنبة أم من اللحيين108 أم من القفا؟ فعلمت إن الارنبة دارم وإن اللحيين طهيه والعدوية وإن القفا ربيعة فقلت من الارنبة قال: فانت أذا من بني دارم قلت أجل قال: أفمن اللباب أم من الهضاب أم من الشهاب؟ فعلمت إن اللباب عبد الله وإن الهضاب مجاشع وإن الشهاب نهشل فقلت من اللباب قال فانت أذا من عبد الله قلت أجل قال أفمن البيت أم من الذوافر؟ فعلمت إن البيت بنو زرارة وإن الذوافر الاحلاف فقلت من البيت قال فانت أذا من بني زرارة قلت أجل قال فان زرارة ولد عشرة: حاجبا ولقيطا وعلقمة ومعبدا وخزيمة ولبيدا وأبا الحارث وعمرا وعبد مناة وملكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فلأيهم أنت؟ قات من بني علقمة فان علقمة شيبان بن علقمة لم يلد غيره فتزوج شيبان ثلاث نسوة: مهدد بنت حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد فولدت له يزيد وعكرش بنت حاجب بن زرارة فولدت له المأمور عمرة بنت بشر بن عمرو بن عمرو بن عدس فولدت له فلانا فلأيهن أنت؟ فقلت للمرثدية قال فكن يزبد بن شيبان بن علقمة قلت فانني هو. فقال يا أبن أخي ما أفترقت العرب فرقتين بعد مدركة الا كنت في أفضلهم حتى زاحمك أخواك فلئن تلدني أم أحدهما أحب الي من إن تلدني أمك أتراني عرفتك يا أخا مضر؟ فقلت أي والله وأي معرفة أفلا ترى الى هذا الشيخ النسابة المبرز في هذا العلم كيف أستثنى بمدركة لعلمه بفضله وشرفه وفال ما أفترقت العرب فرقتين من بعد مدركة الا كنت في أفضلها لعمه بان التفاوت وقع بينهم في درجات الفضل من بعد مدركة وإن درجة مدركة هي أعلى الدرجات في الفضل والشرف. وقد لخبرنا بهذا الحديث محمد بن هبة الله عن محمد بن الحسن عن جماعة بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن الحسين بن سعيد عن أحمد بن جمهور عن أبي ذر عن عبد الله بن سليمان الهاشمي عن شيخ من بني تميم عن عقال بن شبه قال حدثني يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة وذكر الحديث الا إنه خالف في اللفظ في موضع منه وقال أتيت حلفة يتحدثون فسلمت علهم وأذا رجل حسن الوجه حسن الحديث ظريف قد أيتولى على المجلس فقلت ممن القوم؟ فقالوا: من مهرة فانصرفت عنهم فقال: الحقوه فلحفني رجل فاخذ زمام ناقتي بمحجن في يده حتى أنتهى بي الى القوم فقال: يا هذا شاممتنا مشاممة الذئب الغنم ثم أنصرفت عنا فقلت أنكم أعتزيتم الى قوم لا أعرفهم ولا أظنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يعرفوني الرجل المميز والله لاتوهن بك الليلة في مثل لجج البحر ولاعرفنك إن كنت من العرب ثم خالف في بعض الاسماء. وقال في أخر الحديث فلما قال لي أتراني عرفتك يا أخا مضر قلت كيف ترى معرفتي بنسبي يا أخا مهرة قال: ما رأيت مثلك قط فقلت يا أخا مهرة؟ من أين علمت هذا النسب والعلم؟ قال سمعت أبي يخبر عن جدي إنه ممن قرأ هذا النسب على عقيل بن أبي طالب وإن عقيل بن أبي طالب سمعه من الاحنف بن قيس وإن الاحنف بن قيس تعلمه من قيس بن عاصم وإن قيس بن عاصم تعلمه من أكثم بن صيفي وإن أكثم بن صيفي تعلمه من عبد المطلب بن هاشم ولم ير أعلم بالنساب منه. ولم يزل مدركة رئيس أخوته وقومه يرون ذلك له كالفرض الواجب حتى حضرته الوفاة فجمع أهلله وولده فاوصى اليهم فقال: أوصيكم بتقوى الله ربكم وأحذركم باسمه ونكال نقمته وسطوته وأوصيكم بحسن الجوار لمن جاوركم وعفة فروجكم والسنتكم وأيديكم كلوا من حيث تقل التبعة في العاجل ويقل المتظلم منكم في الاجل وكونوا زينا لابائكم من بعدهم وورثوا ذلك أبناء كممن بعدكم وأعلموا إن أباءكم من لدن أسماعيل عليه السلام لم يدلهم من يطعن في حسبه ولا يغمز في نسبه عليكم بذروات العفاف والصلاح والدين فانهن أنجب للاخيار وأولد للاطهار وأثلج للقلوب وأسكن لها في المغيب فان الرجل أذا غاب عن منزله وتصرف في أمره وفهمه لم يدر ما تحدث أهله بعده إن خامره سوء ظن وأذا وقع الاختيار موقعه طابت النفس بالانتجاع والمغيب109 وأشبه الولد أباه وأعرفو الفضل لكبرائكم وأعطفوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 أصاغركم وأرحموا ضعفاءكم وأسوا فقراءكم فلتكن أيديكم واحدة على من ناوأكم. ثم خص بالوصية أبنه خزيمة سيد ولده. فضل خزيمة بن مدركة كان خزيمة بن مدركة سيد قومه بعد أبيه وفي ولده النبوة والثروة والشرف ولهم الفضل على من سواهم من قومهم ومن سائر الناس وكان متمسكا بسنن أبائه مقتديا بافعالهم سالكا لاثارهم. روى أبو بشر العمي عن أبراهيم بن محمد بن شكن بن عسل بن ذكوان عن أبي حاتم قال: قال أبو عبيدة: أول من أخلص من العرب بلا اله الا الله خزيمة بن مدركة كان أخلاص القوم سبحان الله. وروي إنه لما حضرته الوفاة قال لولده: أنتم بقية قوم نوح متناسلون من سلالة أبراهيم وأسماعيل عليهما السلام وقد ورثكم أباكم مجدا فصونوه ولا تهدموه باضاعته فقد سدتم العرب ودانت لكم عظموا شعائر الله وأخلصوا نياتكم وتقربوا اليه بالاعمال المرضية والافعال الزكية وصونوا لنفسكم عن كل دنية أعفوا عن الجاني وصلوا القاطع وأحسنوا الى المسيء ولا تميلوا الى الجمال في النساء وأطلبوا العفاف والدين ولا تردوا الاكفاء عن حرمكم وإن كانوا مقلين فان المال غاد ورائح وظل زائل وأعلموا أنكم من ثمرة قوم صالحين غرسكم طيب منبت، وأكرم محتد، وسيكون فيكم من تدين له العرب، ويسود العجم، فأنا نتوارث القول فيه. ولولا أشفاقي عليه لبحت والذي أقول سيكون. فهل يعلم في سائر الامم نسب أشرف من نسب يكون أصله أبراهيم الخليل وأسماعيل الذبيح ويخرج الله من فرعه محمداً خاتم النبيين صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 عليه وعليهم أجمعين؟ والله سبحانه أعلم بخلقه. ومما يشهد به أدلة العقول وهي الادلة القاهرة إنه سبحانه أعلم بخلقه، نسبا أشرف، وعنصرا أطهر من هذا النسب لاختاره لرسول (فاخرجه منه. ووري إن عليه السلام إنه قال: " ما أفترق الناس فرقتين من لدن آدم عليه السلام الا كنت خيرهما حتى أنتهيت ". وإنه قال عليه السلام " أنا صفوة من صفوة وخييرة من خيرة ". وقال (: " نقلت من أصلاب الطاهرة الى الارحام الطاهرة ناكحا لا سفاحا ". فهؤلاء الاكابر المذكورين آباء أسد بن خزيمة المدينين له ولولده إن يستضيئوا بمنارهم، ويستطيلوا على الناس نعمائهم لانه لم ينزل ينتقل في هذا النسب الطاهر، ويرث الشرف الظاهر عن أبائه هؤلاء كابر عن كابر من لدن أدم عليه السلام الى أبيه الادنى خزيمة بن مدركة. فضل أسد بن خزيمة في نفسة اخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن عن أبيه بن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بشر العمي عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن الزبير عن محمد بن سلام عن أبي أيوب الحارث بن أيوب العنبري عن عمرو بن عبيد عن الحسين قال: قال رسول الله (: " لا تسبر مضر فانه قد أسلم، ولا تسبوا ربيعة فانه قد أسلم ". قال وفي رواية " لا تسبوا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مر، ولا تسبوا الحارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بن كعب فقد كانوا مسلمين " وفرأت حديثا عن بعض حكماء العرب إنه كان يعبد الله سبحانه على ملة أبراهيم صلى الله عليه وآله ويكتم ذلك فلما حضرته الوفاة أطلع بنيه على أمر دينه وأوصاهم بالتمسك وقال لهم يا بني: تمسكوا بحنيفية أبراهيم صلى الله عليه وآله فأني على هذا الدين، أما أني لا أعلم أحد من العرب عليه الا أسد بن خزيمة وتميم بن مر. وقيل كانت في العرب ست أرحاء منها راحون في حندف وهما: أسد بن خزيمة، تميم بن مر فهؤلاء آباء سيف الدولة ملك العرب، وآباء قومه الذين اليهم ينتسبون وبانتمائهم اليهم110 يبجحون وبفخرهم وبشرفهم يفخرون. قال المرار بن سعيد الأسدي يفتخر: من كان يرقا على خلج يعاب به ... فأنني ناطق بالحق مفتخر معالنا أتحدى الناس كلهم ... اعلوا البراز ولا تمسي لي الخمر اذا تشعب فرع كان أطوله ... فرعي ولي شجرات العيص والكبر كل أمرئ لا يلاقيني الى نسبي ... يود لو كان في قومي أذا ذكروا اذا القوم تسامت في مزاحفها ... وشد للمجد المعهد الازر فأي قرم يسامحني أذا جذبت ... ملوك خندف وبي جمهرت مضر فرعان منها يلف الحق بينهما ... قد طاب قوم هم منهم وقد كثروا فينا الامام ونور الناس كلهم ... فينا كواكبه والشمس والقمر والحاكمون بأمر الله أنزله ... من علمه وعلينا أنزل السور وقال ردي بن منظور بن سحيم الاسدي ثم الفقعسي أيضاً يفخر بمثل هذا المعنى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ونحن خزيمة فينا الهدى ... ولولا خزيمة طال الفتن وما الناس الا رعايا لنا ... يقومها عدلنا والسنن ومن كان ذا أحنة منهم ... ضربناه حتى تموت الاحن ومن الاقيشر الاسدي الشاعر، وأسمه المغيرة بن الاسود بن وهب بمطر بن ناجية اليربوعي، وهو يخاطب على منبر الكوفة في أيام الضحاك بن قيس الشاري لما دعا الضحاك الى نفسة فقال: ابني تميم ما أمنبر ملككم ... لا يستقر قعوده يتمرمر ان المنابر أنكرت أشباهكم ... فدعوا خزيمة يستق المنبر وقال المرار بن سعيد أيضاً في مثله: بنو خزيمة قومي إن سألت بهم ... وجدتهم خير من يحفى وينتعل هم العرانين والاذناب غيرهم ... فكل قوم لقومي تابع حول لما تخير ربي وأصطفى زجلا ... من خلفه كان منا ذلك الرجل ثم الخلافة فينا لست واجدها ... في معشر غيرنا ما حنت الابل لنا المساجد نبنيها ونعمرها ... وفي المنابر قعدان لنا ذلل فلا نميل عليها حين نركبها ... ولا لهن بنا من معشر بدل نحن المقيمون هذا الناس كلهم ... بالمجد كانت لنا أشراقة الطول الا ترى إن هذا الناس قد نصحوا ... لنا على طول ما غشوا وما محلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 نعلوا جماجمهم عند أختلافهم ... بالخافقات أذا ما مالت القلل فغد ثابوا وقومنا قناتهم ... حتى أستقاموا طريق الحق فاعتدلوا وكنت أنا قد نظمت قصيدة في مديح ملك العرب سيف الدولة أعز الله نصره فلما مر بي هذا المعنى الذي ذكره المرار في المنابر أستحسنته فاحببت ذكره فيها فقال: رقا في مراهط من خندف ... لاخمص من رامهن الذليل شوامخ لا تعتليها النسور ... ولا تتساند فيها الوعول فكنت له ثمرات العلى ... وفرغ مناسبها والاصول ومن كخزيمة يوم الفخار ... اذا أمتد للفخر عرض وطول قبيس تخيرهم ذو الجلال ... فمنهم خلائفة والرسول فكل الانام لهم تابع ... وكل العلى اليهم يؤول مطاياهم في طلاب العلا ... منابر ماثلة لا تزول تفوت الجياد وما مسها ... وجيف ولا نال منها دميل وتدرك أقصى مراعي العلى ... وما كان منها اليه رحيل وقلت في أخرى أمتدحته بها: من ذا كخندف أم من ذا كبهجتها ... بني خزيمة في بحبوحة النسب كانت خزيمة تدعى من تكرمها ... بالانف قدما وليس الانف كالذنب قوم علوا مضر فضلا كما فضلت ... على الورى مضر في المجد والحسب منهم نبي الهدى الميمون طائره ... خير الانام ومنهم كل منتخب112 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فكيف تقاس تلك الانساب المختلفة فيها المطعون عليها بنسب ملك العرب سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد بن مرثد بن الديان بن غدور بن عدلي بن جلد بن حيي بن عبادة بن مالك بن عمرو بن أبي المظافر ومالك بن عوف بن معاوية بن كسر بن ناشرة بن نصر بن سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وقد فاز دونهم وفاتهم بالولادة الابراهيمية ونمي من السلالة الاسماعيلية والجذم المعدي والغاز المضري والشعب الخندفي والانف الخزيمي الذي نزهه الله تعالى عن الشكوك وطهره من الريب والعيوب تكرمة منه لرسول الله (وطهره تطهيرا لعنصره فهو كالنهار وضاحا كالشمس ضياء غير متجاذب ولا متنازع فيه كما قال الميدان بن صخر الأسدي: اني أنا الميدان عند الضم ... لا كاتم لاسمي ولا معمي في الانف من خزيمة الاشم ... اخي قريش وتميم عمي وأنما أراد بقوله أني أنا الميدان قياسا بالميدان الذي تجري فيه الخيل فأراد أنني أذا نوسبت كشف نسبي سقم الانساب أذا ضمت اليه وقيست به كما تكشف جياد عتاق الخيل وجيادها المقرن منها أذا ضم اليها وأجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 في الميدان معها فجعل أسمه في ذلك حقيقة ومجاز وقال أبو تمام رحمه الله في هذا المعنى: نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصبح عمودا عريان لا يكبو دليل من عمى ... فيه ولا يبغي عليه شهودا نسب على أول الزمان وأنما ... خلق المناسب ما يكون جديدا فليتامل من نظر في هذا الكتاب ما شرحناه ولينظر فيما وضجناه من فضل هذا النسب وشرف هذا الحسب إن شاء الله تعالى. بعونه وتوفيقه تم طبع الجزء الاول من المناقب المزيدية ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بسم الله الرحمن الرحيم ذكر فضله عليهم في العز والمنعة وفضله عليهم في عزه ومنعته ظاهر كظهورهم عليهم في دينه ونسبه لانهم لم كونوا ممن يقطع الجند الرساتين والامصار ولا يقسم فيهم الاموال وإنما كانوا حماة على عذارى العراق ونعز الاكاسرة الذي للاكاسرة وكانت البلاد باسرها للفرس ولم تكن العرب تذعن لهم بالطاعة كلها ولا تدين لهم باسرها وإنما كان يدين لهم منهم من قربت داره من أرضهم مرة وتحاربهم أخرى وكان أكثر ما يظفرون به في طاعة العرب إن يكفوا عن الاغارة على السواد وأطراف البلاد. وربما أجدب في أرضهم مرة وكانت الأرض التي تلي أرض الملوك مخصبة فرعوها باذنهم وأدوا الاتاوة اليهم ما داموا في أرضهم وبحيث يخافون إن يكسروهم بجموعهم وكذلك قال الشاعر فيما تقدم ذكره من الشعر الذي يحي به النعمان: جمعوا من نوافل الناس سيبا ... وحميرا موسومة وخيولا فإذا نزحوا عن أرضهم وبعدوا عن بلاده امتنعوا عليهم وكان جندهم الذين بهم امتناعهم وعزهم أهل الحيرة المسمون بتلك الاسماء المقدم ذكرها فكانوا يحاربون معهم طاعة لكسرى وحفظا لبيضتهم وأهليهم ومنازلهم وحماية لانفسهم وأموالهم ولا يمكنهم خذلانهم ولا التخلف عنهم وكانوا يغزون العرب أيضاً معهم طمعا في المغانم وكان جندهم الذين كانت تضعهم عندهم الاكاسرة فهم كانوا قوام ملكهم فإذا تأخروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عنهم وهى أمرهم حتى يخافوا أهل الحيرة على أنفسهم فكيف غيرهم من العرب كحال المنذر بن ماء السماء حين تأخر عنه مدد قباذ بن فيروز وسارت إليه بكر بن وائل مع الحارث بن عمرو الكندي فلم يكن له بهم طاقة فخرج هاربا عن الحيرة إلى هيت فكان هناك حتى صلح أمره وقد تقدم ذكر ذلك. وكان كل من قربت أرضه من العرب من العراق يحتاج إلى الميرة ودخول البلاد للكيل فيطيعونهم لهذا السبب عند حاجتهم إليه م كانت العرب أيضاً لا تخلو في ذات بينها من الدماء والحروب والمغاورة فيما يليهم وما منهم حي إلا يغازي حيا أخر وهذا موجود بينهم إلى اليوم فيقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم مال بعض وكانت الحل تزيد على ما هي بينهم ألان بالسبي لأنهم كانوا يسبون النساء في الجاهلية وكان الملك إذا أراد غزوة حي من العرب أستمال أعدائهم عليهم واستضافهم إلى نفسه ومن معه من أجناد الحيرة المذكورين وأستنجد بقوم على قوم وضرب بعضهم ببعض وكانت العرب تتخذهم لذلك مجمعا يجتمعون عليهم للغزو والمغانم ولما في نفوس بعضهم على بعض من الأحقاد والذحول فكانوا إذا دعوهم إلى الغزو واجتمعوا عليهم فكثروا طلبا للغنائم والأطماع حتى تبلغ عدتهم كل مبلغ فإذا قفلوا تفرقت العرب إلى ديارهم ولم يبق معهم غير أهل الحيرة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وكان لهم عمال على أطراف البلاد من العراق إلى البحرين حكم كل واحد منهم مع من بازائه من العرب في حمايته من البلاد لما يليه مثل هذا الحكم وكان في العرب من يدين لهم ويعطيهم الإتاوة وفيهم من يواثقهم ويهادنهم ولا يدين لهم وفيهم اللقاح من لا يدين لهم ولا يواثقهم فكانوا يسمون هؤلاء لقاحا يقولون حي لقاح إذا لم يكونوا في دين الملك ولا بينهم وبينه ميثاق. قال عمرو بن حوط بن سلمى بن هرمي بن رياح اليربوعي: لعمر أبيك والأنبياء تنمي ... لنعم الحي في الجلى رياح أبو دين الملوك فهم لقاح ... إذا هيجوا إلى الحرب أشاحوا وهو مأخوذ من قولهم لقحت الحرب بين القوم. 114 ومثل قول أبي زمعة الأسود بن المطلب بن أسد عبد العزى بن قصي لقريش لما أتاهم أبن عمه عثمان بن الحويرث بن أسد بكتاب قيصر ليملكوه على مكة: إلا إن قريش لقاح لا تملك. فكانت الملوك لا تزال تغازي اللقاح من العرب ويغزونهم وبينهم القتل والسبي والآسر والنهب ونصب الحرب على سبيل التكافي والمماثلة. وكان أسد بن خزيمة وغطفان بن سعد حلفاء وكانوا لا يعرفون في العرب إلا بالحليفتين وكانوا لقاحا لملوك آل نصر ولا يديونهم لهم ولا ينوهم لقوتهم وكانوا على ذلك إلى أخر أيام النعمان الأصغر. ولذلك قال زهير في حصن بن حذيفة بن بدر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومن مثل حصن في الحروب ومثله ... لانكار ضيم أو لحق يحاوله إذا حل الحيا الاحاليف حوله ... بذي لجب ولجاته وصواهله ابي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقلة ومما يقوي ذلك ويدل عليه قول النعمان للنابغة: قد كان لك في قومك ممتنع وحصن - يعني بني ذبيان - ولم يأت الملوك أحد منهم إلا نفر معدودون من وأوفد أو مهاد أو تاجر أو ذي حلة أو مصاهر، كسنان بن أبي حارث بن ظالم، وزبان ومنظور أبني سيار، فإنهم كانوا يأتونهم لمثل هذه الاسباب. وممن أتاهم الربيع بن زياد العبسي فانه أتى النعمان الاصغر، وكان يسمى الكامل لجماله وعقله، وكان النعمان يحبه ويقربه، وإذا خلا على شرابه دعا به بالمنخل بن مسعود اليشكري والبنطاسي وهو طبيب كان له. وروي في تسميتهم الطبيب البنطاسي، إنه منسوب الى النطاس بن عامر أحد بني جاوان من ولد إسماعيل عليه السلام ينسب ذلك اليه، وبسرجون بن توفيل، وهو تاجر من الروم من أهل الشام كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 نديما للنعمان يبايعه ويعامله ويسلفه ويطول مكثه عنده، فهؤلاء كانوا ندماءه الذين يأنس بهم ويختصهم، ولم يزل الربيع عند النعمان بهذه المنزلة الى أن رجز به عنده لبيد بن أبي ربيعة الجعفري، وهو غلام رجزه المشهور. أخبرنا أحمد أبن علي قدامة عن علي بن الحسين عن الصولي عن أبن دريد عن أبي عثمان 0000 قال: لما وفد الكلمة من بني عبس: وهم الربيع0000 وأنس الحفاظ بنو زياد، وبنو أم البنين 00000 جعفريون وهو عامر ملاعب الأسنة والطفيل 0000 الحكام بنو مالك ومعهم لبيد بن ربيعة غلام 00000بالغ. دخل بنو أم البنين الجعفريون على 000 حضر لهم الربيع بغير الجميل، فاعترضهم بكلام نال به منهم، وشق عليهم، فخرجوا من عند عثمان وجمين. فأتوا رحلهم فرآهم لبيد فقال لهم: ما شأنكم؟ فقالوا له: في شأنك يا غلام، وأعاد عليهم فزجروه، فقال: والله لا سرحت لكم ركابا ولا حفظت لكم متاعا حتى تخبروني، فأخبروه. فقال. اغدوا بي غدا معكم فتسرون ما أصنع عند الملك. فقال بعضهم لبعض: انظروا صبيكم فان بات نائما فقد تكلم الصبيان، وإن بات ساهرا فاغدوا به معكم. فلما أمسى ركب رحلا من رحالهم وبات عاضا على قادمته ساهرا طول ليلته، فلما أصبحوا قالوا له: صف لنا هذه البقلة التربة، فاقتلعتها بيده، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 هذه البقلة لا تؤهل داراً، ولا تدلي نارا، ولا جارا، وعودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل بلدها شاسع ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعا، وأهونها قلعا، وأخبثها مرعى فحرمها لجارها وجدعا، إلقوابي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكسٍ، وأتركه من أمره في لبس. فغدوا به وقد رجلوا جمته وضفروا شعامها، والبسوه فرد نعل، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا الهجاء، والبسوه من ثيابهم ثوبا، ودخلوا به والدارميء بالوفود، والربيع جالس إلى جنب النعمان يأكل معه في لحسةٍ كانت بين يديه ليس يأكل معهما ثالث115 فرجز لبيد فقال: يا رب هيجا هي خير من دعه ... في كل يوم هامتي مقزعة نحن بنو أم البنين الأربعة ... نحن خيار عامر بن صعصعة الضاربين الهام يوم الهيضة ... والمطعمون الجفنة المدعدعه إليك جاوزنا بلاد مسبعه ... إذ الفلاة أوحشت في المعمعة فاقبل النعمان عليه مستطرفا لفصاحته مع صغر0000 فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه. فقال: 00000 إن أسته من برصٍ ملمعه. فقال النعمان وما 000000000000000 فانه يدخل فيها أصبعه. يدخلها حتى يوارى أشجعه كأنه يطلب شيئاً ضيعه. فدفع النعمان لصحفة من بين يديه وقال: قبح الله هذا طعاما لقد خبث على منذ اليوم. فقال الربيع: أبيت اللعن إنه يكذب، وقد فعلت بأمه لا يكنى. وكانت أم لبيد في حجر الربيع، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نساء غير فعل وأنت المرء قال هذا في يتيمة. وفي رواية أخرى إن أم لبيد كانت عبيسة وكانت في حجر الربيع وإن أعمامه لما انصرفوا من عند الملك وأجمين، فسألهم عن شأنهم، فقالوا له: إن خالك صرف عنا وجه الملك، فلما قال الربيع هذه الكلمة قال له لبيد: أما إنها من نساء فعل فصدقة على ذلك لأنها كانت من قومه مسبة له وتهجينا. وأنصرف الربيع من المجلس خجلا فيعث اليه النعمان بضعف ما كان يصله به، وقال الحق باهلك، وأمر بوابه إن عاد إن يحجبه، فارسل اليه: أني لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أرى قول هذا الصبي الا وقد وتر في سمعك منه وبلج في صدرك ولست بقابل ما بعثت به الي شيء ولا برائم مكاني حتى ترسل الي من يجردني ويفتشني فارسل اليه ما أنت بصانع بذلك شيئا ولا قادر على رد ما دلت به الالسن فالحق باهلك فأنصرف الى قومه وكتب اليهم: اني رحلت باجمالي الى سعة ... ما مثلها سعة عرضا ولا طولا ترعى الروائم أجوار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحا وعسيولا بحيث لو وردت لخم بأجمعها ... ما وازنة ريشة من ريش سمويلا فاثبت بأرضك بعدي وأخل متكئا ... مع النطاسي طورا وأبن توفيلا فكتب اليه النعمان: شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأباطيلا فقد ذكرت بشيء لست حامله ... فجاوز الذكر أهل الشام والنيلا فما أتقاؤك منه بعدما جزعت ... خوض الركاب به أجرع سمليلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فالحق بحيث وجدت الأرض واسعةً ... وأنشر بها الطرف إن عرضا وإن طولا قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا فلم يعد إليه الربيع مدة حياته. وكانت سليم وهوزان تواثقهم ولا تدين لهم ويأخذون لهم التجائر فيبيعون لهم بعكاظ وغيرها فيصيبون معهم الأرباح. وربما آت الملك منهم الرجل والنفر فيشهدون مغازيه ويصيبون معه من الغنائم وينصرفون. ولم تكن لطائم الملوك وتجارتهم تدخل نجدا فما وراءه الا بخفراء من القبائل. وكان أهل الحيرة إذا خرج الملك بمقاتلتهم الى العرب خافوا إن يخالفه العرب الى الحيرة غازين فيتحصنون في حصونهم الى إن يعود وكان الملك ربما واثق من دنا أرضه من قبائل معد على إن لا يغزوا الحيرة إذا غاب عنها. وكان معظم من يجاورهم تميم وبكر بن وائل فهذه الاحوال كلها تدل على المناظرة والمماثلة والتكافي فيما بينهم وإنما روي من أحاديثهم النادر الذي لهم فيه الفخر والدلالة على علو الشأن والامر وأغفل ما سواه مما يدل على ضد ذلك. فمن أحاديثهم في ذلك بينهم حديث جذيمة الملك الأبرش مع الزباء الملكة: وذلك إنه كان بالجزيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ومشارف الشام ملك على العرب يقال له عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة بت السميدع أبن هوبر العمليقي من بقايا العماليق فغزاه جذيمة فالتقيا فقتل عمرو بن ظرب وهزم أصحابه ففي ذلك 116 يقول الاعور بن عمرو بن هناءه بن مالك بن فهم الازدي: كأن عمرو بن ظرب لم يعش ملكا ... ولم تكن حوله الرايات تخفق لاقى جذيمة في شعواء مشعلة ... فيها حراشف بالنيران ترتشق فملكت الزباء بعده وبنت شاطئ الفرات الغربي قصرا حصينا وكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار وتصير بتدمر وعزوت على غزو جذيمة وطلبه بدم أبيها فقالت أختها زبيبة لها: يا زباء إن الحرب سجل وعثراتها لا تستقال وتدرين لمن تكون العاقبة وعلى من تكون الدائرة. فقبلت رأيها وتركت ذلك وأتت أمرها من وجوده الحيلة فكتبت اليه تعرفه ضعفها عن الملك وتدبيره وإن النساء لا يقمن بذلك وإنها لا تجد لنفسها كفؤا غيره وتدعوه الى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 التزويج وإضافة ملكها إلى ملكه. فاستشار أصحابه فاشاروا عليه بذلك وشجعه أبن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي وقال له: إن أكثر من مع الزباء من قومي نماره بن لخم وليسوا ممن يقدم عليه بمكروه لاجلي. فشاور قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن ربى بن نماره بن لخم وكانت أم قصير أمة لجذيمة تزوجها أبوه سعد بن عمرو فنهاه عن ذلك وقال: رأي فاتر وعدو حاضر فذهبت مثلا. فرداه من حضره القول ونازعوه في الرأي. فقال: أني أرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا فذهبت مثلا ثم قال لجذيمة أنك قد وترتها ز قتلت أباها فلا تملكه نفسك ولا تقع في حبائلها وكيب اليها إن تقبل هي اليك إن كانت صادقة فخافه فقال قصير: اني امروء لا يميل العجز ترويتي ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم فقال له جذيمة ولكنك رجل رأيت في الكن لا في الضح فذهبت مثلا. وخالف قصيرا وأجمع على المسير اليها ففي ذلك يقول الحارث الغساني: غرور في صحفتها اليه ... وقدما أهلك الناس الغرور رأى رأيا فتابعه عليه ... جماعة قوم وعصا قصير وقدما كان أنذره والقى ... إليه النصح لو نفع النذير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 00 - 000000 عدي بن زيد: دعا بالبقة الأمراء يوما ... جذيمة فأنتجوا عصبا ثبينا فطاوع أمرهم وعصى قصيرا ... وكان يقول لو نفع اليقينا لخطبته التي غدرت وخانت ... وهنّ ذوات غائلة لحينا ودست في صحيفتها إليه ... ليملك بضعها ولان تدينا وقال نهشل بن جري بن ضمرة بن جابر التميمي: ومولى عصاني وأستبد برأيه ... كما لم يطع بالبقتين قصير فلما أستبان غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور تمنى نبيت إن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور فاستخلف جذيمة أبن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي وعمرو بن عبد الجن الجرمي وسار يغزو الفرات حتى نزل الفرضة وهي رحبة طوق ثم قال لقصير ما الرأي؟ قال تركت الرأي ببقة. فذهبت مثلا. وأستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال لقصير كيف ترى؟ فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 له: خطر يسير يراد به خطب كبير. وكان لجذيمة فرس يقال لها العصا لا تلحق فقال له قيصر: أراكب العصا فستلقاك الخيل فان حيوك وساروا أمامك فهي صداقة وإن حيوك وأحاطوا بك وساروا حولك فالنجاء فان القوم غادرون فآبى عليه فركب قصير العصا وسار معه ولقيتهم الخيل فأحاطت بهم فأحس جذيمة بالآمر ونظر إلى قصير على العصا فقال: ويل أمه حزما على ظهر العصا فذهبت مثلا. ونجا قصير عليه فركضت يومها أجمع فقطعت أرضا بعيدة ونفقت عند غروب الشمس فبنى عليها برجا سمى برج العصا: وقالت العرب خير ما جاءت به العصا. قال عدي بن زيد: وأوضحت العصا الأنباء عنه ... ولم أر مثل فارسها هجينا117 وأدخل جذيمة على الزباء فكشفت له عن عورتها وقد وقرتها وقالت أشوار عروس ترى؟ قال: بل شوار أمة ذفراء فقالت: والله ما بنا من عدم مواس ولكنه شيمة ما أناس فقال: بلغ المدى وجف الثرى وأمر غدر أرى فقالت: أنبئت إن دماء الملوك تشفي من الكلب ثم أجلسته على نطع وقربت إليه طستا تجمع فيه دمه وقد قيل لها إن قطر من دمه قطرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 خارج الطست طلب بدمه فقطر من دمه قطرة خارج الطست فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة دعوا دما ضيعه أهله فنزف حتى مات فقال عدي بن زيد في ذلك: فاردته وجهل المرء يردي ... ويدنى للفتى الحين المبينا وفربت الاديم لراهشيه ... والفى فولها كذبا ومينا فبات نساؤه حزنا عليه ... مع الويلات يعلن الرنينا وذكر أبو بكر بن دريد في مقصورته فقال: وأخترم الوضاح من دون التي ... املها سيف الحمام المنتضى فما ظنك بملك قد أقبل بمجموعه وجنده وله أسباب كثيرة كل واحد منهم يقتضي الحشد والجمع والتجهيز والتحمل منها إنه يريد التزويج بملكة أخرى وهو مع طمعه بها خائف من غدرها لقتله أباها ومنها إنه يريد إن يستضيف الى ملكه ملكها فهو محتاج الى ضبطه وحياطته وقهر أهله ومن شأن من هم بأحد هذه الامور إن يقوي دواعي همته الى إظهار القوة والبلوغ في ذلك الى أقصى المكنة والمنافسة في إظهار قوة سلطانه وكثرة جنده وأعوانه فيخرج اليهم قوم من قصرهم بعض أهله لا كلهم كالمستقبلين له ويحس منها بالغدر ويرى إمارات التلف والقتل فلا يكون له ولمن معه قدرة على الخلاص من أيديهم والنجاة بحشاشة نفسه منهم لا بمهانعة ولا هرب حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يقود الى القتل كما تقاد الاضحية الى الذبح. فأي دليل عند المتأمل لأحوالهم أقوى من هذا على ضعف هذا الملك في نفسه وضعف أعوانه وقلة جنده وكيف يقاس من هذه صفته بملك العرب سيف الدولة وقد خرج في شرذمة يسير من عسكره سائرا 0000 على سبيل التفرج والتنزه غير متجهز لحرب ولا مستعد 0000 من سمع بمسيره من العرب والعجم000000 عن ديارهم وتحصنهم في بلادهم حتى0000. ثم إن هناك الزباء الملكة التي همت0000 احتالت عليه إلى إن دنا من قصرها ثم أخرجت0000 أحاطوا به وهو في عسكره وجمعه ومنعوه من0000000 عليها فقتلته. وكان سبب قتلها0000 ولما أنهزم عن جذيمة أتى بلاد الحيرة فوجد الناس قد اختلفوا فطائفة منهم مع عمرو بن عدي بن نصر اللخمي وطائفة مع عمرو بن عبد الجن الجرمي فسفر بينهما حتى اتفقا وأنقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي ملك خاله جذيمة فلما أستقر أمره أشار عليه قصير بان يطلب الزباء بدم خاله فقال: وكيف لي بها وهي أبعد من عقاب الجو فذهبت مثلا. وقد كانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وكيف يكون هلاكها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فقالت لها: أني أرى حتفك على يد غلام غير أمين وهو عمرو بن عدي لو تعلمين يكون حتفك بيدك لا بيده لكنه من قبله وبسببه. فدعت الزباء رجلا مصورا حاذقا فجهزته وقالت له آت عمرو بن عدي فكن في حشمه وخالطهم ووابشهم ثم صوره لي قائما وقاعدا وماشيا وراكبا ومتلبسا ومتفضلا على سائر أحواله فإذا أحكمت ذلك فأتني به ففعل فكانت صورته عندها تكثر النظر اليها وكانت شديدة التحرز منه. فقال قصير لعمرو: أجدع أنفي وأضرب ظهري ودعني وإياها. فقال: ما أنا بفاعل ذلك ولا أنت بمستحق له مني. فقال: خل عني وخلاك الذم فذهبت مثلا فقال أنت أبصر فجدع أنفه وأثر بظهره فقيل: لامر ما جدع قصير أنفه وفيه يقول المتلمس: ففي طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس 118 - وقال عدي بن زيد: كقصير ما إن رأى غير إن جد ... ع أشرافه لشكر قصير وقال في كلمة أخرى: ومن حذر المعاير والمخازي ... وهن المنديات لمن منينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 اطف لانفه الموسى قصير ... ليجدعه وكان به ضنينا وأنحاها لمرنه فأضحى ... طلاب الوتر مجدوعا مشينا وخرج قصير كالهارب من عمرو بن عدي حتى قدم على الزباء قالت ما الذي أرى بك يا قصير قال عمرو بن عدي زعم أني غررت خاله وغششته وزينت له المسير إليك حتى قتلته ففعل بي ما ترين ورأيت أني لا أكون عند أحد هو أبغض إليه منك. فقربته وأكرمته وسكنت إليه ووثقت به. فلما علم ذلك منها فال لها: إن لي بالعراق مالا فابعثيني أحمل مالي بها أحمل إليك من طرائفها وعطرها ونباتها وبرها وأمتعتها وتجائرها فتصيبين في ذلك أرباحا. فجهزته إلى العراق فلما قدمها أتى بالحيرة متنكرا ودخل على عمرو بن عدي مستخفيا فاخبره بشأني وقال له: جهزني بالبز والطرف والأمتعة لعل الله تعالى إن يمكن منها. ففعل فعاد إليها قصير بما أعجبها وازدادت ثقة به وأطمأنانية إليه ثم جهزته ثانية بأكثر مما جهزته أولا فعاد إلى العراق ولقى عمرا فتجهز من عنده أكثر من الأول ورجع به إليها فزادت ثقتها به ثم جهزته ثالثا فأتى عمرا وقال له: أجمع أصحابك وهيئ الغرائب والمسوح للمسير ففعل. وحمل كل رجلين في غرارتين على جمل وسار الليل وكمن النهار حتى أتى مدينة الزباء فأشرفت فرأت الإبل تكاد أخفافها تسوح في الأرض فقالت: مالي رأيت مشيها وئيدا ... اجندلا تحمل أم حديدا أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثمانا قعودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وكان قصير قد جعل مقاعد رؤوس الغرائر إلى دواخلها فدخلت الإبل عن أخرها فلما كان أخر بعير منها وكز البواب الغرارة بعصا في يده فأصابت جنب رجل فحبق فقال البواب: بشتا. قيل معناها في الجواليق شر. فلما أنيخت الإبل نشط القوم رؤوي الغرائر وخرجوا مصلتين بالسيوف فصاحوا في المدينة ووضعوا السلاح في أهلها. وكان للزباء نفق قد عرفه قصير فدل عمرا إليه فسبقها إلى بابه وأقبلت تريد النفق فلما رأته عرفته بصورته التي كانت عندها وكان لها خاتم تحت فصه سم فمصته وقالت: بيدي ولا بيدك يا عمرو فذهب مثلا. وجللها بالسيف حتى بردت وأصاب القوم ما كان في المدينة وانصرفوا ففي ذلك يقول عدي بن زيد: طلبت الزبا وقد جعلت لها ... حصنا ومسربة لها أنفاق حملت لها عمرا ولا بخشونة ... من أرض دومة رسله معناق حتى تجللها بأبياض صارم ... عضب يلوح كأنه مخرق ويقول أيضاً: وصادفت أمرء ألم تخش منه ... مخادعة وما أمنت أمينا آتها مرتين بما أحبت ... فأفعمت الخزائن والقطينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فلما أرتد عنها أرتد قرم ... يجر الموت والصدر الضغينا فدس لها على الأنفاق عمرا ... بشكته وما خشيت كمينا وذكر أبن دريد ذلك فقال: وقد سما عمرو إلى أوتارها ... فاحتط منها كل عالي المستمى وأستنزل الزباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجو أعلى منتمى وسمعت العرب قصيرا في مدركي الأوتار بهذا السبب. فكيف تنسب هذه الملكة أيضاً إلى العز وقد خرج عليهم قوم من جواليق وغرائر محمولين على الإبل كما تحمل الأمتعة في وسط مدينتها ومستقرها ودار عزها وبين جندها فقتلوهم وإياهم وغنموا مالها وأموالها وليس في هذا إلا دليل على الضعف والوهن وإنه لم يكن ثم من الملك إلا الاسم فهذا وأمثاله119 كان حدهم في ذلك بينهم. وذكر أبو عبيدة إن الزباء كانت رومية لا تتكلم العربية إلا في قسر. وقد ذكرنا في أول الحديث ما روي في نسبها والله أعلم. وأما حدهم مع ملوك العجم فلم يكن أحد منهم يذكر عند الاكاسرة إلا بالعبد. كان يقال لكسرى عن أحدهم إذا ذكر له في بعض الأمور عندك فلان، وإذا دخل عليه قبّل الأرض، وإذا خرج من عنده مشى القهقري حتى يغيب عنه وقد تقدم ذكر ذلك. وكانوا من الطاعة لهم على ما لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 عليه مرازبنتهم وأساورتهم لان في المرازبة من كان ربما شاقق الاكاسرة في بعض الأحيان، وخرج عليهم، كرستم الادري وبهرام شيوبين وغيرهما، إذ لم يسمع بمثل ذلك عن ملوك العرب من الوقت الذي دان في عمرو بن عدي لاردشير بن بابك إلى إن أنقرض ملك الفريقين معا، يدل على ذلك ما تقدم ذكره من إن النعمان لما أراد إن ينتصر لم يجسر على ذلك حتى أستأذن كسرى، فكان من الطاعة له إلى هذا الحد. النعمان بن المنذر وعدي بن زيد ثم إن زيد بن عدي بن زيد لما كاده عند كسرى، وذكر عنده بناته وأخوا ته ووصف له جمالهن، قال له أكتب إليه في أنفاذهن. فهل بعد هذا التطاول والاستعلاء غاية؟ ثم إنه لما نقم عليه لم يقدر على المقام بالحيرة وأطراف العراق حتى خرج هاربا إلى جبلي طي، فأبت طي إن تجبره، وقالوا له: أنصرف عنا راشدا، فانه لا طاقة لنا بكسرى. فجعل يتنزل الاحياء حتى ضاقت عليه الأرض، فرجع إلى كسرى مستسلما فقتله. وكان الذي جر ذلك عليه سوء تدبيره لنفسه وما تم عليه منن الحيلة في أمر عدي بن زيد حتى قتله بعد مناصحته له، ومعاداته أخوته لاجله، ثم إنه أخذ بضد الجرم بعد ذلك وأغتره إلى أبنه زيد بن عدي، فسفر له إلى كسرى حتى وضعه ببابه في جملة تراجمة العرب، فكان حتفه في ذلك التدبير. وكان السبب في ذلك إن المنذر الاصغر هلك وله بنون عشرة أو أثنا عشرة أحدهم النعمان، وكان كل رجل منهم في حضانة رجل يتولى تدبير أمره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فكإن النعمان في حضانة زيد بن حمار أبي عدي بن زيد، وكان الاسود بن المنذر أكبرهم وأعقلهم، وكانت أمه ماوية بنت الحارث من جلهم من تيم الرباب وفيه يقول الاعشى: لا تشكي الي وأنتجعي الاس ... ود أهل الندى وأهل النوال وكان الاسود في حضانة عدي بن أوس بن مرينا، وبنو مرينا أهل بيت من أشراف أهل الحيرة، وأظنهم ممن كان يعرف بالاحلاف. فذكر لكسرى موت المنذر، فامر بان يستخلف مكانه من ينظر في أمر الحيرة وفرج العرب إلى إن يولي ملكا، فذكر له جماعة فلم يولهم، ومكث زمانا فضجر وقال لأبعثن إلى الحيرة أثنى عشر الفا من الاساورة ولاملكنَّ عيهم رجلا من الفرس ولآمرهم إن ينزلوا في دور العرب وأوطانهم. وإن يملكوا عليهم نساءهم وأموالهم، ثم التفت فرأى عديا واقفا في التراجم فقال له: ويلك يا عدي الم يبق في آل المنذر من فيه خير؟ قال: بلى، إن في ولده لبقية وخيرا. قال فابعث فاشخصهم. فبعث فأشخصهم إلى المدائن وأنزلهم عنده وأكرمهم، وكان هواه مع النعمان لحضانة أبيه إياه فأسر إليه أني لست أملك غيرك، فلا يوحشك تقصير يجري مني في حقك دون أخوتك، فأنني إنما أغترهم بذاك، وكان يفضل أخوته عليه في التنزل والإكرام، ويقصر في حقه ويخلو بكل رجل منهم على حدة وانفراد، فيقول له إذا دخلت على الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فاليس أفخر ثيابك، وأكثر من الطيَّب وإذا وضع الطعام فتباطأ في أكلك، ونزره وصغر لقمتك، فإذا قال لك أتكفيني العرب؟ فقل نعم. فان قال لك: وأخوتك؟ فقل لا، إن بعضنا لا يقر لبعض، ليرى العز فيكم. وقال للنعمان خاصة إذا دخلت على الملك فالبس ثياب سفرك وتقلد سيفك، وإذا أكلت فعظم لقمتك وأسرع في أكلك وأكثر منه بجهدك، فان الملك يعجبه من يكثر الأكل من طعامه خصوصا من العرب، ويقول: لا خير في البدوي إذا لم يكن أكولا شرها ولا سيما إذا ما رأى من الطعام ما لا عهد له بمثله، فإذا قال لك أفتكفيني العرب؟ 120 فقل نعم، فان قال وأخوتك؟ فقل إن عجزت عن أخوتي فإني عن غيرهم أعجز. وخلا عدي بن أوس بن مرينا بالاسود فسأله عما أسر إليه عدي بن زيد فأخبره، فاقسم بصليبه ومعبوديته إنه ما نصحك، ولئن أطعتني لتخالفنه في كل ما أمرك به لتملكن، ولئن عصيتني ليملكن النعمان. فقال له الاسود: إن عديا لم يألنا نصحاً وهو الذي أشار على كسرى بنا فأشخصنا، وهو أعلم بأحوال كسرى منا، وأني إن خالفته أوحشته. فقال: فستعلم. فما أذن لهم كسرى أخذوا جميعا بما أوصاهم به عدي وأخذ النعمان بما أوصاه به في الاحوال كلها، فولاه كسرى وتوجه وشرفه. ثم إن عدي بن زيد بعد استقرار ملك النعمان صنع طعاما في بيعة ودعا عدي بن أوس ثم بن مرينا فتغدى عنده، ثم قال له: إن الحق من عرف الحق ثم لم يسلمه غلبة من كان مثلك، وما منكم أحد إلا أحب لصاحبه إن يملك وكان الاحب الي إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 يملك صاحبي النعمان، كما كان الأحب إليك إن يملك صاحبك الأسود، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، ولا تحقد علي فأنك لو أمكنك إن تركب مني مثله لركبته، وإن معطيك من نفسي مثله. ثم قام فحلف له إن لا يبغيه غائلة أبدا، ولا يهجوه ولا يروي عنه خبراً، فلما نفذت يمينه قام عدي بن أوس بن مرينا في الموضع الذي قام منه، فحلف مثل يمينه لا يزال يهجوه، ويبغي له الغوائل ما بقي. وخرج النعمان إلى الحيرة وخرجوا معه، فقال عدي بن أوس بن مرينا في عدي بن زيد: ألا أبلغ عدياً عن عدي ... فلا تجزع وان رثت قواكا ايا كلباً يهر لغير فقر ... لتحمد أو يتم به غناكا فان تظفر فلم تظفر حميدا ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما فعلت يداكا وخلا بالأسود بن منذر وقال له: أنك خالفتني أولا تخالفني أخير ولا تعجز عن طلب ثأرك من هذا المعدي الذي زوى الملك عنك، وحكمني في مالك فأنني أكيده. قال: ذاك اليك. وكان أبن مرينا ذا مال كثير فمد يده في ماله ومال الاسود فلم يكن يمض يوم إلا وفي ياب النعمان هدية منه حتى صار أكرم الناس عليه لا ينقضي لاحد عنه حاجة إلا على يده، وجعل إذا ذكر عنده عدي يحسن الثناء عليه ثم يقول بعد ذلك إلا إن فيه خديعة ومكراً. ورأى أصحاب النعمان كرامة أبن مرينا عنده ومكانه منه، فوافقوه على أغراضه، فواضعهم على إن يقولوا للنعمان إذا ذكر عدي عنده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 يا أيها الملك إنه ليقول أترى النعمان لا يعلم أنني وليته وإنه عاملي!؟. ففعلوا ذلك ثم أفتعل عن عدي كتاباً إلى صاحب له في الحيره فيه مثل هذا القول، ووضع من أخذ الكتاب وأتى به النعمان، فأضطغن على عدي. على عدي. وكتب إليه أقسمت عليك إلا زرتني فاني مشتاق اليك، فأستأذن كسرى وخرج إلى الحيرة، فلما قدمها لم ينظر إليه النعمان حتى أرسل من أخذه فحبسه بالصنين. فجعل يكتب إليه بأشعار توثر في الصخر ويلين منها الحديد، ويستعطفه ويذكر بلاءه عنده ومناصحته له، فلا يزداد إلا جفوة وعليه قسوة فما كتب إليه قوله: إلا من مبلغ النعمان عني ... وقد تهدى النصيحة بالمغيب أحظي كان سلسة وقيداً ... وغلا والجواب على المجيب وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وقد سلكوك في يوم عصيب اعالنهم وأخفي كل سر ... كما بين اللحاء إلى العسيب ففزت عليهم لما أصطرعنا ... ببابك فوزة القدح المصيب فهل لك إن تدارك بعض أمري ... ولا تغلب على الرأي الصليب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فأن أهلك تجد فقدي وتخذل ... إذا التقت العوالي في الحروب 121 - ومما كتب ليه أيضاً: ليت شعري عن الهمام ويأتي ... ك بخير الأنباء عطف السؤال أين عنا أخطارونا المال وإلا ... نفس إذ ناهدوا ليوم محال ونضالي في حبك الناس يرمو ... ن وأرمي وكلنا غير آل فاراني أخذت حتفي يكفي ... ولم الق ميتة الاقتال ومما كتب به إليه أيضاً: ابلغ النعمان عني مالكا ... انه قد طال حبسي وأنتظاري قاعد يكرب نفسي بثها ... وحراماً كان حبسي واحتضاري اجل نعمى ربها أولكم ... وذنوبي كان منكم وأصطهاري لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء أعتصاري في أشعار كثيرة كتب بها إليه فلم يغن عنده فلما طال ذلك عليه كتب إلى أخيه أبيّ وكان بباب كسرى: ابلغ أبياًّ على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم بأن أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به والهاً ما سلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لدى ملك موثق بالحدي ... د أما بحق وأما ظلم فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم ولا أعرفنَّك كدأب الغلا ... م ما لم يجد عارماً يعتلم فذكر لكسرى أمر عدي، وكلمه فيه فامر بأن يكتب إلى النعمان باطلاقه، وسأل أبيّ رسول كسرى إن يلقى عدياً قبل إن يلقى النعمان، وإن يعمل بما يأمره به، وكتب صاحب النعمان بباب كسرى إلى النعمان إنه قد كتبت اليك باطلاق عدي وقدم رسول كسرى فبدأ بعدي فدخل عليه في حبسة بالصنين، فقال له: أني جئت بأطلاقك فمالي عندك؟ قال: ما تحب ووعده عده سنيه، وفقال له: أرسل بالكتاب إلى النعمان، ولا تخرج من عندي، فانك إن خرجت من عندي قتلت، فلم يفعل وخرج بالكتاب، فأوصله إليه. وجاء أعداء عدي من بني مرينا وبني بقيله وغيرهم إلى النعمان. وقالوا له: إن رسول كسرى ذاهب بعدي، فان كان ذلك فلن يستبقك ولا أحداً منا فامرهم فخالفوا الرسول إليه فخنقوه ودفنوه. وجاء الرسول إلى النعمان فقال: نعم وكرامة إذا أصبحت فأدخل أنت إليه فأخرجه. فلما أصبح ركب إلى السجن فقال له السجان: إنه مات منذ أيام، وما اجترأنا على أعلام الملك بموته لعلمنا إن ذلك مما يشق عليه. فقال كذبت الم أكن أمس عنده وهو حي فباهته، فعاد إلى النعمان فقال أني كنت عند عدي أمس وهو حي، وإن السجان بهتني اليوم، وذكر إنه مات منذ أيام فقال: وكيف يبعث الملك بك اليّ فتبدأ به قبلي؟! كذبت أما أنت طالب للرشوة، وزجره ثم أعطاه من ماله ومال أعداء عدي أربعة آلاف مثقال ذهباً وجارية حسناء فلم يقنع فزاده حتى رضي، وأستوثق منه إنه يخبر كسرى بأن عدي مات قبل مقدمه ففعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الرسول ذلك وأتضح للنعمان إنه احتيل عليه في أمر عدي وأجترأ عليه أعداؤه فطمعوه فيه حتى أثر ذلك عنده، فندم على ذلك أشد الندم وصار حديثه مثلاً يضرب به بعض الناس لبعض. فروي إن مروان بن الحكم قال يوماً لمعاوية: إن مثلنا ومثلك كمثل عدي بن زيد نصح النعمان فاركسة في الحبس وكان لعدي أبن أسمه زيد يوجد عنده ما يوجد عند أبيه فخرج النعمان يوماً إلى صيده فرآه فعرف شبه عدي عليه فقال له ما أسمك يا غلام؟ قال: زيد. قال: أبن من؟ قال: أبن عدي، فادركته رقة عليه وحنوة لما كان من تفريطه في حق أبيه، فسفر له إلى كسرى حتى جعله مكان أبيه ببابه في التراجمة فقرب منه ولطف مكانه عنده. وكان قد حمل إلى الاكاسرة جارية جميلة من بعض مماليك المرازبة وكتب حاملها: قد بعثت إلى الملك بجارية كاملة الجمال حسنة الدلال تامة القامة، عظيمة الهامة برجاء دعجاء أسيلة الخدين، كحيلة العينين، طويلة الساعدين والساقين، لطيفة الكفين والقدمين، بداء الفخذين عظيمة المأكمتين 122 نقية النفس، حالكة الشعر دقيقة الخصر إن تركتها انتهت وإن أردتها اشتهت، ترعد شفتاها، وتتعصفر خداها وتحملق عيناها، وتبادرك الوثبة. فاستحسنوا هذه الصفة فامروا باثباتها في الدواوين. وربما كتبوها أحياناً وبعثوا بها في الافاق إلى عمالهم فإذا وجدت بهذه الصفة حملت اليهم ولم يكونوا يطلبون ذلك في العرب. فطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أبرويز تلك الصفة يوماً وزيد بن عدي حاضر فاغتنم الفرصة من النعمان لقتله أباه فقال له: إن عند عبدك النعمان بن المنذر عدة من بناته وأخوا ته ونساء أهل بيته بهذه الصفة، فقال أكتب إليه لحملهن. فقال: إن العرب يتكرمون في أنفسهم فيما يزعمون عن العجم، ويختارون العري والجوع والحر والسموم على الرياض والخصب وطيب أرض الملك ويسونها الحبس، وإن كتبت إليه مع من لا يعرف النساء غيبهن عن عينيه وعرض عليه غيرهن، وإن مضيت بنفسي لم يقدر على ذلك، فأبعثني وأبعث معي رجلا يفهم العربية حتى أبلغ ما تحب. فارسله وأرسل معه رجلا من الفرس يكسر بالعربية فجعل زيد: يكرم الرجل في طريقه ويلاطفه حتى غلب عليه، فلما دخلا على النعمان قال له زيد: إن الملك قد أحتاج إلى نساء لنفسه وولده وأراد إكرامك بصهره. فقال النعمان: أما وجد في مها السواد وعين فارس ما يكتفي به؟ فقال الفارسي لزيد: ما المها والعين؟ قال: كوان - أي البقر - فامسك الرسول. وقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم إن ذلك يشق عليك ما طلبه منك. وكتب النعمان إلى كسرى: إن هذه الصفة ليست عندي وقال لزيد أعذرني عنده فوعده بذاك، ورجع زيد ورفيقه إلى كسرى. فلما دخلا عليه قال لزيد: أين ما ذكرت؟ قال: ليسأل الملك هذا الرجل فأني أكره إن القاه بالجواب. فقال الفارسي: قال لنا ما كان في بقر السواد وفارس ما يكتفي به الملك، فعرف الغضب في وجه كسرى وقال: رب عبد أراد ما هو أشد من هذا، ثم صار أمره إلى الثبات ولم يزد على ذلك. وبلغت هذه الكلمات النعمان فاستوحش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وفي رواية إن زيد لما وصف لكسرى بنات النعمان كتب يخطبهنه إليه، ولم يرسل زيداً فكتب النعمان الجواب، ليس عندي ما يصلح للملك، فلو طلب الملك ذلك في عين السواد ومها لاصاب ما يصلح له. وكان زيد يقرأ عليه كتاب العرب، فقرأ عليه جوابه وكان كسرى يكسر بالعربية فقال له ما العين والمها؟ فأراد زيد إن يغضبه فقال: البقر فقال يقول لي أخطب البقر!!. ونقم عليه لذلك وأجنه في صدره وحقد عليه مع ما روي من ذنب قبل هذا كان له إليه. فأنه روي إن أبرويز لما أنهزم بالنهروان من بهرام شوبين دخل على أبيه هرمز وهو محبوس بالمدائن فاستشاره فقال: عليك يا بني بقيصر. فخرج فقطع الجسر وأتى الانبار في عدد يسير، وكتب إلى النعمان: أني قد خرجت في وجهي هذا، ولم يصبني أحد من أهل مملكتي، فاقدم علي، وليكن معك فرسك اليحموم، فإنه قد وصف لي. فظن النعمان إن أبرويز لا يصلح له بعد ذلك أمر ولا يستقيم له ملك فأطرحه وكتب يعتذر إليه من القدوم إليه فأضطغن عليه ذلك. وفي رواية أخرى إن النعمان كان مع أبرويز يوم هزيمته من بهرام شوبين بالنهروان، وان هرمز بن أنوشروان كان قد أحاطته جيوش الترك والخزر والروم من كل جانب في وقت واحد فصالح الجميع وأرضاهم إلا الترك مع إنهم كانوا أخواله لان لمه واقم بنت خاقان ملك الترك، فإنه بعث لحربهم بهرام شوبين مرزبان من نسل أرش الرام فحاربهم فقتل شابه التركي ملكهم وأستأمن أبنه يرمود بن شابه فصار إلى هرمز وبعث بهرام بالغنائم إلى هرمز فقال بعض وزرائه: أعظم بعرس هذا زلته. وكتب إلى بهرام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أنك قد احتجبت قرطي كذا ووشاحي كذا وأنت فيما خفي أخون. فاستوحش بهران وعصى " وحزب " بين هرمز وأبنه أبرويز، وضرب دراهم عليها أسم أبرويز، وبعث بها مع من نثرها بباب هرمز فخاف أبرويز أباه فهرب منه إلى أذر بيجان، فأتته مرازبتها ومرازبه جرجان وأصفهان وسجستان وهمدان مطيعين له. 123 ومنوه من أبيه وحبس هرمز بندويه وبسطام خالي أبرويز فكسرى السجن وخرجا، وثار معهما الغوغاء، فقبضا على هرمز وسملاه. وبلغ أبرويز ذلك فقدم من أذربيجان إلى المدائن، وقال لابيه: أني لم أجد إلى الهرب منك أو القتل وما لي ذنب اليك ولا فيما صنع بك، فدفع إليه هرمز الملك وعقد عليه التاج. وبلغ بهرام شوبين ذلك فسار يطلب المدائن، فجمع له أبرويز ولقيه بالنهروان فكانت بينهم وقعة لم يناصح فيها أصحاب أبرويز، وانحازوا إلى بهرام شوبين وطلب أبرويز المدائن فشهره فرسه شبداز، فخاف الطلب، فطلب من النعمان فرسه اليحموم فأبى إن يعطيه فقال له حسان بن حنظلة الطائي: أيها الملك حياتك للعالم خير من حياتي، فاركب فرسي هذا. وكان تحته فرس له يسميه الضبيب فركبه أبرويز وركب حسان شبداز فنجيا جميعاً في غمار الناس. ودخل أبرويز على هرمز فاستشاره فقال له: يا بني عليك بقيصر فاستنجده فمضى في رهط من أصحابه فعبر دجلة وقطع الجسر فتخلف عنه خالاه: بندوية وبسطام، فسألهما عن شأنهما فقالا: آنا نخاف إن يدخل بهرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 شوبين المدائم ويجد هرمز حياُ فيعقد التاج على رأسه، ويصير نفسه الفرمانداد الاعظم، ويكتب عن هرمز إلى قيصر: إن أبني ودعارا معه وثبوا علي فسملوا عيني. وهربوا اليكن فيشدنا قيصر وثاقاً ويبعث بنا إليه فعرف أبرويز إنهما يريدان قتل أبيه فحذهما ذلك وتبرأ منه فلم يقبلا، وعادا مسرعين فدخلا على هرمز فخنقاه بمقود وقيل بوتر ولحقا بابرويز، فلما قدم أبرويز على قيصر أنجده باخيه كاووس في عساكر كثيرة من الروم. وعاد فحارب بهرام شوبين وقهره وهزمه وأستقر له أمر ملكه، وأتاه حسان بن حنظلة فوصله وأكرمه وأقطعه ضياعاً بحظرنية، فكان أول عربي أقطع في السواد. وأقر النعمان على عمله على غم في صدره عليه. فلما بلغه جوابه عن النساء هاج حقده الاول فامسك عنه مديدة، ثم كتب إليه كتاباً نسخنه: " بسم الله الرحمن الرحيم والي الرحمة، من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر إن أقدم فأن للملك اليك حاجة ". فحمل وأهله وماله وأصبح راحلا فلحق بجبلي طي لصهر كان بينه وبينهم وكان عنده منهم امرأتان فرعة بنت سعد بن حارث بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة بن لأم، فلما أتاهم خافوا أن يجبره، فيغزوهم كسرى فمنعوه من دخول الجبلين وقالوا: تنحَّ عنا فلولا صهرك لقتلناك، فانصرف عنا راشداً إلى حيث شئت. فجعل يتنزل القبائل فلم يجره أحد إلا بنو عبس، فانه كانت له اليهم يد من أيام عمه عمرو بن هند، وذلك إن عمرو بن هند كان قد أسر مروان بن زنباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 بن رواحة بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس، فوفدت بنو عبس على النعمان، فانزلهم وأكرمهم وشفع لهم إلى عمه عمرو بن هند في أمر مروان بن زنباع حتى أطلقه بغير فدية، فكانوا يعرفون ذلك له فأتوه وقالوا له: كن فينا فأنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا، فقال لهم إنه لا طاقة لكم بكسرى ولا أحب إن أهلككم، وشكر لهم ما عرضوه عليه. ففي ذلك يقول زهير بن أبي سلمه وقد رويت لخشيش بن مراد المري من مرة غطفان: الم تر للنعمان كان بنجوة ... من الشر لو إن أمرءاً كان ناجياً فغير عنه رشد عشرين حجة ... من الدهر يوم واحد كان غاوياً فلم أر مسلوباً له مثل ملكه ... اقل صديقاً مسعداً أو مساوياً فأين الذين كان يعطيهم القرى ... بغلاتهم والمئين الغواليا وين الذين يحضرون جفانه ... إذا وضعت القوا عليها المراسيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا إنها هيا سوى إن حياً من رواحة أقبلوا ... وكانوا قديما يتقون المخازيا يسيرون حتى حبسوا عند بابه ... عتاق المذاكي والقلاص النواجيا فقال لهم خيراً وأثنى عليهم ... وودعهم وداع إلى تلاقيا فذكر ذلك الاخطل أيضاً في مديحه للوليد بن عبد الملك بن مروان، 124 وكانت أم الوليد لم البنين ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي، حيث يقول: لقد ولدت جذيمة من قريش ... فتاها حين تحزيها الأمور بنوا عبس فوارس كل يوم ... يكاد الهام خشيتهم يطير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 هم عطفوا على النعمان حتى ... اتاه بعطف ذي التاج البشير فجازوه بنعماه عليهم ... غداة له الخورنق والسدير ثم أقام النعمان سنة يرى نفسه سوقه، وماله تحيف، وإنعامه لا تروح عليه كما تسرح. فقالت له امرأته المتجردة: إن هذا العيش لا يصلح لك فعد إلى صاحبك فاعتذر إليه، فاتى بني شيبان بذي قار فنزل على هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وكان منيعاً فأجاره، وقال قد لزمني ذمامك وأنا مانعك ما بقي من عشيرتي الادنين رجل واحد، وإن كان ذلك غي مانعك بل هو مهلكي ومهلكك، وعندي رأي إن شئت سمعته. قال ما هو فأشار عليه بمثل ما أشارت عليه المتجردة، وقال له: إن الموت نازل بكل أحد، وكل أمر يجمل بالمرء إلى إن يصير سوقه بعد إن كان ملكاً فعد إلى صاحبك والق نفسك بين يديه، فإن صفح عنك عدت ملكاً، ولئن أصابك فلأن تموت كريماً خير لك من إن تتلعب بك ذؤبان العرب، وتأكل مالك فتعيش فقيراً أو تقتل ذليلاً مقهوراً، فقال هذا وأبيك الرأي فما أصنع بحرمي؟ قال هن عندي وفي ذمتي لا يخلص إليهن حتى يخلص إلى بناتي. فاختار خيلا وجوهراً وظرفاً وعصباً واقطاً وسمناً وحمل ذلك هدية إلى كسرى وكتب يعتذر إليه ويقول أنني قادم، فكتب إليه وقبل هديته وعاد رسوله فاخبره بأنه ما رأى له عنده شراً، فترك عند هانئ بن قبيصة ماله وسلاحه وأهله وأبنتيه هندا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 - وهي صاحبة هذا الدير الباقي إلى اليوم بالحيرة - وحرقه وهي القائلة: بيننا نسوس الناس والامر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة تتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف وسار حتى أتى قنطرة ساباط فلقيه زيد بن عدي فقال له: نعيمين أنج نعيم إن استطعت! فقال أفعلتها يا زيد والله لئن بقيت لالحقنك بأبيك ولاقتلنك قتلة ما قتلها عربي قط قال قد أخيت لك أخية ما يقطعها المهر الارن. ثم دخل المدائن فلما بلغ كسرى إنه بالباب أمر به فادخل على الفي جارية قد أقمن له يماطين ثم مشي به يقاد بينهن وهن يقلن له: أترى فينا ما يستغنى به الملك؟ ثم قيل إنه القاه للفيلة فقتله ففي ذلك يقول الاعشى: هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... نحور الفيول تحت سقف مسردق ويقول هانيء بن قبيصة الشيباني: أن ذا التاج لا أبالك أضحى ... وذرى بيته تجور الفيول أن كسرى عدا على الملك النعمان ... حتى القاه أم التليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ام التليل من أسماء الداهية. وقيل بل حبسه بساباط فلم يزل محبوسا حتى هلك في طاعون شيرويه - وهو طاعون أصاب الناس في أيام شيرويه فسمى طاعون شيرويه - ويقال إن كل جربة أو ناووس أو أكثر دارس في السواد فإنما هلك أهله في ذلك الطاعون وقد ذكر الاعشى هلاك النعمان بساباط في شعره حيث يقول: ولا الملك النعمان حين لقيته ... بغبطة يعطي اللقوط ويافق ويجبى اليه السيلحون وغيرها ... صريفون في أعمالها والخرنق ويامر لليحمون في كل ليلة ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق يعالي عليها الجل كل عشية ... ويرفع نقلا بالضحى ويعرق فذلك وما أنجى من الموت ربه ... بساباطحتى مات وهو مخزرق وقال هانيء بن قصيبة الشيباني في أمر النعمان: 125 أن كسرى عدا على الملك النع ... مان حتى سقاه أم الرقوب شرع الغي سنة فأتاه ... من ردى البغي حتفه بنصيب أن بدلنا الأيام يوما بكسرى ... وأبن كسرى وظل يوم عصيب كل ملك وإن تصعد يوما ... بأناس يعود للتصويب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يوم ذي قار ثم لم يقتنع كسرى بقتل النعمان حتى كتب الى أياس بن قبيصة الطائي أين سلاح النعمان وأمواله ودروعه؟ وقيل إنها كانت أربع مائة درع فكتب اليه إنه وضعها في بكر بن وائل عند هانيء بن قبيصة الشيباني فارسل كسرى الى هانيء إن أحمل الي مال النعمان الذي عندك فقد علمت إنه عاملي ولا تكلفني إن أبعث الى قومك الجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية. فارسل اليه هانيء أني أحد رجلين أما مكذوب عليّ فلا يجوز للملك إن يسمع فيّ الكذب أو مستودع فالحر لا يخون أمانته. فغضب كسرى وعزم على بعث الجنود اليهم وسمعوا بذلك فأغاروا على أطراف السواد فرفع الى كسرى ذلك فأزداد حنقا عليه وقد كان سمع بمطلع رسول الله (وظهور أمره وإن العرب تعز به حتى تقهر سائر الامم فتداخله حذر وأشفاق على ذلك وخاف ظهورهم على جنده فتثاقل على حمل الجنود وسأل عن عز أعزهم فذكروا له قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل وهو أبو بسطام الفارس فأرسل إليه يدعوه فنهوه عن أتيانه وكان فيمن نهاه الأعشى الشاعر فعصاهم وقد عليه. فقال له: لو كنت تقدمت إليك من قبل ثم خالفت لقتلتك فانطلق فامنع قومك عن الفساد ووصله وأقطعه الابلة وجعل له طعمة من التمر ومائتا بعير لا تنقص كلما هلك منها بعير قام له عماله بعوضه وأعطاه عدة من الخيل فاحتفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قيس لتلك الإنعام المحدثة والمبخشانية عرفت بحافره مبخش وأقام بالمكان وضمن لكسرى إن بكرا لا تدخل السواد ولا تفسد فيه. فجاء الحارث الرقاشي وهو الحارث بن وعله بن المجالد بن سري بن الريان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو ورهطه يعرفون بالرقاسين ورقاس أم مالك بن شيبان بن ذهل وأخويه عامر وزيد مناة أبني شيبان عرف عقبهم بها فالرجل فيهم ينسب رقاشيا وهو الذي هجاه الأعشى فقال فيه: آتيت حريثا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه المجالدا ومن ولده أبو ساسان الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة دفع إليه أمير المؤمنين عليه السلام الراية بصفين وهو يومئذ غلامو كان شجاعا شريفا في قومه. وقال له يوما بصفين يا بني أتقدر إن تتقدم برايتك هذه ذراعا؟ قال: نعم وعشرة. ثم تقدم بها إلى إن ناداه أمير المؤمنين عليه السلام حسبك. وقال في ذلك وهي أبيات: لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وطال عمر الحضمي وله مع عبد الله بن مسلم الباهلي أخي عتيبة بن مسلم حديث في معاتبة جرت بينهما بسمرقند لما أحضر قتيبة القدور الفضية ليراها الناس والحكاية معروفة. فطلب الحارث من قيس نصيبا مما أعطاه كسرى فلم يعطه فحسده وضاره وقصد إفساد أمره عند كسرى وكان الحارث قصيرا ذميما وقد كان وفد على كسرى من قبل فرآه وعرفه فلما ضمن كسرى قيسا جنايات بكر بن وائل قال له وتضمن على الرجل اللوتا يعني الحارث قال نعم. وفي رواية أخرى إنه قال له وتضمن الرجل القوطاف فلا أدري هي لغة للعجم يسمون بها القصير أيضاً أم هو خطأ من الراوي؟. وبلغ ذلك الحارث فارسل إلى قيس: لا تضمن عني فخالفه. وضمن عنه ثقة126 منه بنفسه ومكانه من قومه فخرج الحارث في رجال من بكر بن وائل منهم الهيثم بن جرير بن أساف بن علباء الذهلي وأبنان لسنان السدوسي فأغاروا على بارق وغيرها من أطراف البلاد فغنموا وأثروا في مصانع كانت لكسرى آثار قبيحة وأفسدوا على العمال أمور العمارة. فرفع ذلك إلى كسرى فأرسل إلى قيس فدعاه فذكر له ما جرى منهم في السواد. فقال ذلك سفيه من قومي حسدني لمكاني عندك فاراد إفساد أمري. فقال له أفمن الحلماء استهدتك؟ وأمر به فسجن بالانبار. وفي رواية أخرى إنه قال له لعلك لم تعطه مما أعطيناك شيئا فأرسل اليه والى أشراف قومك فليقدموا حتى نعطهم مثل ما أعطيناك وإنما أراد قتلهم ففطن قيس لذلك فكتب اليه: غنينا وأغنانا غنانا وغالنا ... مآكل عما عندكم ومشارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فان نحن أرسلنا بالفي صحيفة ... فلا يقربنا منكم الدهر راكب فلم يأته أحد منهم فحينئذ أمر بحبسه. قال أبوا عبيدة وإنما كان ذلك عند أدبار أمر فارس ورقة ملكهم فقال قيس وهو في السجن شعرا منه: الا من مبلغ قومي ومن ذا ... يخبر عن أسير في الاوان الا أبلغ بني بكر الوكا ... فمن هذا يسد لكم مكاني أيأكلهم أبن وعلة قد علمتم ... ويأمن هيثم وأبنا سنان ويأمن فيكم الذهلي بعدي ... وقد سموكم سمة الهوان وبلغ بكر إن قيسا حبس فقال الاعشى: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت أمرؤ ترجو شبابك وائل تركت بني بكر وعز سيوفهم ... وهاجرت تبغي القسط أمك ثاكل أطورين في عام غزاة ورحلة ... إلا ليت قيسا غرقته القوابل كأنك لم تشهد قرابين حوله ... تعوث ضباع فيهم وغوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وهي أبيات. ثم إن كسرى أرسل الى قيس وهو مسجون إن أرسل الى قومك فيأتوني برهائن منهم لاطلقك. فقيل إنه أرسل الى قيس وهو مسجون إن أرسل الى قومك فليأتوني برهائن منهم لاطلقك. فقيل إنه أرسل اليهم إن دعوني في يده ولا ترهنوا أحد منكم، وقيل بل أرسل يسألهم إنفاذ رهائنهم إلى كسرى، فلم يجيبوه لأنهم كانوا قبل ذلك قد رهنوه الاسود بن شريك فهلك عنده، فاتهموه إنه قتله، وفي ذلك يقول الأعشى: من مبلغ كسرى إذا ما جاءه ... عني مالك مخشماتٍ شردا آليت لا أعطيك من أبنائنا ... رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا فاقعد عليك التاج معتصباً به ... لا تطلبن سوامنا فتعبدا فلما أبطأت الرهائن على كسرى عزم على بعث الجنود الى بكر بن وائل وبلغ ذلك قيساً وهو في السجن فقال: الا ليتني أرشو سلاحي وناقتي ... ليعلم قومي ما الذي أنا قائل فاوصيكم بالله والصلح بينكم ... لينظر معروف ويزجر جاهل وصاة امرئ لو كان فيكم أعانكم ... على الدهر والأيام فيها الغوائل فأنا ثوينا في شعوب وأنكم ... آتتكم جنود جمة وقبائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وان جنود الفرس قد يممتكم ... فما عز قومٍ إن هم لم يقاتلوا وإياكم واللطف لا تقربنه ... ولا الزيف إن الزيف للمرء قاتل ثم مات قيس في السجن. هذا في رواية. وفي رواية أخرى إن كسرى إنما ضمن قيس من مسعود جرائر بكر بعد يوم ذي قار لأنه كان قد أستعمله على حماية الابلة من قبل، فلما علم بمسير جنود كسرى إلى قومه أتاهم مستخيفاً فأشار عليهم ببعض الرأي وعاد إلى الابلة، فوشي به إلى كسرى فاستقدمه فنهاه قومه إن يأتيه فأبى، وهو لا يعلم إن كسرى علم بما كان منه من أتيان قومه فقدم عليه فحبسه حتى هلك، وقال آخرون إنما أستقدم كسرى قيساً فضمنه وجرى له ذلك معه وطلب الرهائن من يوم القبة، وهو يوم كان بعد يوم ذي قار، والرواية الأولى أشبه بالصحيح، وأشعار قيس كالشاهد لها. ويقوى ذلك أيضاً ما هو معلوم من إن الأمر تفاقم بين الفرس وبكر بن وائل بعد يوم ذي قار عن الهدنة127 والموثقة، وأن يطمأن أحد منهم إلى كسرى فيأتيه، ولم تزل الفرس بعد يوم ذي قار تغزو من تخلف من بكر بن وائل في أطراف العراق، وبكر بن وائل تغاورهم إلى إن قدم المسلمون العراق. رجع الحديث الى سياقة، ثم إن كسرى أشفق بما كان يسمع من أمر النبي (إن يبعث الجنود، فسار بنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فقطع الفرات ونزل قصر مقاتل، فأتاه أياس بن قبيضة الطائي - وهو يومئذ عامله بالحيرة بعد النعمان - فلامه وقال له: ما هذا! أيسمع عنك إن أمه من الامم كرّتك حتى سرت اليها بنفسك، نحن نكفيك ما تريد، فاجعل مخرجك هذا الى الصيد والفرجة وعد الى مكانك، فقال له النعمان: إنه بلغني إن القوم أخوالك وما أنت بمناصحي من أمرهم، وكانت أم أياس ربعية وهو القائل: فما ولدتني حاصن ربعية ... لئن أنا مالأت الهوى في أتباعها - في أبيات له قد ذكرت في الحماسة - فيتصل اليه من ذلك. وقدم عليه النعمان أبن زرعة التغلبي فقال له: دعهم أيها الملك حتى يقيظوا، فإنهم إذا قاظوا تساقطوا على ماء لهم يعرف بذي قار كما يتساقط الفراش في النار، والنعمان هذا هو النعمان بن زرعة بن هرمي بن السفاح وأسم السفاح سلمة، وانما سمي السفاح لانه سفح ما كان في أسقية قومه بني تغلب من الماء يوم الكلاب الاول، وقال: إن شئتم فبادروا فاغلبوا على الماء، الا فموتوا عطشا. وهو مختلف في نسبه مطعون فيه، فيقال هو السفاح بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم أسامة بن مالك بن الارقم بن كعب بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب بن وائل، هذا قول من نسبه في تغلب. ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 طعن فيه قال: هو السفاح بن عامر المثنمي بن عبد الله بن السجب بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبره، فيقال إنه كان يعرف نسبه في كلب وإنه لصيق في تغلب فلأجل ذلك لم تحركه النخوة والحميه لبكر بن وائل. فلما قال كسرى هذا القول فسفر له فتفاءل بقوله كما قال بتساقط الفراش على النار وأعجبه. وقال: كيف بينك وبينهم، قال نتساقى حياض الموت. قال: فإني سأرسل معك الجنود فاشف نفسك وأشفي منهم. قال: سأفعل. وعاد كسرى الى المدائن وأمر أياساً بأن يذكي عليهم العيون، فإذا علم إنهم قد نزلوا بذي قار أعلمه، فلما علم أياس إنهم قد نزلوا ذا قار رفع ذلك اليه، وكان له مرزبان مقيم بالقادسية والقطقطانة في الف من الاساورة ويقال له الهامرز وكان ممن قتل بذي قار، ففيه يقول الاعشى: وجاء القيل هامرز ... وقد آلى لنا قسما فقتلنا القيل هامرزاً ... وروينا الكميت دما ومرزبان آخر ببارق ولعلع في الف أخرى بقال له جلا برزين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فكتب اليهما جميعاً فسار بما كان معهما، وأرسل الى خالد بن زيد القضاعي من بهراء فسار بمن كان معه من قضاعة، وإلى النعمان بن زرعة فسار بمن كان معه من بني تغلب والنمر بن قاسط، وجعل أياس بن قبيصة الملك عليهم وبعث معهم زيد بن عدي بن زيد باللطيمة التي كان يجهزها الى باذان، الى اليمن كل عام. وقالوا: إذا توافت الجنود كلها بأرض بكر بن وائل فجهزو اللطيمة وأبعثوا رسائلكم اليهم فإن دفعوا اليكم مال النعمان وسلاحه ومائة غلام من أبنائهم رهائن على إن لا يفسدوا في البلاد فقبلوا ذلك منهم وناصرفوا عنهم والا فناجزوهم. فبلغ ذلك بكرا فذعروا وجزعوا وشفقوا واجتمعوا ووطنوا أنفسهم على الصب والقتال. وقالت هند بنت النعمان بن المنذر وهي يومئذ فيهم في جوار هانئ بن قبيصة الشيباني: إلا أبلغ بني بكر الوكا ... لقد جد النذير بعنقفير فليت الجيش كلهم فداكم ... ونفسي والسرير وذا السرير كأني عند جدبهم اليكم ... معلقة الذوائب بالعبور فلو أني أطلقت لذاك دفعاً ... إذاً لدافعته بدمي وزيري فإن تك نعمةً بظهور بكر ... فأكرم بالبشارة للبشير128 وإن تك نكبة فعلي منها ... كمامير الدهيم بمستمير والدهيم فيما ذكر ناقة الوف كانت لزبان بن المجالد الذهلي، فقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 كثيف بن جني بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر التغلبي وأولاداً له بلطمة لطمه أبوهم، وجعل رؤوسهم في غرارة على الدهيم، وأرسلها فأتت أهلها، فقالت أمة لهم، عليها بيض. فقال زبان: انظري عم يفرخ البيض، فذهبت مثلا، ثم أخرجت الأمة الرؤوس حتى إذا كان آخرها، فقالت: هذا أخر البر علي القلوص، فذهبت مثلا. وقالت العرب تنسب الميرة ميرة الدهيم، قال الأعرج الطائي: يقودهم سعد الى بيت أمه ... الا إنما يرجى الدهيم وما يدري فأجروا اللطيمة وأرسلوا النعمان بن زرعة الى بكر بن وائل يطلبون منهم ما أمرهم كسرى بطلبته، ويعلمونهم إنهم إن لم يفعلوا ناجزوهم، فاستذم منهم وأتاهم يكلمهم وقال لهم: يا بني بكر بن وائل، أنتم طرفاي معا أعمامي وأخوالي، وقد أتاكم ما لا قبل لكم بهم أتتكم أحرار فارس، وقبائل العرب قبيلة منها تقاومكم وتنتصف منكم، فأدفعوا الي سلاح النعمان ورهائنكم ولا تهلكوا أنفسكم. فزجروه وطردوه وقالوا له: أنت الذي حملت كسرى علينا. فانصرف مغضباً فأتاه أخوه عمرو بن زرعة وبشير بن سوادة التغلبي أحد بني جندب بن حارث بن الارقم وهو - ابن سلوة وهي أمه بها كان يعرف - وكانت تحته فلانه بنت زرعة أخت النعمان وعمرو فقالا له: أتريد إن تهلك بكر بن وائل غدا، وتعين عليهم الغلف وما والله لكأنك غداو أنت مزق بين أرماحهم، فإنها طوال حداد عنك منها خبر وأثر في عمك وخالك، ولتجمل بهم صبرا عند البلاء حسنة وجوههم عند الموت. فقال لهما: أتهدداني بهم، لأقسمن غدا نساءهم في عضاريط من معي وصعاليك بني تغلب، فقالا: أنت وذاك. فانصرفا فأتيا بكر فمشيا يحضرانهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وبكر بن سوادة يقول لعمرو: ولقد أتيت أخاك عمراً نصحة ... فعصى وضعيها بذات العجرم فإذا أمرتك بعدها قيسا ... وتقدمن عند الكريهة مقدمي سترى مقامي عند مضطرم الوغى ... ولبان مهري إذ أقول له أقدم في حومة الموت التي لا تشتكي ... غرماتها الأبطال غير تغمغم وكأنما أقدامهم وأكفهم ... كرب تساقط في خليج مفعم وحبيب يرجون كل طمرة ... ومن اللهازم شخت غير مصرم لا يصدفون عن الوغى بوجوههم ... في كل سابغة كلون العظلم ودعا بني أم الرواغ فاقبلوا ... عند اللقاء بكل شاكٍ معلم وسمعت يشكر تدعي بحبيب ... تحت العجاجة وهي تمطر بالدم والجمع في ذهل كأن زهاءهم ... جرد الجمال يقودها أبنا شعثم يمشون في حلق الحديد كما مشت ... أسد الغريف ليوم نحس مظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أيقنت إن سيذوق من والأهم ... ضرباٍ يطير عن الفراخ الجاثم وذكر أبو عبيدة إن هذا الشعر لعمرو بن جني التغلبي يخاطب به امرأته - و كانت تغلبية - فنهى أخاها عمرو بن فلان التغلبي عن الاعانة على بكر بن وائل، فلامته وقالت أتنفس عليه إن يغنم من أموالهم؟ فقال هذا الشعر أو رواه بكسر الكاففي قوله أتيت أخاكِ وبكسره أيضاً في قوله مرارا أمرتك وقال فتبيني أو أقدمي عند الكريهة مقدمى كالهازئ بها، وروى ستري بالكسر أيضاً. ثم أصبحوا والتقوا يوم ذي قار وهو من أعظم الأيام وأحد الأيام الثلاثة المذكورة ويعرف بيوم ذي قار ويوم الحنو ويوم الحسى ويوم الجنايات ويوم ذات العجرم ويوم البطحاء. فأرسل من كان في جنود كسرى من العرب إلى بكر بن وائل أيما أحب إليكم إن نذهب تحت الليل عنهم أم نذهب إذا تراءى الجمعان؟ فأرسل إليهم بنو بكر بل تذهبون إذا تزاحمت الصفوف. ففعلوا ذلك وذهبوا وتركوا العجم، فحاربوا حتى أشتد بهم العطش فأضعفهم فكانت عليهم. وقتل يومئذ الهامرز خلايرزين، وحديث يوم ذي قار129 مشهور وقد استوفى شرحه في أيام العرب، وفيه يقول الأعشى في قصيدته الفائية: ولو إن كل نزاري يشاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطأهم الشرف وكان سبب ذلك امتناع النعمان واعتذاره عن إنفاذ بناته وأخواته إلى كسرى. الرسول (يعرض نفسه على القبائل ولم تكن بكر وغيرها بحيث تثبت للفرس ولكن ذلك كان من المقدمات عز الإسلام وظهوره وببركة الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 (. وتصديقا من الله سبحانه لوعد رسول الله (لبكر بن وائل حين عرض نفسه على القبائل حتى انتهى إليهم فدعاهم إلى نصره وأعانته على تبليغ رسالة ربه عز وجل. فإنه كان قبل ذلك قد خرج أبو بكر وعلي صلوات الله عليهما إلى عكاظ في مجتمع العرب بها، فبدأ بكنانة فوقف عليهم فدعاهم فقالوا له: قد عرفنا الذي تريد وما تدعونا إليه قبل اليوم، فإن أحببت أن نمنعك ممن يريد ظلمك منعناك، فكنت بين أظهرنا ممنوعا غير مضام، وإن كنت تريد منا إن نفارق دينناً ونكافح العرب من دونك، فهذا شيء لو دعانا إليه سيدنا يعمر بن عوف الشداخ ما أجبناه إليه أبداً لأن قريش منا ونحن منهم وبيننا وبينهم أرحام وجوار وقرابات، فانصرف عنا يا محمد وعليك بغيرنا. فانصرف (وهو يقرأ (فان تولوا فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) . ثم صار إلى بني أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد، فوقف عليهم ودعاهم، فقال له طليحة: إن رجلا عادى سادات قريش ونابذ سرواتها غير ممنوع عندنا، فانصرف عنا فلو علمت إن قريش تحب إن أكفها أمرك لفعلت. فانصرف (وهو يقرأ (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم وأنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) . ثم أتى بني تميم وفيهم الأقرع بن حابس وعطارد بن حاجب بن زرارة ومن أشبهها من سادات بني تميم فوقف عليهم ودعاهم، فقال له بعض القوم: أتأمرنا إن نهدف نحورنا نحو العرب من دونك! والله ما أردت ببني تميم خيراً، ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 بدأتنا بالحروب والذعورة فانصرف عنا. فانصرف عليه السلام وهو يقرأ (ويا قوم أعملوا على مكانتكم أني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا أني معكم رقيب) . ثم صار الأيام فزارة وفيهم عيينة بن حصن فدعاهم ورغبهم في الأبطال فقال له عيينة: والله ما نفضنا رؤوسنابعد من هنوات الحرب وإنما حاربنا حيا واحدا من العرب وأنت تدعونا الأيام إن نقاتل مع الأسود والأبيض أنصرف عنا أيها الرجل فلا حاجة لنا فيما جئتنا به. فأنصرف عليه السلام وهو يقول (أيحسبون إنما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) . ثم صار الأيام بني عامر بن صعصعة وفيهم ملاعب الآسنة عامر بن مالك بن جعفر فجلس إليكم وتلا عليهم القرآن ودعاهم الأيام الأبطال فلما هم القوم إن يجيبوه ويؤمنوا به ورقت قلوبهم أقبل رجل من بني قشير يقال له بيحرة بن عامر. فقال: من هذا الرجل الغريب فيكم يا بني عامر؟ فقالوا: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد جاءنا يدعونا الأيام حظ أنفسنا وقد عزمنا إن نؤمن به ونصدقه ونقاتل عنه من ناوأه من العرب. فضحك بجير وقال: بئست الثمرة والله لقومك يا بني عامر أتنظرون الأيام رجل قد أخرجه قومه وكذبوه فتؤمنون به وبما يقول لكم وتقاتلون الناس من دونه حتى ترميكم العرب بقوس واحد الحقوا الرجل بقومه فأنهم لو علموا منه صدقا لاتبعوه. فقالت بنو عامر: أيها الرجل الصالح الحق بقومك فأنهم أحق بك من غيرهم. فقال (: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 " ما لبيحرة لا أثبت الله له شجرة ولا أزكى له ثمرة " ثم أنصرف وهو يقرأ: (قال عما قليل ليصبحن نادمين) . ثم قال لأبي بكر وعلي: أمضيا بنا الأهم أحياء ربيعة لعلهم إن يجيبوا الأهم الأيمان فمر حتى أتى منازل ربيعة فوقف عليهم وتقدم أبو بكر وكان نسابا فسلم وقال ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة قال أمن هاماتها أم من لهازمها؟ قالوا من لهازمها العليا قال من أيهم أنتم؟ قالوا نحن من ذهل الأكبر قال أمنكم حارثة بن عمرو صاحب اللواء وقائد الأحياء؟ قالوا: لا قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة قالوا: لا قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها130 أنفسها؟ قالوا: لا قال أفمنكم حسان بن مرة حامي الذمار ومنع الجار؟ قالوا: لا قال: أفمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا قال: أفمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا قال فلستم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر. فقام إلى دغفل بن حنظلة النسابة وهو يومئذ غلام وقد بقل وجهه يقول: لنا على سائله إن نسأله ... فالعبء لا نعرفه ولا نحمله ثم قال يا هذا قد سألت فلم نكتمك شيئا ونحن نريد إن نسألك فممن أنت؟ قال رجل من قريش. قال بخ بخ! أهل الرياسة والسؤدد وهداة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 العرب وأزمتها منكم قصي بن كلاب الذي جمع قومه من كل أوب فأسكنهم مكة وقتل أعداءه نفاهم عنها وأنزل قومه منازلهم منها فسمته العرب مجمعا وفيه يقول الشاعر: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القائل من فهر قال لا. أفمنكم عبد مناف صاحب الوصايا وأبن الغطارف السادة؟ قال لا قال أفمنكم عمرو بن عبد مناف وهو هاشم الذي يقول فيه الشاعر: عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مستنون عجاف قال: لا قال أفمنكم عبد المطلب وشيبة الحمد ومطعم طير السماء صاحب الأسماء العشرة الذي يقول فيه الشاعر: إنما عبد مناف جوهر زين الجوهر عبد المطلب قال: لا. أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا قال أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا قال أفمن أهل الردافة أنت؟ قال: لا قال أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا قال أفمن ريحانت قريش أنت؟ قال: لا قال: فممن أنت؟ قال: رجل من بني تيم بن مرة فقال دغفل: أمكنت والله الرامي من الثغرة يا أخا تميم. فجذب أبو بكر خطام ناقته من يده فقال له: أما والله لو وقفت لأخبرتك أنك زمعة من زمعات قريش والله ما أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 من الذوائب فيها. فمال أبو بكر الأهم رسول الله (- وهو عليه السلام يبتسم - فقال له علي: لقد وقفت من الغلام على نافعة فقال: أجل يا أبا الحسن ما من طامة ألا وفوقها طامة والبلاء موكل بالمنطق. ثم مال النبي (الأهم مجلس أخر وإذا مشايخ لهم هيئات وراء حسن فوقف عليهم أبو بكر وسلم فردوا عليه ثم قال: من أنتم؟ فقالوا نحن بنوا شيبان بن ثعلبة فالتفت الأهم رسول الله (وقال له: بابي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء عز في قومهم. وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. وكان أدناهم الأهم أبي بكر مفروق فجلس إلى وقال له: كيف العد فيكم فقال يزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة. فقال: كيف المنعة فيكم؟ فقال: علينا الجهد ولكل قوم حد قال فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مرة يدال لنا ومرة يدال علينا والنصر من عند اللهو إن أشد ما نكون لقاء حين نغضب وأشد ما نكون غضبا حين نلقى وأنا لنؤثر جيادنا على أولادنا والسلاح على اللقاح لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغك إنه رسول الله فهو هذا فقال: بلغنا إنه يقول ذلك. ثم التفت الأهم رسول الله (فقال: الأهم ما تدعون يا أخا قريش؟ قال: أدعوكم الأهم شهادة ألا اله ألا الله وأني محمد رسول الله وأيقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت وصلة الرحم وإن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 والأهم ما تدعون أيضا؟ فتلا رسول الله (قوله سبحانه (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركن به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، فنحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما قرب منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ألا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم ألا بالتي هي أحسن، حتى يلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، ولا نكلف نفسا ألا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون، وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرقوا بكم عم سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) . وقال الأعشى ما تدعون أيضاً يا أخا قريش؟ فتلا قوله عز وجل (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والآثم والبغي بغير الحق، وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فقال مفروق: دعوت والله الأعشى مكارم الأخلاق ومحاسن الأمور ومعالي الذكر ولقد أفك قوم كذبوك وردوا عليك قولك. فكأنه أحب إن يشرك هانئ بن قبيصة في الكلام فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وسيدنا فقال هانئ: قد سمعت مقالتك وأعجبني قولك وأنا نرى إن تركنا ديننا وأتبعناك على دينك في مجلس واحد جلسته إلينا لم نفكر في أمرك ولم ننظر في عواقب ما تدعونا الأهم طيشة في العقل وعجلة في الأمر والذلة تكون مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره إن نعقد عليهم عقدا دون أذنهم ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. فكأنه أحب إن يشرك في القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة سيدنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: أعجبني قولك وحلا في صدري وإن الحق وإن كان فيهم التجهم أحمد عاقبة من إبطائك العشواء والتملق غير أنا قد نزلنا بين هذين الصيرين. وقال النبي (: وما هذان الصيران؟ فقال: اليمامة والسماوة وأرض العرب وطفوف الريف وانهار كسرى وبلاد فارس على أخر عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما يكرهه الملوك وإن كان الحق فإن أحببت أن نمنعك وننصرك على العرب فعلنا فإن عذر صاحبهم مقبول ودينه مغفور وإن ذنب العرب عند كسرى وفارس غير مغفور وعذرهم غير مقبول. فقال رسول الله (: ما أسأتم الرد إذاً أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه في جميع جوانبه ثم قال لهم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يوطئكم الله بلادهم ويمنحكم أموالهم ويفرشكم بساطهم أتسبحون الله وتقدسونه وتحمدونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم إن ذلك لك. ثم نهض (وهو يقرأ (يا أيها النبي آنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً الأعشى الله بإذنه وسراجاً منير) ، قال علي عليه السلام: ثم التفت إلي الرسول (وقال: يا علي، قلت لبيك، قال: أي أحلام في العرب يدفع الله بها بأس بعضهم عن بعض، وبها يتجاورون في الحياة الدنيا؟ فأراد الله سبحانه تصديق قول رسول الله (، وتحقيق تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 البشارة التي بشرهم بها، وظهور مقدمات عز الأحياء وقوة العرب به، وضعف أمر فارس وغيرهم من الأمم، والارهاص بظهور أمر رسول الله (وعلو شأنه فصنع لهم بما ألقاه في قلوبهم من الثبات والصبر وألقى في قلوب العرب الذين كانوا مع العجم من المواطأة بكر بن وائل عليهم والفرار عنهم. وروي إن يوم ذي قار كان بعد يوم بدر بشهرين وإنهم رفعوا لرسول الله (بذي قار فكان يراهم فروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام إنه قال لم يلبثوا إلى يسيراً حتى خرج رسول الله (على أصحابه وقال: ادعوا الله لإخوانكم من ربيعة فقد أحاطت بهم أبناء فارس مع الهامرز ثم لم يلبث إلى يسيراً حتى خرج فقال: " احدوا الله على ما نصر به العرب من يومكم هذا فاليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا " ولو لم يكن السبب في ذلك إلا قوله (لأصحابه: ادعوا الله لإخوانكم من ربيعة لكان في ذلك مقنع وكان النصر بدعائه مقروناً. فكيف وقد تقدمت بشارته ذلك وسبق به وعده ولولا ذلك لاصطلم كسرى ربيعة فانهم لم يكونوا يقومون بحرب بعض جنده كما روي عن المثنى بن الحارث الشيباني إنه قال: قد قاتلت العرب في الجاهلية والأحياء ولقد كانت مائة من العجم أشد علي من ألف من العرب في الجاهلية ومن ألف من العجم على مائة من العرب في الأحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 كسرى والعرب فتتبع كسرى بكر بن وائل أيضاً هذا التتبع بسبب وديعة أودعها النعمان و أراد أن يستأصلهم ويعفي آثارهم لأجل ذلك فهذا كان حد ملوك نصر على ملوك الفرس لم يقدر النعمان على الامتناع من كسرى بسيفه ولا كان له جند يقاتلون دونه لا يصحبونه في مهربه فيكون بهم ممتنعاً وعن الاستجارة بالعرب مستغنياً حتى خرج من أهل بيته تأكل العرب أمواله وتغير على إنعامه وتترامى به المرامي وتطرده القبائل وتتفادى من إجارته وقربه حتى ضاقت عليه الأرض132 فعاد الأعشى كسرى ملقياً إليه بيده فقتله ثم بعث الجنود الأعشى القبيلة التي أجارته مطالباً لهم بودائعه فلولا ما وفق لهم من السبب الذي كانت نجاتهم به مقدمات عز الأحياء لاجتاحهم وإصطلمهم على إنه قد ظهر لبكر بن وائل من العز والامتناع ما لم يظهره للنعمان لأنهم أقاموا بدارهم ولو أرادوا الهرب لأمكنهم فثبتوا وقاتلوا وصبروا وكانت الكرة لهم والنعمان عجز عن الحرب والهرب فلم يستطع المقام ولا وجد من العرب مجيراً حتى أسلم نفسه وفي هذا دليل على أن كتائبه المسماة بتلك الأبطال كانت كلها دون القبيلة الواحدة أو إنهم لم يكونوا جنداً له على الحقيقة فيقسم فيهم الأموال فيقاتلون معه عدوه كائناً ما كان بل كانوا على ما روى أهل الحيرة وجنود الاكاسرة يصحبون ملوك العرب بالحيرة مستقام أمرهم فإذا اضطرب أمرهم تركوهم وأنفسهم كالمعلوم من أحوال أهل الأمصار إنهم إذا كان سلطانهم بينهم مقيماً فيهم نافذ الأمر عليهم تابعوا أمره وحاربوا معه عدوه فإذا بعد عنهم لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ومن ينضاف إليه من العرب ويمتنع ما أمكنه الامتناع؟ فإن قتل في الحرب قتل كريماً وإن غلبته الأمور وهر كان حينئذ معذوراً لكنه رأى نفسه دون ذلك كله فهرب لما نظر في الكتاب بأول خاطر وقبل مواجهة حرب وبكر بن وائل أقاموا بدارهم مستيقنين للحرب آيسين من الصلح وقبول العذر فجمع لهم الجموع وسير إليهم الجنود وعندهم علم ذلك مستقتلين لم يريموا دارهم ولم يفارقوا أرضهم حتى كانت الكرة لهم. وفي هذا دليل على إن بكراً وحدها كانت أعز منه فكيف يستحق النعمان التسمية بملك العرب وهذه صفته ومبلغ عزته ولا يستحقه ويذهب به دونه من يبذل الملوك في رضاه الرغائب ويسمحون باستمالته والاعتضاد بطاعته بأنفسهم الذخائر والمواهب. فمن مناقبه وإن كانت لا يتهيأ حصر عددها ما يحسن ذكره هاهنا عقب ما ذكر في حديث النعمان ليقاس بفعله ويعارض بمثله ويستدل به على علو درجته: إن السلطان السعيد جلال الدولة أبو الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان رضي الله عنه وسمعت شيوخاً من العلماء بالسيرة يسمونه الاسكندر الثاني توفي في بغداد في شوال سنة خمس وثمانين وأربع مائة وبها من عساكره ما لا يحصى كثرةً فاجمع الأمراء والخاصكية وأكابر الدولة على أبنه محمود بن ملكشاه فأجلسوه على سرير الملك وخاطبوه بشاهنشاه وسلطان العالم ووقفوا قياماً أمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 سريره، ومشوا بين يديه عند ركوبه، وأمر أمير المؤمنين المقتفي - غفر الله له - بأن يخطب له على المنابر، وينقش أسمه على السكك، وشرفه وخلع عليه خلع الملك، وتوجه له الألوية، وأرسلت أمه الخاتون من سنو الأعشى أصفهان، فغلب عليها وعلى قلعة المال بها، وخطب له ببلاد الجبل وغيرها. من مناقب سيف الدولة. وأقام سيف الدولة بظاهر النيل في منزله ومنزل أبيه وجده ممتنعا من إتيانه وأعيان دولته يراسلونه ويسألونه الحضور ببابه ويلحون عليه في ذلك ويقدمون الأيمان الوعد والوعيد، فلم يجبهم ألقى الحضور ببابه ولا أقدموا على الخروج الأيمان ولا عبور دجلة ألقى ما يليه، وبينهم وبينهم مسافة يوم ألقى إن انصرفوا عن بغداد. ومنها السلطان ركن الدنيا والدين أبا المظفر بركيارق بن ملكشاه لما استولى على الملك بعد وفاة أخيه محمود رضي الله عنهما أستمال سيف الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فمال الأيمان، وقصد خدمته وهو بأصفهان، وأقام ببابه مدة يسيرة وجرى بينهما من العهد والميثاق ما يجري بين مثليهما، فحافظ على خدمته وقام بشروط طاعهته حتى إن عمه تاج الدولة تتش بن الأقرع أرسلان حاز الشام بأسره، وبلاد عباده، وديار بكر، وبلاد نمير وكلاب، وأفتتح حلب وحران وقتل أق سنقر وبرزان وأيحسبون من عظماء أمراء الترك وإبراهيم بن قريش في عدة من آل المسيب وخطب له ببلاد الجبل وأكثرها وتوجه أصفهان لمحاربة أبن أخيه ركن الدين بركيارق ودخل أصحابه بغداد وخطب له بها وأجتمع له بها133 من العساكر التركمان ما يفوق العدد. ووصلت مقدمة ولده الانبار وسيف الدولة مقيم على أمره في الوفاء للسلطان ركن الدين بركيارق غير راجع عنه برغبة ولا رهبة وأعداؤه بازائه ببغداد بالعساكر الكثيرة والجموع العظيمة مع قرب المسافة فيما بينهم ألقى إن كفاه الله مؤونة عدوه. ومنها إن السلطان الأعظم سيد سلاطين الأمصار سنجر بن ملكشاه رضي الله عنه نزل في أيام حداثته لأمر عرض فقام بخدمته ألقى إن زال ذلك، وسار في خدمته ألقى حيث أراد بعد إن التزم عليه وعلى أصحابه من المؤن ما يلزم مثله لمثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ومنها إن الوزير عميد الدولة أبا منصور بن جهير خاف من تاج الدولة تتش فخرج ألقى حلة سيف الدولة، فنزل بها ألقى إن زال ما كان يخافه ثم عاد منها ألقى بغداد. ومنها إن عساكر الترك شغبت على ركن الدولة بركيارق رضي الله عنه بريخان وذلك بعد تمهد أمره واستقامة ملكه، ومالوا عنه ألقى أخيه السلطان المعظم غياث الدنيا والدين أبي شجاع محمد بن ملكشاه - غفر الله له - ونهبوا أمواله وخزائنه وكراعه وقتلوا صاحبه مجد الملك أبا الأفضل أسعد بن محمد فخرج في نفير يسير من غلمانه ألقى الأهواز ثم خرج منها قاصدا ألقى سيف الدولة واثقاً منه بالوفاء والعهد الذي كان بينهما، وقد سبقت الأيمان كتب أخيه غياث الدنيا والدين غفر الله له ببذل الرغائب في الاستظهار عليه، وقد بلغه ذلك فقدم عليه مقدم النابغة على النعمان حيث يقول: أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون يخيب بي الكميت قليل وفر ... أفكر في الأمم وأستعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 بين الخوف والرجاء في أرث حال وأشعثها لاستئصال الهوب - عند الشغب - أمواله وتجمله والاته، قد ركب بعض من في عسكره الحمير، وحملوا الأثقال على البقر فوجد مقيما على أحسن أحوال الوفاء، والمحافظة على عهده، غير متغير، وصفاءه غير متكدر، فتلقاه أحسن التلقي، وتولى تدارك أمره، وتلافيه أحسن التولي، وحمل الأعشى الأمصار والسلاح والآلات والأبنية والرادقات والخيام والفرش الجميلة والملابس التي تصلح أمثله ومثل حاشيته، وقاد الأعشى الكراع فعاد في دمانه زمعه، وألقاه ملكه رونقه، وسار به ألقاه بغداد في عسكر من عساكره: تضل المهرة البلقاء فيه ... ويخطئ رجل صاحبه الزميل حتى أجلسه على سرير الملك، ووصل جوهراً بن فكربوقاً وجماعة من أمراء الترك من جانب أخيه مندوبين لمحاربته، فأحسوا بالعجز عنه فدخلوا في طاعته وانضموا الامتناع، فكان سيف الآلف السبب في عود ملكه واستقامته. ثم بعث معه سرية من جنده ألف بلاد الجبل عليها أبنه عز الدولة محمد رضي الله عنه، يتحدث الترك بما ظهر من نجدتهم وشجاعتهم ألف اليوم، ولم يزل مقيما له على الوفاء بالعهد الذي كان بينهما ألف إن أستوزر عبد الجليل بن على بن محمد الدهستاني، فسؤل الامتناع العود عما كان له عليه، والتغير في حقه ودلف الامتناع أخوه غياث الدنيا والدين رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فعاد ألف بغداد طامعاً في استصلاح سيف الآلف وإزالة وحشته، فراسله وتنصل الامتناع من ذلك، وبذل له كل البذل حتى بذل له تسليم عبد الجليل بن علي الامتناع وهو يومئذ وزيره يخاطب بنظام الدين صدر الأخلاق، فلم يصغ ألف ما أراد منه ولا أجابه الامتناع، ودنت عساكر غياث الدين غفر الله له ومقدماته من بغداد فلم يجد معدلا من الاندفاع من بين يديه فكان قصار أمره إن سأل سيف الآلف تركه والطريق ليحتال ألف بلاد فارس ففعل ولم يعرض له. فخرج من بغداد على أشد حال من الحذر منصرفا ألف بلاد فارس ودخل غياث الدنيا والدين بغداد للفرصة في أستمالة سيف الدولة فمال ألف خدمته ودخل في طاعته، فألطف منزله ورفع درجته ومرتبته وتمسك بكلتا يديه به، فمال الامتناع وعاهده والحرب بالواحدة عن ركن الدين، وناجذه فكانت حال هذين السلطانين في ذلك كما قال الرضي الله عنه: ليس الملوم الذي شد اليدين به ... بل الملوم المعنى من به سمحا وكان انحرافه عن ركن الآلف سببا لضعف ملكه وانتشار خيله وتناقص أموره134 ألف إن مضى ألف رحمة الله تعالى. وكان ميله ألف غياث الدنيا والدين رضي الله عنه مفتاحا لأمور مؤذنة بالعلو والمزيد والنصر والتأييد حتى اجتمعت الكلمة عليه، وتحول الملك الامتناع، فكان الملك عقيد ملك العرب سيف الدولة وحليفه وصفيه واليفه، فهو يناصره ويؤامره ويستأذنه ويشاوره ويقصد موافقته ومرافقته ولا يرى خلافه ولا مفارقته فلو كان إذا ما جرى بجنان أو نطق بلسان لقال له متوددا وأنشده متمثلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وأنظر أني ملم فأميل. ثم إن أياز التركي شاقق غياث الدنيا والدين رضي الله عنه بابن أخيه ملكشاه بن بركيارق، ودخل به بغداد، واستولى عليها وعلى بلاد الجبل وغيرها، وبدل سيف الآلف حكمه في البلاد ومن كل ما يفرحه فلم يجبه ألف ذلك ولا أنحرف عن خدمة غياث الدنيا والدين، ولا نقض عهده ولا مال عنه وأبوكم أستبدل به وبطاعته، بل أنجده بنفسه وظاهره بعسكره وجنده حتى دخل أياز في طاعته كرها، وأنقاد له غصبا فبلغ فيه مراده، ونال منه مرامه، وفي ذلك أقول من قصيدة ذكرت فيها سيرته: وشاد ركنا لركن أسسه ... في الملك لولا انتقاص الملك لم يجب ثم استغاث غياث الدين منه بذي ... بسالةٍ عنه لم تبد ولم تغب على أياز وقد أبدى الشقاق له ... فصار صيروره منه ألف العطب ومنها إن أمير المؤمنين المستظهر بالله رضي الله عنه تولدت بينه وبين السلطان بركيارق رضي الله عنه منافرة ووحشة ما، وخطر بالبال الشريف الامامي المستظهري عند الضجر إنه ربما أوجبت الحال الخروج عن بغداد، فلم تسكن النفس الشريفة الأمامية أبوكم الامتناع، ولم يعول في ذلك أبوكم عليه، ولم ير غيره أهلا إن لقربه ولا لان يامنه على خدمته ولا تطمئن الامتناع في القيام بشيء من أمره فأحضره مجالس العز الشريفة، وشرفه بلقاء مواجهة، والخطاب مشافهة، فكان مما جرى على اللفظ الشريف، (وأتوني بأهلكم أجمعين) وقرر معه ما أراد تقريره من ذلك ورتب ما وجب ترتيبه من القوانين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الخدمة وملازمته بنفسه لباب السرداق الشريف وكون أولاده وبني عمه وثقاته محيطين به ليلا ونهارا، وبنى الأمصار في ذلك على مبناها فانه مما أغنى الله تعالى بلطفه وحسن عوائده وصنعه عن ذلك. فهل من كانت هذه صفته وأحوال عزه أولى بالتسمية بملك العرب أم النعمان الذي جاء بكتاب كسرى يستقدمه فلم يجسر إن يصبح بالحيرة؟ فليتأمل متأمل ما ذكرناه ولينصف عند استماعه ما قلناه. وما حد عزهم بالحيرة. وقهرهم أهلها ونفوذ أمرهم عليهم فكان أيضاً دون ما يظنه الظان. وثب جحجبا بن عتيك اللخمي رجل من أهل الحيرة على أوس بن قلام وهو ملك عليها فقتله. وروى أبو الفرج الاصفهاني بإسناده إن أهل الحيرة كرهوا من المنذر الآسنة سوء سيرته، فأجمعوا على إن يولوا الملك زيد بن حمار العبادي أبا عدي بن زيد، وقد كان كسرى أستحلف زيدا مرة على الحيرة ألف إن أستقر أمر الملك بها، فلما أجمع أهل الحيرة على ذلك بلغ المنذر، فبعث ألف زيد بن حمار فقال له: يا زيد أنت خليفة أبي وقد بلغني ما قد أجمع أهل الحيرة عليه، فلا حاجة لي في ملككم فدونكموه، فملكوا عليه من شئتم. فقال له زيد: إن الأكبر ليس ألي ولكني أسيره إليك، ولا آلوك نصحا. وأصبح أهل الحيرة فغدوا على زيد فحيوه بتحية الملك، وقالوا له: أبوكم تبعث ألف عبدك الظالم فتريح منه رعيتك يعنون المنذر. فقال: أو ما هو خير من ذلك؟ قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 أشر علينا. قال تدعونه على حاله فانه من أهل بيت الملك، وأنا آتيه وأقول له أنكم قد اخترتم رجلا يكون أمر الحيرة الامتناع أبوكم إن يكون عز أو مال فيه أسم الملك، وليس له من الأمصار كلها شيء سوى ذلك. قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر فأخبره بذاك ففرح به وقبله. وولى أهل الحيرة زيدا على كل شيء سوى أسم الملك فانه كان للمنذر: وعرف المنذر لزيد موضع المنة في ذلك فقال له: يا زيد إن لك علي نعمة لا أكفرها ما عرفت حق سبد يعني صنما كان لهم. فهذا أيضاً حد عزهم بالحيرة ومبلغ135 تسلطهم على أهلها ونفوذ أمرهم فيها، وفي هذا أقوى دليل على إنهم لم يكن لهم جند سوى أهل ال؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وليه، فكيف مشاققته في نفسي حوشي من ذلك. وأما حد عزهم في العرب. الذين كان في التقدير راعيا لهم أسم الملك عليهم فقد تقدم ذكر كونهم معهم على طبقات ثلاث: اللقاح، الذين كانوا يغازونهم، وأهل الهدنة الذين كانوا يعاهدونهم ويواثقونهم، وهذه ممثلة ومساواة من أهل هاتين المنزلتين للملوك هم وإياهم على حد سواء. وأما الطبقة الثالثة فهم الذين كانوا يدينون لهم فكانوا في أكثر زمانهم أيضاً يصانعون أهل هذه المنزلة استماله لهم وتقويا بهم على من سواهم حتى إن الملك كان يكون معهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 كالمولى عليه، وكان أقرب العرب منها دارا ربيعة وتميم. فمن أحاديثهم معهم إن بني يربوع كانت تكثر الإغارة على أعمالهم والعبث في أطراف السواد ويفسدون فيه فلم يقدروا على كف أذيتهم حتى صانعوهم بان جعلوا لهم الردفة. الردافة والردافة إن يجلس رجل ألف جنب الملك ويشرب معه ويسير خلفه ويكون له كصاحب الجيش في عصرنا هذا أو نحو هذه المنزلة، فلما جعلوا الردافة لبني يربوع صارت لهم ضربة لازم عليهم لا يقدرون على عزلهم عنها ولا نقلها عنهم ألف غيرهم فكان الملك مع بني يربوع في الردافة كالمحجور عليه. روى أبو عبيدة معمر بن المثنى إن المنذر بن ماء السماء لما ملك وجه حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم وقدمه فسأله حاجب تحويل الردافة عن بني يربوع ألف بني دارم فقال هي لك يا أبا عركشة. قال: لا ولكن أجعلها للحارث بن عدس بن الحارث وكان شهاب الفارس حاضرا باب المنذر فلما سمع بذلك قال للمنذر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 إن بني يربوع لا يسلمون إليك الردافة ولا يخرجونها عن أيديهم فما تصنع بمحاربتهم؟ فقال له حاجب كذبت بنو يربوع مسلموها غير منازعي الملك فيها. فقال شهاب: إن حاجبا يغرك وقال حاجب: بيني وبينك مائة بعير يأخذها أنصحنا للملك. قال: قد فعلت. فتراهنا على ذلك وجهز المنذر أبنيه قابوس وحسان في جيش ألف بني يربوع فاقتتلوا بطخفة وهي ألف جنب ذات كهف فهزم جيش المنذر وأسر أبناه وجاءه الخبر فقال شهاب: أنا نفير نفسيه ... نفرت حاجبا مائة وقال حاجب: أصلح الله الملك مره إن فليخفف عني منها قال: بل يجعلها جيادا زربا. وأرسل المنذر فافتدى أبنيه من بني يربوع بالفي بعير ففي ذلك يقول جرير مفتخرا بقومه: هم ملكوا الملوك بذات كهف ... وهم منعوا من اليمن الكلابا فليتأمل متأمل حكم هذا الملك مع بني يربوع وهم قبيلة واحدة من قبائل تميم وحجرهم عليه في ملكه والزامهم إياه لأنفسهم ما لا يريده لنفسه ومحاربتهم له وقتلهم جنده وأسرهم أبنيه حتى يفديهما بالفدية العظيمة ليعلم إنه كان رعية لهم ولن يكون رعية له. وهذا الحديث جاء هكذا فذكرناه وغيره يدل على إن زرارة أبا حاجب عاصر المنذر بن ماء السماء وأبنه عمرو بن هند من بعده ولعل تقدم حاجب بن زرارة عند الملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 كان في حياة أبيه والله أعلم. ومن أحاديثهم أيضاً مع العرب أن امرأ القيس الثاني غزا بكر بن وائل وكانت عادة الملوك إذا توجهوا ألف الغزو إن يذبحوا أول رجل يلقاهم سنة كانت لهم يتيمنون بها فلقي جيشه رجلا من بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان فأخذه الجيش وكانت العرب تعرف سنتهم تلك فقال الرجل لآخذيه: أذبح الملك أحدا؟ قالوا: لا. فخرج فأتوا به فقال له: أجرني على نفسي وأهلي ومالي وأدلك على عورة بكر بن وائل. فأجاره وكانت بكر قد سمعت بمسيره فاستعدت للقائه وجمعت له فجاء به حتى أورطهم فيهم فهزموا جيشه وغنموا أموالهم وأسروه وكان136 الذي أسره الناموس وهو سلمة بن مرة بن ذهل بن شيبان فنازعه في أمره رجل من بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان يقال له أبو ربيعة وأدعى أسره فاختصم فيه بنو مرة وبنو أبي ربيعة. وقال كل من الفريقين هو أسيرنا. وكان شراحيل بن مرة أخو سلمة الناموس قد جعل على نفسه إن لا يحلف على ما لم يره وكتم ذلك عن قومه فلم يطلع عليه أبوكم كعب بن عمرو بن أبي ربيعة وكان شراحيل في وقت أسر القوم للملك غائب فرضي بنو أبي ربيعة بأيمان خمسة من بني مرة إنه لاحق لهم في أسر الملك فدس الأعشى كعب بن عمرو إن اشترطوا عليه إن شراحيل أحد الخمسة فطلبوا ذلك منهم فبذلوه لهم وانتظروا قدوم شراحيل وهم لا يعلمون بما في نفسه فلما قدم أخبره قومه. قال: أفي الخمسة أنا؟ قالوا: نعم فقال لقد خبتم وخسرتم هذا عمل كعب بن عمرو فأني لم أطلع على أمري غيره ثم أتى بني أبي ربيعة فقال: يا بني أبي ربيعة أظننتم أنا لا نحلف على حقنا كذبتم لا نخليه لكم وسنحلف لكم وسنحلف عليه فصالحوه على إن أعطاهم ستين بعيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وخلص أسر الملك للناموس فقال الناموس في ذلك: نضلت أبا ربيعة عن أسيري ... ففزت به وجمعهم شهود إذا خطرت بنو همام حولي ... دفعت بهم عداوة من تليد ثم إن الناموس باع امرأ القيس نفسه بفدي صالحه عليه وقدم به الحيرة ليأخذ الفداء وكان الناموس قصيرا فلما رأته نساء امرئ القيس قالت بنت له: أهذا القصير أسر أبي؟ فبلغ الناموس فقال: أبوكم زعمت بنت امرئ القيس أنني ... قصير فقد أعيا أباها قصيرها ورب طويل قد سلبت بنانه ... وعانقته والخيل تدمى نحورها وقد علمت خيل امرئ القيس أنني ... اكر إذا ما الحرب شب سعيرها ولو شهدتني يوم ألقيت كلكلي ... على شيخها لاشتد مني نكيرها أتانا يرجي إن يؤوب بمغنم ... وقد حشدت بكر وثاب نفيرها ومن أحاديثهم معهم أن عمرو بن هند بعث وائل بن صريم بن أسد تميم العبري ساعياً على بني تميم فأتى بني أسد بن عمرو بن تميم، وهو بطوليع، فنزل بهم لأخذها الأتاوة، فلما كان بالقربمن قليب يسقي فرسه على حوض من حياضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 دفعه رجل منهم، فالقاه في القليب. وأقبلوا حتى أشرفوا عليه وينادونه مرحبا بساعي الملك، ثم أمروا صبيانهم إن يشدخونه بالحجارة، فقاموا على رأس القليب يرمونه ويهزأون به ويقولون: يا أيها الماتح دلوي دونكا ... آني رأيت الناس يحمدونكا وبلغ عمرو بن هند ذلك فلم يستطع إن يصنع إن يصنع شيئاً حتى جمع أخوه باعث بن صريم جمعا من بني عبر، وسار ألف بني أسيد فأصاب منهم أسرى فذبحهم حتى ملأ من دمائهم دلواً ثم قال: سائل أسيد هل ثأرت بوائل ... آم هل شفيت النفس من بلبلها إذ أرسلوه ماتحاً لدلائهم ... فملأتها عقلاً ألف أسباها آليت أثقف منهم ذا لحية ... أبدا فتنظر عينه في مالها وقال المنخل في ذلك: وقرى باعث أسيداً حروباً ... في النواحي يشب منها الضراما جرد السيف ثائراً بأخيه ... يقتل الكهل منهم والغلاما فملأنا حتى عراها ... برداً علق القلوب والسقاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فاخذ أخوه بثأره ولم يصنع الملك شيئاً، ومما يشبه هذا الحديث ما روي إن أحد التبابعة بعث ألف قوم من اليهود يطاب منهم الإتاوة فكتبوا الامتناع: العبد يتبعكم يريد حباكم ... ومحله بالمنزل المتدلل آنا أناس لا يطار بأرضنا ... عض الرسول ببظر أم المرسل ومن أحاديثهم معهم أن المنذر بن ماء السماء كان بعد إن تزوج هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، وأولدها بنيه الثلاثة عمرا وقابوس والمنذر، فرأى بنت أخيها أمامة بنت فلان بن الحارث بن عمرو بن حجر فأعجبته فطلق137 هند عمتها وتزوجها وقال في هند: كبرت وأدركها بنات أخٍ لها ... فأزلن أمتها بركض معجل فولدت له أمامة غلاماً، فسماه عمراً أيضاً وغلب عليه أسم أمه عليه فقيل: عمرو بن أمامة، كما قيل لأخيه عمرو بن هند، فلما مات المنذر وملك أبنه عمرو بن هند قطع أخاه عمرو بن أمامة وجفاه فقال عمرو بن أمامة: منع أبن أمك خيره ... وله الخورنق والسدير فلامنعن منابت الضمران ... إذ منع القصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بفوارس تردي كما ... تردي إلى الجيف النسور آنا بنو العبلات نقضي ... دون شاهدنا الأمور ولحق باليمن فأتى ملكها، فسأله إن يبعث معه قوما يقاتل بهم أخاه عمرو بن هند على نصيبه من الملك، فقال له: أختر من شئت فاختار مرادا فسرحهم معه، فلما صاروا بواد يقال له قضيب، تلاومت مراد وندموا على المسير معه، وعزموا على قتله، وكان فيهم هبيرة بن عمرو بن عبد يغوث بن العويل بن سلمة بن بداء بن عامر بن عوبثان المرادي فتمارض، فبلغ ذلك عمرا فأرسل إليه طبيباً فجعل طبيب مكاويه بالنار، ووضعها على أرضه فجعل يقول أصبت موضع الداء حتى كشح بطنه، فسمى بذلك المكشوح. وعاد الطبيب فأخبر عمرا بمرض هبيرة فصدقه، وأطمئن إلى ذلك، وبات تلك الليلة وقد أعرس بجارية من مراد، ومعه امرأة له غسانية. فلما جنهم الليل ثار به هبيرة بن عمرو في مراد، فسمعت الغسانية جلبة الخيل فقالت: يا عمرو أبيت اللعن، سال قضيب بماء أو حديد، فذهبت مثلاً. فقال لها: نامي غيري، فذهبت مثلاً. ثم هجم عليه القوم قثار إلى سيفه وهو يقول: لقد عرفت الموت قبل ذوقه ... أن الجبان حتفه من فوقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 كل امرئ مقاتل بطوقه ... والثور يحمي جلده بروقه وكان في مراد غلام أمرد أسمه جعيل بن الحارث، وكان عمرو بن أمامة قد لقيه من قبل ورآه فأعجبه، فقال لهم: نعم وصيف الملك أنت، فلما كان وقت هجوم القوم على عمرو ولقائه إياهم وهو يزجر بهذا الرجز بدره جعيل بن الحارث وهو يقول: إني وصيف ملك تراني ... أما تراني رابط الجنان أجبته لبيه إذ دعاني ... أفليه بالسيف إذا أستفلاني ثم ضربه فقتل وقال رجل من مراد أسمه زنباع في ذلك، وقيل إنها لهبيرة أبن عمرو: نحن ضربناه على بطنانه ... بالمرخ حيث أذن يرتابه بكل عضب صارم بعضابه ... يلتهم القرن على أعترابه ذاك وهذا السيل من شعابه ... نحن أرحنا الناس من عذابه قلنا به قلنا به قلنا به ... فليأتنا الدهر بما أتى به ثم عاد مراد إلى بلادها وأخذ جعيل بن حارث قاتل عمرو بن أمامه امرأته الغسانية، وأبنين يافعين كانا له معها، فأتى بهم عمرو بن هند بالحيرة فقال له: أيها الملك، قتلت عدوك وسترت عورتك وحملت إليك ولدك. فقال له: إن لك عندي جزاء، أنت له أهل ثم أمر إن تضرم له النار، وقال القوه فيها، فقال أيها الملك أني كريم فليلقني فيها كريم، فأمر أبنا له وأبن أخ إن يلقياه فيها، فلما أدنيا منها قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الخير لا يأتي به حبه ... والشر لا ينفع منه الجزع ثم التزم الغلامين وقذف بنفسه في النار واجتذبهما معه فاحترقوا جميعاً. ومن أحاديثهم معهم أن عمر وبن هند مع ما كان يذكر به من السطور من بينهم حتى إن العرب كانت تسميه لهيبته مضرط الحجارة. قال لجلسائه يوماً: هل تعلمون أحداً من العرب من أهل مملكتي يأنف إن تخدم أمه أمي؟ قالوا: لا إلا أن يكون عمرو بن كلثوم بن غياث التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة. وعمها كليب بن وائل. وزوجها كلثوم بن عتاب وأبنها عمرو أبن138 كلثوم فأمسك ثم أرسل إلى عمرو بن كلثوم أن يزوره ويزور ليلى هنداً. فجاء عمرو في فرسان من بني تغلب فنزل في شاطئ الفرات، وصب طعاماً ودعا أهل مملكته وجلس في سرادقه بين خاصته، وجلس عمرو بن كلثوم، وجلست أمه هند في قبة منفردة في السرادق، وعندها ليلى بنت مهلهل، وقد كان قال لأمه إذا لم يبق لنا حاجة إلا في الطرف نحي خدمك ومري ليلى بأن تناولك شيئاً منها، فلما دعا بالطرف؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ثار التغلبيون الذين كانوا معه بمن في السرادق، فانتهبوا سلاحهم وخيولهم، وأخذوا خيل الملك وسلاحه ونجائبه وسبوا من ظفروا به من النساء ولحقوا بالجزيرة - ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والحق هذه الأبيات في قصيدته، فانه كان قال القصيدة من قبل قتله وأنشده إياها على ما تقد ذكره: بأي مشيئة عمرو بن هندٍ ... تطيع بن الوشاة وتزدرينا تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لامك مقتويناَ فان قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك إن تلينا إذا عض الثقاف بها أشمأزت ... وولته عشوزنة زيونا عشورنة إذا انقلبت أرنت ... تدق القفا المثقف والجنينا ويقول أفيون التغلبي وأسمه صريم بن معشر: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق فقام أبن كلثوم إلى السيف مصلتاً ... فعممه من رأسه بالمخنق وقال جابر بن حبناء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وعمرو بن هند قد صقعنا جبينه ... بشنعاء تشفي سورة المتظلم وقال الفرزدق الجرير: ما ضر تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران قوم هم قتلوا أبن هندٍ عنوة ... عمراً وهم قسطوا على النعمان قتلوا الصنائع والملوك وأوقدوا ... نارين قد علتا على النيران فلم يكن لهذا الملك من مواليه وحشمه وجلسائه وجنده وخدمه المحيطين بن المحدقين بسرادقه من يدفع عنه رجلا واحداً؟ ويكف يده أو يعاجله حين قتله فيقتله به أو يمنعه ويمنع الفرسان الذين معه من النهب والسبي بعد القتل؟ ومن صور في نفس الحال هذا الملك علم بحقيقتها. ومن أحاديثهم معهم أن يزيد بن عمرو بن حنيف بن ثعلبه بن سعد بن ضبيعة البكري قتل حسان بن المنذر، وهو أبن هِرّ وهي أمه وذلك يوم شاحب وهو واد باليمامه ففي ذلك يقول الأعشى: ومنا أبن عمرو يوم أسفل شاحب ... يزيد والفت خيله غمرانها سما لابن هِرّ العجاج بطعنة ... تسيل تسيل على حيزومه نعرانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ومن أحاديثهم معهم أن ضمرة بن جابر بن قطن بن نشهل بن دارم كان كثير الإغارة على مملكة النعمان بن المنذر، وكان النعمان يطلبه فأعياه وأعجزه، فلم يجد في أمره حيلة إلا إن أرغبه وأمنه فأتاه وكان ضمره دميماً، فلما دخل على النعمان قال: لئن تسمع بالمعيدي خير من إن تراه. فقال ضمرة إن المرء باصغريه قلبه ولسانه إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان. قال صدقت لله درك فهل لك علم بالأمور؟ قال: نعم. أني لابرم منها المسحول، وأنفض منها المجدول، وأجيلها حتى تجول ثم أنظر إلى ما تؤول، وليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب. قال فما السواة السوآء والدياء العياء؟ قال: أما السواة السوآء فالحيلة السحابة السليطة السبابه الخفيفة الوثابة التي تعجب من غير عجب139 وتغضب من غير غضب، الظاهر عيبها، المخوف عينها، فبعلها لا ينعم باله، ولا يحسن حاله، ولا يثري ماله، إن كان مكثرا لم ترض بماله، وإن كان مقلاً عيرته باقلاله، فاراح الله منها بعالها، ولا متع بها أهلها وكفاهم جهلها ولا جمع شملها. وما الداء العياء الذي ليس له دواء: فجار السوء الذي إن كان فوقك قهرك وحقرك، وإن كان دونك همزك ومكرك، وإن سألته منعك، وإن أعطيته كفرك، وإن ائتمنته خانك، وإن حدثته شانك، وإن غبت عنه سبعك وإن حضرته بهتك، فإذا وجدت كذلك جارك فخل له دارك، وعجل من فرارك وأبعد عنه جوارك، وإن كنت ضنيناً بالدار، فكن كالكلب الهرار عش ما عشت بذل وصغار. فقال النعمان: صدقت والله أبوك فما الفقر الحاضر والعجز الظاهر؟ قال: أما الفقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الحاضر فالمرء لا تشبع نفسه، وإن كان من ذهب جلبه فطوقه طامع وقلبه جامع، وأما العجز الظاهر: فالشباب القليل الحيله اللزوم الحيله يحوم حولها ويطيع قولها، إن سخطت ترضاها وان رضيت تفداها فلا كان مثل هذا الأحياء ولا ولدت له مثله النساء. فقال النعمان يا ضمرة صف لي النساء فما رأيت رجلا أوصف منك فقال ضمرة: متى تلق بنت الشعر قد نض ثديها ... كلؤلؤة الغواص يهتز جيدها تجد لذة منها لخفة روحها ... وعزتها والحسن بعد يزيدها وإن تلق يوما بنت عشرين حجة ... فتلك التي تلهو بها وتريدها وبنت الثلاثين الشفاء حديثها ... هي العيش لم ينقض ولم يذو عدوها وإن تلق بنت الأربعين فغبطة ... وخير النساء ودّها ووليدها وصاحبة الخمسين فيها بقية ... من الباه واللذات صلب عمودها وصاحبة الستين قد رق جلدها ... وفيها متاع والحريص يريدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وإن تلق يوما بنت السبعين حجة ... هدبا فتلكم خزية يستعيدها وبنت الثمانين التي قد تجردت ... من الكبر المحني وبان وريدها وصاحبة التسعين يرعش رأسها ... وبالليل مكباب قليل هجودها ومن تطلع الأخرى فقد ضل عقلها ... وتحسب إن الناس طراً عبيدها فاستعقله وأستحسن كلامه وفصاحته، ثم صالحه على عدة كثيرة من الإبل يؤديها إليه على إن يكف عن أذيته والإغارة عليه. ومن أحاديثهم معهم إن عمرو بن هند غزا الرباب يوم وجرة على ماء لها يعرف بالجفرين ومعه أخوه المنذر الأصغر، فقاتلوه فقتلوا رجالا من أشراف أصحابه، وهزموه ففي ذلك يقول ذو الرمة: قتلنا على الجفرين آل محرق ... ولاقى أبو قابوس منا ومنذر ومن أحاديثهم معهم إن النعمان غزا بجيشه بني عمرو بن تميم وهم بالحيرة فاغار عليهم فطرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 أبلهم فتبعوه وأمهلوه حتى أتعب ثم لحقوه فهزموه وقتلوا عسكره، وغنموا ما فيه ففي ذلك يقول أرقم بن مطرود رجل منهم: نحن سقينا بالنجير النعمان ... كأساً من الشربان والذيفان ويقول رجل منهم: ونحن على النجيرة قد صببنا على النعمان مرداة طحونا ومن أحاديثهم معهم: أن النعمان أيضاً جمع كتائبه فجهزها إلى بني عامر وبعث على العسكر أخاه لامه وبرة بن رمانس الكلبي، وأستنجد أيضاً بقبائل من معد فضمها إليهم، وكأن فيمن أستنجده ضرار بن عمرو والرديم الكلبي وحبيش بن الدلف الضبي أحد بني السيد، وكان ضرار يومئذ شيخا كبيرا، وكان معه بنون تسعة كلهم قد شهد الحرب، فاقبل وبرة بن رومانس بهذا الجموع بعد تفرق الناس من عكاظ يريد بني عامر، وكانوا قد أنذروا به فأستعدوا للقائه فلما التقوا حمل يزيد بن عمرو الصعق، وكان قصيرا على وبرة بن رومانس وكان جسيما فاعتنقه فأخذه، وحمل عامر بن مالك ملاعب الآسنة على ضرار140 بن عمرو الضبي فطعنه وعليه درعان فسقط عن فرسه فلحق به بنوه حتى ركب، ثم فعل به ذلك ثانية وثالثة حتى طعنه طعنات يسقط بكل طعنه منها عن فرسه ثم يمنعه بنوه حتى يركب، ثم ناداه بعد ذلك: ويلك أحلني على رجل كريم فو الله لئن لم تفعل لأموتن أو لتموتن، فاستوثق منه، وأشار إلى الجيش لبن الدلف. فحمل عليه فأخذه عن فرسه أخذاً فلما كشف عن وجهه ازدراه، وكان حبيش أسود ذميما، فقال عامر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 اغدرا غدرا في السوء يظن إن ضرار كذبه فخاف حبيش إن يزدريه فيقتله، فقال له: إن كنت تريد اللبن فقد أصبت لبنا كثيرا، فأوثقه حتى أفتدى نفسه منه أربعمائة بعير. وفضحت بنو عامر وهم حي واحد عسكر النعمان وكتائبه ومن أستنجد به أيضاً عليهم وعاد ضرار بفل الجيش النعمان فاخبره بالأمر فقال: وكيف سلمت من سبع طعنات تسقط بكل واحدة منها إلى الأرض؟ فقال خلصني أجلي وإكراهي نفسي على المق الطوال يعني أمهات بنيه، ومكث نحو النعمان أسيرا في يد زيد بن الصعق حتى أفتدى نفسه منه بألفي ناقة صفراً وقينتين. وقدم به ليأخذ الفداء، فلما رآه النعمان قال له: كيف أسرت هذا؟ قال غاب قومه وحضر قومي. وفي رواية أخرى عن ولد يزيد بن الصعق قال: دخلت مع أبي على الملك وهو في سرداقه بالحزن وذكر في هذه الرواية المنذر ولم يذكر النعمان قال: وهو يتغدى من إلية بين يديه وعسل، فجعل يقطع بتلل السكين من تلك الإلية ويلوثه بالعسل ويطعمني، ثم قال لأخيه: كيف أسرك هذا؟ فاستحى فأمسك. فقال: أني أبيت اللعن شهد قومي وغاب قومه. فقال الملك: أحسنت يا زيد، وما هو بأول حسن جئت به. والروايات مختلفة وفي ذلك يقول زيد بن الصعق: ونحن غداة القريتين تواهنت ... خناذيذ معجر الغبار ضوائعا تركنا أخا النعمان يرسف عاتباً ... وجدعن أخيار الملوك الصنائعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 بكل سنان في القناة تخاله ... شهاباً بدا في ظلمة الليل ساطعا فحكمنا حبيشاً حين أرجف نجدة ... يعالج مأسوراً عليه الجوامعا ولما هلك يزيد رثاه طفيل الغنوي فقال: إذا أنتم أبتم قبلنا ... إلى الحي فانعوا أبا العايس يزيد بن عمرو لإخوانه ... وللضيف يطرق والبائس وللخيل يرجعها شزباً ... تهادى صدور قنا يابس أباح الحماس وديانها ... وأفنى القبائل من ناهس وأفرد سجنه من جابرٍ ... وجاء بواحد رومانس فلم يكن للنعمان قدرة يشفي بها غيظة من بني عامر إلا بوجه كان تركه أحسن من فعاله أصابوا أسرى من بني جعفر بن كلاب يوم الغبيط فأرسل تجاره الذين كانوا يحملون له الأمتعة إلى سوق عكاظ، فابتاعوا له أسرى من بني يربوع بعكاظ فحبسهم عنده. وبلغ ذلك بني جعفر، فدخلوا عليه ووفد عليه عوف بن الاحوص ولبيد بن ربيعة في رجال من بني جعفر فدخلوا علي وهو على شرابه، فقال: ما الذي جرأكم علي حتى تأتوني بعد إن نلتم مني ما نلتم، فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 لبيد: الثقة بحلمك أيها الملك. فاقسم باغلظ قسم كان يقسم به لا قمت من مجلسي، ولا شربت كأسي ولا بلت في مثانتي، حتى تعطوني رضاي أو أضرب أعناقكم! فلما رأوا ذلك، قال لبيد: يا عوف، أما إن تكفينه وأكفيك من حوله، أو أكفيكه وتكفينهم؟ فقال عوف: يا لبيد إنهم يهابون شعرك، فاكفينهم حتى أكمله. فقام لبيد فأستكشف أصحاب النعمان وجلساءه. فقالوا: ما كنا لنعين عليكم مع علمنا بشرفكم - وقام عوف فأخذ بيد أبنين له، فقال: أبيت اللعن هذان أبناي بما تطلب منا. فشرب كأسه، ثم أخذت الخمرة منه، فصفح عنهم ثم قال لعوف: يا عوف، آينا اليوم أعظم منة من الآخر أنا أم أنت؟ فقال: بل أنت أبيت اللعن. فقال141 لا بل أنت يا عوف لأنك أخرجتني من قسمي: ولولا ذلك لكنت بين أحد أمرين: أما إن أحنث فأكون أكذب العرب، أو إن أتم على قولي فاقدم على قتل قوم ليسوا من أهل مملكتي، وقد جاءوني وفداً مستسلمين. فلست أدري من أي أحوال لنعمان أعجب: من عجزه عن بلوغ غزه وأدرك ثأره منهم، وهو ملك العرب وهم قبيلة واحدة أم من ابتياعه أسراهم بماله وأخذهم إياهم من القد والقيود ليقتلهم، وهذا أقبح من الأول؟! ثم إنه لو تمم على قتلهم بعد إن صاروا بيده، أي ثأر كان يدرك لذلك أم أي غيظ كان يشفى به؟ وهل بسط اليد بالقتل وغيره إلى أسير موثق بالقيد إلا كبسطها إلى الميت؟! وهل هذا مما يدرك به ثأرا، وينفي به عارا، ويشفى به غيظ النفوس الأبية، أو يعد به من أفعال ذوي الأنوف الحمية أم من قسمه بأنه لأبال في مثانيه حتى يكون كذا؟ وهل يسمع من أرذال الناس وأوباشهم بمثل هذا القسم الغريب الفاحش العجيب؟ فكيف من ملك يلبس التاج ويجلس على السرير، ويقال له أبيت اللعن؟ وهل يجوز للعقلاء من السوق إن يتلفظوا على رؤوس الناس بمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 هذا القسم؟ فكيف لملوكهم؟ وهل سمع للسفهاء يمين أعجب أو أفحش من هذا اليمين! فكيف للملوك الذين هم أهل لرجاحة الأعلام وتهذيب الكلام. ويقضي ذكر ذلك من فعل النعمان ببني عامر إن نذكر ما يضادده من فعل الملك، ملك العرب سيف الدولة بهذه القبيلة بعينها في عصره فإن عسكر السلطان السعيد ملك شاه بن الب أرسلان رضي الله عنه، وهو الذي دانت له العرب والعجم، ظهرت على بني عقيل ومن معها من قبائل بن عامر بظاهر آمد، في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة وإنهزام شرف الدولة مسلم وأسر قريش بن بدران بن كثير المسيب رحمه الله، وأسر من أشرافهم وأعيانهم جلق كثير وعدد جم فيهم جماعة كثيرة من آل المسيب، فاشتراهم سيف الدولة بكل ما كان في خزائنه، ثم كثروا عليه فاشترى بآنيه وحيلة مراكبه، ثم كثروا فاشترى بالكراع والسلاح، ثم كثروا فاقترض من أصحابه وحشده وحاشيته، ومن أمراء الترك وغيرهم، وكساهم وحملهم وردهم وسيرهم حتى الحقهم بقومهم. وسمعت من تحدث إن الترك كانوا يعنفون بأسراهم بالوثائق والضرب ويجنبوهم على الخيل، ويقولون لهم اشتروا أنفسكم فلا يعرفون حيلة إلا إن يقولوا لهم أمضوا بنا الأول معسكر سيف الدولة بن مزيد ليشترينا، فيجلبوهم إلى كما تجلب الأنعام فيشتريهم ويطلقهم إقتداء في ذلك بقول أبيه وجده في اصطناعهم الأمتان عليهم حتى عاتبه أرتق أمير الترك في ذلك، وطلب منه إن يسلمهم إلى فأبى، فهم بمشاغبه وأوعده الركوب إلى وأخذهم قهرا منه، وضايقه أشد المضايقة، وهو مقيم على الامتناع فلامه بعض أصحابه في ذلك وذكر له كثرة عدد من معه وإن ذلك يؤدي الأول سخط السلطان ملك شاه مع طول يده وطاعة العالم له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فقال والله لا أسلمهم أبدا وإن ركب ألي لقيته وحدي، ثم كفاه الله مئونته. وسمعت مرشد بن أبي شتكين بعض حجابه يحكي: إن شرف الدولة مسلم بن قريش رحمه الله أتاه بعد ذلك زائرا، وقصده شاكرا، فنزل بباب سرداقه فنادى الحاجب والحاشية الأول هاهنا ليدخل راكبا، فقال بل من هاهنا. فنزل بباب السرداق ونهض سيف الدولة فتلقاه وجلسا فأفاض شرف الدولة في شكره وشكر أبيه وجده وأعترف بصنائعه وصنائعها، فكان من جمل ما قاله له: إن نور الدولة وبهاء الدولة رحمهما الله كانا لنا عدة في كل عظيمة، وأنت الذي أزيدت، وكنت قد نظمت قصيدة في مديحه وذكرت فيها سيرته، فذكرت ذلك في أبيات منها وهي: بأمد وبميافارقن له ... وقائع دونت من قبل في الكتب كانت وقائع تتلوها صنائع لم ... تفسد بمن ولم تخلط ولم تشب حنا على عامر منا برأفة ميمون ... النقيبة بر واصل حدب فك العناة وأنسى في الهبات ولم ... تقطع أرحام سوابك ولم تخب142 ايتاش أسراهم من أرتق وهم ... في دين ذي سوس بالتاج متعصب صنيع آبائه فيهم وعدتهم ... منهم على سالف الأيام والحقب فلما عاد الأول بلاده أراد المسير الأول باب السلطان السعيد ملك شاه رضي الله عنه فنهاه والده رضي الله عنه وقال له: يا بني إن الذي فعلته من أبتاعيك أسرى العرب واصطناعهم قد انتهى الأول السلطان بغير شك، ولست آمن عليك، فأقم في حلتك وعشيرتك لأمضي أنا. فقال له إن أرخصي بنفسي وتعذيري بها في حفظك وتجشمي المشقة في دعتك والتعب في راحتك والبذلة في صونك وأجمامك أحب ألي من المقام مع ضد ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وقصد باب السلطان فقضى الله حوائجه وكفاه ما حذره، فهل في قصته الإنصاف إن يقاس ملك أشترى أسرى قبيلة ليربطهم ويوثقهم بمن اشتراهم ليمن عليهم ويطلقهم. ويسوي بين ما ابتاعهم ليشفي غيظه منهم ويوثقهم بمن ابتاعهم ليعتقهم، وهل يماثل بمن أراد ما أراد بهم من الفدية أو القتل بمن أطلق عناتهم والاسارى فشكر له ذلك أطفالهم والعذارى: بمن معد يفديه بأنفسها ... طراً وتحسدها علياء اليمن إذا أساء بهم دهر كعادته ... عفى إساءته إحسانه الحسن يواصل كل علاءٍ خفي زمناً ... وكل مكرمةٍ مهجورةٍ قمن ما البحر إذا جاش عرباه وهاج له ... موج يرصص في أثنائه السفن فخلت فيه جبال الرمل بادية ... تنأى بها الريح أطواراً وتقترن تلاحقت سيب كفيه إذ أنشأت ... منها سحائب جودٍ وبلها هتن وأرتاح للمجد واهتزت شمائله ... له كما أهتز في إفنائه الغصن لا يعتريه وراء البذل مندمة ... ولا على عرضه من فعله درن إذ الحباحلها طيش الحلوم غدا ... كأنما قد رسا في دسته حصن ومن أحاديثهم معهم إليه المنذر الأربعين لما نزل بالحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبي، ووهب له سلمى بنت الصائغ اليهودي أم أبنه النعمان بن المنذر على الوجه الذي تقدم ذكره، ورحل بها عنه أغار عليه في طريقه ضرار بن الرديم الضبي وأسم الرديم ضرار بن مالك بن زيد بن كعب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن ود بن طابخة بن الياس بن مضر في جيش عظيم فأخذها منه وأخذ كل ما كان معه، فانهزم المنذر وعاد الدولة الحارث بن حصن فشكا ألي ضراراً، وكان الحارث صديقا لضرار فأساله فيها فردها عليه، فلما ردها عليه قال المنذر للحارث: علق على الفرس لجامها، فوهب له إحدى أختيها اللتين كانتا عنده فرحل بهما جميعا. ومن حديثهم معهم إليه هبيرة بن عامر بن سلمة بن الحر بن قشير أغار على النعمان وهو بسفوان، ماء بالقرب من البصرة فاكتسح أمواله وأخذ امرأته المتجرده ونساء من أهل بيته، وهرب النعمان، فلحق بالحيرة فلجأ إليها، ففي ذلك يقول النابغة الجعدي: وظل لنسوة النعمان منا ... على سفوان يوم أرونان فأرفد حليلته وجئنا ... بما قد كان جمع من هجان فأي مذلة أعظم من هذه! يدخل على السوقة فكيف الملوك! وأمثال هذا من أحاديثهم مع العرب كثيرة إذا تتبع وجمع ضاع المعنى المقصود فيه، وبعد الالتفات الدولة الغرض معه. الحارث بن ظالم المري ولو لم يستدل على ضعف أمرهم الإلية بما نال النعمان من الحارث بن ظالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 المري من الضيم لكان في ذلك مقنع، فإنه قتل جاره ونهب ماله، وقتل أبن أخيه شرحبيل بن الأسود بن المنذر، وقد قيل بل هو أبنه. وكان قتله إياه بمرأى منه ثم فاته بعد ذلك كله بثأره فلم يظفر به وحديثه مشهور، وذلك إن خالد بن جعفر بن كلاب لما قتل زهير بن جذيمة العبسي لجأ الدولة النعمان فنزل عليه بالحيرة خوفا من بني عبس وتباعداً من شرهم. فقالت بنو عبس كيف نصنع بخالد وقد بعد مرامه علينا. فقال الحارث بن ظالم وكان فاتكاً مارداً: يا قوم عليكم بحرابكم فاصلوها وإن أكفيكم خالداً. فركب راحلته وجنب فرسه، وخرج حتى أتى الحية كالوافد الدولة النعمان. فنزل على النعمان في قبة بناها له فاجتمع هو وخالد يوما عند النعمان بالحيرة وبين يديه نطع عليها تمر فأكلا معه ثم134 إنه أدنى مجلس الحارث، فقال له خالد: أيها الملك من هذا الذي أدنيت مجلسه؟ فقال: هذا أبن عمك الحارث بن ظالم فارس العرب. فقال خالد إن لي عنده يدا لم يشكرها لي. فقال: الحارث وما يدك عندي يا خالد؟ قال: قتلت000 قومك زهير بن جذيمة فطمعت بأن تسودهم بعده ولي000 بذلك في حبوته. فقال الحارث: أني أشكرك أي أعطيك على ذلك يا خالد، وغضب حتى أرعد فجعل إذا أخذ تمرة سقطت من يده. فظن خالد إن الحارث ينتقي التمر فقال له أيتهن تريد لأناولكها؟ فقال له الحارث أيتهن تريد لاتركها لك؟ قيل وجعل يدس نوى ما يأكله من التمر تحت النطع الدولة ما يلي الحارث، فلما رفع النطع قال للملك: أبيت اللعن الإلية ترى ما أنوى الحارث لقد أكل وحده مثلما أكلنا جميعاً. فقال الحارث لكن أكلك التمر بنواه أعظم بطنك. فقال خالد: بل أعظمها دماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 قومك. فنهض الحارث يجر رداءه، فقال الملك لخالد: ما الذي أردت بكلام هذا الكلب، وأبيك لقد هجت على نفسك منه شرا. فقال: أبيت اللعن، لو كنت نائما ما جسر هذا إن يوقظني، فنمت هذه الكلمة أيضاً الدولة الحارث، فلما كان الليل أراد الملك إن يشغل الحارث عن خالد، فأرسل ألي جارية معها باطية من خمر وقال لها: قولي له الملك أحب كرامتك بإرسالي إليك بشراب من شرابه وأمرني إن لا أبرح حتى تشربه. فأخذه وأراها إنه يشربه ويصبه بين نحره وثوبه فانصرفت وقام الدولة رحل ناقته فجعل يكدمه حتى كسر شيئا منه فجعل يلوكه وعنده رفيق له أسمه خراش من بني محارب بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر فقال له خراش: أني أراك تهم بأمر فيه هلاكك فقال له: ناشدتك الله والرحم الإلية توجهت حيث شئت وتركتني فذهب عنه وتركه. فركب الحارث فرسه ولبس سلاحه وأخذ بزمام ناقته حتى أبعد ثم أناخها على سمت طريقه وعقالها وعاد الدولة الحيرة وقد عرف منزل خالد في قبة كان ضربها عليه الملك فهجم على القبة فهتك أشراجها بالسيف ودخل فوجد خالدا نائما وأبن أخيه عروة الرحال بن عتبة بن جعفر مستيقظا فقال عروة: من أنت؟ قال أنا الحارث لئن نطقت لأعممتك به فسكت. ووكز الحارث خالدا برجله فأيقضه. وإنما فعل ذلك لما بلغه من قوله لو كنت نائما ما جسر ويمقظني. فلما استوى جالسا ضربه فقتله وخرج فركب فرسه وطار ونادى عروة وأ جوار الملك!! الإلية إن الحارث قتل خالدا فخرجت الخيل تطلبه ففاتهم فعادوا وقيل بل أدركوه فهابوا إن يقدموا عليه فعادوا فذكروا للملك إنه فاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ولحق الحارث بأرض ربيعة فاستجار ببني عجل ثم لحق بالجبلين فاستجار بطيء وسأل الملك عن أمر يغيظة به فدل على جيران له من بلي فأرسله إلى فاستاق أموالهم وقتل رجلا منهم وبلغ الحارث ذلك فجاء الدولة جيرانه فاستيقن أمرهم وما أخذ منهم ثم خرج مستخفيا نحو الحيرة ومعه نسوة من جيرانه قد عرفن موضع إلا فلما دنا منها سمعت امرأة منهن ناقة لها تحن وهي تحلب فعرفته وكانت تسميها اللفاع فقالت: هذا والله حنين ناقتي اللفاع فقال الحارث: إذا سمعت حنة اللفاح ... فادعي أبا ليلى فلن تراعي ذلك راعيك فنعم الراعي ثم شد على الرعاء وهو يقول: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب ... كم قد أغثت من حزين مكروب فحبق البائن فقال الحارث: أست البائن أعلم. وأنهزم الرعاء وجمع أموال جيرانه وساق معها ما ساق من أبل النعمان حتى أخذ لقحة كانت لصبوح النعمان فناداه الراعي: هذه لقحة لصبوح الملك فألاح عليه بالسيف فذهب وسار مع جارته حتى أوصلهن مأمنهن ثم لحق ببلاد قومه من بني ذبيان. وكان الأسود بن المنذر قد جعل عند سنان بن أبي الحارثة أبنا له أسمه شرحبيل. وكانت تحت سنان امرأتان سلمى بنت ظالم أخت الحارث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وسلمى بنت ربيعة من بني غنم بن دودان بن أسد بن خُزَيمة. وكانت إحداهما تلي رضاع شرحبيل وتريتهفأتى الحارث سناناً فلقيه خارجاً يرد الحيرة44 فسأله أن يعيره سرجاً، فقال: إن لي عند أهلي سرجاً فأتخم فخذه، فقال: بآية ماذا؟ فقال له قولاً تعرفه المرأة، فجاءها يطلب الصبي منها، فقالت: ما تصنع به؟ قال: أتشفع به إلى الملك، فقالت: وأي شفاعة عند هذا الطفل؟! 000أن آتي به أباه فقالت: إني أخاف لائمة بعلي، فقال: إني قد لقيته وطلبته منه، وقد بعثني إليك بآية كذا فزينته ورجلته ودفعته إليه. فأخذه فأتى به الحيرة، وقد سبقه سنان إليه فأتى بعض أصحاب النعمان فلما رأوه معه ظنوا إ أنه إنما جاء به مستشفعاً، فقالوا: مرحباً بك يا حارث وبمن جئت به، وظن سنان به شراً، وعلم إنه أحتال عليه فجعل يدنو منه ليمسك عنان فرسه والحارث يتأخر عنه ثم قال: أتعرفون هذا. فقالوا نعم فضربه فقتله، وطار فلم يقدروا عليه. وفي رواية أخرى إنه أتى بالصبي حتى وقف بإزاء النعمان، وهو في مجلس له في ظهر الحيرة، فلما رأى النعمان الصبي معه خاف عليه فأراد أن يخادعه فقال: مرحباً بالحامل المحمول، فجزره بالسيف والنعمان يراه وذهب فلم يقدروا عليه. وفي رواية أخرى أن الصبي كان مسترضعاً عند عمرو بن الخمس التغلبي وكانت عند أبن الخمس امرأة من بني أسد أسمها سلمى بنت ربيعة وقيل بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان، فاحتال الحارث عليه وعليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 بالحيلة التي تقدم ذكرها حتى أخذ الصبي فقتله، فخاف أبن الخمس النعمان فهرب بأهله إلى الشام إلى ملوك غسان فنزل على ملك منهم يقال له النعمان. وقيل إن شرحبيل الذي قتله الحارث هو أبن النعمان لا أبن أخيه الأسود على ما تقدم ذكره، وإن الحارث قبل إن يقتل شرحبيل كان قد أغتال أبنا للأسود في متصيد له بظاهر الحيرة فقتله وقال: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... وكيف تخطاك الخطوب العظائمُ أخُصي حمارٍ بات يكدم لحمه ... أتؤكل جاراتي وجارُكَ نائم ظننت أبا قابوس أنك فائتي ... ولماتذق ثُكلاً وأنفك راغمُ ومنيت في الخلوات نفسك خاليا ... أحاديث طسمٍ إنما أنت حلمُ فإن تك أذواداً أخذت فإنني ... تركت أبن سلمى رأسه متفاقمُ علوتُ بذي الحيات مفرق رأسه ... وكان سلاحي تجتويه الجماجمُ فتكت به يوماً كفتكي بخالدٍ ... ولا يركب المكروه إلا الأكارمُ بدأتُ بفتك ثم عدت بمثله ... وثالثةٍ تبيض منها المقادمُ فذكر الكميت بن زيد الأسدي ذلك في افتخاره بنزار على اليمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 فقال: وسيف الحارث المعلوب أرى ... عُصيباً في الجبابرة الردينا وأتلف واحد النعمان لما ... أراد به الجديرة أن يشينا ثم إن الحارث خاف على قومه إن يقيم فيهم فيغزوهم الملك وبني عامر، فاستجار ببني دارم، فالتحفوا عليه وأجاروه، فجرت إجارتهم إياه يوم رحرحان. ثم خرج حتى أتى بلاد ربيعة ثم أتى مكة فانتسب قريشاً وأمتدح قريشاً وذكر نسبه فيهم وهجا قومه ثعلبة بن سعد وفزارة فقال: فما قومي بثعلبة بن سعيد ... ة لا بفزارة الشعري الرقابا وقومي إن سألت بنو لؤي ... بمكة علموا الناس الضرابا في شعر له، وذكر ذلك أيضاً في شعر له هذا. وإنما قال ذلك لأن عوف بن سعد بن ذبيان وهو جده وجد رهطه بني مرة بن عوف تجلح عن سعد بن ذبيان إلى لؤي بن غالب والله سبحانه أعلم. ثم إنه خرج من مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 إلى الشام فنزل بالنعمان الملك الغساني وعنده أبن الخمس التغلبي وهما جميعاً يخافان النعمان بن المنذر، يخافه الحارث لقتله ولده ويخافه أبن الخميس لما تم من حيلة الحارث عليه وعلى امرأته فيه حتى أخذه منهما جميعاً. وقد تقدم ذكر ذلك فضمهما جميعاً جوار الملك النعمان الغساني وفي نفس أبن الخمس على الحارث ما في نفسه. وكان للنعمان الغساني نلقة في حلقها مدية معلقة وهي مهملة لا تحفظ ولا يرعاها راع، بل ترعى حيث شاءت، وإنما أراد النعمان أن يسار للنلقة طاعة من تحت يده له، وكانت للحارث زوجة حامل فاشتهت شحمها فطلبته منه، فعمد الدولة الناقة وهي145 هاملة ترعى في بعض مرابعها فأناخها في مذنب ثم عقلها وكبت سبلتها أي نحرها ثم جب سنامها فأخذه فوجدت منحورة. فعظم ذلك على النعمان فقال له أبن الخمس: إن الحارث نحرها فاقتله. فقال له: كيف أغدر به ولم يتبين عدره؟ قال: فدس إلى امرأته من يعلم خبر ذلك. فدس إليها عجوزاً مسكينة فقالت لها: يا بنية إنني أشتهي حماً فان كان في بيتك منه شيء فأطعميني، فأعطتها منه شيئاً. فلما ذهبت لتخرج به دخل الحارث فقال: ما هذه العجوز؟ فأخبرته فعلم إنها عين عليه فخنقها وحفر لها في البيت ودفنها، فانقطع خبر العجوز عن الملك. فاخبر أبن الخمس، فقال له: غالها ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 غال الناقة فاقتل الرجل، فانه قد غدر بك فقال لا أقتله حتى أستبن قال: فارحل فإذا رحل الناس معك فاردد الدولة بيته من يحفره ففعل، ورد الدولة البيت الحارث من حفره فوجد العجوز مدفونة فيه فأخذه فدفعه إلى أبن الخمس، فقال له أقتله فلما قام ألي بالسيف، قال له: فيما روي أتقتلني يا أبن شر الأضماء! فقل: نعم يا أبن شر الأسماء، وقتله هذا ما جاء في الرواية. وجاء في رواية أخرى ما يخالف ذلك وهو أن الحارث كان قتل الخمس التغلبي أبا عمرو بن الخمس ثم وداه، فلما أحتال عليه وأخذ أبن النعمان فقتله عرف النعمان إنه أحتال عليه فعذره في ذلك فلم يعرض له ولا رأى منه شراً. فلم يجد النعمان سبيلاً الدولة أدراك ثأره وشفاء غيضه من الحارث، فشاور في أمره فقيل له: أنك لا تجد ألي سبيلاً إلا بذلك، فأمنه وردَّ أبل جارته وأعطاه من الميثاق ما أراد، فجاءه فوضع يده في يده، وكان عنده في نفسه عليه ما في نفسه فسمر ليلة عند النعمان فقال له يا حارث: خبرني بأشجع رجل رأيت وأعجب أمر وقعت فيه، فقال: نعم أيها الملك، أني أقبلت في بعض أسفاري سادس ستة من اليمامة نريد الطائف، فلما كنا بموضع كذا إذا نحن بغلام معه أخت له لم يُرَ أجمل منها يطبخان قدراً لهما، وأقدر تغلي والغلام يسوطها بيده، فتعجبت منه فلما رآنا قال أدنوا حييتم أدنوا مرحباً، فدنونا فقدم لنا أقراص من خبز وذلك اللحم فأكلنا. وتحدثت معه وأصحابي في الجارية وحدثت نفسي بفرس كان معه ثم قلت له: خلِّ عن الجارية والفرس. فقال: أماّ الجارية فهي أختي فدونكم الفرس فهي لكم فقلنا بل نأخذهما معاً، فقال فأسلم على أختي، وقام إليها هي متئدة عنا غير بعيدة في خدر لها فناولها حربة، وقال: إن أنا ظفرت بالقوم وإلا فشأنك وحسبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 ثم عاد إلينا مؤتزرا بشملة يهز القناة بيده فقال يا هؤلاء ما كافايتمونا بما صنعنا فإما إن تطلبوا العافية فأني أطلبها والإلية فليبرز الدولة رجل منكم، فقلنا نصفت، ثم قام له رجل من أصحابي فقال له: ما أسمك؟ فقد آليت على نفسي الإلية أقتل سميا لأبي، فقال أسمي ناهس فشهد عليه وهو يقول: انك يا ناهس حقا ناهس ... والله لو تعلم من تمارس وليت عن هندٍ وأنت آيس فعلمنا أنم أسم أخته هند. ثم ضرب صاحبنا فقتله، فبرز ألي أخ له أسمه طمر فقلت له يا طمر لا يفوتك قاتل أخيك فسمعني فكر عليه وهو يقول: كذبت أصحابك يا طمر ... نحن بنو شيبان لا نفر فعلمنا إنه شيباني. ثم ضرب صاحبنا فقتله. فبرز ألي آخر منا فقال له: ما أسمك؟ فقال بكر، فكر عليه وهو يقول: غدرتم بكراً وغير بكر ... وكل هذا طمع في الخدر ولله لا حتى أفري ... يافوخ بكر وعظام الصدر ثم شد عليه فقتله، فبرز ألي آخر فقال: ما أسمك؟ فقال جني، فشد عليه وهو يقول: لا تزدريني لحديث سني ... إليه كنت أنيسا فأنني جني دونك يا أبن اللؤم خذها مني ثم شد عليه فقتله، فقام ألي الخامس فقال له: ما أسمك؟ فقال: جنايه، فشد عليه وهو يقول: تطمع يا جاني الحروب جانيه ... أنك تسبي ختنا علانيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 تقتل قرناً وتحور غانيه ... إليه كان ذا حقا فأمي زانيه146 ثم ضربه فقتله، فبقيت وحدي فقال لي: ما أسمك؟ فقلت الحارث فقال: أنت سمي أبي، فلك الأمان، فقلت: ومن أنت؟ فقال: أني الحماس بن الحارث بن ضيغم، فبت أنا وهو على الكثيب، فلما نام قمت ألي فذبحته، وقصدت نحوه أخته فلما رأتني مقبلا إليها قالت: أقتلته؟ قلت نعم. فوضعت الحربة في نحرها فأدركتها وهي تشخط في دمها فقال له النعمان: أغدرت به مرتين؟ لقد هونت علي الغدر، بسنتك يستن فيك، ثم أمر به عمرو بن الخمس فقتله. فهذه الحكايات كلها على اختلافها تدل على إن الحارث فات النعمان بوتره، فإما إن يكون قتله النعمان الملك الغساني على ما ذكر وقد قتل غيره، وأما إن يكون هو الذي قتله على ما تضمنته هذه الرواية فلم يقدر عليه الإلية بعد إن أمنه ووضع يده في يده فغدر به فقتله، وهذا مما لا يعتذر على من ليس له بسطة الملوك وقدراتهم إذا استخار لنفسه الغدر. وقد زعم قوم إن الذي قص عليه الحارث هذه القصة فقال له: لقد هونت علي الغدر. ثم قتله وهو الأسود بن المنذر أخو النعمان ورثاه رجل من بقايا جرهم فقال: يا حار حنيا حرا قطامياً ... ما كنت ترعيا في البيت ضجعيا وروى آخرون إنه لم يقتل وإنما كان لما نزل ببني دارم فجر نزوله عليهم يوم رحرحان. خرج الدولة أرض ربيعة فنام في فلاة فوقع به قوم من ربيعة ثم من عنزة من بني هزان، فأخذوه وسألوه من هو فلم يخبرهم، فضربوه حتى كاد إن يموت. فلما أخبرهم اشتراه منهم آخرون من بني قيس بن ثعلبة، وضربوه حتى كاد إن يموت ليخبرهم من هو فأبى. فأتوا به اليمامة فهرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 منهم، الدولة غلمان يلعبون فالتزم أحدهم، وقال له: أنا لك جار. وكان الغلام بجير بن جابر العجلي فأجاره، وجاء القيسيون فنازعهم فيه فقال لهم العجليون: إن شئتم فخذوا منا ما اشتريتم به، وإن شئتم حملناه على فرس وأعطيناه سلاحاً وأجزناه الوادي ثم دونكموه، فرضي القيسيون بذلك ورضي به الحارث أيضاً. فحمله العجليون وأجازوه الوادي وأتبعه القيسيون ففاتهم وصار إلى أرض بني قشير، فنزل بهم فأكرموه وكان عندهم إلى أن هلك. من أخبار النعمان بن المنذر وعلى اختلاف الروايات كلها واتفاقها فإنها دالة على أن الحارث فات النعمان بوتره عنده بل أخلد النعمان إلى أمر مستقبح مستهجن عند السوقة فكيف الملوك تتشرف عنه نفوس الكرام، وتتنزه عنه ذوو الحجى والأحلام جعل لنفسه يوم بؤس ويوم نعيم يخبط فيهما خبط عشواء، وفعل فعل العجماء، يكرم من أتاه في يوم نعيمه ولو إنه قاتل أبيه، ويقتل من جاءه في يوم بؤسه ولو كان عنده في منزلة ولده وأخيه، وياطخ الغريين فيما روي بدمائهم وأفتخر بذلك حتى مدح به فقيل فيه: له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم وقد روي أن هذا البيت في شعر للحسين بن مطير الأسدي يمدح به أمير المؤمنين المهدي رضي الله عنه ولعله ضمنه شعره تضميناً. فمن جملة إعجابه في ذلك ما روي عنه إنه ركب في يوم من أيام نعيمه، فانفرد عن أصحابه فمر بشيخ جالس على غدير، فقال له: يا شيخ أتعرف النعمان؟ قال: نعم وربما نمت على بطن أمه أو مررت يدي على فرجها، فقال له: ويحك، النعمان بن المنذر! قال: قد أخبرتك أني سمعت. فلما انقضى كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 لحق النعمان قوم من أصحابه فحيوه بتحية الملك، والشيخ يسمع فعرف إنه النعمان. ثم قال له النعمان: كيف قلت يا شيخ؟ قال أبيت اللعن والله ما أعرف شيخا أكذب ولا آلام ولا أوضح من شيخ بين يديك، فاصفح عنه وأجاره ووصله. وركب يوم بؤسه فلقي عبيد أبن الأبرص الأسدي متوجها لبعض شأنه، وقيل بل كان قاصدا ألي ووافدا عليه، فقال: أنشدني يا عبيد. فأحس عبيد بأسراهم فقال: حال الجريض دون القريض، فقال أنشدني قولك أقفر من أهله ملحوب، فقال: اقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد فقال: أختر أي قتلةٍ شئت، فقال: اسقني الراح حتى الثمل وأفصدني الأكحل ففعل ولطخ بالغريين دمه. وقيل إن عمر عبيد يومئذٍ كان قد زاد على ثلاثمائة سنة، وقبح هذا الفعل من النعمان أشهر من إن يدل عليه، يعفو عن ذلك الشيخ ويأتيه رجل من العرب حسيب نسيب كبير السن شريف القبيلة وافداً عليه يرجو صلته، ويطلب جائزته قد قطع ألي المفاوز وعمل فيه المدائح، وأحسن به الظن، 147 وأوجب عليه حرمة الناس فلما لقيه وظن إنه قد نال مناه م بلغ ما أمله ورجاه قدمه فقتله بغياً وعتواً وتجهلاً، وهذا كما قال طرفة لعمه عمرو بن هند في مثل ذلك: أبا منذر جازيت بالود سخطةً ... فماذا جزاء المبغض المتبغض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 مجازاته في ذا المثال كرامة ... ولست لشيءٍ بعد بالمستعرض وهل يعلم مضاددة في الأفعال أقبح أو أشنع من إن يصل المرء من سبه وشتمه، ويقتل من ثنى عليه ومدحه. وقد ذكر أبو تمام رحمه الله أمر عبيد في شعره فقال: من بعد ما ظنوا بان سيكون لي ... يوم ببغيهم كيوم عبيد وقد أعتذر للنعمان وأحتج عنه في ذلك بان قيل: إنما كان يفعل هذا إظهاراً لقدرته وليملأ به صدور الناس رعباً فيهابونه. وليس هذا بعذر ولا حجة ولا يدل على عز ولا قدرة لانا نعلم إن السوقة لا الملوك إذا كان جالساً بفناء بيته بين أهله وأعوانه ورهطه وأتاه رجل مسترسل مستسلم غير خائف ولا حذر فألقى ألي بيده وأراد قتله أمكنه ذلك إذ لا قدرة له على الدفاع عن نفسه. وقد كانت العرب تتكرم عن قتل الأسير إذا يرد في أيديهم ويعدون في ذلك من دنيء الأفعال، وإن كان حكم في غير هذا الحكم الآن الأسير قبل أسره قد قصد بالمكروه فحارب وطاعن وضارب وربما كان إنما جاء غازياً أو قد أصاب قبل أسره دما وحال الزائر الوافد الراجي المؤمل بالضد من جميع ذلك، ثم إن للملوك فضلا على غيرهم من الناس في رصانة عقولهم، ورجاحة أحلامهم، ومراعاة سياساتهم، وعلمهم بإيراد الأمور مواردها ووضع الأفعال مواضعها وهم أيضاً بالصفح عمن أستوجب الانتقام أولى منهم بالفتك ممن أستحق الحباء والإكرام، فما دل النعمان بذلك من نفسه الإلية على نقص وجهل وسفاهة حلم، وقلة علم بسياسة الملك وعكس مضاددة، بين الأفعال ومجازاة المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرَّ كوضع السيف في موضع الندى وفي هذا وأمثاله نقص للسياسة التي بها قوام الملك ولو كان هذا البطش منه بمن0000تقدم ذكره من الجنايات في أهله وماله وولده لكان ذلك أحوط لملكه وأحفظ لقانون سياسته وأحسن في التدبير منه وأنفى للعار عنه، فان للأنوف الحمية والنفوس الإبل تنازعاً الدولة الفتك بأهل العداوة والمغاورة وتميل الدولة العفو والحلم إذا حضرت القدرة كما قال بعض الحكماء القدرة تذهب الحفيظة. ووصف بعض الشعراء رجلاً مدحه بهذا الوصف فقال: أسد ضارٍ إذا أم هجته ... وأبٍ بر إذا ما قدرا فعكس النعمان ذلك وأخذ بضد الأحسن الأجمل، وعجز عمن أقدم بالمعروف عليه وفتك بمن وفد برجائه ألي فكانت صفته في ذلك كما قيل: جهلا علينا وجبناً عن عدوِّهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن وروي إنه عوتب في هذا فقال: " تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب لفضلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 " " ولقد تعاقب اليسير وليس ذاك لجهلها " " إلا ليعرف فضلها ويخاف شدة ثكلها " وأي ذنب عظيم أو يسير كان أسلفه عبيد حتى يقتله مع قول بعض الحكماء: شر الملوك من خافه البريء. على إن قتل عدي بن زيد وإن لم يكن يوم بؤسه كان سبب قتله أشد قبحا وأدل على ضعفه وقلة حرمه من قتله لعبيد، لان زيداً أبا عدي كان تولى حضانته وتربيته وكان عدي قد تزوج أبنته هنداً وقيل بل هي أخته وهي صاحبة هذا الدير بالحيرة، وهو الذي توصل له عند كسرى فتلطف في الحيلة على أخوته حتى ولاه الملك، وعاداهم جميعاً لأجله. فكافأه عن اصطناعه إياه وعداوته للناس في مودته بالقتل. وفي هذا الفعل أنواع كثيرة من القبائح فيها البغي والظلم وخلاف ما تقتضيه حسن سياسة الملوك ونقص ما يوجبه حسن التدبير وخفة حلم وإقامة لعذر الرعية في المشاققة والعصيان وغير ذلك، وهذه الخلال كلها من غير صفات الملوك. من أخبار سيف الأيام وأين ملك كانت هذه صفته وحقائق أفعاله من ملك148 كان أبو تمام وصفه بقوله: أروع لا من رياحه الحرجف العصبي ... ولا من تحومه النحس وكان أبو عبادة البحتري وصف مجلسه بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 بحيث لا حجة الملهوف ذاهبةً ... هدراً ولا هفوة المظلوم تستلب وهو على الأولياء غيث هاطل وعلى الأعداء سيف فاصل إذا نقم على قوم ملأ فجاج الأرض عليهم بجحافله، وأخذ مسالكها عليهم بكتائبه وقبائله، وحتى إذا ضاق الخناق وخرجت عليهم الآفاق وأم يجدوا منه معقلا يلجئهم ولا مهربا ينجيهم عادوا بعفوه عائذين وبحلمه لائذين واستسلموا ألي والقوا نفوسهم بين يديه واعتذروا فكان عذرهم عنده مقبولا، وطلبوا الأمان فكان مبذولا، وأوسعهم عفوا لا يكدره تثريب مقرونا ببشر لا يشوبه تنكر ولا تقطيب، وأضاف الدولة الصفح الحباء والدولة العفو جزيل العطاء فهو كما وصف البحتري: عزيز إذا عاززته في ملمة ... فان جئته في جانب الذل أصحبا وكفانا شاهد على ما ذكرناه ما عايناه في نوبة القيصري التركي أيلغازي بن أرتق أمير التركمان ومن أنضم إليهما من العرب لما اجتمعوا ببغداد ومنتهم الظنون الكاذبة والظنون والأطماع الخائبة مشاققته وعناده والإقدام عليه، فلم يلبثوا ببغداد الإلية ريثما أطلت عليهم جنوده المجنده وعساكره المنصورة المؤيدة بفرسان غطاريف كرام مساعير كما قال التهامي سواء عندهم قول المنادي ... هلم الدولة الطعان أو الطعام فلم يجدوا حيلة الإلية الهرب الدولة واسط على شرقي دجلة، فسار بازائهم على غربها فلم يبق لهم حيله الإلية طلب خاتم الأمان الذي منَّ به عليهم وسؤاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الإحسان الذي أسداه إلى. فأمر الأجل أمين الأيام ثقة الملك أبا طالب محمد بن عبد الله بت حبشي غفر الله له بأن يعطيهم خاتمه ففعل فكانت صفتهم في تلك الحال كما وصفت في أبيات قلتها في المعنى: ألقى إلى عفوه خاتماً ... مبشراً بالأمن من سطوته من خوف جعل الأرض في أعينهم ... عليهم أضيق من خلقته 00 - 000 ادراجهم راجعين وولوا على أعقابهم ناكصين. وقد ذكرت ذلك في أبيات من القصيدة التي ضمنتها سيرته فقلت: والقيصري ومن أغوا بدعوته ... من كل محتطب للذنب مكتسبِ ازاره ذات أركان ململمة ... رماه في مثل موج اللجة اللجبِ إذا بدت في سرابيل الحديد حكت ... عروس قومٍ هفوفها من أذى الحربِ تخال عارض مزن صوت راعدة ... جرس وبارقة لمع من القضبِ تبني سماء على هاماتها أبدا ... في كل معترك من هامد التربِ كالبحر رجراجةٍ كالليل مظلمة ... الإلية الاسنه منها فهي كالشهبِ نفاه عن أرض بغداد وفاجأه ... بواسط لم ينل خيراً لم يصبِ ماشح يومئذٍ في منزل وتد ... له ولا مدَّ للمغرور من طنبِ فسد في وجهه الآفاق منجحراً ... بين الخفاء لفرط الخوف والغضبِ فعاد بالعفو منه ثم أمنه ... فعاد أدراجه نكصاً على العقبِ وكذلك كانت حال كربغا التركي أمير الجزيرة والموصل والعواصم وأطراف الشام إذ هم بما لم ينل ورام ما لم يبلغ فجمع وأحتشد ودخل بغداد فرأى إمارات الهلكة، وإنه قد ألقى بيده الدولة التهلكة فكان قصاره النجاة بالنفس والعود الدولة موضعه. ومن قبله ما حدثت يوسف بن أرتق نفسه بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 كذبته فيه فجمع التركمان ووصل الدولة أكناف مدينة السلام، ثم أنكفأ راجعاً وفرق من عسكره ما كان جامعاً. وقد ذكرت حال هذين أيضاً في القصيدة فقلت: وكربغا إذ بغى ما عُزَّ مطلبه ... فعاد أسوأ مرجوعٍ ومنقلبِ ويوسف قبل ما لاقاه من طمع ... نجته قريه بلقيل والحربِ تبيَّتا حين ضلا إن غنمهما ... نفسيهما غير مغنوم ومنتهبِ فعردا والمنايا تستزيرهما ... عن حادر بدم الاقرن مغتصبِ148 فليتأمل متأمل ما بين هذين الملكين من التباين في علو الشأن، وكثرة الجنود والأعوان، وطول اليد وعز الجند، وقهر الاشداد وكبت الأعداء والحساد، ليعلم قد ما بين درجتيهما من التباين في سائر أحوالهما، والتفاوت في علو منزلتهما، وأحتجاج من أحتج لمن تقدم من الملوك فانهم كانوا يذبحون أول من يلقاه يوم بؤسه إرهابا للناس مما لا يقدح في قضيته العقول والإفهام ولا يقوم به عذر عند ذوي الحجى والأحلام، وأين ملك يخبط خبط عشواء ليتهيبوه ويعبث فيهم عبث العجماء ليتجنبوه من ملك كان أبن الرقيات وصفه بقوله: ملكه ملك رأفت ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء عليه من مهابة لولا ما يمازجها من كرمه ويخالطها من حسن شيمه لما ملأ نظره منه متأمل ولا نطق في مجلسه متكلم كما وصفته في قصيدة امتدحته بها فقلت: يوم الحفل حين يقول عنه ... وقد خفقت لهيبته القلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 كما زأر الهزير فلاذ منه ... ثعالب كل صولتها الضغيب فليسوا بادئي قول ولولا ... تهلله لهابوا إن يجيبوا اعني لو من المهابة في القلوب عن تكلف ما بعد من العيوب كما قال أبو تمام له جلال إذا تسربله ... اكسبه البأو غير مكتسبه وقال أيضاً: إذا أحسن الأقوام إن يتطاولوا ... بلا سبب أحسنت إن تتطولا ترفعت عن ذاك الترفع منهم ... وأوصاك نبل القدر إن تتنبلا وكم وصف البحتري بقوله الذي كأنه إياه خاطب به: دنوت تواضعاً وعلوت عزاً ... فشأناك ارتفاع وأتضاع كذاك الشمس تبعد إن تدانا ... ويدنو الضوء منها والشعاع وكما قال أيضاً: ولم أره يأبى التواضع واحداً ... من الناس الإلية من علو أتضاعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وكما قال التهامي: لما تزايد في العلو تواضعاً ... لله زاد الله في عليائه يتكبر عن التكبر وتعلو همته وشرفه عن الخيلاء والتجبر، يأمر عليه علو خطره، وينهاه جلالة قدره وتشرف عن الدنايا نفسه ويقضي عليه عدله كما قال أبو تمام رحمه الله: يا أيها الملك الهمام وعدله ... ملك عليه في القضاء همام تواضعه ثقة منه بشرفه الذي لا يدانى، ومجده الذي لا يسامى، فأني أفكرت في تواضع ذوي الشرف، وتكبر ذوي الضعة، فرأيت السبب في تواضع الشريف ثقته بشرفه، وإن سبب في تكبر الوضيع أسترابته بنفسه وعلمه بصغر قدره، فأحببت إن أنظم في هذا المعنى شيئاً فقلت: ثقة الشريف بما تجمع فيه ... من مجده عن ثأوه يغنيه فتراه في جلسائه متواضعا ... إذ كان شائع مجده يكفيه وترى الوضيع إذا تسنم رتبة ... أو نال من دنياه ما يطغيه مثل المريب منافسا في قدره ... متعلقاً من جهله بالتيه متمسكا بالكبر يحسب إنه ... زين له من شينه ينجيه باللؤم يعرف نفسه ويظن أن ... بتكبر عن نفسه ينفه فيزيده ضعةً ومقتاً كبره ... في الأجنبيين وأهله وذويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 كالعير في الشرك القنيص إذا غدا ... ينزو لكي ينجو تمكن فيه فمن مثل سيف الدولة الملك المهذب الذي لا تتداخل قوته عسف ولا يشوب تواضعه ضعف الذي يخاف الله في جميع أمره ويراقبه في علانيته وسره. فهو كما وصف زهير حيث يقول: مورث المجد لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم كلهندواني لا يخزيك مشهده ... يوم الجلاد إذا ما يضرب البهم 149 وفي صربته التقوى ويحجبه ... عن سيئ العبرات الله والرحم وكيف لا يكون أولى بالتسمية بملك العرب من النعمان، وقد فاقه في خلال الملك كلها، وجاز دونه مقاليد المجد سائرها وكيف يقاس قدر النعمان بقدره وهو الكريم الأعراف المهذب الأخلاق الذي إذا تأمل متأمل جميل أفعاله وحن خلاله ذكر قول النجاشي في الحارث: كل شيء يريده فهو فيه ... حسب ثاقب ودين قويم وخطيب إذا أمطرت آلا ... جوه يشقي به الألذ الخصم وحليم إذ أحبا حلها الجهل ... وطاشت من الرجال الحلوم وشكم الحروب قد علم آلنا ... س إذا فل في الحروب السقيم وصحيح الأديم من نفل العي ... ب إذا كاد لا يصح الأديم كل هذا بحمد ربك فيه ... وسوى ذاك فيه وهو فطيم وكيف يقاس ملوك كان أنالهم من العرب من الضيم ما تقدم ذكر اليسير منه، بملك تلجأ قبائل العرب بأسرها من الآفاق الدولة ظله وتنتجع كانتجاعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 مواقع الغيث من غامر فضله لا يأمن خائفهم الإلية بفنائه، ولا يستغني فقيرهم الإلية من عطائه، فساداتهم ورؤساؤهم ببابه وقوف، وأشرافهم حول صاحب جيشه عكوف، إذا رأوه ارموا إكراما وأطرقوا هيبةً وإعظاما تهدد القبيلة منهم ببعض أعوانه، وتنقاد لأحد فتيانه أمره في نفوسهم فما دونها نافذ وكل منهم به لائذ ليس لهم منتجع الإلية جوده والإلية ملاذ الإلية عموده كان أبى تمام وصف ربعه أمرعه الله بقوله بمعرس العرب الذي وجدت به ... أمن المخوف ونجدة المنجود حلت عرى أثقالها وهمومها ... أبناء إسماعيل فيه وهود وهل من كانت هذه بعض صفاته أولى بالتسمية بملك العرب أم من كان يدنيه إن يشن الأعلام على العرب ويغزوهم فيسبي حرمهم، ويقتل فرسانهم ويطرد إنعامهم ويبيعهم أسراهم ويغزونه أيضاً ويغيرون عليه فيفعلون به مثل ذلك، حذو النعل بالنعل، وهل ملك القوم من كان معاشه من عطائه ونائله وجوائزه ونوافله؟ وأين ملوك تركض عليهم رعاياهم في أرضهم وتغزوهم في عقر دارهم، من ملك لا يطمئن من حوله من ملوك الأرض في ديارهم لخيفته ولا يأمنون في أرضهم لهيبته فكل منهم يبذل جهده ويستفرغ وسعه في الدخول له تحت شرائط الطاعة والانقياد في إرسال التباعة حتى يعقد له بالأمان عقداً ويعطيه عهداً، يقطع من العراق أقطاره ويعقد على الملوك حول أمصاره ويستخدمهم في أكنافه، ويستعملهم على أطرافه. فصاحب البصرة لم يطمئن حتى وثق بحسن عفوه بعد إن علم إنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 مهرب له في البر، فاستعد بعدة الهرب في البحر، وصاحب البطيحة معدود في حشمه محسوب من جنده وخدمه لم يخرج منها الإلية ألي ولا رأه غيره من الملوك مائلا بين يديه، ومن ببغداد من الترك إن سخط عليهم ناءوا وإن صفح عنهم دنوا لم يدخلوها الدولة بالأنعام منه عليهم ولولا ولوها الإلية بإحسان أسداه إلى، ومن بواسط من الترك أيضاً فمن جملة خدمه يأمر فيهم حاجب من حجابه ويسوسهم صاحب من أصحابه إن رضي عنهم آواهم وأدناهم وإن نفم عليهم نفاهم وأقصاهم، ومن بازائه بجبل بادرايا من أمراء التركمان فلولا بذلهم له شرائط الخدمة ويمسكهم منه توكيد الاذمة لما أقاموا بمكانهم لهيبته والخيفة من سطوته. ومراكز العرب ومناظر نجد كالمتهبب وجنين وصكاكة ودومة وغيرها تعرض عليه معاقل الفرات وقلاعها كالرحبة وغيرها في كل وقت تلقي مقاليدها إلينا ويطلب لها صاحب من أصحابه ليقتطعها، ويخطب لها بمولى من مواليه ليقرعها ويهاجر الخائف من آفاق الأرض لا يجد في رقعتها مأمناً أباح في جنابه، ولا يتخذ موطناً ولا مسكناً أباح حول أطنابه، فوفود العرب والعجم والبر والبحر له عامدون وببابه مترافدون، فمن ركب تطيش بهم السراب أو سفن تشق الجناب، فبابه المعمور كما قال التهامي150 ترى الملوك على أبوابه عصباً ... وفداً فدع غيرهم من سائر الامم وجنابه باختلاف الأجناس كما قال المهلبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ترى قراقيره والعيس واقفةٌ ... والنون والضب والملاح والحادي يجتمع فيه الأضداد، ويلتقي فيه الشتيتان من غير ميعاد، ويرى كل جنس أجناساً غيره يستطرفها، ويسمع لغات لا يعرفها. يزدحم الوفد على بابه ... والمنهل العذب كثير الزحام فإذا هم في أمر في بر أو بحر: فما هو أباح إن يشير بلحظه ... فيمخر فلك أو تعد مقانيب فهل تدل السيرة عند من تصفحها وتأملها على إن ملوك آل نصر جاءوني بعض هذا. وقد مدح الأعشى النعمان مبالغاً للحد في القول على عادة الشعراء متجاوزا، فذكر إن له خيمة مضروبةً تقف بقنائها الأبرص والخيل فقال: له قبة مضروبةً بفنائها ... عناق المهارى والجياد الصوافن ومدحه في كلمة له أخرى بأنه يعلف فرسه قتاً وشعيرا في كل ليلةٍ فقال: ويأمر لليحموم في كل ليلة ... بقتٍ وتعليق فقد كاد يسنق وهاهنا فصول ثلاثة تتضمن ذكر أفعال ثلاثة من أفعالهم المدونة المسطورة المروية المأثورة، فليعأرضها من شك فيما ذكرناه بأمثالها من أفعاله المرئية المشهورة الحاضرة المذكورة، وليقس بعضها ببعض فأنها تدل آلنا فرق كثير وتباعد وتباين وتضادد إذ كان العلم بالجميع حاصلاً والخلف فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 زائلاً. أحدها: إن ضرار بن عمرو الضبي أبا مرحب ربيعة بن حضية بن أرتم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع كان مرة بباب المنذر بن ماء السماء، وكان أبو مرحب ينبز أثيمة فاقتمرا فجعل ضرار إذا قمره أبو مرحب يقول كذب أثيمة ويكرر ذلك فغاظه، فضرب أبو مرحب بالقداح وأمطرت ضرار، فضرب ضرار بالسيف فقطع زنده ونهض هارباً، فدخل على المنذر فاخبره بما كان منه وسأله إن يجيره فعجز عن ذلك، وقال: لا أجير على بني حضية. فقال: فأدع لي شماخاً أخا بني مالك بن مازن بن عمرو بن تميم ليجيرني، فدعاه فسأله إن يجيره فقال قد أجرته على الناس أجمعين، فقال له: شمخت باشماخ، قال: فلم سمتني أمي شماخاً! فقال ضرار: ما هذا بمجيري فادع لي جشيش بن نمران فدعا له جشيش بن نمران بن سيف بن حميري بن رياح أبن يربوع فسأله إن يجيره فقال: أجرته على إن يخلص من قومي بقصاص أو ديَّة. فحمل حشيش ثقل جيرة ضرار عن المنذر، وقال بها دونه حين ضعف عنها، وقد كان أكثر ما ينال المنذر في ذلك إن يحمل ديَّة جرح أبي مرحب أباح إنه كان أعلم بأمور نفسه. فهذا من جمله أحوالهم، وفي مقابله ذلك إن ذوي الاحن والترات من العرب يلقي بعضهم بعضاً بباب ملك العرب سيف الدولة وفي حلته فكأنهم تلاقوا في أيام الجاهلية بالحرم في الأشهر الحرم حين كانوا ينزعون أسنتهم ويضعون أسلحتهم، فيرى أحدهم قالتل أبيه وأخيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 لا يقدر إن يملأ منه نظرة آلنا إن ينأوا عن بابه ويبعدوا عن جنابه ثم له دار بمدينه السلام قد ضاقت عن سعتها وخرجت عن فسحتها بالمستجيرين بها اللاجئين ألي فهي معتصم الناس ببغداد لا يجد الخائف سواها معقلاً ومعاذاً، ولا الجاني غيرها موثلاً وملاذاً، ولو كان قد جنى أعظم الجنايات وفات بالكثير من الأموال والألسن بينه وبين الاستطعام بحلاوة الأمن أباح إن يصل آلنا الدرب الذي يسلك ألي فيه، وقد بلغ المأمن وقصرت عنه الأيدي والألسن من غير إن يكون بهم من مواليه وخدمه وأعوانه وحشمه ينابذ عن المستجير بقول أو فعل أو يدافع دونه. بل ما أنعم به عليه مولانا أمير المؤمنين المستظهر بالله عليه السلام من تمليكه هذه الدار أولاً وما شرفه به ثانياً من أوامره العالية ومراسمه السامية باحترامها إظهارا بذلك لمنزلته151 المنيفة ولطيف مكانه من الخدمة الشريفة، فعرف ما خصه به من الإنصاف والمنة، فعاد ذلك لها كالسنة تهب إعظاما وتتحامى إجلالا وإكراما. فحدثت عن بعض الأكابر ببغداد إنه قال: إن الله تعالى منّ على الناس ببغداد أو على أهل بغداد بدار سيف الخصم ولولاها لهلك خلق كثير ممن يقصده العمداء والشحن. ومن جملة ذلك إن ثقة الملك أبا الغنائم بن ناكرا صاحب الأمير نجم الدين أيلغازي بن أرتق حين خرج صاحبه آلنا الجبل خاف فلجأ ألي، فكان مستجيراً بها وهو ينظر ببغداد وينوب عن صاحبه وينفذ أمره. ثم إن السلطان المعظم غياث الدنيا والدين لما أوقع باياز التركي ونقم على جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 من أمراء الترك ببغداد في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة لجأ إليها قوم أمراء من كبراء أمراء الترك، فعفا عمن لجأ إليها واستجار بها احتراما له. وحدثني جماعة من أهل بغداد ممن يخبر الأمور بها أن المستجيرين بهذه الدار - عمرها الله - يخرجون فيجلسون في شارعها ويمر طالبوهم بازائهم مجتازون فيقاولونهم ويتهاترونهم ويغشون بهم ثقة منهم بعز الملجأ الذي لجئوا إليه والمعقل الذي اعتصموا به، وتحصنوا فيه وينصرف أولئك عنهم بأيد قصيرة وعيمن حسيرة، ففي الوصول إليها نجاة الجاني وفكاك العاني. حمتها مهابتُهُ في القلوب ... فصارت بذاك حريمُ الحريمِ إذا ما أتى بابها خائفٌ ... حلَّ منه محل النَّجومِ هذه صفت دار له هو بعيد منها ونأى عنها فأما ربعة الذي هو فيه ساكن وبه قاطن فهو عدة الوزراء وأصحاب المناصب والأكابر، وذوي المراتب مصور في أنفسهم إنهم متى نكبهم أمر أو نكبهم دهر كان ملجأهم ومفزعهم لا يأهلون لذلك غيره وتطمئن أنفسهم إلى سواه، فلو قصد قاص آلنا تعديد الأماثل وتسمية الأكابر الذين لجئوا إليه واستجاروا به لطلب معوزاً ورام معجزاً. فمن المستحق للتسمية بملك العرب من عجز أن يجير جانياً على رجل من اللأعراب قدر جنايته خدش أم تجير دار على الملوك والأمراء وأصحاب الأطراف الجناة المنسوب إليهم الجنايات العظيمة من القدح في الدول وما جرى مجرى ذلك، ومن المستحق أن يوصف بقول الشاعر: متى يجر خائفاً تأمن مسارحه ... وإن يخف آمناً تقلق به الدارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 والثاني فتكة البراض إن النعمان بن المنذر جهز لطيمة على عكاظ، وقيل كانت لكسرى منفذة آلنا اليمن، فطلب لها خفيراً يجيرها على العرب، فقال له البراض بن قيس بن رافع الكناني أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة ثم أحد بني جدي بن ضمرة بن بكر من رهط عمرو بن أمية الضمري الصحابي أحد العدائين - رحمه الله - وكان مقيماً عنده قد خلعه قومه لكثرة جناياته: أنا أجيزها على بني كنانة. فقال النعمان: أُريد من يجيزها على أهل نجد، فقال له عروة أرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب: أنا أجيزها. فقال له البراض أتجيزها على بني كنانة وأهل تهامة يا عروة؟. فقال: نعم، أجيزها على الناس كلهم، أفكلب خليع يجيزها؟ يعني بذلك البراض ثم سار بها عروة وسار البراض معه، وهو لا يعلم بما في نفسه حتى إذا كانا بأرض أوارة بالقرب من فدك ووادي تيمن وذي ظلال وثب البراض بعروة فقتله وأستاق العير آلنا أرض كنانة، فأكلها هو وقومه، وقال يفتخر بذلك: نقمت على المرء الكلابي فخرةً ... وكنت قديماً لا أقر فخارا علوت بحد السيف مفرق رأسه ... فاسمع أهل الواديين خوارا جششتُ به ضياع بطن أوارة ... فأثني علىَّ ما حييت أوارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وقال في ذلك أيضاً: وداهيةٌ يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي هتكت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضلوعِ152 جمعت له يدي بنصل سيف ... أفل فخر كأجذع الصريعِ وقال لبيد بن ربيعة بن جعفر بن كلاب يرثي عروة ويحث قومه على الطلب بدمه: ابلغ إن عرضت بني كلاب ... وكعبٍ والخطوب لها موالي وأبلغ إن عرضت بني نمير ... وأخوال القتيل بني هلالِ بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيماً عند تيمن ذي طلالِ وكان عامر بن يزيد بن الملوح بن يعمر الشداخ سيد بني كنانة مجاوراً في أخواله بني نمير بن عامر بن بنجد، فهمّت بنو كلاب بقتله فمنعه أخواله وسيروه إلى أرض قومه، فكانت أبله لا تزال تنزع إلى مراتعها بنجد فأتبعته فقال: تحنُّ بأعلى نخلتين كأنها ... ملاويحُ لما هيجت ذكرت ورداً فقلت لها إن أبن قيس بن رافع ... آبى سيفه أن تهبطي أبداً نجدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 حرامٌ عليك بين غرٍّ ووجرةٍ ... إلى حائل لو أن هلكت به وجدا وضرب المثل بفتكة البراض فقال أبو تمام: والفتى من تعرقته الليالي ... والفيافي كالحية النضناضِ صلتان أعداؤه حيث حلوا ... في حديثٍ من عزنه مستفاضِ كل يومٍ له بصرف الليالي ... فتكة مثل فتكة البراضِ وجر ذلك الفجار الأكبر بين كنانة وهوازن وتفاقم الأمر بينهم وصليت الحرب قريش وقبائل كنانة كلها، وقتل في تلك الحرب رجال من أشراف قريش، وسألت قريش وقبائل كنانة أبا طالب بن عبد المطلب أن يخرج رسول الله (معهم تيمناً به (وإستنصاراً على العدو وهو يومئذ غلام. فروي أن أبا طالب إذا خرج به معهم كانت الكرة لكنانة على هوازن، وإذا تأخر عنهم كانت لهوازن على كنانة، فقالوا لأبي طالب: لا يغب عنا لا بلك. وإنما سمي فجار اللطيمة الفجار الأكبر لأن الحرب تكررت فيه بين كنانة وهوازن مراراً وترددت الوقائع بينهم سنيناً وتفاقم الأمر بينهم حتى استنجدت هوازن بقبائل قيس، فاستنجدت كنانة بقبائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 خندف، ولم يطفئ نار الحرب بينهم إلا الإسلام، ولم يكن بينهم في فجار الرجل وفجار الفرد وفجار المرأة إلا وقعة وقعة، فلأجل ذلك سمي فجار اللطيمة، الفجار الأكبر. وكان سببه حاجة النعمان آلنا من يخفر لطيمة من العرب فكان ذلك نتيجة خفارة عروة لها. وفي مقابلة ذلك إن الحاج اجتمعوا بمدينة السلام في سنة خمس وتسعين وأربعمائة وقد تعذر عليهم المسير إلى مكة - حرسها الله تعالى - لعوارض اتفقت فأمر مولانا أمير المؤمنين المستظهر بالله - غفر الله له - سيف الدولة بتسييرهم وبرز التوقيع الأسمى باليد العالية يأمره بذلك وعول فيه عليه، والسقيم مقاليد أمورهم إليه، فندب الأمير المرهف أبا المقلد حميد بن المقلد الأسدي العمري، وأمره بإجارتهم على العرب أجمعين، فسار بهم حتى أوردهم مكة حرسها الله تعالى. وصدر بهم حتى أناخوا بالكوفة، لم يرزأ أحد منهم بنقير، ولا لزم له خطام بعير، ولعله قد كان قطار من قطر بعض الأماثل من الحاج بعدة العير التي كانت تحمل لطيمة النعمان. والثالث امرئ القيس والمعلىّ والسموأل أن امرأ القيس بن حجر الكندي خاف المنذر بن ماء السماء ذا القرنيين ملك العراق، والحارث بن أبي شمر ملك الشام فاستجار منهما بالمعلىّ التغلبي أحد بني تيم بن غسان بن سعد بن زهير بن جشم الأرقم، وقومه نافلة فيه في جديلة طيء فطلبه الملكان معاً فمنعه المعلىّ فأرسل المنذر جيشه إليه يطلبوه فردهم غير ظافرين، ثم أرسل الحارث بن أبي شمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 أيضاً جيشه فردهم على مثل ذلك، فلم يكن لهما معاً قدرة على الوصول إليه في جوار المعلىّ وفيه يقول أمرؤ القيس: كأني إذ نزلت على المعلىّ ... نزلت على البواذخ من شمام153 فما ملك العراق على المعلىّ ... بمقتدرٍ ولا ملك الشام أسد نشاص ذي القرنيين عنيِّ ... وعدي عارض الملك الهمام اقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيمٍ مصابح الظلام ثم خرج أمرؤ القيس آلنا قيصر مستنجداً به على بني أسد ليطلبهم بدم أبيه فأودع السموءل بن عادياء اليهودي دروعاً كانت له فيل إنها كانت مائة درع، وكان السموءل بتيماء في قصره المعروف بالأبق، وخرج أمرؤ القيس فهلك في وجهه ذلك فطلب الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام الدروع من السموءل فأبى أن يسلمها إليه، ونزل بجيشه على قصره وسامه تسليمها، فأمتنع من ذلك فظفر بابن له وهو راجع من الصيد، فأخذه وخيره بين تسليم الدروع إليه أو قتل أبنه وأقسم إن لم يعطه الدروع ليذبحنه، فقال: إن لي فيه شريكاً أشاوره، ثم شاور أم الصبي فقالت له تجنب العار وأحفظ حرمة الجار فإنما هو حيضة أحيضها وقد جئتك بمثله. فصاح به لست بمعطيك الدروع فأصنع بأسيرك ما شئت فذبحه والسموءل ينظر إليه من أعلى القصر، وأنصرف عاجزاً عن افتتاح القصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وقد روي أن الحارث الذي جرى له هذا الحديث مع السموءل ليس بابن أبي شمر الغساني ملك الشام وإنه رجل من آل نصر بعثه المنذر بن ماء السماء أو أبنه عمرو بن هند لحصار السموءل ومطالبته بالدروع، فجرى ذلك معه. وقيل بل هو الحارث بن ظالم المريّ بعثه عمرو بن هند الملك من الحيرة فتولى حصار السموءل وقتل أبنه وأوهم الرواة في ذلك لتواتطؤ الأسماء، وهي رواية ضعيفة ولا فرق بين ذلك كله في غرضنا المقصود، وهو امتناع حصن السموءل على الكل وفي ذلك يقول السموءل. وفيتُ بأدرع الكندي إنيّ ... إذا عاهدت أقواماً وفيتُ بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وماء كلما شئت أستقيتُ رفيعاً تزلق العقبان عنه ... إذا ما نابني أمرٌ أبتُ فإن الماء ماءُ أبي وجديّ ... وبيري ذو حفرت وذو طويتُ وأوصى عادياً قدماً بأن لا ... تهدم يا سموءل ما بنيتُ وضرب المثل بوفاء السموءل. وفيه يقول الأعشى وقد أسره من بعد ذلك عمرو بن ثعلبة بن حصن بن الحارث بن ضمضم بن عدي بن جناب بن هبل الكلبي، وقد كان يطلبه من قبل فأسره وهو لا يعرفه فجعله مع أسرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ودافعه في يده ثم مر بهم في طريقه على شريح بن عمران بن السموءل، وهو في قصر جده الأبلق بتيماء، فدس الأعشى إلى شريح بن عمران بن السموءل أن أستوهبني من ضيفك قبل أن يعرفني. فقال شريح لعمرو بن ثعلبة هب لي رجلاً من أسراك، قال له: خذ أيهم شئت قال هذا الأعمى. قال: وما تصنع به؟ خذ رجلاً فديته مائة بعير أو مائتان. فقال: لا آخذ أباح هذا فقد رحمته. فقال هو لك فأطلقه من القدّ وأدخله قصره فهمهم بهجاء عمرو بن ثعلبة فبلغ ذلك عمراً فقال لشريح: أردد عليّ هبتي فقال لا سبيل إلى ذلك خذ من مالي ما شئت عوضه، قال: فإنه يهجوني، قال: لا يهجوك أبداً. ثم نهى شريح الأعشى عن هجائه فقال لا أهجوه ما حييت، ثم خاف شريحاً أن يرده إلى عمرو فقال: شريحُ لا تسلمني بعدما علقت ... حبالك اليوم بعد القدِّ أظافري كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفلٍ كسواد الليل جرارِ بالابلق الفرد من تيماء منزله ... حصنٌ حصينٌ وجارٌ غيرُ ختارِ خيّره في خطتي خسفٍ فقال له ... أعرضها جهرة أسمعهما جارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظٌ لمختارِ فشك غير بعيدٍ ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري فسوف يعقبنيه إن فتكت به ... رب غفور وبيضٌ ذات أخدارِ فإن له خالفا إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير غدارِ فقال مقتدراً إذ قام بذبحه ... أشرف سمؤل فأنظر في الدم الجاري وذكر أبن قتيبة إن شريحاً هذا، هو شريح بن عمرو الكلبي وليس بابن السمؤل، وإنما ضربه الأعشى مثلاً له، وفي قصة السمؤل يقول الكميت154بن زيد الأسدي: ولا السمؤل إذا قال الهمام له ... أياًّ تخير من ثكلٍ وإخفارِ فأختار مكرمة الدنيا بواحدةٍ ... فعل المبايعِ نعمت صفقة الشاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقال محمد بن مناذر اليربوعي ثم الصبيري في ذلك: فاعتبر يا بن عاديا أخي الحص ... ن بتيماء من سراة يهود إذ أتاه الهمام يبتاع منه ... خفرة الجار بابنه المولود فشرى بالوفاء مكرمة الدهر ... ولم يشر باللقاء الزهيد أي عقدٍ شد السمؤل لو ... أمتع حياً وفاؤه بالخلودِ وقد أكثر الشعراء في وصف ذلك. فهذا المنذر بن ماء السماء ذو القرنيين ملك العراق بعث جيشه الذي شبهه أمرؤ القيس لكثرته بالنشاص، والحارث بن أبي شمر بعث جيشه الذي شبهه أمرؤ القيس أيضاً بالعارض آلنا المعلىّ - وهو رجل من الأشراف - فلم يقدروا على افتتاح حصنه ولا الوصول آلنا جاره، وهذا الملك الغساني أو اللخمي - وثابتة على اختلاف الرواية في ذلك - نزل بجيشه العظيم وجحفله الجرار على قصر السموءل اليهودي فلم يقدر على فتحه حتى شفى غيظه بذبح صبي أقتنصه من الصيد وأنصرف غير ظافر بمراده، وحد حصن المُعلىّ وقصر السموءل وما يجري مجراها من معاقل العرب في قرب مرامها وقله امتناعها معروف. وفي مقابلة ذلك أن ملك العرب سيف الدولة جهز سرية قليل عددها في جنده غير مؤثرة في عساكره في سنة سبع وتسعين وأربعمائة إلى عانة - وهي مشحنة بالترك - مع ملك أبن أرتق، ومن المعلوم أن الترك إذا كان منهم نفر في معقل لم يقدر من يروم فتحه على الدنو منه، ولا الإطاف به والفرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 مع ذلك محيط بها، ومناره محيط بها وحائل دونها، ومن المعلوم أن الخندق المدير يمنع من الوصول إلى المعقل، فكيف الفرات الجاري؟! فقطعت خيله ألي اللجة وافتتحها عنوة على الفور لم تمنع عليهم ساعة من النهار، وهلك بعض من كان فيها قتلاً وبعض غرقاً. وقد ذكرت ذلك في القصيدة فقلت: ويومَ عانةَ لما أن غدا بُلك ... في أمره لبك من شدّةِ الرَّبِ إذ كان أصحابُه الأشقَون يومئذٍ ... لنار فَيلِقه المنصور كالحَطَبِ شابوا الفراتَ بقانٍ من دمائهم ... حتى بدا فيه لون من دم سربِ فليتأمل السامع المنصف ما أوردناه ولينظر فيما شرحناه وليعارض بعض هذه الأمور ببعض، وليقس ببعضها بعضا ليعرف فضله على من تقدم من الملوك في عزه وسلطانه وكثرة جنده وأعوانه، وطول يده العالية إلى تناول كلمراد وبلوغ كل مرام فلو لم يستدل تفضيله عليهم إلا بما ذكرناه آنفاً من هذه الأقسام لكان في ذلك مقنع وقد نظم في هذه المعاني شيئاً: أين الذي لم يحتمل عن جاره ... ما جره يوماً000المسيرُ حتى تحمله جشيش دونه ... كرما وقصر0000المنذرُ ممن يجير دياره ورباعه ... ما كان00000وما لا يحصرُ أم أين من سأل الأجرة عروة ... للطيمة كانت تحاط وتحفرُ فأباحها البراض نهباً قومه ... بكراً000الفجر الأكبرُ وأذاق عروةَ حتفه بمهندٍ ... من حدَّه ماءُ المنية يقطرُ فتوقفت في ذاك بين كنانة ... وهوازن نيران حربٍ تسعرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ممن أجاز الوفد نافد أمره ... حتى تضمنه منى والمشعر وكلاهم منه بعز قاهر ... حتى أناخوا حيث كانوا ثوروا من بعد إن سدت عليهم سبلهم ... لو لم يجرد سيفه المستظهر أم أين من منع السمؤل جاره ... منه غداة به أطاف العسكر ممن رعيل كتيبة من جيشه ... لا زال ذا ظفر يعز وينصر قطع الفرات وموجه متلاطم ... متراكم من حول عانة يزخر حتى رأى غنيمته النجا ... منهم وعاين ما يهول ويبهر155 ما نالت الشهباء نيلهم ولا ... كانت كذلك في المشاهد دوسر ثم هاهنا فضل آخر: يقاس بفعل من هو عظم منهم ملكاً وأعلى درجة وقدرا، ونحن ذاكروه ليتامله المتأمل المنصف. خبر حصار تبع يثرب اخبرنا جماعة عن محمد بن الحسن بن علي عن أحمد بن عبدون عن أبي الفرج الاصفهاني يرفعه عن هشام بن محمد بن شرقي بن القطامي عن رجل من قريش، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه في حديث طويل ذكره أخذنا موضع الحاجة منه: إن تبع الأخير وهو أبو كرب بن حسان بن تابع بن سعد الحميري أقبل يريد المشرق فمر بالمدينة فخلف عليها أبنا له، ومضى حتى قدم الشام، ثم قدم منه العراق، ثم نزل المشقر، فبلغه إن أبنه قتل بالمدينة غيلة فكر راجعا وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 يا ذا المعاهد ما تزال ترود ... رمد بعينك عادها أم عود منع الرقاد فما أغمض ساعة ... نبط بيثرب آمون قعود لا تسقني بيديك إن لم تلقها ... حوراً كأن أشاءها مجرود ثم أقبل حتى أتى المدينة مجمعا على إخرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية فنزل بسفح أحد. وأرسل آلنا أشراف أهل المدينة فأتاه منهم الازياد وهم: زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وأبنا عميه زيد بن أمية بن زيد بن عبيد بن زيد، وأحيحة بن جلاح ومعه قنية له أسمها مليكة وخباء وخمر فاجلسهم تبع على زريبة كانت تحته وحادثهم، فخافه أحيحة فانصرف آلنا خبائه فشرب ورقص أبياتا، وأمر القينة فغنته بها بقية نهاره وأكثر ليله. وقد جعل تبع عليه حرسا فناموا فذهب آلنا أهله وقال للقينة سدي عليك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي هو نائم، فإذا أبى أباح إن يوقظني، فقولي إنه ذهب آلنا أهله وقد حملني رسالة آلنا الملك، فإذا ذهبوا بك إلينا فقولي له يقول لك أحيحة أغدر بقينة أو دع. وأنطق أحيحة فتحصن في أطم له يقال له الضحيان وغدر تبع بالازياد فقتلهم وأرسل يدعو أحيحة ليقتله فقالت القينة: إنه راقد. فترددت الرسل مراراً، وهي تقول لهم ذلك، فلما هموا بالدخول، قالت: إنه ذهب آلنا أهله وحملني رسالة آلنا الملك، فذهبوا بها آلنا تبع، فقالت له ما قال. فجرد جنده وحصره في أطمه ثلاثا يرميهم أحيحة بالحجارة نهاره والنبل، فإذا أمسى السقيم إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 التمر فرجعوا آلنا تبع فأخبروه فأمر بتحريق نخله، وتحصن أهل المدينة أوسها وخزرجها ويهودها في الاطام وخرج رجل من أصحاب تبع فدخل حديقة لبني عدي بن النجار فرقى نخلة ليجد منها عذقاً، فخرج إلينا رجل منهم يقال له صخر فضربه بمنجل معه حتى قتله. وقال انقضى النخل لمن أبره، فزاد تبع حنقا وجرد جيوشه آلنا بني النجار، فتحصنوا في أطمهم ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار فحاربهم في أطمهم فكانوا يرمونهم بالنبل فيصيب جدار الاطم حتى صار على جداره كالشعر فسمي ذلك الاطم الاشعر. وأخذوا فرسا أتبع فجدعوه ثم لم يقدر عليهم، وطال مقامه فمرض، وقيل إنه أحتفر بئرا يشرب منها ثم أحتواها فجاءته امتدحته فعللته ومرضته، وجاءه حبران من اليهود فقالوا له: أيها الملك، أنصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة وهي مهاجر نبي من بني إسماعيل أسمه أحمد تكون داره وقراره. فانصرف وهو يقول لقد صنع بي أهل يثرب شيئاً ما صنعه أحد، قتلوا أبني وصاحبي، وجدعوا فرسي. وقال رجل من بني النجار في ذلك شعراً من قوله: فيلق فيه أبو كرب ... تبع أبدانها ذفره ثم قالوا من نام بها ... ابنو عوف أم النجره يا بني النجار إن لنا ... فيكم ذخلا وإن تره فتفلتهم مسايفة ... مداها كالغيبة النثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 فيهم عمرو بن طلة لا ... هم فامنح قومه عمره156 سيد سامي الملوك ومن ... يدع عمراً لا يجد قدره وقال رجل من اليهود في ذلك: تكلفني من تكاليفها ... نخيل الاساويف والمصنعه نخيل حمتها بنو مالكٍ ... جنود أبي كرب المفظعه من مناقب سيف الدولة وفي مقابلة ذلك إن إسماعيل التركي صاحب البصرة، وكان ينسب آلنا دين الخرمية لما غرة جهله وتعدى طوره ساقته المقادير وقادة سوء التدبير آلنا جحود أيادي ملك العرب سيف الدولة عنده، من إحسانه إلينا وقراره ولاية البصرة علبه، وقد كان قادرا على منعه منها ودفعه عنها وأعسار أموره عند السلطان غياث الدنيا والدين، أعزه الله ونصره وحفظ جانبه وقرر قواعده فهاجه ذلك على نفسه لمخالفته أمره وتركه طاعته ثقة منه بقلاع أتخذها في البصرة وما حولها وشحنها بالجند وجعل حولها الخنادق التي تحمل السفن فكانت قلاعه وقلاعاته، ومعاقله وعقلاته، فظن إنه قد حصن ثغوره وأحكم أموره، وقدر على الدفاع وتمكن من الامتناع، فسار إلينا ملك العرب سيف الدولة في عسكر من عساكره بالعز مرفوقا وبالنصر محفوفا، فوجده قد أعد وأستعد وبنى سور البصرة وضم أطرافه وجمع أعوانه واستعان بكل من أمكنه الاستعانة به، وأحتشد به، وأحتشد بالترك والديلم وغيرهم، وأستغوى أهل البصرة، ولعل شرذمة منهم مثل أهل يثرب في زمانهم ذلك. وعزم على الحرب ما استطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 في ظاهر مدينته، ثم الاعتصام إن عجز عن الحرب في قلعته، وجعل لها بابا آلنا المدينة لمسيرته، وبابا آلنا البحر لهزيمته، وأعد السفن البصرية وأتخذ المراكب البحرية وأعد للحرب عدته، وأخذ للفرار أهبته فلم يكن بأسرع من إن وجهه الميمون النقيبة المنصور الكتيبة، فسطا به وبمن معه سطوة وأفتتح المدينة بعون الله عنوة، وثلم سورها وهدمه، وفض الجمع وهزمه، وكل ذلك في بعض نهار. وكانت غنيمة إسماعيل حشاشة نفسه فنجا بها آلنا قلعته التي كان لها وأمقا وبها واقفا يظن إنها تأويه، وإن تلك الطرقات التي أستظهر بها تنجيه فصف لها ملك العرب صفوفه، وعبأ للزحف ألي زحوفه فترجفتمن وئيد الجيوش ومادت وزلزلت أو كادت وسدت على إسماعيل مسالكه، وضاقت به مذاهبه، وعلم إنه لا طاقه له على الامتناع ولا قدرة له على الدفاع، وإن يده العالية لا تقصر عنه وإنه لا يجد سبيلاً آلنا النجاة منه، فكان كاليربوع ما أجنه الدأماء ولا الرهطاء، ولا نجاة القصعاء ولا النافقاء، فلم يجد حيلة أباح إن بعث حرمه عائذات بحلم ملك العرب وكرمه ووفاء عهده وذممه، فأعطاه آلام فسلم نفسه إلينا والقاها بين يديه، فوجد مشرب الحلم عنده صفوا وأبى أباح صفحاً عنه وعفوا، فكأن قلعته التي أعتصم بها كانت ذات بصيرة وعلم وعقل وفهم، فعلمت إنها عن كثب مهدومة وبالذل بعد العز موسومة فآثرت بالسلامة نفسها لا أهلها، وكانت كالحامل التي القت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الجوف حملها، فإن أنصفها بابنها فهي عنده في أول الحال مكسورة وفي ثانيها معذورة حين أحاطت به جنود كالغمام وخففت حولها بنود كأنها طير سوام. تحتها خندق وخيل تسامى ... حول هرمٍ ما إن له من مسامِ في خميس إذا سما لك من تحت ... سماء مبنية من قتامي مثل ورق الجمال فوق ذراها ... ازيانت للعيون بيض نعام قلت ليل معمم بنهارٍ ... أنا نهار مؤزر بظلام راعها هيبة فالقت إلينا ... حملها خيفة لغير تمام لو أجنت جنينها بقرت ... عنه حشاها وأذنت بانهدام فصلته وقت الولاد باقرب ولاد ... معجل من فطام فمضى يحسب الإمارة بالنص ... رة مما رآه في الأحسن 157 وأنثنى الملك قاهراً للأعادي ... ظاهر ظافراًَ بكل مرام جذلا مجع المساعي على الرغم المعادي له مصيب المرامي انصوا هل ترون تبع قدماً ... نال هذا وكان عين الهمام لجأت عند خوفة الاوس والخ ... زرج في يثرب آلنا الاطام قعد أبن الجلاح في الاطم الضح ... يان من تبع بعيد المرام وغدا الاشعر الارن من أباح ... طام منه بعدا مكان الغمام وانقضى كانت صفة إسماعيل مع ملك العرب في ذلك كما قال أبو تمام: إذا مارق بالغدر جاز أمره ... فذاك مري إن تئيم حلائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فان باشر الاصحار بالذنب فالقنا ... قراه والخواص المنايا منهله وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... اولاه عقلاته لا معاقله وقد ذكرت في القصيدة التي ذكرها أمره في أبيات منها فقلت: والخزمي وقد وافت كتائبه ... أرض الخريبة منه أنصاع كالحرب اذكرتنا وقعة الافشين حين سطا ... ببابك قبله في نده كالجرب ولى هزيماً ولم يعطف هناك على ... أسرى تصفد في قد وفي عقب لجا فلم تنجه إذ ذاك قلعته ... فصار محتسبا في حال محتجب باتت حلائله والليل معتكر ... يعثون بين سجوف الخيم والطنب يلذن بالعفو من ذي رأفة شدك بالحلم إن طاش حلم من أخى غضب وما يشابه هذا من مساعيه ما كان من فتح هيت بأيسر سعي وأهون تكلف، وما تلا ذلك من فتحه تكريت وهي البكر التي لم تخطب والدرة التي لم تثقب. إذ سار ألي فلم يكن بينه وبين افتتاحها أباح إطلالة عليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فكيف يقاس من تقدم ذكره من أولئك الملوك. بموفق ما شاب صائب رأيه ... عجز ولا وهن ولا تحيت شمل الموالي في ذراه جامع ... أبدا وشمل ذوي الشنان شتيت بيمينه أقليد كل منيعة ... حقا وحاسد عزه مكبوت لا البصرة أعتصمت غداة أرادتها ... منه ولا أمتنعت عليه هيت وقد ذكرت في فتح هيت وتكريت في القصيدة المقدم ذكرها فقلت: ويوم هيت وقد حنت إلينا فلم ... تسكن آلنا غيره نفساً ولم تطب غداة أزجى ألي من عساكره ... جيشا يؤم به جيش من الرعب فأصبحت بين يديه وهي مائسة ... كالخود تختال في أثوابها القشب وأصبحت بعدها تكريت حاسرة ... عن حر وجه أسيل غير منتقب عبري ينافسها في عدله حسداً ... تأتى ومن شوقها كالمندف الوصب شوساء لو تفترع قهراً ولا نكحت ... سبياً ولا لمستها كف مغتصب بروحها مثل ثغر زانه رتل ... موشى شرفاً من غير ما شنب سما لها منه بالقب الضوامر والب ... يض البواتر والخطية السلب كسوت أمثالها ما نالها أمل ... وهوتها وهي كالعنقاء في الهنب فخلت أقليدها قد كان في يده ... بسرعة الظفر الميمون بالارب ولو أردنا أستقصاء ذكر مساعيه وحصر مجده ومعاليه لكان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 مما يعجز اللسان عن ذكره والبنان عن سطره، وانقضى ذكرنا بعض مساعيه الشريفة ليعارضها من نظر في كتابنا هذا بأمثالها من مساعيهم ويستدل بها على علو درجته عنهم والله سبحانه الموفق للصواب. فضله عليهم في سعة الملك والثروة وفضله عليهم في سعة الملك والثروة ظاهر كظهور فضله عليهم فيما تقدم من الخلال المذكوره لايهم، وإن كانت العرب سمتهم ملوك العراق على مذهبهم في التعظيم وعادتهم في التفخيم لم يكونوا ملاكاً له ولا لكثير نصيب منه، وانقضى كانت الاكاسرة تقطعهم مواضع منه مسماة تجعلها طعمة لهم، ومعونة على عملهم، وكانوا يجتبون خراجها فيأكلونه، ويطعمون منه من أشاءوا من أهلهم وأعوانهم ومن كانوا يصانعونه ويستميلونه من العرب. وربما158 أقطعوهم أيضاً قرى من جملة أقطاعهم، ولم تكن الاكاسرة تقطعهم أباح ما كان في أطراف البلاد لقربه منهم وكونه فيما يليهم، وأمنحهم أيضاً على غيره مما هو أدنى إليها منه. ولم يكن يمكنهم تعدي أقطاعهم آلنا شبر من الأرض غيره، فإن البلاد حينئذ كانت للملاك والدهاقين يشجون على موضع الحجر منها، ويتنافسون فيه، وكان أقطاعهم قليلاً نزرا بالاضافة آلنا ما كانت عليه أحوال البلاد من العمارة، وفي جنب ما كانت عليه من الاستقامة. وكان قدر أقطاع النعمان من كسرى مائة الف درهم. وذكر في بعض كتب الحيرة إن الذي كان كسرى أقطع النعمان من البلاد رستاق السيلحين، وقطائع بني طلحة، وسام طباق كذا رأيت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 نسخة. وأما الأمور فسمعت إنها طباق السالم وإنها الأمور معروفة - وذلك بأرض النجف في غرب فرات تستر - فكان خراج ذلك يحبى للنعمان في كل سنة مائة الف درهم هذا على ما ذكر من عظيم أرتفاعه لاهله وكثره مستغله لملاكه. وذكر إنه لا يعرف في الأرض برية أكثر ريعا ولا أخف خراجا ولا أقل مؤونة منها، وإنها كانت تغال لأهلها في كل سنة ثلاثين الف كر حنطه بالمعدل سوى غيرها من الغلات والثمرات وسائر الاشياء، وقد ذكر الأعشى في شعره السيلحين وإنه كان يجبى الى النعمان فقال: ولا الملك النعمان حين لقيته ... بغبطته يعطى القطوط ويأفق ويجبى اليه السيلحون وغيره ... صريفون في أعمالها والخورنق وحدثني بعض أهل المعرفة إن رستاق السيلحين هو النهران المعروفان بنهر برسف، ونهر الصنين، خاصة دون غيرها من أراضي غربي فرات تستر. وكان ممن أقطعه النعمان من جملة أقطاعه هذا سواد أبن عدي، أقطعه هذا السوادية فغلب أسمه عليها وعرفت به ونسبت اليه. وأقطع رجلا آخر من أصحابه يقال له عبد هند بن نجم من بني زهر بن أياد الخص وقيل الخصوص وهي قريبة من الفورة قرية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 بطن النجف معروفة الى اليوم. وكان عبد هند خليلا لعدي بن زيد فلما حبس النعمان عديا كتب الى عبد هند من الحبس يذكره ما كان فيه من رخاء العيش وطيبه معه: ابلغ خليلي عبد هند فلا ... زلت قريباً من سواد الخصوص موازي الفورة أو دونها ... غير بعيد من عمير اللصوص والعمير معروف بالنجف الى اليوم أيضاً. ومن ولد عبد هند هذا أحمد بن أبي دؤاد القاضي صاحب المعتصم رضي الله عنه ونسب اليه موجود. وذكر إن أبرويز لما ولى أياس بن قبيصة الطائي الملك بالحيرة أطعمة عين التمر وثمانين قرية من أطراف السواد منها الاقساس فلما هلك أياس رثاه زيد الخيل فقال في مرثيته: فان بك رب العين خلى مكانه ... فكل نعيم لا محالة زائل وكان أياس أقطع الاقساس رجلا من قومه أسمه مالك بن قيس، فعرفت بأقساس مالك الى اليوم. فهذا كان قدر نصيب القوم من العراق وأنما كان جل معاشرهم وأكثر أموالهم ما كانوا يصيبونه من الارباح في التجارات ويغنمونه من المغازي والاغارات على العرب وأطراف الشام وكل أرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 يمكنهم غزوها ويجتبون الأتاوة ممن دان لهم وظفروا بطاعته من العرب، فيجتمع لهم من ذلك الكثير من الأنعام فلذلك قيل في هجائهم: جمعوا من نوافل الناس سيباً ... وحميراً موسومةٌ وخيولا فكيف يقاس قوم كان لهم من العراق قرى معدودة عن الحماية والخفرة بمن ملّكه الله العراق بأسره ملكاً وأمره، فهو يقطع أجناده أمصاره بمنابرها، ومدنه بسوادها، ورساتقه بأنهارها، كما قال أبو الطيب المتنبي: فتىَّ يهب الإقليم ذا النخل والقرى بمن فيه من فرسانه وكرائمه وكف يقاس ملك محه الأعشى مبالغاً بأنه يعلف فرسه قتاً59 وشغيراً بسيف الدولة في سعة ملكه. وحدثني سهيل أحد مواليه إنه سمع سعيد بن حميد صاحب جيشه يقول: أطلقت من مال صاحبي في يوم واحد الف كرَّ ما علم ولا أستأذنته في شيء منها. وسمعت عن كمال الملك أبي البدر سعيد بن الحسين إنه كمل ما يخرج من أمواله إلى الوفادو الشعراء والندماء، وفي الرسوم الراتبة والصلات العارضة والمطابخ والمضايف فكان في كل سنة ستين الف دينار. ومن جملة مكارمه أن تاج الدولة تتش لما أوقع ببني عقيل بالجزيرة في بعض سني بضع وثمانين، وقتل أبراهيم بن قريش ومقبل بن بدران وجماعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 أمراء آل المسيب، وأجلى عقيلا وكلابا ونميرا وغيرها من قبائل عامر بن صعصعة عن ديارهم بالجزيرة والشامين وغيرهما لم يبق أحد منهم إلا التجع لدى سيف الدولة، فنزلوا بلاده باهلهم وأصائلهم وفيهم العدة الكثيرة من أمراء آل المسيب، وغيرهم من أمراء عبادة وأمراء كلاب، كالشبل بن جامع وأبنه المبارك بن الشبل وجماعتهما. ومحمد بن زائدة وغيره من آل زائدة وأمراء بني نمير فأنعم عليهم بالصلات والخلع والجوائز على أقدارهم ومراتبهم. وتلك الأحياء كلها صغيرهم وكبيرهم حتى لم يعلم إن أحداً منهم أبتاع حمل راحلة من غلة العراق. فسمعت القاضي الأرشد أبا الحسين أحمد أبن محمد الثقفي رحمه الله يتحدث بأنه حضر مجلس في ذلك العام فجرى ذكر أسعار الغلات، قال فقلت له: ما تركت لأحد حاجة إلى شري غلة فيعلم السعر فضحك. وروى الطبري أن جذيمة الأبرش الملك خرج في يوم من أيام الربيع إلى نزهة وصيد ومعه أبن أخته عمرو بن عدي الذي ملك بعده وهو يوئذ صبي يلهو ويلعب، فذهب مع الصبيان يجتنون الكمأة فكانوا يأكلون خير ما يجتنونه، ثم أتاه به فألقاه بين يديه، وقال: هذا جناي وخيارة فيه ... إذ كل جانٍ يده إلى فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 فذهب قوله هذا مثلاً. وأعجب به جذيمة وزاد حبه له فصاغ له طوقاً من فضة فكان أول عربي لبس طوقاً، ولذلك فيل له: عمرو ذم الطوق. فلما أستطارته الجن وظف به القضاعيان نديما جذيمة المقدم ذكرهما في هذا الكتاب وأتياه به، أنكره لسوء حاله. فقال له: أيها الملك إن في دون ما أصابه من الضر ما يغير حاله، فقال: لقد ذهب يوم ذهب وعليه طوق فما تزال صورته عن عيني. ثم بعث به إلى أمه فتأملته فعلافته فاصلحت من حاله والبسته طوقاً مثل طوقه الاول، فردته إليه فرآه في الصورة الأولى التي فارقه عليها وعرف شمائله، وقد كان كبر وبلغ فقال شب عمرو عن الطوق، فذهبت مثلاً. فكيف يقاس ملك لما زاد حبه لولده وأجب به صاغ له طوقاً من فضة بملك له من الجند والموالي من لا يرضى بأن تكون حلية مراكبه من فضة حتى يتخذها ذهباً، وربما كللها جواهراً وفي الصبيان من مواليه من يتخذ لكلبه قلائد الفضة وحلل الديباج. وروى أبو الفرج الاصبهاني عن المفضل الضبي في حديث طويل: أن عدي بن زيد العبادي لما قدم الحيرة لأشخاص ولد المنذر إلى باب كسرى ليولي أحدهم مكان أبنه كان هواه مع النعمان وميله اليه من بينهم، فوجده لا مال عنده ولا أثاث. فقال له: كيف أصنع بك ولا مال عندك يصلح به أمرك وتستعين به على باب كسرى. فقال ما أعرف لنفسي حيلة إلا ما تعرفه. فقال: قم بنا نمضي إلى فردوس، وهو رجل من أهل الحيرة يستقرضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 منه مالاً، فأبى أن يقرضهما. فأتيا شمعون أبن أسقف الحيرة يومئذ وهو من بني الحارث بن كعب من ولد أوس بن قلام الذي كان ملكاً بالحيرة من قبل. وفي غير رواية أبي الفرج إنه سملعة بن جابر الأوس بن عمرو بن عامر وأهل بيته ممن كان يعرف بالأحلاف من أهل الحيرة وأبو جابر صاحب مسناة جابر وعمه حيان الذي قيل160 فيه: شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابرِ قال فأقام النعمان وعدي عنده ثلاثة أيام يذبح عليهما ويسقيهما، فلما كان في اليوم الرابع قال لهما: ما تريدان؟ فقال له عدي بن زيد: نريد أن تقرضنا أربعين الف درهم يستعين بها النعمان على أمره بباب كسرى. فقال: لكما عندي ثمانون الفاً فقال له النعمان لا جرم، لا جرى لي " درهم " إلا على يديك إن أنا ملكت. فأين ثروة ملك يأتي بعض رعيته قاصداً إلى منزله ليستقرض منه أربعين الف درهم يستعين بها على الوصول إلى الملك فيدفعه ولا يقرضه ويحترم قصده فيقصد آخر فيقيم عنده، ويتحرم بطعامه حتى أقرضه ما أراد، من ثروة ملك تبلغ جوائز وفده وهباته وعطاؤه وصلاته وأقطاعه وخلعه وقيمة الخيل التي يحمل عليها ومراكبها في كثير من الايام أربعين الف دينار؟ هو البحر من أيِّ النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجواد ساحله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 تجتني ثمار أنامله وتنتجع حباء فواضله فوبل كفه للراجين عام شامل وسببها على العافين هاطل كما وصفت في مديحي إياه فقلت في قصيدة إمتدحته بها: فما سار بأوسقه ملثَّ ... له فوق الربى ذيل سحوب تهادته الرياح فهيجته ... عشياً وأستثابته الجنوب وأرسلت الصبا فاستفقبلته ... كما يستقبل الحب الحبيب تكركره وتمخضه رويدا ... كما مخضت وكركرت الوطوب وحثته زعازع ريح غربٍ ... لها من خلف منسأة هبوب وفرى جلده بسيوفٍ برقٍ ... به منها إذا سئلت ندوب فحار وعج لما أنجبته ... كما يرغو الكسير أو العيوب وضاق بحمله ذرعاً فارخى ... عزالى سبلها سبل صبيب أليس به الرعاة وكل فج ... به من دره خلف حلوب وأحاديث القوم دالة على إنهم لم يخلصوا من عادات البداوة، ولم يخرجوا عن حدها، ولازال عنهم أثرها، ولا أنتقلوا إلى عادات الملوك، ولا غلبت عليهم، وليس ذلك إلى إنهم لم يبلغوا الدرجة في الثروة لإنا نعلم ضرورة إن أحداً لا يترك ذلك عن حدة وقدرة فكانوا 000 بالالبان ويأكلون على الإنطاع، وفي الجفان. ومن الشواهد على ذلك ما تقدم ذكره من نزول المنذر الأصغر بالحارث بن ضمضم قافلاً من بعض غزواته الشام، فضرب عليه قبة من أدم ونحر له جزوراً وبعث إليه أمته لتدهن رأسه، وملك يغزو الشام من العراق بغير مضرب، ينزل فيه، حتى ينزل برجل من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 البادية فيضرب عليه قبة من أدم وينحر له جزوراً، فليس في التقدير أن يكون الدهن الذي بعث إليه به مع أمته لتدهن به راسه إلا سمناً. فكيف يقاس هذا الملك بملك إذا خرج إلى وجه من الوجوه ولو كانت المسافة إليه يوماً أو دونه أمتلأ البر بالسرادقات والمضارب والخيم والمطابخ. ويشبه ما ذكر من حال المنذر وما ذكر من هدية النعمان إلى كسرى لما عزم على العودة إليه بعد هربه منه، وإنه أهدى إليه هديه فيها أقط وسمن هذا على إنها هديته التي تحفل فيها وطلب بها رضاه وإزالة سخيمته وعوده الى ملكه. ولم يكن أيضاً كسرى ليقبل مثل هذا ولا يستطرفه إلى ممن عادات أهل البداوة عليه غالبةً، وآثارها عليه ظاهرة. ولو كان النعمان مشهوراً بعادات الملوك وآثار ما عليهم من النعم ما قبل كسرى منه ذلك ولا أستطرفه ولا حمله أيضاً إليه أكان مثل هذا لا يستطرف إلا من الأعراب. فاين ملك لم تبلغ سعة ملكه وثروته الحد الذي ما يزول أثر البداوة عنه من ملك ملكه ممهد وعزه موطد، يستعمل على رساتيق العراق الولاة الأمراء ويرتب في أمصاره الدواوين والوزراء؟ وهل يقدر أحد أن يدّعي مثل هذا من القدرة وسعة الملك والثروة للنعمان إلى على سبيل الهت. ومن الامارات أيضاً161 على مثل ما ذكرناه من أحوالهم قول عدي بن زيداً للنعمان: إذا أكلت بين يدي كسرى فأجث على ركبتيك وعظم لقمتك وكثر أكلك، فإن كسرى يعجبه ذلك من العرب، ويقول لا خير في البدوي إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 لم يكن أكولاً شرهاً لاسيما إذا رأى من الطعام ما لا عهد له بمثله. وفي هذا دليل على إنهم كانوا يرونهم في حد أهل البداوة الذين لم يبلغوا الدرجة التي يعرفون فيها طيب الطعام فهم يستطرفون إذا رأوه فضلاً عما سوى ذلك وفوقه من الأشياء التي يتخذها الملوك، ويدل على مثل هذا من أحوالهم أيضاً قول زيد بن عدي لكسرى حين أمره بأن يخطب له بنات النعمان وأخواته إنهم مع شدة عيشهم يختارون أرضهم على أرض الملك ويؤثرون العري والجوع على الرياش والخصب، ومدح الأعشى للنعمان بأنه يعلف فرسه قتاً وشعيراً، من هذا الفن. وذكر الطبري إن قباذ بن فيروز الملك أبا أنوشروان بلغه عن العرب فساد في أطراف العراق وكان ملكه قد أضطرب عليه بظهور مزدك الخرميِّ، فهو في ضعف من أمره فخرج بنفسه فنزل قصر مقاتل وأتاه المنذر بن ماء السماء، وهو يومئذ عامله على العرب. فكان عنده وعاثت العرب ليلاً في أطراف معسكر قباذ، فأتهم المنذر في ذلك فلما أصبح دعا به فلامه وقال له: إنما نؤتى من قبلك فتنصل إليه من ذلك، وحضر طعامه فأراد أن يداعبه ويؤنسه لتطيب بذلك نفسه فأمر بأطباق من رطب فنزع منها النوى، وجعل فيها اللوز ووضعت بين أيدي الناس، ووضع بين يدي المنذر طبق من رطب على جهته فكانت الفرس تأكل الرطب باللوز الذي فيه، والمنذر يأكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ويرمي بالنوى منه. فقال له قباذ: هلا أكلت كما نأكل ولم ترم من الرطب شيئاً؟ فقال: عشت الدهر مخلدا أنما تأكل النوى نعامنا فضحك. ولم تكن هذه المداعبة من قباذ للمنذر الا لما كان يراه عليه من العادات البدويه وظهور أثارها عليه. وقد قدم ذكر أجتماع خالد بن جعفر والحارث بن ظالم عند النعمان وأخيه الاسود وهو يأكل تمرا على نطع فأكلا معه. وذكر في الحكاية إن الحارث لما أغار على إبل النعمان تعلق الراعي بلقحة منها، وقال هذه لقحة لصبوح الملك. من أخبار الحارث بن عمرو الكندي وأبن الهبولة وروي إن الحارث بن عمرو بن حجر الكندي نزل في بعض الاحيان بأهله على الفرات في موضع العباسية اليوم - وأنما سميت العباسية في الاسلام لانها كانت للعباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان - ثم إن الحارث غزا وخلف أهله في المكان، فخالفه النعمان بن هبولة اللخمي رجل من أهل البيت الملك فنهب أمواله وأخذ أمرأته هند بنت ظالم بن وهب بن معاوي الكندي - وانما سميت هند الهنود لجمالها - وهي أخت ماوية ذات القرطين يتمثل بهما، فيقال قرطا ماوية فدخل بها وبالمال الحيرة. وقفل الحارث عن غزاته فمر بسدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة في أناء غرله وقد ندّ منها بعير، فوثب سدوس فأخذ بيده فاقتعده فبرك البعير فقال له الحارث: يا سدوس لو كنتم تقتعدون الرجال كما تقتعدون الجمال لكنتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الفرسان الابطال. فاصبها سدوس في نفسه، وأتى الحارث منزله فلم يجد فيه أحداً، فجمع جمعاً من بكر بن وائل، وسار الى الحيرة يريد غزو النعمان بن الهبولة ومعه سدوس بن شيبان في ذلك الجمع، فلما دنى من الحيرة وقف وأرسل سدوساً في الليل ومعه ضليع بن عبد الله - رجل من بني عجل - فقال أنطلقا فأتياني بخبره فأتيا الحيرة والنار تضرم فقال سدوس لضليع: أما إن تمسك عليّ فرسي لآتيك بالخبر أو أمسك عليك فرسك. فقال ضليع: بل أنا أمسك عليك فرسك. وأنت آت بالخبر. فامسك ضليع فرس سدوس، ودخل سدوس الحيرة فوجد النار تضرم والمنادي ينادي: من جاء بجزرة من حطب فله فلذة من لحم وقبضة من تمر، والناس يحتطبون ويلقون الحطب على النار ويأخذون ما جعل162 لهم والنار تضرم، فرقاً من أن يبيتهم الحارث فذهب سدوس فاحتطب حطباً رطباً على عمد وجاء فحس به النار فناوله فلذة من لحم وقبضة تمر وخبا ضوء النار قليلاً لرطوبة ذلك الحطب. فنظر الى النعمان بن الهبولة وهو جالس وهند الى جنبه وهما يتحادثان، فانصت يسمع حديثهما فسمعها تقول له كانك به وقد أتاك كانه كلب قد عض على ضلع جلف - او جمل قد أكل مراراً فهو يقذف بالبغام عيناه تنامان وقلبه يقظان. قال: وما يدريك بذلك في صفته قالت أني كنت له فاركاً - أي مبغضةً - وكان ليلة نائماً مستلقياً على قفاه، وقد مطط يديه ورجليه فجاء الغلام بعسَّ من لبن فوضعه عند رجليه ليشربه إذا أنتبه من نومه، وكان يشرب الخاثر به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 فجاءت حية منكرة فقلت: لعلها تنهشه فاستريح منه، فدنت من رجله وهمت بلسبه، فكف رجله فدنت من الاخرى حتى قلت ها هي ناهشته فكفها: فدارت الى عند يديه فدنت من أحداهما فكفها، ثم دنت من الاخرى فكفها، فمالت الى العسَّ فعبّت فيه حتى ثملت، ثم قاءت فيه فقلت الان يقوم فيشربه فيتفسخ، فاستريح منه فمد رجله فضربه فأراقه. فسمع سدوس الحديث وعرف مكانهما، وانصرف يطلب رفيقه ضليعاً فوجده قد سبقه الى الحارث فاخبره إن القوم حذرون مستعدون، وإن نارهم تضرم لانه قد كان رأى النار. فلما جاء سدوس فقال له الحارث قد أتاني الخبر قبلك فقال سدوس: أتاك المرجفون برجم غيب ... وجئتك بعد بالخبر اليقين فمن يك قد أتاك بأمر لبسٍ ... فقد آتي بامر مستبين ثم أخبره الخبر وأراه اللحم والتمر، فاكل من التمر، وقال: هذا تمر كنت خلفته في أهلي، ثم هجموا على القوم فضرب سدوس النعمان بن الهبولة فقتله وسلبه الحارث فنازعه سدوس سلبه حتى كاد كل واحد منهما إن يقتل صاحبه وأخذ الحارث أمرأته هنداً وأنشأ يقول: ان من غره النساء بشيءٍ ... بعد هند لجاهل مغرور حلوة الطرف واللسان ومن ... كل شيء يجن فيه الضمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب ذاك منها غرور وقال سدوس للحارث كيف ترى أقتعادنا للرجال؟ يذكره كلمته الاولى. وفي قتل سدوس بن شيبان لابن الهبولة يقول الكميت بن زيد في أفتخاره بنزار: ويوم أبن الهبولة قد أقمنا ... خدود الصعر والاود المبينا هتكنا بالاسنه بنت ملك ... وعفرنا خدود متوجينا وذكر الاصمعي إن أبن الهبولة رجل من قضاعة ثم من سليح وإنه لما سبى هنداً صار الى عين أباغ، وذكر الحديث على وجه غير هذا. فما أدري أي هذين الملكين أسوأ حالاً، ملك يقصد عند ناره وأحراسه ومعه أمرأة، ولا يقدر على الحطب الا بجعل، وجعله فلذة من لحم وقطعة من تمر، أم ملك ينازع رجلاً من جيشه سلب أخر قد قتله في نصرته بعد إن كان قد وتره بنهب ماله وسبي أهله حتى كاد إن يقتل الرجل، وكاد الرجل إن يقتله ثم يعرف تمراً كان عند أهله بعينه بعد نهبه مع شدة أشتباه التمر حتى إن من أمثالهم: " أشبه من التمرة بالتمرة ". ورايت حكاية عن بعض الوزراء إنه أكل يوماً عند بعض ولده فذكر بعض من حضره الزيت، فقال صاحب الطعام لبعض غلمانه: إن لنا زيتاً في موضع كذا في أناء لونه كذا، فأتنا بشيء منه، فنهض الوزير مغضباً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وقال: لا أحب الرئيس يعرف موضع زيته، فكيف بملك يعرف تمراً كان في منزله بعينه حتى لا يشتبه عليه يغيره بعد نهبه، وليس ذلك الا لانه كان ممارساً له قد أكثر العناية به والطف النظر اليه حتى عرفه بعينه ولم يشتبه عليه بغيره؟ وليس هذا من عادات خدم الملوك في أنفسهم، فهذا كان حدهم في سعة ملكهم وثروتهم أيضاً. اخبار متفرقة عن ملوك الحيرة وملوك الحلة ورؤساء القبائل هذا طرف من ذكر أحوالهم في أديانهم وأنسابهم ومبلغ163 عزهم وحد ملكهم وسعة ثروتهم. وأنما روي من الاحاديث عنهم نادرها وعجيبها مقروناً ببعد العهد وعظم أسم الملك في الانفس فهال السامع، وبهره وظن إن المعنى على قدر الاسم. وتصفح أحاديثهم وتأمل أخبارهم يدل على صحة ما ذكرناه. فمن أعظم ما روي ما كان من بطش عمرو بن هند ببني دارم وتحريقه أياهم وقتلهم على ما جاء من الخلف في ذلك لقتل سويد بن ربيعة الدارمي أخاه أسعد بن المنذر وفي ذلك يقول جرير مخاطباً الفرزدق: اين الذين بسيف عمرٍو قتلوا ... ام أين أسعد فيكم المسترضع وأذ تأمل متامل ما جرت الحال عليه في ذاك لم يجد فيه ما يدل على كبير قوة وعظيم بطش منه، فأن الذي روي في ذلك، إن المنذر بن ماء السماء - وهو المنذر الاكبر - بعث الى زرارة بن عدس الدارمي بابن له أسمه أسعد وقيل بل أسمه مالك. وكان عنده مسترضعاً في بني دارم وشب فيهم فخرج يوماً في جماعة منهم الى الصيد ورجع مخفقاً فمر بأيل لسويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم فعقر منها بكراً، وقال لمن معه كلوا فانكم إن أخفقتم من الصيد لم تخفقوا من اللحم. فانطلق راعي سويد فأخبره، فاخذ قوسأ وأسهماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وركب فرساً ولحق باسعد فرشقه بالنبل حتى قتله وكان زرارة عند المنذر، فبعث بنوه إليه بالخبر فبعث إليهم أن أكتموا ذلك وأظهروا إنه مات ولا يفوتنكم سويد، فإنه خفر ذمتي وقتل جاري. ودخل زرارة على المنذر فأخبره أن إبنه أسعد مات وأن بنيه أرسلوا إليه يخبرونه بذلك. فلم يشك المنذر في قول زرارة، وطلب بنوا زرارة سويداً فهرب منهم إلى مكة، فحالف بني نوفل بن عبد مناف، وتزوج فأخته بنت عامر بن نوفل بن عبد مناف فولده فيهم يعرفون بآل أبي إهاب. وهو أبو إهاب بن عمرو بن قيس بن سويد. ولم يظهر أمر أسعد بن المنذر مدة حياة أبيه، فلما هلك المنذر إستعمل أنوشروان إبنه عمرو بن هند، فكان زرارة من أكرم الناس عليه، وكانت بين زرارة وبين طي عداوة، فارسل عمرو بن هند خيلاً للاغارة على الحليفين أسد بن خزيمة وغطفان، وكانوا لا يدينون للملوك، فاخطأهم الجيش ولم يظفروا بما أرادوا منهم، فاقبلوا راجعين يريدون الحيرة بغير غنيمة فمروا بجديلة طي وهم نزول في حمى لعمر بن هند، وكان قد كتب لهم بذلك كتاباً، وجعل لهم عهداً، فاغاروا عليهم فسبوا وأسرو وساقوا الأموال، فقدموا بها على عمروا بن هند وعنده زرارة فقال ما ترى فيهم؟ فقال تقتل هذه الأكلب - يعني الرجال - وتأخذ الأموال وتستخدم بالنسوان. فقال إني كنت كتبت لهم عهداً فقال له: إنما عاهدت أهل بيت واحد منهم لا كلهم وحسن له ذلك فأخذ فيهم برأيه. وخرج زرارة إلى أهله وقدم قيس بن جرول الطائي على عمر بن هند وزرارة غائب فخاصمه في الجدلين وأموالهم ونسائهم وقال لقد غدرت بهم وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 تخب بصحراء الثوية ناقتي ... لعدوٍ رباعٍ قد أمخت نواهقه إلى الملك الخير أبن هند بزورة ... وليس من الموت الذي هو سابقه فإن نساء غير ما قيل باطلاً ... غنيمة سوءٍ قد حمتها نمارقه ولو نيل من عهدٍ لنا كان عنده ... ونتقٍِ فأين العهد أنت معالقه وهبك أبن هند لم تعقك ملامة ... وما المرء إلا عهده وخلائقه أكل خميس أخطأ الغنم مرة ... وصادف حياً دانياً فهو سابقه لئن لم تغير بعض ما قد آليته ... لأنتحين العظم ذو أنا عارقه فقيل أن قيس بن جرول سمى بهذا البيت عارقاً، فرد عليه عمرو الاسرى و السبايا والاموال. فخرج من عنده، وقدم عليه زرارة فقال له: يا أبا معبد أعلمت إنه أتاني بعدك رجل من طي فكلمني في الجدلين وخاصمني وأنشدني شعراً يحاجني فيه، فتركتهم له. فقال: أسمعني الشعر، فدعا روايته فانشده الابيات. فقال: لقد هددك بأخر بيت، قال صدقت. 164 ثم أرسل خيلاً في آثارهم، وبلغهم أتباعهم إياهم الخيل فقال قيس بن جرول فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 أيوعدني والرمل بيني وبينه ... تبين رويداً ما أمامك من نجد ومن أجاءٍ دوني رعان كأنها ... كراديس خيلٍ من كميت ومن ورد غدرت بنا من حيث كنت أجتذبتنا ... إليك وبئس الشيمة الغدر بالعهد وقد يترك الغدر الفتى وطعامه ... إذا هو أمسى جلة من دم الفصد وإستبان لطي أن زرارة هو الذي كادهم عند عمرو أولاً وأخيراً، فحقدوا ذلك عليه وجعلوا يطلبون عثراته. فنمي إليهم حديث أسعد بن المنذر وقتله فقالوا: من لزرارة يرفع إلى عمرو بن هند أن أخاه إنما هلك عنده قتلاً؟ فقال عمرو بن عتاب بن ملقط الطائي أنا، ورحر إلى عمر بن هند فدخل عليه وأنشده: من مبلغ عمراً فإ ... ن المرء لم يخلق صباره يقال بكسر الصاد وضمها، وهي الحجر وقيل الزبرة من الحديد. وحوادث الأيام لا ... تبقي لها إلا الحجاره ها إن عجزه أمه ... بالسفح أسفل من أواره تسفي الرياح بفضل بر ... ديه وقد سلبوا إزاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 فأقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره فلما سمع عمرو ذلك، قال لزرارة: ما يقول هذا، قال: إنه عدوي. قال صدقت فأتني ببينة من أمر أخي، قال: نعم فلما كان الليل خرج زرارة فلحق بقومه وهم بالغرابة: وهي ماء بالقرب من اليمامة. وإستبان لعمر أن أخاه قتل فجمع من أطاعه من ربيعة واليمن ورهائن مضر، وسار بكتائبه إلى بني دارم وأقسم ليقتلن منهم مائة. فنزل بأوارة على قوم من الغرابة وهاب الإقدام عليهم فأقام، وهابت بنو دارم الإقدام عليه، فأرسلوا إلى من كان بالقرب منهم من بني تميم أن أنجدونا لنأخذه ونغنم عسكره، فلم ينجدوهم فأقام كل من الفريقين بمكانه. وبلغ عمراً أن بني نهشل من دارم خلوف، فقصدهم مستفرداً لهم وبلغهم مسيره فظعنوا، فلحق في نواحي دارهم نساء وأطفالاً فجمعهم وحفر لهم إخدوداً وجعل يحرقهم، فأتى بالحمراء بنت ضمرة بن جابر فقال: إني أراك حمراء وإني لأحسبك أعجمية فقالت: لا والذي أسأله أن يخفض جناحك، ويهد عمادك ويضع وسادك، ويسلبك ملكك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت أنا بنت ضمرة بن جابر ساد معداً كابراً عن كابر. قال: فمن زوجك؟ قالت هوذة بن جرول. قال وأين هو؟ قالت أنك لأحمق، لو علمت مكانه لحال بينك وبيني. قال: وأي رجل هو؟ قالت هذه أشد لحمقك من الأولى أعن هوذة بن جرول تسأل! هو طويل العماد رفيع الوساد طيب العرق سمين المعرق لا ينام ليله، ولا يشبع ليلة يضاف، يأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد. فقال لولا إني أخاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أن تلدي مثل بعلك أو مثل أخيك لأطلقتك. قالت: أما والله ما أدركت ثأراً، ولا إكتسبت الا عاراً ولا قتلت إلا نساء أعاليهن ثدي وسافلهن دمي، وما من فعلت به هذا بغافل عنك والحرب سجال، ومع اليوم غد. فأمر بها فجرت إلى النار فقالت: الا فتى مكان عجوز، فذهبت مثلاً ثم لبث لا يقدر على أحد منهم يومه أجمع وإذا راكب توضع فأناخ إليه، فقال من أنت؟ قال رجل من البراجم. فقال ما الذي جاء بك؟ قال سطع الدخان وشممت القتار وكنت قد أقويت منذ أيام فظننت وليمة. فحرقه فقال بعض أصحابه إن الشقي وافد البراجم، فذهبت مثلاً. وإنه لم يحرق من بني تميم رجلاً غيره، وأن عامة من حرقه النساء، وسمي بذلك محرقاً ونادى له به الشعراء فقال الطرماح مفتخراً: ودارم قد قذفنا منهم مائة ... في جاحم النار إذ ينزون بالخدد ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ... عمرو ولولا شحوم القوم لم تقد وقال إبن دريد: ثم إبن هند باشرت نيرانه ... يوم أوارت تميم بالصلا165 وقال لقيط بن زرارة ما كان من خذلان قبائل تميم لهم وتأخرهم عن نصرتهم ويلومهم على ذلك ويعيبهم قبيلة قبيلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 انا بالغرابة قد أقمنا ... مراجفنا كما عتب الكسير وأسلمنا قبائل من تميم ... لهم عدد إذا نسبوا كثير اسيد والهجيم لهم رعاء ... وأبرام من الجعراء عور وإن تطلب ربائعهم تجدها ... ببطن السعد ليس لهم ظهور ويربوع بأسفل ذي طلوح ... وقوفاً ما تحل ولا تسير وإن تطلب طهية في تميم ... تجدها العمى ليس لها بصير وأحياء البراجم حول كبل ... كرحل الذبح ليس لها جبور وسعد شر من ركب المطايا ... بأرض حين تنجد أو تخور وعوف أخبث الاحياء حياً ... والأمه إذا غلت القدور وحمان بن كعب ليس فيها ... غناء في الامور ولا نكير ومنقرها وعبشمس وعمرو ... تراها وهي بالادمان نسور والام من علمت بنو عدي ... وضبة إذ تقسمت الامور فلم نعلمهم فتيان حرب ... إذا ما الحي صبحهم نذير وقال الاسود بن يعفر يلوم بني دارم على طاعتهم عمر بن هند ورويت للقيط أيضاً: ابلغ لديك مالك ... مغلغلة وسراة الرباب بأن أمراً أنتم حوله ... تحفون قبته بالقباب يهين سراتكم عامراً ... ويقتلكم مثل قتل الكلاب فلو كنتم إبلاً أملحت ... لقد نزعت للمياه العذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ولكنكم غنم تصطفى ... ويترك سائرها للذئاب فلا وأبيك أبي الشر ما ... اتيت بقتلهم من صواب ولا منه إن خير الملو ... ك أعظمهم منة والرقاب فعاد بنو دارم لقاحاً لعمرو بن هند بقية أيام ملكه الى إن هلك. وليس في هذه الحكاية ما يدل على عظم جيوشه وقوه جنود، بل فيها ما يدل على ضد ذلك لان بني دارم قبيلة واحدة من بني تميم، أقاموا بازائه بالغرابة وقد تجهز اليهم محتشدا بكتائبه ومن أستنجد به من العرب الذين كانوا في طاعته ولم يبق خلفه بقية، يريد إن يبر قسمه ويقتل منهم مائة بأخيه بزعمه فلم يقدر على الاقدام عليهم مع هذا الحال. وأقاموا بأزائه لا يقدمون عليه، وأستنجدوا قومهم طمعاً بقهره فلم ينجدوهم، وهذه مماثلة منهم له ومقاواة، وعلى هذا القياس أذ كانت بنو دارم خاصة وأوقفوه وأمتنعوا عليه، وضعف عن الاقدام عليهم، فلو إن قومهم أنجدوهم أو بعضهم لا صطلموه، وليس في التقاطه نساء منقطعات عن فريق مرتحل وتحريقهم ما يقضي على طول يده الى الحد الذي يسبق اليه ظن الظان إنه لو طمع بالظفر بالرجال ما أحتمل العار بتحريق النساء، لان هذا من أذم الافعال عند العرب. ثم في حديث أسعد بن المنذر وقتله على الوجه الذي قتل عليه، وعما خبره عن أبنه وأخيه وأوضح دليل على ما أردنا من الغرض المقصود في أيضاح كونهم دون الطبقة التي تدعى لهم في كل أحوال ملكهم عن شأن الملوك بكثير. هذا أسعد بن المنذر يشتد به الجوع ويحتمل الضر على عقر بكرة لاعرابي سيء الحال ليأكل هو ومن كان معه ممن خرج للصيد، ويقول لهم إن أخففتم من الصيد لم تخفقوا من اللحم. وهذا يدل على إنه أنما خرج يطلب الصيد ليسد به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 جوعته، ولم يخرج اليه متنزها ولا متفرجا. ثم إنه لفعله ذلك حمل سويدا لفقره وضره وسوء حاله على الهجوم عليه وقتل بالبكر الذي عقره فنكأ بعقره قلبه، وأخراجه حتى هجم عليه بالقتل، ثم تكتم قتله ولا يظهر ويدعي إنه مات، ومضى عليه السنون ويهلك أبوه ويملك أخوه ثم لا يظهر أمر قتله الا من جهة عدو لبني دارم نمي اليه خبره فرفعه الى 166 أخيه يريد كيدهم عنده لا للتقرب اليه. فلينظر ناظر في أحوال هذا الملك أبن الملك أخي الملوك الثلاثة كيف حمله الجوع على ما أتلف به نفسه، فأين كانت مطابخه وصناديق طعامه التي يجد مثلها أمثال الناس وسوقتهم ويستصحبونها في متصيداتهم وأسفارهم فكيف الملوك! ثم يرشقه أعرابي بالنبل حتى يقتله، فأين كان خواصه وجنده ومواليه وحشمه المحدقون به الممانعون عنه حتى تتلف أنفسهم دونه؟ ثم أين كانت أمواله التي يهب منها لسويد أمثال بكره فيرضيه بما قد قتل؟ أين البريد الذي يركض الى أبيه بقتله؟ وأين النجب والمهاري التي تذهب اليه مسرعة مبادرة بذكر مصابه؟ وأين الخدم والموالي والحشم الذين ينصرفون الى أهله بعد هلاكه؟ وأين الخيول التي تحدق لاجله؟ وأين المها الابل التي تعقره على قبره كما كان يفعل أكثر سوق العرب؟ فكيف الملوك وأين لداته وأترابه الذين يؤنسونه ويصحبونه كما يكون مع ولد رؤساء الناس وأمثالهم؟ فكيف ملوك فيوضح أحدهم كيفية الحال في هلاكه. وقد قنعنا من هذا كله بمولى كان يكون يكون معه يأتي أباه بخبر قتله محققاً على جليته ويستغنى به عن الشك به عن الشك والتهمة ولا يمكن قاتليه ستر أمره وطي خبرة وأدعاء موته حتى يظهر ذلك من قبل أعدائهم بعد دهر طويل، فأن خبره هذا الملك الوحيد المنفرد المسكين المقتول ضيعه ببكر قيمته عشرون درهما أنما أنطوى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 أبيه وأهل بيته لوحدته وأنفراده وصنيعته وكونه في " بني " دارم منفرداً بغير ثان. فلذلك أمكنهم ستر جنايتهم على تغطية فعلتهم ولو كام معه شخص واحد من كل ما ذكرنا ما تم لهم ذلك، ولا قدروا على ستر أمره وطي خبره، فلولا عدوهم الذي وشى بهم إلى أخيه بعد هلاك أبيه لما طهر له من خبر أبداً. وإذا كان أخوه مبسوط اليد عظيم القدرة فلم لم يطلب سويداً الجاني، ويبعث كتائبه وعساكره لأخذه ويشفي غيظه بقتله وأتلاف نفسه، لا بنساء لا ذنوب لهن ولا علم عندهن، فبالله الا أنصفتم أيها السامعون، فإنكم إن فعلتم وتأملتم صورة هذا الملك بقلوبكم وأفكاركم وصورتم حاله في أنفسكم وأوهامكم علمتم حقيقة أحوال القوم وأستدللتم بهذا الحديث وحده على صحة ما تقدم ذكره. ويشبه هذا من أحوالهم ما روى من حديث إياس بن قبيصة ملك العرب بعد النعمان. وكان يوم ذي قار على جنود كسرى كلها من العرب والعجم. فروي إنه لما أراد السير إلى بكر بن وائل يومئذ طلب من أبي ثوب التميمي من بني تيم الله بن ثعلبة وكان بينهما رحم فرساً كانت لابي ثوب أسمها الحمامة. فقالت بنو تيم الله بن ثعلبة لأبي ثوب لا تعطه الفرس فإنه إنما يريد غزونا عليها، فقال ما كنت لاقطع له رحماً ولا أمنعه فرساً، فدفعها إليه، فلما ظهرت بكر بن وائل على جنود كسرى إنهزم إياس على الحمامة وكانت لا تلحق، وفيها يقول إياس بن قبيصة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 غذاها أبو ثوب فلما رأيتها ... دخيساً تفوت العين حين تراها فأتى كسرى يخبره خبر الجيش، وكان من عادة كسرى إذا جاءه من يخبره بهزيمة جيش من جنوده إن يخلع كتفه. فلما كان بباب كسرى ذكر ذلك من عادته، فخاف إن يخلع كتفه إن هو صدقه. فدخل عليه فقال له: قتلنا بكر بن وائلو أتيناك بطلبك فقال زه، فلما خرج من عنده قعد على فرسه فلحق بعين التمر. ثم جاء بعده رجل من الفرس قد نجا على فرسه له جواد، فقال: هل قدم على الملك قبلي أحد بخبر الجيش؟ قيل نعم إياس بن قبيصة. فظن إن إياسا قد صدق كسرى فخلع كتفه، فقال بالفارسية ثكلت أياس أمه، ودخل مطمئنا يظن إن الامر قد وقع بغيره. فاخبر كسرى بهزيمتة الجيش. فأمر بخلع كتفه، ونجا أياس بكتمان الخبر. فليتأمل متأمل أيضاً حال هذا الملك كيف كان بريد نفسه لم يكن له من يقدم بالخبر عن الجيش الذي كان هو زعيمه، والمقدم عليه غيره، فجاء معرضا نفسه لهذا الامر مغررا كما 167 يفعل الرسل والفيوج لا الملوك، ثم ينظر في مكانه عند الاسرى وحده عنده في سقوط المنزلة وعلم هو بذلك من أمر نفسه مخافة إن يخلع كتفه كما يفعل بالعبد الآبق واللص السارق، وعلم إنه ليس عنده هوادة ولا مزية عن غيره بحيث يحمد عن فعل ذلك به، فلولا ما فطن له من ستر الامر عنه وتعجيل الهرب منه لما نجا من ذلك الفعل الشنيع والامر الفظيع، وتلك المثلة القبيحة والسيرة السيئة التي كان يسار بها في أرذل الناس وأدوانهم، وهذا يدل على منزله دون هذه المنازل كلها. وكيف يقاس ملوك هذه صفاتهم بملك يغترف من بحر جوده فقير العرب والغني. ويعم قريبهم والقصي كما يعلم الأرض من صوب المزن، ويجود سهلها والحزن، كما وصفت أبيات في مثل هذا المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 من قصيدة أمتدحته بها فقلت: ارقت لبراقٍ دائم اللمعان ... اقض وسادي موهنا وشجاني يكاد يريني بالغري معالما ... بنجدٍ عراني حبها وعناني فبت أجافي الجنب مني أسمه ... يسابقه قلبي الى الخفقان إذا نبضت أولاه أنبض عندها ... فؤاد مشوق دائم الرجفان كأن النعامى حملت منه بديلاً ... او أنشقت رضوى وهضب أبان فجائت به كاليل يدلج تحته ... بما أذهبا من كلكل وجران يجر على الافاق أذيال هيدب ... رعابيله فوق الاكام دواني إذا ما بدا فيه حسبت سناءه ... ضياء ضارم في ظلام دخان يشق الذرى منه ويفرى أديمه ... صوارم لجت فيه باللمعان إذا أثخنته عج بالرعد صارخاً ... وفاضت عيون منه بالهملان فعم جاده سهلها وجبالها ... وأقطارها ما ضمه الافقان كما عم من نوال أبن مزيد ... وجادهم من سبيه المتداني وفاض عليهم من هني نواله ... وبذل يدٍ تهمي به وبنان تساوى الروى فيه وذو غنى ... وقاصٍ بعيد في البلاد ودان فما النصف إن فكرت يفضي لجوده ... بفضل على الشؤبوب ذي النقبان لأني رايت الغيث يحيى نويله ... جمادا ويحيى أشرف الحيوان وللغيث وقت يرتجى فيه صوبه ... وجودك مرجو بكل أوان فليس إذا ما أقلع الغيث معلقاً ... ولا ذا أختصاص مثله بزمان اما ملوك آل جفنه الغسانيون الذين كانت القياصرة تستعملهم بالشام، فانهم كانوا على الذهب والفضة أقدر من آل نصر، وأظهر منهم سعه وترفا، وأكثر ملوكا. روي إن عدتهم بالشام تسعة وثلاثون ملكاً، الا إن صيت آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 نصر أبعد وشرفهم أذهب على أن0000 مع القياصرة دون حد ملوك العراق مع الاكاسرة، لان كسرى لما بعث جنوده الى بكر بن وائل بذي قار جعل إياس بن قبيصة الملك على من بعثه من العرب والعجم، وبعث هرقل جنوده لحرب المسلمين باليرموك، وكان ممن بعثه فيهم جبلة بن الايهم الملك الغساني ملك العرب بالشام يومئذ، فجعله في طاعة صقلاب البطريق وتحت يده، وصقلاب خصي كان هرقل جعله على جنوده يومئذ من الروم وغيرهم، ولم ير جبلة بن الايهم فضلا للتقدم عليه. وكانت حالهم وحال ملوك كندة وحمير مع0000000000حال فقتلوهم كل مقتل على وجه، وفي كل مكان، وإن كانت أخبارهم بذلك شائعة موجودة، فلا بد من الالمام بذكر طرفها منها: قتل جشيش بن نمران اليربوعي ثم الرياحي معاوية لكندي الملك، وهو أبن كبشة يوم ذي نجب ففي ذلك يقول جرير مفتخرا. لقد ضرب أبن كبشة أذ لحقنا ... جشيش حيث تفليه الفوالي فاسر حبيش بن دلف الضبي عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، فجز ناصيته وشرط عليه حباء يحمله اليه في كل سنه ما عاش، وفي ذلك يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 خالي الذي غصب الملوك نفوسهم ... واليه كان حباء بن جفنة يحملُ وقد تقدم ذكر ذلك. وأغار أبن ظبية ملك من ملوك غسان على بني نهشل يوم الترويح فقتلوه وهزموا جيشه، وفيه يقول الفرزدق: ونحن جعلنا لابن ظبية حكمه من الرمح إذ نقع السنابك ساطع وأوثق قيس بن معد يكرب الكندي أبو الأشعث بن قيس قماً من العرب - وكان يهودياً - فوافق آخر الميثاق يوم جمعة وهو مدة الميثاق وسار اليهم فقتلوا أبنين له وهزموه ولذلك شهر بالغدر هو وبنوه بعده. وقيل أعرق الناس في الغدر عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بن قيس، غدر قيس بهؤلاء، وغدر الاشعث بأمير المؤمنين علي صلواة الله عليه وآله، وغدر محمد بن الاشعث بمسلم بن عقيل رضي الله عنه، وغدر عبد الرحمن بن محمد بالحجاج بن يوسف. وأقتتل سلمة الغلفاء وأخوه شرحبيل أبنا الحارث بن عمرو بن حجر الكندي يوم الكلاب الاول، ومع سلة بنو تغلب والنمر بن قاسط وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم، ومع شرحبيل بكر بن وائل وبنو عمرو بن تميم والرباب، وجعل كل واحد من الملكين لمن جاءه برأسه الآخر مائة بعير. فأنهزمة بكر بن وائل ومن كان معها وقتل شرحبيل، قتله أبو حنش عصم بن النعمان بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم الارقم التغلبي، قيل إنه حمل عليه والناس يقتتلون حوله فطعنه فقتله، ونزل فأحتز رأسه، وقيل بل تبعه عند هزيمته ومع أبي حنش ذو السنينة - وهو حبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 بن عتبة بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم الارقم - وكان أخاه لامه، أمهما جميعا سلمى بن عدي أخي كليب ومهلهل، فعطف شرحبيل حين أرهقاه على ذي السنينة فضربه فقطع رجله. فنادى ذو السنينة أبا حنش قتلني الرجل، فقال أبو حنش: قتلني الله إن لم أقتله. ومات ذو السنينة. وجد أبو حنش في الركض يطلب شرحبيل فلما أدركه، قال: يا أبا حنش اللبن اللبن. قال قد هرقت لبناً كثيرا، فقال: يا أبا حنش أملك بسوقه؟! قال إنه كان ملكي، ثم طعنه فصرعه، ثم نزل فأحتز رأسه وأتى به أخاه سلمة فالقاه بين يديه، فقال هلا القيته إلقاءً رفيقا! قال إن الذي ناله وهو حي شر من هذا، فمن لي بهنيده. قال قتلت أخي وتطلبها مني فخرج مغضبا وهو يقول: قتلت شرحبيل بن عمرو بن حارث ... هماما عليه التاج وأبن همام فلا ترجون بإبن المرار نصيحتي ... ولا ود قوم مغضبين رغام قتلت لك الساعي عليك وحوله ... تميم وراميت الذين ترام فلما بلغ سلمة شعره قال: الا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تجيءُ الى الثواب ومالك لا تجيءُ الى هجان ... نصبة الغوارب كالهضاب تعلم إن خير الناس ضرا ... قتيل بين أحجار الكلاب تلاعب حوله عمرا فراراً ... وأسلمه جعاسيس الرباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 فبلغ أبا حنش شعره فقال: اخاف أجيءُ نحوك ثم تحبو ... حباء أبيك يوم صنيعات وتلكم خزية عظمة وجلت ... تقلدها أبوك الى الممات فبلغت هذه الاشعار معد يكر بن عكب التغلبي فقال: قل لذي الآكل المرار خذ المل ... ك ولا تبكين قيل الكلاب قد قتلنا لك أبن أمك والمل ... ك عقيم مقطع الانساب فأعتدل يا بن ذي المرار على ... القصد ولا يغررنك تيه الشباب وأخترن بين ما يقول لك النا ... س وحرب تحر برد الشراب ثم أجتمع مع أبي حنش جماعة من بني تغلب، فأتوا سلمة فقالوا له: إن الغدر لا يحسن بالملوك، فإن أنصفتنا من نفسك، وإلا أنصفنا أنفسنا منك، وقد ضمنت في قتل أخيك ما تعلم، فقتله صاحبنا، فأعطه ما ضمنت وإلا أخذناه منك غصباً، فقال أفعل وأمر له به. ثم أستوحشت 169 تغلب بعد ذلك منه لهذا السبب، ورأوا إنهم قد وتروه بقتل أخيه وأخذ ماله، فصاروا له لقاحا وطردوه عنهم فنزل في بكر بن وائل. ثم إنهم أسروه بعد ذلك في بعض حروبهم، أسره عبيد بن فرعص التغلبي فذهب به يقوده، فلقيه عمرو بن دوس التغلبي فضربه فقتله. ففيه يقول أمرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 الا أنما أبكي العيون وشقها ... قتيل بن دوس في حبال أبن فرعص فالحقت بنو تغلب سلمة بأخيه شرحبيل. وفي ذلك يقول الكميت مفتخرا على اليمن بنزار: ونحن على شرحبيل بن عمرو ... شهرنا البيض غير محللينا اراد لكي يذوق أبني نزار ... ولم يسأل فيخبر عالمينا فصادف تغلب لما ... تمطق فوه شربة ذائقينا اطاروا قحف هاماته بغصب ... كأن سناه شعلة قابسينا وقالوا خذ تحيتك أبن عمرو كما ... حيا أباك بنو أبينا ابيت اللعن دونكما فإنا ... كذاك تحية الاملاك فينا وقال أيضاً: ونحن حصينا من شرحبيل أكعبأ ... من الذيل الخطي مثل نوى القسب فظل صريعا والكتائب حوله ... بأسد من العلياء أتلفنه غلب وقال عمرو بن حني رجل من بني تغلب يذكر قتل أبي حنش شرحبيل وقتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند: نعاطي الملوك الحق ما قصدوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم ويوم الكلاب أسنزلت أسلاتنا ... شرحيبل أذ آلى الية مقسم ليستلبن أفراسنا فاستزله ... ابو حنش عن ظهر شقاء صلدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 تناوله بالرماح ثم ثنى له ... فخر صريعا لليدين وللفم وعمرو بن هند قد صقعنا جبينه ... بشنعاء تشفي سورة المتظلم وقتل عامر بن ضامر الضبي يوم بزاخة الحارث بن مزيقياء، وأسرت بنو ضبية أبنيه زيادا وعمرا. فروي إن زيد الفوارس بن حصين الضبي قتلهما وقيل بل باعهما أنفسهما ففي ذلك يقول الفرزدق مفتخرا ببني ضبة: وهم على أبن مزيقياء تنازلوا ... والخيل بين عجاجتها القسطل ومحرقا صفود اليه يمينه ... بصفاد مقتسر أخوه مكبل ملكان يوم بزاخة أخذوهما ... وكلاهما تاج عليه مكلل وذكر الكميت أيضاً ذلك فقال: وآل مزيقياء غداة لاقوا ... بني سعد بن ضبة مؤلفينا اتوهم يحسبونهم جناةً ... فأقلص أيدياً ما يجتنونا ورحلت بنو عبس عن أرضهم عد قتلهم بني بدر وخوفهم من أجتماع كلمة غطفان عليهم فجاوروا ربيعة في البحرين ثم رحلوا عنهم فجاوروا بني سعد بن زيد مناة بهجر فأنت بنو سعد الجون الكندي ملك هجر فقالوا له: هل لك في مهرة شقراء وناقة حمراء وجارية عذراء. قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وما ذاك؟ قالوا بنو عبس تسير معنا أو ترسل جندك معنا فتغير عليهم ففعل ذلك. فأغاروا عليهم بالفروق فهزمتهم بنو عبس جميعا وجمعوا أموالهم وذراريهم منهم ولم يكن للملك وجنده وبني سعد يد بهم مع غرتهم وكونهم في غير أرضهم ومع مجاورتهم فيهم وضعفهم عقيب ما كانوا فيه من الحروب المتواترة وهم يومئذ بصفة الفلّ المهزوم ففي ذلك يقول عنترة: ونحن منعنا بالفروق نساءنا ... نديت عنها مسبلاتٍ غواشيا تفاديهم أستاه نيب تجمعت ... على رمة مثل الرماح تفاديا وبعث الجون أبنيه حسان ومعاوية وقيل عمرو ومعاوية في جيوشه مع لقيط بن زرارة على بني عامر يوم جبلة وقد جمع لهم لقيط الجموع وصار أيضاً الى النعمان بن المنذر فبعث معه جيشه وعليهم أبن أخيه لامه حسان بن وبره بن رومانس الكلبي فهزمتهم بنوا عامر وأسر عوف بن الاحوص حسان الجون وأسر طفيل بن170 مالك بن جعفر معاوية بن الجون ثم إن عوفا جز ناصية أسيره حسان بن الجون وأطلقه فكان يسير فيهم آمنا فلقيه رجل من بني عبس فقتله لما كان من غزو أبيه لهم يوم الفروق مع بني سعد بن زيد مناة فنازعتهم فيه عوف. وقال قتلتم جاري وكادت الحرب أن تقع بينهم فأشترى قيس بن زهير أخاه معاوية بت الجون من طفيل بن مالك بألف بعير ودفعه الى الى عوف عوضا عن حسان. فروي أن عوفا أطلقه وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 بل قدمه. فقتله وفي ذلك يقول جرير: وهم أنزلوا في حومة الوغى ... ولم يمنع الجونين عقد التمائم وقال الكميت بن زيد: وآل الجون قد وجدوا العبس ... أفاعي لا تجير إذا رقينا وهم تركوا أسارتهم حثيثاً ... ومن دون السراة مزملينا وقتلت قبائل نزار يوم خزاز صهبان بن أبي حرب الملك الرعيني وهو أحد التبابعة وتسعة أخوة له كلهم قد لبس التاج وأسرو من الملوك يومئذ خمسين رجلا فقيل إن ملك حمير يومئذ أفترق فلم يسبقهم ولم يجتمع من بعد وقد تقدم ذكر أذواء اليمن وإن أحدهم أنما كان رئيسا على مخلافة. فلما قصدهم أرياط الحبشي صاحب النجاشي الى بلادهم بشرذمة من الحبشة لم يكن فيهم مدافعة له فملكها عليهم وقتلهم وأذلَّهم ثم قتله أبرهة صاحب الفيل وملك مكانه وأنتزع ريحانة بنت علقمة من بعلها أبى مرة بن ذي يزن وقيل إن أبى مرة هو ذو جدن. فأخذها منه لنفسه وكانت قد ولدت لابي مرة معدي كرب وولدت لابرهة مسروقا فهو أخو معدي كرب لأمه، وسر فيهم بأقبح سيرة فتشرد ذو يزن في البلاد ومعه أبنه سيف سبع سنين يطلب النصرة عليهم. فوفد على هرقل فلم ينصره لمكان الحبشة من النصرانية فأتى النعمان بن المنذر ليوصله الى كسرى وقيل بل أتى أباه المنذر فقال00000000000000000. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533